الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 269
- بتاريخ: 29 - 08 - 1938
إلى صاحب المعالي وزير المعارف
أذكر يا سيدي أني كتبت إلى معاليك يوم سموت إلى منصب الوزير ورتبة الباشا كلمة صادقة صريحة في هذا الموضع من (الرسالة) قلت فيها: إذا كان غيرك قد وصل بالأدب من غير خلق، أو بالصحافة من غير أدب، أو بالسياسة من غير صحافة، فإنك لم تصل إلا بهذا الأدب الشامل الذي يشرق فيه وميض الروح، ويسيطر عليه نبل النفس؛ لذلك نعدُّ بلوغك هذه الغاية من المجد انتصاراً للأدب المجاهد، وترضية للقلم المجهود، وتمكيناً للفكر الجميل أن يؤدي رسالته في عالم أوسع وعلى طريق أسد؛ ولذلك نجعلك من بين الوزراء الصلة الطبيعية بيننا وبين أولي الأمر، فقد قطعوا أسبابنا الواصلة، وسَفِهوا حقوقنا المعلومة، واعتقدوا أننا حِليّ تزين ولا تنفع، ودُمىً توجد ولا تعيش. . .
وأذكر يا باشا أنك كتبت إلي على أثر هذه الكلمة الطيبة كتاباً رقيق العبارة كريم العاطفة صريح الوعد بأنك ستكون وليّاً للأدباء ونصيراً للأدب.
ثم أذكر أنك وأنت عميد الصحافة المعارِضة كتبت في (نزاهة الحكم)، وخطبت في (الحكم الصالح) مقالات سماوية وخطباً مثالية لا تزال فِقَرِها وحججها ترن في أذن الحكومة وتجري على لسان المعارضة
أذكر كل أولئك يا باشا وأنسى أنني طلبت الإِذن على معاليك فلن أنله، وأنني كتبت إليك كتاباً فيه بعض العتب فلم تقبله؛ ثم أنسى أنني سمعت بعد ذلك أنك لم تُرِد إنصاف (الرسالة) وقد سألتك إياه، وأنك محوت أسمى من مشروع (المجمع الأدبي) وقد كان فيه. نعم أنسى كل ذلك يا باشا لأن هذه المعاني البشرية لا تلبث أن تموت أو تضعف في خاطر رجلين: الوزير لأنه ينفذ أمر الملك، والقاضي لأنه يعلن حكم الله. وولي الأمر أو ولي القضاء متى شعر أنه مظهر الإرادة العليا أخذته حال من السمو الإلهي ترفع النفس وتُرهِفُ الضمير وتُوَثِّق الذمة.
فأنا أتقدم إلى معالي الوزير بشكوى الأدب الحر وأنا مطمئن إلى عدله واثق بجميل رأيه. والأدب الحر يا باشا هو الأدب المجاهد الذي ليس له حزب يحميه ولا منصب يسنده، وشكواه أن الأدب الرسمي بغى عليه بقوة السلطان وحكم الأثرة، فشهد فيه الزور وحكم عليه بالباطل
هذه لجنة إنهاض اللغة العربية - ولا أريد أن أعرض لغيرها اليوم - تألفت بقرار منك
فأصبحت حدودها الموقوتة أداة من أدوات السياسة العليا تنظر بعين المصلح، وتنطق بلسان الوزير، وتحكم بذمة القاضي. ولكنها يا باشا لم ترد أن تخرج عن إطارها الشخصي، فمكنت لنزعات الهوى أن تطير بين آرائها في عمل من أعمال الناس وشأن من شؤون الدولة!
لقد سلكت في اختيار الكتب التي تساعد الطلاب على اكتساب ملكية البيان طريقاً عجيباً إن ضمن فائدة الكاتب لا يضمن فائدة الطالب، وإن قضى حاجة الصداقة لا يقض حاجة اللغة
ولا أريد أن أضرب مثلاً على تجنيها غير ما نالني منها. وأدع لغيري من الذين حكمت عليهم بالإغفال أن يضربوا بقية الأمثال فإن لهم أقلاماً وألسنة
هل تصدق يا باشا أن هذه اللجنة التي ألفتَها من أربعة شيوخ من شيوخ الدين والأدب قد استطاعت أن تحمِل العقل والضمير والفن والمنفعة على أن تلعن كتابين ألفهما جوتة ولامرتين، وترجمهما الزيات، وقدم لهما طه حسين ومنصور فهمي، وطبعهما ونشرهما أحمد أمين، وقرأهما الشبان والشواب في جميع أقطار العروبة ثمانية عشر عاماً لا يرون فيهما غير الخلق النبيل والبيان المشرق والأدب المحض والإلهام المقدس؟
هل علمت يا معالي الباشا أن هذه اللجنة الأخصائية في علوم العربية قد أغفلت كتاباً في صميم الفن أُلف للكتاب والطلاب، وعالج مسائل مبتكرة في تاريخ الأدب، وأضاف قواعد جديدة إلى قواعد الكتابة، وليس في المكتبة العربية اليوم ما يحل محله؟
لقد تساءل الناس في الأندية والصحف عن سر هذه اللعنة، وسبب هذا الإغفال، فأعياهم أن يجدوا الجواب، حتى رد عليهم الأستاذ أحمد أمين عضو اللجنة بما نشرناه وعلقنا عليه في العدد السابق من الرسالة، فانقلبت الأسئلة إلى شكوك وظنون، وراب الأدباء من لجان الوزارة أن يكون هذا مبلغ الحق والعدل، في لجنة عرف أعضاؤها بالنزاهة والفضل، وعجبوا أن يمتهن المنطق رجال المنطق ويظلم الأدب حماة الأدب، وقالوا ماذا عسى يصنع الدهر بلجان الاختيار والتأليف والمسابقة؟
هذا (بلاغي) يا معالي الوزير أرفعه إليك لتحقق ما فيه بعدما قرأتَ في العددين السابقين سؤال السائل وجواب المجيب ورد المتعقب. وصاحب المعالي هيكل باشا غني عن السؤال والجواب والبينة، فإنه بملكته الأدبية يعلم الفن، وبحاسته القانونية يدرك الحق، وبسلطته
الوزارية يملك الحكم
ومعاذ الله أن يكون لهذه الشكوى مبعث غير الحِفاظ للأدب وللكرامة. فقد سلخنا في الجهاد الأدبي ثلاثين عاماً نعمل بين الجمهور وللجمهور فما شعرنا بالحاجة إلى حماية ولا معونة. وهذه منزلة من الإيمان والصبر لا يستطيع أن يصفها لهيكل باشا الوزير، إلا هيكل باشا الأديب
أحمد حسَن الزيات
الأصل وغيره
بقلم إبراهيم عبد القادر المازني
أراني أحد الإخوان رواية لكاتب إنجليزي معاصر اسمها (مذنبون بكرههم) وقال اقرأها. وقد اقتنيت نسخة منها، ولكني ما زلت محجما عن قراءتها وإن كان قد مضى يومان وهي على مكتبي تخايلني كلما جلست إليه. وأحسب أن في اسمها ما يصدني عنها. ولست أعني أني أكره القصص التي تتناول الخطيئات والذنوب والآثام، فقلما تخلو رواية من شيء من ذلك، بل يندر أن تخلو حياة من هذا، فإن العصمة (عليا مراتب الأنبياء) وإنما أكره ما يبدوا لي من النفاق أو المغالطة أو الجهل أو المداجاة في هذا الاسم. ولو قال إنهم أخيار أو أطهار أو طيبون بكرههم لكان أشبه بالحق. فإن رأيي أن الإنسان مطبوع على ما نسميه الشر، وليس بمفطور على ما ألفنا أن نسميه الخير وما إلى هذين من صفات قبيحة وطيبة. والذي نعده خيراً ليس أكثر من عادة أو ضرورة، ولكن الذي نقول إنه الشر أصل. وقد صدق النّواسي في قوله:
أنت يا ابن الربيع ألزمتني النس
…
ك وعودتنيه، والخير عاده
وقد سألت نفسي غير مرة لو كنت، ومعي ابني - والأبناء فيما يعرف الناس ويحسون أفلاذ أكبادهم - في صحراء جرداء لا ماء فيها ولا شجر، ولم يبق معنا من الزاد إلا كسرة، ومن الماء إلا قطرة، وبرح بنا الجوع والظمأ، فماذا كنت عسى أن أصنع؟؟ أأوثره على نفسي، أم أوثر نفسي عليه؟
وآثرت الإخلاص وصدق السريرة في الجواب فقلت إن أول ما كان خليقاً أن يدور بنفسي هو أن أوثر نفسي على ابني، ولعلي حقيق إذا ثقلت وطأة الاحتمال عليّ أن أقاتله على اللقمة أو قطرة الماء. ومهما يكن من ذلك فان المحقق عندي - فيما أشعر وأعلم - هو أن الخاطر الأول يكون هكذا، أي أن تحدثني نفسي بالاستئثار دون ابني بما بقي لنا. وقد يتغلب العقل وعادة الكبح ولنظام الذي نجري عليه في حياتنا المتحضرة. فيحدث أحد أمرين مثلاً: أن يكون الباقي مما يحتمل القسمة، فاقترح اقتسامه ومن يدري؟ لعلي وأنا أكسر اللقمة الباقية أجور عليه في القسمة؛ وإذا كان الأمر لا سبيل فيه إلى مشاركة، فقد أقول لنفسي إن من قلة العقل أن أخطف الكسرة والماء فأطيل بذلك عمري ساعات، وما
يبدو لنا أمل في نجدة قريبة، وأنا قد عشت أكثر مما عاش، وسيقضى كلانا نحبه فليس بضائري أن يبقى بعدي ساعات؛ وهب ناساً أدركونا وأنقذونا فان الباقي من عمري دون الذي مضى وانقضى، وهو على كل حال شيخوخة وتهدم، وأمراض وعلل، وأوصاب وعجز، فما حرصي على ذاك؟ ولكن هذا صغير ولا يزال أمامه شباب طويل وريف، فهو أولى بالحرص على الحياة والتعلق بها وأحق بذلك مني، وقد أكره أن يرى أثرتي وقبحها وشناعتها، وأخاف أن يعرف ذلك عني بوسيلة ما، فأناوله الماء وأجود عليه بالخبزة الناشفة، وأتظاهر بالرحمة، وأتكلف الإيثار وأقول له: إنك ابني وفلذة كبدي، فبقاؤك استمرار لحياتي وامتداد
وفي الدنيا عشاق مجانين غير قليلين وقد يهم الواحد منهم بالانتحار إذا ضنت عليه حبيبته بابتسامة أو أعرضت عنه في مجلس، أو أبت عليه قبلة وضمة. خذ هذا العاشق الولهان، المدله، المزدهف اللب، المشغوف القلب، وأجلسه إلى جانب حبيبته المعبودة في البرد القارس والمطر المنهمر، وأنظر ماذا يحدث؟ أتظن أنهما يتناجيان في تلك الساعة بحبهما؟؟ أتراه يشتهي حينئذ أن يقبلها أو يضمها، أو يبالي ابتسامها أو إعراضها، أو يحفل ما يكون من ذلك منها؟ بل سل نفسك أيخطر له الحب وهو ينتفض من البرد والمطر ويرعد؟؟ وقد يندفع بحكم العادة فيخلع سترته ويضعها على كتفي المحبوبة المعبودة، ولكنه لا يفعل ذلك إلا وهو كاره له، وساخط عليه، وناقم على الضرورة التي تدفعه إلى ذلك. ويزداد البرد مع طول الجلسة، ويعانيان منه ما لا طاقة لهما به، فلا يبقي لهما هم إلا في هذا وفيما يمكن أن يصنعا لاتقاء عواقبه، أو النجاة منه، ويذهب الحب وتذهب دواعي الانتحار، وتهبط قيمة ذلك كله إلى الصفر. فليت العشاق الذين يسلب الحب عقولهم، يكابدون شيئا من هذه المكاره ليعلموا أن في الوسع أن يقل احتفال المرء بابتسامة حبيبته، وتفتر الرغبة في ضمها وتقبيلها، بل إن في الوسع أن يحيا بغير هذه الحبيبة، ولا يفكر فيها، ودع عنك الانتحار من أجل قبلة أبتها عليه!
وهذه الشجاعة ماذا هي؟ إن الأصل في الإنسان الجبن لا الشجاعة، لأن غريزة المحافظة على الذات تقضي بذلك، ولكنه يتشجع، ويحتمل التعرض للمكاره أو المعاطب، ويلقي بنفسه في التهلكة، مرغما، فقد يكون الذي يفر منه شرا مما يرمي نفسه عليه، أو يكون في
الجبن الهلاك فيستوي الأمران، وإذن تكون الشجاعة أولى، وأجلب لحسن السمعة وطيب الأحدوثة، ففيها حتى مع الهلاك عزاء أدبي. أو يكون الموقف من شأنه أن يورط المرء فلا يبقى مفر من الإقدام، والأمر معه. وقد يكون المرء ضعيف الخيال، أو قليل الإدراك فهو لا يحسن أن يقدر الأمور، ولا يبالغ في توهم الأخطار وتجسيدها؛ أو يكون على نقيض ذلك كبير العقل واسع الخيال، فلا يرى بأسا من الجرأة لأن فرص النجاح أو السلامة كفرص الإخفاق والتلف، أو أكثر، إلى آخر ما يمكن أن يكون باعثا للإنسان على مقاومة الحرص الطبيعي على الحياة والضن الفطري بها
ولا أعرف ما شأن غيري، ولكني أعرف نفسي على قدر ما يتيسر لي ذلك، وأعلم أني أشتهي كل ما يُشتهي في الحياة، وإذا كُنت لا أواقع كل لذة أشتهيها، أو أطلبها، أو أحلم بها، فما هذا مني عن عفة فطرية، وزهد في طباعي، فان لكل حالة من حالات الحرمان علة لا تخفي عليّ، ولا أستطيع أن أغالط نفسي فيها، وإن كنت أغالط الناس ولو سألني ربي - كما سيسألني بعد عمر طويل - لأقررت بذنوب لم أقارفها، وخطايا لم أرتكبها، وشهوات تبحث نفسي عنها، أو استعصى عليّ إرضاؤها، ولطال بي الاعتراف، والخلائق ورائي تنتظر دورها تحت الشمس المحرقة في تلك الساعة التي تذهل الأم عن ولدها، فأشفق عليهم، وأوجز وأقول إن ربي أدرى بي وأعرف بالظاهر والباطن، فلا حاجة إلى الإفاضة في الاعتراف. وإني، على الجملة، ومع تفاوت واختلاف قليلين لكما قال السمير رحمه الله:
فتراني طول عمري
…
تائبا من غير عفة
فلا نجاة لنا إلا برحمة من الله ومغفرة.
إبراهيم عبد القادر المازني
عود إلى الموضوع
الدين والأخلاق بين القديم والجديد
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 2 -
لو أن الأستاذ الغمراوي قصر حديث الدين والأخلاق على الرافعي لكانت حجته أقوى، ولكنه وقع في خطأ منطقي إذ حسب أن جميع أدباء المذهب القديم قد راعوا حرمة العرف والتقاليد وآداب الدين وأخلاقه كما راعاها الرافعي. فكأن حجته مقسمة حسب التقسيم الذي يُستشهَدُ به في الخطأ المنطقي: هي أن الرافعي راعى حرمة أخلاق الدين، والرافعي من أدباء المذهب القديم، فنستنتج من ذلك أن المذهب القديم يراعي حرمة أخلاق الدين. وهذا الاستنتاج كاستنتاج من يقول: الفيل له خرطوم، والفيل حيوان، فكل حيوان إذاً له خرطوم. وقد ظهر هذا البرهان المنطقي في أكثر من مكان في مقالات الأستاذ الغمراوي ولا سيما في المقال الأخير. أنظر إلى قوله (فالمسألة في الأدب إذاً ليست مسألة لفظ ومعنى ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً بحتاً يتمتع صاحبه بما حرم الله وما أحل، ولا يفرق بين معروف ومنكر، ثم يصف ما لقي في ذلك من لذة وألم أو غيرهما من ألوان الشعور؛ وفريق يريد أن يحيا الحياة الفاضلة. . إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه الأدب الجديد. . . وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم. . .)
ومن الغريب أن عدد الرسالة الذي كتب فيه الأستاذ الغمراوي هذه الجملة فيه مقال للأستاذ خلاف يشير إلى كتاب يتيمة الدهر للثعالبي وإلى غيرها من كتب الأدب القديم، ونستشهد منه بالجملة الآتية:(ومنذ أن قال امرئ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في كتاب يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح)؛ منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله)
فالأستاذ خلاف يثبت في مقاله أن الأدب الداعر بدأه أمير شعراء الجاهلية في مثل قوله (إذا ما بكى من خلفها. . . الخ) واستمر في عصور الإسلام إلى أن استفحل كل الاستفحال في عصر الأدب العباسي الثاني. فهل يعد الأستاذ الغمراوي أدباء هذه العصور الذين يعنيهم الأستاذ خلاف من أدباء الأدب الجديد أم من أدباء الأدب القديم؟ وهل قول الأستاذ الغمراوي (فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً الخ الخ) ينطبق أولاً ينطبق على أدباء الأدب القديم الذين ذكرهم الأستاذ خلاف؟ وهل ينكر الأستاذ الغمراوي أنه قلما يخلو كتاب من كتب الأدب القديمة من أشياء لا يليق بالفتيات والفتيان ولا بأي إنسان أن يقرأها، وأن الأستاذ خلاف عندما ضرب الأمثلة لم يقصد أن يذكر كل ما وجد من هذا القبيل؟ إن في كتاب يتيمة الدهر أشياء لو قرئت على الأستاذ الغمراوي لوضع إصبعه في أذنه وفر وهو يقول: مرحباً بالجديد. وما رأي الأستاذ الغمراوي في شرح السيد توفيق البكري شيخ السادة البكرية، ورجل الفضل والدين لأبيات ابن الرومي التي ذكر فيها صوت يد العجان في العجين (راجع صهاريج اللؤلؤ)؟ فهل السيد توفيق البكري من أدباء المذهب الجديد؟ وما رأيه في الشيخ شريف رجل الفضل والدين ومفتش اللغة العربية في وزارة المعارف وقد شرح أرجوزة ابن الرومي التي أولها (رب غلام وجهه لا يفضحه). وليس من موبقة إلا وفي كتب الأدب القديم وصفها والافتخار بها على شكل لم يبلغه الشبان المولعون بما يسمونه (الأدب المكشوف). ومن الغريب أن الذين ينبهون الحكومة إلى سقطات هؤلاء الشبان لا ينبهونها إلى ما في كتب الأدب القديم من مخاز لا تسمح أية دولة بنشرها. راجع في الأغاني أمثال قصة إصبع بن أبي الإصبع ومطيع ابن إياس، على ما أذكر، أو سل الأستاذ خلاف عما وجد في كتاب يتيمة الدهر حتى سماه قاموس الأدب الداعر، بل خذ أي كتاب أو ديوان، خذ مثلاً ديوان أبي تمام وراجع القصيدة التي يخاطب فيها الحسن ابن سهل في قوله:
(إن أنت لم تترك السير الحثيث الخ) ولاسيما البيت الذي أوله (سبحان) في الطبعة غير المنقحة، أو خذ ديوان البحتري وانظر كيف أفحش في المجون في حضرة أمير المؤمنين المتوكل في القصيدة التي يمدحه بها وأولها (سقاني القهوة السلسل) وانظر إلى البيت الذي أوله (وقطع) فهل هؤلاء من شعراء المذهب الجديد؟ وهل أمير المؤمنين المتوكل من أدباء
المذهب الجديد؟ أو خذ ديوان أمير المؤمنين عبد الله ابن المعتز ففيه أيضاً مخازٍ يعجب لها الأستاذ الغمراوي. أو خذ ديوان الرجل التقي النقي العلوي صفي الدين الحلي وانظر إلى مجونه وغزله المؤنث والمذكر، أنظر مثلاً إلى سبب تضمينه الأبيات الآتية في قصيدة له والأبيات أولها (أيا جبلي نعمان بالله خليا الخ الخ)
إن أدباء المذهب القديم وأدباء المذهب الجديد في أيام شبابهم قد قرءوا كل هذه الكتب وقرءوا ما فيها مما لو رآه الأستاذ الغمراوي لطمسه. وقد تأثر كثير منهم بها إلى حد جعلهم لا ينكرون وجودها وجعلها في نظرهم أشياء طبيعية مألوفة. وأدباء المذهب الجديد قد قرءوا الكتب العربية قبل قراءتهم كتب الأدب الأوربي الذي يخشى الأستاذ الغمراوي قدوتها. فإذا كانت كتب الأدب الأوربي قد أثرت فيهم فان كتب الأدباء والشعراء التي يستنكرها الأستاذ خلاف لا بد أن تكون أبلغ أثرا في نفوس الفريقين؛ وهي أيضاً بليغة الأثر في نفوس فتيات وفتيان المدارس لأن هذه الكتب يستعيرها التلاميذ والتلميذات بمدارس البنين والبنات، فهي بمكتبات المدارس ويُحَثُّ التلاميذ والتلميذات على قراءتها. لو كان الأستاذ الغمراوي يعرف ما يكتبه الطلبة من الحواشي أحيانا على هامش هذه الكتب المستعارة لعرف مقدار أثر كتب الأدب القديم في نفوس النشء. إني أتوسم في الأستاذ الغمراوي الإنصاف، ومن أجل ذلك أعتقد لو أنه بحث هذه المسألة وفحص أثر هذه المؤلفات وأمثالها بعد أن يدرس مجونها ويهتدي إليه بهداية أهل العلم بأماكنه لا أعترف أنه إذا كان لأدبٍ ما أثر في دفع الشبان إلى المجون والإباحية في الأخلاق فهو أثر الأدب القديم، وأن هذا الأدب القديم غير مقصور الأثر على التلاميذ والتلميذات، بل إن أثره يشمل أدباء المذهب القديم العصريين وأدباء المذهب الجديد على السواء. ولا يعجب الأستاذ الغمراوي إذا قيل أن الأدب الأوربي الحديث إنما يؤدي دينا عليه للعالم العربي، فأن الأدب والشعر والفكر العربي كما كان في الحضارة العربية ولا سيما العباسية والدويلات التي أتت بعدها كان كثير الحرية إلى حد الإباحية في الخلق أحياناً؛ وقد كان هو والأدب الإغريقي القديم من العوامل التي قضت على أدب التعفف والتقشف المسيحي في القرون الوسطى.
وما يقال في الأدب القديم عن الآداب والأخلاق يقال أيضاً عن العقيدة. نفسها فلو رجع
الأستاذ الغمراوي إلى كتب الملل والنحل العربية لوجد أن بعضها لم يترك إلحادا إلا وصفه ولا كفر إلا أطال القول في معانيه
وأقوال ملاحدة الدولة العباسية وغيرها من الدول لا تزال أمام القراء من شعر ونثر، وما ترك الأول للآخر شيئاً.
إذاً يحسن بالأستاذ الغمراوي أن يقصر قوله على الرافعي، وأن يمجده ما شاء، وأن يقدس مراعاته حرمة الآداب والأخلاق الإسلامية، أما أن يقع في خطأ الاستنتاج فهو أعظم من ذلك منزلة؛
وإذا كان الأستاذ الغمراوي يريد أن يقضي على سبب من أهم أسباب فساد الأخلاق فعليه أن يحث وزارة المعارف وإدارة المطبوعات على تشكيل لجنة لفحص الكتب العربية وطمس ما هو مفسد للأخلاق في الموجود من نسخها وتحريم طبعه في الطبعات الجديدة فان ائتمان أمثال هذه الكتب وهؤلاء الأدباء على أخلاق النشء (ومحاربة الأدب الأوربي) يكون كمن يأتمن لصاً وطنيا على بيته وأمواله وأثاثه لأنه وطني؛ وقد يكون هذا اللص الوطني أشد خطرا لأنه يؤتمن ويمهد له السبيل ويعطى له مفتاح المنزل. أو كمن يأتمن فاجرا داعرا على أبنائه لأنه كان صديق صباه وأليف أيام شبابه.
قارئ
للتاريخ السياسي
المشكلة التشيكوسلوفاكية
للدكتور يوسف هيكل
من أهم المشاكل الدولية الحالية وأبرزها: المشكلة التشيكوسلوفاكية، فقد كادت تكون في المدة الأخيرة سبب حرب عالمية، ولا تزال موضع اهتمام ساسة الغرب ولا سيما الإنكليز والفرنسيين منهم، والذين يعملون على حل هذه المشكلة ليزيلوا شبح الحرب من أوروبا الوسطى
والمشكلة التشيكوسلوفاكية معقدة عويصة، يحتاج تفهمها إلى التعرض لتاريخ تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب العالمية، والى عرض صعوبات الحكومة التشيكوسلوفاكية قبل الحكم النازي في ألمانيا، والى إظهار تغير الحكم الهتلري لعوامل المشكلة التشيكوسلوفاكية والمفاوضات الجارية لحلها. وأخيراً إلى مرامي السياسة الألمانية
تقع جمهورية تشيكوسلوفاكيا في أوربا الوسطى، وهي محاطة بألمانيا والنمسا وهنغاريا ورومانيا وبولونيا، ومكونة من مقاطعات بوهيميا وموارافيا وسيليسيا، بلاد التاج البوهيمي قديماً، ومن قسم من هنغاريا القديمة، وعاصمتها مدينة براغ.
ويجب ألا يغيب عن الذهن أن بوهيميا كانت مدة خمس قرون، ما بين عام 1068 - 1526 مملكة مستقلة، وأن ملكين من ملوكها، وهما شارل الرابع وونسيلاس الرابع، كانا ملكين رومانيين مقدسين.
وفي أثناء حروب القرن الخامس عشر الدينية قاوم أهل البلاد بنجاح الهجمات النمساوية وحافظوا على استقلالهم. غير أن تاج بوهيميا وتاج هنغاريا وُحِّدا عام 1526على رأس الإمبراطور فرديناند الأول، من أسرة هابسبورك. ومنذ ذاك التاريخ ابتدأت حكومة النمسا تدريجياً تجعل الحكم مركزياً، وتحكم بوهيميا مباشرة. وقد تم ذلك بعد ثورة 1618، واندحار رجال التشيك أمام الجيوش النمساوية في موقعة الجبل الأبيض عام 1620. ومن حينئذ زال استقلال بوهيميا باستيلاء النمسا عليها، وأصبح السلوفاكيون تحت اضطهاد الإقطاعيين المجربين
وفي أوائل القرن التاسع عشر ابتدأت الحركة القومية التشيكية، وبرغم خيبة الأمل في
نجاحها أثناء الثورة الفرنسية عام 1848، بقيت تناضل وتطالب بالاستقلال الإداري والسياسي على أساس الاتحاد الشخصي بإمبراطور النمسا. ولكن هذه المطالب رفضت ولم يتحقق استقلال التشيك والسلوفاك إلا في 28 أكتوبر عام 1918 بقيادة مازاريك وبنيس
وتضم الحدود التشيكوسلوفاكية الآن ما ينيف على خمسة عشر مليوناً من السكان منهم: 7. 447. 000 تشيك أي أكثر من النصف بقليل، و3. 218. 000 ألمان، و2. 809. 000 سلوفاك، و720 ، 000 مجريون، و569. 000 راتينيون، و100. 000 بولونيون، و266. 000 جنسيات أخرى ويهود
ومما هو جدير بالملاحظة أن ما ينوف على الثلاثة ملايين من الألمان في تشيكوسلوفاكيا، لم يكونوا قط تحت سيادة الحكومة الألمانية، بل كانوا من الرعايا النمساويين المجربين
إن وجود هذه الأقليات المتعددة ضمن حدود الجمهورية التشيكوسلوفاكية، خلق مشكلتها، مما جعل الرئيس مازاريك يعرِّف مشكلة بلاده بأنها:(مشكلة الأقليات فيها)
وعند البحث في وضعية الأقليات الألمانية في تشيكوسلوفاكيا يجب التنبيه إلى أن الأكثرية الساحقة من هذه الأقلية تعيش متجمعة. وأهم من ذلك أن هذه الجموع الألمانية تؤلف إطاراً محكماً على طول الحدود التشيكوسلوفاكية الألمانية. ولذلك يمكن القول بأن الأقلية الألمانية في تشيكوسلوفاكيا هي أقلية حدود. فوضعية هذه الأقلية الجغرافية تحول عملياً بين تحقيق ما تطلبه من الاستقلال الذاتي.
ثم إن مصانع تشيكوسلوفاكيا واقعة في شمالي بوهيميا ومورافيا وسيلسيا، في الأراضي التي يتكلم سكانها الألمانية، لذلك لا تتساهل حكومة براغ في استقلال الألمان السوديت، لأن ذلك يؤدي إلى خسران البلاد التشيكوسلوفاكية مصانعها الهامة التي هي من أعظم مواردها الاقتصادية، إن لم تكن أعظمها، وإلى استيلاء ألمانيا عليها
ومن نتائج وجود المصانع التشيكوسلوفاكية في الأقاليم المأهولة بالألمان، تأثر سكان هذه الأقاليم الصناعية بالأزمة الاقتصادية. ومن الطبيعي أن التذمر من الأزمة الاقتصادية يؤدي إلى التذمر السياسي. فأخذت الأقلية الألمانية تتهم حكومة براغ باتباع سياسة التحيز، سياسة السهر على مصلحة التشيك بإيجاد أعمال لهم، وعدم الاعتناء بالعاطلين الألمان؛ واتسع باب التذمر وتعدى الحدود الاقتصادية إلى الحدود الثقافية والإدارية فأفهمت الأقلية الألمانية
حكومة براغ أنها لا تراعي حقوق الأقلية في التعليم واستعمال لغتها، ولا في تعيين الموظفين، بل هي تخالف في أعمالها معاهدة الأقليات المؤرخة في 10 سبتمبر 1919
وكانت نتيجة هذا التذمر نزاعاً بين الأقلية والحكومة، أدى إلى احتجاج الأقلية الألمانية على الحكومة التشيكوسلوفاكية في عصبة الأمم. وأدى هذا النزاع إلى توليد البغض الشديد بين التشيك والأقلية الألمانية
لم تبق المشكلة التشيكوسلوفاكية مشكلة محلية، أي مشكلة أقليات، حسب تعريف الرئيس مازاريك، بل أصبحت منذ استلام النازي زمام الحكم في ألمانيا مشكلة دولية بتدخل ألمانيا في سياسة تشيكوسلوفاكيا عن طريق الأقلية الألمانية. والأقلية الألمانية في تشيكوسلوفاكيا ليست حزباً واحداً بل هي أحزاب، منها من يريد الانضمام إلى ألمانيا، ومنها من يريد البقاء متحداً مع حكومة براغ. ولما تسلم الحزب النازي الحكم رضى متطرفو الألمان في تشيكوسلوفاكيا به، وأظهروا ميلهم إليه، وقاموا بحركات عدائية نحو حكومة براغ، مما أدى إلى حل الحزب الألماني القومي والحزب الاشتراكي القومي. وبعد ذلك بقليل قامت حركة جديدة بين الألمان السوديت بقيادة الهر هنلين، فعظم شأنه وقوى حزبه
وقف الهر هنلين موقفاً يخالف موقف بقية زعماء الألمان في تشيكوسلوفاكيا، إذ هم يعملون على إنالة الأقليات الألمانية حقوقها التي جاء ذكرها في معاهدة الأقليات مع بقائهم ضمن وحدة الجمهورية. أما الهر هنلين فطالب باستقلال السوديت الذاتي، وتدخل في سياسة تشيكوسلوفاكيا الخارجية. وذلك صريح من خطابه الذي ألقاه في مؤتمر كارلسباد في 23 إبريل سنة 1938 إذ قال بعد أن ذكر مطالب حزبه الثمانية:(إننا نعلن رسمياً وبصراحة أن سياستنا مستمدة من المبادئ والأفكار الاشتراكية القومية - مبادئ النازي - فان كان سياسيو التشيك يريدون الوصول إلى تفاهم دائم معنا نحن الألمان، ومع الرايخ الألماني، فعليهم أن يلبوا مطلبنا في التغيير التام لسياسة التشيك الخارجية التي قادت الحكومة حتى اليوم إلى صفوف أعداء الشعب الألماني)
أما المطالب الثمانية فتتلخص فيما يلي:
1 -
المساواة التامة بين التشيك والألمان في المنزلة
2 -
ضمان هذه المساواة بالاعتراف للسوديت الألمان بكيان شرعي
3 -
تحديد المناطق الألمانية ضمن نطاق تشيكوسلوفاكيا والاعتراف بهذه المناطق قانونياً
4 -
منح هذه المناطق الاستقلال الذاتي التام
5 -
منح الحماية القانونية لكل مواطن يقيم خارج المنطقة الخاصة بجنسيته
6 -
إزالة المظالم التي نزلت بالسوديت الألمان منذ عام 1918 وتعويضهم عنها
7 -
الاعتراف بالمبدأ الذي يقرر توظيف الألمان في المناطق الألمانية
8 -
منح الحرية التامة لمن يرغب في الجنسية الألمانية
والهر هنلين يعمل على تنفيذ السياسة النازية الرامية إلى احتلال ألمانيا البلاد التي تتكلم أكثرية سكانها اللغة الألمانية، وإلى إلغاء المعاهدتين اللتين تربطان فرنسا وروسيا بتشيكوسلوفاكيا، واللتين تضمنان لها استقلالها. وهذه السياسة ليست سرّاً، فقد صرح الهر هتلر في خطابه بتاريخ 20 فبراير 1938 مذكراً الريشتاغ (إن ما يزيد على عشرة ملايين من الألمان يعيشون في بلدين مجاورين لحدودنا). وأضاف إلى ذلك قوله:(إن ألمانيا الحالية تسهر على مصالح الريخ الألماني الذي من مصلحته حماية هؤلاء الألمان الذين يعيشون وراء حدودنا، والذين هم غير قادرين على نيل حقهم في الحرية العامة، والشخصية، والسياسية، وفي اتباع مثلهم الأعلى). وقد أجاب الدكتور هودزا رئيس وزراء تشيكوسلوفاكيا في 4 مارس على ادعاء حماية الألمان لحكومة براغ بأنها (تعني تدخلاً في شؤون بلادنا الداخلية، وإذا كانت ملاحظات الهر هتلر تعني محاولة التدخل في شؤوننا الداخلية - تدخلا يتعارض مع مبدأ الاعتراف بسيادة الدول الأخرى - فان الحكومة التشيكوسلوفاكية تمج ذلك كثيراً، وهي لا تترك أحداً يشك في أن سكان هذه البلاد سيدافعون عن جميع عناصر استقلالهم كدولة بجميع ما لديها من قوى حينما يعتدي على هذه العناصر. . .)
وبعد أسبوع اتخذت المشكلة التشيكوسلوفاكية شكلها الخطر على سلام العالم. لأنه في 11 مارس اجتازت الجيوش الألمانية الحدود النمساوية، وفي 13 مارس أعلن ضم النمسا إلى ألمانيا، فأصبح في عشية وضحاها ثلثا عشرة الملايين الذين جاء ذكرهم في تصريح الهر هتلر في 20 فبراير مواطنين ألمانيين. عندئذ أخذ السياسيون يتساءلون عن مصير الثلث الثالث؛ هل تعامله ألمانيا كما عاملت النمسا؟ ولكن وضعية هذا الثلث الدولية ليست بسيطة
كما كانت وضعية النمسا لأن فرنسا وروسيا لا تقفان مكتوفتي الأيدي أمام اجتياز الجيوش الألمانية تشيكوسلوفاكيا؛ وفي ذلك خطر على السلام ومن جراء ذلك تنشأ حرب عالمية
وفي الواقع لم تتردد فرنسا في إظهار موقفها إذ هي في اليوم التالي لضم النمسا إلى ألمانيا أكدت بكل صراحة وعزم، أن فرنسا تنفذ تعهداتها لتشيكوسلوفاكيا المذكورة في معاهدتي 25 يناير 1924و16 أكتوبر عام 1925؛ وفي 15 مارس أعلنت روسيا بأنها ستقوم بواجباتها نحو تشيكوسلوفاكيا التي تقتضيها معاهدة الدفاع المتبادلة المؤرخة في 16 مارس عام 1935. وفي 14 مارس رفض رئيس الوزارة البريطانية التعهد لتشيكوسلوفاكيا بمساعدتها حين التعدي عليها؛ غير أنه ذكر أن القوى البريطانية تساعد الدولة المعتدي عليها في نظر حكومة جلالته. ثم أضاف منذراً:(إنه عند ما ينظر في السلم أو الحرب لا تراعى فقط الواجبات الحقوقية. . . وإنه من المحتمل أن بلاداً أخرى بجانب البلاد التي هي داخلة في النزاع تصبح حالا فريقاً فيه. وهذا الحكم صحيح بصورة خاصة على بريطانيا العظمى وفرنسا) ومعنى ذلك أنه إذا دخلت فرنسا الحرب لإنقاذ تشيكوسلوفاكيا فان بريطانيا ستكون بجانبها
كان لهذه الإنذارات الثلاثة وقع شديد في برلين، وكان من نتائجها أن حفظ استقلال تشيكوسلوفاكيا، وفتح باب المفاوضات بين حكومة براغ والهر هلنين لحل مشكلة السوديت. وقد نصحت حكومتا لندن وباريس حكومة براغ بالتساهل مع رعاياها الألمان. وكانت حينئذ حكومة براغ آخذة في وضع نظام الأقليات، فتقدم حزب السوديت الألماني إليها في 7 يوليو (تموز) عام 1936 بمذكرة عرض عليها فيها الدخول في مفاوضات على أساس تحقيق المطالب التي جاء ذكراها في المذكرة. وكان من المتفق عليه أن يظل محتوى المذكرة مكتوماً خلال المفاوضات بين الحكومة ورؤساء الأحزاب لتسهيل سيرها. وكان مفهوماً حينئذ أن مضمون هذه المذكرة لا يختلف عن المطالب الثمانية التي أعلنها الهر هنلين في خطابه الذي ألقاه في كارلسبارد في 23 أبريل.
اجتمع الدكتور هودزا في 9 يونيو (حزيران) مع مندوبي الهر هنلين وباشروا المفاوضات. وفي 15 منه صدر بلاغ رسمي مشترك يشير إلى أن الاتفاق تم على أن تكون مذكرة السوديت ونظام حكومة بشأن الأقليات بمثابة أساس مفاوضات بين الحكومة والسوديت.
في 19 يوليو (تموز) نشر حزب السوديت الألماني المذكرة برغم أن المفاوضات مع الحكومة كانت لا تزال في دورها الأول وأن نصوص نظام الأقليات لم يعلم بعد، وهي تحتوي على 14 طلباً رئيسياً، يستخلص منها ولا سيما من الطلبين الخامس والسادس أن الألمان السوديت يريدون تنظيم الحكومة من جديد بصورة يصبحون فيها مستقلين تمام الاستقلال في إقليم السوديت، وفي الوقت عينه يكون لهم صوت معادل لصوت التشيك في إدارة شؤون الدولة التشيكوسلوفاكية. وطلبات السوديت الألمان تعني في نظر براغ أن كل ألماني سيملك (استقلالاً ذاتياً) يعطيه حقاً باتباع مجموعة أقسمت يمين الطاعة إلى (زعيم) لا إلى الدولة، وأن مثل هذه المجموعة ستكون منظمة ومداراة حسب طريقة النازي، فالنتيجة تكون تأسيس دولة أوتقراطية ضمن دولة ديمقراطية!
فهذه النقطة تظهر البون الشاسع بين مطالب الألمان السوديت وبين ما تريد حكومة براغ منحهم من الامتيازات.
نعم إن نظام الأقليات لم يعلم مضمونه بعد بصورة رسمية، غير أننا نعلم رسمياً أنه لا يحتوي على استقلال ذاتي لأي مقاطعة مّا من مقاطعات البلاد التشيكوسلوفاكية، وأن الحكومة مستعدة لقتل كل حركة انفصالية. ذلك ما صرح به رئيس الوزارة في 7 يوليو (حزيران) ووزير الحقانية في 8 منه
وقد نشر في 27 يوليو 1938 بطريق غير رسمي أن نظام الأقليات يتضمن ثلاثة عشر قسما، تحتوي:
- على مساواة بين جميع الموظفين بدون تمييز بين العناصر التابعة لها
- وعلى حرية انتخاب الجنسية التي يريدها المرء متى بلغ الثانية عشر، على أن يكون ملماً بلغة تلك الجنسية. أما اليهود فيحق لهم انتخاب الجنسية اليهودية - دون معرفتهم اللغة العبرية
- وعلى حماية الجنسية الشخصية، بعقاب كل من يحاول تحويل جنسية آخر.
- وعلى نظام التمثيل النسبي للعناصر في الوظائف وفي الشؤون الاقتصادية، كالإعانات والأشغال العمومية
- وعلى النسبة في التعليم والاستقلال الذاتي للأقليات في التعليم والتربية
وعلى كل حال فقد حلت المفاوضات بين حكومة براغ والسوديت الألمان الأزمة التشيكوسلوفاكية، ولكن هذا الحل ظاهري؛ فظلت هجمات الصحافة الألمانية شديدة على سياسة الحكومة التشيكوسلوفاكية. ولم يكف الرجال المسؤولون في حكومة برلين عن التصريحات العدائية الشديدة ضد حكومة براغ. وكان الموقف، ولا يزال، معقداً وخطراً على السلام، مما أدى إلى تدخل حكومة لندن تدخلاً فعلياً في المشكلة التشيكوسلوفاكية. فقررت بالاتفاق مع باريس: إيفاد اللورد رنسيمان إلى براغ ليكون محققاً ووسيطاً في مسالة الأقليات. فقبلت حكومة براغ وساطة بريطانيا، ووافق السوديت على تحكيم اللورد رنسيمان
ويستخلص من إيفاد اللورد رنسيمان إلى براغ نتيجتان قوبلتا بالارتياح وهما: (أن الوصاية التي تتولاها إنكلترا تستلزم عند الاقتضاء كفالة أو ضماناً، وأنه قد زاد الأمل في الوصول إلى اتفاق سلمي وضعف الخطر الذي كان يخشى من استخدام القوة) كما يقول مسيو بلوم رئيس وزارة فرنسا السابق، في جريدة البوبلير
ولكن هل يوفق اللورد رنسيمان في إيجاد حل ملائم لهذه المشكلة يرضي براغ من جهة، وبرلين والألمان السوديت من جهة ثانية؟
إن مهمة اللورد رنسيمان صعبة، إذ عليه التوفيق بين وجهتي نظر متعارضتين. فألمانيا ترمي إلى أبعد من إزالة المظالم عن الألمان السوديت وإعادة حقوقهم إليهم. وأقل حل تقبله ألمانيا، وبالتالي يقبله السوديت الألمان، هو استقلال السوديت الألمان استقلالاً ذاتياً، واتباع حكومة براغ سياسة خارجية لا تتضارب مع سياسة الرايخ الخارجية، وذلك بترك حكومة براغ معاهدتي الدفاع مع فرنسا والروسيا، واتباع سياسة تتمشى مع سياسة حكومة برلين، أو على الأقل اتخاذ خطة حيادية شبيهة بوضعية بولندا. واتباع إحدى هاتين الخطتين، في نظر حكومة براغ، لا يتفق مع بقاء البلاد التشيكوسلوفاكية بلاداً مستقلة. وهي تؤدي إلى انضمام الأقاليم التشيكوسلوفاكية المأهولة بالألمان إلى ألمانيا، وإلى زوال الحصن العائق من طريق ألمانيا إلى أوربا الجنوبية والشرقية، وإلى تمكين ألمانيا من استئناف السياسة التي أحبطتها الحرب العالمية عام 1918.
ربما تقبل ألمانيا الآن حلا آخر أقل ملائمة لها، ولكن ذلك الحل لا يكون في نظرها إلا
مؤقتاً. وفي الواقع اقترحت ألمانيا عقد مؤتمر رباعي من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا لإيجاد اتفاق - مؤقت - لحل المشكلة التشيكوسلوفاكية. وفي اقتراحها هذا تريد تأجيل حل المشكلة التشيكوسلوفاكية إلى أوقات أكثر مناسبة لتحقيق سياستها، وفي الوقت عينه تحاول إقصاء الروسيا عن كل اتفاق يتم بشأن حليفتها تشيكوسلوفاكيا
وعلى كل حال ستظهر لنا الأيام القريبة نتيجة جهود اللورد رنسيمان. وسنرى ما يقترح من حل لهذه المشكلة المعقدة الخطرة على سلام أوربا
يوسف هيكل
حواء
يقول لي الأستاذان أديب عباسي وجمعة الطوال إن مقدمة قطع حواء في الرسالة الزاهرة لا تفي حق حواء فأجيبهم:
كل معروض يدعوا له غيره إلا الشعر فانه يدعو بنفسه لنفسه
(الناظم)
فم يضحك
تلمّستُ وجهكِ بين الوجوه
…
ووجه الحقيقة لا يُدركُ
فلم أدرِ أيَّ دروب الحياة
…
إلى دَرْكِ غايته أسلك
هُواتُكِ ما فتئوا حائمين
…
على نور وجهكِ أو يهلكوا
تراموا إليه حفاةَ العقول
…
فما أدركوه ولا أوشكوا
ولو بصروا من وراء الدموع
…
دموع الهوى بكِ لم يأفكوا
ولا كشفت سخريات الوجود
…
لأعينهم عن فمٍ يضحك
رمز الحقيقة
(ختام الديوان)
جهلتُ الحقيقةَ بين القصور
…
وأخطأتها في ضِلال الشجر
تلمّستها في صَميم الحياة
…
وفتشت عنها بطون السير
وقلّبت من صحف الكائنات
…
صحائف تحمل شتى الصور
فلم أدر أيّةُ أرض تحلّ
…
ولا أيُّ أفق لها مُستقَرّ
أفوق السما هي بين الملا
…
ئك أم هي في الأرض بين البشر؟
وكم خضتُ في غمراتِ السكون
…
وأنعمتُ في صفحتيِهِ النظر
أسائل عنها بهيم الظلام
…
وأنشدها تحت ضوء القمر
فما بهر العين منها الضياء
…
ولا رنَّ في السمع منها الوتر
ولما توسدتُ بين القبور
…
ضريحك أدركتُ بعض الأثر
وقلتُ الحقيقة تحت التراب
…
ورمز الحقيقة هذا الحجر
الحوماني
صلاح الدين وموقعة حطين
من أمين الريحاني
إلى محمد إسعاف النشاشيبي
قرأ الأستاذ أمين الريحاني خطبة الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في (موقعة حطين) فكتب هذا الكتاب ومنه قوله:
(حيا الله الأخ الأعز، والصديق الأبر
حبر أحبار اللغة العربية، حياه الله
كبير أنصار الوحدة القومية، حياه الله
رافع أعلام النبوة الخضراء والحمراء
لإعزاز العرب
ولبلوغ الأرب
ولهدْى من اغترب - حيَّاه، حياه الله
النافخ في الصور، المنهض المحرّض المثير، حياه الله
بحر البلاغة الزاخر، وأفق المعاني الباهر، ومرج البيان الساحر، حيّاه الله
إن بيانه لإعصار فيه نار
وإنه لسماء تتلألأ بالأنوار
وإنه لبستان قلبه من النرجس وعينه من الجلّنار
وإنه لمعرض من بنات الأفكار، بنات العرب الأبكار
معرض الحب والجمال
من بنات السهول
وبنات البوادي
وبنات الجبال
بنات العروبة والاستقلال، حياه، وحياهن الله
والسلام والصلاة على كل من يردون التحية، ويسارعون فزعين مناصرين
الله أكبر، الله أكبر، والوطن الأعز الأقدر، والاستقلال الأتم الأنور.
الله والوطن والاستقلال
الله والوطن والاستقلال
لا حياة دون الثلاثة لأمة
ولا مجال، حتى لشبح من الآمال
إن لندائك صوتاً بعيد الصدى والقرار
وإن بيانك لجدير بإكليل من الغار
وبتهليل الأحرار
وبصلوات الأبرار
وإن إيمانك وإيماننا لمن لدن الجبار، رب العلم والاقتدار
القائل بلسانك ولساني: اليوم جهاد وغداً انتصار
أمين الريحاني
وهذا قسم من تلك الخطبة وهو خاتمتها:
(محمد بن عبد الله، محمد بن عبد الله!
نحن جماعتك، نحن شيعتك، نحن منتمون إليك، منتمون إلى قرآنك، منتمون إلى دينك
هل تريد أن نبيد، هل تريد أن يبيد قرآنك، أن تبيد لغتك هل تريد أن تضيع بلادك، أن تهلك أمتك؟؟
محمد!
أدركنا، أنجدنا، خلّصنا، أنقذنا، نجِّنا، إن الأعادي تداعت من كل صوْبٍ علينا، ونحن في الدنيا جنودك، ونحن في الدنيا رجالك!!
أبا القاسم، أبا القاسم!
إن التخلي عن الأحباب يوم الضنك، يوم الضيق، يوم البؤس، يوم الكرب - ممقوت
أبا القاسم، أبا القاسم، إنا لسنا بالحريصين على الحياة، إنا لسنا بالحريصين على بقاء، إنا لسنا بالحريصين على هذه الدنيا وزينتها وزخرفها.
البقاء والفناء عندنا سواء، الحياة كالممات، والممات كالحياة. الوجود كالعدم، والعدم كالوجود
أبا القاسم، أبا القاسم! إنا إنما نبغي أن تكون في الدنيا من أجلك لأجلك، لأجل قرآنك، لأجل
لغتك، لأجل عربيتك. ولولا أنت، لولا أنت لصحنا: حيَّ على الفناء، حيهل بالفناء، وعلى الدنيا العفاء
هاتف من وراء الغيب يقول: لا تحزنْ، لا تيأس، لا تقنط نور الدين، صلاح الدين، حطين
إنْ خذل قرآني، إن خذل ديني، إن خذل إسلاميتي، إن خذل عربيتي، متسمَّى بالخليفة في بغداد، متسمى بالخليفة في القاهرة متسمى بالخليفة في المغرب. . .
إن خذلني سلاطين مشتغلون بالملاهي، قد ألهتهم عني بنات الليل. وإن أولئك، وإن هؤلاء إلا أسماء، إن هم إلا هواء. . .
إن خذلني خاذلون (كرِهَ اللهُ انبعاثهم فثبَّطهم وقيل: اقعدوا مع القاعدين)
إن خذلني خاذلون مخذولون فعندي عندي محمديان، بكريان، عمريان، علويان: عندي بطلان، عندي سيفان من سيوف الله المدخرة ليومٍ باسلٍ ذي أيام. كل واحد بأمة، كل واحد بأمم جَّمة، كل واحد بجميع قطين الأرض
عندي بطلان يجيئان وينقذان بلادي وأمتي وديني وقرآني وعربيتي ولغتي. خذ، خذوا:
محمود بن الشهيد ويوسف بن أيوب؛ ثم اذهب واذهبوا، واشهدْ واشهدوا موقعة حطين!!!
قد أمسى الصليبيون في الهالكين (وكم أهلكنا قبلهم من قَرْنٍ، هل تُحس منهم من أحد أو تسمع لهم رِكزَا)
حِطْين، حطين، حطين!!!
لولا حطين، لولا حطين لهلك المسلمون
لولا حطين لاضمحلت لغة الضاد. يوم بَدْر، يوم اليرموك، يوم حطين
أيها الغربيون، ارجعوا إلى بلادكم مذمومين مدحورين، انقلبوا إلى دياركم خائبين مقهورين!
أيها الغربيون! علمكم نور الدين وصلاح الدين ما لم تكونوا تعلمون: علماكم المروءة والوفاء، ومكارم الأخلاق والعدل، وأن تكونوا متمدنين مهذبين. لكنكم، لكنكم تلاميذ ألفينا كم بعد قرون (أرى الله بكم) جهالاً أغماراً، غير كرام، غير متمدنين، غير مهذبين
نورَ الدين! صلاح الدين! إن القوم قد رجعوا، إن القوم قد عادوا، وأعادوها بعد قرونَ جَذَعة
اللنبي، غورو، قد أتانا ما قلتما، فتعلَّما أنها لما تنتهِ
أيها الغربيون! هذى بلادنا، هذه الدار دارنا، زايلوا بلادنا، غادروا بلادنا. إنا لكم، ولسلطانكم، ولوجوهكم (شاهت وجوهكم، لا حياها الله وجوها) ولمدنيتكم الممّوهة الكاذبة المزورة، ولظلمكم ولجوركم، ولانتقامكم - من القالين، من المبغضين، من المنكرين، من الجاحدين، من الكافرين. . .
هذى البلاد بلادنا. اخرجوا من بلادنا! إلى بلادكم! إلى بلادكم أيها الطارئون
هناك محمد، هناك محمد. . .
(والدهرُ بالناس دوّاريٌّ). . .
والدنيا دول. . .
(وتلك الأيام. . .)
(ووراء الغيب ما وراء الغيب)
حنظل وتفاح!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
سقيتني يا دنيا بكأسيك في يوم واحد! وكنت شاعرة حاذقة حين قدمت إلى هاتين الكأسين في وقت يكاد يكون واحداً؛ حتى امتزجت في مذاقي المرارة بالحلاوة. . . وكنت صديقة مخلصة ناصحة في معاملتي حينذاك
قدَّمت إلى كأس الحنظل حين توجهت معزياً إلى عش ذي أفراخ زغب طارت عنه صاحبته وبانيته: أمهم الحمامة الوديعة التي أتت بهم خمسة متلاحقين، ثم مضت عنهم وخلّت بينهم وبين أبيهم. . .
وجلست أنظر فيهم من الصغير إلى الكبير - وسنه ثلاث عشرة سنة - ثم أحادث أباهم الواجم الباسم الحمول. . . ثم أطير بخيالي فجأة إلى قبر الحمامة الولود. . . ثم أرجع إلى نفسي أختزن فيها قوتها من بيدر الحزن الرفيع الذي أمامي، لأن مادة نفسي في مجاعتها. . .
قال لي الفرخ الأصغر: أمي سافرت إلى بعيد، وسترجع، ومعها حلوى ولعب. . .
فقال الذي يليه: لا، أمي ماتت وبكيت عليها مع النسوان. قال هذا وهو يضحك، فطفرت الدموع إلى عين الأكبر وحَدَرت، فخرج من الحجرة ليخفي البكاء وخرج وراءه أبوه، ووقفت أخته على باب بيننا وبينها، وارتسمت علامات وجوم متدرجة على وجوه الأطفال بحسب أسنانهم وإدراكهم، وبقي الأصغر يضحك وأنا معه أضحك بدموع، وأرشف من الكأس المرة!
ماذا عسى الأب أن يقول لابنه الأكبر الباكي في مثل هذه الحالة ليصرف عنه البكاء؟ أيقول له إن أمك مسافرة وسترجع إليك بحلوى ولعب؟ لا يصدق. . . أيقول له: سلم لله لأن الموت آخر الحياة، وهو منجل يحصد العاهل والباهل. . . وما إلى ذلك من (أجرومية) التعازي؟ لا يفهم ذلك لأنه لم يبلغ مبلغ من تطفئه هذه الأفكار. . . إذاً فالأولى أن يتركه حتى يذهب عنه وجدان الحزن فتجف دموعه وحدها
وشعرت كأن روح الأم حضرت البيت في ذاكرة الأطفال إزاء هذه الأزمة النفسية فبكى قلبي، وتكلفت المبالغة في ملاعبة الأصغر حتى ألهيه عن أخيه وعن نفسي، وجلست برهة
ثم نهضت مثقلا. . .
لو أننا نخدع في إدراك المصائب كما خدع الأصغر، أو لو أننا ندركها باردة بسيطة كما أدركها الذي يليه، أو أننا ندركها إدراك ذلك الأب الصبور الحمول العارف بقوانين الحياة، لكان في هذا نجاة من وطأتها على نفوسنا. أما أن ندركها إدراك كبير هؤلاء الأطفال من غير علة ولا تَعِلَّة وعزاء، فذلك أشد الألم، لأنه ألم المصيبة وألم الحيرة في إدراك أسبابها وعلاجها. هذه كأس حنظل. . .
وأما الأخرى فقد تناولتها من يد الدنيا في عشية ذلك اليوم نفسه في عش يبنى لفتى وفتاة. . . والمدعوون جالسون كل منهم باش يرسل نكتة أو يضحك من نكتة، وفرح الحياة يترقرق في الوجوه ترقرق الشراب في كؤوس بلورية
وكان على شفتيّ بقية من كأس الحنظل التي شربتها في الصباح فوجدت طعمها فيما قدم إلي من شراب العرس. وهنا أدركت أن دنياي شاعرة حاذقة، وأنها ابتدأت تصاحبني بصدق. وشربت كأس التفاح وأنا أجمجم بكلمات خفية كما يجمجم المجوس على الطعام. . . وكانت هذه الكلمات قصائد وصلوات تلاها في حلقي ذاك المزيج الذي ذقت فيه خلاصة صنعة الدنيا الشاعرة. . والذي تحولت قطراته إلى كلماتها الآتية:
(اشرب! اشرب! ولا تخش السكر من هذه الكأس التي مزجتها لك بيدي! فإن ما فيها من أضداد تصطرع، كفيل بأن يترك عقلك دائماً في غاية الصحو. . . اشرب ولا يحاول لسانك أن يميز بين عنصري هذا المزيج فيُبَلبَل ولا يستطيع البيان. . . اشرب وإنظرني دائماً في قرارة الكأس متجسدة عارية لعينيك. . .
اشرب واحتفظ بمذاق هذا الشراب دائماً حتى تستطيع تقدير الطعوم الأخرى. . .
اشرب وأحذر أن تحدث من يحيطون بك في مجلس العرس بما تجد في كأسك فيقولوا عنك: (هذا سكران يهذي. . .)
(طالما شربتَ من كأس الحنظل وحدها حتى سكرتَ بالألم فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .
وطالما شربت من كأس التفاح وحدها حتى سكرت من اللذة فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .
وقد تعودتم أن تضيفوا لفظة (السكر) إلى اللذة وحدها. ألا وإن للألم سكراً لا يقل شناعة وطيشاً وهذياناً وسفهاً عن سكر اللذة!
انظروا إلى أبي العلاء المعري! إنه عندي لا يقل إثماً عن الأعمى الآخر بشار، ولا عن أبي نواس!
لقد غرق المعري في كأس الألم وغرق الآخران في كأس اللذة ففقدتهم جميعاً. . .
لقد أتى المعري بهذيان كثير جعله يخرج عن دائرة الحياة العاملة ويعيش جامداً على هامشي أنا الحركة الدائمة العنيفة المنتظمة، يرصدني من بعد في محبسيه بعينيه المغلقتين، ويلمسني في خشونة وجهه المجدور، ويذوقني في طعامه المحدود، ويستنشق أجوائي في محبسه الضيق الخانق، ويراني عدماً وفقداً لأنه أنهى حبل النسل الذي تناهى إليه آدم. . . فهذى في كثير ولم يميز بين كثير من حقائقي وأباطيلي وحلاوتي ومرارتي وأزهاري وأشواكي، وكان الحرمان المطلق جذوة شعره وباعث سكره. . .
ولقد أتى الآخران بالهذيان المعهود لكم من سكارى اللذة الآثمة، وما زالا كذلك حتى ارتعشت يداهما وعجزتا عن حمل الكأس الفاتنة
رفع أبو العلاء الكأس طافحة بماء الحنظل لا يرى لها لوناً ولا يشم رائحة وليس له نديم. وقد طال وقوف الكأس على يديه حتى ساغت في حلقه على مرارتها، وشعشعها بالظلام الدائم الساكن في عينيه. تمر به مواكب الحياة بجليلها وحقيرها وجميلها وقبيحها فيراها من سكره بآلامه، جنازة موتي وكومات أنقاض. . . برغوثها كشحاذها يستحق الإحسان والإطلاق، وفرّوجها كشبلها يستحق الإجلال والخشية، وحشراتها وبهائمها تستحق الحياة الدائمة كإنسانها. . .
أليس هذا هذياناً كهذيان أبي نؤاس حين يرفع كأسه طافحة بماء العنب مشعشعة بنطاف دجلة وسناء الضحى ونور البدر، يصطبح ويغتبق ويعبث بحرمات الحياة في شغل عن دنيا الآلام الرفيعة والأمجاد والوصاية على مقدرات الأمم حتى (تكشفت له عن عدو في ثياب صديق) كما قال هو!
بلى! إنهما وجهان للسكر في الحياة بإدمان الشراب ذي العنصر الواحد الذي يجعل المدمن ينظرني من جانب واحد)
كذلك كانت الدنيا تحدث نفسي في مجلس بناء عش جديد بعد مجلسها في العش المنهدم. ولم أشعر بأن نفسي بلغت من الفقه والحكمة إلى حد أن تأكل التفاح بشفتين عليهما مرارة الحنظل كما شعرت بها في ذلك المجلس!
ولقد صحوت بعد ذلك من السكر المطلق بالألم كما صحوت من السكر المطلق باللذة. وسآخذ بوصية دنياي الصديقة الشاعرة لأظل دائما ًيقظان صاحياً غير مخمور بنشوة ولا لوعة.
عبد المنعم خلاف
الطريقة العلمية
أو القواعد الأربع للبحث والتفكير
للفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت
بقلم السيد أحمد محمد عيتاني
(رينيه ديكارت أشهر من أن يعرف، فهو أبو الفلسفة الحديثة، وواضع أسسها، وباني كيانها، عاش في القرن السابع عشر، وألم بجميع فروع الفلسفة، وترك لنا مؤلفات عديدة فيها، كلها ذات قيمة فذة، لما احتوت عليه من الحقائق العلمية، والملاحظات الدقيقة، والنظريات والآراء التي أحدثت هزة عنيفة في عالم العلم والفلسفة، فغيرت مجرى بحوثهما، وحملتها على الاتجاه في اتجاه جديد كان نتيجة لها. من بين المؤلفات التي وضعها ديكارت، رسالة صغيرة، بسط لنا فيها موجز تاريخ حياته العلمية، وعرض الظروف والمناسبات التي ساعدته في الوصول إلى طريقته العلمية الخاصة، التي بنى عليها بحوثه العلمية والفلسفية، وقد أسمى هذه الرسالة (رسالة الطريقة أو القاعدة) ووضعها باللغة الفرنسية، فكانت أول مجهود فلسفي كتب بهذه اللغة، وكان في ذلك خروج على عادة الفلاسفة والعلماء الذين ألفوا أن يكتبوا أبحاثهم ويدرسوها باللغة اللاتينية، ولهذا كان أسلوب المؤلف في رسالته أسلوباً جامداً معقداً غامضاً في بعض المواضع، طويل الجمل، كثير اللف والدوران، يصعب فهمه لأول وهلة، ولكن هذا لم يضع من قيمة الرسالة، ولم يمنعها من أن تكون من أجل مؤلفات هذا الفيلسوف الكبير خطراً وأبعدها أثراً، لما اشتملت عليه من القواعد العلمية، والنظرات الصائبة. وفيما يلي فصل من فصولها، يصور لنا الظروف والمناسبات التي أحيط بها المؤلف قبيل وضعه قواعده الأربع التي صاغ فيها طريقته العلمية، واتبعها في قيادة عقله للبحث عن الحقيقة والعلم الصحيح)
(أحمد عيتاني)
كنت يومذاك في ألمانيا. وقد دعتني إليها مناسبة الحرب التي لم تكن قد انتهت فيما بعد، واتفق أني بينما كنت عائداً من حفلة تتويج الإمبراطور لألحق بالجيش، أدركني الشتاء، وأوقعني في إحدى الثكنات العسكرية، وهناك لم أجد ما ألهو به، ولم يكن لدي من حسن
حظي ما يشغل بالي من الشئون والأعمال، فكنت أقضي سحابة نهاري، منزوياً في غرفتي، حيث وجدت المجال الكافي من الزمن لأستعرض أفكاري وأخلو بها
اختلال الأعمال المكونة من جهود كثيرة متباينة
كان في طليعة تلك الأفكار ما لاحظته من أن الأعمال المكونة من أجزاء وأقسام كثيرة، إذا اشتغلت فيها عدة أيام، أصبحت وليس فيها من الروعة والإبداع ما في أشباهها من الأعمال الأخرى التي لم تمتد إليها سوى يد واحدة:
فالبناء الذي أشرف عليه وأنجزه مهندس واحد أكثر جمالاً ونظاماً من سواء من الأبنية التي عمل فيها الكثيرون، والتي رسمت مراراً، وبني على أسسها الهرمة أبنية لم تكن معدة لها.
وكذلك المدن القديمة التي أصبحت من الزمن مدنا كبيرة، بعد أن كانت قرى وضياعاً، فهي عادة فوضى في بنائها، إذا قيست بتلك المدن الحديثة التي وضع تصميمها مهندس واحد قبل المباشرة في بنائها. ونحن لو نظرنا إلى أبنية تلك المدن القديمة لوجدنا أن فيها ما لو أخذناه على حدة لما كان يقل فناً وروعة عن أبنية المدن الحديثة، ولكن نظرة واحدة تظهر لنا ما هي عليه من النظام والوضع: فهنا بناية كبيرة، وإلى جانبها أخرى صغيرة، وكلها تتحكم بالشوارع والطرق، فتردها متعرجة: عريضة هنا، ضيقة هناك.
وكذلك الشعوب المتوحشة سابقاً، تلك الشعوب التي لم تتحضر إلا شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن؛ وبقدر ما كانت تدفعها إلى ذلك مغايرة الخصومة والنزاع للحياة فقد رأيت أن ليس بإمكانها أن تضاهي بنظامها تلك الأمم الأخرى التي عرفت الحضارة منذ أقدم العصور، فاجتمعت كلمتها وأجمعت على اتباع دستور واحد يضعه لها مشرع حكيم.
وكان في حكم الثابت لدي أن حكومة الدين الحق، هي مطلقاً وبدون منازع، خير الحكومات نظاماً، لأنها من صنع الله تعالى وحده. ولما لا نقصر كلامنا على الأمور البشرية؟ فأنا أعتقد أن مدينة إسبرطة إذا كانت قد ازدهرت قديماً فليس ازدهارها عائداً إلى أن كل قانون من قوانينها كان صالحاً في ذاته، فلقد كان في قوانينها شيء كثير مما هو غريب وغاير للحق القديم، وإنما ازدهارها عائد إلى أنها اتبعت تشريعاً واحداً، وضعه شخص واحد، كان يرمي في جملته إلى غاية واحدة.
ورأيت أيضاً أن ما تشتمل عليه الكتب والمؤلفات من علوم ونظريات، إنما تكوّن من آراء
كثير من الأشخاص المختلفين، شيئاً فشيئاً. لذلك لم يكن - أو على الأقل تلك العلوم التي لا تملك سوى أسباب تقريبية والتي لا يقوم عليها دليل ولا برهان - أقرب إلى الحقيقة، من ذلك التفكير البسيط الذي يقوم به شخص عادي ذو عقل سليم في بعض ما يعرض له من الأشياء.
هذا وقد بدا لي أيضاً أننا وقد كنا جميعاً أطفالاً، قبل أن نكون رجالاً، وأننا مكثنا زمناً طويلاً تحت سلطان أساتذتنا وسيطرة ميولنا، وهما ضدان، كلاهما لا يمحضنا النصح ولا يهدينا سواء السبيل، فمن المستحيل تقريباً أن نكوِّن لأنفسنا أحكاماً نزيهة ثابتة، كما كان شأننا لو وسعنا استعمال تفكيرنا منذ ميلادنا دون أن نركن لقيادة سواه
صعوبة الإصلاح العام
نعم، إننا لم نر أبداً من يدمر منازل مدينة ما لمجرد الرغبة في تجديدها وتجميل طرقها وشوارعها، ولكننا نرى كثيراً من الناس يهدمون بيوتهم بأيديهم ليعيدوا بناءها ثانية، وربما وجدوا أنفسهم أحياناً مرغمين على القيام بهذا العمل، حين يشعرون أنهم في خطر، وأن بيوتهم هذه ذات أسس واهية فهي تكاد تنقض على رؤوسهم. وعلى هذا فأنا موقن بأن ليس هناك إنسان واحد يحاول إصلاح دولة ما بقلبها رأساً على عقب، أو بتدميرها وبنائها ثانية؛ كما أني موقن أن ليس هناك شخص واحد يحاول إصلاح الهيكل العلمي أو نظام تدريسه السائد في المعاهد كلها
إمكان الإصلاح الخاص
أما آرائي وأفكاري التي تسربت إلى نفسي فلا أرى أفضل من نزعها عني تماماً لأعيد غيرها، أو أعيدها نفسها ثانية، أو أعيد قسماً منها بعد أن أحكم عقلي فيها، وبهذه الوسيلة أستطيع أن أنجح في حياتي نجاحاً أعظم مما لو بنيت على أسس خاطئة، أو استندت إلى مبادئ تلقنتها أثناء صباي، واعتقدت بها دون أن أمحص حقيقتها. ولقد شعرت أن عملي هذا لا يخلو من صعوبات جمة، إلا أنها صعوبات يمكن تذليلها، وهي لا تماثل تلك الصعوبات التي يجدها المرء في إصلاح أيسر الأمور التي تمس المجتمع: فالأجسام الضخمة هذه، إذا هدمت فهي صعبة البناء، وإذا هزت فهي صعبة الإمساك، وإن سقوطها
لابد أن يكون قاسياً
أثر العادة في الشئون العامة
هذا، ولو كانت هناك مساوئ في بعض شؤون المجتمع، وهي مساوئ لابد من وجودها، ينم عليها ما بين شؤون المجتمع وأموره من تباين وتناقض، فالعادة ولاشك قد لطفت كثيراً من حدتها، وأصلحت الشيء الكثير منها، وجعلتنا نتحاشى منها ما لم يكن في الإمكان تحاشيه بمهارتنا. أضف إلى ذلك أن احتمال هذه الأمور - على ما فيها من مساوئ - أيسر من تغييرها. وما مثل ذلك إلا مثل الطرق التي تسير بين منعطفات الجبال، فهي تصبح مع الزمن طرقاً منبسطة ملائمة للسير من كثرة ارتيادها، ويكون أيسر على المرء أن يسلكها من أن يحاول السير في خط مستقيم، متسلقاً النجاد وهابطاً الوهاد
غاية ديكارت في رسالته
لذلك لا أستطيع مطلقاً أن أفهم تلك الطائفة من الناس ذات الأمزجة الثائرة، والعقول الحائرة؛ تلك الطائفة التي لا تنفك تفكر في أن تدخل على شئون المجتمع شيئاً من التقويم والتعديل، وذلك رغماً عن أن ليس لها من المكانة والجاه ما يؤهلها لذلك. ولو أني رأيت في رسالتي هذه ما يبعث على اتهامي بهذا الضرب من الجنون لكنت جد أسف، ولأحجمت عن نشرها، لأن غايتي منها لم تتعد مطلقاً ما أريده من إصلاح آرائي الشخصية، لأبني فيما بعد على أسس هي ملك لي كلها. وإذا أخرجت إلى الناس هذا النموذج من عملي، وقد راقني بعض الشيء، فليس معنى ذلك أني أدعوهم للضرب على وتيرتي، لا! فأنا أخشى اجتراء الكثيرين على ذلك، فأن إرادة النفس على التجرد من جميع ما اكتسبه قديماً من الآراء، لا يجب أن يكون مثالاً يحتذيه كل إنسان. ذلك لأن العالم يشتمل على نوعين من العقول البشرية، وكلاهما لا يصلح له هذا العمل أو هذا المثال
فالنوع الأول هو تلك العقول التي تقدر ذاتها أكثر مما هي حقيقة، فلا تتمالك من أن تتسرع في أحكامها، ولا تجد من الصبر ما يكفي لأن تقود تفكيرها بانتظام. ومن هنا ينتج أنها إذا منحت نفسها حرية الشك فيما تلقنته من المبادئ، وحادت عن الجادة العامة، ولو مرة واحدة، لم تعد تستطيع أبداً الاهتداء إلى الطريق التي يجب أخذها للسير في طريق قويم،
فتبقى تائهة طيلة حياتها
والنوع الآخر هو تلك العقول التي لها من التواضع وبعد النظر ما يحملها على أن ترى ذاتها أقل قدرة على تمييز الخطأ والصواب من بعض عقول أخرى، فهي ترى إمكان التتلمذ على هذه العقول، وهي ترى واجباً اتباع آرائها دون أن تكلف نفسها عناية البحث عما هو خير منها
أما أنا فلقد كنت ولاشك في عداد تلك الطائفة الأخيرة، لو لم أتتلمذ على أكثر من أستاذ واحد، ولو لم أطلع على ما بين آراء الفلاسفة من تباين وتناقض، في كل عصر وزمن، فلقد لمست منذ أيام الدراسة أن ليس هناك ما يمكن أن يتصوره العقل مما يدعو إلى الدهشة ويجل عن التصديق إلا ويكون قد أثر عن الفلاسفة وعزى إليهم
العرف والمعرفة الصحيحة
ولمست وأنا أتجول وأتنقل أن جميع أولئك الذين تتضارب أخلاقهم وعاداتهم مع أخلاقنا وعاداتنا ليسوا برابرة ولا همجاً لمجرد هذا التضارب، بل أن فيهم كثيرين ممن يعقلون مثلما نعقل أو أكثر مما نعقل. ولاحظت كم يكون الشخص الواحد ذو العقل الواحد إذا نشأ في وسط إنكليزي أو فرنسي مختلفاً عن نفسه، فيما لو نشأ في وسط صيني أو هندي. بل وجدت أن الزي الواحد من أزيائنا الذي كان يروقنا منذ عشر سنين، والذي ربما راقنا بعد عشر سنين أيضاً، قد يبدو لنا الآن غريباً مزرياً. وهكذا يتدخل العرف وتتدخل العادة لا قناعنا أيضاً أن ليس هناك معرفة أكيدة صحيحة
القواعد الأربع
إذاً فلم يكن في مقدوري اختيار شخص يبدو لي في آرائه ما يدعوني إلى إيثارها على آراء سواه، وبذا ألفيتني مرغماً على أن أقود نفسي بنفسي، ولكني عزمت على أن أسير متمهلاً كمن يسير وحده في الظلام، وأن أتفطن إلى كل شيء بحيث لو لم أتقدم إلا ببطء احترست على الأقل من الزلل. وقد أبيت المباشرة بنزع أية فكرة من الأفكار التي تسربت إلى نفسي عن غير طريق العقل قبل أن قضيت زمناً طويلاً في تهيئة خطة العمل الذي حملت نفسي عليه، والبحث عن الطريقة القويمة التي توصلني إلى كل ما يستطيعه عقلي
كنت درست في صباي بين فروع الفلسفة شيئاً من المنطق، ودرست بين الرياضيات الجبر والتحليل الهندسي، وهي ثلاثة علوم أو فنون كان ضرورياً أن أجد فيها شيئاً مما شرعت في البحث عنه، ولكني عند فحصها وجدت أن قضايا المنطق ومعظم تعاليمه تستعمل لبيان ما يعرفه الناس لا لتعليمهم ما يجهلون، أو هي كفن لول تستعمل للتحدث دون ما تفكير فيما نجهله من الأشياء، وأنها وإن اشتملت على كثير من القواعد الصحيحة القيمة، فهي جامعة أيضاً لكثير من القواعد الزائدة أو الضارة، وهذه يصعب فصلها عن تلك كما يصعب إخراج تمثال للآلهة ديانا أو الآلهة مينرفا من قطعة من المرمر لم تقطع بعد. أما التحليل الهندسي القديم والجبر المحدث فهما لا يتناولان سوى معنويات ليس لها أية فائدة واضحة. فالتحليل الهندسي يقتصر على النظر إلى الأشكال الهندسية، ولا يجلوها إلا إجهاد الخيال إجهاداً عظيما. والجبر مستمسك بقواعد وأرقام جعلته فناً غامضاً مهوشاً يشوش العقل بدلا من أن يغذيه
كل هذا حدا بي إلى التفكير في وجوب البحث عن قاعدة تضم محاسن قواعد هذه الفنون الثلاثة وتكون بمنجى عن شوائبها؛ إلا أني رأيت أن كثرة القواعد والقوانين وتعدادها يسببان عادة مساوئها، بحيث أن الدولة ذات العدد القليل من النظم والقوانين تكون أكثر نظاماً وقوانينها أدق رعاية، ولهذا رأيت أن أكتفي بالقواعد الأربع الآتية على أن أوطد النية والعزم على ألا أخرج عنها في حياتي أبداً
1 -
طريقة الوضوح
فالقاعدة الأولى هي: ألا أنظر إلى أي شيء بعين الحقيقة إلا بعد أن أدرك أنه كذلك. ومعنى هذا أني أتلافى التسرع والتنبؤ، ولا أتبنى من الآراء إلا ما تجلى لعقلي بوضوح وسرعة يحولان دون الشك فيه
2 -
طريقة التحليل
والقاعدة الثانية هي: تجزئة كل مشكلة من المشاكل التي أقوم بدراستها إلى أكبر عدد من الأجزاء يمكن ويجب أن تنقسم إليه، وذلك للتمكن من حلها على أصلح وجه
3 -
طريقة التدرج
والقاعدة الثالثة هي: تسيير تفكيري بانتظام، فأبدأ بأبسط الأمور، وأسهلها فهماً وأصعد تدريجياً لمعرفة أكثرها تعقيداً مع افتراض وجود النظام أيضاً بين الأمور التي لا يتعلق بعضها ببعض
4 -
طريقة الإعادة والاستقصاء
أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي: القيام بإحصاءات تامة، في كل لحظة، والقيام باعادات عامة، لأتأكد من أني لم أهمل شيئاً
أحمد محمد عيتاني
عضو بعثة جمعية المقاصد في معهد التربية
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 37 -
مقالاته للرسالة (8)
هلّ هلال المحرم، وتهيأت الرسالة لإصدار (العدد الممتاز) في ذكرى الهجرة، فكتبتْ إلى الرافعي فيمن كتبت من أسرة الرسالة، تطلب إليه أن يهيئ موضوعاً مناسباً لذكرى الهجرة، وضربت له أجلا. واستبق الرافعي الميعاد فأعدّ قصة (اليمامتان) وبعث بها إلى الرسالة قبل موعد العدد الممتاز بأكثر من أسبوع. وحسبت الرسالة أنه بعث إليها بمقاله الأسبوعي المعتاد، وأنه ما يزال يعدّ موضوعه للعدد الممتاز، فنشرت قصة اليمامتين قبل موعدها، وكتبت إليه تستنجزه المقال الثاني. وكان الرافعي متعب الأعصاب، يشكو وجعاً في أضراسه يثقل رأسه، وقد غاظه أن الرسالة فوَّتت عليه الفرصة فسبقت إلى نشر القصة التي أعدها للعدد الممتاز قبل موعدها وتركته في حيرته، ولم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فذهب إلى أوراقه القديمة يفتش بينها عن موضوع خليق بالنشر في هذه المناسبة، فوقع على مقالة (حقيقة المسلم)، وكان كتبها قبل ذلك بسنتين إجابة لدعوة جمعية الكشاف المسلم لشام، ونشرها بالأهرام في ذكرى المولد النبوي لسنة 1352هـ فبعث بها إلى الرسالة لتنشر في العدد الممتاز لسنة 1354هـ
يتحدث الرافعي في قصة اليمامتين عن الفتح الإسلامي، وأخلاق العرب، وتعريب مصر الفرعونية الرومانية، وفتنة القبط بسجايا العرب ومزايا الإسلام؛ وفيها إلى ذلك حديث عجيب عن الحب والمرأة في قصة خيالية افتعلها الرافعي ليبلغ بها ما في نفسه من معاني الحب؛ ثم جعل في خاتمتها (نشيد اليمامة) اليمامة التي تقول الرواية العربية إنها تحرَّمت في جوار عمرو ابن العاص فمنعته أن يقوض فسطاطه!
كان لهذه القصة عند الرافعي وعند قراء الرسالة عامة موقع لم تبلغه قصة سعيد بن
المسيب. وقد افتتن بها كثير من القراء، حتى كان منها أن اهتدى إلى الإسلام أستاذ مسيحي من أساتذة التاريخ في بلاد الجزائر، فكتب إلى الرافعي رسالة يعلن فيها إليه إسلامه، ويسأله الوسيلة إلى دراسة هذا الدين والتفقه فيه. ولم أعثر بعد على هذه الرسالة بين ما خلّف الرافعي من رسائل أصدقائه إليه
ومن اعتداد الرافعي بهذه القصة وبما بلغ فيها من التوفيق، جعلها فاتحة كتابه (وحي القلم)
ولم يكفه أسبوع للاستجمام والخلاص مما يعاني من وجع الضرس وتعب الأعصاب، فاستراح أسبوعاً آخر وبعث إلى الرسالة بالجزء الثالث من (كلمة وكليمة)
ثم وقعت حادثة اهتزت لها نفس الرافعي اهتزازاً عنيفاً ونقلته من حال إلى حال. . .
جلست يوماً نتحدث من أحاديثنا، فقال:(. . . إن صديقنا الأستاذ م. لم يكتب لنا من زمان. . ليت شعري ما منعه عنا. إن بي قلقاً عليه وفي نفسي أن أراه أو أعرف من خبره!)
وفي صبيحة اليوم التالي طالعتنا الأهرام بخبر غامض: (. . أن شاباً من الأدباء، هو ابن شيخ من شيوخ الأزهر، قد حاول الانتحار بقطع شريان في يده!)
وقرأ الرافعي الخبر فاربدّ وجهه وانفعلت نفسه، وقال:(اقرأ، إنه هو. . .!)
قلت: (من تعني؟)
قال: (صديقنا الأستاذ. م، لقد غلبه شيطانه على دينه آخرة أمره. غفر الله له!)
فجزعتُ وطارت نفسي، وقلت وأكاد أغصّ بريقي:(م؟ إنك لتتوهم، وإنك مما تفكر في شأنه ليُخَيل إليك. إن لصديقنا لديناً، وإن فيه لتحرجاً وخشية؛ وما أراه في أي أحواله يقدم على هذه الجريمة!)
ولكن الرافعي لم يلتفت إلى ما أقول، وأخذ يحوقل ويسترجع ويستعيذ بالله من غلبة الهوى وفتنة الشيطان. ثم مد يده إلى مكتبه فكتب رسالة إلى م يسأل عن حاله وخبره ويرجو له العافية في دينه ودنياه؛ ثم يطلب إليه أن يصف له ما كان منه وما حمله عليه وما آل إليه أمره؛ ولم ينس مع كل أولئك ومع ما تفيض به نفسه من الحزن والألم أن يرجوه (الدقة في وصف المرحلة التي كان فيها بين الحياة الموت؛ فأنها المرحلة التي لا يحسن أن يصفها إلا من أحسّ بها. . .)
وصديقنا الأستاذ. م. أديب واسع المعرفة، له دين ومروءة، وفيه تحرج وخشية؛ وقد نشأ
في بيت له ماض في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذَّود عن حرماته؛ وهو شاب عزب، بعيد الخيال، دقيق الحس، مرهف الأعصاب؛ وعلى أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فأنه من سعة خياله ودقة حسه وحدة أعصابه متشائم النظرة، لا تراه إلا رأيت في وجهه وعلى طرف لسانه معنى دفينا من معاني الألم؛ وما يرى نفسه في أكثر أحواله إلا غريبا في هذا العالم وبين هذا الناس؛ فان له من خياله دنيا غَير دنيا الناس، وعالماً غير هذا العالم، يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض. وكان بينه وبين الرافعي ودٌ وله في نفسه مكان؛ فكان له سره ونجواه منذ كان فتى يافعاً لم يبلغ العشرين. وكان الرافعي يعتد بصداقته ويقرّ إليه ويعجب بدينه وتقواه ويتوقع له مستقبلا مجيدا بين المجاهدين من أهل الأدب ودعاة الإسلام.
فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه في الانتحار جزع وتطير وضاقت نفسه، وناله من الهم ما لم ينله لحادثة مما لقي من دنياه. فمن أجل هذه الحادثة أنشأ الرافعي مقالات (الانتحار)
ولم يكن الرافعي يعلم من أحوال صاحبنا ما دفعه إلى هذه المحاولة الطائشة؛ فأخذ يتكهن وينتحل الأسباب ليبني عليها الحديث والقصة؛ فما جاء جواب الأستاذ (م) إلا بعد المقالة الثالثة، فأخذ من هذا الجواب مادة الجزء الرابع من هذه المقالات، وجعل الحديث في هذا الجزء على لسان (أبي محمد البصري) وهو يعني الأستاذ (م)، فهو هو وكلامه كلامه في جملته ومعناه، لم يغير منه الرافعي إلا قليلاً من قليل. فما يدل على حالة صاحبنا إلا المقالة الرابعة من هذه المقالات الست. أما ما عداها مما سبق أو لحق، فهي قصص مفتعلة من وحي هذه الحادثة في نفس الرافعي
ومقالات الرافعي في (الانتحار) هي باب من الأدب لم ينسج على منواله في العربية من قبل، فيها فنه القصصي، وفيها روح المؤمن الذي لم تفتنه دنياه عن ربه، وفيها إلى ذلك شعر وفلسفة وحكمة، وقلب رجل يعيش في حقيقة الحياة
وكان بين الرافعي والأستاذ حسن مظهر محرر اللطائف المصورة مودة. فلما تولى تحرير اللطائف كتب إلى الرافعي يرجوه أن يكتب فصلاً لقراء اللطائف عن (سحر المرأة)؛ فكتب فصلاً بديعاً يصف فيه نفسه وصاحبته (فلانة) في أول لقاء بينهما
فلما فرغ من مقالات (الانتحار) تناول هذا الفصل فزاد فيه ما زاد وبعث به إلى رسالة
بعنوان (ورقة ورد) لأنه سار فيه على نهج كتابه المعروف (أوراق الورد) فهذا الفصل عنده هو من تمام هذا الكتاب
وكان من زملاء الرافعي في محكمة طنطا الأديب فؤاد. . . وهو شاب له ولوع بالأدب؛ وعلى أنه زوج وأب، فانه كان بأناقته ولباقته مرعى أنظار كثير من الفتيات، وكان له في الغرام جولات. . .
ثم فاء إلى نفسه بعد حين، فانصرف عن اللهو والغزل إلى شئون أسرته وولده؛ وراح ينشر بعض مغامراته الغرامية في إحدى الصحف الصغيرة التي تصدر في طنطا. . .
وقرأ الرافعي بعض ما ينشر صاحبنا، فرأى (علماً جديداً) لم يدخل إليه من باب ولم يقرأه في كتاب؛ فأرسل يستدعي صاحب هذه المقالات إليه ليفيد علماً من علمه ومن تجاربه. . .!
وجلس صاحبنا يتحدث إلى الرافعي ويقص عليه، والرافعي صاغ إليه ملذوذ بما يسمع؛ فما انتهى صاحبنا من حديثه حتى كان على موعد مع الرافعي أن يحضر له طائفة من مذكراته ورسائل صواحبه، لعله يجد فيها موضوعاً يكتبه لقراء الرسالة
فمن هذه المذكرات ومن هذه الرسائل استملى الرافعي مقالات (الطائشة) و (دموع من رسائل الطائشة) و (فلسفة الطائشة). . .
فهذه القصة حقيقية لا افتعال فيها، وليس فيها شيء من صنع الخيال؛ وما حكى الرافعي من الرسائل الطائشة هو من رسائلها نفسها كما نقلها إليه صاحبها؛ وفلسفتها هي فلسفتها كما فهمها الرافعي من رسائلها ومما كان من أمرها مع صاحبها
لقد نال الرافعي من ملامة الفتيات ما ناله بسبب هذه المقالات، وقرأها أكثر من قرأها منهن على أنها قصة من الخيال اخترعها الرافعي ليحتج بها فيما يحتجْ لمذهبه في الحب والمرأة وتجديد الأخلاق، والحقيقة فيها هي ما قدَّمت؛ وقد زاد الرافعي إيماناً بمذهبه بعد هذا الذي سمع من صاحبه وقرأ من مذكراته ومن رسائله!
ولم يكتب الرافعي قصة (الطائشة) على أنها قصة؛ إذ كان صاحبها قد كتب قصتها على طريقة من فنه، فآثر الرافعي أن يتناولها من أطرافها ليحكم بها حكمه ويتحدث عن رأيه في طائفة من فتيات العصر؛ فترك صلب القصة ليكون حديثه عن التعليق والحاشية
وقد قرأت القصة مع الرافعي كما أنشأها كاتبها؛ فكان الرافعي يقف عند كثير من عباراتها موقفاً بين الإعجاب والدهشة؛ إذ كان مؤلفها يكتب ما في نفسه كما هو في نفسه، فكان فيها وحي عاطفته ونبض قلبه ويقظة روحه، فجاء بأدق ما في الفن وأبلغ ما في التعبير غير قاصد إلى شيء من ذلك، وما كان يبلغ شيئاً من ذلك لو أنه قصد إليه؛ إذ لم يكن هو بين أهل البيان في هذه المنزلة، ولكنه كان من أهل الحب؛ وكان هذا هو دليل (الصدق) عند الرافعي فيما كتب صاحبه وما نقل إليه من قصة صاحبته. . .
ولما كتب المقالة الثالثة (دموع من رسائل الطائشة) خلا إلى نفسه أسبوعاً ليستجم، وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من:(كلمة وكليمة) وفيها حديث عن العقاد
وفي هذا الأسبوع كان الرافعي يجمع خواطره حول ما سمع من قصة الطائشة، فأنشأ مقاله الرابع بعنوان (فلسفة الطائشة)
ثم أملي علىَّ مقالة (كفر الذبابة) يعني بها الحكومة التركية لبعض ما ذهبت إليه في شئون الإسلام والعربية. وهي آخر ما أنشأ من الفصول على أسلوب كليلة ودمنة
وكانت مقالة (كفر الذبابة) هي آخر ما أُملي على من المقالات؛ وذلك في صيف سنة 1935. ثم تهيأ للسفر إلى مصيفه في (سيدي بشر)، وتهيأت للسفر إلى القاهرة فكانت فيها إقامتي، فلم أكن ألقاه أو يلقاني إلا ساعات كل أسبوع: فأسبوعاً أزوره في طنطا، وأسبوعاً يزورني في القاهرة. على أن الرسائل فيما بين ذلك لم تنقطع بيننا حتى يناير سنة 1937، قبل موته ببضعة أشهر. ثم تجافينا لشأن ما، فما التقينا إلا مرة واحدة قبل موته بشهرين، فكان لنا مجلس في قهوة (بول نور) بالقاهرة مع الأصدقاء: شاكر، وزكي مبارك، وكامل حبيب، وزيادة؛ ثم افترقنا بعد منتصف الليل وفي نفسي منه شيء وفي نفسه مني. . .
وفي صبيحة الغد بدأت المعركة الأخيرة بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول (وحي القلم)
. . . ومضى شهران بعد تلك الليلة لا ألقاه ولا يلقاني؛ وهو يشكوني إلى صحابتي وأشكوه؛ حتى جاءني نعيه. . . غفر الله لي!
لكأنما كانت هذه القطيعة بيننا وقد دنا أجله، لتخفف عني وقع المصاب من بعد؛ أو لتحملني - غير محمول من أحد غير واجبي - على كفارة الذنب الذي أذنبت بهذه القطيعة؛ فأبذل ما في الطاقة من الجهد الجاهد لكتابة هذا التاريخ فأقوم له بعد موته بالحق الذي عجزت
عن وفائه في حياته. يرحمه الله!
. . . لم يمْلِ عليَّ الرافعي شيئاً بعد مقالة كفر الذبابة؛ ولكنه طلب إلي أن انسخ له صورة من مقال كان نشره في المقتطف قبل ذلك بسنوات عنوانه (سر النبوغ في الأدب)
فلما سافر إلى مصيفه بعث إلى الرسالة بمقالة (كلمات عن حافظ) لمناسبة ذكراه؛ ثم أصابته قُرحة في كفه منعته من العمل، فأخذ مقالة (سر النبوغ في الأدب) فجعل عنوانها (الأدب والأديب) ثم جعلها مقالة الأسبوع التالي. وهي مقالة من مقالات الرافعي الفريدة، تهم الباحث الذي يريد أن يدرس الرافعي صاحب (تاريخ آداب العرب)
ثم توالت مقالات الرافعي يمليها على نفسه ويكتبها بخطه؛ على أني بما كنت ألقاه وبما كان بيني وبينه من الرسائل إلى ما قبل موته بأشهر، لم يفتني أن أعرف دوافعه إلى كثير مما كتب بعد ذلك من المقالات لقراء الرسالة؛ فسأحرص - تماماً لهذا البحث - على أن أذكر ما أعرف من دوافع بعض المقالات التي أنشأها وحدها من بعد غير معتبر ترتيبها في النشر، إذ لا عماد لي فيما أكتب عنها إلا عنها إلا الذاكرة.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان
التشريع المصري والتشريع الإسلامي
للأستاذ عباس طه
سجل العلامة الكبير المستشار عبد السلام ذهني بك في بعض المجلات العلمية بحثاً مستفيضاً ضافي الذيول والمرامي يتلخص في ضرورة تجميع الفقه الإسلامي في مختلف ما تكشفت عنه قرائح الأئمة المجتهدين ونحا نحوه الفقهاء من الأحرار الباحثين، ثم مقارنة مستفيضة بين الفقه الروماني وأثره في بضعة قرون ووفائه بحاجة المعاصرين يومئذ ونهوضه إلى مستوى سد حاجة الناس في باب المعاملات والأحوال الشخصية، ثم كيف استطاع أن يكون أثره في الخلود طويلاً ووفاؤه بحاجة الناس عاما، ثم بضرورة وضع موسوعة تتسع لآراء الباحثين من الأئمة المشترعين كما فعل في عهد جستنيان الخ
ونحن العلماءَ في الفقه الإسلامي نحمد لعزته تلك الألمعية وغيرته الفياضة على تراث المسلمين أن يذهب بدداً وأن تتحكم في أساليبه ومراميه وصياغته فئة من غير الناطقين بالضاد حتى أحالته ترثاً مهلهلاً لا يشفي علة ولا ينفع غلة. وبقى ذلك الداء العياء يتغلغل في أزهى عصور التاريخ وأغنى عهوده بالعلماء، فما انفرجت شفتان عن ضرورة تجميع هذا التراث الموروث عن أئمة الدين الذين أخرجوا إلى الإنسانية خير ما يقتدي به الناس في أمر معاشهم ومعادهم، وما يحكم حركة التعاون بين أفراد النوع الإنساني ويقيمها على أسس من الخير صالحة لا يتطرق إليها وهن ولا فساد
لكني أسائل أولئك الذين يكتبون حول هذه الموضوعات: ماذا يريدون بهذا التجميع؟ أيريدون بذلك أن تجمع أقوال الفقهاء المشترعين والأئمة المجتهدين في سفر واحد تراثاً مزيجاً من الآراء الفقهية بين رجل اجتهد وكد لينشئ له مذهباً ثم عاد فرجع عنه أو بقي ولكنه على وهن، وذلك شائع في مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة، ففي هذين المذهبين أئمة اشتغل علماء الفقه الإسلامي بالتعقيب على آرائهم الفقهية فباتت غير صالحة لاستهداء الناس بها والسير على مناهجها - وبين آخر صح اجتهاده، وقام على منارة الحق سداده، ولكنه ابتلى بفريق من المعتنقين لمذهبه اشتغلوا بتجريح غيره من المذاهب والإشادة بمذهبه دون سواه، فبقى طلاب الحقيقة في قطع من الليل البهيم يتلمسون لهم ما يكشف الحقيقة في صميمها ويرد الواقع إلى نصابه؟ أم يريدون أن يجمع الصحيح من أقوال الأئمة المجتهدين
في موسوعة واحدة يعم نفعها وتنتشر فائدتها؟ وإذا فما قيمة هذا التجميع في نظر الواقع والتاريخ والعلم؟
لقد بذل المرحوم محمد قدري باشا مجهودا لا بأس به في تجميع شطر غير قليل من مذهب أبي حنيفة مما لم يقم به العلماء المتخصصون منذ عهد الناس بمنشأ الفقه الإسلامي فاستنبط مجهوده من كتب صيغت بأساليب رث حبلها ونقضت أشلاؤها ودق على الباحثين وجه الصواب فيها، وكان العمل يومئذ بمذهب أبي حنيفة دون سواه مما جعل قدري باشا يضع في باب الأحوال الشخصية والوقف بنوعية كتابيه على صورة مواد حتى يكون قانوناً يسهل الرجوع إليه والاستشهاد به
لكن ما أسرع أن تمخضت حيل الناس في تطبيق مواد الطلاق ومواد النفقة وافتنانهم في الهرب من تطبيق الأحكام الشرعية على مذهب أبي حنيفة عن عجز القضاة الشرعيين وعدم قدرتهم على تطبيق تلك الأحكام تلقاء ما يبديه المطلق من أفانين وحيل للفرار من طائلة العقاب، وما يبديه المحكوم عليه بالنفقة وما يبدو من حيل المحامين الشرعيين في ذلك الميدان المنبسط الذي لا يحده تقنين ولا يردع عن العبث به رادع، فجأر القضاة الشرعيون بالشكوى من فشل هذه التجربة، والأستاذ المراغي يومئذ منهم في الطليعة يشاطره قوم ذوو دراية وكفاية؛ وقد شعروا بضرورة البحث في غير مذهب أبي حنيفة من المذاهب عما يسد حاجة المتقاضين ويفسح المجال للقضاة باعتبارهم المطبقين لأحكام الشريعة والمهيمنين على تنفيذها في مواد الأحوال الشخصية نائبين في ذلك كله عن ولي الأمر في البلاد، وما يقطع الطريق على حيل المحتالين، وما يفتح عيون الباحثين على ثروة غزيرة من العلم كانت ولا تزال منهلا ينهل منه المتقاضون وغير المتقاضين، وما يقوم دليلاً في كل يوم على أن الفقه الإسلامي كفيل بمسايرة كل عصر وجيل وخليق بأن يحمل أمانة البشر في مختلف مرافقه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ فوضع قانون رقم 25 لسنة 1920 خاصاً بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية مؤلفاً من ثلاث عشر مادة، وهو يتناول معالجة الأحوال التالية.
(1)
النفقة (2) العجز عنها وما يترتب على ذلك العجز من الآثار (3) حكم المفقود وما يترتب عليه قبل الخصوم من حقوق (4) حكم القاضي بالتفريق للعيب وما يترتب على
ذلك العيب من آثار مباشرة وغير مباشرة (5) الترخيص للزوجة بطلب التفريق من القاضي حال قيام العيب في زوجها وحاجة المجتمع إليه (6) أحكام عامة متفرقة. ثم درجت المحاكم على تطبيق ذلك القانون بأمانة وتوفيق، ودرج المفتشون القضائيون في وزارة الحقانية على تتبع تطبيق هذا القانون وتبين المدى الذي وصل إليه من إصابة حاجات الجمهور وسد كفايتهم وإقناعهم بأن في ثنايا الفقه الإسلامي ما يكفل بعث الطمأنينة إلى قلوبهم وإيصال الحقوق إلى ذويها، فلم تمض فترة من الوقت غير طويلة حتى استفاضت تقارير المفتشين القضائيين بأعطر الثناء على ذلك الأثر الطيب الذي تركه قانون سنة 1920 في نفوس المتقاضين.
وهكذا تحررت عقول طلاب الإصلاح من ربقة التقيد بكل قديم واقتنعوا بأن تطور الحياة وتشعب مسالكها وما يجد فيها من أحداث وعبر من أقوى الحوافز على تلمس أفضل المناهج في باب التقاضي، وكفالة مصالح الناس وردها إلى أمثل طريق وأبلج محجة. من أجل ذلك اطرد البحث عما يساير مصالح الناس ويماشي رغائبهم، وما يدفع عن المجتمع علله وأمراضه، فشعر المصلحون مرة أخرى بضرورة حماية الأسر من تلك الأمراض الفواتك التي لم يدفعها كثير من أحكام أبي حنيفة المتعلقة بالطلاق وبالتفريق للغيبة وبدعوى النسب وسن الحضانة وما إلى ذلك، فوضع مرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خاص ببعض الأحوال الشخصية يتألف من 25 مادة، وهو يقع في تسعة أبواب: الباب الأول الطلاق (2) الشقاق بين الزوجين (3) التطليق لغيبة الزوج (4) دعوى النسب (5) النفقة والعدة (6) المهر (7) سن الحضانة (8) المفقود (9) أحكام عامة
ولا تزال الأمة في مسيس الحاجة إلى وضع قانون موضوعي، فأشير بوضع ذلك القانون. ثم تألفت لجنة تحت رياسة فضيلة شيخ الجامع الأزهر، وهي وإن سارت بخطى بطيئة إلى الآن لاعتبارات بعضها يرجع إلى المحيط الراهن، وبعضها يرجع إلى ثقل المسئولية في هذا القانون، فهي فيما نعتقد بالغة إن قريباً وإن بعيداً ما تصبوا إليه الأمة من كفالة لمرافقها وسد عوزها التشريعي في حياتها. هذا القانون الموضوعي إذا كتب له الوجود فسوف يجمع بين دفتيه تراثاً صالحاً في شتى المذاهب حتى مذاهب الأحرار من الفقهاء المشترعين الذين كانوا ولا يزالون بعيدين عن المحيط العملي، فكان العلماء في الأزهر لا
يأخذون بآرائهم ولا يلقنونه لطلبتهم بل كانوا على النقيض من ذلك من المتبرمين بهم والزارين عليهم، وكان محذوراً على القضاة الشرعيين أن يتخذوه مدداً لآرائهم القضائية أو مصدراً لثروتهم العلمية لأنهم كانوا مأخوذين بالقضاء على أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، لكن لما تشعبت الحياة في مناحيها، واتضح بجلاء أن مذهب أولئك الأحرار المشترعين خليق بتقديره وبعثه من مرقده واتخاذه قبلة للناس في بعض أحوالهم الشخصية (والحاجة كما يقولون تفتق وجه الحيلة) لجأ طلاب الإصلاح إلى سن قانون موضوعي يحيط قدر المستطاع بمرافق الناس ويسد كفايتهم القضائية ويحرر العقول من كل تقليد لا يتفق ومصالح الجمهور. فأين نحن الآن من فكرة تجميع الفقه الإسلامي في موسوعة واحدة والأحداث كل يوم تحفزنا إلى جديد من الفن في كل شيء لنلقي بين أيدينا دروساً من العظة بالماضي، وإن ما صلح اليوم للعمل به قد لا يصلح غداً؛ وإن سلسلة التجارب لما يقع تحت المشاهدات ستظل متصلة الحلقات بالوجود اتصالاً وثيقاً؛ ثم ما لنا ولتجميع الفقه الروماني وقد كان الفقه الروماني - كما يقول بحق الباحث العلامة الدكتور عبد الحميد أبو هيف - قائماً بأسسه وقواعده على التفرقة بين الطبقات؛ أما الإسلام بقواعده وأسسه فهو قائم على الديمقراطية العادلة والمساواة الواضحة؛ وأية ديمقراطية ومساواة أعمق في الوجود أثراً وأخلد في المجتمع ذكراً من تلك التي أسس قواعدها وشيد بنايتها فاطر السموات ومدبر الكائنات وبعثها على لسان الرسول الأعظم قام من بعده خلفاء راشدون، وحسبك من بينهم عمر الفاروق هذا الذي يضرب أعلى المثل وأنبلها في المساواة وخفض الجانب واحتقار الأثرة في الواقعتين التاليتين:
مرَّ الفاروق كعادته في جوف ليلة وقد اتكأ على جانب جدار أحد المنازل فسمع امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامزجيه بالماء. فأجابت الفتاة: أما علمت يا أماه بما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت الأم: وما كان من عزمه؟ قالت الفتاة إنه أمر مناديه فنادى في الناس ألا يشاب اللبن بالماء. قالت: يا ابنتي قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فنحن في موضع لا يرانا فيه عمر ولا مناديه. قالت الفتاة: يا أماه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كان هذا الحوار الطريف يجري بين الأم وابنتها على مسمع من عمر وهو أشد ما يكون البنت إعجاباً وبالأم تبرماً. فلما تحقق من ظفر الفتاة برأيها
وانتصار الحق على الباطل - أمر تابعه أن يعلم الباب ليسهل الاهتداء إلى موضعه. وما أن أشرقت الغزالة من خدرها حتى بعث رسوله يستقصي خبرهما ويرى هل الصبية بكر أم متزوجة؟ فلما علم أنها بكر جمع أولاده بين يديه وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى زوجة رشيدة بصيرة بأمور دينها، شديدة المراقبة لله، تحذر الآخرة وترجو رحمة ربها؟ ويميناً لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقني منكم أحد إليها. فاعتذر ولداه عبد الله وعبد الرحمن لأنهما متزوجان، فتقدم ولده عاصم الصغير وقال: هأنذا يا أبتاه لا زوجة لي، زوِّجني ممن اخترتها. ثم بني بها. فقال الناس: تزوج عاصم بن عمر أمير المؤمنين من فتاة راعية فقيرة تبيع اللبن! ولكن عمر لم يأبه لما به أرجفوا. وصدقه الله فيما نوى، فقد أنجبت للعالم الإسلامي عمر الثاني وهي الصورة المشبهة معنى وروحاً للفاروق - نعم ولدت زوج عاصم بنتاً وولدت البنت الخليفة عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب الثاني. وكذلك صدقت فراسة الفاروق في صلاح هذه الفتاة وتقواها، ولم يطش ظنه فيها حينما رفعها من سكنى الكوخ إلى رفيع القصور ورضى على نفسه أن يقال: صاهر أمير المؤمنين فتاة راعية، ولكن عمر لا يأبه لكلام الناس ولا يكترث للأنساب والألقاب فليس عنده من نسب إلا نسب الإسلام، وليس له من الجاه إلا التقوى
ولقد حفظ التاريخ لعمر حادثة مشهورة رفعت قدره وأعلت ذكره، وخلدت له المثل الأعلى في النزاهة وشرف النفس وإعلاء الحق بالتضحية بأعز ما يملك في سبيل الدين. ومن أجل إحيائه تقديس شعائره - أنه قدم ابنه فلذة كبده وأحب الناس إليه ضحية على مذبح الدين وفداه لسنة الرسول الكريم
سمع انه شرب خمراً في مصر ولم يقم عليه ابن العاص الحد على ملأ من الناس ويحلق رأسه كما يجب وكما كان مفروضاً على كل مسلم، فبعث إليه يقرعه ويأمره أن يرسل ابنه وشيكاً على قتب، ففعل عمرو. وقد وصل عبد الرحمن وهو في أشد حالات الإعياء والنصب وهو يصيح:
لقد أقيم عليّ الحد في مصر يا أبت فلا تقتلني بإقامته مرة ثانية. لكن غيرة عمر وشدته في الحق على عامة المسلمين لم تكن تعرف المداجاة في زوج أو ولد، وهو الذي كان يسوي ذاته في ميزانه بأقل الناس، فلا غرو أن يقيم الحد على ولده ثم يشاهده وهو يلفظ النفس
الأخير، فلا يجد عند ذلك إلا أن يهنئه على طهارته من أرجاس المعصية وأن يحمله السلام إلى صاحب الأمانة التي قام بها عنه خير قيام
غير أن لي كلمة في خاتمة هذا البحث لا تزال بصدري جياشة، وهي أن التجميع للتشريع الإسلامي وفي أوسع حدوده ومراميه لا يلقي من أهل الرأي تأييدا إلا إذا أيده المسلمون أنفسهم بقوة ما يشع في صفوفهم من وحدة، وما يقوم على رباطهم من سلطان، وبقوة تلك الروحانية التي تهيمن على عقائدهم واتجاهاتهم وتصهر ما في تلك العقائد من زيغ وريب، فإذا حل ذلك اليوم وصارت فيه الغلبة للإسلام تيسر للمسلمين تجميع الفقه الإسلامي تجميعا ما بعده تجميع. وأكبر يقيني أن هذا اليوم مؤذن في القريب ببزوغ شمس سوف تنبسط على أرجاء الشرق فتنتظم أطرافه! وإذ ذاك يحل ذلك اليوم الموموق وتستكمل مصر زعيمة الشرق في الإسلام ونشر رسالته أقوى أسباب سعادتها واطمئنانها وعلو كلمتها في ظل حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول، أيد الله دولته، ورفع في الأنام رايته، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
(للبحث بقية)
عباس طه
المحامي الشرعي
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 17 -
من أهم ما تدعوا إليه المدرسة الحديثة - وتقدم العقادَ نموذجاً له - تفتحُ النفس لألوان الأحاسيس، وانفساحها لصنوف المؤثرات، وتهيؤها لشتى الانفعالات؛ وكثرة الأوتار المرنَّة بها في العاطفة الواحدة، والعواطف المتعددة، ومطاوعتها لما تتأثر به، لا لما تحفظه وتحتذيه من القوالب المصبوبة
وكل هذا من خصائص الحياة الموفوزة، الغنية بالمذخور من المشاعر المتهيئة للتجدد والنماء، المستعدة للتفرد والامتياز
وقد كان النقد العربي - إلى أمد قصير - قد وضع للعواطف الشعرية مراسيم وقيودا، وجعل لها قوالب مصبوبة، ومن هذه العواطف (الحب)
ترى هذا في كتاب (الصناعتين) مثلا وتراه في الكتب المدرسية والمذكرات، وتلمح أثره في كتابات من يتصدون للنقد بعد اطلاعهم على الكتب القديمة وحدها
وتلمح أثر هذا التحديد في ذوق المتأدبين الذين لا يصبرون على صورة جديدة يرونها في غزل جديد أو قديم، لا تكون وفق قوالب خاصة، وعلى طراز محدد من طراز التعبير
ولقد كان هذا يدعوني إلى اتهام الطبيعة العربية والطبيعة المصرية على السواء؛ فما يصبر الطبع الموهوب على هذا الجمود في ألوان الحس والتعبير؛ وما تقف النفس عند صور محدودة معلومة إلا وقد ضاقت عما عداها، واستغلقت دون سواها. ولولا أن هناك فروضاً وأعذاراً تلتمس لقد كان سوء الظن أولى، والاتهام أوجب. ولكنا في انتظار ما يطلع به المستقبل من الأدباء والمتأدبين
والعقاد أفسح شاعر عربي نفساً في غزله، وأكثرهم أوتاراً مرنَّة. فلا عجب تزيد الأنغام في شعره على ما تستطيع الأذن المصرية - إلا نادراً - أن تسمعه وتطرب له؛ ولا عجب يجد الكثيرون صعوبة في تقبل هذه النغمات لأنها تجهد آذانهم وأذواقهم، وتحملهم استعارة طاقات نفسية لا قبل لهم بها، كما تجهد العين الضعيفة تحت المنظار القوي الذي يجمع لها من الضوء فوق احتمالها!
ولكن من الحق كذلك ألا يبيح هؤلاء لأنفسهم مهمة الحكم، وأن يسمعوا قول من يطيقون السماع ويطربون لشتى النغمات، ويصدقوا ذوي العيون التي تحتمل المناظير القوية، فيما تبصر من رؤى وأطياف لا تراها عيونهم الكليلة!
وحين يتابع الناقد غزل العقاد في دواوينه السبعة، يعجب كيف يكون قائل هذه الأنماط كلها رجلاً واحداً لولا أن يثوب إلى خصائص العقاد العامة في هذه الأنماط على اختلافها. وتروعه هذه النفس الفسيحة التي تتلقى نماذج الحبيبات كل بما تستحقه، ثم تنفسح بعد هذا لتلقى الحالات النفسية المتتابعة مع كل حبيبة؛ وتتسع لنماذج الحب المختلفة بين الصوفية والحسية، وبين الغرارة والتجريب، وبين البساطة والتركيب، وبين الصعود والهبوط. . . وتقول في كل حب، وفي كل حالة شعراً أصيلاً كأنه - وحده - هو اتجاهها الوحيد!
ولعل من الخير قبل أن نستعرض هذه الأنماط، كما لحظناها في شعره الغزلي، أن نأتي باستعراض العقاد نفسه لصنوف الحب التي تيقظ لإحساسه بها على ضوء حب أخير حين يقول:
عرفت من الحب أشكاله
…
وصاحبت بعد الجمال الجمال
فحب المصور تمثاله
…
عرفت وحب الشباب الخيال
وحب القداسة لم أعده
…
وحب التصوف لم يعدني
وفي كل حب ورى زنده
…
سماتٌ من المؤمن الدين
وحب المزخرف والمنتقى
…
وحب المجرد والعاطل
وحب الجماح وحب التقى
…
وحب المجدد والناقل
وحب الثقات وحب الصحاب
…
وحب الطبيعة في حسنها
وحب الرجاء وحب العذاب
…
على يأس نفسي من حزنها
وحب التي علمتني الهوى
…
وحب التي أنا علمتها
ومن أستمد لديها القوى
…
ومن بالقوى أنا أمددتها
وحب الجياع صحاف الطعام
…
وحب الظماء كؤوس الشراب
وحب الكفاح وحب السلام
…
وحب الضلال وحب الصواب!
صنوف من الحب لا تلتقي
…
وفيك التقى لبها المحتوى
فلولا هدى نورها الأسبق
…
لما كنت كفؤاً لهذا الهوى
وفي (سارة) يفصل بعض صنوف الحب التي يحسها القلب الإنساني فيقول:
(وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد. لكن لابد من اختلاف بين الحبين في النوع، أو في الدرجة، أو في الرجاء.
(فيكون أحد الحبين خالصاً للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقاً شاملاً للروحية والجسدية.
(أو يكون أحد الحبين مقبلا صاعداً، والحب الآخر آخذاً في الأدبار والهبوط
(أو يكون أحد الحبين مغرياً بالرجاء، والحب الآخر مشوباً باليأس والريبة)
ثم يذكر نموذجين في الحب، لنموذجين من المرأة، اجتمعا على (همام) بطل القصة، قد يفيد ذكرهما هنا لبيان رفاهة حس هذا الشاعر ودقته في الإحساس بالحب والنساء:
(لقد كانت سارة وهند على مثالين من الأنوثة متناقضين: كلتاهما أنثى حقاً لا تخرج عن نطاق جنسها، غير أنهما من التباين والتنافر بحيث لا تتمنى إحداهما أن تحل محل الثانية، وتوشك أن تزدريها)
(ماذا أقول؟ بل لعلهما من التباين والتنافر بحيث تتمنى كلتاهما قبساً من طبيعة الأخرى، لولا أنها تنكر الاعتراف بذلك بينها وبين نفسها، فتسمح للتمني أن يستحيل إلى نفور
فإذا كانت سارة قد خلقت وثنية في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، من غير حاجة إلى الدير!
تلك مشغولة بأن تحطم من القيود أكثر ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعت من قيود، ثم توشيها بطلاء الذهب، وترصعها بفرائد الجوهر
الحزن الرفيع والألم العزيز شفاعة عند هند مقبولة إذا لم تكن هي وحدها الشفاعة المقبولة. أما عند سارة فالشفاعة الأولى بل الشفاعة العليا هي النعيم والسرور
تلك يومها جمعة الآلام. وهذه يومها شم النسيم
تلك تشكو ويخيل إليك أنها ذات أرب في بقاء الشرور تستديم بها معاذير الشكوى، وهذه تشكو كما يبكي الطفل لينال نصيبا فوق نصيبه من الحلوى
تلك مولعة بمداراة نقائصها لتبدو كما تتمنى أن تكون. وهذه مولعة بكشف نقائصها لتمسح
عنها وضر الخجل والمسبة، وتعرضها في معرض الزينة والمباهاة
(تلك لها عدة المتانة والمجاملة، وهذه لها عدة الرخاصة والبساطة)
ثم يمضي يعدد خصائص كل منهما على هذا المنوال البارع فتفهم أنه متيقظ أشد اليقظة، بكل وسائل التنبه والإدراك في طبيعته، لكل ذرة، في كل حبيبة.
والآن نتابع العقاد في غزله، ونتصفح الوجوه التي هام بها، وقال فيها، فنجد منها ستة وجوه بارزة، ونجد غيرها منزوياً متناثراً
فأما الأول فيستغرق الجزأين الأول والثاني تقريباً، وفيه تلمح العقاد شابا حدثا، في نفسه روعة وحذر وإشفاق من وهلة الجمال والحب، يكتفي أول الأمر باللمحة والنظرة، ويحوم على الجمال في ورع وتنطس، ويحسب للمجهول والغيب كل حساب، ثم يأخذ بعد حين في الاستمتاع على حذر كذلك وتلطف واستئذان.
وتجد إلى جواره حبيباً ساذجاً، عاطلاً من كل حلية نفسية أو فكرية إلا الجمال المجرد الغرير، فلا عمق ولا سيطرة ولا أطوار
وهكذا - في الغالب - حب الشباب، وإن فهم الكثيرون أنه أقرب إلى الفتك والبوهيمية والجراءة. فالشاب غالباً تمنعه القداسة، فأن لم تكن أذهلته الروعة قيده حذر المجهول الذي لم تكشفه التجارب، والعزيز الذي لم يرخصه الاستعمال
إنما يستهتر - حق الاستهتار - الكهل الذي تجعله التجارب يسخر من المقدسات والغيبيات، وتدفعه بقية القوة التي لم تنضب إلى الاستمتاع بالباقي قبل الفوات!
واسمع العقاد في ورع وإشفاق ينادي حبيبه:
وقف عليك تحيتي وعظاتي
…
وعلى صباك نصائحي وعظاتي
أُوتيت من حسن الشمائل نعمة
…
والحسن في الدنيا من الآفات
هو جوهر يجني عليك وميضه
…
عدوان سراق وحقد عفاة
فأحذر فان مع الجمال لغرة
…
وأراك تأمن جانب الغفلات
واحرس جمالك فالجمال وديعة
…
(لله) ترعاها إلى ميقات
واحمل شبابك للمشيب مبرءاً
…
مما يكدر ناصع الصفحات
وهكذا إلى نهاية هذه التسبيحة أو التعويذة القانتة!
ثم تسمعه بعد هذا كالطيف الهامس في حذر وتقاة:
إنا لمن معشر حب الجمال لهم
…
حب لمن كان في الدنيا ومن كانوا
ليأمن الطير. إنا لا نكيد له
…
ولا يخف مكرنا وحش وعقبان
الخ
ثم تنظره وقد انجلت هذه الروعة قليلا عن بدء الحسية والاستمتاع ليلة الوداع:
ويا ليلتي لما أنست بقربه
…
وقد ملأ البدر المنير الأعاليا
تطلّع لا يثني عن البدر طرفه
…
فقلت: حياء ما أرى أم تغاضيا
فقبلت كفيه وقبلت ثغره
…
وقبلت خديه وما زلت صاديا
كأنا نذود البين بالقرب بيننا
…
فنشتد من خوف الفراق تدانيا
كأن فؤادي طائر عاد إلفه
…
إليه فأمسى أخر الليل شاديا
إذا ما تضاممنا ليسكن خفقه
…
تنزى فيزداد الخفوق تواليا
أوشج في كلتا يديه رواجبى
…
وشيجاً يظل الدهر أخضر ناميا
وتلمس كفي شعره فكأنني
…
أعارض سلسالا من الماء صافيا
وأشكوه ما يجني فينفر غاضبا
…
وأعطفه نحوي فيعطف راضيا
ثم تتدرج من هذا إلى متاع صريح، ولكنه خفيف سريع:
أتعلم أم أنت لا تعلم
…
بأني عاشقك المغرم
أتقسم أنك لا تكتم
…
بلى أنت تكتم أمراً ظهر
ولا تنس في عين شمس لنا
…
ليالي موقرة بالجنى
ترف عليها طيور المنى
…
مغردة في ضياء السحر
فكم بت أُسهر تلك الجفون
…
وأُذبلها بالطلى والمجون
فباتت كما يعشق العاشقون
…
مضاعفة السحر تسبي الفكر
أجل فليكن! ولكن شاعرنا لا يزال شاباً يستكثر الليالي المختلسة فيشيد بذكرها، ويفصلها تفصيلا، ويكاد في (واقعيته) يحدثنا عن صور الخيال!
وينتهي الحب الأول أو يزحمه الثاني ويعفى على آثاره. والناقد يطالع في هذا حبيباً قريباً في خصائصه من الحبيب الأول، يمتاز عنه بأنه شره للمعجبين بجماله، يريدهم حشداً لا
فرداً. ولكنه يرى شاعرنا وقد نفض عن كاهله كثيراً من صوفية الشباب وحذره وتوجسه، غير أنه لا يزال يستمتع في دائرة محدودة، وبذخائر معدودة عند حبيبه:
يا أشره الناس حسنا
…
إلى عبيد وصحب
وأنعم الناس بالا
…
بناظر مشرئب
يا ليت لي ألف قلب
…
تغنيك عن كل قلب
وليت لي ألف عين
…
تراك من كل صوب
وليت لي ألف وسم
…
وليت لي ألف عيب
لعل حسنك يغَني
…
عن ناظر أو محب
ولا تبيت معنىَّ
…
بمن تروع وتسبي
ثم ينجلي الأمر عن حبيب مواف ومحب متفتح، قد أخذ بعد المتعة والاكتفاء في ترف الطلاقة والفلسفة:
إيهاً أبا الأنهار فوقك شادن
…
يشفي الغليل وأنت لست بشاف
فرعون لم يحمل عليك نظيره
…
والبحر لم يحرزه في الأصداف
أوفى علينا من سماء جماله
…
فاحلم بطلعته وماؤك غاف
واحفظ لديك وديعة من صفونا
…
مأنوسة الذكرات والأطياف
سيطول أيام الصدود سؤالنا
…
لك عن مواقع هذه الألطاف
ونود لو تغنى الودادة آسفا
…
رجعى الزمان ولا رجوع لعاف
إلى أن يقول في يقظة طريفة وتأمل واع:
إني سعدت بقدر ما استرجعت لي
…
يا نيل من حقب ومن أسلاف
دهر قد انبسطت عليه ساعة
…
فاستأنفته أحسن استئناف
وصلت حديث زماننا بقديمه
…
وصل الصحيفة نائي الأطراف
وبدت لنا صور العصور كأنها
…
رسم على صفحات مائك غاف
ومناظر القمراء أشبه بالذي
…
أحييت من ذِكرٍ مضين ضعاف
فالذكر والنظر العيان كلاهما
…
حلم بها متشابه الأفواف
وتتبين في نهاية هذا الحب نضوج الشاعر، وانتباهه إلى خطرات الأيام والصروف
والأقدار على ضوء حبه، وتأمله في الكون والطبيعة وإجراء ذلك كله في غزله:
أيها المعطى غدا عن سعة
…
أعط إذا أنت مليء بالعطاء
إنما اليوم لدينا كغد
…
وغد يا صاحبي اليوم هباء
آه لو يبقى على الدهر الصبا
…
آه لو يرأف بالحب الفناء
فرصة فيها جمال وصبا
…
ثم تمضي فإذا الكل سواء
وإذا المعشوق في العين كمن
…
تتخطاه عيون الرقباء
كاختلاف اللون في الصبح لنا
…
وتساوي بعدُ قبح ورواء
نحن في صبح وقد لا نلتقي
…
ليت الليل ابتداء وانتهاء
ثم قطعة بعنوان: (ودع جمالك) اقتطفت بعضها عند الحديث على خاصة اليقظة والوعي الفني، واقتطف في هذا المجال بعضاً آخر، وإن كان يخيل لي أن المقصود بها هو الحبيب الأول ولكنها أقرب شبهاً بما قيل في فترة الحب الثاني، لما فيها من تأمل وعمق في الإحساس:
أمودعاً حسن الأحبة إنني
…
ودعت قلب الهائم المغرور
ميتان في جدث نزورهما معاً
…
وا وحشتا من زائر ومزور
يهنيك أنك لا تزال مقيدي
…
بك حين لا شوق إليك مثيري
لم أبك وجهك إذ بكيت وإنما
…
أرثي خرائب عالم مدثور
فاعجب لمن يبكى فجيعة سرمد
…
بدموع مبتور الحياة حسير
وهي إحدى القصائد الطريفة التي تتجلى فيها (خصوصية) العقاد
ومتى بلغنا الجزء الرابع من الديوان التقينا هناك بشخصيتين أقرب ما تكونان إلى شخصيتي (سارة وهند) اللتين أسلفنا عنهما الحديث، وعلة ذلك مفهومة، وقد أوضحتها عند الحديث على (سارة) والتقينا بالشاعر في قمة النضوج النفسي والفني، وقد وضحت أمامه المعالم، وانتهت به التجارب إلى فلسفة كاملة في المرأة والحب والحياة، واكتملت به جميع القوى اللازمة للإحساس والتعبير، وعرف غاية الطبيعة من الحب، وغاية كلا الجنسين، فلم يبق أمامه إلا أن يعتصر من كل حب رحيقه، ويرتشف من كل كأس ثمالتها في طلاقة وبراعة وصراحة
فأما إحدى الشخصيتين فيطلع عليك وجهها من خلال قوله:
أريد التي ألقى سلاحي وجنتي
…
إليها وألقاها من البأس أعزلا
وأطرح أعباء الجهاد وهمه
…
لدى قدميها مغمض العين مرسلا
وأنت إذا أقبلت أقلبت جحفلا
…
وجرت أسيافاً وشيدت معقلا
فان تهزميني فاهزمي عن بصيرة
…
مريدا لأسباب الهزيمة مقبلا
ويطلع عليك وجهه معها من خلال قوله:
أيها الداعي إلى الله لنا
…
ما ترى في دعوة منك إليك؟
- أنت لو تعلم دائي - في غنى
…
عن نداء الغيب والطب لديك
تسأل الله شفائي ولقد
…
جعل الله شفائي في يديك
وترجىَّ نظرة لي من علٍ
…
ورجائي كله في ناظريك
فادع لي نفسك أو لا فادع لي
…
رحمة الرحمن من وجدي عليك
إن قضاها الله أو لم يقضها
…
حسبنا خطرتها في شفتيك
يفضل الصحة عندي أنني
…
بعض ما تطوي عليه جانبيك
وهي كما ترى متحفظة متصونة، وهو محترس يقظ يلمح ولا يصرح أو هما كما قال العقاد:
(كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق)
وأما الشخصية الأخرى فتطل عليك من قوله:
ماذا من الدنيا لعمري أريد
…
أنت هي الدنيا فهل من مزيد؟
فيك لنا نور ونار معاً
…
وأنجم زهر وأفق بعيد
وفيك روض مسفر عاطر
…
وجوهر حر ودر نضيد
ونشوة الخمر إذا قوبلت
…
بنشوة منك متاع زهيد
والفن إن لم تك نجواه من
…
نجواك لغوٌ باطلٌ لا يفيد
وكل ما في الكون من روعة
…
لها نظير فيك حي جديد
بل أنت دنيا غير هذى الدنى
…
وكل حب فيك كون وليد
للمرء دنياوان: مطروقة
…
فوضى وأخرى هو فيها فريد
وهذه، لا تلك، ما يشتهي
…
وهي له الموئل وهي الوجود
وتتبين وجهه معها في قوله:
قبلات كل يوم وعناق
…
ووداع كل يوم ولقاء
واشتياق كلما حان الفراق
…
وعهود كلما جن المساء
وعتاب كل يوم وخصام
…
جائر الحكم كثير العلل
نرتمي فيه بأهوال جسام
…
بين سخريِّ المنى والقبل
وعلى توقيع أنغام الرجاء
…
نبعث القلبين حباً وخصاما
عبث الطفلين في مهد الصفاء
…
كلما راعتهما الضجة ناما
وحياة بين روض وغدير
…
وحياة بين ألفاف كتاب
هذه أو تلك يحويها العبير
…
ويروى سرحها ماء الشباب
لا ظلام الليل يثنيك ولا
…
لفحة القيظ ولا اليوم المطير
في دلال منك موفور الحلي
…
وكلال منك كالظبي البهير
وهي كما ترى أنثى ناضجة بوهيمية، وهو رجل فنان متفتح قد بلغ من المتعة إلى النزف فانتشى؛ فانطلق يتفلسف فقال:
وابل من قبل تمطرها
…
من سماء الحب أخلاف غزار
جزلة المسِّ شهي لمسها
…
حلوة المزجين من ماء ونار
سقيها محض ولاء خالص
…
لم يكدره من الدنيا اعتكار
وكذا الإخلاص حر مطلق
…
كصفات الله ما فيها اضطرار
روَّ من الدهر واضحك ساخرا
…
إن طغى الدهر بأيديه القصار
هاهنا لا العيش محسوس الحظا
…
لا ولا الوقت بمحدود المطار
الخ. . .
فإذا اجتاز الناقد الأجزاء الأربعة الأولى من الديوان إلى (وحي الأربعين) و (هدية الكروان) و (عابر سبيل) لم تبعد به النقلة كثيراً عن جو الجزء الرابع، ولكنه يجد انطلاقاً إلى مدى أوسع في التوحيد بين الأرض والسماء، أو بين المادة والروح في غزل العقاد،
كما يجد الهدوء الرتيب، لا تخالجه اللهفة إلا قليلا، وهي بعد شوق إلى المتاع الطليق، أكثر منها حرقة إلى إرواء الضرورة المقيدة، أو هي طلاقة فيها سخرية المجرب الذي سلك الطريق مرة ومرة، فانجلت في نفسه الروعة وانكشف المجهول، ولم يعد أمامه إلا تأمل المشاهد وتسجيل الشواهد، والموازنة بين ما مضى وما هو آت في رحلته الحاضرة. والذي علم قيمة العرف والتقاليد ومبلغ إخلاص الناس لها أو تفلتهم منها، فلم يعد يحسب لمن في (الخارج) حسابا، وإنما همه أن يعيش في عالم من صنعه هو، يضع تقاليده وحدوده
ولهذا يلوح الشاعر في الأجزاء الأخيرة منطلقا من القيود في الإحساس والتعبير انطلاقا لا تجده في شعر شبابه، وهذا أثر التجربة وحكم السن والممارسة.
ومع العقاد وجهان أصيلان في هذه الدواوين الثلاثة، وعدة وجوه عارضة:
فأحد الوجهين هو الذي يقول فيه قصيدة (غزل فلسفي) والذي فيه (من كل شيء) في الأرض والسماء، وفي الماضي والمستقبل و (من كل موجود وموعود توأم). . . الخ
ولعل هذه القصيدة أدل القصائد على هذا الوجه الذي يشُع في نفس الشاعر كل معاني الوجود، لأن الشاعر - حينئذ - مستعد لتلقي كل أطياف الوجود، متفتح لكل معنى من معانيه
والوجه الثاني هو الذي يقول فيه:
بعد سبع من السنين وعشر
…
عرف الناس فضل ذا الميلاد
عرفوا أي نعمة زارت الأر
…
ض بأضعاف حسنها المرتاد
عرفوه لما رأوا بينهم شم
…
ساً مع الشمس أشرقت في البلاد
عجبوا كيف فاتهم يوم وافى
…
فرعوا عهده بذكر معاد
ذاك ميلادك السعيد هنيئاً
…
للذي فاز فيه بالإسعاد
ويقول فيه معظم غزليات (هدية الكروان)
والخطوط التي تفرق بين هذين الوجهين صعبة التمييز لولا أن الثاني أكثر بشاشة وطراءة، والأول أشد حيوية وتأثيراً
وعلى العموم فالشاعر يبدو في هذه الفترة واثقاً من نفسه وزمنه، يترشف كأس الحب في نشوة ولذة وتأمل وتمهل، وفي بشاشة ودعابة واطمئنان
ولولا أن المقال قد تضخم وطال لأكثرت من الأمثال، فهذه هي فسحة النفس التي عنينا، والتي امتاز بها العقاد كل الامتياز
(حلوان)
سيد قطب
إلى وزارة المعارف
كلمة حق في كتب
على أثر ما نشرناه في العدد الماضي من جواب الأستاذ أحمد أمين وتعليقنا عليه جاءتنا طائفة من المقالات والرسائل في هذا الموضوع لم نر من المفيد أن نشغل بها صفحات الرسالة فاقتصرنا منها على هذه الكلمة شاكرين لكتابها الأفاضل غيرتهم على الأدب ودفاعهم عن الحق
(المحرر)
كنا في مجلس ضم لفيفاً من الطلبة ورجال التعليم، والكل في مقتبل العمر وعنفوان الشباب، فمنهم من اجتاز مرحلة ثانوية في دراسته، ومنهم من اجتاز مراحل في تعليمه الجامعي. والحديث ذو شجون، (وللراسلة) حظها من الحديث، ولما ينشر فيها نصيبه من التعليق والمناقشة؛ وما يكاد الجمع يندفع حتى ترى القوم يتواعدون في أن للحديث صلة، وإلى الملتقى في أعداد الرسالة المقبلة
جئت بهذه الكلمة لأقول إن السبب (الذي من أجله صرف النظر عن تقرير بعض الكتب للمطالعة في مدارس المعارف المصرية) كان محل نقاش طويل في هذه الساعة القصيرة
ونحن نعيذ أنفسنا من الغرور يذهب بنا إلى الحطِّ من كفاية اللجنة التي عهد إليها اختيار كتب المطالعة. لكننا لم نر بأساً في أن نبعث برأي لفيف من الطلبة والأساتذة لا نعتقد أنهم ارتأوه أو اعتقدوه تزلفاً للزيات. فالصلة التي تصلهم بالأستاذ الزيات هي عين الصلة التي تصلهم بالأستاذ أحمد أمين، وهي صلة الأدب والذوق المشترك، هذه الصلة التي تدفع كل واحد إلى إبداء رأي هو صدى صادق للكيفية التي أدرك بها الإنتاج الأدبي لأي كاتب أو شاعر أو صاحب فَنٌ
ومن الطبيعي أن نتحسس ذلك الضعف الأخلاقي لو كان في كتابين عالميين قُدَّر لهما من سعة الانتشار ما لم يقدر لغيرهما من الكتب. لقد كان الأستاذ الزيات أميناً في نقل هذين الكتابين إلى اللغة العربية، أتراه حور من مضمونهما بحيث ترى الفضيلة في (رفائيل) جريمة، والعاطفة في (آلام فرتر) ضعفاً أخلاقياً؟
لست أدفع عن المترجم تهمة هو أبعد الناس عنها فقد كان أميناً في ترجمته، ولكنني أدفعها
عن مؤلفي هذين الكتابين وهما على ما يعلم الناس من أعلام فلاسفة الغرب وفحول شعرائهم. ونحن لا نرى حاجة إلى أن نلجأ للعبارة نصوغها دفاعاً عنهما فالكتابان بين أيدينا ووقائعهما في ذاكرة الكثيرين منا، ولم تستطع أن تلمح الأثر الذي من أجله صرف النظر عن هذه الكتب
كنا وكان غيرنا في سنِّ الصبا يوم صدر (رفائيل)، وأذكر جيداً أن هذا الكتاب ما كان يبقى في يد القارئ أكثر من يومين اثنين لقلة النسخ وكثرة الطلاب المتلهفين على قراءته.
ولو لم يكن رفائيل كتابا فيه عاطفة نبيلة وشعور حي لكفى أن يكون في لغتنا قطعة فنية. وأشهد أن لأسلوب الترجمة الفنية التي ظهر بها هذا الكتاب هذا أكبر الفضل في تحسين أسلوبنا الإنشائي يوم كنا نجيل البصر في الكتب على الرفوف فلا نرى غير ركام من ألفاظ وعبارات يمجها الذوق ولا يلازمها الحسن أو شبهه.
وإلى القارئ آلام فرتر! فهل كان (جوت) الفيلسوف مخادعاً يوم قدَّم كتابه إلى العالم وقال في مقدمته (إنك لن تستطيع وأنت تقرأه أن تحبس نفسك عن الإعجاب بفكره وقوة حسِّه، ولا قلبك عن الولوع بخلقه وشرف نفسه، ولا عينك عن البكاء لمثار جده وبؤسه!)
اللهم إنا لم نجد في الكتاب غير ما قدم المؤلف به كتابه، ففيه الشرف الصميم وفيه الخلق الكريم وفيه الإخلاص والإيثار والصبر والجلد.
وما أرى أن الدكتور طه حسين كان مدفوعاً للثناء يوم قال في مقدمة الكتاب (لقد وفق صديقنا الزيات حين نقل إلى اللغة العربية آلام فرتر للشاعر الفيلسوف (جوت). وفق إلى حسن الاختيار فما كان لشعب يُجل نفسه ويريد أن يعد بين الأمم الحية أن يجهل شاعراً فيلسوفاً كجوت قد أثر نبوغه الفني والفلسفي في الحياة العلمية والنفسية للعالم الحديث أشد تأثير. وما كان لهذا الشعب أن يجهل كتاباً كآلام فرتر قد عرفه الناس جميعاً في أوربا فأحبوه وكلفوا به، حتى أنك لا ترى فتى ولا فتاة في السادسة عشر من العمر إلا قرأه وقرأه وحاول أن يتفهم معانيه ويتأسى بما فيه).
لا نظن الدكتور طه حسين منع هذا الكتاب عن أولاده أو نصح لهم بالحيطة في قراءته ولا نشك في أن رجال المعارف بلا استثناء يزينون مكتباتهم بهذا الكتاب العبقري الخالد ويسرهم أن يروه في أيديهم بنيهم وبناتهم
بقيت مسألة هي مدار البحث ويجب ألا تعتبر كلمتي فيها فضولاً. فأن لمصر مكانتها في العالم العربي، ولثقافتها المكان المرموق في نظر طلاب العلم والأدب. فالكتاب الذي يرى أئمة الأدب في مصر أنه صالح للتداول يصبح هذا الرأي كورقة النقد تصرف في أي مكان. فهل من الحق أن كتاب (رفائيل) وكتاب (آلام فرتر) لهما أثرهما في الأخلاق من (ناحية عكسية؟). الطالب يجيبك: لا، والأستاذ لا يمنع أن يكون هذان الكتابان في صدر مكتبه وبين أهله وأولاده
أذكر أن (فرانس بيكون) قال في الكتب: (إن من الكتب ما يذاق، ومنها ما يبلع ويزدرد، ومنها ما يمضغ ويهضم ويتمثل) فكم في مكاتبنا من تلك الكتب التي تذاق وتبلع وتمضغ على درجاتها؛ اللهم إني إذا أجهدت نفسي وبحثت مع غيري عن الكتب التي تضمنتها مكاتب الكثيرين من طلاب المعاهد في العالم العربي لم أعد إلا وفي قلبي طعنة الأسى والأسف لهذه المختارات والمنتخبات يعودون إليها بين الحين والحين
إذا كان رفائيل وفرتر مفسدين للأخلاق فماذا يقال في آلاف الكتب البوليسية والروايات الخليعة والمجلات الساقطة التي تغص بها مئات المكاتب في القاهرة والقدس وبيروت ودمشق وبغداد؟ إذا كان في هذه الكتب انتحار فلماذا لا نمنع الصحف عن أعين الطلاب وفيها عشرات الحوادث من هذا النوع في كل يوم؟
لو لم تقرر اللجان كتاباً من الكتب واكتفت وذلك بأن تفرض رقابة على وسائل الإنتاج الثقافية لكان ذلك خيراً. أما أن تترك الأدب الرخو الخليع المكشوف يطغى على أكبر جزء من تفكير الشباب ثم تمنع أو لا تحبذ تقرير كتابين هما درة الكتب لأعلام الكتاب فهذا ما تؤاخذ عليه
(فلسطين)
علي كمال
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
- 3 -
وليس لأوقات الدراسة ضابط معين بل النهار كله من طلوع الفجر إلى المغرب وقت صالح للتدريس وتزاد عليه الحصة الواقعة بين العشاءين أيضاً. والدرس قد يمتد إلى الساعتين والثلاث بحسب قوة الأستاذ. وتدرس العلوم العقلية والنقلية في الصباح والمساء على السواء، إلا أن الغالب تخصيص الحصة التي بين العشاءين بالدروس الدينية والتهذيبية والوعظية من التفسير والحديث والفقه لحضور العامة لها إذ يكون الوقت وقت فراغ وانصراف عن الشغل. وكذا يقال في الدرس الأول الذي يكون عقب صلاة الصبح. وأيام العطلة هي في الغالب الأخمسة والجمع وأسابيع الأعياد وأيام المواسم. على أن منهم من يغتنم فرصة هذه الأيام فيقرأ فيها فنوناً متنوعة في كتب صغيرة مما يتهيأ ختمه في مدة قريبة
ومواد الدراسة لا تنضبط بعدد ولا تستقر على حال. على أن الدروس الدينية واللغوية لم تنقطع من الجامعة في وقت من الأوقات ودائماً تكون لها الأغلبية، في حين أن العلوم العقلية منها ما لا ينهض إلا بمناصرة السلطة التي يكون هواها مع هذا العلم أو ذاك كما حصل على عهد الموحدين من إحياء علو الفلسفة والأخذ بضبع أهلها لِما كان من ميل يوسف بن عبد المؤمن (مأمون المغرب) لها وشغفه بها. ومنها ما كان يروج وينفق إذا وجد من يحسن القيام عليه والدعوة إليه من أهله المتحققين به المتفرغين له كالنهضة العظيمة التي كانت لعلوم الرياضة على عهد المرينيين، والتي أوجدها أفراد من العلماء كانوا في عهدهم منقطعي القرين في تلك العلوم
ثم الطلبة قسمان: (1) أهليون ونعني بهم أبناء فاس، وما زال أهل فاس من أحرص الناس على طلب العلوم الدينية في القرويين (2) وآفاقيون ومنهم الواردون على فاس من مختلف المدن والقرى في المغرب بل والجزائر والصحراء، وعددهم يتراوح بين (500) و (700) طالب. ومحل سكناهم المدارس التي سبق الكلام على بعضها، ويتناولون من الأوقاف بصفة مؤونة رغيفاً واحداً في اليوم. ولبعضهم جرايات وقفية لا بأس بها يأخذونها
مقابل بعض الأعمال التي يقومون بها في المساجد الأخرى والقرويين نفسها
وكان للطلبة قبل هذا الابَّان صولة كبيرة بحيث أن السلطة لم تكن تتدخل في شؤونهم وإنما يرجعون في فصل خصوماتهم إلى مقدميهم وإلى الأساتذة. ومما يدل على مزيد الاعتبار الذي كان لهم سواء عند الشعب أو الحكومة، تلك النزهة الربيعية التي كانوا يقيمونها كل سنة على ضفاف وادي الجواهر خارج فاس ويشارك فيها جميع طبقات الشعب والحكومة نفسها فيرسل السلطان ممثله، ويهدي السلطان إلى الطلبة هدية جميلة في مهرجان حافل، بينما يقدم الطلبة على لسان سلطانهم طلبات مهمة إلى السلطان، وقد يكون فيها العفو عن مجرم أو الرضا عن قبيل ما، أو تحريرهم من مغرم ونحوه إلى غير ذلك، فتنفذ الطلبات بسرعة ويرجع الطلبة مفعمين بالسرور والزهو والحبور. وهذه النزهة لا زالت تقام حتى اليوم لكن لم يبق لها الاعتبار السابق.
وإذا نظرنا إلى تاريخ العلوم في القرويين نجد أنها اجتازت بثلاث مراحل مهمة:
الأولى: عند قيام الدعوة الموحدية في منتصف القرن السادس حيث انتصر مذهب الأشعرية في الاعتقاد على مذهب السلف الذي كان عليه أهل المغرب منذ البدء، فدخل علم الكلام على طريقة الأشعري بما يستلزمه من نظريات الفلسفة ومقدماتها إلى القرويين وتوطد أمره فيها منذ ذلك العهد إلى يوم الناس هذا
والثانية: عندما أعلن يعقوب المنصور ثالث خلفاء الموحدين الحرب على علم الفروع وعمل على نشر السنة بالترغيب والترهيب وأحرق كتب الفقه من المدونة والتهذيب والواضحة وغيرها، فانصرف الناس إلى علوم الحديث والتفسير وإحياء ما اندثر من أصولهما وكان ذلك فاتحة عهد جديد في الدراسات الإسلامية بالقرويين
والثالثة: عندما أصدر السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي منشوره الإصلاحي الهام إلى الشيخ التاودي بن سودة، وكان رأى ما آلت إليه الحركة العلمية في القرويين من الفتور والاضمحلال فساءه ذلك المآل وعمل على بعثها وتجديدها بما أثر في حياتها المستقبلية بعد ذلك تأثيراً بليغاً
هذا مجمل نظام القرويين والحالة العامة التي كانت عليها إلى انقضاء الثلث الأول من القرن الرابع عشر الحاضر. وبعد ذلك في عام 1232هـ ـ دخلت الكلية في طور الإصلاح
والتنظيم الحديث إذ اصدر السلطان مولاي يوسف رحمه الله أمره بتأسيس مجلس للنظر في شؤون القرويين ووضع برنامج للدراسة فيها، فتألف المجلس ووضع البرنامج، وكان من أهم ما اشتمل عليه مما يُعدُّ حدثاً جديداً في تاريخ الكلية، تقسيم منهاج الدراسة إلى ثلاثة أقسام: ابتدائي وثانوي ونهائي، وتقرير نظام المراقبة والامتحانات؛ ولكن تنفيذ هذا البرنامج كان من العسير لمخالفته لمألوف الناس الذين يقفون كثيراً مع العادات. وجاءت مشاركة بعض الشخصيات الغربية في وضعه ضغثاً على إبالة، فاستراب الناس به حتى من كان يحب الإصلاح ويميل إلى التجديد. وهكذا بقى ما كان على ما كان. وحدث أن السلطة كانت تستخدم بعض الشخصيات البارزة من العلماء في مختلف المصالح، والبعض الآخر كان ينتثر عقده بالموت، فلم يشعر الناس إلا وجامع القرويين يكاد ينعق فيه البوم والغراب لخلوه من أهل الكفاية والجد الذين كانوا يعمرونه بالدروس النافعة الدائمة ولا يبغون على ذلك ثواباً ولا أجراً. فغلقت الأفكار وساءت الظنون وكثرت المساعي التي ترمى إلى الإصلاح العملي والتنظيم الجدي، فما كان إلا أن اصدر الأمر الملكي المحمدي الكريم بذلك ونفذ في محرم فاتح عام 1250 ولا يزال العمل عليه إلى الآن
ينص هذا الأمر على تقسيم منهاج الدراسة إلى ثلاثة أقسام كالسابق ويزيد عليه بجعل القسم النهائي على نوعين: ديني وأدبي.
ويحصر مدة الدراسة في (12) سنة منها ثلاثة للابتدائي وستة للثانوي وثلاثة للنهائي. وفضلاً عن تقريره لجميع العلوم الشرعية وآلاتها التي كانت تدرس في الكلية من قبل - فإنه أضاف إليها علوماً جديدة كالتاريخ والجغرافية والهندسة وجعل عدد الأساتذة النظاميين (مبدئياً) 32 وعين لهم أجوراً لا بأس بها، وحدد مدد العطلة، وضبط أمر امتحانات النقل والتخريج، وبين نتائج النجاح وما يخوله نيل الشهادة في كل من الأقسام الثلاثة
(يتبع - طنجة)
عبد الله كنون الحسني
بين الفكاهة والجد
تحية كلب
إلى الكلب البوليسي (هول)
للأستاذ محمود غنيم
كلبٌ ينمُّ على الجناهْ
…
تمشي العدالة في خُطاهْ
إن قال أرهفت النيا
…
بةُ سمعها وصغى القُضَاه
كم أَفْلَتَ الجاني فشمَّ
…
ر ساعديه واقتفاه
لم يُعْي أَهلَ البحث س
…
رٌّ غامضٌ إلا جلاه
يستخرج السرَّ الدفي
…
نَ كأنه بعضُ الْحُواه
وكأنما هو إذ ترا
…
هُ مشعوذٌ يتلو رُقاه
عَيُّ اللسان وإنما
…
في أنفه جُمعت قواه
هو لا يحيد عن الصوا
…
ب ولا يُحاَبي من رشاه
لا يعرف القربى ولو
…
كان الذي يجني أخاه
هيهات لا إشكالَ في
…
ما يَدَّعيه ولا اشتباه
كم ناطقٍ تبع الهوى
…
فلوى بغير الحق فاه
ضَلَّ ابنُ آدمَ نهجَهُ
…
حتى رأى كلباً هداه
ما أَضعفَ الإِنسانَ مَقْ
…
دِرَة وأكثرَ ما ادَّعاه
قد بات يرعى الأمْنَ (هُو
…
لُ) وغيرُه يرعى الشياه
كلبٌ عصامِيٌّ بَنَتْ
…
أركانَ دولته يداه
يا رُبَّ مفتخرٍ عَلي
…
كَ ببيت مجدٍ ما بناه
كلبٌ وضيعُ الأصل لا
…
ليثٌ ولا ليثٌ نماه
استقبلوه مُصَفِّقي
…
نَ كأنه بعضُ الغُزَاه
كم وَدَّ شبلُ شرًى بجَدْ
…
ع الأنف لو أضحى أباه
خافته دون الله أف
…
ئدة الجبابرة الطغاه
يخشاه من لا أُذنَ تس
…
معه ولا عينٌ تراه
عجباً يخاف الكلبَ قو
…
مٌ لا يخافون الإِله!
شيخَ الكلاب أَخَفْتَ ذئ
…
بَ الأنس لا ذِئبَ الفلاه
لهجَتْ بذكرك أَلْسُنٌ
…
وروت حوادثك الرُواه
وَسلبْتَ كلبَ الكهف ما
…
بيديهِ من عزٍّ وجاه
لم تَقْضِ في النوم الحيا
…
ةَ كما قضى فيه الحياه
لكن سهرتَ على السلا
…
م وبات ينعَمُ في كراه
صاد الكلابُ فكان صي
…
دُهم الحمامَة والقطاه
وأنفت من صيد البُزَا
…
ة فصدت صيَّادَ البُزَاه
إن طوقوك فطالما
…
طوَّقْتَ أَعْناَقَ العُتاَه
أو سلسلوك فطالما
…
سَلْسَلْتَ أَقدامَ العصاه
يا أيها الواشي رَعا
…
كَ اللهُ من بين الوشاه
يا رُبَّ مَظْلومٍ له
…
كُتِبَتْ على يدك النجاه
بإِشارة منك الحيا
…
ة لمن تشاء أو الوفاه
للأمن شُرْطيٌّ علي
…
هِ ساهرٌ يحمي حماه
لا يستقلُّ بمكتبٍ
…
بين اليراعة والدواه
قبض المرتَّبَ غيرُهُ
…
والخبزُ في الدنيا كفاه
ما زان مِعْصَمَهُ شري
…
طٌ أو تألَّقَ مِنْكباه
أَدَّى لوجه الله وا
…
جِبَهُ بحزمٍ وانتباه
متواضعٌ بين الجنو
…
دِ يلينُ إذ يقسو القساه
يا رُبَّ جنديِّ بدا
…
لك بيدقاً في ثوب شاه
يمشي فيغضبُ حين لا
…
تعنو لطلعته الجباه
قالوا أَتُطْرِي الكلْبَ قل
…
تُ لهم ومن أُطرِي سواه؟
يرعى الودادَ وما رأي
…
تُ من الأنام فتًى رعاه
لا أبتغي صلة الأنا
…
م فكلُّهم مثلي عُفاه
كم لَذَّ طعمُ وعودهم
…
عند المرور من الشفاه
فتبخرت تلك الوعو
…
دُ كما تبخرتِ المياه
الصُّلْبُ بين الناس إنْ
…
أنت استندت إليه وَاه
والليثُ فيهم ساعةَ ال
…
جُلَّى يفرُّ فِرَار شاه
لا يؤمَنُونَ عَلَى الأذى
…
والكلْبُ مأمُونٌ أَذَاه
سألوا الكلابَ الحقَّ إذْ
…
وَجدُوه بينَ الناسِ تاه
محمود غنيم
الغد المشؤوم!!
(إليك. . . وقد وعدتني بلقاء الغد فما عدت! ولا عاد!!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
وَقُلْتِ: (غَداً تَبْرَا جِرَاحُكَ) فانْطَوَتْ
…
عَلَى نارِها تَحْتَ الدُّجى تَتَضَرَّم
تُغَمْغِمُ باسم الفَجْرِ، عَلَّ صباَحَهُ
…
بِفَرْحَتِهاَ فَوق الرُّبَى يَتَبَسَّمُ
وَعَادَتْ كما كانَتْ جِرَاحاً حزينَةً
…
تَكادُ عَلَيْها خَيْبَةُ الرُّوحِ تَلْطِمُ!
وَقُلْتِ: (غَداً ليْلَاتُكَ السُّودُ تَنْجَلِي
…
ويَهْجُرُ دُنْياَناَ الْعَذابُ الْمُخَيِّمُ!)
فَقَيّدْتُ أَجْفاَني عن النَّوْمِ عَلَّهاَ
…
إذا مَات لْيلِي في ضُحَى الْحُبِّ تَنْعَمُ
فَعاَدَتْ كما كانَتْ وَجُنَّ ظَلَامُهاَ
…
فَذَابَ به طَيْفُ الضِّياَءِ الْمُهَوِّمُ!
وَقُلْتِ: (غَداً يا شاَعِري تَلْمَحُ الُمُنَى
…
عَلَى رُوحِكِ الشَّاكي الْحَزينِ تحَوِّمُ!)
فَعَلّلتُ ساَعَاتي! وَقُلْتُ: لَعَلّما
…
هَوَاكِ غَداً يا نَفْسُ يَحْنُو وَيَرْحَمُ
وجاَء غَدِي الْمشْؤُومُ خَيْباَنَ بَعْدَ مَا
…
قَضَى اللّيْلَ - مَفْطُورَ الرَّجَاءِ - الْمُتَيَّمُ!
وَقُلْتِ: غَداً صَحْراءُ عُمْرِكَ جَنَّةٌ
…
وَصَفْوٌ لِدُنْياَناَ، وَلهوٌ وَأَنعُمُ
وَتَسْبِيحُ أَحْلَامٍ، وآفاقُ نَشْوَةٍ
…
وَدُنْياَ أَغانٍ لِلهَوَى تَتَرَنَّم! ُ
وَجاَء غَدِي قَفْراً مَحِيلاً سُكُونُهُ
…
مَناَحاتُ جِنٍّ في الكُهُوفِ تُدَمْدِمُ!
وَقُلْتِ: دُخانُ الْيَأْسِ وَلى وَفي غَدٍ
…
سَيَسْعَدُ هذا الْيَائسُ الْمُتَجَهِّمُ!
وَجاء غَديِ لا كانَ جاَء وَلا انْتَهَى
…
إليِّ بهِ دَهْرِي اْلأَثيمُ المُذَمَّمُ!
فَسِرْتُ وَأَيَّامِي خَرابٌ! وَظُلَمةٌ!
…
وَعَيْشِي مَلَالٌ كلُّهُ وَتَبَرُّمُ!
عَلَى شَبَحِي الْمَهْدُودِ فَوْضَى! وَضَجَّةٌ
…
وَيْأْسٌ! وَفي قلْبِي مِنَ الْحُزنِ مَأتَمُ!
وَفي نَفَسِي لوْ ينْشَقُ الْمَوْتُ رِيحَهُ
…
زَوَافِرُ تَبْلَى مِنْ لظاَهاَ جَهَنَمُ
فَياَ غادَتي أَقْسَمْتُ بالْحُبِّ بالْمُنَى
…
بِنُورِكِ بالْفَنِّ الذي رَاحَ يُلْهِمُ
لَقَرَّبْتِ لي يَوْمَ اللِّقاَءِ! وَعُدْتني
…
لِيَهْدَأَ مَفْجُوعُ اْلأَمانِيِّ مُسْقَمُ
وَأَسْعَد قَبْلَ الموْتِ لوْ شئْتِ لَحْظَةً
…
أُزَوَّدُ مِنْهاَ لِلْخُلُودِ وَأَغْنَمُ
وَإِنْ شِئْتِ نِسْياَني. . فَياَ ضَيْعَةَ الهوَى!
…
وضَيْعَةَ أَحْلَامِي التي كُنْتُ أَحلمُ!
وَياَ ضَيْعَتَي في الْعاَشقِينَ! كأنَّني
…
مِنَ الْيَأْسِ لُغْزٌ في فَم الْحُب مُبْهَمُ!
دعوة إلى المرح
للأستاذ فريد عين شوكة
ودِّعْ الَهمَّ وَالشَّجَنْ
…
فالجوَى يُفْسِدُ الزَّمنْ
وَاغْتَنِم ساعةَ الرِّضى
…
فالرضى راحة البدن
عِشْ بدنياك كالطيور
…
مَرِحَ النفس منشدا
لا تَدَعْ عمرك القصير
…
يتقضى في البكا سُدَى
سوف تبكي وتنتحبْ
…
والورى عنك في شُغُلْ
وإذا دمعك أنسكب
…
ضحكت حولك المُقَلْ
هل ترى شاكياً شكا
…
فشكا واحدٌ مَعَهْ؟
أو ترى باكياً بكى
…
كفكف الناس مدمعه؟
طِبعَ المرْءُ مَالَهُ
…
غير إشباع رغْبَتِهْ
وإذا الخطبُ غالَهُ
…
راحَ يشكو لِصُحْبَتِهْ
يا مشُوقاً لما مَضَى
…
هل يوافيك ما اندثَرْ؟
ما مضى فات وانْقَضَى
…
وَغَدٌ مَعْقِدُ النظر
فاشْحَذِ العزمَ لِلْغَدِ
…
إنه مَوْئِلُ الْمُنَى
وادفع اليأسَ باليدِ
…
تجد الصعب هَيِّناً
إنما اليأس في الحياه
…
مِعْوَلٌ يَحْطِمَ الْقُوَى
وإذا لامَسَتْ يدَاه
…
صَرْح مجدٍ بها هَوَى
فريد عين شوكة
البَريدُ الأدَبّي
إلى الأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فلقد قرأت بإعجاب ما نشرتموه في الرسالة جواباً على الأسئلة الأشفودرية، وأفدت منه علماً كثيراً أشكركم عليه وأسأل الله أن يجزيكم عنه خير الجزاء. ولكني وقفت عند قولكم (أن الطرق الصوفية تجانية وغيرها إنما أحدثت في الإسلام لجمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة الغراء إقامة كاملة، إلى أخر ما قلتم)، وخشيت أن يفهم بعض القارئين من هذه الجملة أن جمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة لا يكون إلا بهذه الطرق، فتكون الشريعة إذن ناقصة تحتاج إلى متمم، مع أنكم لا تريدون هذا، ولا تشكون في أن الشريعة جاءت كاملة مكملة، لا تحتاج إلى أدنى زيادة، وأنها تكفل للمسلم كل خير ينبغي له في دنياه وآخرته. وإذا كان ذلك كذلك فماذا يبقى لهذه الطرق من عمل؟ وهل تخلو من أحد شيئين: إما أن تكون زيادة على الإسلام فهي مردودة، وإما أن تكون الإسلام نفسه فلا يبقى فرق بين مسلم شاذلي أو نقشبندي، ومسلم ليس له طريقة من هذه الطرق، وتكون الطرق على هذا الغرض تحصيل حاصل وهو باطل. وليت شعري ما القصد من هذه الطرق؟ إن كانت للذكر المرتب ففي كتاب الأذكار للنووي من الأذكار المأثورة ما يملأ يوم المسلم وليلته، وهي أفضل قطعاً من الأذكار التي وضع صيغها شيوخ الطرق؛ وإن كان القصد تهذيب السريرة وتنقية القلوب فليس وراء الكتاب والسنة ما يهذب سريرة وينقي قلباً؟ فهل القصد إذن تفريق جماعة المسلمين؟
هذا كله إذا خلت الطرق من كل ما يخالف أصل الدين، أما إن وقع فيها الخلاف كما هو الشأن في كثير من الطرق فهي مردودة بالاتفاق
بقي يا سيدي عدكم (الوهابية) من الطرق الصوفية، مع أن الوهابية حركة سلفية يراد منها ترك كل مبتدع في الدين ومنه هذه الطرق، والرجوع إلى الكتاب والسنة. ثم إنه ليس في الدنيا مذهب أو طريقة تدعى (الوهابية)، ولا يعرف هذه الكلمة أهل نجد أنفسهم، ولا كان ابن عبد الوهاب صاحب مذهب وإنما هو مصلح منبه، وأهل نجد حنابلة على مذهب الإمام أحمد ناصر السنة
هذا ولكم يا سيدي الشكر الأجزل والسلام عليكم ورحمة الله
(دمشق)
علي الطنطاوي
مكتبة دار الآثار في بغداد
روت (الأخبار) البغدادية ما يأتي:
ذكرنا في أعدادنا السابقة لمعا عن مكتبة دار الآثار في العاصمة وما تحويه هذه الخزانة العلمية من أسفار وكتب يفتقر إليها الكثير من مكتبات الأمم الراقية في هذا الباب، ونوهنا بالجهود الكثيرة التي يبذلها سعادة الأستاذ الكبير ساطع الحصري مدير دار الآثار القديمة في سبيل جعل مكتبة العراق الأثرية في طليعة مكتبات الآثار في العالم بما تضمه في رفوفها وخزاناتها من المؤلفات القيمة في العاديات والآثار القديمة من جميع النواحي
ونذكر اليوم طائفة كبيرة من هذه الكتب الثمينة أضيفت إلى المكتبة الأثرية العراقية، وكيفية ذلك أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية معهد باسم معهد الأبحاث الأمريكية الشرقية غايته التعاون مع البلاد الشرقية من الناحية الأثرية. كان بعض العلماء الأثريين الأمريكيين قد أوصوا بمكتباتهم لهذا المعهد على أن يبعث بها إلى بغداد عاصمة العراق عند قيام دار الآثار فيها بتأسيس معهد للآثار. وقد مر زمن طويل على ذلك دون أن تقدم هذه الكتب إلى دار الآثار العراقية تنفيذاً لرغبة الموصين بها، وعليه فقد سعى الأستاذ الحصري في جلب هذه الكتب والاستفادة منها هنا. وأخيراً وبعد جهود كثيرة نجح الأستاذ الحصري في مسعاه إذ قد وصلت هذه الكتب القيمة التي يبلغ عددها بضعة آلاف إلى مديرية الآثار العراقية وخصصت لها غرفة واسعة نظمت فيها الخزانات وصنفت عليها الكتب بترتيب يسهل على المطالعين الاستفادة منها
عقد مؤتمر عام للدفاع عن مصالح الإسلام
وزع مكتب الأنباء الألماني هذه البرقية من دمشق:
اجتمع هنا أقطاب علماء الإسلام وقرروا دعوة جميع رؤساء الدين المسلمين إلى مؤتمر إسلامي عام. وسيبحث هذا المؤتمر طرق الدفاع عن مصالح الإسلام، ورجا المجتمعون من فضيلة شيخ الجامع الأزهر في القاهرة أن يشترك في هذه المؤتمر
اللغة العربية في الكلية الطبية العراقية
كانت وزارة المعارف قد اقترحت على الجهات المختصة أن يلزم خريجو المدارس الثانوية في الدخول سنة واحدة إلى الكلية الطبية العراقية بغية تقوية ثقافتهم باللغة الإنكليزية. وقد عرض هذا الاقتراح على سعادة الدكتور السيد هاشم الوتري عميد الكلية فعارضه نظراً لاعتزامه تغيير لغة الدراسة في الكلية المذكورة وجعلها باللغة العربية أسوة بالكلية الطبية في دمشق التي لا يدرس طلابها العلوم إلا باللغة العربية
وقد رفع العميد إلى الجهات المختصة مقترحات بهذا الصدد. ولا ريب أن هذا العزم لو تحقق سيكون للكلية الطبية العربية شأن كبير الأثر في خدمة الطب في هذه البلاد نظراً لما في ذلك من بعث للمصطلحات الطبية التي كان يستعملها أطباء العرب الأقدمون
إلى الأستاذ الكبير العقاد
بمناسبة البحث القيم الذي تعالجونه على صفحات الرسالة الغراء، أرجو التبسط والإفاضة فيما يأتي:
2) هل تؤمنون بمقاييس الجمال التي تعتمد أول ما تعتمد على الأرقام؟
2) أيتوقف تذوْق الجمال على مقدار التحْضر والتثقف، أم هو فن كالشعر. . . يتوقف على الإلهام والمواهب الطبيعية؟
3) وعلى ذلك. هل يعجز أمرؤ القيس وهو ذلك الفنان البارع، ذو الخيال الوثاب الذي استطاع أن يتذوق جمال الطبيعة، ويترجم عنها في قصائده عن (رسم مثال للأنوثة موافق لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة لتخلف الأوان. . .)
4) وهل لتخلف الأوان دخل في تقدير الجمال؟ وإذا كان كذلك، فما بالنا نرى تمثال (فينوس) مع تخلف أوانه رمزاً ومقياساً لمعاهد الجمال في العصر الحديث؟
(القنايات)
عبد المنعم شلبي
صناعة السيللوز من دوالي العنب
وصل المهندس الكيميائي فالانيي بعد تجارب عدة إلى اكتشاف طريقة لاستخراج السيللوز من دوالي العنب المستعملة في إنتاج الورق والحرير الصناعي، وهذا الاكتشاف يساعد مساعدة كبرى على الوصول إلى الاستقلال الاقتصادي بينما يسمح بتشغيل الأيدي العاملة القروية والصناعية
تضامن وتواثق
قال الأستاذ الجارم بك في بعض محاضراته عن الأخطاء الشائعة في اللغة العربية التي ألقاها بواسطة الإذاعة اللاسلكية إن كلمة (تضامن) فشت فشوا عظيما في هذا العصر وليست موجودة في لغة العرب ثم استبدل بها كلمة (تواثق) واستشهد بقول كعب بن زهير: (ليوفوا بما كانوا عليه تواثقوا) ولكن كلمة تواثق لا تحل محل كلمة تضامن خصوصاً في هذا العصر لما حملها القضاء من معنى مختلف جداً عن (تضامن) لأننا إذا قلنا تواثق سعيد مع حليم على تنفيذ هذا العمل أردنا بأنهما تعاهدا فيما بينهما والتزم كلاهما بتنفيذ شروطه التي تخصه؛ وأما إذا قلنا يقر سعيد بأنه ضامن متضامن مع حليم في دفع هذا المبلغ أردنا بأنهما سيلزمان بدفع المبلغ معاً أو سيدفعه حليم وحده إذا لم يتوقف
فإذاً كلمة التوافق تفيد القيام بتنفيذ الالتزامات وكلمة التضامن تفيد كفالة شخص ما في دفع ما عليه أو الدفع معه أو الدفع محله.
فالفرق إذاً بعيد بين الكلمتين ولن تغني إحداهما عن الأخرى شيئا.
ولن نستطيع أن ننبذ اليوم كلمة التضامن بعدما أصبح لها من معنى خطير في القضاء. وليس يضير العربية إذا لم تكن هذه الكلمة موجودة في كتبها ومعاجمها وأوجدناها نحن للفائدة الضرورية على القياس الصحيح. وقد ذكر الأستاذ في المحاضرات التالية ألفاظاً أجراها على القياس ولم تكن موجودة في العربية ككلمة (عبّ) في قصيدة المتنبي البائية الخ. . .
فهل من كلمة عربية صحيحة تفيد المعنى المطلوب وتغني عن تضامن؟
ن. م. ب
الكُتُب
الظاهر بيبرس وحضارة مصر في عهده
تأليف الأستاذ جمال الدين سرور
للأديب حسن حبشي
ترى إلى أي مدى بلغ اهتمامنا بتاريخنا القومي. . .؟ خطر ببالي هذا السؤال وأنا أتصفح هذا الكتاب الذي حاول فيه مؤلفه الشاب أن يرسم صورة لعصر في تاريخ مصر له قيمته من الناحيتين القومية والدينية. ومما يسترعي انتباه المتتبعين للدراسات العالية هو انصراف أكثر الباحثين إلى نواح خاصة من التاريخ والأدب انصرافاً كلياً، على حين أن هناك نواحي في كلا هذين الفرعين لما تزل بكراً، ومن ثم كان اهتمام الأستاذ جمال الدين سرور بتناول هذه الناحية أمراً يشكر عليه، فلقد خصص من حياته الجامعية عامين لدراسة عصر الظاهر بيبرس، فخرج بهذا الكتاب القيم الذي منحته كلية الآداب من أجله درجة (أستاذ في الآداب)
أن كلا من الظاهر بيبرس وعصره موضوع جديد يتطلب من الباحث الرجوع إلى الكثير من المخطوطات، ومرجع ذلك قلة من يعنيهم تناول تاريخ مصر بعد القرن التاسع الهجري تقريباً، بل وقبل ذلك بكثير، حتى ليخيل إلى الكثيرين أن مصر كانت تعيش طوال هذه الفترة على هامش الحوادث السياسية في العالم الإسلامي، على حين يتراءى العكس لمن يتعمق بعض الشيء في دراسة ظواهر هذا العصر. . . لقد كان العصر الطولوني في مصر، فهل كان في تاريخ أمة من أمم الشرق حينئذ ما يبزه من الناحية الاجتماعية أو السياسية؟ لقد آثرنا هذا العصر بالذات لدلالته على حيوية مصر في زمن كانت الدولة العباسية لا تزال فيه على جانب شديد من البطش والقوة. وتوالت على مصر بعد ذلك عهود لدول مختلفة كان موقف مصر في أثنائها كلها في صلتها بالخلافة العباسية موقف الند للند، لا التابع للمتبوع
ومن العصور الطريفة في تاريخ مصر عصر الأيوبيين ثم المماليك، لما امتازت به هذه الفترة في الشرق والغرب بأنها كانت عصر تلاحم ديني تعدى حدود الجدل إلى امتشاق
الحسام فكانت الحروب الصليبية التي ظلت زمناً طويلاً أهرق فيه من الدماء ما يدعونا لتسميتها بالمجازر البشرية
وفي أوائل عهد الدولة المملوكية كانت الخلافة العباسية مشرفة على الدمار، فلقد ظهر المغول في فارس، وتقدموا شطر أطراف الدولة ينتقصون منها شيئاً فشيئاً فدمروا مملكة خوارزم شاه وحملوا الدمار والهلاك، وكانوا يضمرون من الشر للإسلام ما تنبئ عنه مخالفاتهم الكثيرة مع البابوات وملوك أوربا لهدم الحنيفة السمحاء. وتم للمغول بعض ما أرادوه، فأزالوا الخلافة من بغداد ثم تحولوا شطر مصر، وكانت - كما هي اليوم - معقل الإسلام، فأخذت حملاتهم تنقض على أطرافها من جهة الشام، ولكن قيض الله للإسلام إذ ذاك هذه الدولة الفتية المملوكية فوجد رجالها في محاربة التتر ما يتفق وما نشأوا عليه من الفروسية. والعجيب في أمر هذه الدولة الناشئة أنها استطاعت أن تصد عادية قوم وطئوا أرض أوربة وأشرفوا على سهول المجر، وقضوا على الدولة الخوارزمية والخلافة في بغداد
وكان من رجال المماليك الظاهر بيبرس، فوجه جهوده بعد أخذه مقاليد الحكم بعد قطز إلى صد التتر فهزمهم عند البيرة كما هزمهم من قبل عند عين جالوت. والواقع أن ما بذله بيبرس من صدهم ونجاحه في هزيمتهم قد مكن لهيبة مصر في العالم الغربي حيث كانت الدول المسيحية تترقب الفرصة للانقضاض على مصر التي اضطلعت بأعباء السياسة ومواجهة العالم الغربي. كذلك خافه أمراء البيت الأيوبي لهزيمته قوماً كان يظن أن لن يستطيع أحد ما خضد شوكتهم. كذلك قضى على طائفة الحشيشيبن في بلاد الشام، وكانوا شوكة تقض مضجع ملوك المسلمين وتهدد الإسلام. ولقد عرض الأستاذ جمال الدين سرور لهذه النواحي في شيء من الإسهاب والتفصيل، وأن لم يكن ذلك بالكثير من أجل تاريخ حياة رجل أمد الإسلام بقوة، بعد أن كان مهدداً بالزوال أو الضعف الذي لم تكن ترجى بعده قوة له
كذلك تناول المؤلف الحضارة المصرية في عهده، فجاء بصورة مشرقة النواحي، تختلج الحياة بين سطورها، وتلتمع الفكرة الرشيدة والغاية النبيلة في النتائج التي جاءت بها هذه الحضارة من الاهتمام بالجيش والبحرية والرخاء المادي. ولو أنني حاولت في هذا المقال
أن أحلل ما تناوله الأستاذ سرور من أوجه الحضارة المادية والأدبية لضاق النطاق، وإن كان فصله عن الحياة العلمية والأدبية (185 - 164) فيه شيء من الجدة والرونق، ولكن حسب القارئ أن يطالع بنفسه عرضه الوافي الممتع لضروب هذه الحضارة المختلفة، حتى يقف بنفسه على مدى الجهد الذي بذله المؤلف في هذا السبيل. غير أني آخذ على الصديق سرور عدم دراسته للحياة الشعبية، فذلك بحث لا يخلو من طرافة وجدة، وما كان أولاه أن يخصص من أجل هذه الناحية فصلاً، فما أسمى النواحي التي تناولها إلا (بالحياة العليا)
وبعد فان مؤلف هذا الكتاب جدير بأن يتابع دراسته في هذه الناحية العظيمة المجهولة
حسن حبشي
محاضرات إسلامية
تأليف الأستاذ عبد الرحمن الجديلي
بقلم الأستاذ إسماعيل السعداوي
ألقى الأديب المعروف، الأستاذ عبد الرحمن الجديلي، السكرتير للمرحوم سعد باشا، على العالم العربي، من مذياع مصر، هذه المحاضرات التي طبعت جماعة الوعظ والدعوة الإسلامية الجزء الأول منها، وضمنته عشرين محاضرة
والأستاذ الجديلي، ربيب ثورة مصر الأدبية والسياسية. ضمه قائدها العظيم سعد إلى خاصته، وألقى إليه بأسراره وتدوين أفكاره، لما رأى أن تياره الأدبي والفكري، يتفق وما يشتهى في المثل القومي للشباب المصري الجديد
ومكث في معهد سعد ما مكث، أبصر ما يكون شاب بطريق الحياة لقومه، والسعادة لوطنه. وكثيراً ما كانت تدفعه روحه القوية للعمل في الميدان الأدبي، فيظهر لأدبه طابع خاص، تبدو على جوانبه ثورة الشباب الدائب، في ثروة الأدب الشاب الذي يمد المشاعر والأفكار بما يعوزها من تصور وتصوير
ثم هو - قبل ذلك - قد نشأ نشأة دينية، بين مدارج الأزهر الشريف، ومعارج القضاء الشرعي، حين أزهر نبت الأستاذ المجدد الشيخ محمد عبده. فتضافر المعهدان - الأزهر والقضاء الشرعي - على تموينه، وتكاتفت الثورتان - ثورة الإمام وثورة سعد - على تكوينه، فجاء وكأنما دعت إلى وجوده ضرورة من دين، ونزعة من أدب، وحاجة من قصص، وداع من ثقافة عالية سامية.
سمعناه من المذياع، ورأيناه بين صفحات الكتاب، وسمعنا عنه شيئا ما، فكان - في ذلك كله - سبيكة واحدة، ميزتها الأحداث الحارة بالصقل واللمعان.
وقد نسج محاضراته من رفيع الأدب، وعالي المثل، وقويم النظريات، وروح الإسلام. وجعلها في ثوب قصصي شائق. يغري الآذان بالإنصات، والنفوس بالإعجاب
وأكثر ما يغري بها - تعرضها لما بين السلف والخلف من خلاف على الذوق، والخلق، وفهم الحياة، ومعنى استخدامها الإنسان، واستخدام الإنسان إياها. فهي تحكم الحكم الفصل الذي لا يدع ضغينة ولا حفيظة بين الجميع، وتستخدم المنطق والواقع في استدلالها، وتدعو
إليه حتى تهتز لدعوتها الأفكار والألباب فإذا هي إيمان ويقين.
فإذا دعونا إلى تأثره في الخطي، وتتبعه في الإنتاج الديني الأدبي، فلأنه - حقاً - جدير بذلك، وبما هو فوق ذلك
إسماعيل السعداوي
المسرَح والسِّينما
السينما المحلية
أجنحة الصحراء
أول أفلام الأستاذ أحمد سالم
نشطت حركة السينما المحلية في السنوات الثلاث الأخيرة نشاطاً يدعو إلى السرور والاغتباط. ولا ريب في أن السينما المحلية ربحت ربحاً كبيراً ببقاء الأستاذ أحمد سالم في ميدانها بعد استقالته من أستوديو مصر. فهو شاب مقدام وطموح، تواق إلى العمل
دخل الأستاذ أحمد سالم الميدان السينمائي مزوداً بكل ما ينبغي أن يتزود به مخرج ومنتج سينمائي، ولا نزاع في أن الأفلام التي أخرجها أستوديو مصر في العامين الأخيرين قد أكسبه الإشراف عليها خبرة ومراناً عملياً تاماً. ومادمنا في معرض الحديث عن الأستاذ سالم فلنقل إن (أفلام الطيران الحربي وحياة الطيارين) هي (مودة) الموسم القادم في أمريكا وأوروبا، وأول فيلم يفتتح به سالم حياته كمخرج ومنتج مستقل هو:(أجنحة) الصحراء. والفلم كله (طيران) وبطله ضابط طيار. . . وفي هذا الاختيار ما يدل على تتبعه لآخر (المودات) في عالم السينما!
والقصة من تأليفه، وموضوعها - كما قدمنا - جديد مبتكر، وخلاصته أن ابناً لأحد كبار الذوات في مصر خطب ابنة عمه وهو طالب طيران في الكلية الحربية. ولما تخرج ضابطاً عين في (مرسى مطروح)، وبعد مدة قضاها هناك عاد إلى القاهرة بطائرته وفيها التقى بعمه وطلب إليه الإسراع بتأثيث المنزل الجديد حتى يستطيع حمل الأثاث إلى مقر وظيفته وحتى يستطيع إجراء حفلة الزفاف قبل انتهاء الإجازة. وفي ذات يوم يكون (الضابط) جالساً في المطار هو وخطيبته فتهبط في المطار طائرة أخرى يملكها ابن أحد الأغنياء الذين لا عمل لهم إلا قضاء الوقت في النزهات والرحلات على متن الهواء. . . وتصاب الطائرة بعطب أثناء نزولها فيخف (الضابط) إلى نجدتها، وبعد أن يتم له ذلك يحدث بينه هو وخطيبته، وبين ركاب الطائرة، تعارف قوي. . .
ومن بين ركاب الطائرة (صديقة) لذلك الشاب الوارث، من بنات الهوى، ترى الضابط
ومعه خطيبته، فتشعل بقلبها نيران غيرة عمياء، وتنوي على الفور إفساد ما بينهما واقتناص ذلك الضابط الوجيه لنفسها. . . فتنتهز فرصة غياب (الخطيبة) وتظل تغري الضابط حتى تستميله إليها وتعده بالنزوح معه إلى مرسى مطروح إذا هو تزوجها. . وتعود الخطيبة فيقول لها الضابط إنه قد رأى عدم إتمام الزواج بعد تفكير كثير، وتحار الخطيبة بادئ الأمر ولكنها تعود فتغلب عليها عاطفة (الحبيبة) المخلصة فتضحي بسعادتها وتزور على نفسها رأياً ليس لها، وتعود إلى أبيها فتقول له إنها قررت بعد تفكير عدم إتمام الزواج. . . ويلح عليها والدها في معرفة السبب فتقول له إنها رأت أخيراً أنها لا تحبه. . . وأنها تشعر بأنها لن تكون سعيدة معه. وتذهب بنت الهوى مع الطيار في طائرته إلى مرسى مطروح ولكن عيشة تلك الجهات الحربية الصحراوية لا تروقها، ولا تمضي بها شهور حتى تكون قد شعرت بأنها سجينة، وساعد على نمو هذا الشعور في نفسها أن زوجها كان كثير المهام الرسمية فلم يكن يجد عنده الوقت الكافي لمرافقتها في نزهتها
وبمناسبة أحد الأعياد الإفرنجية تقضي العادة أن تقام حفلة راقصة في (استراحة) المدينة. فانتهزها الطيار فرصة وأسر في نفسه أن يصطحب زوجته معه في تلك الليلة إلى المرقص، لتبهج نفسها، ولترقص، وليغشى بصرها بصيص من نور الحياة الأوربية التي حرمتها مرة واحدة. وإنه لكذلك إذا بإشارة مستعجلة يتسلمها الضابط وكان قد اختير رئيس فرقة لمهارته وذكائه، يأمره القائد العام بالذهاب إلى جهة بعيدة بأقصى سرعة مستطاعة. وإذ كان الضابط لا يعرف نفسه وزوجه قبل أن يعرف واجبه، أسرع إلى طائرته بعد ما أفضى إلى زوجته بجلية الأمر، وانطلق على بركة الله وفي سبيل الواجب. . .
في نفس تلك السويعات يصل إلى مرسى مطروح ابن الذوات الذي كان الضابط قد أنقذه، وكان طبيعياً أن يفكر - أول ما يفكر - في زيارة منزل الضابط الذي أنقذه والذي توشجت بينه وبينه عرى صداقة وثيقة، ويذهب إلى المنزل فلا يجد الضابط ويجد زوجته، فلا تكاد تراه ولا يكاد يدعوها للذهاب معه إلى الليلة الراقصة، ويفهمها أنه جاء من مصر إلى مرسي مطروح ليرقص في هذه الليلة حتى تستجيب لدعوته، وترافقه إلى الاستراحة حيث البهجة والرقص. ومعلوم أن صداقتها القديمة له لابد أن يكون لها أثرها في موقفهما الشيطاني اللعين
وترقص الزوجة، وتمعن في الرقص، وتشرب وتسرف في الشراب، وتمجن وتذهب في المجون إلى آخر الشوط. ويرى ذلك (القومندان) رئيس زوجها الذي يعرف فيه الشرف والاستقامة، فتثور ثائرته ويغار على شرف مرؤوسه، ولكنه لا يجرؤ على أن يفعل شيئاً آنذاك في العلن وعلى ملأ من الناس، ويرى زملاء الطيار ما انزلقت إليه زوجة زميلهم، فيسخطون ويتذمرون. حتى إذا انتهت الليلة عادت الزوجة إلى منزلها بعد أن اتفقت مع (صديقها القديم) على الهرب. . . ويلحق (القومندان) بها ويؤنبها على سلوكها ويفهمها كل ما صدر عنها مما لا يصدر عادة عن الحرائر الكريمات، ولكنها تهزأ بتأنيبه ولا تسمع لقوله فيخرج وقد صمم على الإفضاء إلى زوجها بكل شيء. . .
ولا يكاد (القومندان) يوليها ظهره حتى تجمع ملابسها في حقيبة وتسرع فتلحق بصديقها وتتحرك بهما الطائرة في طريقهما إلى مصر. . . ولكن الطائرة لا تصل إلى مصر إذ يصيبها حادث فتفقد توازنها وتهوى براكبيها في جهة غير صالحة لنزول الطائرات
وكانت إدارة مطار القاهرة تنتظر وصول الطائرة، فلما لم تحضر في الموعد أبلغت الأمر إلى جهات الاختصاص، وجرى البحث عنها دون جدوى، ويقر رأي الجميع على أنه ليس لإنقاذ هذه الطائرة والبحث عنها إلا ضابطنا البطل. . . ولكنه يرفض أن يقوم للمرة الثانية بإنقاذ اثنين خاناه وعبثا بشرفه. . . وأخيراً يصله خطاب من ابنة عمه وخطيبته السابقة - بعد أن تكون قد عرفت كل شيء من الصحف - تعرض عليه حبها من جديد وتطلب إليه أن يقوم بإنقاذ الطائرة المفقودة. . . ويفعل الطيار ذلك، وفي عودته يصاب بحادث من فرط ألمه، بعد أن تكون زوجته قد اعترفت له بأنها هربت ولكنها لم تعبث بشرفه قط، وإن هربها إنما هو لسبب أنها تعيش معه عيشة لم تخلق لها. . . ولا يصحو في المستشفى إلا وابنه عمه إلى جوار رأسه ويستيقظ وزوجته القادمة تداعب شعره وتقبله قبلة الحب والتضحية
أخبار سينمائية ومسرحية
فيلم أم كلثوم الجديد
عرض الأستاذ رامي على الآنسة أم كلثوم مسودة روايتها السينمائية القادمة مع ألحان هذه الرواية، وقد فهمنا أن الآنسة قبلت الرواية وبدأت مراجعتها هي و (مجلس مستشاريها الفني) لإدخال التعديلات اللازمة عليها في الحوادث وبعض عبارات الأغاني لا في الرواية طبعاً!
عودة عبد الوهاب
يعود الأستاذ محمد عبد الوهاب إلى مصر في الأسبوع الأول من الشهر القادم ويبدأ العمل مباشرة في فيلمه الجديد الذي وضع قصته الأستاذ محمود بك تيمور، والسيناريو الأستاذ محمد كريم. والذي علمناه حتى الآن أن الرواية من نوع جديد، وسيفاجأ الجمهور بابتكارات جديدة في الإخراج واختيار ممثلي الأدوار المختلفة
عودة فالنتينو
بمناسبة الذكرى السنوية للنجم الشهير ردولف فالنتينو، عرضت بعض دور السينما في أوربا وأمريكا بعض رواياته الصامتة. وقد دل الإقبال الهائل الذي صادفته هذه الأفلام - رغم مرور خمسة عشر عاماً على عملها - على أن الفقيد فالنتينو لم يفقد شيئاً من مكانته في قلوب العذارى على الأقل
بول موني وهتلر
يقرأ (بول موني) مسرحية الكاتب الشهير (أرنست توللر) عن (هتلر) تمهيداً لقيامه بتمثيلها على المسرح وإذا عزم على تمثيلها فشركة إخوان وارنر هي التي تتولى الاتفاق على إخراجها
عودة شيهان إلى المتروجولدوين
عاد المخرج المعروف (وينفيلد شيهان) إلى العمل كمخرج في استيديوات المتروجولدوين ماير وذلك أثر استقالته من رئاسة الإخراج في شركة فوكس. وقد بدأ إخراج فيلم تدور
حوادثه في أحد ميادين سباق الخيل