الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 27
- بتاريخ: 08 - 01 - 1934
لطيفة النادي.
. .!
منذ أسابيع استشهد في ميدان الطيران حجاج ودوس! فتقاطرت في هذا المكان عبرات الأسى سوداء من هذا القلم، وتصاعدت زفرات الأسف حارة من هذه الصحيفة، وقلنا أن الأمة التي لم تكد تأخذ بأسباب الطيران حتى يسبق إلى الشهادة في سبيله فتيان من فتيانها، ويبادر إلى خوض أهواله فتاة من فتياتها، لا يستطيع أن يكسر من ذراعها حادث، ولا يتكاءدها في طريقها إليه عقبة.
كنا نقول ذلك والقدر الذي فتح لهذين الفتيين في السماء باب الخلود، كان يشق لهذه الفتاة في الأرض طريق المجد! فماكاد يعثر بنا الحظ في الجو الُمِضَّب الغريب، حتى نهض عجلان في جونا الضَّحيان العجيب، وكان يوم نهوضه الأغر يحلق في سماء مصر الجديدة ثمانية وعشرون من نسور أوربا القشاعم! يستعدون للسباق في سمائنا المشرقة الطليقة، ويستَنوَّن للرهان استنان الجياد العتيقة، ويظنون أن مصر التي فكرت في الطيران آخر الأمم لا يمكن أن تكون إلا مطارا لكل طائر، ومائدة لكل زائر! أما أن تكونِ قرنا يغالب، وموتورا يطالب، فذلك ما لم يقع في وهم ولم يَدُر في خَلَد! ولكن مجدنا الذي تحدى القرون وغبَر وجه الفلك لا يزال جياش الغضب على غدرة الجو بشهيديه في فرنسا! فهو يُدمَث لنسوره مثوى الضيافة، ويعقد غيب ضميره على الثأر، ولا يثأر إلا بطريقة تليق بماضيه ونزكو بأصله!! نفث في روع حمامة من حمائم الوادي أن تسابق هذه النسور في حَلبْة الهواء إلى الأمد! فصفَّت الحمامة المصرية في الجو جناحها الهشّ وريشها الناعم، ثم نظرت نظرة التحدي إلى النسور المحوّمة، فتوقدت صدور الكواسر غضبا من هذه الجرأة، وشق على ملوك الهواء وجبابرة السماء أن يشعروا بهذه الحمامة وقالوا ممتعضين: ريشة تواثب الريح، وهامة تعاجز الثور، ونملة تناجز القدر! وقال (ضيوفنا) الأعزة أصحاب (النشرة البذيئة)، والفخر المتعصب يثنى اعناقهم، والزهو الساخر يلوى أشداقهم:(يا لغَرور (أبناء العرب)! متى دخلت (الحمير) مضامير السباق؟ ومتى سامت وحوش (البهائم) سوابح الطير! ألم تكفهم فضيحة (الجنديين القذرين) حجاج ودوس؟
وكانت عيون مصر حينئذ تشخص إلى السماء مغرورقة بالأمل، ومحركات الطوائر الدولية تهزم في الجو الصافي هزيم الرعود، والأجنحة المعدنية تضرب في الهواء الساكن إلى الإسكندرية، ولطيفة النادي تتقدم بطائرتها الصغيرة السرب المتعاقب المثار إلى قصبات
السبق!! ثم غابت الأصوات في مطاوي الفضاء، واستولى على المطار اللجِب سكون وصمت، حتى إذاأزف موعد الرجوع سَرَحت العيون في الجو، وسبحت النفوس في الخيال، وتجاذبت أمم أوربا حبل الأمل في الظفر! هل هي فرنسا؟ هل هي إنجلترا؟ هل هي المانيا؟ ولم يقل أحد لا منا ولا منهم هل هي مصر؟ ولكن القدر على الغيب منا ومنهم قالها! وكان الجواب الحاسم عند لطيفة النادي!
من كان يخطر بباله منا - ولا أقول منهم - أن الآنسة لطيفة بنت الخدر العربي، وذات الخفر المصري، تباري أساطين الطيران ذوي الماضي البعيد والمران الطويل والخبرة الواسعة وهي لم تقض في علاج هذا الفن غير ستة شهور، فكيف يقع في الظن أن تسبق سابقهم وتهبط الأرض قبله بدقيقة كاملة؟
هنالك طفر المصريون من الفرح، وماد الأجانب من الذهول، واقبل المحكمون على الطائرة المُجَليَّة، يعصرون يدها من الإعجاب والدهشة، ويقولون والعرق البارد يتألق فوق الجباه الزٌّهر، كما يتألق رشح الرطوبة فوق الرخام الأبيض، يا آنسة قبلنا سبقك موضعاً ورفضناه شكلاً!! لان هناك على ساحل البحر (خيمة) أخرى لم تدوري حولها، والخطأ خطأ المنظمين لأنهم لم يضعوها في مكانها!
ثم منحوا المصلى الفرنسي جائزة المال، ومنحوا السابقة المصرية جائزة الشرف! وهل تبتغي مصر غير ذلك؟ ليقل لنا أصحاب (النشرة البذيئة) ما رأيهم في هذا الشعب؟ إلا يرون أنهم جحدوا فضله كما غمطوا حقه؟ إلا يجدربربائب المدنية وللعلم أن يفهموا أن عجز القيادة وتردد السياسة وطغيان الدخيل، إنما تخمد الشعور إلى حين، وتضعف الأخلاق إلى حد؟ وأن الأمم الحرة بطبيعتها، لا تلبث أن تنفي الزغل عن حقيقتها، فتظهر مجلوة الصفحة نقية الأديم؟ أفلا ينظرون إلى المصري في الميادين الحرة كيف سبقت قدمه وعلت يده؟ ألسنا في الرياضة والسباحة والغناء والأدب والطب أبطالا عالميين أو شبه عالميين؟
أن أسوأ الآراء الأوربية في مصر ربما كان عن المرأة، فانتصار البطلة لطيفة في هذا الميدان الخطير يصحح الخطأ في العقول المنصفة، ويُقر الحق في النفوس الكريمة،
افتحوا لنا باقوم طريق الحياة، وأفسحوا لنشئنا مجال العمل، وخلوا بين نفوسنا وبين الحرية، ثم انظروا بعد ذلك ماذا يفعل الفتى، كما رأيتم بعيونكم ماذا فعلت الفتاة!
احمد حسن الزيات
من دار إلى دار
للدكتور طه حسين
قال أستاذ البيان لتلميذه: زعموا أن البيان يعين صاحبه على أن يؤدي المعنى بعبارات مختلفة فيها الحقيقة والمجاز، وفيها التشبيه والاستعارة، وفيها الكناية والتمثيل وفيها ما نعلم وما لا نعلم من الوان الجمال اللفظي، هذه التي عن قصد، وتأتي على غير عمد، كأنما يوحي بها إلى الكتاب المبين. ولكنك تعلم أنا لا نذهب في فهم البيان هذا المذهب، ولا نقصد به إلى هذا النحو، وإنما نذهب به مذهبا اعم من هذا واشمل، كان يذهب إليه القدماء حين كانوا يتخذون البيان وسيلة إلى أداء ما يعرض للكاتب من الأغراض والمعاني في أشد الألفاظ ملاءمة لأغراضه ومعانيه، ولعلك تذكر انهم كانوا يذهبون في تعليم الطلاب فن البيان مذهبا طريفا كثيرا ما كان يضيق به المتكلفون من أصحاب الأخلاق، والذي لا يعلمون إلا ظاهرا من الفلسفة. قال التلميذ: نعم هو هذا المذهب الذي كان يحمل الأستاذ على أن يطرق أمام تلاميذه ويحمل تلاميذه على أن يطرقوا أشد الموضوعات تناقضا وأعظمها اختلافا فيؤدوها كأنهم يؤمنون بها أقوى الايمان، ويقتنعون بها أشد الاقتناع. وكانت هذه بدعة استحدثها السوفسطائية ثم ورثها عنهم أصحاب البيان فلم يغيروها، وإنما أمعنوا فيها إمعانا. وكتاب أرسططاليس في الخطابة حافل بذلك. وقد أبلى الجاحظ في هذا النحو من تعليم البيان بلاء حسنا، وقد ألف أساتذة اللغة والبيان في هذا النحو من الأدبكتبا لا تخلو من لذة ومتاع، فيها مدح الشيء الواحد وذمه، وفيها مدح النقيضين وذم النقيضين، وفيها. . . . قال الأستاذ حسبك، فقد أرى أن أشهر الصيف وما كان فيها من ارتحال وطواف، ومن اختلاف البيئات عليك وترامي أطراف الأرض بك لم تنسك ما أنفقنا فيه من أشهر الربيع من الدرس والبحث، فأنا نريد الآن أن نبتدئ من حيث انتهينا، ونمضي من حيث وقفنا، ونعود إلى ما كنا فيه من التمرين. فاختر لنا موضوعا واحدا يثير الضحك ويثير الرثاء. يثير الشماتة ويثير الرحمة. يبعث في النفوس مرحا وابتهاجا ويملا القلوب كآبة وحزنا، وهو على ذلك كله واحد لا يتغير، وإنما يتغير وجهة النظر إليه ونحو التفكير فيه، وأن الشيء الواحد قد يخالف نفسه ويباينها باختلاف الجهات التي تنظر إليه منها، والطرق التي تسلكها إلى فهمه والوصول إليه. قال التلميذ فأني لست في حاجة إلى أن أجد
وأكد، أو ألتمس واختار، لأن الموضوع ماثل أمامي شهدته أمس فأثار في نفسي هذه العواطف، المختلفة، وبعث في قلبي هذه الألوان المتباينة من الشعور، وكان المتعمقون في البيان يسرفون على أنفسهم وعلى تلاميذهم وعلى الفن حين كانوا يجتنبون ما يحدث بين أيديهم من الحوادث، ويختلف عليهم وعلى أمثالهم من الخطوب، ويلتمسون الموضوعات من عند أنفسهم يخلقونها خلقاً، فيصيبون حيناً ويخطئون أحيانا، ويعيشون في عالم الخيال على كل حال، مع أنهم لو نظروا فيما حولهم من الأحياء والأشياء لما احتاجوا إلى هذا الكد والجد، ولما بعدوا بأنفسهم وتلاميذهم عن مواضع الحق والصدق والصواب، ولما نقلوا الأدبمن هذا العالم المعروف الذي يضطرب فيه إلا الوهم، ولما قطعوا الصلة بين الأدب الذي يجب أن يكون صورة الحياة وبين الناس الذين يجب أن يتخذوه مرآة يرون فيها أنفسهم وحياتهم كما هي أو كما يحبون أن تكون، أو كما يكرهون أن تكون قال الأستاذ: هات موضوعك ولا تمعن في الاستطراد، فقد علمت وقد أنبأتك بأني علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع. قال التلميذ: فان الموضوع الذي شهدته أمس موضوع ويثير من المعاني ما لم تشأ، ويلهم ما أحببت من الخواطر ما لا تحب، يبعث الابتسام أن شئت أن تبتسم، ويبعث العبوس أن أحببت أن تعبس، وقد يكرهك على الابتسام وأنت عابس، وقد يكرهك على العبوس وأنت مبتسم، وقد لا يقف بك عند الابتسام، بل يغرقك في الضحك إغراقا، وقد لا يقف بك عند العبوس بل يدفعك إلى البكاء دفعاً، وقد يقفك من الابتسام والعبوس ومن الضحك والبكاء موقفا بين ذلك، فيه هدوء وعجب، وفيه رضى وسخط يضطربان في النفس ولا تظهر آثارهما على الوجه قال الأستاذ كفكف من هذا السيل اللفظي المتدفق، واقصد بنا إلى ما نريد. فقد علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع في المعاني، وقد علمت أيضا إنها لم تنسك دروس الربيع في الألفاظ، وقد علمت أنك ما زلت قادراً على أن تجيد هذا الفن الذي يمكن الكاتب أو المتكلم من أن يقول فيطيل دون أن يؤدي معنى أو يدل على شيء. قال التلميذ: وكأنك تنكر هذا الفن أو تسخر منه أو تزعم أن جمال الكلام لا يأتي من الكلام نفسه، وأن الألفاظ ليست على حظ من الجمال الذاتي الذي يأتي من اتساقها والتآمها وانسجامها، قال الأستاذ: دعنا من كل هذا العبث واقصد بنا إلى ما نريد فقد نعود في يوم آخر إلى حديث الألفاظ والمعاني وما يجب
أن يكون بينهما من صلة، وما يجب أن يقسم بينهما من الجمال.
ولكن اذكر أن كنت نسيت أنك شهدت أمس موضوعا واحداً يثير الضحك ويثير الرثاء فحدثني عن هذا الموضوع، كيف أثار الضحك؟ وكيف أثار الرثاء؟ قال التلميذ: وكيف أنسى موضوعاً لا يمكن أن يعدو عليه النسيان؟ وما رأيك في أديب خلق ليكتب، ويقول فيقضي عليه فجأة إلا يكتب ولا يقول؟ خلق ليفكر ويرقى بتفكيره إلى السماء فيجذب إلى الأرض جذباً، ويكره على البقاء فيها إكراها، ويؤخذ بالحياة مع أهلها أخذاً، خلق ليقرأ فيقضى عليه فجأة إلا يقرأ، خلق أطول الناس بالكلام لساناً، وأجرأهم بالقلم يداً، وأسرعهم إلى المعاني نفسا، وأخصبهم بالخواطر ذهنا: فيعقد لسانه وتغل يده وتقيد نفسه ويجدب ذهنه. خلق واضح الجبين باسم الثغر مبسوط الأسارير، تضطرب في نفسه الغنية معان غزيرة فيظهر اضطراب هذه المعاني على وجهه، فإذا هو متحرك الهيئة دائماً لا تكاد تنظر إلى محياه حتى ترى له شكلا جديداً يصور معنى جديداً، يضطرب في تلك النفس التي لا تهدأ ولا تستقر فيقضي على هيئته أن تسكن، وعلى وجه أن يتخذ صورة بعينها جامدة مستقرة لازمة لا تتحرك ولا تنتقل ولا تزول.
قال الأستاذ وماذا تنكر من أمر هذا الأديب؟ إنما هو صورة من صور برومثيوس الذي كان حركة متصلة منتجة خصبة، سريعة لبقة، تعلم الناس في غير انقطاع. وتسلك إلى تعليمهم كل السبل، وتبتغي إليه كل وسيلة، حتى لم تتحرج من أن تختلس نار الآلهة اختلاساً فتهديها إلى الناس وتمنحهم بذلك الحضارة والعلم والفن وتغنيهم أو تكاد تغنيهم عن (زوس) وأصحابه من سكان الأولمب، فغضب عليه زوس وضاق به وأزمع أن يعاقبه على ما جنى، فشده إلى صخرته تلك في القوقاز وقضي عليه أن يظل طوال الدهر مغلولا. وقد كانت الحركة جوهره عاجزاً، وقد كانت القدرة حقيقة لا يملك لنفسه ولا للناس شيئاً، لا يدفع عن نفسه ولا عن الناس شيئاً، يزوره النسر الذي وكل به من حين إلى حين، فينهش كبده نهشاً، وهو يرى ذلك ويألم له أشد الألم ولا يستطيع له دفعاً، يدعو الحرية فلا تستجيب له، لأن زوس قد كفها عنه، يدعو الموت فلا يستجيب له، لان الأقدار قد كتبت له الخلود. وقد صور ايسكولوس حال برمثيوس هذا تصويراً بديعاً ألهم من جاء بعده من الكتاب والشعراء، والمثالين والمصورين والموسيقيين. وقد أثار ايسكولوس في تصويره ضحك
الذين قست قلوبهم، ورثاء الذين رقت نفوسهم كما أثار معاني أخرى أقوم وأخصب وأبقى من الضحك والرثاء. قال التلميذ: لم أقصد إلى برومثيوس ولم أفكر فيه، وهل تضن أني رأيته أمس ولم أذهب إلى القوقاز وإنما أنا معك في القاهرة، ولعلي أن ذهبتإلى القوقاز فلا أرى الصخرة ولا قرينها فلم يحدثنا عنهما أحد من الذين زاروا تلك البلاد بعد ايسكولوس. قال الأستاذ فهي صورة من صور برومثيوس قصدت إليها واتخذتها نموذجا لهذا النحو من البيان كما كان يفعل القدماء. قال التلميذ لم أفكر في برومثيوس ولم اقصد إلى تقليد ايسكولوس، وإنما هو شيء شهدته أمس. قال الأستاذ وماذا شهدت؟ قال التلميذ شهدت صديقنا فلانا وقد أرادت له ظروف الحياة أن ينتقل من دار إلى دار. قال الأستاذ وقد اغرق في الضحك ما ابعد هذه الصورة التي تحدثني عنها من تلك الصورة التي كنت أذكرك بها! وأين يكون صديقنا فلان حين تنقله الظروف من دار إلى دار، من برومثيوس حين يشده كبير الآلهة إلى صخرة القوقاز، قال التلميذ فقد أثار صديقنا فلان في نفسك الضحك لأن صورته ذكرتك بتلك الصورة الضخمة العظيمة التي نصبها أبو التراجيديا للناس فلما انحدرت منها إلى هذا الشخص الضئيل النحيل الذي كان يقيم في طرف من أطراف القاهرة فأنتقل إلى طرف آخر لم تملك نفسك أن أغرقت في الضحك إغراقا. ومع ذلك فلو قد رأيته أمس كاسف البال كئيب الوجه محزون القلب معقود اللسان مقيد الرجل مغلول اليد، محصورا بين طائفة من الأثاث وأدوات البيت، مختلفة اشد الاختلاف، متباينة اشد التباين، فيها الكبير والصغير، فيهاالأنيق والدميم، قد جمعت حوله تجميعا، وكدست حوله تكديسا، وقد وضع هو بينها وضعا على كرسي أو شيء يشبه الكرسي، وقيل له أقم لا ترم حتى يأذن الله أو يأذن العمال لك بالانتقال، وهو مقيم لا يريم، لا يستطيع أن يقول شيئا، ولا ينبغي أن يقول شيئا، لأنه لا يفهم مما حوله شيئا، يريد أن يخلو إلى نفسه ويعيش مع خواطره، وإذا هو مصروف عن ضميره صرفا بهذه الأصوات العنيفة المختلفة التي تأخذ من كل مكان، والتي تؤلف من حوله نوعا فجا فظا غليظا من الموسيقى، فيه أصوات العمال على اختلافها، واصطدام الاثاث، ووقعه على الأرض، وهذا الصوت الذي يغيظ ويهيج الأعصاب ويأتي من جر الأشياء على الخشب حينا وعلى الحجر حينا آخر، وخفق الأقدام وتداعي الخدم، وتناهي الحمالين وما شئت مما يحصر وما لا يحصر، من هذه
الضوضاء الغريبة التي يمتلئ بها البيت حين تفارقه الحياة، ويمتلئ بها البيت حين تدخله الحياة.
قال الأستاذ محزونا مشفقا، وكم قضى المسكين من وقت على هذه الحال؟ قال التلميذ يوما كاملا نصفه في ذلك البيت الذي كان يخلو، ونصفه في هذا البيت الذي كان يعمر. ولقد فهمت أن اتحدث إليه في الانتقال من دار إلى دار، وأن اذهب معه مذهب الادباء في هذا الحديث، فأخذت أذكر له وقوف الشعراء على الاطلال واحيائهم لما يثير هذا الوقوف في نفوسهم من الذكرى وما يسفح على خدودهم من العبرات، وذهبت اروي له: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. . وانشده: لخولة اطلال ببرقة ثمهدي. . واتغنى له بدمنة ام اوفى. . واروى له ما قال ذو الرمة في ربع مية. واستطرد به إلى ما قال أبو تمام في عمورية بعد أن دمرها المعتصم تدميرا. فلم أجد منه نشاطا ولا انبساطا وإنما قال في صوت المحزونولهجة المتعب المكدود وما أنا وذاك؟ لقد تنقلت في حياتي بين دور كثيرة من حوش عطى، إلى درب الجماميز، إلى شق الثعبان، إلى مونبلييه، إلى باريس، إلى السكاكيني، إلى الحوياتي، إلى هليو بوليس، إلى الزمالك، فأقسم ما وجدت ساعة الانتقال لحظة من هذه اللحظات الحلوة التي يغنيها الشعراء غناء جميلا في شعر جميل اودع فيها دارا احببتها وبلوت فيها الحلو والمر من الوان الحياة، واستقبل فيها دارا لا اعرفها ولا أ ' رف ما ستتكشف لي فيها الايام عنه من الاحداث والخطوب. إنما هو الضجيج والعجيج وازدحام الادوات والاثاث، وصياح العمال والحمالين وخفق الاقدام، وجر الاثقال، ومجلس ضيق كهذا المجلس الذي ترى وساعات طوال ثقال كهذه الساعات التي رأيت، ثم وصل لما انقطع من الحياة، وسعى فيما أهمل من العيش، وانغماس في هذه الحركات العنيفة التي لا موضع فيها للشعر ولا مكان فيها للغناء. هنالك عدلت به عن النحو من الأدبالنو آخر. فأخذت اتحدث إليه عن قول ابي تمام
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الاول
كم منزل في الارض يألفه الفتى
…
وحنينه ابدا لاول منزل.
واخذت أساله عن احب منازله إليه وآثرها عنده فلم يحتج إلى تفكير ولا تقدير، وإنما قال في صوت حزين يشوبه الابتسام احب دار واثرها عندي إنما هي تلط التي درجت فيها
طفلا في قرية من قرى الريف، وهذه الدار التي نشأت فيها شابا في حوش عطى، ثم هذه الدار التي أقمت فيها طالبا للعلم في شارع من شوارع الحي اللاتيني في باريس ولكن بشرط إلا أعود إلى الاقامة والحياة في وحدة منها، هي حبيبة إلى كريمة اثيرة عندي حين اذكرها وحين ألم بها الألمامة القصيرة اليسيرة، فأما أحب الدور إلى وآثرها عندي الآن فهي هذه التي تراها مضطربة مختاطة مملوءة بالضجيج والعجيج والصياح من كل نوع، وتراني فيها اسير سجيا بين هذه الادوات المختلطة المكدسة حولي لا أستطيع حركة ولا انتقالا لانها ستستقيم لي بعد أيام، وستحمل الي فيها ساعات الحياة من الوان العيش ما لم اذق بعد. ويكفي أن اذكر تلك الدور كلها وكيف انتقلت من احداها إلى تلك التي تليها حتى انتهيت إلى هذه الدار لتعلم اني كغيري من الناس خليق إلا امنح تلك الدور من نفسي إلا هذه الدار الذي يقترن بالذكرى، مومن يدري لعلي أن انتقل من هذه الدار التي تراها إلى دار اخرى أوثرها عليها واختصها بالتفضيل، إنما نترك في كل دار نسكنها قطعة من قلوبنا، ولكنك تعلم أن قلوبنا لا تنقص بما نفرق من أجزائها بين الدور، وإنما تكمل وتستكثر من الثروة بهذه الذكريات التي نحملها معنا إلى أن يأتي هذا اليوم الذي ننتقل فيه إلى منزل آخر لا نؤثره ولا يؤثرنا، لا نحبه ولا يحبنا، لا نسعى إليه ولا يسعى الينا، وإنما نكره عليهاكراها، ويكره هو علينا اكراها. . .
هنالك أحسست مرارة الحديث فهممت أن اتحول بصاحبي إلى حديث آخر، ولكن أمور الدار وترتيبها كفتني مؤونة هذا. الانتقال، فقد اقبل المقبلون يرفعون هذا وذاك، يتصايحون ويتبادلون بينهم الامر والنهي. قال الأستاذ لا بأس بهذا الموضوع ولكن على أن تعالجه علاجاً آخر وتعرضه عرضاً فنيا يثير الضحك ويثير الرثاء وإنما يأتي ذلك حين تقصد إليه قصد صاحب الفن وتبث فيه جزءا من اجزاء نفسك يمنحه شيئا من الحياة.
طه حسين
ملق القادة
للأستاذ أحمد أمين
لست أعني بهذا العنوان أن يتملق الجمهور لقادتهم فيظهرون لهم الود
والعظام بحق وغير حق، فذلك شيء قليل الخطر، فاتر الأثر، وإنما
اعني أن يتملق القادة للرأي العام فيسيرون على هواه ويجرون مجراه،
ويأتون ما يحب، ويذرون ما يكره، فهذا هو الداء الدَّوىّ والعلة الفادحة
ومن أسوأ ما أرى في الشرق في هذه الأيام هذه الظاهرة: ظاهرة أن يحسب القادة حساب الرأي العام أكثر مما يحسب الرأي العام حساب القادة هذه الظاهرة جلية واضحة في قادة العلم، فهناك أوساط تقدس العرب كل التقديس، وتعتقد أنهم في حكمهم عدلوا كل العدل، ولم يظلموا أي ظلم، فقادتهم يتملقونهم ويستخدمون معارفهم للوصول إلى هذه النتائج التي ترضيهم، سواء رضى العلم أم لم يرض، وسواء أوْصَل البحث إلى هذه النتائج أو إلى عكسها، وهناك أوساط تعبد كل غربي من عادات وتقاليد وآداب، فقادتهم يختارون اللفظ الرشيق، والأسلوب الأنيق لتأييد هذه الآراء، ولا عليهم في ذلك أن كانوا يحقون الحق أم يؤيدون الباطل
وهي ظاهرة في قادة الأدب، فأن أحب الجمهور روايات الحب والغرام ألفّوا فيها أكثر منها، وأن أدركوا أن تصفيق الجمهور يكون أشد، كلما كان الحب احد، تسابق الأدباء إلى أقصى ما يستطيعون من حدة وعنف، ومهروا في أن يستنزفوا دموع المحبين، ويهيجوا عواطفهم، ويصلوا إلى أعماق قلوبهم، وأن كره الناس أدب القوة من الأدباء، هو سمج، وهو جاف، وهو لا قلب له، وأن كان الجمهور لا يقبل إلا على الأدبالرخيص فكل المجلات أدب رخيص، لانه كلما أسرف في الرخص غلا في الثمن، وأن بدأ الجمهور يتذوق الجد تحولوا إلى الجد وداروا معه حيث دار
وهي ظاهرة في دعاة الإصلاح، فهم يرون - مثلا - أن الشباب قوة فوق كل قوة، وهم عصب الأمة الكسير الحياة، وفي استطاعتهم أن يرفعوا من شاءوا إلى القمة ويسقطوا من شاءوا إلى الحضيض، فهم ينظمون لهم الدار في مديحهم وإعلاء شأنهم، وملئهم ثقة
بأنفسهم، فهم رجال المستقبل وعماد الحياة، وهم خير من آبائهم، وستكون الأمة في منتهى الرقى يوم يكونون رجالها - وقد يكون هذا حقا، ولكن للشباب أغلاطه الجسيمة التي تتناسب وهمته، وله غروره واندفاعه، وله تهوره وإفراطه في الاعتداد بنفسه - فكان على المصلحين أن يكثروا القول في المعنيين على السواء، فيشجعوا وينقدوا، ويبشروا وينذروا، ويرغبوا ويرهبوا حتى تتعادل قوى النفس، وحتى يشعروا بمحاسنهم ومساويهم معا - ولكن هؤلاء القادة - مع الأسف - وقعّوا فقط على النغمة التي تعجب الشباب وتحمسهم ولم يجرءوا أن يجهروا بعيوبهم، ولا أن يقولوا ولو تلميحا - في مواضع النقص من نفوسهم - فكان لنا من ذلك شباب استرسلوا في الأيمان بقول الدعاة إلى أقصى حد، واعتقدوا انهم كل شيء في الحياة وانهم فوق أن يسمعوا نصيحة ناصح أو ناقد - وكان هذا نتيجة لازمة بعد أن وقف القادة منهم هذا الموقف - وقد يكون هذا رد فعل للماضي أيضا - فقد كان طالب العلم في الجيل السابق يقدس قول أستاذه، وهو وأستاذه يقدسان ما في الكتاب الذي يتلى، وكان الشاب يجل الشيخ في قوله وفعله، ولا يرى أن له صوتا بجانب صوته، ولا رأيا بجانب رأيه، فكان سلوك هذا الجيل انتقاما من الجيل السابق، وذهابا في الإفراط يعادل إفراط آبائه، ولكن أظن أنا وصلنا إلى حد يجعلنا نفكر جديا في تثبيت هذه الذبذبة ووقفها الموقف الحق
أن وقوف القيادة من الجمهور موقف الملق قلب للوضع، فالعالم إذاقال برأي للناس لم يكن لعلمه قيمة، والمصلح إذادعا إلى ما عليه الناس لم يكن مصلحا
إني أفهم هذا الوضع في التاجر يسترضي الجمهور لأن نجاحه في تجارته يتوقف على رضاهم، وأفهم هذا في المعنى يقول ما يعجب الناس لأنه نَصَب نفسه لإرضائهم، واستخرج إعجابهم، ولكني لا أفهم هذا في قائد الجيش، فان له مهمة أخرى، وهي أن يظفر بخصمه، فلو كان همه أن يسترضي جنده لا أن ينتصر على عدوه لما استحق لقب القيادة لحظة، ولكان الوضع الحقيقي أن الجند هم القادة والقادة هم الجند
كذلك الشأن في قائد العلم وقائد الأدب، والمصلح الاجتماعي فلكل منهم غرض يرمي إليه في علمه أو أدبه أو إصلاحه، وله خطة يريد أن يحمل الناس عليها رضوا أم كرهوا
بل لا يعد المصلح مصلحا حتى ينبه الناس من غفلتهم، ويحملهم على أن يتركوا ما ألفوا
من ضار، أو يعتنقوا ما كرهوا من صالح وهو في أغلب أمره مغضوب عليه ممقوت، واصطلاح الجمهور والمصلحين ليس علامة تبشر بخير، بل هي في الغالب تدل على تراجع من المصلح وانتصار للعامة وقد كان المصلحون في الشرق إلى عهد قريب أشد الناس تعبا في الحياة، وأكثر تبرما بالجمهور وأقربهم إلى عهدنا جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين، لقوا في دعوتهم من العذاب الوانا، ولم يوفوا حقهم إلا بعد أن وافاهم الموت، أما اليوم فلست أرى حركة عنيفة بين القادة والرأي العام، ولا بين المصلح ومن يراد اصلاحه، وربما كان سبب ذلك أن القائد ينظر إلى نفسه أولا وقبل كل شيء وآخر كل شيء، قصد إلى أن يصفّق له أكثر مما قصد لخدمة الحق، وقد وصل إلى درجة من إعجاب الجمهور يريد أن يزيدها أو يحتفظ بها، قد خلع ثياب القائد، وارتدى لباس التاجر، يبحث عما يعجبهم ليقول فيه شعره أو يكتب فيه مقالته، أو يطنب في وصفه، ويبحث عما يسوءهم ليحمل عليه حملة شعواء بقلمه أو لسانه كما يبحث تاجر الأزياء عن آخر طراز في الزي يقبل الناس على شرائه
تلك أشد حالات الانحطاط في القيادة، فأول درس يتلقاه القائد أن يكون قليل الاهتمام بشخصه، كثير الاهتمام بالغرض الذي يرمي إليه في الإصلاح، سواء أكان إصلاحا لغويا أو أدبيا أو اجتماعيا أو دينيا، وأن ينظر إلى كل ما يجري حوله في هدوء، لا يسره إلا أن يرى الناس اقتربوا من غرضه ولو بسبه، ويضحي بالشهرة فتبعته الشهرة، ويضحي بالحظ فيخدمه الحظ، بل سواء عليه عُرف أم لم يعرف، وسواء عليه لعن الحظ، بل سواء عليه عُرف أم لم يعرف، وسواء عليه لعن أم كرّم، ما دام سائرا على المنهج الذي رسم، لا يشعر بأريحية إلا أن يصل إلى غرضه، أو يقرب منه، يحب المنتصرين لرأيه ويرحم الناقمين عليه، يرفض أن يلبس تاج الفخر إلا أن يكون من نسيج ما سعى إلى تحقيقه - أن كان هذا أول درس يتعلمه القائد فهو آخر درس أيضا.
أخشى أن يكون قادة الرأي فينا قد ملوا المقاومة فاستسلموا، وأن يكون قد استصعبوا الغاية فاستناموا، وأن يكونوا قد وقفوا مترددين قليلا بين عذاب الضمير وعذاب المعارضة فاحتملوا الأول، وأن يكونوا لطول ما لقوا قد رغبوا عن النظر إلى الأمام والتفتوا وراءهم إلى الرأي العام فساروا أمامه في الطريق الذي يحبه هو لا الذي يحبونه هم، أن كان هذا
فيالها من هزيمة.
أنى لنا بقادة في الرأي لا يتملقون إلا الحق.
الحرية
للأستاذ الشيخ إبراهيم الدباغ
غلت فغلى في كل حي وجيبها
…
ولست لها! أن كان غيري مجيبها
صريع هواها لا يواسى بنظرة
…
وجرحى أساها لا يلين طبيبها
بدت واختفى فيها جمال تزينه
…
فهبت أعاديها ونام حبيبها
وكم مزقت ستر العفاف لصونها
…
بحر يناجيها وعبد يعيبها
حديقتها قد فتحت كل زهرة
…
تضل النهى أنفاسها وضروبها
شكت غربة في أهلها ولداتها
…
وأمسى على بلواه يبكي قريبها
وكم أكلت نيرانها قلب جاحد
…
وإني لأرجوا أن يزيد لهيبها
وكم عملت في نفس حر ومنصف
…
وحسب الأماني أن يخف شبوبها
يشرفها في كل شروق شروقها
…
وتغرى بها في كل غرب غروبها
مطالعها في الشرق والغرب لم تعد
…
إلى الأفق حتى ضاق ذرعا رقيبها
تعود منها المستبدون هدنة
…
وسلما، وردتهم لرشد حروبها
وكم من غراب ناعب في رياضها
…
صباحا وقد أحيا الدجى عندليبها
سقاها الحيا بالأمس واليوم عذبت
…
فيا ليت شعري في غد ما يصيبها!
وهل للعوالي رغبة في مثوبة
…
تبارك معطيها وجل مثيبها
وكائنْ لها من مهجة مثل صخرة
…
تذيب الليالي والليالي تذيبها
مضت في الكرى واستعجلت يقظة الوغى
…
وساحتها أم فأين ربيبها؟
ممنعة لا تبتغي عند أمة
…
موزعة أهواؤها وقلوبها
وأخيراً النون
للعلامة الشيخ عبد القادر المغربي عضو مجمع اللغة العربي الملكي
كان بيني وبين بعض الفضلاء نزاع طويل حول كلمة (انسكلوبيدي) اليوانانية الأصل واختيار كلمة عربية تقوم مقامها
والانسكلوبيدي لفظ وضعه الإفرنج للدلالة على المعجم الذي يتضمن كل فن ومطلب من مطالب ثقافات الأمم، ومقومات حضارتها: ففيه كل شيء ما عدا اللغة، فان كلماتها تكفل ببيانها معجم آخر يختلف اسمه باختلاف اللغات.
ولما وضع العلامة البستاني معجمه العربي الجامع لكل فن ومطلب وضع له اسما عربيا مفردا، ثم بدا فغيره إلى اسم آخر مركب من كلمتين. وتتابعت الأسماء والأوضاع على هذا النمط.
(1)
الكوثر؛ بطرس البستاني (سورية) سنة 1876م
(2)
دائرة المعارف؛ بطرس البستاني (سورية) سنة 1876م
(3)
لغات تأرخية وجغرافية؛ أحمد رفعت أفندي (الأستانة) سنة 1882م
(4)
مصور دائرة المعارف؛ علي سيدي ومحمد عزت وعلي رشاد (الأستانة) سنة 1914م
(5)
موسوعة؛ إبراهيم اليازجي (سورية)
(6)
كنز العلوم واللغة؛ فريد وجدي (مصر) سنة 1907
(7)
دائرة معارف القرن العشرين؛ فريد وجدي (مصر) سنة 1923
(8)
محيط المعارف؛ أمر الله أفندي (الأستانة)
(9)
معلمة؛ الأب انستاس الكرملي (بغداد)
(10)
النون
واشتد الجدل في اختيار أفضل هذه الكلمات وأحقها بالقبول، ثم اتفقنا على إهمال ما كان مركباً منها كدائرة المعارف، أما المفردات فالكوثر لا تدل على المراد من (الانسكلوبيدي) كما لا يخفي، و (موسوعة) مختلف في أصلها وسلامة عروبتها، فلم يبق إلا كلمة (مَعْلمَة) التي تدل على معنى (وعاء العلم)
ثم عادت المناقشة فاشتدت حول قبول (المعلمة) وعدم قبولها، وحجة رافضيها إنها إنما تدل
على كتاب فيه علم ولا تدل على معنى الشمول والإحاطة كما هو المقصود من فرد هذا الاعتراض بان (المعلمة) تدل على معنى الكثرة لكونها مصوغة على وزن مَأسَدَة و (مسَبْعَة) ومَذَبَّة، و (مَقشأة) و (مَلَصَّه) أي أرض كثرت فيها الأسود والسباع والذباب والقِثَّاء واللصوص. وقال الأب أنستاس (المْعلمة) فيكون قد أراد إنها كتاب كثر فيه العلم.
فبقى بعض الأخوان مصراً على رفض (المعلمة) مستدلا بان كلمة (مسبعة) وأخواتها الدالة على الكثرة إنما هي صيغ خاصة وقعت للعرب في وصف الأرضيين والأماكن وحدها، حتى أن ابن سيده عقد لهذه الكلمات في مخصصه - جزء 3، ص 205 - بابا عَنْوَنَه بقوله (باب مفَعْلة من صفات الأرضين). فكيف يصح لنا أن نجعلها من صفات الكتب؟ فلم يبق إلا أن تكون صيغة - معلمة - كصيغة - مقلمة - بالقاف بمعنى وعاء الأقلام. وهذا يضعف من أمر اختيارها لتحل محل - انسكلوبيدي -
فقال بعض الأخوان: أن الياس بك القدسي (عضو مجمعنا العلمي العربي بدمشق) كان أشار بوضع كلمة (النون) في مقابل الانسكلوبيدي مستدلا بما جاء في معجم المستشرق المشهور (كازيمرسكى) مترجم القرآن إلى الافرنسية - من أن (النون) في اللغة العربية تكون بمعنى (الانسكلوبيدي) الأعجمية.
فعجبت من قوله، لأن (النون) أن كان المراد بها حرف الهجاء فلا علاقة لها بمعنى (الانسكلوبيدي) وأن كان المراد بها كلمة (النون) التي من معانيها السيف والحوت والدواة فأنها أيضا لا علاقة لها ظاهرة بالانسكلوبيدي
ولم يتيسر لي أن أراجع معجم (كازيمرسكى) العربي الفرنسي، حتى وقعت لي نسخة منه منذ أيام، فوجدته يقول ومن معاني (النون) خلاصة جميع العلوم ولم يذكر كازيمرسكى صراحة أن النون تطلق على الانسكلوبيدي، فعلمت أن الياس بك رحمه الله إنما استنتج كلمة الانسكلوبيدي من قول (كازيمرسكى) استنتاجا. فبقى عالقا في حفظه أنه من قول (كازيمرسكى) نفسه. وحق له هذا الاستنتاج لأن كلمة (النون) إذاكانت بمعنى خلاصة علوم البشر كانت جديرة بان تطلق على الكتاب الذي يضم بين دفتيه خلاصة علوم البشر.
وقد ازددت حرصاً على معرفة المصدر الذي اعتمد عليه كازيمرسكى فيما ذهب إليه. فلم أظفر بشيء في المعاجم اللغوية العربية، لكني رأيت (السيد الجرجاني) يقول في كتاب
التعريفات ما نصه: (النون هو العلم الإجمالي. يريد به الدواة، فان الحروف التي هي صور العلم موجودة في مدادها إجمالا. وفي قوله تعالى (ن. والقلم) هو العلم الإجمالي في الحضرة الاحدية. والقلم حضرة التفصيل اه)
ففي هذا القول رموز لغة وتفسير وعقيدة وتصوف، ألف بينها لحام دقيق يمكن تفكيكه على هذه الصورة:
أن حرف (ن) في الآية أريد به إجمال أو خلاصة للعلم البشري وأن (القلم) الذي ذكر بعد (ن) هو الكفيل بتفصيل ذلك العلم الإجمالي. وأن حرف (ن) إنما جاءه معنى العلم الإجمالي من كونه حرفاً من حروف الهجاء. وحروف الهجاء يتركب منها جميع الكلام الذي يدل على علوم البشر التي إنما يصورها الكاتب بمداد الدواة. فعلوم البشر مدمجة في الدواة، والدواة رمز يذكر بمجموع علوم البشر وثقافاتهم في التمدن القديم، كما أن (المطبعة) رمز يذكر بمجموع علوم البشر وثقافاته في التمدن الحديث
ثم تراجع كتب اللغة والتفسير فنجد بعض المفسرين يفسر (ن) في آية (ن، والقلم وما يسطرون) - بحرف النون الهجائي، كما فسروا بقية الحروف الهجائية في مفتتح السور الأخرى. ونجد الحسن البصري يفسر (النون) بالدواة. فتفطن إلى أن الحسن رضى الله عنه لم يرد بالنون حرف النون الهجائي، وإنما أراد كلمة (النون)، ولكن الحسن البصري السلفي العظيم الذي عاش مع فصحاء العرب وبلغاء الصحابة رضوان الله عليهم - يفسر (النون) بالدواة من دون أن يكون له دليل يستند إليه نبحث فنجد أن الحبر ابن عباس رضى الله عنه يفسر النون في الآية بالحوت وهو سمكة البحر، كما هو أحد معانيها اللغوية. فنتفطن أيضا إلى أن تفسير (النون) بالدواة - وهو ما ذهب إليه الحسن البصري - إنما من جهة تفسير ابن عباس لها بالحوت
ويبقى في المقام إشكال: وهو ما هي علاقة الحوت بالدواة؟ نراجع المفسر النيسابورى فنجده يقول في صدد تفسير الآية: انه بروي عن بعض الثقات أن أصحاب السحر (ويريد بهم أصحاب الصناعات الخفية أو الدقيقة) يستخرجون من بعض الحيتان شيئاً أسود كالنقس (أي الحبر) أو أشد سواداً منه يكتبون به أهـ
ولا يخفي أن الأخطبوط أو غيره من حيتان البحر يستخرج منه سائل كان الأقدمون
يعالجونه ويَليقونه بما يجعله صالحاً للكتابة به
وهكذا نرى ابن عباس يفسر النون في الآية بالحوت، ولكن أي حوت؟ ذهب بعض المفسرين الذي يحبون الأغراب في كلام الله تعالى إلى أن المراد به (الحوت) أخو (الثور) اللذان كانا وما زالا يَنُوآن بحمل الارضين السبع!!
غير أن الحسن البصري رضى الله عنه ما كان من قصاص المساجد أن يذهبوا في تفسير الوحي الإلهي هذا المذهب في الأغراب والتهويل. إذ أن التسامح في ذلك بقصد التأثير في نفوس الدهماء من العامة إن سر عاجلا فانه يسوء آجلا.
وهذا ما حمل الحسن البصري على تفسير (النون) بالدواة تأييداً لابن عباس رضى الله عنه في تفسيره للنون بالحوت.
أما إطلاق (الحوت) وْإرادة الحبر منه فله شواهد كثيرة من اللغة العربية التي يتسع صدرها لأمثال هذا الإطلاق. بل ربما كان له شواهد أيضا في اللغات الأخرى، وها نحن اليوم نقول فيتيل (المدينة الفرنسية) ونريد ماءها المعدني الذي ينبع فيها - وكولونيا (المدينة الألمانية) ونريد ماءها المعطر الذي يصنع ويجلب منها - وجنيه (بلاد غينيا) ونريد الدينار المصري الذي استخرج ذهبه من معادنها - ويقول العرب (نون) أي الحوت، ويريدون الحبر الأسود الذي يستخرج سائله - وأنزل القرآن بلغة العرب وعلى مناحيهم في أساليب البلاغة، فافتتحت السورة بالقسم على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما قاله المشركون فيه وتنبيه المخاطبين إلى عظيم فضل الله على البشر مذ هداهم إلى التسطير والكتابة، والى استخدام أدواتها من حبر وقلم. فكان ذلك سبباً لما بلغوا إليه من علم وحضارة وثقافة.
ولم أرد أن أحقق هنا معنى الآية الكريمة، ولا ما هو الأصح المعتمد في تفسيرها، فان ذلك مبين في تفسيري على (جزء تبارك) المهيأ للطبع - وإنما أردت أن أبين المصدر الذي استقى منه (كازيمرسكى) القول بان النون تدل على خلاصة علوم البشر حتى رأى الياس بك القدسي إنها تصلح لان تقوم مقام الانسكلوبيدي
ولا سيما أن في الإمكان تناول مشتقات مختلفة منها: فيقال مثلا (نّون تنويناً)(منّون)(منّونون) وتؤنث فيقال (النونة) الفرنسية (والنونة الألمانية) والنونة العربية وينسب إليها فيقال فلان صاحب نون ونوني
دمشق
المغربي
الفن والروح
للأستاذ الحوماني أستاذ الأدبالعربي بكلية طرابلس
الفن في الأثر بدعة، وفي المؤثر بدعة وإبداع
فهو في قول إحدى جواري العباسيين وهي تقلب تفاحة أهداها إليها سيدها
يا رب تفاحة خلوت بها
…
تشعل نار الهوى على كبدي
لو أن تفاحة بكت لبكت
…
من رحمتي هذه التي بيدي
هو بدعة أنشأها الفكر بين عاطفة الحب ودقة التصوير، وإما الفن في الشاعرة نفسها فهو بدعة الجمال وإبداع الخيال
ففي الطبيعة في الإنسان جمال تام، وفي غيره جمال ناقص
والفن في الزهرة مثلا شكل ولون وعطر، إذاصح أن العطر في الزهرة مقابل الروح في الفنان، وهذه كل ما في الزهرة من جمال، ولكن الفن فيك - إلى هذه الثلاثة - فكرة تخلق الزهرة في نفسك جميلة الشكل واللون والعطر
الفن في المرئيات نتيجة الفكر والجوارح، وإما هو فيما وراء ذلك فقد يكون وليد الفكر كالفن في الشعر، وقد يكون نتاج الفكر والجوارح أيضا كالموسيقى والخطابة ونحوها
تستطيع أن تتصور حبيبك تصورا تاما، وإما أن تصفه للسامع وصفا دقيقا، أو أن تتناول الريشة وترسم ما تتصور فذلكما ليس في طوقك ما لم تكن فنانا في الشعر والرسم. من ذلك يتضح لديك الفرق بين العلم والفن، فنواة العلم أن تتصور، وإما نواة الفن فأن تتصور ثم تتصور. فتصورك المسألة علم، ثم تصورك إياها فن. من ذلك تدرك فضل الفن على العلم وأنه احفل منه بالخلود
فالأثر الذي ينشأ عن الفكر وهو يكشف عن حقيقة ستار الجهل هو دون الأثر الذي ينشأ عن الفكر وهو يخلق الحقيقة خلقا
فليس للحكمة أن تهب الخلود للشعر وهو عار عن الفن، ولعل النظم الفصيح القاصر على الحكمة بعيد عن حظيرة الشعر للفرق بين قوله:
كبير النفس تلقاه
…
هزيل الجسم من سقم
وقول الآخر في معناه:
إذا سمنت همة في الضلوع=فآيتها البدن الناحل
فليس الجمال في بيان أن هزال الجسم في عظام الرجال ينم على كبر نفوسهم، فقل من تأخذه الروعة لهذه البيان، إذ هو حقيقة مجردة، والعلم بالحقيقة المجردة أزلي في النفوس، ولكن إلباس هذه الحقيقة لونا من الخيال يجعلها حقيقة ثانية لم يسبق لها وجود في النفس فتظهر بها في مظهر الروعة والجلال.
فقد لحظ الفكر في البيت الأخير بعد تصوره المعنى الحقيقي الثابت وهو استلزام كبر النفس إجهاد الجوارح، واستلزام هذا نحول الجسم. . . لحظ الفكر ما يقابل النحول وهو السمن، فشاء أن يجعل السمن الذي هو مقابل النحول علة له وهو من الغرابة بمكان، ثم لحظ الهمة التي هي مناط الطموح المفضي إلى إجهاد النفس فاسند إليها السمن بجامع العظمة بينه وبين الكبر، فصح له إذ ذاك أن يعلل به النحول، فكان من المجموع ذلك خيال يوهم النفس انه حقيقة جديدة فيستهويها بما يبتدعه من خلق ما لم يكن وإيهامها انه قد كان
وإما الفكر في البيت الأول، فقد مر بالحكمة فأبرزها عارية من جمال الفن، فكانت بعيدة عما يصعد بها إلى سماء الشعر، ثم يطبعها على مرآة النفس حية خالدة
فالشعر البسيط المعنى، هو بجمال فنه اعلق بالنفس الشاعرة منه بجلال معناه، وهو بعيد عن جمال الفن
والنفس بطبعها ميالة إلى البحث عما تجهل (حب الاستطلاع) من اجل ذلك يستهويها الغريب فتعلق به حتى إذا الفته وأحاطت به هجرته وملت صحبته، فهي والحقيقة الراهنة قيد حواسها، تتشوف إلى ما وراء الحقيقة، فإذا أخفقت فزعت إلى الفكر فراح يعبث بها ويملأ زواياها إعجابا بما يصوره من أخيلة تتراءى لها حقائق جديدة
فإذا علمت أن الحياة إنما هي حكمة وفن، وأن الحكمة نواميس يسنها في الطبيعة المبدع الأول، وفي الاجتماع المبدع الثاني، وأن الفن هو ما فيهما من جمال، وأن مناط هذه الحكمة العقل، والعقل عرضة للزوال، ومناط ذلك الفن الروح، والروح الخالدة؛ إذا علمت ذلك علمت أن الفن إنما هو قوام الحياة الأسمى، فلم نكن لنرتاد المروج والحدائق لو لم تؤخذ العين بسحر ما في زهورها وشجرها وثمرها من جمال الفن، ولا لندخل منزلا لم تسبغ عليه يد الفن جمالا يستهويك بين آرائك تتخللها المناضد، تعلوها الآنية على احدث فن
يجلل الجدار بالرسوم، والأرض بالفراش والرياش
وقد يستهويك ما تسمع وترى من جمال الفن فيك فيخلق فيك فكرة الإبداع، فيسوغ لك إذ ذاك أن تقول: أن الفن في الأثر بدعة وإبداع ايضا، على انه إبداع الفن في النفس، يؤول إلى إبداع النفس في الفن آخر الأمر
ثم أن للفن في المسموع لطف وقع على السمع، وبعد اثر في أعماق النفس، لن يتوفر في الفن المنظور من حيث تراك وأنت تسمع الصوت الجميل فتهتز، تتصور جمال العازف وهو بعيد عنك بجسمه، وقريب منك بروحه الموقعة على الأوتار ينقلها إليك الحاكي، أو يبعثها إلى روحك توقيع الفنان من وراء الستار، فيتوفر لديك مؤثران: الفن الذي نحسه، وجمال الفنان الذي تتخيله ضرورة انك لا تلحظ الصوت وأنت ترى الشخص الجميل، بينما لا تسمع الصوت الجميل إلا وتتصور جمال الشخص من ورائه
الروح في الفن
في كل كائن ثلاث ميز: جنسه، ونوعيته، وذاته؛ ففي الإنسان مثلا ما يميزه من العجماوات وهي إنسانيته، ثم ما يميز من غيره من أبناء نوعه وهي شخصيته. والشخصية هنا هي ما يميز الشخص من أفراد نوعه في شكله لا في روحه، فالروح لا تلمس إلا بآثارها، ولا يمكن للرسام وهو الشاعر الصامت أن يصورها وهي متصلة بالروح (سر الحياة الغامضة) ولكنه يستطيع إبراز شخصية النوع كآثار النفس الناطقة لما يدل عليها من أمائر تبدو على أسرة الوجه، ورسم الأعضاء على كيفية تشير إلى النفسيات بما عودت الناظر عليه في حقيقة الحي قبل رسمه
فريشة الرسام لا تتناول رسم الأعضاء بما يميز الشخص في جنسه أو نوعه فحسب حتى تتناول شخصيته أي تميزه من غيره من أفراد نوعه، ومناط التفاضل بين أولي الفن إنما هو في إبراز هذه الشخصية مشفوعة بميزة النوع
فإذا لم تقرأ في الرسم ما يقفك عل خصائص نوعه كآثار النفس الناطقة في الإنسان من حيث تفكيره وعواطفه، ثم نسبة هذه الخصائص الكلية في النوع إلى الخصائص الجزئية في الشخص، فلن تستطيع أن تقف من هذا الرسم على روحتلمس من وراءها جمال الفن فيه
فالروح في فن التصوير هي أن تجمع إلى خصائص النفس النوعية فيما تصور خصائصها الشخصية التي يمتاز بها الفرد من غيره من أبناء نوعه
فإذا توفرت هذه في الرسم خلق في نفسك - وأنت تراه - الروعة بما يمثل لك من حقيقة في الخارج حتى كأنك تلمسها بروحك
وهكذا هي - أي الروح - في تصوير الأشياء: جمال في الرسم يلمسك حقيقة ما أوخذ عنه لما تجدك معه معجبا بما تنصفح من خيال رائع
أما الرسوم الخيالية (كاريكاتور) كرموز الآلهة وصور الشياطين ونحوها فمناط الإبداع فيها انفعال نفس الناظر إليها بما خلقت له كالجمال والحب والخير والشر في رسوم الآلهة، وكالإرهاب والتفكهة والحمل على السخرية فيما عداها من الرسوم فروح هنا هي تأثير الرسم في النفس بما رسم له ليصح معنا أن الروح في كلا الأمرين: نقل الحقيقة وخلقها، إنما هي إلماس الرائي حقيقة ما ينقل الراسم أو حقيقة ما يتخيل والروح الفنية تختلف باختلاف فنونها، فالروح في فن الرسم هي غير الروح في فن النظم، والروح في هذين غيرها في فن الموسيقى، فهي في الرسم منتزعة من المرسوم، وإما في المنظوم فهي منتزعة من الناظم. إذ الشاعر يصور غيره في طريقه إلى تصوير نفسه، وإما الرسام فيصور نفسه في طريقه إلى تصوير غيره، فنظم الشاعر مرآة تريك نفسه ونفس الرسام مرآة تريك رسمه
وبأوضح من هذا إنك وأنت تدرس فن الرسم تتلمس روح الفن من حيث اتصالها بالمرسوم قبل الراسم، وفي درسك فن الشعر تتلمس روح الفن من حيث اتصالها بالشاعر قبل ما يشعر به، من أجل ذلك تراك شديد الحرص على معرفة الشاعر لدى سماعك قطعة من شعره هي غاية في الإبداع، بينما ترى الصورة الجميلة على الجدار فتفتتن بها من حيث فنها، ثم لا تجدك شديد الميل إلى معرفة من أبدعها. فلحاظك الشاعر وهو يستهويك بشعره، فوق لحاظك الرسام وأنت تعجب بما يرسم
على أن الفرق بين روحي فن الرسم وفن الشعر جد دقيق، لدقة الفرق بين الرسام والشاعر، ولعل الرسام شاعر صامت
فالرسام وهو يصور لك الحقيقة في الخارج تصويرا حقا هو ابلغ أثرا في الفن منه وهو
يخلق حقيقة ما يرسم، وإما الشاعر فمناط خلوده أن يخلق ما يصوره من الحقائق، لما مر بك من أن الفن إنما هو إبداع، على أن كليهما مبدع كما سيجيء
فليس للفنان في الرسم مهما أبدع في خلق الصور الخيالية (كاريكاتور) ما للفنان في الشعر وهو يتخيل فينتزع لك من الصور الحقيقة صورا خيالية يوهمك إنها حقيقة جديدة
وإذا قصرنا إبداع الفنان في الرسم على تصوير الحقيقة الخارجية تصويرا بالغاً فليس معنى ذلك أن الفنان لم يأت بجديد فيكون هذا القول معارضاً لما سبق من أن الفنان يخلق الحقيقة خلقا، لانا نعتبر تصويره البالغ للحقائق هو خلقا جديدا لها، إذ يوهمك انه عين ما يصور من حقيقة، فيكون هذا الإيهام إبداعا يشير إلى حقيقة ثانية خلقها فكر الفنان.
فالحقيقة التي يخلقها الفنان إما أن تكون متحققة في الخارج مادة وشكلا ثم يصورها لك بشكلها ومادتها حتى كأنك تحس بها حقيقة فيثير فيك الإعجاب لما يوهمك من إنها هي فكأنما قد خلقها خلقا، أو أن الحقيقة التي يخلقها هي نفس الإيهام مشفوعا بما يبعثه فيك من الروعة ولإعجاب
وأما أن تكون تلك الحقيقة المخلوقة متحققة في الخارج مادة لا شكلا كالخيال الذي يبدع الشاعر فانه ينتزع من صور الحقائق الخارجية حقيقة جديدة يوهمك إنها موجودة في الخارج كما في قول ابن خفاجة في نارنجة
وحاملة من بنات القنا
…
أما ليد تحمل خضر العذب
وتندى بها في مهب الصبا
…
زبرجدة أثمرت بالذهب
فالزبرجد والأثمار والذهب كل منها موجود في الخارج، ولكن الشكل الذي أبدعه الخيال منها وهو أثمار الزبرجد بالذهب هو غير موجود في الخارج ولكنه من خلق الخيال.
فالإيهام أذن لا يفارق الفن في الشعر والرسم، فمناط الإعجاز في فن الرسم هي الحقيقة الأولى، ومناط الإعجاز في فن الشعر هي الحقيقة الثانية، وقد يعجز الشاعر في تصويره ما في الخارج من حقيقة كما قد يعجز الرسام في إبداع ما يخلق من حقيقة ليس لها وجود في الخارج
والروح في فني الشعر والموسيقى مصدرها واحد وهو العاطفة، على أن الروح في فن الرسم مصدرها الفكر والخيال، والفرق بين الروح الشعرية وروح الفن الموسيقى هو أن
مظهر هذه هو الصوت من حيث توقيعه وترجيعه، ومظهر تلك هو اللفظ من حيث يبعث في نفسك ما انفعلت به نفس الشاعر وهو يلفظه، وهذه الروح التي نفرق بينها وبين روح الفن الموسيقى، إنما هي الروح التي تقابل الفن والعلم في الشعر لا الروح التي هي داخلة في قوام الفن في الشعر، فان في الشعر روحين أحدهما داخلة في قوام الشعر وهي هذه المعبر عنها بالتأثير النفسي المنتقل باللفظ من نفس الشاعر إلى نفس السامع أو المطالع كما تنقل الأوتار تأثيرات الموقع عليها إلى سامعها
وثانيتهما داخلة في مفهوم فن الشعر وهي المعبر عنها بالذوق الشخصي في الشاعر ينقلها اللفظ من حيث تصويره للحقائق منقولة أو متخيلة، وهذه تتفق مع الروح في فن الرسم من حيث المصدر، فكلتاهما تصدر عن الفكر والخيال
فالروح في فن التصوير تتفق مع الروح في فن الشعر من حيث مصدرهما وهو الخيال والفكر ، وتختلفان من حيث إعجازهما في الإبداع؛ فالأولى إنما تعجز في نقل الحقائق، والثانية إنما تعجز في خلقها
والروح الشعرية التي تقابل العلم والفن تتفق مع الروح في فن الموسيقى من حيث المصدر الذي هو العاطفة، وتختلفان من حيث المظهر، فان مبعث التأثير في نفسك من الأولى هو الصوت من حيث التوقيع والترجيع، ولا مدلول له إلا انفعال النفس من ورائه، وإما مبعث التأثير من الثانية فهو اللفظ من حيث نقله التأثير إليك بواسطة حروفه لا صوته
فمدلول الصوت طبيعي من حيث يتناول ما يختلج في الصدر بلا واسطة، ومدلول اللفظ وضعي يتناول روح اللافظ بواسطة مدلوله الخارجي
فلا بد لنا أذن من العود إلى أن نعيد قولنا في الشعر من أنه علم وفن وروح، فقوام العلم الفصاحة، وقوام الفن الخيال، وقوام الروح العاطفة
الحوماني
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
2 -
مرحلة الكفاح وبداية الظفر للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يشهد التاريخ الحديث ثورة ضئيلة في نشأتها، عظيمة شاملة في
نتائجها كالثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية؛ فان تلك الجماعة
المغمورة التي قامت في ميونيخ باسم حزب العمال الوطني الاشتراكي
بزعامة ادولف هتلر والتي لم تتجاوز السبعة، كانت أول حجر في
صرح الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية التي أخذت
تغمرألمانيالأعوام قلائل من ظهورها، والتي تواجه اليوم مصير الشعب
الألماني.
قامت هذه الجماعة في ميونيخ سنة 1919 على نحو ما بينا وانتظم فيها الضابط الصغير والبناء النمسوي السابق ادولف هتلر، ليتولى بعد قليل زعامتها وتنظيمها، فماذا كانت ترجو وعلام كانت تعتمد؟ من الصعب أن نعتقد أن هذه الزمرة من رجال لا ماضي لهم ولا عصبة، وليست لهم أية كفاحات خاصة، كانت يوم انتظامها تؤمل أن تفوز في ميدان الكفاح السياسي بتلك السرعة المدهشة، لتفرض برنامجها بعد ذلك على الشعب الألماني كله. ولكن تأذى لا ريب فيه أن ظروف ألمانيا عقب الحرب الكبرى، وما سرى إليها من عوامل الانحلال واليأس والفوضى، كانت تفسح مجالا للظهور والمغامرة؛ وكانت أية دعوة إلى الخلاص والنهوض والأمل تلقى في هذه الغمار المظلمة قبولا.
وقد كانت الحركة الوطنية المحافظة التي كانت ميونيخ مهدا لها، تتخذ شعار العمل على إنقاذ ألمانيا من ويلات الهزيمة، ومن براثن الفوضى الاشتراكية والشيوعية؛ فكانت عصبة هتلر تحمل لواء هذه الدعوة، وتعمل في جو من العطف الذي يتمتع به أبان اليأس العام كل من ألقى كلمة الخلاص والأمل. وفي هذا الجو استطاع هتلر أن ينظم حزبه وأن يجمع له الأنصار. وكانت المهمة شاقة، ولكن هتلر استطاع بكثير من العزم والمثابرة والجلد أن يحول عصبته الصغيرة إلى حزب سياسي هو: (حزب العمال الوطني الاشتراكي
الألماني). ووضعت مبادئ الحزب الأساسية في فبراير سنة 1920 في ميثاق وطني يتألف من خمس وعشرين مادة ترمى إلى أغراض خمسة: (الأول) الاستيلاء على الحكم والسلطة. (الثاني) سحق الحركة الماركسية (الاشتراكية والشيوعية). (الثالث) صبغ ألمانيا كلها بالصبغة الوطنية الاشتراكية. (الرابع) تحقيق وحدة الشعوب الجرمانية (المتكلمة بالألمانية). (الخامس) تنقية الجنس الألماني وتطهيره من كل شخص يجري في عروقه دم يهودي أو دم آخر غير آري. ولهذه الغاية الأخيرة التي صيغت في المادة الرابعة من الميثاق، أهمية خاصة؛ لان فكرة الإيثار الجنسي لم تبد من قبل في برنامج أي حزب من الأحزاب السياسية بمثل هذه الصراحة؛ وسنرى إنها غدت منذ استيلاء الحزب الوطني الاشتراكي على السلطة من أخطر المشاكل الاجتماعية والسياسة التي تواجهها ألمانيا، والتي مازالت تعاني من جرائها كثيرا من المتاعب والصعاب.
سار الحزب الوطني الاشتراكي الجديد في طريق التقدم بسرعة، ولقي برنامجه كثير من العطف والتأييد؛ وألفى في حوادث سنة 1923 (مثل نكبة العملة واحتلال الروهر) وما بثته في ألمانيا من البؤس واليأس مهادا خصبة لدعوته، وبلغ أعضاؤه يومئذ نحو ألفين. وأيده جماعة كبيرة من القادة والضباط القدماء وعلى رأسهم الجنرال لودندورف؛ وأيده كثير من رجال المال والصناعة الذين خشوا عواقب تقدم الحركة الشيوعية ولم يدخروا وسعا في مقاومتها؛ وأخذ هتلر يجمع الأنصار حول علمه ذي الصليب المدبب (سفاستكا) وانشأ لحزبه قوة شبه عسكرية لتحفظ النظام أثناء الاجتماعات وغيرها من المناسبات وهي التي غدت فيما بعد جناح الهجوم الشهير وانشأ حرسا من خاصة أعوامه وأنصاره لحمايته وحماية زعماء حزبه وهو المعروف بفرقة الحماية وبهذا اتخذ الحرس الوطني الاشتراكي لونا عسكريا قويا؛ وألفى هتلر في هذا الوقت نفسه (ربيع سنة 1923) في حوادث بافاريا فرصة للقيام بأول محاولة عنيفة. وكانت بافاريا تضطرم يومئذ بحركة رجعية قوية ترمي إلى إسقاط حكومة برلين الجمهورية وإعادة الملكية في بافاريا، على رأسها فون كار رئيس وزارة بافاريا السابق والجنرال فون لوسوف مبعوث (الريخ) - حكومة برلين - العسكري والكولونيل سايزر مدير البوليس. فتفاهم زعماء هذه الحركة مع الجبهة الوطنية الاشتراكية التي يتزعمها هتلر ولودندورف لان الحركتين ترميان إلى غرض واحد؛ واتفق الفريقان
على أن ينظما الزحف على برلين وإسقاط الحكومة؛ ولكن فون كار تخلى عن الوطنيين الاشتراكيين في آخر لحظة، ونظم هتلر وأصدقاؤه الحركة وحدهم، وبدأ الثورة بأن أطلق رصاص مسدسه على سقف محل للبيرة في ميونيخ في اجتماع حافل، وأعلن أن الثورة الوطنية قد بدأت ضد (حكومة برلين اليهودية). ولكن السلطات البافارية كانت على أهبة؛ فقتل عدة من رجال النازي، وجرح الكابتن جيرنج أخص أصدقاء هتلر وساعده الأيمن ولكنه حمل خلسة إلى إيطاليا؛ وقبض على هتلر ولودندورف. وصدر قرار بحل الحزب الوطني الاشتراكي ومنع اجتماعاته - نوفيمبر سنة 1923 - . وبرئ لودندورف ولكن هتلر قضى عليه بالسجن في قلعة لخمسة أعوام - أبريل سنة 1924 - . وزج إلى قلعة لانجسبرج فبقى فيها ثمانية أشهر كتب أثناءها كتابة المعروف (جهادي) وفيه يقص حياته ويشرح مبادئ الحركة الوطنية الاشتراكية وغايتها ويرد على خصومه اليهود. وهو مؤلف لا طرافة فيه ولا قوة، ولا ينم عن مواهب فكرية أو أدبية ممتازة، بيد أنه ينم عما تضطرم به نفس هتلر من عزم وجلد. ثم أفرج عنه. وكان حزبه قد تفرق؛ ولكنه عاد إلى جمعه وتنظيمه بنفس عزمه وهمته، وظهر يومئذ في الجماهير بمقدرته الخطابية وذلاقته وقوة تأثيره. وكان هذا التأثير ومازال اعظم خواصه ومواهبه. وكان يعمل عمله في صفوف الشباب بنوع خاص، إذ كان هذا الشباب الطامح يعانى من صفوف الشقاء واليأس والفاقة أشدها، ويتطلع دائما بحماسة ولهفة إلى طريق الخلاص المنشود. وظهر تقدم الدعوة الوطنية الاشتراكية واضحا في انتخابات مايو 1924، إذ نال حزب هتلر نحو مليوني صوت تخوله في الريخستاج 32 كرسيا. ثم فتر هذا التقدم خلال الأعوام التالية، أولا لتحسن الأحوال الداخلية ولا سيما الحالة الاقتصادية وانتعاش الآمال نوعا، وثانيا لان الحكومة المتوالية أخذت تشتد في مقاومة الحركة لما رأته من تقدمها وخطورتها. بيد أن الحزب الوطني الاشتراكي استمر في كفاحه، وعادت دعوته بعد وفاة شتريزمان وانهيار سياسة الوفاق واضطراب حكومة برلين من جراء ذلك، تسري في الجموع بسرعة، حتى بلغ أعضاؤه في سنة 1931، أربعمائة ألف؛ ونال في انتخابات ديسمبر سنة 1930 نحو ستة ملايين ونصف مليون صوت تخوله في الريخستاج 107 كرسيا؛ ووصل ذروة ظفره في انتخابات يوليو سنة 1932 حيث نال نحو أربعة عشر مليون صوت تخوله 230
كرسا، وهو ما يقرب من خمس أعضاء الريخستاج، وأضحى بذلك أقوى الأحزاب البرلمانية، وقوى أمله في انتزاع الحكم. ورشح هتلر نفسه في ذلك الحين لانتخاب رآسة الجمهورية ضد المارشال هندنبورج فلم يفز المارشال أمام منافسة القوى إلا في الدورة الثانية. وبذلت حكومة فون بابن القائمة وقتئذ جهودا عنيفة لوقف تيار الحركة الوطنية الاشتراكية، وحلت الريخستاج وأجرت انتخابات جديدة في نوفمبر سنة 1932، فنال الوطنيون الاشتراكيون فيها مع ذلك 196 كرسيا. وأضحى الرئيس هندنبورج وحكومة برلين أمام الأمر الواقع؛ وأضحى واضحا انه لا يمكن لأية قوة أن تقف في وجه هذا التيار الجارف، وأن الوسائل المصطنعة لا تجدي في المقاومة، وأن السلطة صائرة إليه بلا ريب. وكان الرئيس هندنبورج قد دعا هر هتلر عقب انتخابات يوليه ليفاوضه في إمكان اشتراكه في الحكم، ولكن هر هتلر أصر على تولى السلطة كاملة غير منقوصة. وهذا ما أباه الرئيس هندنبورج مدى حين. وكان المارشال يبدي في الواقع تردداً في الثقة بالوطنيين الاشتراكيين ويخشى وجودهم في الحكم وقد ظهر ذلك واضحا في موافقته على حل البرلمان أكثر من مرة خلال أشهر قلائل، وفي تفويضه للهر فون بابن ثم من بعده للجنرال فون شليخر، أن يتذرع بالسلطة المطلقة وأن يحكم بمقتضى قوانين الطوارئ، وذلك لأن أحداً منهما لم يتمتع بثقة الريخستاج، ومع ذلك فانه لم يمض على انتخاب البرلمان الجديد شهران حتى كانت حكومة فون شلخير في دور النزع وحتى كان الرئيس الشيخ يفاوض هتلر في تولى الحكم. وقد كان هذا التطور الفجائي في موقف المارشال ومستشاريه مثار دهشة عامة، خصوصاً إذا ذكرنا أن الحزب الوطني الاشتراكي لم يكن يومئذ في ذروة قوته، ولم تكن له في البرلمان سوى أقلية، وكانت قد نضبت موارده وخبت قواه. ومن الغريب أن يكون رجل هذا التطور ومدبره فون بابن لم يدخر أثناء حكومته وسعا في سحق هتلر وحزبه وقد فسر هذا التطور يومئذ بان استدعاء هتلر إلى الحكم لم يكن إلا وسيلة لتحطيم نفوذه وتمزيق حزبه، وأن هذا الاضطلاع بأعباء الحكم ومسئولياته سيصهره ويكشف عن ضعفه، وانه من جهة أخرى لن يتمتع بالسلطة كاملة، وستتخذ الضمانات الكفيلة بكبح جماحه ومنعه من إطلاق العنان لمشاريعه المتطرفة التي كانت تعتبر يومئذ خطرة على مستقبل ألمانياومصالحها ومركزها الدولي. وعلى أي حال فقد وقع الانقلاب
الحاسم أخيراً، وعهد المارشال هندنبورج إلى الهر أدولف هتلر بتولي رياسة الحكم في 30 يناير سنة 1933 ودخل الوزارة معه من أقطاب حزبه الكابتن جيرنج وزيراً للداخلية. ولكن أعطيت وكالة الرياسة ورآسة وزارة بروسيا للهر فون بابن، ووزارة المالية لزعيم الحزب الوطني الهر هوجنبرج، ووزارة الخارجية للبارون فون نويرات ووزارة الدفاع لقائد مسئول مباشرة لدى الرئيس هندنبورج، وبذاأعطيت السلطات الهامة لرجال يثق المارشال بفطنتهم واتزانهم وحسن تقديرهم
على أن هذه الضمانات التي أريد أن يحاط بها حكم الوطنيين الاشتراكيين كانت نظرية، وكان هر هتلر بالعكس يعتقد أن هذه الخطوة إنما هي تحقيق للشطر الأول من برنامجه، وهو الاستيلاء على السلطة؛ ويجب أن يكون هذا الاستيلاء عمليا كاملا. وسرعان ما تدفق تيار الوطنية الاشتراكية منذ المساء الذي تقلد فيه الزعيم (أي هتلر) رآسة الحكم، وهرعت فرق الهجوم ذوي الأردية السمراء آلافا مؤلفة تحي الزعيم في مكتب الرآسة وتهتف له حتى منتصف الليل. ومنذ تلك الليلة ظهر الحزب الاشتراكي في ذروة قوته، وشعر زعماء ألمانياالسابقين وشعر الشعب الألماني كله بان عهدا جديدا سيفتتح. ثم توالت الحوادث بسرعة فوقع حريق الريخستاج في 27 فبراير؛ وكان الريخستاج قد حل مرة أخرى لان هتلر لم يثق بمجلس ليست له فيه اغلبية قوية، ولم يرد أن يبقى تحت رحمة حلفائه اعضاء الحزب الوطني وحزب الوسط الكاثوليكي؛ وتحدد للانتخابات الجديدة يوم 5 مارس فوقع حريق الريخستاج قبله بأيام قلائل، ونسبت الحكومة الجريمة إلى الشيوعيين واتخذتها ذريعة لسحق كتلة اليسار أعني الديمقراطيين والشيوعيين فقبضت على زعمائهم وصادرت مراكزهم وأموالهم وطاردتهم بمنتهى العنف والشدة؛ وصرح الهر هتلر وزملاؤه يومئذ بان لديهم الأدلة الحاسمة على أن الجريمة إنما هي بدء فقط لثورة دموية مخربة واسعة النطاق يدبرها الشيوعيون لقلب الحكومة. ولكن حريق الريخستاج لبث مع ذلك حادثاً غامضا مريبا ولم يقتنع الرأي الخارجي بهذه التأكيدات؛ ووجهت بشأنه شكوك وتهم خطيرة إلى الحزب الوطني الاشتراكي ذاته وعلى أي حال فقد ساعد هذا الحادث على ظفر الهتلريين في الانتخابات فخرجوا بأغلبية قوية وفاز الديمقراطيون مع ذلك بنحو مائة وثلاثين كرسي والشيوعيون بنحو ثمانين وعقد الريخستاج الجديد في 23 مارس؛ ولم يشهد
النواب الديمقراطيون والشيوعيون لأنهم كانوا جميعا في السجن أو المنفى، وفي هذه الجلسة حصل الهر هتلر على تفويض بالحكم المطلق والتشريع لمدة أربعة أعوام، ولم يبق له حاجة بعد ذلك إلى موافقة الرئيس هندنبورج أو توقيعه، وتحققت بذلك الدكتاتورية المطلقة التي ينشدها الحزب الوطني الاشتراكي، ولم يمض سوى قليل حتى انتزع هتلر الوزارات التي كانت بيد حلفائه وشغلها بأصدقائه ومعاونيه، وتوارى جميع الزعماء والقادة الآخرين من الميدان؛ وأضحى هتلر سيد ألمانياالمطلق ومن ورائه حزب زاخر قوامه اليوم خمسة ملايين.
(يتبع)
محمد عبد الله عنان
مشكلات التاريخ
نكبة البرامكة
للسيد مصطفى جواد
لعل أغرب ما وهم المؤرخون فعمي عليهم سبب تدمير الرشيد للبرامكة
أنهم عدوا بني برمك دعاة للعلويين ومذيعين لمذهب التشيع في البلاد،
والمشكلة التاريخية إذا استبهم جانب منها تشعب فيها الظنون واختلفت
الآراء واضطربت الأحكام. ولو علم المؤرخون أن البرامكة كانوا
يتقربون إلى الرشيد بالسعي على العلويين والسعي بهم وتبغضيهم
لوجدوا إلى سبب تلك الفتكة الهاشمية سبيلا، وعلى الجلية دليلا،
ولعلموا أنهم لما حق عليهم العذاب دمرهم الله تدميرا،
لم يكن استئثارهم بالحكم وحده سبب هلاكهم، ولا غزارة ثرائهم مدعاة إلى النقمة عليهم، ولا الزواج الذي اختلقته الشعوبية موجبا لاستئصالهم، ولا إلحادهم منبها على عقابهم، وإنما الندامة التي ندمها الرشيد بعد أن استدرجوه إلى تشريد بني عمه العلويين واستحلال دمائهم الزكية وتعذيب الأبرياء منهم العذاب الهون؛ لم يكن الرشيد ملحداً حتى لا يندم، ولا بليداً حتى لا ينتبه، ولا شقيا حتى لا يتوب، ولا مقصراً حتى لا يتدارك. من شفيعهم إليه وقد ولغوا في دماء بني علي وطلبوا الزلفى بتعذيبهم، وأعلوا مراتبهم بخفض العصبية الهاشمية واجتثاث الشجرة النبوية؟ ولقد جرؤوا بالحادهم وسوء سيرتهم أن (جعفرهم) حز رأس حبيسه العلوي (عبد الله الشهيد بن الأفطس) في يوم النوروز، وأهداه إلى الرشيد في طبق الهدايا، فلما رفعت المكبة من فوق الطبق ورأى الرشيد في الطبق رأس ابن عمه استعظم ذلك، فقال له جعفر: ما علمت أبلغ سرورك من حمل رأس عدوك وعدو آبائك إليك، وكان الرشيد قد حبسه عند جعفر وأمره بان يوسع عليه. وقال ذات يوم: اللهم اكفنيه على يدي ولي من أوليائي وأوليائك، فلم يجد هذا الشقي الكفاية إلا بقتله صبراً لا سيف معه يذود به عن نفسه، ولا بنو علي حوله يحيطونه ويكلأونه، ولا شفيع يرد عنه لؤم الزنادقة، وهو
الذي شهد وقيعة (فخ) متقلداً سيفين ينفح عن حق كان يراه مبزوزاً، ويكافح عن سيد كان يرى نفسه محلاً عن مكانته، فلما أسر أخذه الرشيد وحبسه عند جعفر - على ما قدمنا - فضاق صدره بالحبس وكتب إلى الرشيد رقعة يشتمه فيها شتما قبيحا، فلم يلتفت إلى ذلك لأنه عالم بالعزة العلوية والاستبسال الهاشمي، ولم يأمر إلا بالتوسيع عليه والترفيه عنه، فكان من أمره مع جعفر ما كان.
وقال السيد نعمة الله الجزائري في سبب هلاك البرامكة على يد الرشيد (وقد ذكرنا أن السبب فيه ظاهرة حكاية العباسة أخت الرشيد، وإما السبب الحقيقي فهو دعاء أبي الحسن الرضا - ع - على آل برمك في موقف عرفة لأنهم سعوا بالكاظم - ع - وكانوا أقوى الأسباب في شهادته وهذا التعليل وأن أورده الجزائري على حسب اعتقاده وتربيته الدينية؛ ففيه رد شديد على القائلين بأن هوى البرامكة كان مع العلويين؛ وبلغ الطيش ببعضهم أن جعلوا كل حركة للفرس دعوة للعلويين وطلاباً بحقهم، وانتصاراً لهم، ونشراً لمذهبهم، وأين الزندقة من صريح الإسلام؟
وقال بهاء الدين أبو الحسن علي بن فخر الدين عيسى الأربلي الكردي في ترجمة الإمام موسى بن جعفر الكاظم ما صورته (وكان السبب في قبض الرشيد على أبي الحسن - ع - وقتله ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه. . عن مشايخهم قالوا: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر - ع - أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمد - وكان يقول بالإمامة - حتى داخله وأنس به، فكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه، ثم قال لبعض ثقاته: أتعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج إليه، فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا، وكان موسى - ع - يأنس بعلي بن إسماعيل ويصله ويبره، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغبه في قصد الرشيد ويعده بالإحسان اليه، فعمل على ذلك، فأحس به موسى - ع - فدعا به وقال له (إلى أين يا ابن أخي؟) قال إلى بغداد. قال وما تصنع؟ قال علي دين وأنا مملق، فقال له موسى: أنا أقضي دينك وأفعل لك واصنع.
فلم يلتفت إلى ذلك، وعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن - ع - وقال له: أأنت خارج؟ قال: نعم لابد لي من ذلك، فقال له: انظر يا ابن أخي واتق الله ولا توتم أطفالي: وأمر له بثلثمائة دينار وأربعة آلاف درهم. فلما قام من بين يديه، قال لمن حضره: والله ليسعين في دمي ويوتمن أولادي. فقالوا: (جعلنا فداءك، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله؟ قال: نعم، حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله - ص - أن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله، وإنني أردت أن أصله بعد قطعه، حتى إذا قطعني قطعه الله، قالوا فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى ابن خالد فتعرف منه خبر موسى ابن جعفر - ع - فرفعه إلى الرشيد، وسأله الرشيد عن عمه فسعى به إليه وقال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب وأنه. . .) حتى قال (ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد، ثم دعا السندي بن شاهك فأمره في موسى بن جعفر بأمره فامتثله، وكان الذي تولى به السندي قتله جعله سما في طعام قدم اليه، ويقال إنه جعله في رطب فأكل منه موسى وأحس بالسم ولبث بعده ثلاثاً موعوكا ثم مات في اليوم الثالث. . . واخرج ووضع على الجسر ببغداد. . . فأمر يحيى بن خالد أن ينادي عليه عند موته: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه)
فهذا الدليل الثاني على خطأ من نسب البرامكة إلى التشيع والإمامة، فلقد كانوا حربا على الإمامة وعيونا على التشيع وراءها الفتك والزندقة، ومحاربة الإسلام بلأمته، ونقل علي بن عيسى الأربلي المذكور أن محمد بن الفضل قال:(لما كان في السنة التي بطش هرون فيها بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بهم ما نزل كان أبو الحسن (علي بن موسى الرضا) واقفا بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك فقال: إني كنت ادعوا الله على البرامكة فقد فعلوا بابي ما فعلوا، فاستجاب الله لي فيهم اليوم فلم يلبث إلا يسيرا حتى بطش هرون بجعفر وحبس يحيى وتغيرت حالهم)
فهذا الخبر كالذي أورده السيد نعمة الله الجزائري مضارة بن برمك لبني علي، ولكنه أقدم منه نقلا - كما نعرف من تاريخ المؤلفين - وكلاهما نظر فيه نظراً دينيا، ومع ذلك يدلان على كره الإمام الثامن من الأئمة الاثنى عشر للبرمكة ودعائه عليهم ريه، وقال محمد تقي التبريزي (من الأغلاط المشهورة ما اشتهر من أن البرامكة كانوا من المتشيعة حتى أن
أيدمر بن علي الجلدكي، ذكر في كتاب نهاية الطلب في شرح المكتسب بتقريب: أنه كان سبب بطش هرون الرشيد بهم ما اشتم منهم أنهم يريدون تحويل الدولة من آل العباس إلى آل علي، وذلك كله غلط نشأ من قلة التتبع، فان البرامكة - لعنهم الله - هم الذين سعوا في قتل موسى عليه السلام فان يحيى بن خالد هو الذي بعث علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن أخي موسى على السعاية بموسى عند هرون لداع دعاه إلى ذلك مذكور في كتب الأخبار، والفضل بن يحيى هو الذي بعث بالسم إليه فقتله بأمر هرون وبيد السندي بن شاهك، بل روى أن يحيى لم يكتف بذلك حتى أراد أن يغري هرون بقتل الرضا، فقال هرون: أما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريد أن نقتلهم جميعا؟ وقد رواه الصدوق في العيون (عيون اخبار الرضا) عن صفوان بن يحيى وذكر في آخره أن البرامكة كانوا متعصبين على أهل بيت رسول الله - ص - مظهرين العداوة لهم، وبالجملة الذي يظهر من الأخبار المعصومية أن الله لم يغير ما بالبرامكة من النعمة إلا من جهة سعيهم ومباشرتهم قتل موسى، فكيف يجري فيهم هذا الاحتمال؟) عن صحيفة الأبرار (396: 2)
وهذه شهادة من أقوى الشهادات، فان محمد تقي التبريزي هذا شيخي المذهب فارسي الأصل والبرامكة من جنسه، ولكن الحق عزيز على أهله فلا يضيعونه ولا يفارقونه، وحل هذه المشكلة التاريخية (إن البرامكة إذ أدخلوا الرشيد سياسة البغي واستدرجوه إلى قسوة الحكم وقتل السادة الأبرار الأبرياء من بني عمه تلقفهم بالرأي الحازم الحاسم ووضع فيهم السيف وعراهم بالمصادرة والعذاب، فعفى على آثارهم وبئست عاقبة القوم المكذبين بالدين الساعين في قتل السادة العرب وحفظة الإسلام وأهل الهدى والتقوى، ولو لم يكن لهم من المساعي الخبيثة النتائج إلا قتلهم موسى بن جعفر لاستحل خليفة الزمان قتلهم، فكيف وقد ضحوا بكثير من العلويين وغيرهم من بهاليل العرب؟ فالرشيد أذن قد ندم على ما كان من الغفلة وأسف على أرواح أولئك الأبرياء وفطن لما يريد بنو برمك به وبالإسلام وسادات العرب، فانتقم وتدارك واستغفر، وهل من دليل على ذلك أقوى من قوله ليحيى - وقد نقلناه (أما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريد أن نقتلهم جميعا؟) ومن أنه لما أرسل مسروراً الخادم لقتل جعفر بن يحيى قال له جعفر: بم يستحل أمير المؤمنين دمي؟ فقال له مسرور (قال أمير المؤمنين: بقتلك ابن عمه عبد الله بن الحسن بن علي بغير إذنه. فهذا دليل أصرح ما يكون
على الندم والتوبة وبه تسقط آراء كثير من المؤرخين في نكبة البرامكة، وحسبنا بهذا أننا كشفنا غمة تاريخية بالأدلة الناطقة والبراهين الصادقة، فاستقام بها مجرى من مجارى التاريخ كان متعرجاً ملتويا لا تطرد فيه الحوادث ولا تسترسل فيه الآراء
مصطفى جواد
حول (الوضوح والغموض)
عقد الأستاذ عباس فضلي فصلا طويلا تحت هذا العنوان، تكلم فيه عن غموض الشعر وأسبابه وقيمته، وانتهى في حزم إلى أننا يجب أن نرفض كل شعر غامض لأن الغموض والجمال لا يجتمعان في صعيد واحد، ويظهر أن الأستاذ إنما يريد هذا النوع من الغموض، الذي يتجلل من حنادس الليل بحجب وأستار، فإذا أعملنا فيه عقولنا وأجهدناها ما وسعنا الأعمال والاجهاد، لم نتبين شيئا غير الظلام الموحش، والحلوكة الدامسة، وليس هذا هو الغموض الفني أو الشعري الذي يجعله الدكتور طه حسين سببا من أسباب جمال الشعر، وإنما يريد الدكتور - فيما أفهم - غموضا آخر جميلا، لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه، وتهش له، وتجد فيه لذة ومتاعا كبيراً، وهو أشبه ما يكون بالظلال لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، ومهما كثر هذا الغموض وفاض فلن يحول بيننا وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية وما يغمرها من سحر وإبداع، بل ربما كان هو مثار إعجابنا وتقديرنا، ومبعث سرورنا وغبطتنا، هو غموض حقا، ولكنه غموض ذو بهجة، تقر به النفس، ويسر به الذهن، وما أشبهه بهذه السدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، فلا يزيدها إلا سحراً وجمالا، ولا يزيدنا إلا إعجابا واستحسانا.
وهذا الغموض الشعري له أسباب مختلفة، ولعل كثيراً منها يرجع إلى فقر اللغة وقصورها في الإفصاح عن عواطف الشعراء النفسية، وميولهم، ورغباتهم، فكثيرا ما تعجز اللغة عن أداء المعاني التي تضطرب في صدورهم، وحتى هذه الألفاظ التي ظفرت بالإفصاح عن بعض هذه المعاني، لم توفق في القيام بمهمتها الشاقة توفيقا كبيرا، وذلك لأن المعاني تفصح عنها لا تخضع لشيء خاص محدود يعرفه الجميع، فالمعاني ليست مادية محسوسة، وإنما الألفاظ هي المحدودة بحروف معدودة وفراغ مخصوص، ومما يزيد الموضوع خطرا، أن كل كلمة من هذه الكلمات التي يستعملها الشعراء تعبر عند كل واحد منهم عن حالة مخصوصة لا يشركه معه فيها أحد مشاركة تامة، وما هذه الكلمات إلا حيل وتدابير يستعملونها للإفصاح عن هذه المعاني التي تزفر بها نفوسهم، ولا شك في أن بها كثير من التسامح، كما أن بها كثيرا من الإبهام والغموض، ويخطئ كثيرا من النقاد فيظنون أن لا خلاف بين الحياتين العقلية والنفسية، الواقع أن هناك اختلافا كثيرا، فالحياة العقلية قد درست واستطاع العلماء أن يعرفوا مقدماتها وطرق استدلالها، فكان علم المنطق، أما الحياة
النفسية فلا تزال على أشد ما تكون إبهاما وغموضا، ولهذا كان تحليل الحادثة الشعرية إلى عناصرها، من إحساس، وشعور، وخيال، وعاطفة منشأ غموض كثير ينتشر بين أجزاء القصيدة الواحدة، ومن هنا كان الخلاف كثيرا ما يقوم بين النقاد في فهم القطع الشعرية المختلفة، لأنهم لا يعتمدون على مبدأ معروف للمناقشة والمقارنة، فهم لا يستنيرون بتحليل واضح سابق مشابه للحوادث الشعرية التي يتناقشون فيها، وعلماء النفس أنفسهم يقولون أن الشعور مصدر الإبهام، فما بالنا بالحياة النفسية كلها وما تنطوي عليه من رغبات وعواطف، وميول وشهوات، لا سبيل إلى حدها وحصرها، وإذا كانت هذه هي الحياة النفسية وهي على أشد ما تكون التواء وتعقدا أفلا نسمح لما يخرج منها أن يحمل شيئا من آثار إبهامها ما دام جميلا نشغف به، ونعجب بحسنه وجماله
والواقع أن الأمر لا يحتاج منا إلى إصدار حكم ليفارق الشعر الغموض ويقاطعه، بل إن ذلك يرجع كما رأينا إلى الحياة النفسية ذاتها، وسواء أرضينا أم غضبنا فيستمر الغموض مسيطرا على الشعر حتى تنضج الحياة النفسية، ولا سبيل إلى هذا الإيضاح الآن وتاريخ الشعر يؤيد أن هذا الغموض لازم الشعر منذ نشأته الأولى، فقد كان الإنسان - قبل أن يتحول محيط عواطفه إلى جليد تسطع عليه أشعة الأفكار والألفاظ - يعبر عن هذه الحياة الصاخبة في نفسه بأصوات مبهمة، ولما أخذت الأفكار والألفاظ تقوم بتجسيم هذا التعبير رأى الشاعر الأول إنها عاجزة عن القيام بمهمتها قياما تاما فأضاف إليها الوزن الشعري عله يكمل بنغماته المعنى الذي يريد الإفصاح عنه، وللموسيقى الشعرية شأن كبير في الشعر، وذلك لأنها إذا ارتقت إلى أسمى درجاتها، استطاعت أن تؤثر في نفوس السامعين بدون حاجة إلى فهم الأفكار التي تحملها، فلا يكادون يسمعونها حتى يجدوا لذة جميلة لا يستطيعون أن يرجعوها إلى مصدر سوى هذه النغمات السحرية التي يبثها الشاعر في آثاره الشعرية
وغموض الشعر لا يأتي دائما من الشاعر وشعره بل كثيرا ما يأتي من القارئ وقراءته، فالناس يختلفون في فهم القصيدة بل في فهم البيت الواحد، ولا سبيل إلى كبح جماح هذا الخلاف، لأنه يرجع إلى حوادث سيكولوجية، فأن كل صورة في الشعر أو فكرة فيه حين ينقلها من عالمها الخارجي إلى عالمنا النفسي الداخلي تصادف مناطق من الشعور تختلف
باختلاف القراء، ولهذا ينتهي كل قارئ غالبا إلى صورة أو فكرة لا يشترك معه فيها غيره، ولكي يكون حكم القارئ للشعر صحيحا، يجب أن يكون ماهرا، في إخراج نفسه من كل ما يؤثر فيه، بارعا، في فهم الحالات العقلية التي تلائم الموضوع الشعري الذي يقرأ فيه، كما يجب أن يتخلى عن كل النزاعات فلا يؤثر شيئا لقدمه، وبقائه، ولا يحتقر شيئا لجدته وحداثته
والإبهام كثيرا ما يأتي مما ترمز إليه الفكرة الشعرية، لان الفكرة الفنية لا تلهم القارئ دائما برموز محدودة، فمثلا إذا صور إنسان فتاة رامزا بها إلى الأنوثة ولم يعرف الناس ماذا أراد، رأيتهم يختلفون فيما بينهما اختلافا شديدا، هذا يقول إنه يرمز إلى الجمال، وذاك يقول إنه يرمز إلى الدلال، ويقول ثالث بل إلى الجلال، وقلما يهتدون إلى الرمز الحقيقي الذي أراده الرسام لصورته، وكذلك المناظر الطبيعية فهي لا تملي علينا فكرة محدودة، وهذا هو الذي يجعلنا نقول إن الإنسان يرى من الجمال في المرة الثانية ما لم يره في المرة الأولى، أي إنها توحي ألينا بألوان مختلفة من الأفكار العذبة والصور الساحرة، كلما نظرنا إليها وأمعنا فيها، وليس الأمر كما يظن الأستاذ فضلي من أنه يرجع إلى أننا لا نفهم الجمال مرة واحدة، إذ الجمال ليس مسألة حسابية يعوزها الفهم، ولا تمرينا هندسيا ينقصه البرهان، وإنما هو معين لأفكار كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولن ينضب من هذه الأفكار الساحرة إلا إذا فنيت لا - قدر الله - حياتنا النفسية، ويتبين جمال إطلاق الشعرية من قيود التحديد في كثير من الآثار الشعرية، كما نجد في رواية هملت، فأن الناس يختلفون اختلافا كثيرا في شخصية هملت نفسه، ولا يكاد ينتهون إلى رأي واحد معين، ولكنهم مع ذلك يتفقون على أن هذه الرواية من أعظم أعمال شكسبير إن لم تكن أعظمها، وربما كان يستحسن - لهذا السبب - أن يعتمد الشعر على الإيجاز حتى يصبغ أفكاره بشيء من الإبهام والغموض يسمح لنا أن نستوحي من أفكاراً مختلفة جميلة، ولا يضع الإيجاز من قيمة الشعر بل هو على العكس يرفع منه ويسمو به إلى الأفق الأعلى، وإنما الذي يضع منه حقاً هو الإطناب الذي لا يزال بالفكرة حتى يظهرها عارية أمامنا، فسرعان ما نبتذلها ونحتقرها
وإذن فالغموض الشعري يجب أن نقدره التقدير اللائق به، فلا نغالي في ازدرائه وتحقيره، يجب أن نعرف أنه من أهم أسباب جمال الشعر وحسنه، ومن يدري؟ ربما كان من أهم
أسباب خلود الشعر وبقاءه، فان الآثار الشعرية تشرق عليها الحياة في العصور المختلفة، بينما تبلى القطعة العلمية بمرور الزمن، وتنطمس معالمها، وأكبر ظني أن هذا يرجع إلى وضوح القطع العلمية، فالشيء الذي يتضح أمام الإنسان لا يفكر في ترديده وتكرار النظر فيه. وأي حاجة تستدعي ذلك؟. أما الآثار الشعرية فإنها لا تنضج أمام الإنسان جملة واحدة، ولهذا نحن نقرأها مرة ومرتين وثلاثاً، وقد نحفظها ونكررها ولا نحس بضجر ولا بملل، بل نحن نجد في ذلك لذة مغرية ومتعة طيبة
والغريب كل الغرابة أن الأستاذ فضلي يدعي (أن كل بديع في هذا الكون من منظر إلى صوت إلى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور وتصور) ثم ينتهي إلى أن (الوضوح هو جوهر الجمال) وما أعرف أن أحداً يستطيع أن يوافق الأستاذ على دعواه، بل إن نقاد الفنون المختلفة يكادون يجمعون على أن الوضوح إذا عرض للآثار الفنية أفقدها كثيراً من روعتها وجمالها، والدلالة على ذلك كثيرة فنحن نعجب بنور القمر أكثر من إعجابنا بنور الشمس، وما هذا إلا لأن نوره أكثر إبهاما وأوفر غموضا، وكذلك نحن نعجب بالمناظر الطبيعية تتراءى لنا في ثياب أضواء الفجر الغامضة، أكثر من إعجابنا بها وهي متبرجة في أضواء الهاجرة، ونحن أيضا لا نطلب في الموسيقى انكشافا ولا وضوحا فمشاعرنا تتهيج بالسماع فقط، وليس من الضروري أن نفهمها، بل إن كثيرين يتأذون من فهمها، ويقلقون من وضوحها، والشعر لا يخرج عن بقية الفنون الجميلة، فهو كلما كان أكثر وضوحا، كان أقل قيمة وأدنى درجة لأنه لا ينطق حينئذ إلا بظاهر من القول وضحل من التفكير، نعم هناك مسألة مهمة يجب أن يأخذ الأدباء لأنفسهم الحذر من شرها، وذلك أن كثيرا من شعرائنا افسدوا أذواقنا في حكمنا على الشعر فجعلونا نضن أن بين الجمال والوضوح علاقة وثيقة، لأننا نجدهم يحسون بالضوء أكثر من إحساسهم باللون أو أي شيء آخر، فإذا وصفوا لنا روضا لم يشاءوا أن يصفوه إلا والسماء مصحية، وقرص الشمس يلتهب التهابا، وقلما تحدثوا بشيء عن هذا الروضإذا تنفس الصبح أو بزغ القمر، ولو تدبر شعراؤنا لعرفوا أن الجمال لا يبدوا عاريا مكشوفا أمام العيون، وإنما يتخذ دائما سرابيل تقيه شر الوضوح والابتذال سواء في الطبيعة، أو في الشعر، أو في أي شيء آخر.
شوقي ضيف
بكلية الآداب
مدينة زائفة!
للدكتور عبد الوهاب عزام
قال صاحبي، وأنا أسايره في شارع الكورنيش ليلة من ليالي الصيف: (ما أجمل هذه المدينة! أنظر هذا المهيع الممهد ما بين رأس التين والمنتزه مشرفا على لجة يمعن فيها البصر والفكر إلى غير غاية. وأنظر هذه الأبنية الهائلة الشامخة تزحم السحاب بذراها، وتقابل السماء بمثل نجومها، وتنسج في الأمواج أشعتها، وتأمل هذا العقد من المصابيح الكبيرة، يطوق هذا الخليج الجميل. والسيارات تطوي الأرض ذات اليمين وذات الشمال، فيها المصطافون قد أخذوا من الحياة متعتها، واهتبلوا من الأيام فرصتها، والحان الموسيقى تتدفق من هذه الأندية والمراقص فتموج في الهواء، حتى تختلط بأمواج الدأماء. وهذا البحر الزاخر من الناس، والمحافل المزدحمة بشتى الأجناس يحوطها النظام، ويهيمن عليها القانون والسلطان، ويرقبها الشرط والعسس، كل آخذ بحقه مأخوذ بعدوانه، يا أخي لقد استبحر العمران، وشمل الناس الأمان، وأمكنهم العيش السعيد، واسلس لهم الزمان العصى، وأطلعت لهم المدنية من النعيم ألوانا، وأنبتت لهم من اللذات أفنانا - يا أخي إنها لمدينة. . .
ثم صمت صاحبي، وتمادى بنا المسير حتى ملنا ذات الشمال إلى محطة الرمل فمررنا بباب القنصلية الايطالية، فرأيت بجانب الجدار شبحين ضئيلين فاقتربت أنعم النظر فيهما فإذا طفلان نائمان، جلس أحدهما القرفصاء واعتمد بجانبه على الجدار، وتمدد الآخر على الأرض عرضة لأقدام السابلة، قلت: وا رحمتاه! طفلان شريدان ألجأهما الشقاء إلى هذا الجدار! ويعلم الله ما بهما من السغب والنصب وما لقيا في يومهما وأمسهما، وما يلقيان في غدهما. قال صاحبي:(لا تعجب فأمثال هذين كثير يعثر بهم السائر حيثما ذهب) فأنقلب الأسى في نفسي غضبا على صاحبي قلت: (أرأيتك مدينتك هذه العظيمة، وطرقها المعبدة، وقصورها الشاهقة، ومصابيحها المتلألئة، وسياراتها الخاطفة، ومصطافيها الناعمين، ومراقصها اللاهية، وأنديتها الحافلة!! - أرأيتك القانون والسلطان، والنظام والشرطة والعسس، وهذا العمران المستبحر، والسعادة التي شملت الناس، وألوان النعيم التي طلعت بها المدنية، والعيش الخفض، والزمان المواتي، ومدنيتك الرائع الفاتنة! أليس في هذه
المدينة العظيمة لهذين الطفلين سعة؟ أليس في هذا العمران لهذين الطفلين مأوى؟ أليس في هذه القوانين لهذين الطفلين حماية؟ أليس في هذا النظام لهذين الطفلين موضع؟ أليس في هذه المدنية لهذين الطفلين لون واحد من الحياة؟ أليس في هذه القلوب لهذين الطفلين مرحمة - يا صاحبي! حسبك حسبك! لا تحدثني عن المدنية ونعيمها، لا تخدعني بالمدنية وقوانينها!
أنها لمدنية زائفة!
عبد الوهاب عزام
عام جديد!
بين عام مضى وعام آتى
…
موقف للمنى والذكريات
يهتف الشيخ بالقديم وداعاً
…
ويحي الجديد في السنوات
ويرى الكهل في الشباب مراحا
…
حفلا بالجمال والصبوات
لم يزل طيره على الفنن المن
…
ضور يدعو إلى متاع الحياة
ويغني الشاب بالأمل المعسو
…
ل دنيا خلابة البسمات
أيها العام ما حسابك أيا
…
مٌ تقضت في يقظة وسبات
رب يوم يمر في البؤس عاما
…
وسنين تمر كاللمحات
أيها العام كن على مصر خيرا
…
طال عهد الشقاء والأزمات
فانشر النور والسلام على الوا
…
دي وأطلق سواحر النغمات
يس عبد الله
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 5 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه
د. وضع الشافعي علم أصول الفقه
وفي صدر العهد العباسي تمكن الاستنباط واستقرت أصوله وجعل لفظ (الفقه) ينتهي بالتدريج إلى أن يكون غير مقصور على المعنى الأصلي أي الاستنباط من الأدلة التي ليست نصوصاً واصبح المعنى الأول للفقه هو: (الأحكام الشرعية العملية المأخوذة من أدلتها التفصيلية) نصوصا كانت أو رأياً وسمي أهل هذا الشأن بالفقهاء ونشأ التأليف في الفقه بهذا المعنى وانقسم الفقه إلى طريقتين طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث وهم: أهل الحجاز
ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ومقدم جماعة أهل الرأي الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه هو: (أبو حنيفة) المعتبر أبا لمذهب أهل العراق، أسسه وأعانه على تأسيسه تلميذاه الجليلان:(أبو يوسف) القاضي المتوفي سنة 182هـ - 797م و (محمد بن الحسن) الشيباني المتوفي سنة 189هـ - 804 م
ولئن كان حماد بن سليمان الكوفي المتوفى سنة 120هـ - 737 و738 م هو أول من جمع حوله طائفة من التلاميذ يعلمهم الفقه. مع ميل غالب للرأي. وكان (أبو حنيفة) من هؤلاء التلاميذ فان حماداً لم يترك آثراً علميا مكتوبا. أما أبو حنيفة فيقول صاحب (الفهرست)؛ وله من الكتب (كتاب الفقه الأكبر) - كتاب رسالته إلى اليسقى - كتاب العالم والمتعلم - رواه عنه مقاتل - كتاب الرد على القدرية - والعالم براً وبحراً، شرقا وغربا، بعداً وقرباً، تدوينه رضى الله عنه) ص 202
ويذكر الموفق بين أحمد المكي الحنفي في كتابه (مناقب الأمام الأعظم) آثر أبي حنيفة في
الفقه بقوله جـ1 ص 136، 137: (وأبو حنيفة أول من دون علم هذه الشريعة، لم يسبقه أحد ممن قبله لأن الصحابة والتابعين لم يضعوا في علم الشريعة أبوابا مبوبة ولا كتبا مرتبة إنما كانوا يعتمدون على قوة فهمهم وجعلوا قلوبهم صناديق علمهم فنشأ أبو حنيفة بعدهم فرأى العلم منشرا فخاف عليه الخلف السوء أن يضيعوه ولهذا قال - صلعم -: أن الله تعالى لا يقبض العلم انزاعا ينتزعه من الناس وإنما ينتزعه بموت العلماء فيبقى رؤساء جهال فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون فلذلك دونه أبو حنيفة فجعله أبوابا مبوبة وكتبا مرتبة. فبدأ بالطهارة ثم بالصلاة ثم بسائر العبادات على الولاء ثم بالمعاملات ثم ختم بكتاب المواريث
وإنما ابتدأ بالطهارة ثم بالصلاة لأن المكلف بعد صحة الاعتقاد أول ما يخاطب بالصلوات لأنها أخص العبادات واعم وجوبا، وآخر المعاملات لأن الأصل عدمها وبراءة الذمة منها وختمه بالوصايا والمواريث لأنها آخر أحوال الإنسان فما احسن ما ابتدأ به وختم وما أحذقه وأفهم وأفقه وأمهر وأعلم وأبصر
ثم جاء الأئمة من بعده فاقتبسوا من علمه واقتدوا به وفرعوا كتبهم على كتبه، ولهذا روينا بإسناد حسن عن الشافعي - رح - أنه قال في حديث طويل:(العلماء عيال على أبي حنيفة في الفقه)
وروى عن ابن سريج - رح - أنه (سمع رجلا يتكلم في أبي حنيفة فقال له يا هذا مه، فان ثلاثة أرباع العلم مسلمة له بالإجماع والرابع لا نسلمه لهم،
قال: وكيف ذلك؟ قال: لان العلم سؤال وجواب، وهو أول من وضع الأسئلة فهذا نصف العلم، ثم أجاب عنها فقال بعض: أصاب، وبعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بخطئه صار له نصف النصف الثاني والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يسلم لهم. . . ولأنه - رح - أول من وضع كتابا في الفرائض وأول من وضع كتابا في الشروط. والشروط لا يستطيع أن يضعها إلا من تناهى في العلم وعرف مذاهب العلماء ومقالاتهم لأن الشروط تتفرع على جميع كتب الفقه ويتحرز بها من كل المذاهب لئلا ينقضها حاكم بنقض أو فسخ. . . وقد قيل بلغت مسائل أبي حنيفة خمسمائة ألف مسألة وكتبه، وكتب أصحابه تدل على ذلك)
وجملة القول: أن مذهب أهل الرأي هو الذي رتب أبواب الفقه، وأكثر من جمع مسائله في
الأبواب المختلفة وكان الحديث قليلاً في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل: (أهل الرأي)
وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة، ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شؤون الدولة أكثر.
ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيا بحاجة الدولة التشريعية فكان همه: أن يجعل الفقه فصولا مرتبة يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همه أن يكثر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدد من الحوادث. لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب الفضاء، وكان أئمة قضاة كأبي يوسف، ومحمد. وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بكثرة مسائلهم وقلة رواياتهم
وسئل رقبة بن مصقلة عن أبي حنيفة فقال: (هو أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان، وقد روى هذا القول عن حفص بن غياث في أبي حنيفة: يريد أنه لم يكن له بآثار من مضى) عن كتاب مختصر جامع بيان العلم
ويروى ابن عبد البر في كتاب (الانتقاء) ص 147 (عن الحكم بن واقد قال: رأيت أبا حنيفة يفتي من أول النهار إلى أن يعلو النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه فقلت: يا أبا حنيفة لو أن أبا بكر وعمر في مجلسنا هذا ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكلة لكفا عن بعض الجواب ووقفا عنه. فنظر إليه وقال: أمحموم أنت؟ يعني مبرسما)
أما أهل الحديث - أهل الحجاز - فإمامهم (مالك بن أنس) وكانت طريق أهل الحجاز في الأسانيد أعلى من سواهم وامتن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول (المجهول الحال)، في ذلك
وكتب (مالك) كتاب (الموطأ) أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه
وفي كتاب (تبيض الصحيفة): أن (مالكا) في ترتيبه للموطأ متابع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فان أبا حنيفة ومالكا كانا متعاصرين، وإن تأخر الأجل بمالك وأقدم ما حفظ من المجاميع الفقهية المؤلفة في عصور الفقه الأولى بين السنيين هو (موطأ مالك)
ويقول صاحب الفهرست في سرد كتب مالك:. . وله من الكتب؛ كتاب (الموطأ - كتاب
رسالته إلى الرشيد - ص 199
وكانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مرتية، إلا أن اعتماد أهل الحديث على السنة أكثر من اعتمادهم على الرأي، بل هم كانوا يعتبرون الرأي ضرورة لا يلجأون إليها إلا على كره وعلى غير اطمئنان
وقد روى عن مالك: انه قال في بعض ما كان ينزل فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه: (أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) مختصر جامع بيان العلم ص 192
وكان أهل الحديث يكرهون أن يتكاثر والناس بالمسائل كما يتكاثر أهل الدرهم بالدراهم، وكانوا يكرهون السؤال عما لم يكن، قالوا: إلا ترى أنهم كانوا يكرهون الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل، فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلف وتسطير ذلك واتخاذه دينا!
وفي (الانتقاء): قال (الهيثم بن جميل): (شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري)
ولم يكن أهل الحديث مع ذلك ينكرون اجتهاد الرأي والقياس على الأصول في النازلة تنزل عند عدم النصوص)
ح - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث
ظهر الشافعي والأمر على ما وصفنا من نهضة الدراسة الفقهية في بلاد الإسلام نهضة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العلمية في دولة تريد أن تجعل أحكام الشرع دستوراً لها
ومن انقسام الفقهاء إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سرعة إفهامهم ونفاذ عقولهم وقوتهم في الجدل. وأهل حديث يعتمدون على السنن والآثار ولا يأخذون من الرأي إلا بما تدعو إليه الضرورة
كان أهل الرأي يعيبون أصحاب الحديث بالإكثار من الروايات الذي هو مظنة لقلة التدبر والتفهم (حكي عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال لي: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت. فقال يا يعقوب أني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك ما عرفت تأويله إلى الآن. مختصر جامع بيان العلم ص 182
فأصحاب الحديث كانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر
والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو أشكالا بقوا في أيديهم متحيرين. الرازي ص 38
هم ضعاف في الاستنباط وفي القدرة على دفع المطاعن والشبهات عن الحديث
(يتبع)
صفي الدين الحلي
677 -
750هـ
(شاعر أتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، كما قد أزرى بزهر الربيع في الأرض)
هكذا يصف (ابن شاكر) صاحب فوات الوفيات بلبل الحلة وحماة والقاهرة: صفي الدين. وكأنه إذ يفاخر به الطبيعة في جمال أرضها وسمائها على ما حوى ذلك الجمال من نور وشذا وألوان وسحر، يريد أن يسجل لنا باعترافه دليلا دامغا على أولئك الذين يزعمون أن الأدبالعربي قد أخذته الصيحة يوم حطم التتار عرش المستعصم في بغداد!
نعم هناك أناس يعتقدون أن الأدبالعربي بعد سقوط بغداد قد أجدبت أرضه وهوت نجومه، فأصبح لا ينتج إلا دنئ النبات، ولا يستضئ إلا بخافت الذبالة، وإنه قد ظل عن منابع الوحي فانزوى تحت قبة ذلك العصر المظلم المغمور الذي يسمونه عصر المغول والأتراك أو عصر الدول المتتابعة، ولكن هذا الزعم مبني على نظرية مخطئة ذاعت في مبدأ دراسة الأدب، ثم أخذت معاول الآراء الحديثة تهدمها من كل جانب، وهي التي كانوا يعبرون عنها بقولهم الأدبظل السياسة، فحيثما ولت السياسة وجهها تبعها خيالها، وكلما ألم بها سقم تقاسمته مع خدينها، ولهذا جعلوا عصور الأدبمن حيث القوة والضعف مطابقة التقسيم لعصور السياسة، كأن الأدبشخص قابع تحت عرش الملك يحين أجله إذا انقض عليه العرش فهشم أضلاعه!
لم يمت الأدببعد أن ماتت بغداد، وإنما ألجأته السياسة فقط إلى الفرار من مجال الفوضى والوهن، فهام على وجه قليلا، ثم ألقى العصا في معاقل حصينة يستطيع فيها أن ينصب رايته وينشر بساطه بعد ذلك اللغب والإعياء. كانت هذه المعاقل منبثة في الأقطار العربية ولكنها ترجع جميعا إلى ثلاثة مراكز قوية: مصر كما تمثلها القاهرة، والشام كما تمثلها حماة، وجزيرة العراق كما تمثلها ماردين. وبين هذه المراكز ظل الأدبالعربي يتنقل طليقا حيا معلنا عن نفسه بأفذاذ نوابغ لا يقل بعضهم عن أعلام العصر العباسي في ريعان شبابه، ومن هؤلاء أبن نباتة المصري وصلاح الدين الصفدي، وابن حجة الحموي، وعلاء الدين بن الأثير، وصفي الدين الحلي الذي نتكلم اليوم عنه من حيث هو شاعر.
نشأ صفي الدين بالحلة من مدن العراق مهد الوحي الشعري الغامر شاعرا بفطرته: يحب الشعر ويطرب لما فيه من موسيقى وانسجام، فأكب على حفظ كثير من مقطوعاته وهو لم
يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم كثير من مقطوعاته وهو لم يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم من أمثاله ما توحيه خواطره وميوله في غير تصنع أو كلفة كما يقول هو عن نفسه (كنت قبل أن أشب عن الطوق، وأعلم ما دواعي الشوق، بهجا بالشعر نظما وحفظا، متقنا علومه معنى ولفظا، وامقا بسبك القريض، كارها للكسب بالتقريض) فكانت هذه الفطرة أول عامل في إيجاد تلك القوة الشعرية النابغة، وأكبر مؤثر في توجيه نفسه بعد إلى التفني بالعواطف الصادقة الطبيعية المتصلة بأعماق النفس ورغبات الحياة. ثم اجتمع له عامل آخر شحذ هذه الفطرة وعاونها على السير في اتجاهها وهو ولادته من أسرة راقية ذات قدم في المجد نفخت فيه من روح العظمة فجعلته يهتف بمآثرها ويغرد بمفاخرها، وربته كما ينشأ ولد النبلاء آخذا بقسط وافر من الثقافة العربية السائدة في ذلك الوقت، أو بالأحرى من الثقافة العباسية، لأن تراث الفكر العباسي كان لا يزال هو المثل الرفيع الذي يحتذيه كل من أراد أن يرتوي من مناهل العلم والأدب بالرغم مما أصابه من القضاء السياسي. وإلى هذين العاملين كان هناك سبب ثالث ساعد كثيرا في بناء ذلك الصرح الشعري الباذخ وهو ما ألجأته الحياة إليه من التنقل بين عواصم البلاد العربية: فقد فارق الحلة وهي مسقط رأسه حول عام سبعمائة من الهجرة إلى (ماردين) اكبر قلاع الجزيرة حيث نزل على صاحبها الملك المنصور نجم الدين غازي ثم أبنه الملك الصالح، وهما من أمراء البيت الأرتقي الخاضع لسيادة مصر في عهد السلاطين، ورحل بعد ذلك حول عام 727 إلى مصر نفسها فنزل بالملك الناصر قلاوون، ثم عاد إلى حماة بالشام فاتصل بالسلطان المؤيد عماد الدين الأيوبي وهو المؤرخ الشهير بأبي الفداء وابنه الأفضل، وقد كانا واليين من قبل سلطان مصر أيضا، وذهب إلى الحجاز مرارا لأداء فريضة الحج والزيارة، فكان لهذه الرحلات آثار قوية في إحياء شعره واستغلال قريحته وفي تنمية ثقافته ومقدرته الأدبية. وإذا كان الرجل قد اجتمع له نقاء الغاية ورقي الأسرة وملاءمة البيئة فماذا تنتظر من إلا أن يكون شاعرا فحلا يرفع منار الأدبويحتل له من الخلود مكانا؟!
هكذا كانت دواعي الشعر مهيأة لصفي الدين، فأخذ يصعد إلى قمته حتى أشرف على الغاية وصار أمير الشعر بلا منازع في أقطار الشرق ما عدا مصر التي كانت معتزة إذ ذاك بأميرها الذي لا يباري وهو:(ابن نباتة)، ولما كان العصر الذي نشأ فيه الحلي هو الوارث
لآثار الفكر العباسي بالعراق، وثمرات العصر الأيوبي بمصر، فقد ظهرت طوابع هذين العهدين في شعره، واصبح مرآة حاكية لصورتيهما، ونستطيع على ضوء هذا الحكم أن نعرف الخصائص التي تميز بها شعره من ناحية الأسلوب وناحية المعاني.
أما أسلوبه فقد كان على نمط كبار الشعراء العباسيين في العصر الثاني متين الديباجة شديد الأسر مصوغا من الألفاظ القوية الرنانة المألوفة التداول، إذ كان يواجه كثيرا من عنايته إلى الناحية اللفظية، ويأبى إلا أن يعارض المتنبئ والطغرائي والحمداني وأضرابهم من الفحول، فلا يقصر خطوه عن مداهم ولا يقع دون علاهم. وقد احتذى مع ذلك طريقة القاضي الفاضل التي نشرها بمصر وسرت منها إلى الأدبالعربي جميعه، فملأ شعره بالطباق والجناس والتورية والاقتباس وغيرها من أنواع الصناعة البديعة حتى كاد أسلوبه يعد مثلا كاملا لهذه الطريقة، وأوشك كل محسن بديعي على كثرة فروع هذه الأنواع أن يأخذ حظه من شعره.
ومن الحق أن نقرر أن هذه الظاهرة كانت تعد في ذلك العصر من الأمثلة العليا للشعر، بحيث تقاس منزلة الشاعر بقدرته على تطبيقها واستخدامها في كلامه وخلق المناسبات لها كلما استطاع، كما يتضح لنا ذلك من كتب النقد التي ألفت حينذاك، كخزانة الأدبلابن حجة الحموي، والوافي للصفدي وغيرها، ولهذا لا يجوز لنا أن ننظر إلى تلك الصناعة نظرة فتور أو سخط، بل على العكس ينبغي أن نحكم على كل شاعر بروح عصره ونقيسه بمقياس زمانه لئلا نصدم القديم بالجديد، ونخلط الماضي بالحاضر. وعلى هذه القاعدة يمكننا أن نحكم لصفي الدين بأنه شاعر قدير مفتن استطاع أن يتلاعب بالألفاظ في مجال البديع بمهارة يفوق بها كثيرا من نابهي الشعراء الذين عاصروه أو سبقوه، بل أن الباحث العصري قد لا يملك نفسه أحيانا من الإعجاب بهذه الصناعة التي ينعى عليها لما يبدو له من لطف التقابل والتطابق واللمح والإيماء في معان منسجمة وخيال منتظم. وإذا شئت فانظر إلى قوله:
وما ذاك إلا أن يوم وداعنا
…
وقد غفلت عين القريب على رغم
ضممت ضني جسمي إلى ضعف خصرها
…
لجنسية كانت له علة الضم
ربيبة خدر يجرح اللحظ خدها
…
فوجنتها تدمى وألحاظها تدمى
إذا ابتسمت والفاحم الجعد مسبل
…
تضل وتهدي من ظلام ومن ظلم
تغزلت فيها بالغزال فأعرضت
…
وقالت لعمري هذه غاية الذم
وكم قد بذلت النفس أطلب وصلها
…
وخاطرت فيها بالنفيس على علم
فلم تلد الدنيا لنا غير ليلة
…
نعمت بها ثم استمرت على العقم!
وقد بلغ من قدرته وتجليته في هذه الحلبة أنه ألف قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسون بيتا تشتمل على مثل هذا العدد من أنواع البديع المختلفة كأنها كتاب علمي وضع لضبط هذا الفن بالقاعدة والمثال، ومع ذلك فهي قطعة أدبية قيمة تجمع بين الغزل الرقيق والمدح الرائع والاستعطاف والوصف في سياق مخاطبة الرسول (ص) الذي يتوسل إليه الشاعر بعد مرض عضال شفاه الله منه! ومن أبياتها هذه الأربعة التي جمع فيها أنواع التوشيح والمقابلة واللف والنشر والتذييل والالتفات:
هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة
…
فكيف يحسن منها حال منفطم؟
كان الرضا بدنوي من خواطرهم
…
فصار سخطي لبعدي عن جوارهم
وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي
…
منهم إليهم عليهم فيهمُ بهمِ
لله لذة عيش بالحبيب مضت
…
فلم تدم لي وغير الله لم يدم!
ومع أن صفي الدين عارض كثيراً من الشعراء في العصرين الجاهلي والأموي، وشاهد كثيرا من مظاهر حياتهم في البادية أثناء رحلاته الطويلة، فإننا لم نره يتناول الأوصاف الجاهلية الغربية أو يختار غير الشائع في عصره من الألفاظ السهلة الجارية على الألسن الفصيحة، متأثرا في ذلك شعراء العصر الأيوبي في مصر، وأن كان لم ينزل معهم إلى الذوق الشعبي العام، فكأنه وقف وسطا بين الأسلوب القديم الغامض، والأسلوب الحديث الواضح، ومن أجل موقفه هذا رماه أحد النقاد في عصره بسهم حاد إذ عاب عليه ضعف شعره من الوجهة اللغوية وقلة استخدامه للألفاظ الغربية، فأخذ يرد عليه بهذا البيان القوي الحاسم:
إنما الحيزبون والدردبيس
…
والطخا والنقاخ والعلطبيس
والحراجيح والشقحطب والصع
…
قب والعنقفير والعنتريس
لغة تنفر المسامع منها
…
حين تروى وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر الوح
…
شي منها ويترك المأنوس
أين قولي: هذا كئيب قديم
…
ومقالي: عقبقل قد موس؟
لم نجد شاديا يغني: (قفا نب
…
ك) على العود إذ تدار الكؤوس
لا ولا من شدا (أقيموا بني أم
…
ي) إذا ما أديرت الخندريس
خلي للأصمعي جوب الفيافي
…
في نشاف تخف منه الرءوس
إنما هذه القلوب حديد
…
ولذيذ الألفاظ مغناطيس
فهذه دعاية ثائرة للتجديد تدل على أن شاعرنا لم يكن يحب التقليد الأعمى للأقدمين، وإنما يرى من الواجب أن تتحول اللغة إلى أشكال شتى بحسب ما يقتضيه العصر ما دامت محافظة على قواعدها الأساسية، وقد ذكرنا أن هذه الدعوة ليست إلا صدى لمذهب الشعر المصري سرى في بلاد الشرق العربي حين كان منضويا تحت لواء مصر السياسي والاجتماعي في عهد الأيوبيين والسلاطين.
(يتبع)
ضياء الريس
مِن طرائف الشّعر
وصف القلب
وهي قطعة من عبقريات الوصف ورائعة للعالم الشاعر الأستاذ احمد الزين
مَن لقلبٍ بين الجوانِح عانِى
…
جَمَع اليأسَ والمنى في مكانِ
شاعر في الضلوع يَخفق بالمع
…
نى فيعيا عنه بيانُ اللسّان
كم خيالٍ له يضيق به اللف
…
ظُ فيسمو إليه بالخفقان
وأمانيَّ فيه كالزَّهر منها
…
ما ذَوَى والقليلُ في رَيَعان
فهو راثٍ لما ذَوَى من أماني
…
هـ ومستبشرٌ بباقي الأماني
باكياً شجوَه وآناً نراه
…
يتغنى بأعذب الألحان
فهو كالعُود في يد الدّهر يشدو
…
بالذي شاء دهرهُ من أغاني
قَطَعَ العيشَ بين خوفٍ وأمنٍ
…
ورجاءٍ ناءٍ وآخَرَ داني
فتراه حينا يَلجّ به الوج
…
دُ وحينا يلوذ بالسُّلوان
وتراه يَسيل كالماء لطفا
…
وتراه كالنار في الثَّوَران
صامتٌ وهو لا يِني عن حديثٍ
…
مطمئنٌ في ثَوْرَةِ البرْكان
يا لسلطاِنه القويَِّ ولا شَيْ
…
ء عليه في الأرض ذو سلطان
لا تلمني إذا تبعتُ هواه
…
هو بعضي وآخِذٌ بعِناني
كم حداني إلى هوًى لم يَدَعني
…
فيه أُصِغي لفكرتي وَجناني
قادني للهوى ولو كان يدري
…
ما يلاقيه في الهوى لنهاني
لَجَّ فيه فكان شرّا عليه
…
ليتني قد عصيته إذ عصاني
عَصَفَ الحُبُّ بالقلوب فقلب الْ
…
لَيْث في حرِبه كقلب الجبان
مُضْغةٌ في الضلوع يؤلمها المَسُّ
…
غدت نهبةً لصَرف الزّمان
فوق موجِ الآلام تذهب حَيْرَى
…
كسفين تسرِى بلا رُبّان
فهي بين الأحزان تفَنَى ويحييها
…
خيالُ التعليل والنَّسيان
جَل من صاغَها مُيولا وأهوا
…
ءً ولم يَعْدُ طينةَ الإنسان
وبَرها من الملائكُ نُورا
…
تتراءى في صورة الجُثْمان
فهي بين الضّلوعِ لا تملأ الكفَّ
…
وفيها صحيفةُ الأكوان
موعظة الغاب!
للأستاذ خليل هنداوي
رحتُ للغاب، عليِّ أتسلى
…
عن حظوظ ساءت بمرأى الغاب
هائم الروح في ضواحيه، ناس
…
حزني، حاسد طيور الروابي
تملأ الجو بالغناء، ونفسي
…
لحنها لحن شقوة واكتئاب
والأزاهير ناشرات شذاها
…
في ربيع من الهوى والشباب
قلت يا روحيَ الكئيب تعزَّىْ
…
واستراح، يا فؤاد، بعد العذاب
وانف عني يا غاب بعض شقائي
…
وأرِحْ عانياً من الأتعاب
قال ليْ الغاب وهو يسخر مني
…
والصدى كان منه رجع جوابي:
(أنا أشكو الذي تشكَّيت منه
…
من قضاء يرمي بِزرُق الحراب)
(لا سلام - كما تصورت - عندي
…
كلنا في تنازع وغلاب)
(لا يغرنْك ما ترى من سكون!
…
ضمَّ هذا الكون كل اضطراب)
(ذاك معنى الحياة في كل صُقع
…
من لحوم النعاج قوتُ الذئاب)
(لا تغرنْك زهرة في ربوعي
…
تتسامى فوَّاحة الاطياب)
(لا يغرنْك طائر راح يشدو
…
في الروابي بلحنه المطراب)
(فارتقب! هل ترى يُتمّ غناه؟
…
والقضاء القاسي له في ارتقاب)
(لو تأملتَ في ربوعي لأبصر
…
ت نضالا في الطير والأعشاب)
(كم زهور راحت ضحايا زهور!
…
وعقاب فريسة لعقاب؟)
(فصراع الحياة فوق التراب
…
وصراع الحياة تحت التراب)
قلت يا غاب! ما رأيتك تشكو
…
أنت راض عن القضاء المرابي
قال هل تنفع الشكاة فأشكو
…
قَدر لا يرى طريق الصواب!
فتعلم مثلي السكوت فأني
…
قاهر بالسكوت كل مصاب
أعطه ما يريد، فهو عنيد
…
لا يُداري، وفز ببعض الرغاب
عدتُ والهم عالق بفؤادي
…
عدت والغاب زاد في أوصابي
فتراني - إذا رأيت - صموتاً
…
فتخال الهناء ملء إهابي
غير أني واريت بالصمت همي
…
وبقلبي دفنت صمت الغاب
دير الزور
خليل هنداوي
البريد الأدبي
الحياة الأدبية
حفلة جائزة نوبل العالمية
يعلم القراء أن جائزة نوبل الأخيرة في الأدبقضت بها لجنة التحكيم للروائي الروسي المهاجر إيفان بونين. وقد وقعنا في البريد الأخير على وصف للحفلة التي أقيمت في القصر الملكي السويدي لتسليم جوائز نوبل للفائزين.
ولما كنا نحب أن نسجل في هذا الباب كل حدث أدبي كبير، فنحن ننقلها تنويهاً للأدب، الروسي خاصة، وبمكانة الأدبوالأدباء في العالم المتحضر عامة، وحضاً على رفع الفنون فوق كل اعتبار جنسي أو سياسي
أرسلت الدعوة الرسمية إلى المدعوين قبل يوم الحفلة بأيام عدة، وهي محرر على النحو الآني:
(المرجو من حضرات الفائزين الحضور إلى قاعة الحفلات الموسيقية يوم 10 ديسمبر سنة 1933 في الساعة الرابعة والدقيقة الخمسين على الأكثر لتسلم جائزة نوبل، وسيشرف صاحب الجلالة تتبعه الأسرة الملكية وسائر الحاشية، في الساعة الخامسة تماما لشهود الاحتفال، ويسلم جلالته شخصيا الجوائز المذكورة إلى كل من الفائزين. والساعة المشار إليها توصد الأبواب ويبدأ الاحتفال)
وأهل السويد شديدو المحافظة على المواعيد، فلا يستحب عندهم التبكير عن الموعد المضروب ولا يجوز مطلقاً التأخر عنه
فكان يرى الرائي في الساعة الخامسة إلا عشر دقائق رتلا ممتدا من السيارات وقوفا على مدخل قاعة الحفلات الموسيقية في القصر الملكي باستكهلم. وإذا بسيارة فخمة تقل إيفان بونين - وقد تفضل بإعارتها إياه أحد الأصدقاء، تقف أمام درك الباب الخارجي في الدقيقة المحدودة. وكانت الجموع الحاشدة تزداد احتشادا حول القصر وما يجاوره، وكانوا يعرفون الفائز بجائزة الأدباذ شهدوا صورته منذ إعلان فوزه مراراً في جميع الصحف وفي زجاج المكاتب، وهتفوا له متحمسين، وتنحوا مفسحين له الطريق في احترام ومحبة. وارتقى إيفان بونين الدرك بنشاط، وكان يضيئه سنا المشاعل الأحمر الخفاق. ثم أفضى من دهليز
طويل إلى غرفة صغيرة ملاصقة للمنصة التي تعزف عليها الموسيقى عادة في القاعة الكبرى لحفلات البلاط.
وكان قد سبقه إلى هذه الغرفة زملاءه الفائزون هذا العام من العلماء الجهابذة وكلهم من الانفعال محتقن الوجه أو شاحبه، وهم بالقياس إليه في ريعان الشباب لا يكاد يتجاوز أكبرهم الخامسة والثلاثين من عمره، والى جانبهم إيفان بونين في الثالثة والستين، بشعره الأشيب، ومعارف وجهه الكهل الممطوطة النبيلة، مما جعله أروع طلعة وأكثر هيبة
ولم تكد تنقضي دقائق معدودات حتى غصت القاعة، وتوزع في رحابها كالأشباح المتحركة ألفان من المدعوين هم أعلام العاصمة السويدية، وذاك في سكون ونظام لا تشوبهما شائبة، وكانت بذلة السهرة محتمة بلا استثناء، فالرجال في الزي الرسمي والسيدات في أبهى زينة
وكانت المنصة مغمورة بضياء ناعم لين، مزدانة بأزهار لا عداد لها سويدية الموطن وردية اللون، تتخللها أزهار وأفنان غريبة المنابت مجلوبة. وفي الصدر، لصق الحائط تقريباً، يقوم تمثال نصفي للملك من الشبه يجلله العلم السويدي وأعلام الأمم التي ينتمي إليها الفائزون هذه السنة، والظاهر أن حالة (بونين) الخاصة أثارت في البداية بعض المشاغل، ذلك أن الفائز الروسي خارج على البلاشفة وفي عداد من لا وطن لهم، والسويد معترفة بالدولة السوفيتية. فما العمل؟ لو رفع العلم القيصري القديم لترتبت عليه لا محالة تعقيدات سياسية، كما أنه لا يمكن النظر في رفع الراية الأخرى برمز المطرقة والمنجل. وأخيراً قرر القائمون على الاحتفال تخلصاً من هذه الورطة زيادة علم قومي يمثل صليبا أصفر في ساحة زرقاء
وقبل بدء الحفلة بدقائق قلائل احتل أعضاء المجمع السويدي الجانب الأيمن من المنصة، أما الجانب الأيسر فكانت فيه أربعة مقاعد ضخمة، خلت مؤقتاً، وهي مخصصة للفائزين الذين يتلهفون شوقاً إلى الظهور.
دقت الساعة خمساً، ونفخت الأبواق، ودوى صوت من ركن من الأركان يتعذر تحديده:
- صاحب الجلالة الملك!
ودخل القاعة الملك جوستاف الخامس، نحيف القامة، رشيقاً للغاية، يعرفه الرياضيون في الخافقين. وفي أثره جميع أفراد الأسرة المالكة، والأمراء والأميرات قادمين من أطراف
المملكة، وكبار رجال البلاط. فوقف جميع الحاضرين كرجل واحد، وانحنوا في احترام عميق، بينما كانت موسيقى غير منظورة تعزف النشيد القومي ويترنم معها الحاضرون أجمعون.
حتى إذا جلس الملك استوى الجميع في مجالسهم بخفة ولطف، ثم ما لبثوا أن قاموا بعد لحظة وقوفاً، وأصوات الأبواق تعزف، والسعداء الأربعة الفائزون يدخلون، وكان إفان بونين خاتمة الموكب وإلى جانبه السكرتير الدائم للمجمع السويدي. وبعد أن حيوا الملك ثم شهود الحفلة جميعاً، أخذوا أماكنهم
وهنا في الحقيقة يبدأ الاحتفال
قام أحد أعضاء المجمع، وبنظرة منه ساد الحاضرين صمت مطلق، وألقى خطاباً يعدد فيه مناقب الفائزين من جهابذة العلوم الطبيعية. ودوت الأبواق وملأت القاعة بأنغامها الجميلة. ونزل أحد العلماء الشباب الجهابذة من المنصة إلى القاعة، ودنا من الملك. فصافحه الملك مصافحة قلبية قوية، وعاد الفائز متأثراً ظاهر التأثر إلى مكانه يحمل شهادة، ونوطاً منقوشاً لتكريمه خاصة. وتعالى التصفيق عاصفاً قاصفاً. وتكرر هذا ثلاث مرات للعلماء الثلاثة. وأخيراً جاء دور بونين.
ولقد قضت التقاليد المريعة من سنوات عدة أن تعطى جائزة نوبل في الأدب آخر الحفلة. فهي ختامها. وكذلك كان الحال هذا العام. فلما أن عاد الفائزون الثلاثة الأولون إلى مقاعدهم على المنصة قام سكرتير المجمع - وهو الذي قدمه إلى لجنة التحكيم - قام في تؤدة، وأصلح في شيء من التعالم والتفيهق رداءه، وتوسط المنصة، وتلا بصوت خالجه الانفعال، ثم أخذ يتمالك شيئا فشيئا قراره وجهارته، خطابا باللغة السويدية عن القصصي الروسي، منوها بما بينه وبين تولستوي من واشجة قرابة فنية، مبينا بالتحديد الدقيق مكانته بين كبار المؤلفين الروس المشهود لهم. فلما فرغ من كلمته ترك لغته الاصلية، والتفت إلى إيفان بونين وخاطبه بالفرنسية قائلا:
- إيفان الكسيفيتش بونين، تفضل بالنزول إلى القاعة لتتسلم من يد صاحب الجلالة جائزة نوبل في الأدبالتي منحك إياها المجمع السويدي.
وكانت هذه اللحظة بالبداهة أروع اللحظات في الاحتفال وأشجاها تأثيرا. فقد قامت القاعة
كلها على قدم واحدة من تلقاء نفسها. واجتاز إيفان بونين المنصة، رافع الرأس، ولكنه شاحب اللون من التأثر. وعزفت الموسيقى لحنا مطربا. وطفق الجمع يصفق تصفيق من فاض به شعوره وجن جنونه. وقبل أن يبلغ إيفان بونين إلى موقفه بين يدي الملك تماما كان الملك قد وقف، ومد إليه يده بأريحية عامرة بالمحبة، فانحنى إيفان بونين انحناءة عميقة أمام الملك المعظم يسمع النطق الكريم:
- (أهنئك من كل قلبي! وأني لمبتهج معك بنجاح الأدبالروسي) فأجاب الفائز وصوته لا يخلو من رجفة خفيفة:
- (يا صاحب الجلالة أرجو أن تتقبل مني أجل شعائر العرفان وأعمقها)
وعندئذ ناول الملك إيفان بونين الشهادة في غلاف نفيس، ونوطا من الذهب نقش عليه أسم المؤلف ثم صافحه مرة أخرى
هذا والقاعة لا تني عن التصفيق كأنما تساجل بحماسها الموسيقى وهي تعزف النشيد القومي.
ورفعت الجلسة، ويمم الملك وحاشيته شطر الباب في وسط التهليل والهتاف الحار. ولما أن برح الملك المكان انطلق الجميع معجلين بالخروج لانه لا تمضي ساعة واحدة حتى تبدأ حفلة العشاء الكبرى لجائزة نوبل في حديقة الشتاء بالفندق الكبير
وقد أقيمت حفلة العشاء لثلاثمائة مدعو، في منتصف الساعة الثامنة تماما. فدخل ولي العهد الملكي جوستاف ادولف إلى القاعة والى جانبه مدام إيفان بونين واتجه بها إلى حيث أجلسها في صدر الوليمة في وسط المنضدة الرئيسية. وعلى مقربة من ولي العهد جلس بونين صاحب الجائزة بين الأميرة اينجريد، والامير اوجين من أنجال الملك
والموسيقى تعزف أثناء ذلك أعذب الأنغام
وبدأت الوليمة كالمعتاد بشرب نخب الملك ثم الهتاف له عاليا. وبعد تناول العشاء الفاخر، ألقى بونين بالفرنسية كلمة استغرقت عشر دقائق. وقد طالت الوليمة وامتد بها الوقت إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي صبيحة اليوم التالي في تمام الساعة التاسعة توجه الكاتب الروسي إلى لجنة نوبل وتسلم حوالة بمبلغ 170 ، 331 كورونا سويديا، أو بعبارة أخرى نحو 8000 جنيه وهي اكبر قيمة أصابها كاتب روسي على آثاره الأدبية
(صدقي)
مسئولية القصص عن أشخاص قصته
هل يحتمل الكاتب القصصي مسئولية ما من جراء ما ينسبه لأشخاص قصته من الأعمال والأقوال؟ يحدث أحيانا أن يتصور شخص ما انه لظروف ومشابهات خاصة هو المقصود بالتعريض والتجريح في صورة بطل من أبطال القصة، فهل يؤخذ الكاتب القصصي في تلك الحالة بما كتب؟ أجاب القضاء البلجيكي على ذلك بالإيجاب في قضية أدبية تثير اليوم في الأوساط الأدبية والمسرحية الفرنسية والبلجيكية اعظم الاهتمام
فقد ظهرت أخيرا للكاتب البلجيكي الكبير بيير اوبرمون قصة عنوانها: (تشجع يا مونترشان!) يصف فيها سير المعركة الانتخابية في إحدى نواحي الريف، فلم يمض على ظهورها قليل حتى رفعت عليه قضية من خمس أشخاص يقولون انهم عرفوا أنفسهم في أشخاص القصة وانهم هم المقصودون فيها بالتعريض والتجريح وطلبوا الحكم بالتعويض على الكاتب، فقضت لهم محكمة (هنيو) عليه بتعويض قدره واحد وعشرون ألف فرنك
وقد تناول الكاتب الفرنسي الكبير جورج دوهامل هذه المسألة في مقال يحتج فيه على هذا المبدأ بقوة ويقول: (لعلنا نلزم غدا كما ألزم اوبرمون أن ندافع أمام ثورة المتهوسين والحمقى، ثم أمام القضاء عن كتبنا ومخلوقاتنا، وأبناء عنائنا وتأملاتنا، وربما أرغمنا على أن ننكر نفس مبادئ هذا الفن الذي تغذيه الحقيقة)
(فليعلم قضاة بربان (بلجيكا) والعالم اجمع أن القصصي الحق لا يصور فلانا أو فلانة لكي يغضب أفاضل الناس، ولكنه يقصد ما هو ارفع، فهو يقدم بذلك نصيبه في تاريخ الرجل وتاريخ المرأة. فإذا صور فلانا في صورة ما، أو نسب إليه قولا ما، فانه يؤدي واجبه كشاهد، فلا تطلبوا إليه أن ينظم العالم إذا لم تسمحوا له أن يحكم على المناظر، ولا تلوموه أن يرى بوضوح وأن يسمع الحق، فإنما تؤاخذونه إذا رأى شيئا أو سمع شيئا؛
(ان جميع القضايا المماثلة قد أعيد النظر فيها على يد الجيل اللاحق، وقد أعاد النظر فيها دائما وهو يبتسم)
جائزة جونكور
جائزة (جونكور) من أشهر الجوائز الأدبية في فرنسا لا من حيث قيمتها المادية، فهي خمسة آلاف فرنك فقط (نحو ستين جنيها)، ولكن من حيث قيمتها الأدبية. وقد نالها عن سنة 1933، الكاتب الفرنسي اندريه مارلو، وهو كاتب شاب أمتاز بروعة التصوير وقوة الأسلوب؛ وله عدة مؤلفات معظمها في تصوير الحياة الآسيوية التي درسها أثناء رحلاته في فارس وتركستان والهند الصينية. منح له جائزة (جونكور) عن كتابُه (حالة إنسانية)، فارتفع بذلك إلى ذروة الشهرة، وأضحى عضوا في (أكاديمية جونكور)
وقد انشأ هذه الجائزة الأدبية الشهيرة ادمون لوي جونكور باسمه واسم أخيه الأصغر جول جونكور. وكان الأخوان من اعظم الشخصيات الأدبية في فرنسا أيام الإمبراطورية. وكانت لهما مواهب بديعة في الكتابة والخيال فاشتغلا معا بكتابة عدة روايات تاريخية اشتهرت بقوة خيالها ودقة تصويرها. وكانت لهما آراء ونظريات خاصة في كتابة القصة ذاعت في فرنسا في أواخر القرن الماضي، وكان لها أثر عظيم في توجيه التأليف القصصي في هذا العصر، وولد ادمون سنة 1822 وأخوه جول سنة 1830، وتوفي جول سنة 1870، ولكن ادمون عاش حتى سنة 1896، وفيها وضع وصيته بإنشاء الجائزة الشهيرة، تمنح في ديسمبر من كل عام لأحسن مؤلف أدبي. ولأكاديمية جونكور التي تتألف من الكتاب الذين نالوا هذه الجائزة، والذين يمنحونها للفائزين، مركز أدبي ممتاز في فرنسا، وقد رفعت إلى سماء الشهرة عدة كتاب منهم دوديه، واوكتاف ميرابو، وبول مرجريت، وجستاف جوفردي، والإخوان روزني وكثيرون غيرهم
جائزة فيمينا
ومنحت جائزة (فيمينا) وهي أيضا من اشهر الجوائز الأدبية في فرنسا، وقيمتها خمسة آلاف فرنك إلى كاتبة هي مدام جرمين فوكونييه من اجل قصتها (كلود) ومما يذكر أن هذه الجائزة لم تمنح لسيدة منذ خمسة أعوام
الشاعر الألماني شتيفان جورج
نعت أنباء ألمانياالأخيرة الشاعر الألماني الكبير شتيفان جورج. وهو من أعظم كتاب ألمانياوشعرائها المعاصرين؛ ويعتبر في الشعر والنقد الأدبي من الطبقة الأولى. ولد في
مدينة ريدزهايم سنة 1868. وأنشأ مجلة (صحف الفن) الشهيرة وجمع حوله لفيفا من كتاب ألمانياالبارزين. وامتاز بقوة نقده وروعة شعره؛ وأنشأ مذهبا أدبيا خاصا شعاره التحرر من قيود الماضي؛ وكان أستاذه ومثله الأعلى في التفكير والأدب الفيلسوف نيتشه. وكان لجهوده وجهود زملائه وتلاميذه اثر عظيم في توجيه الأدبالألماني قبل الحرب، وله عدة دواوين شعرية شهيرة منها (سنة الروح) و (الأغاني)(أغاني الحلم والموت)(أيام الحرب وأعمالها) الخ.
المؤرخ الفرنسي كاميل جوليان
توفي في الثاني عشر من ديسمبر المؤرخ الفرنسي الكبير كاميل جوليان عضو الأكاديمية الفرنسية بعد مرض طويل. وقد ولد في مرسيليا سنة 1859، وتخرج في مدرسة المعلمين الشهيرة (النورمال) حيث كان أستاذه المؤرخ الأشهر فوستل دي كولانج؛ وهو الذي قدر مواهبه ووجهه نحو دراسة التاريخ. وبعد أن نال شهادة العالمية، وإجازة مدرسة رومة عين أستاذ للتاريخ في كلية الآداب بجامعة بوردو، وتخصص في تاريخ جنوب فرنسا ودراسته، وأخرج عنه عدة كتب ورسائل تعتبر أعظم حجة في موضوعها، بيد أن أشهر جهوده وأعظمها هو كتاب (تاريخ غاله) الذي أنفق في وضعه عشرين عاما. وهو من أمهات كتب التاريخ الفرنسي، وانتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1924، ونال عدة جوائز أدبية كبرى
دراسات أدبية
ايفان بونين صاحب جائزة نوبل في هذا العام
بقلم محمد أمين حسونة
لم يكن ايفان بونين بالكاتب المغمور أذاع صيته وأنبه ذكره في عالم
الأدبفوزه بجائزة نوبل، بل هو من أقدم الأدباء الروسيين المعاصرين،
وهو يمثل تلك العبقرية المثالية التي نعرفها في تولستوي وتورجنيف
وديستويفسكي
وقد تجلت هذه العبقرية في سمو تفكيره وفي نزعته العاتية بالحياة، وإذا كان مكسيم جوركي يتزعم اليوم الحركة الأدبية في داخل روسيا، فان ايفان بونين يتزعمها في خارجها، تدل على ذلك مؤلفاته القصصية التي نقلت إلى معظم اللغات الحية، ومركزه الأدبي الممتاز الذي يحسده عليه حتى مواطنوه.
ويعد بونين في طليعة كتاب القصة في العالم، ويقوم فنه - كما يصفه جيروم تاردو - على الابتكار والافتنان في الصورة التي بمخيلتنا، وبالأصوات والكلمات التي تطرق آذاننا، والإشادة بتلك العاطفة التي يبررها السرور المنبعث من القلب، وحيث لا تتجاوز أهمية الخير والشر غيرهما مما يحدث في الحياة.
وقد جاء بونين بفكرة كانت تعد غريبة من قبل، وهي أن الفنان يجب أن يكون إلها، لا تحاسبه إلا نفسه، فحياة الفن تتجاذبها عوامل شتى، يتحارب فيها الجميل والدميم، وليس للفنان إلا أن يسمو بفنه فوق هذه العوامل دون أن ينقاد إلى إحدى الطريقتين، وعليه أن يجعل حياته سعيدة طافية.
وتكاد هذه الفكرة التي يدين بها بونين، تبرز من خلال فنه الرائع الذي يبدو قويا في أشكال واضحة بديعة، كما إنها خلاصة أفكاره التي يطالعنا بها في مؤلفاته الخالدة، وقد كتب الجزء الأكبر من هذه المؤلفات بعيدا عن بلاده، وهي تحمل إلى جانب عاطفته المشبوبة وحبه لوطنه، طابع الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى، وفي هذا دلالة واضحة على الحيوية الكامنة في ذهنه
وقد اعترفت بهذا الأكاديمية السويدية وقدرت هذه العبقرية الحية فذهبت تجوس خلال العالم وتفتش في قرية صغيرة في جنوب فرنسا لتخرج منها إلى الناس الفنان الذي عرف كيف يواجه الخطوب ويصمد زمناً في وجه العاصفة فيحتفظ - برغم فاقته المادية بتلك البهجة الموسيقية التي تواتينا رنانة خفاقة، والتي أمكنها بها أن يثبت للعالم أن العبقرية الروسية لم تغرق بعد وأن كانت السفينة قد غرقت بجميع ما فيها!
ظهرت أول أعمال بونين الأدبية في روسيا، عام 1901 وهي عبارة عن مجموعة أشعار نال عنها (جائزة بوشكين الأدبية) وانتخب بعد ذلك بأربعة أعوام عضوا (بالأكاديمية الروسية) حيث جلس مكان تولستوي وجوركي ودستويفسكي وغيرهم من أعلام الأدبالروسي.
وهو يجيد الإنجليزية إجادة تامة، وقد تعلق بدراسة الأدبالإنجليزي منذ حداثته، وترجم إلى الروسية أشعار كبلنج وتينسون وغيرها من الشعراء الإنجليز
وقد فر على أثر قيام الثورة البلشفية وتسجيل اسمه في القائمة السوداء إلى فرنسا حيث يقيم مذ ذلك الوقت في قرية (جراس) التي يخلص لها الحب برغم انتفاء المشابهة بينها وبين مسقط رأسه كما يقول!
ولأيفان بونين مسحة أرستقراطية في كتابته، ويستوي في أسلوبه الغموض والإبهام احيانا، ويتسم أدبه بدقة الملاحظة واستقصاء الفكرة، وانسجام الخيال، والتواء التعبير، وإسهاب الوصف مما قد يضجر القارئ ويدفعه إلى الممل والتبرم، وهو إلى جانب هذا؛ واقعي، كثير التهكم خاصة عندما يتعرض لوصف غباء الفلاحين من أبناء وطنه كما في روايته (القرية)، واكثر ما نلاحظه في فنه (ترديده ذكر الموت، ووصف الموت وحياة العزلة وروح التصوف التي يطالعنا بها بين سطور رواياته.
وايفان بونين اقرب إلى بوشكين في آدابه منه إلى تولستوي أو ديستويفسكي، ولذا يرتسم خطى بوشكين ويعده أستاذه، ونراه يعترف بهذا فيضع تمثاله الهادئ المفكر على عتبة روايته الجميلة (سر الحب المقدس)
وقد أشار إلى هذا الناقد الفرنسي جيروم تاردوفي خطابه عن (علاقة الأدبالروسي بالأدب الفرنسي المعاصر)، وذلك في الحفلة التي أقامتها أخيرا الجالية الروسية في باريس لتكريم
ايفان بونين بمناسبة فوزه بجائزة نوبل فقال:
منذ أن أصدر مليتور دي فوجويه كتابه عن الفن الروائي الروسي، تجلت أمام أعيننا - نحن الفرنسيين - آدابكم الخالدة، وكنا قبل ذلك في حالة جهل ساذج لا نعرف ماذا يكتبون وكيف يفكرون في بلادكم، لا نعلم بوجود تلك العبقرية النادرة التي يمثلها في بطرسبرج وفي موسكو كتاب ومؤلفون ألموا بمختلف نواحي الأدب، وكان من جراء هذا الحدث التاريخي أن تطور الأدب الفرنسي وانتحى ناحية جديدة، فهل هناك روائي فرنسي يستطيع أن يؤكد لنا أنه لم يتأثر بهؤلاء العباقرة في دائرة قوته وذوقه الأدبي
(لقد جاءنا تولستوي بأشياء كانت مجهولة عند أمثال موباسان وفلوبير وستندال، وهي أنه من المستطاع تشييد عمل فني حول مشكلة أخلاقية، وعلمنا دستويفسكي أن في الإنسان شيئا آخر غير الشعور العام الذي أوضحه الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، بل أنه يوجد في كل فرد منا عالم خاص من الشعور الغامض المظلم دفعنا دستويفسكي إلى أن نستكشفه ونتبينه، أما دروس تورجنيف فلم تكن ثمينة إلى هذا الحد، لانه كما يظهر تتلمذ على الأدبالفرنسي ولكن فنه الرائع كشف لنا عن عقليتكم وشعوركم وطبيعتكم.
(وإلى جانب هذه الأسماء العظيمة، يجب أن أضيف اسما آخر، فليس كتاب دي فوجويه وحده هو واسطة التعارف التي بيننا وبين هؤلاء الكتاب، فهناك بريميه الذي يحدثنا عن بوشكين ذلك الفنان الملهم والشاعر الروسي المحبوب، الذي اتضح لي بعد قراءته أن هناك صلة وثيقة بين فنه وأدب ايفان بونين، ذلك الفن الذي يذكرنا - نحن الذين تسممنا بأفكار علماء النفس وعلماء الوعظ - بأنه لا حاجة بنا مطلقا إلى خلط الخير بالشر)
كتب ايفان بونين إلى الآن نحو عشر روايات كلها تفيض بالنزعة الانسانية وتحقيق المثل الأعلى، منها: كأس الحياة، والليل ورجل من سان فرنسسكو، وسر الحب المقدس، ثم (القرية) التي يقول عنها مكسيم جوركي إنها (خير ما كتبه الروائيون عن الفلاح الروسي) والتي أنصف فيها بونين هذا الفلاح - الذي لم تغيره النظم الحالية - خير إنصاف، لأنه إذا كانت القيصرية قد ظلمته، فان البلشفية غمطت حقه وازدرته في الوقت الذي شادت فيه ورفعت من شأن العامل هناك.
وقد أخرجت المطابع في الفترة الأخيرة، رواية بونين الخالدة (حياة ارسنيف) ومن المؤكد
أنه نال بها وحدها (جائزة نوبل)، وقد وصفها أحد النقاد بأنها عبارة عن حياة بونين نفسه، ولكن بونين يدفع هذا يقول:
ان (حياة ارسنيف) تشبه إلى حد ما تاريخ حياتي، ولكنها في نظري اقرب إلى الرواية الحقيقة، ومع ذلك فإني إذا كتبت فإنما استقى فني من ذاكرتي، وهذا ما يجعل بعضهم يظن أني سردت تاريخ حياتي في هذه الرواية. ومما يشجعني على العمل أن المرئيات التي صقلت في ذهني بمرور الزمن هي التي تدفع بي دائما إلى ترديد ذكريات عن الطفولة والشباب والكهولة.
(ويمكن لأي كاتب تعرض لنقد (حياة ارسنيف) أن يطلق عليها اسم (حياة دورانت) أو (حياة ديبون) أو حياة أي شخص آخر، فهي حياة فقط، وحياة رجل في دائرة ضيقة جاء إلى العالم يبحث عما كان بين الملايين من لداته، فهو يعمل ويشقى ويحب ويريق دمه ويجاهد من أجل سعادته فينهض أو يرزح تحت حمل الحياة).
وليس لايفان بونين اتجاه أدبي آخر، بل هو يردد ما سبقه إليه جيته عندما سئل من أنت؟ فأجاب: لا أعلم. . . وأنا سعيد بذلك، فأنا رجل حر وحسب. . . نعم إنني لست جيته، لكنني رجل حر مثله، ومحب لمهنتي، برغم الصعوبات المحيطة بها، إذ إنها تتيح لي حرية العمل والإنتاج وحرية امتلاك نفسي، وقد سافر بونين في أوائل هذا الشهر إلى استكهلم حيث تسلم جائزة نوبل، وسيعود بعد ذلك إلى قرية (جراس) التي ينوي إلا يتركها حتى ينتهي من كتابة الجزء الثاني من (حياة ارسنيف).
العلوم
البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغني علي حسين خريج جامعة برمنجهام
هل يصل العلم الحديث إلى استنباط وسيلة للتخاطب مع أرواح الموتى؟ لا مبرر للقول بأن هذا مستحيل. ويكفي أن نستعرض تاريخ العلوم في العهد الأخير لنرى كم حققت لنا من ضروب المستحيلات. فإذا امتد أجل المدنية الحاضرة، وواصل رجال العلم بحوثهم في هدوء واطمئنان، فقد يتحقق على أيديهم كل حلم وخيال، بل وما لا يخطر ببال.
قد يقال أن العلم الحديث لا شان له بالأرواح. لأن اختصاصه ينحصر في المادة ومحيطها. ولما كانت الأرواح غير مادية فهي من العلم كالثريا من سهيل
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يماني.
هذا القول يبدو صحيحا في ظاهره. ولكن الواقع أن عددا كبيرا جدا من البحوث العلمية في الوقت الحاضر يتعلق بأشياء بعيدة في ذاتها كل البعد عن المادة. خذ المجال المغنطيسي مثلا. فهو عبارة عن دوائر في الأثير تحيط بقطعة الحديد الممغطسة. دوائر غير مادية في وسط غير مادي. خذ أمواج الرديو ومويجات الحرارة والضوء وأشعة أكس، كل هذه أيضا ظواهر غير مادية في وسط غير مادي.
قد تسلم معي بأن هذه الظواهر في ذاتها غبر مادية، ولكن تقول أن يد العلم لم تكن لتصل إليها إلا عن طريق تأثيراتها في الأجسام المادية. فالمجال المغنطيسي غير المحسوس لم يكن العلم ليعترف بوجوده لولا تحريكه لقطع الحديد وأدارته لإبرة البوصلة. وأمواج الأثير لم يكن العلم ليقر وجودها لولا تأثيرها في آلات الراديو أو في الألواح الحساسة. فالعلم أذن لن يعترف بوجود الأرواح المجردة عن المادة إلا إذا استطاعت التأثير في جهاز مادي.
هذا صحيح. ولابد للأرواح المجردة قبل أن تصبح حقيقة علمية من أن تحدث أحداثا محسوسة ظاهرة. وهذا هو السبيل الذي سلكه (سر ألفر لدج) ومن قبله (سر وليم كروكس) و (الفرد رسل ولاس) وحاولوا منه إثبات وجود العالم الروحي إثباتا علمياً، ثم العمل على الاتصال به بوسائل علمية في متناول كل إنسان.
فما هو الجهاز الذي ركبه أولئك العلماء وهيأوه لتستخدمه الأرواح؟ أنه مع الأسف ليس
بآلة حديدية أو خشبية أو زجاجية، وليس مما يصنع أو يباع. هذا حلم لم يتحقق بعد، وأن لم يكن مستحيلاً. الأرواح لا يناسبها إلى اليوم غير الجهاز المخي العصبي العضلي وهو الجسم البشري. ولذلك لا تستطيع أن تتصل بنا إلا باستخدام جسم بشري لشخص يسمونه الوسيط.
فما هو الوسيط؟ وهل يستطيع كل إنسان أن يكون وسيطاً؟ أم هل الوساطة وقف على أفراد معينين؟ يقولون أن الوساطة صفة مجهولة السبب. وأنها من ضروب العبقرية، كالقدرة على الغناء الشجي عند المغني الموهوب، وكالبراعة في الشعر عند الشاعر الفحل. وكما أن كل واحد منا لا يستطيع أن يكون مغنياً أو شاعراً ممتازا، فكذلك لا يستطيع كل منا أن يكون وسيطا. والوساطة كالغناء والشعر متى وجدت بذرتها في الشخص يمكن تقويتها وتغذيتها وإنماؤها بالتعليم والمران، كما يمكن أضعافها وأماتتها بالإهمال والكبت والانصراف عنها إلى غيرها. وهم يقولون أن الوساطة موجودة في عدد من الناس أكبر بكثير مما نتوقع، ولكنها تهمل في الأغلبية العظمى من الحالات. فتموت من تلقاء نفسها إذا كانت ضعيفة، وتحسب شذوذا نفسانيا أو خلقيا أو مرضاً عصبيا إذا كانت قوية
الوسيط كعامل التلفون تذهب إليه وتطلب منه أن يصلك بالعالم الآخر فينيلك ما تريد. كيف يقوم الوسيط بهذا العمل الغريب وعلى أي صورة يؤديه؟ الوسطاء يختلفون في أداء مهمتهم، فمنهم من وهب القدرة على الكشف البصري فهو يرى الأرواح كما يرى الأشباح. ومنهم من لديه خاصة الكشف السمعي فهو يسمع حديث الأرواح وينقلها إلى الأحياء. ومنهم من تستولي الروح على يده وتكتب بها ما تريد دون أن يكون لفكر الوسيط دخل فيما يكتب. ومنهم من يغيب عن رشده ويسلم جسمه كله للروح فتستخدمه كما كانت تستخدم جسمها في حياتها الأرضية.
والوسيط يتناول بطبيعة الحال أجرا لقاء ما يؤدي للناس من خدمة يصرف فيها الوقت والمجهود. لأنه ككل الناس لابد له من أن يعيش. بل هو جدير بالأجر الحسن والعطاء السخي. ولكن أنى لنا أن نثق بصدقه ونطمئن إلى صحة دعواه الخطيرة. ولم لا يكون محتالاً ماكرا يعيش بالادعاء على الموتى وتغفل الأحياء.
لا شك أن مجال الاحتيال واسع في هذا الميدان، وهناك حتما مدعون للوساطة يكسبون من
خدع البسطاء عيشا سهلا. ولكن هذا الصنف في الغالب يعمل في الخفاء، وينفرد سرا بالسذج والأغبياء. أما القول بأن وسيطا يزاول عمله في جمعية علمية سنين متوالية ويجتمع به كل يوم رجال أذكياء اعتادوا البحث العلمي المنطقي المنتظم يكون مدعيا ومحتالا، فقول بعيد جدا عن المعقول وهو مرفوض بالبديهة.
الواقع أن جمهور العلماء اليوم يعترف بوجود أفراد لهم مواهب نفسانية غريبة تمكنهم من أن يدلوا إليك بمعلومات جمة عن نفسك وأسرتك، ومن مات من معارفك، مما يستحيل أن يكون قد وصل إليهم علمه من طريق طبيعي معتاد، والخلاف بين العلماء ينحصر في تعليل هذه الظاهرة، وهل هي اتصال بكائنات حية غير منظورة مما نسميه الأرواح أم لها سبب آخر
هناك تعليل آخر يصح أن تعزى إليه هذه الظاهرة وهو قراءة الأفكار أو ما يسمونه بالتلباثي فقد ثبت بالتجارب العلمية الصحيحة أن بين الناس من يستطيع استطلاع ما في فكر الآخرين دون أن يحتاج في ذلك إلى إشارة أو لفظ. وقد اجرى العلماء في ذلك تجارب عديدة، فإذا طلب من أحد الحاضرين حصر فكره في شيء معين استطاع هذا الموهوب بعد فترة من السكون أن يعرف ذلك الشيء، فيمكن القول أذن بأن ما يدلى به الوسيط وينسبه إلى الأرواح يحصل عليه كله من أفكار الحاضرين.
ولكن الوسيط يدلي أحيانا بمعلومات ليست في ذهن أحد من الحاضرين في ذلك الوقت، فكيف نعلل هذا؟ يكمن تعليله بأن الوسيط يقرؤه من العقل الباطن لأحد الحاضرين. إذ لكل إنسان عقل باطن تستقر فيه ذكرياته وكل ما مر به مما لا يفكر فيه في وقته الراهن. فلعل لدى الوسيط القدرة على ولوج هذه الناحية العجيبة من العقول ليستخرج ما يشاء منها كلما شاء.
ولكن ما قولنا فيما يدلي به الوسيط أحيانا مما لا يمكن أن يكون قد مر بذهن أحد من الحاضرين يوما ما؟ أن الوسيط ينسب أصله إلى الأرواح التي تخاطبه، فهل نسلم معه بهذه الدعوى الخطيرة، ونتخذ من ذلك دليلا علمياً على صحة وجود العالم الروحي والحياة الآخرة؟ أن بعض العلماء يميل لهذا الفرض. . ولكن البعض يميل إلى فرض آخر وهو القول بأن الميت أثناء حياته كان قد فكر فيما ينسبه إليه الوسيط فانتقلت أفكاره إذ ذاك إلى
عقول الأحياء بطريق التلباثي واستقرت في عقلهم الباطن، ثم استطاع الوسيط أن يستخرجها من عقلهم الباطن بطريق التلباثي.
أي الفرضين يا ترى هو الصحيح؟ أظن أن الفرض الثاني هو محاولة بعيدة وتعلق بالقش لإنقاذ الفلسفة المادية من الغرق بعد أن غاصت تحت الماء.
سنواصل هذا المبحث الواسع المتشعب في فرص أخرى أن شاء الله.
تأزين الهواء
دخل الشتاء وبدخوله تسد المنافذ وتغلق الأبواب منعا للبرد، وتزدحم الحجر بالناس طلبا للدفء، فيفسد هواؤها وتسوء رائحتها ويثقل جوها، ويعتري أهلها استرخاء وهمود، فإذا سألتهم عن سر هذا قالوا: فسد الهواء، وإذا سألتهم عن علاجه قالوا فتح الشبابيك، وهم في تسبيبهم وتطبيبهم مصيبون، ولكنها إصابة مبهمة أدركتها الفطرة دون العلة، وساقتهم إليها البديهة التي لا يعرفون لها سببا
زعم الفسلجيون يوما أن إخمام الحجر وثقل جوها يرجع إلى سببين: أولهما زيادة غاز الكربون في الهواء بالتنفس، وثانيهما زيادة حرارة هذا الهواء. وكلاهما علة خاطئة حسب ما أجمع عليه علماء اليوم وذلك أن غاز الكربون يوجد في الهواء الطلق العادي بنسبة جزء من كل 1100 جزء من الهواء، وقد أجروا تجارب على الإنسان فوجدوا أنه يستطيع العيش بلا ضيق ولا تأفف في هواء نقي يحمل 3 % من غاز الكربون، أعني يحمل ثلاثين قدرا مما يحمل الهواء الطلق. كذلك وجدوا أن الإنسان يستطيع المكث ساعات في الحمامات العامة الحارة المسماة بالتركية، دون أن يحس بشيء مما يحس به في الغرف الخامَّة المزدحمة بالخلق، بل على النقيض هو يستمتع بدفئها وقد تبلغ حرارتها الخمسين
السبب الأول في اخمام الحجر ليس غاز الكربون، وليس ارتفاع درجة الحرارة، وأن كان لهما حظ في تسبيبه فهو حظ ضئيل لا يتناسب مطلقا مع شائعة السوء التي شاعت عنهما. إنما يرجع سبب هذا أو أكثره إلى دقائق صغيرة من مواد عضوية تنبعث في الهواء من الرئتين والجسم على السواء، دقائق ولكنها فعلها جسيم، فهي مواد سامة مهيجة تُعلِ الهواء فتحدث في الجسم علة مبهمة يعبر عنها باختلال المزاج. ولهذه المواد فوق ذلك فعل في الجهاز العصبي. فهي تسكنه وتمهده، وبخاصة بسبب ما تحمل من رائحة كريهة، وبتفتر الجهاز العصبي يعجز الجلد عن أداء وظائفه التي منها تبريد الجسم، وعندئذ تكون حرارة الحجرة ضغثا على ابالة، تزيد في ضيق الإنسان وحدة مزاجه
وعلاج هذه الحالة هو بالطبع في التخلص من هذه المواد، وأيسر طريق للتخلص منها في حيز محدود يكون بأكسدة هذه المواد لتستحيل إلى أجسام أبسط لا ضرر فيها. وهذه طريقة الطبيعة ذاتها في التخلص من هذه المواد، فهي تستخدم الأزون لأكسدة هذه المواد. وهو غاز تصنعه الطبيعة من أكسجين الهواء، وهو يتكون فيها كلما تبخر ماء أو تكهربت سماء،
لا تلك الكهربة الصامتة التي تحدث البرق والرعد، بل تلك الكهربة الصامتة التي تتفرغ بين السحاب والسحاب ولا يحس بها أحد. وهذا التفرغ الصامت للشحن الكهربائية هو الذي يستخدم في تأزين الهواء في الصناعة، أي بحالته إلى أزون، وهو عمل أشبه شيء بالتكثيف، فجزيئ الأكسجين يتركب من ذرتين من الأكسجين، أما جزيئي الأزون فيتركب من ثلاث ذرات، وهو لذلك ليس له استقرار الأكسجين، فهو لذلك فعال، لا يلبث أن يلتقي بأمثال تلك السموم التي نحن بصددها حتى يهاجمها فيعدمها، لا يعدمها بالمعنى الدراج، بل هو يحيلها إلى ما لا ضر فيه
وقد وجدت الصناعة في هذه الأيام واهتمت حتى بهذه الناحية، بإصلاح الهواء بعد فساده دون فتح النوافذ والتعرض لأخطار الهواء البارد والتيار اللافح الباغت، فخلقت مؤزناً سهل الحمل تضعه في حجرتك أو مكتبك أو صالة استقبالك أوفي أي مكان به رئات عديدة جادة في التنفس، وتصله بمنبع الكهرباء من الحائط، فيتؤزن لك الهواء فيظل مع انحباسه طاهرا نقيا. وهو فوق ذلك جهاز رخيص، فهو يعمل 200 ساعة ولا ينفق غير وحدة من الكهرباءة واحدة
(ز)
استدراك
فاتنا أن نذكر الجمل الشارحة تحت الأشكال الثلاثة التي نشرت في العدد الأخير بموضوع (في النبات وحشية وأنيسة) للدكتور أحمد زكي، واستدراكا لذلك ننشر هذه الجمل ليرجع إليها قارئ المقال في فهم هذه الأشكال. يكتب تحت الشكل الأول (طريقة حصاد القمح الأمريكي. بالآلات في ولاية وشنطون) وتحت الشكل الثاني (إناء جنائزي في شكل بطاطستين من قبر في شنبوطي في بيرو بأمريكا الجنوبية) وتحت الشكل الثالث (آله الذرة عند أهل بيرو القدماء وكان يدفن في الحقل وسيلة لنمو المحصول. وهو يصنع من مطر الذرة (كيزان الذرة))
القصص
الحقيقة
للآنسة سهير القلماوي ليسانسييه فى الآداب
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
(قرآن كريم)
تململت في فراشها وظلت تنظر ذات اليمين وذات الشمال ثم تغمض عينيها وتفتحهما ثانية وتفكر أين هي هيه. . . أين هي؟. . . آه! هي في المستشفى، وقد جاءت إليها منذ أيام؟ منذ أسابيع؟ منذ شهور؟ لا تدري. ولكن لم جاءت؟ يقولون إنها مصابة بمرض عقلي أنهك أعصابها. وحياتها في خطر من جرائه. ها ها! مضحك! أهذا كل ما في الامر؟. . . ولكن أين أختها؟ لقد كانت جالسة هنا منذ حين، ولقد أوصتها أن تكتب كل ما تمليه عليها، ولكن الظاهر انه لم يكن هناك ما يملى فقامت. وضحكت ضحكة عصبية عالية. ها ها! الساذجة! إلا تدري إن رحلاتي في عالم الأرواح اصبح يحوطها جو من غريب، جو يقبض الأنفاس فلا أستطيع التحرك ولا التكلم ولا. . . ولا التفكير. . ترى هل أوفق؟ أعينيني أيتها القوى الخفية، أعينيني، ارحميني، فما في مطالبي إجحاف ولا ظلم ولا طمع. كل ما أريده هو أن اعرف الحقيقة.
دخلت الأخت ودلائل السهر بادية عليها: اصفرار في الوجه، وورم في العينين، وخمول ووهن في الأعصاب.
(أين كنت؟ آه من لي بهذا الاطمئنان، بل هذا البرود الذي يسود حياتك. أنت لا تعرفين عما أريد أن أعرف شيئا، ومع هذا أنت لا تأبهين بشيء. إيمان مطلق وهدوء تام. ثم هؤلاء الأولاد، أولادك ماذا علمتهم عن الحياة، عن الموت، عن الله، عن الحساب، عن الروح. . . لا شيء، لا شيء، لأنك لا تعلمين شيئا، ولا تردين أن تفكري لتصلي إلى شيء)
(كفاك أختاه ما أنت فيه من وهن الأعصاب. أريحي رأسك قليلا. لقد شغلت هذه المسائل رؤوس آلاف الناس قبلك، وستشغل رؤوس آلاف الناس بعدك. ولن يوفق إليها أحد لأن الله أراد ذلك، وإرادة الله ليس لها مرد.) فصاحت فيها
(لم بنه الله عن البحث والتفكير، ولم يأمرني إلا اعرف شيئا عن هذه الاشياء، اقتربي هنا، ماذا كتبت؟ لا لا أريد شيئا من هذا، اكتبي ما أمليه عليك كله، اكتبيه رسالة مني إلى أهل هذا العالم كلهم، سأعرف الحقيقة اليوم، ستقودني إليها قوة خفية لا أعرف عنها شيئا الآن ولكني سأعرفها بعد حين. إياك أن تفوتك كلمة واحدة أو إشارة واحدة. أفهمت؟)
(نعم اختاه، سأكتب كل شيء)
لقد كانت دائمة الصمت كثيرة التفكير. اتسعت دائرة تفكيرها على مدى الأيام حتى شملت اعوص ما فكر فيه الإنسان وأغمضه. ولم تصل إلى العشرين من عمرها إلا وشغل تفكيرها هذا الكون بما فيه من قوى خفية. قوى تتلاعب بالإنسان كيفما شاءت، وهو لا يدري من أمرها شيئا. يحاول ويحاول ولكن سرعان ما يعرف ضآلة المرحلة التي اجتازها أمام ذلك الخصم المظلم من الأسرار والخفايا.
أشفقت عليها أمها مما هي فيه، وحاولت أن تدخل إلى تلك النفس المفكرة الصامتة الحزينة بعض ما يسليها أو يريح فكرها، ولكن نصيبها كان الفشل المؤلم.
وهاهي ذي الأيام تجري سريعة والأم يزداد اشفاقها، وخوفها والفتاة يزداد نحولها وضعفها، ويزداد احتقارها لكل شيء في العالم إلا ما تفكر فيه. كل متعة تنظر إليها كما ينظر الشاب إلى ألاعيب صباه، وإذا ما رغبها أحد في أي لذة أو سلوة هزت كتفيها وقالت:! (لست أدري ما هذه السذاجة؟ لقد القي إليكم مدبر هذا الكون بهذه الألاعيب لتلهوا بها عن اللذة الكبرى: لذة العلم، لذة معرفة الحياة وما بعدها.)
ساءت حالها على مر الأيام فأرغمت على ملازمة الفراش في مستشفى الأمراض العقلية، ولكن ذلك لم يمنعها من مواصلة التفكير. وكثيرا ما قرأت في كتب الدين، وكثيرا ما قرأت القرآن، تقف عند بعض آياته فتسترسل في التفكير العميق، وكثيرا ما وقفت عند الآية (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وحملت الآية أكثر ما يمكن من معاني الاستهزاء والسخرية (وهؤلاء الناس لا يعلمون شيئا، ولكنهم لا يجتهدون في أن يعلموا شيئا. قنعوا بما لهم وفسروا العلم بتلك المحاولات التافهة التي يقضون العمر في تحصيلها وكأنها هي العلم، لقد انشغلوا عن العلم الحق، عن أهم ما يتشوقون إليه. لقد خدعوا أنفسهم والبسوها ثوبا من الإيمان والاطمئنان وهم يعلمون في قرارة نفوسهم انه ليس إلا مبردا للنار المتقدة،
وملطفا لهذا التطلع الغريزي)
جلست الأخت قرب سرير أختها وأخذت تلاحظها وتدون بعض هذه الملاحظات، وانتظرت والقلم في يدها أن تكتب ما تمليه عليها كما وعدت، ولكن النعاس غلبها فنامت. لم يطل نومها حتى قامت فزعة مذعورة على صوت أختها المحشرج وهي تصيح صيحة منكرة قائلة (لن تفتر عزيمتي مهما سرت، فسر بي أيها النور، سأتبعك، سأتبعك فوق الجبال، في أعماق الانهار، في السماء، في جوف الأرض تعلو وتنخفض ولكني اتبعك. لن ارجع كما رجعت قبل يوم، ولن انظر إلى نفسي فتشغلني عنك، سر أنا وراءك.)
كتبت الأخت واستمرت هي تقول (بدأت افهم، نعم عرفت، ولكني لا أقوى على التعبير عما اعرف، لماذا!؟. . . . كلا لن أفكر في هذا، سر، سر، أيها النور إني وراءك، آه ألهذا إذن نموت ولهذا إذن نحيا، نعم ولهذا يجب إلا نعرف، فهمت، عرفت، ولكن يجب أن اعرف أشياء اخرى، يجب أن اعرف السر الأعظم سر سر، إني وراءك.)
(نعم لقد عرفت كل هذا ايضا، ولكن كيف أعبر عنه؟ فلأحاول فلأحاول، لا، لا أقوى سأعبر عندما أعود إلى هذا، إلى ماذا اسميه؟ إلى هذا الملعب، إلى روضة الاطفال، إلى ما يسمونه العالم. ها! ها!
(لقد أعياني السير، أما آن لي أن اعرف الله، أن اعرف القوى المهيمنة على كل شيء، على كل ملاعب الأطفال هذه، ما اكثر عددها وما اشد اعتداد كل منها بنفسها! كأن ليس هناك سواها. لقد عييت، ولكن كلا كلا، سأسير، سر إني وراءك. . .
(رهبة شلت حواسي، لقد امتزج هذا النور الذي انبعه بالظلام حوله، ولقد كانا قبل يزيد كل منهما في قوة الآخر. . جو غريب لا هو ظلام، ولا هو نور، شيء ثقيل ينزل على رئتي، الكلام عسير، والتنفس شاق. . . . .
ستار هائل عظيم أمسكت بطرفه يد خفية. سيزاح هذا الستار دون شك ووراءه الحقيقة الكبرى. كل ما في ينبض بذلك. ازداد الثقل على رئتي. . . لا أستطيع التكلم، الستار يزاح، التنفس عسير عسير، لقد قضي كل شيء، سأعرف سأعرف، سينزل الستار، هو ينزل بالفعل قليلا. . قليلا، سأعرف سأعرف، قليلا، بطيئا، لقد عر. . . فت. . . . آه.
ودوت صرختها قوة كالرعد مرعبة محشرجة، ثم ساد الصمت، صمت عميق، عميق
رهيب مخيف، وقفت الأخت عن الكتابة فزعة مذعورة ولكنها لم تقو على تحريك رأسها ناحية أختها المريضة، حاولت أن تنادي فلم تفلح، وأخيرا أدارت رأسها فصرخت هي الأخرى صرخة مروعة، أمامها عينان جاحظتان خيل إليها انهما فصلتا من الرأس، وانهما كل شيء على الفراش. وحولهما عروق نافرة زرقاء متوترة مشدودة أغمضت عينيها وفتحتهما مرة ومرتين، وأخيرا استطاعت بعد لأي أن تمد يدها لتلمس الجسد أمامها، فردت يدها قشعريرة شديدة مكهربة، ودوى صوت هائل رن في أذنيها. تبينته فإذا هو ضحك استهزاء، ضحك غريب الصوت متواصل، وكأن آت من عالم آخر، ليس لها به عهد، ضحك، بل إغراق في الضحك، ثم ماذا؟ صوت كلمات، صوت هادئ رزين ولكنه مسموع برغم هذه الضحكات الهازئة العالية المتواصلة. ماذا يقول؟ ماذا؟. (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
سهير القلماوي
وجه صالح للسينما
للكاتبة الألمانية فيكي بوم مؤلفة (الفندق الكبير)
كانت من المصادفات النادرة الوقوع أن شاهد جوهانس فيليب المخرج السينمائي، من خلف الصحيفة التي كان يطالع فيها وهو في عربة الترام. تلك المرأة العجوز الجالسة أمامه فإذا بجسمه يضطرب اضطرابا ظاهرا وإذا البرودة تسري إلى أطرافه.
كانت هذه المرأة، واسمها دريجالسكي - المادريجالسكي - من اللاتي تراهن فلا تستطيع أن تقدر لهن عمرا، تراها فكأنك ترى تمثالا للشقاء والبؤس، وكأنها الفقر عاريا متجردا في صورة إنسان
ولم يكن شعرها الذي فقد لونه المنسدل حول وجهها النحيف الشاحب هو كل ما أثر في نفسه؛ بل أثرت فيها تلك التجاعيد التي لا عد لها والتي تملأ وجهها، تجاعيد حول فمها الغائر، وتجاعيد خطت سطورا متقاطعة فوق جبينها، وحفر قاتمة مظلمة تحت عينيها، اثر في نفسه منظر يديها النحيلتين اللتين برزت عظامهما ممسكتين كيسا من الجلد وضعت فيه ما أحضرته من السوق، وحذاؤها الذي لم يبق منه طول العهد غير الأثر، ثم تلك الأسمال النظيفة البالية التي ترتديها.
لكن أشد ما تأثرت به نفس المخرج السينمائي هو ما بدا على المرأة من إهمال وقلة مبالاة، وملامح اليأس والتعس والقنوط التي تنم عليها عيناها تحت حاجبيها النحيلتين
وأغمض عينيه لحظة ليخفف الأثر الذي فعلته في نفسه، وهنا في تلك اللحظة - مر خاطر بباله، وكأنه يرى امامه، منظر الجماهير المحتشدة في أحد المناظر التي يعدها للشريط السينمائي الجديد الذي اعتزم إخراجه ويريد أن يضع له عنونا: صرخة من (الأعماق)
وخيل إليه انه يرى جمعا من النساء، وكأن كل واحدة منهن تشبه تلك التي امامه، رآهن جميعاً يتزاحمن ناحية سلم كبير وكأن بينهن تلك الجالسة أمامه الآن، إلا إنها انتحت بعيدا عنهن جميعا ثم سارت يبدو عليها البؤس والأسى
وفتح المخرج السينمائي عينيه، وذكر انه في عربة الترام، فقام من مجلسه وتقدم نحو المرأة قائلا
- هل لك يا سيدتي أن تحضري يوما إلى الرجل الذي أعطيك عنوانه الآن؟ وأحسبه يدفع
لك أجرا طيبا.
ومرت فترة حتى بلغت كلماته إدراك دريجالسكي، ولكنها لم ترفع إليه بصرها برغم إنها فهمت ما يريد، وربما كانت متعبة فلم تستطع أن تجلي فيه بصرها، أو حال الألم البادي في عينيها دون أن تنظر إليه، وأخيرا فتحت فمها المطبق وقالت:
- أأعمل عمل غسالة؟
- كلا، بل عمل سهل واجر طيب، وسوف يشرحون لك كل شيء إذا ذهبت إليهم، وأجابت وقد اهتزت عربة الترام فكادت المرأة تسقط من مقعدها
- أسمع!. . أني كنت أغسل. . وكنت أتناول سبعين (بفننج) اجر ساعة واحدة في اليوم، ولكن هذا العمل قد انتهى الآن، والمحل الذي كنت اشتغل فيه أغلقت أبوابه. . . على أي حال افضل أن أكون غسالة.
- لا أظنك سعيدة في حياتك؟. . .
وبعد أن توقف قليلا، قالت:
كانت الأمور سائرة سيرها الطبيعي قبل تلك النوبات التي أصبحت تنتاب زوجي، نوبات فظيعة تصيبه فيستحيل وحشا حتى ليعجز أربعة رجال عن تهدئته ووضعه في فراشه، وهو عاطل لا يعمل. . . ينام أغلب وقته. . . ولكن حين تعود إليه النوبة!. . .
كان عاملا في مصانع بوش وزابيش، فسقطت قطعة من الحديد فوق رأسه. . . غير أن الطبيب يقول ليس هذا وحده ما سبب له هذه النوبات. . . بل لأن زوجي كان سكيراً. . . ربما أصاب الطبيب. . . كذلك ولدي، عقله غير كامل. . . لسوء حظه. . . لم يكن بهذا القدر من السوء وهو صغير، كان يجلس هادئاً فوق مقعده الصغير، فلما بلغ السادسة عشرة أصبحت تصيبه نوبات شديدة. . . وذلك من سوء حظه أيضاً. . . فأنا التي أقوم بكل ما يحتاج إليه البيت.
من عهد قريب كنت سائرة في الشارع فسقطت على الأرض. . . ونقلت إلى أقرب محل للإسعاف. وقال الطبيب. إنها ليست مريضة إنما قلة تغذية. . . ماذا تفعل بضعة دريهمات أمام أجور الغاز. . . وأجرة البيت؟
كانت تتكلم بصوت ضعيف خافت كأنها تخاطب نفسها، وانحنت قليلا فوق الكيس بين
يديها. لا بأس. . . إذهبي وقابلي الهر ثوربج فقد يصلح حالك فيما بعد، وألح عليها في الذهاب ما استطاع، ثم ترك العربة وهزت دريجالسكي رأسها وهي تفكر كيف يمكن أن يصلح حالها.
وهكذا بدأت المادريجالسكي مجدها السينمائي العظيم
ومضت إلى استوديو (هالفا) وكأنها شبح ينتقل في هيكل من عظام، وسألت عن هر ثوربج - رناتس ثوربج. كاتب السيناريو الذي كان شاعراً قبل أن يشتغل بهذا الفن.
وكاد ثوربج يجن فرحا ودعا إليه غيره من زملائه وقد شاركوه إعجابه. أما دريجالسكي فظلت واقفة وسط الغرفة دون أن تدرك شيئا ومع ذلك لم يبد عليها اثر من الدهش فقد علمها الشقاء إلا تأبه لشيء
وطلب إليها أن تسجل أسمها لدى الكاتب المختص بذلك في الأستوديو، وذكروا لها إنها ستتناول عشرة ماركات في اليوم،
فكان كل ما بدأ عليها إنها عجزت عن تصديق ذلك.
كان الأستوديو غاصا بنساء كثيرات يرتدين أسمالا كتلك التي ترتديها دريجالسكي، وحول عيونهن تجاعيد كتجاعيدها إلا إنها تجاعيد زائفة من دهانات وأصباغ. وألقوا بها بين الأخريات فكانت بينهن كأنها ليست منهن، بوجهها الطبيعي وسط الوجوه المصبوغة بالطلاء وشقائها الحقيقي الذي لا تمثيل فيه. وأثرت الأضواء القوية في عينيها حتى سالت منهما الدموع.
وفي الساعة الواحدة كانت واقفة تحت مصباح كبير بين النساء الأخريات، وصاح رجل كان واقفا فوق منصة عالية طالباً منهن جميعا أن يرفعن رؤوسهن ويلتفتن إلى جهة أشار إليها. . . وكان هذا آخر مناظر الموقف.
وذهبت جميع النسوة إلى مطعم الأستوديو إلا دريجالسكي فلم تشاركهن، بل انتحت ناحية بعيدة وجلست فوق مقعد تأكل قطعة من الخبز أخرجتها من كيسها. وثوربج لم يحول بصره عن هذا الجسم الذي يبدو كأنه بقية إنسان. . . وهو يفكر - لو أنه ظل شاعراً لنظم في صورتها قصيدة رائعة، أما وقد أصبح مؤلفا للسينما. . .
وحان وقت العمل للتصوير فعادوا جميعا، واستمر العمل حتى كانت الساعة الثامنة مساء،
والمخرج واقف فوق سلم أمام النسوة، ومن ورائهن رجال آخرون يلقون عليهن الأوامر من الأبواق المكبرة للصوت. وأخيرا أمرهن أن يسرن إلى الأمام.
وقيل لدريجالسكي أن تبتعد عن زميلاتها، وأن تتقدم وحدها لتصعد السلم، وأن تفعل ذلك حين تسمع كلمة:(الآن! سيري.) وما عليها إلا أن تسير في مشيتها الطبيعية المعتادة، وحين سمعت الإشارة تباعدت عن زميلاتها وسارت ثم رفعت يدها لتحجب عن عينيها النور الذي اثر فيهما، فلم تعد تبصر شيئا. . . والمصور واقف فوق منصته يدير آلة التصوير وقد أخذ الإعجاب كل مأخذ منه، فكان يصيح: ما اعجب هذا!. . ما أبدع هذا!. .
وقال ثوربج لدريجالسكي قبل أن تمضي تعالي غدا لأخذ منظر آخر، وصورت في اليوم التالي وهي تحمل طفلا، وصورت في اليوم الثالث ثم قدموا لها ثلاثين ماركا!
وسألتهم: متى أعود ثانية؟ فأجاب الرجل الذي نقدها أجرها وهو يمزح - سنكتب إليك حين نحتاجك، فليس العمل منظما هنا كعمل الغسالات!
- وعادت دريجالسكي متهالكة من التعب، لم تدرك شيئاً من كل ما حدث، عادت إلى بيتها في انتظار أن تدعى مرة أخرى
واستدعيت المادريجالسكي مرات كثيرة في الأشهر التالية.
وكان منظر المرأة في بساطته وصدقه قد أعجب كل من رآه، ولهج النقاد بذكره كثيراً، وبلغ إعجاب الجمهور به مداه، وطلب إلى دريجالسكي أن تقوم بدور آخر في رواية جديدة، ومنحت عشرين ماركا أجر هذا الدور. وسألت شركة سينمائية أخرى عن عنوانها وأرسلت إليها تستدعيها، وهكذا تسابق إليها المخرجون، فكان مظهرها يكسب الموقف لوناً طبيعيا رائعاً: لون الألم والبؤس الصحيح الذي لا أثر للصناعة فيه.
وخرجت دريجالسكي من عزلتها التي كانت فيها، فتعرفت إلى غيرها من النساء اللاتي تستخدمهن شركات السينما، وعرفت منهن أن تتردد على مكاتب الأستوديو إذا طال عليها الأمد ولم يستدعها أحد؛ ولكنها برغم ذلك كله لم تدرك من الأمر شيئاً، وكان كل ما عرفته أن أجرها يزيد خمس ماركات إذا صورت وحدها عما لو صورت بين جمع من النساء. وقد تعلمت الطمع والجشع فكانت تبذل جهدها لتحذق عملها الذي تؤمر به حتى يزيد أجرها
صرفت دريجالسكي أول نقود نالتها في أجرة طبيب. ثم صرفت ما كسبته بعد ذلك في
جنازة زوجها ودفنه. وتحسنت الأحوال بعد موت هذا الزوج. فقد كانت تخشى أن تترك أبنها المعتوه في البيت لئلا يعبث بالكبريت. أما الآن فقد اصبح في وسعها أن تودعه مصحة للأمراض العقلية، ولم يبق معها بعد ذلك إلا القليل من النقود ومع هذا فقد استشعرت الراحة والاطمئنان لقد كانت مدفونة تحت أطلال حياتها التعسة وأحست اليوم إنها تستنشق الهواء، وهجرت مهنتها الأولى كغسالة. ومع ذلك فقد ساق إليها حظها الجديد رجلا يستأجر غرفة في بيتها وهو انتون بوش الأعزب الذي كان يبيع المثلجات في الشارع وكانت دريجالسكي ترى فيه رجلا ظريفا، وحسدها الجيران لنجاحها في فن السينما، واعتزت بنفسها إذ أدركت منهم ذلك الحسد. وكان الهر بوش يدفع لها اثني عشر ماركا في الشهر ويدفع نصف أجرة الغاز وكان كريما شديد الإخلاص، لها وقد ابتاع لها فستانا من الحرير الأزرق وكانت تطهي له الطعام بنفسها وتقدم له شطائر ليتناول منها طعامه في جولاته. وانك لتدرك من ذلك أن غذاءها هي نفسها قد تحسن كثيرا وزالت التجاعيد عن وجهها شيئا فشيئا وقد بلغت الآن قمة النجاح واصبح اسم دريجالسكي اسما يردده المخرجون!
التتمة في العدد القادم
محمود عزى
الكتب
العراق
نقد لكتاب جغرافية العراق
تأليف الفريق طه باشا الهاشمي
بقلم الدكتور محمد عوض محمد
صديقنا الفريق طه الهاشمي باشا مدير معارف العراق سابقا ورئيس أركان حرب جيشه حالا به نسيج وحده اليوم في الجمع بين أدب السيف وأدب القلم، توفر علي الإصلاح المنتج الصامت من طريق التعليم والتأليف، ورضي من سعادة العيش ومتاع الحياة بشرف الدفاع عن الوطن ولذة الجهاد في سبيل العلم، فلم يدخل في فتنة، ولم يساهم في حزبية، ولم يوزع همه وجهده إلا على مكتب في وزارته، ومكتب في بيته. ومن يطلع ثبت مؤلفاته في التاريخ والجغرافيا وفنون الحرب لا يسعه إلا إكبار هذا الرجل. وهذا كتاب جديد أسفر عنه عزمه في جغرافية العراق سيحدثك عنه صديقنا الدكتور محمد عوض، والدكتور عوض أستاذ هذا العلم كان في الجامعة المصرية ثم في مدرسة التجارة العليا، فحديثه عن الكتاب نفق، وشهادته للمؤلف الفاضل أصدق
المحرر
إن حديث العراق يثير في النفس أحاسيس لا سبيل إلى دفعها، وظمأ لا سبيل إلى ريه. ويبعث أمام العين صوراً قوية جذابة، ويحرك في القلب شجناً وأي شجن. ويثير في الخاطر ذكرى عهود وأي عهود!. فهات الحديث أذن عن الزوراء وعن هيت، وعن سامراء وتكريت، وعن الموصل وكربلاء وعن البصرة والكوفة! أو اعد بهذا الحديث ذكرى ذلك العهد الجليل - كان عهدا جليلا للناطقين بالضاد، وكان عهدا جليلا لبني الإنسان كافة - أيام كان الوطن العربي كتلة واحدة، كأنه العقاب الهائل باسطا جناحيه على المشرق والمغرب، أيام كان هذا الوطن العربي هو في العالم كل شيء وما سواه ليس بشيء، أيام لم يكن في العالم نور سوى ما ينبعث من نبراسه، ويضئ أرجاءه. ولم يكن في الدهر كله راية أسمى، ولا منار أرفع من هذه الراية الإسلامية التي تظل تلك الأقطار الفسيحة
المنتشرة، من المحيط الأطلسي إلى أقصى بلاد الصين، حين كان سائر العالم في دياجين من الجهل لا يعرف لنفسه منها مخرجا -
في ذلك الزمن كان السائح المتجول ينتقل من القطر إلى القطر ويتجول في الإقليم بعد الإقليم، وما ينتقل من وطن إلا لينزل في وطن، فحيثما سار، وأينما حط رحاله، لن يخرج عن الوطن العربي الفسيح، سواء أصعد أم أسهل، وأتهم ام أنجد.
وكانت هذه الأقطار كالعقد المنظوم، انبسطت حباته على محيا البسيطة ينتظمها جميعا سلكان ذو قوة ومتانة برغم أنف الزمان، وهما الدين الإسلامي واللسان العربي
وليس من شك في أن للعراق في هذا العقد منزلة خاصة. ولئن لم أنه واسطة ذلك العقد، لأننا لسنا في مقام المفاضلة. فلا أقل من أن نؤكد أن العراق جوهرة ثمينة براقة في ذلك العقد النظيم الذي لم يشهد الدهر له ضريبا.
على أن صورة الدولة الإسلامية ليست الصورة الوحيدة التي يثيرها حديث العراق. هذه صورة يهتم لها العالم الإسلامي، والناطقون بالضاد. ولكن هنالك صورة أخرى تعني العالم كله، لا فرق بين شرقه وغربه، ومسلمة وغير مسلمة. وهي صورة العراق أيام كان مهد الحضارة الأولى. في أقدم عصور التاريخ. فهنا، في سهول دجلة والفرات، نهضت حضارة سومر وأكد قبل ميلاد المسيح بأربعين قرنا، أيام لم يكن في العالم كله ثقافة ولا حضارة، اللهم إلا في الوادي الشقيق الذي نعيش فيه.
إن هذه الحقيقة وحدها لكافية لأن تثير في قلب كل إنسان شغفا بالعراق الذي كان مهد لكل هذه الحضارات، والذي ظل عامرا زاهرا كل هذا الدهر الطويل، الذي يتضاءل بجانبه عمر هذه الدويلات المحدثة، التي ملأت عصرنا هذا عجبا وضوضاء
إذن هنالك أسباب عدة لأن نعني بدرس جغرافية العراق دراسة خاصة. وأخلق بنا - نحن مدرسي الجغرافيا - أن نذكر هذا أبدا، وأن نكون دائما على استعداد - في مقام التمثيل والاستشهاد. لذكر البلاد الشرقية والديار العربية فإذا كنا نتحدث عن الأنهار وجغرافيتها، فلا ننسى أن نذكر انهار الشرق، دجلة والفرات، وسيحون وجيحون والأردن والعاصي، ولا نكتفي بذكر الرون والرين، والطونه والسين.
على أن الكتب العربية الحديثة التي وفت هذه الموضوعات حقها من البحث قليلة جدا،
والمشتغلون بالجغرافيا في البلاد العربية - وعلى الأخص في مصر - قلما يكتبون ابتغاء وجه العلم، بل يكتب أكثرهم ابتغاء عرض الحياة الدنيا. ولهم في ذلك أعذار مقبولة وأخرى غير مقبولة، وعلى كل حال لقد أصبحنا في مصر - مثلا ولدينا عشرات من الكتب (المقررة) للمدارس الابتدائية وغيرها، وليس لدينا كتاب واحد حديث يفصل لنا جغرافية مصر تفصيلا علميا متقنا
لهذا كانت دهشتي عظيمة حين تناولت كتاب (جغرافية العراق) تأليف الفريق طه الهاشمي باشا، رئيس أركان حرب العراق. فرأيته يتناول جغرافية العراق بالبحث المفصل الواضح، لم يغادر ناحية من نواحي علم الجغرافيا إلا عالجها في قدرة فائقة تشهد بالفخر لمن كانت حرفته الجغرافيا. فكيف والكتاب من إنتاج رجل حرفته الأولى تعبئة الجيوش، ورسم الخطط الحربة، وتدبير المعارك الحاسمة؟
ولئن كنا مضطرين إلى إكبار هذا الجهد الفائق وإلى الإعجاب الشديد به، فانه يحق لنا أن نعجب كيف بدأ التأليف الجغرافي بالعراق ناضجا كاملا على هذا النحوت من غير إرهاصات ولا مقدما. ولا دون نشوء ونمو. اللهم إلا تكون هنالك مؤلفات سابقة ليس لنا بها علم.
وكل مطلع على هذا الكتاب بمن له أقل خبرة بالتأليف الجغرافي لابد أن يدرك ما عاناه المؤلف في جمع كل هذه الإحصائيات الدقيقة، وفي إخراج هذه المصورات المتقنة. خصوصا إذا ذكرنا أنه يطرق أبوابا جديدة، ويعالج أمورا لم يعالجها المؤلفون قبله. ويسير في سبيل لم تمهد ولم تعبد
ان العراق هو أشد أقطار العالم شبها بمصر ولقد تكون أمطاره في بعض نواحيه أغزر منها في وادي النيل، غير أن العراق يعتمد قبل كل شيء على ماء أنهاره كما تعتمد مصر على نيلها. والعراق نهران يكاد ذكر اسميهما أن يكون من الفضول: دجلة (الفتاة) التي تجري في شطره الغربي، والفرات (الفتى) الذي ينساب في الجانب الغربي. كلاهما يبدأ مجراه في جبال أرمينيه. وكردستان وليس بين منابعهما مسافة كبيرة. فأما دجلة فتنحدر مسرعة أو متسرعة - كسائر الإناث لا تلتفت يمينا ولا يسارا، بل تجري معجلة إلى البحر (خليج العجم). وإما الفرات فيسيل مغربا حتى يدنو من بلاد سورية. وكأنما كان يريد أن
يتجه إلى البحر الأبيض ثم غير رأيه، أو كأنما أراد أن يطل على القطر الشقيق ليقرئه السلام، ثم يلتوي بعد ذلك في هدوء ورزانة، ويولي وجه شطر العراق، ولا يزال يجري هو أيضا حتى يصل إلى خليج العجم، لكن في شيء من التؤدة والتأني، وفي منتصف الطريق بين المنبع والمصب يشتاق الفرات إلى دجلة فيأخذ في الاقتراب منها، وفي هذا الجزء الأوسط من العراق يقترب النهران حتى ليظن انهما سيجتمعان. فلا يفصلهما غير مسافة أربعين كيلومتر. وفي هذا الموضع قد احتشد كثير من مدن العراق الشهيرة قديما وحديثا. فهنا نجد آثار بابل ومدائن كسرى، ونشاهد بغداد الزاهرة وكربلاء المقدسة. كلها في هذه المنطقة التي يتدانى فيها النهران، على أن اجتماعهما لا يتم بعد، بل يتباعدان مرة أخرى - ثم يلتقيان بعد لأي عند القرنة، فيتكون منهما نهر واحد هو شط العرب الذي ينحدر إلى خليج فارس.
هذان النهران هما رأس مال العراق وينبوع ثروته فمنهما ما} هـ الذي يسقيه، ومنهما تربته الخصبة التي يعيش أهله من ريعها ولقد تكون سهل العراق الفسيح مما حملة هذان النهران من الروساب والطين. فاستطاع السهل الخصب أن ينمو ويمتد إلى البحر، حتى أصبح خليج فارس أصغر مما كان عليه حتى في العصور التاريخية. ولا يعرف في العالم كله سهل نهري يزداد نموه بسرعة تعادل سرعة نمو سهل العراق. فهنا يتقدم البر وينكمش أمامه البحر بسرعة معدومة النظير، ولهذا كانت أرض العراق في عصر السومريين أصغر مما هي اليوم. بحيث كانت المدن السومرية القديمة: أور واردو ولاجاش واقعة على البحر أو قريبة منه.
وهكذا يعرض المؤلف أمام أعيننا صورا شائقة ممتعة لجغرافية العراق. ويعرضها في ترتيبها المنطقي المتسق. فتراه في الفصول الأولى يشرح موقع البلاد بالنسبة لما جاورها من الأقطار ثم يأخذ في شرح التكوينات الجيولوجية، وكيف تكونت أرض العراق في الأزمنة الجيلوجية، ثم ينتقل إلى وصف تضاريس البلاد وما بها من سهول مطمئنة، وجبال شاهقة تفصل ما بينه وبين بلاد الترك والفرس. ثم يصور لنا كيف يفيضان، ومقدار ما يجري فيهما من الماء، وفي أي الشهور يفيض، أو يغيض الماء ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة المناخ والحيوان. . .
وبهذا يكون المؤلف قد أكمل الصورة الطبيعية للبلاد في كافة نواحيها، وهنالك يصبح ذهن القارئ مهيأ لأن ينتقل من البيئة إلى السكان، ومن الجغرافيا الطبيعة إلى الجغرافيا البشرية
والناحية البشرية تحتل الشطر الأكبر من الكتاب، ويحق لها أن تنال كل هذه العناية، فنرى المؤلف يمعن في ذكر القبائل وموطنها، وحاضرها وباديها. وكيف تنتقل من موطن إلى موطن، وبعضها قد يتنقل من العراق إلى فارس أو تركيا أو سوريا في بعض الشهور، ثم يعود إلى العراق في شهور أخرى.
ومن أفضل أبواب الكتاب تلك الفصول التي يشرح فيها المؤلف الجغرافيا الاقتصادية في العراق، ويبين للقارئ طرق الزراعة والري والمعادن والتجارة، وطرق الموصلات على كافة أنواعها.
ولن يتسع المقام هنا للإفاضة في ذكر فصول الكتاب. وحسب كل مشتغل بعلم الجغرافيا أن يعلم أنه قد بات في متناوله اليوم كتاب واف عن جغرافية بلاد نحن في أشد الحاجة إلى أن نلم بجغرافيتها إلماما صحيحا دقيقاً.
وسيجد القارئ المصري صعوبة في فهم بعض المصطلحات العلمية. لأنها في كثير من المواضع قد تخالف ما اصطلح عليه المشتغلون بالجغرافيا في مصر. ولكن لن يلبث القارئ طويلا حتى يعتاد لغة الكتاب ومصطلحاته. وإنا لنرجو على مدى الزمن أن تزداد المؤلفات الجغرافيا العربية، فنستطيع بمبادلة الرأي أن نوحد المصطلحات العلمية في اللسان العربي.
ولابد لنا أن نذكر بشيء كثير من الثناء ما اشتمل عليه الكتاب من خرائط ملونة وغير ملونة. وكثير منها من نوع فريد لا يسهل العثور على مثله. ولنذكر على سبيل المثال الخرائط التي تبين مناطق الزراعة، وكثافة السكان، والأجناس والشعوب والقبائل. والكتاب مفعم بالصور توضح جميع نواحي البحث في الكتاب كله.
ونحن نهنئ المؤلف الفاضل بجهوده المثمرة. ولا نشك في أنه ماض في عمله الجليل، حتى يشق في بحثه الجغرافي سبلا جديدة. وتزداد مؤلفاته الجغرافيا عددا واتقانا على إتقان. . أن رجال الجيش طالما أدوا إلى علم الجغرافيا خدمات، جليلة ومن ذا الذي لا يسره أن يرى اسم هذا القائد العربي بين أسماء من خدموا وأحسنوا إلى المشتغلين بها.
عوض