الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 270
- بتاريخ: 05 - 09 - 1938
حاشية على التفريع
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا كان الجسم الجميل هو الجسم الذي به فضول، فما هو الفضول الذي يعيب الأجسام؟
الفضول في تعريف عاجل هو الزيادة عن الحاجة. ونعود فنسأل: ما هي الحاجة؟. أن الجسم قد يحتاج إلى الصحة، وقد يحتاج إلى الحركة، وقد يحتاج إلى الظهور، وقد يحتاج إلى الخفاء، فكيف نعرف الحاجة التي يتعلق بها الفضول ثم يتعلق بها النظر إلى الجمال؟
نقول في تعريف عاجل أيضاً: أن الحاجة إلى إنجاز (الوظيفة الحية) في تكوين الأحياء
فالزرافة لها عنق طويل لا نستقبحه إذا رأينا هذا الحيوان، ولكنا لو رأينا عنق الزرافة على جسم حصان لقلنا أنه حصان قبيح مشوه مختل التكوين؛ والتشويه والجمال ضدان لا يجتمعان
يسأل سائل فيقول: إذن يرجع الجمال إلى المنفعة؟ إذن نستطيع أن نقول إن العضو الجميل هو العضو النافع على وجه من الوجوه؟
ونسرع فنقول: لا. أن الجسم النافع ليس هو الجسم الجميل في جميع الأحوال، بدليل أن هناك حيواناً أجمل من حيوان، فلماذا يكون الحصان مثلاً أجمل من الزرافة أو تكون الهرة مثلا أجمل من الفار إذا كان المرجع في نظر الجمال إلى منفعة الأعضاء؟
كل عضو في حيوان فهو نافع لذلك الحيوان، وعنق الزرافة نافع لها لأنها حيوان يعيش في الغابة ويختار من لطائف الشجر كل ما ارتفع في الأغصان. ولكن لماذا كان عنق الحصان أجمل من عنق الزرافة؟ ولماذا كان الحصان في جملته أجمل من الزرافة في جملتها، وكانت حركة الحصان أجمل من حركة الزرافة في السرعة أو المهل؟
ذلك أن مرجع الأمر في نظر الجمال إلى شيء غير المنفعة للحيوان أو لمن يستخدم ذلك الحيوان
مرجع الأمر إلى الحرية كما بينا في مقالات كثيرة سبقنا بنشرها قبل سنوات
فكلما كان الجسم أقل ضرورة وأكثر حرية كان أقرب بذلك إلى الجمال؛ وعنق الزرافة يفيدها بالغابة، وليس هذا هو الشأن في عنق الحصان فأنه لا يفيده بمكان. فهو من ثم أجمل من الزرافة في هذا الاعتبار
وإنما نرجع إلى (الوظيفة الحية) لنعلم أن الطول أو القصر في جزء من أجزاء الحيوان ليس بطول تشويه ولا بقصر تشويه، لأن التشويه الجمال لا يتفقان
فأنت إذا رأيت عنقا طويلا على كتفي زرافة لم تحسب أنها زرافة شائهة أو زرافة ممسوخة؛ ولم يمنعك إذن مانع التشويه أن تحسبها (زرافة جميلة)
أما إذا رأيت هذا العنق كما هو على كتفي غزال، فانك معتقد فيه المسخ والتشويه على البديهة، ومعتقد من ثم أنه لن يكون على شيء من الجمال، بل هو نقيض الجمال
على هذا المعنى كان جسم الرجل أجمل من جسم المرأة، وإن صعب فهم هذا على بعض الأذواق التي تنساق بالغريزة، دون النظر إلى جمال المعاني وجمال الأوضاع
فمن رأى جسم المرأة رأى لأول وهلة أنه جسم ملحوظ فيه ضرورات كثيرة، وأنه منظور فيه إلى مخلوق آخر غير صاحبة الجسم التي لا تحتاج إلى ذلك التركيب، وهذا المخلوق الآخر هو أما الجنين الذي تحمله في أحشائها، وإما الرجل الذي ينظر إليها نظرة الاستحسان
فإذا قلنا إن العضو الجميل هو عضو يحمل نفسه ويخيل إليك أنه غير محمول على سواه فالمرأة كلها محمولة على تركيب حيوان آخر منعزل عنها، ولا بد أن يجوز على ما في تركيبها هي من معاني الجمال العليا
فيلاحظ في أغلب أجسام النساء طول الجذع واتساع المسافة بين الحرقفتين، وإنما يوجب ذلك أنها في حاجة إلى مكان الجنين ومكان خروجه بعد تمام حمله، وقل ذلك في النهدين والثديين، أو قل شبيهاً بذلك في ضيق الكتفين، فان قصر الكتف وضعفها لا يضيرانها في إنجاز وظائفها، فهي على هذا المعنى تنجز وظيفتها بزيادة في مواضع ونقص في مواضع أخرى منظور فيها جميعا إلى تركيب خارج عن تركيبها؛ ولن يبلغ الجسم حد الجمال الأقصى ما دام جماله معلقاً على شيء غيره؛ وما دام ذلك الشيء أولى بالملاحظة والتقديم في بعض الأحوال
لهذا يصعب التوفيق بين ضرورات الوظائف الحية وبين معاني الجمال المطلق في جسم المرأة
فالمرأة التي يقصر جذعها ويضيق حوضها هي جسم جميل؛ ولكنها قد تجور بجمالها على
أمومتها
والتوفيق بين الأمرين من أندر الأمور، في حين أن جسم الرجل لا يحتاج إلى صعوبة في التوفيق بين إنجاز شرائط الأبوة فيه وإنجاز شرائط الجمال
ومع ندرة التوفيق بين الشرطين في المرأة، لا غنى عن التجوز والتسهل في كثير من الأحوال، فأقصر النساء جذعاً وأضيقهن حوضاً وأكملهن أكتافاً لا يحمد منها أن تلوح كالرجل في تركيب هذه الأعضاء؛ ولا بد من التجوز والتسهل في بعض الزيادة على الردفين وبعض النقص على الكتفين، وإلا كان ضمور الردفين ضموراً تاماً علامة تشويه لا علامة جمال، إذ كان الأصل في المرأة أن لها وظيفة الحمل والولادة، فإذا تجردت من هذه الوظيفة فهي مشوهة، وإذا احتفظت بها فمن مرض؛ ولا شك أن تكون عظام الردفين غير مكسوة باللحم الذي لا بد منه لكل جسم صحيح سليم
وعلى هذا تكون المرأة جميلة ولا تكون قنطاراً واحداً لا زيادة عليه
تكون جميلة إذا قل فيها الفضول ولو زاد الوزن غاية ما يقدر له المزيد
وتكون مع ذلك (امرأة جميلة) وليست جميلة بمعاني الجمال على إطلاقها؛ وهي كما أسلفنا القرب من الحرية والبعد من الضرورة؛ وأن يكون الجسم معلقاً على نفسه غير معلق شروط في خارجه، سواء صعب أو سهلت في التحصيل
ولا بد من التجوز والتسهل على هذا الاعتبار في حدود ما قدمناه
ويلحق بتفصيل ما قدمنا الجواب عن سؤال وجهه إلينا الأديب (عبد المنعم شلبي) يقول فيه:
(هل يعجز امرئ القيس وهو ذلك الفنان البارع ذو الخيال الوثاب الذي استطاع أن يتذوق جمال الطبيعة ويترجم عنها في قصائد عن رسم مثال للأنوثة موافق لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة لتخلف الأوان؟ وهل لتخلف الأوان دخل في تقدير الجمال؟ وإذا كان كذلك فمالنا نرى تمثال فينوس مع تخلف أوانه رمزاً ومقياساً لمعاهد الجمال في العصر الحديث؟)
والجواب أن أحيل الأديب صاحب السؤال إلى ما أسلفت عن سبب قصور امرئ القيس في تعريف مقاييس الجمال، فأنني لم أقل أنه يقصر في هذا الباب لتخلف الأوان ثم سكت على ذلك؛ بل قلت أنه يقصر فيه (لتخلف الأوان وندرة الأسباب)
ومن الأسباب ولا جدال أن الأعراب في البادية لم يصنعوا التماثيل كما صنعها اليونان الأقدمون أصحاب فينوس، ولم يشغلوا عقولهم وأذواقهم وأخيلتهم بمطالب هذه الفنون، وما تستتبعه من دراسة للأجسام ونظر في تمثيل الأعضاء
وليذكر الأديب صاحب السؤال أن الله عز وجل وعلا لم يغضب على المحدثين جميعا لأنهم محدثون، بل خلق فيهم أناسا وهبهم (الفن والخيال والبراعة وأتاح لهم يتذوقوا جمال الطبيعة). . فإذا تساوى ما بينهم وبين امرئ القيس في هذه الناحية فهناك زيادة العصر الحديث بل زياداته التي يضيق بها الحصر في مذاهب الفنون والأذواق والعلوم والأرقام
عباس محمود العقاد
عود ثان
الدين والأخلاق بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
ليسمح الأستاذ النمراوي أن نؤكد له أن حرية القول في الأدب الأوربي ولا سيما الحديث منه ما كانت لتؤثر في أدباء اللغة العربية بمقدار ما أثرت، وما كانت تحتذي بمقدار ما احتذيت، لولا أن أدباء اللغة العربية تأثروا قبل اطلاعهم على الأدب الأوربي بحرية القول في الأدب العربي، ولا سيما العباسي وما يليه؛ فالشاب الذي يُحثُّ على قراءة دواوين العرب وكتب الأدب ويستوعبها لا بد أن يحتذيها في صراحتها. ألا ترى أن السيد توفيق البكري والشيخ شريف رأيا أن الأبيات التي أشرنا إليها في المقالات الماضية أشياء غير مستنكر شرحها وطبعها؟ فإذا كان شيوخ الدين والتربية يتأثرون هذا الأدب اللغوي المكشوف تأثراً لا يشعرون به، ويجعله مألوفاً أُلفة تمنع الاستنكار، فكيف لا يتأثره الشبان الذين لم تكن لهم سابقة الاشتعال بأمور الدين أو التربية، وربما أطلعوا عليه وهم في سن المراهقة كما يفعل الفتيان والفتيات الذين يستعيرون كتب هذا الأدب من مكتبات مدارسهم. والقارئ المسن يستطيع أن يتذكر فورة شبابه أيام المراهقة، ويستطيع أن يحكم كيف تؤثر قصائد ابن الرومي التي شرحها البكري والشيخ شريف في شهوة المراهق، وكيف تؤثر الدواوين والكتب القديمة المشحونة بأمثال تلك القصائد. وانظر كيف يتغير نظر الشاب المراهق إلى اللائق وغير اللائق مما ينبغي أولا ينبغي الاطلاع عليه عندما يرى أن شيوخ الدين والتربية يعنون بشرح هذه الفحش ويطبعونه له، وعندما يرى أن المدارس تحثه على قراءة الكتب التي طبع فيها وتؤنبه إذا لم يقرأها. ومعاذا الله أن نقول إن البكري أو الشيخ شريف أرادا بالشبان والفتيات شراً، إنهما فعلا ما فعلا على قاعدة أن لا حياء في اللغة وأدب اللغة، وأن الفن يراد للفن لا لما به من الفحش، كمن يستجيد مثلا صنعة أبي نواس البيانية في مجونه لا بسبب حبه للمجون بل لحبه للبيان والبديع. ولكن هل تلوم الشبان إذا تأثروا بهذا الأدب اللغوي المخالف للعرف والتقاليد والآداب والأخلاق الإسلامية وسن المراهقة له حوافز ودوافع؟
وإذا قرأ الشاب بعد ذلك بعض مجون شاعر أوربي كمجون هنري هيني الألماني (وهو كلا
مجون إذا قيس بما في كتب العرب) ألا يرى أن العالم كله الشرقي والغربي يبجل هذا الأدب اللغوي ويعنى بشرحه وطبعه، وأنه إذاً لا ضير عليه من احتذائه؟ وإذا قرأ بعد ذلك قصة عشيق الليدي شاترلي وجد مجوناً كمجون الفحش العربي ولو أنه كتب بطريقة تحليلية علمية أرقى بعض الرقي من فحش ماجِني الدولة العباسية. ألا يرى القارئ أن تأثر الشباب بالأدب العربي مثل شعر بشار بن برد والحسن بن هاني وغيرهما يسهل قبوله للأدب الأوربي الذي يشكو منه الأستاذ النمراوي؟
لكن الأستاذ تجاهل تاريخ الأدب العربي القديم والحديث لكي يستطيع أن يبرهن على أن الأدب القديم غير مخالف للفضائل والآداب والأخلاق، وأن الأدب الجديد أو أدب المذهب الجديد مخالف للشهوات ومخالف للفضائل. والحقيقة أن هذا التقسيم غير حقيقي وغير منطقي، فأدب المذهب القديم به ما يراعي الفضائل والأخلاق وبه ما لا يراعيها، وأدب المذهب الجديد أيضاً به ما يراعي الفضائل وبه ما لا يراعيها سواء بسواء. فكان الأحجى بالأستاذ أن يقسم الأدب إلى مذهب قديم ومذهب جديد، بل إلى أدب فاضل وأدب إباحي في الأخلاق، ثم ينتقد الأقوال لا الأدباء جملة، لأن كل أديب أو شاعر قد يكون له ما يضعه الأستاذ في القسم الأول، وقد يكون له ما يضعه في القسم الثاني. أو لو أراد قصر مقاله على الرافعي لاستطاع أن يقول إن كل أدبه من أدب الفضائل من غير أن يتجاهل تاريخ أدب اللغة كله، ومن غير أن يحكم حكمين كل منهما جائر لما فيهما من التعميم الذي يخالف طبيعة العلماء أمثال الأستاذ، فان العلماء الباحثين ولا سيما علماء الكيمياء والطبيعة يتحرجون من إصدار أحكام عامة بسبب شواهد خاصة معدودة، فلا يقولون إن أدب المذهب القديم هو أدب الفضائل، وإن أدب المذهب الجديد هو أدب الرذائل على وجه التعميم
لكن الأستاذ النمراوي عالم، فلا بد أن فطنته وبحثه قد أوصلاه إلى حقيقة أراد أن يفسرها فبالغ في تفسيرها وأشتط وأصدر هذه الأحكام العامة. ومن أجل أن نتتبع تفكير الأستاذ ينبغي أن ننظر إلى الفرق الحقيقي في أدب المذهب القديم وأدب المذهب الجديد من حيث الروح. إن الأدب القديم وصل في عهده الأخير إلى أدب احتذاء لا أدب اجتهاد، ونعني بالاجتهاد الاصطلاح الفقهي لا المعنى اللغوي، فأن نصيبه من الاجتهاد كبير إذا أريد
المعنى اللغوي للاجتهاد. وهذا هو الفرق الحقيقي بين اجتهاد أدباء المذهب القديم واجتهاد أدباء المذهب الجديد؛ فالمذهب الجديد يريد بحث النفس وعواطفها وشرائعها وسننها، لا قصر البحث على شهواتها، ولا رغبة في إطلاق هذه الشهوات من عقالها كما يقول الأستاذ. فبحث النفس يقتضي بحث جانب الإيمان منها كما يقتضي بحث جانب الشك؛ ولكنه الشك الذي يبعثه الإيمان، وهو الشك الذي يبحث عن أمل للإنسانية في هذه الحياة وبعد هذه الحياة، والذي يحاول أن يداوي شرور الحياة ما استطاع الإنسان ذلك. وهذا الشك لا يستقيم لمن كان قلبه غير عامر بالايمان؛ والشاعر لا يكون شاعرا إلا بمثل هذا الإيمان الملِحْ العنيف الذي يريد أن يزكي نفسه. وهذا أول أسباب سوء الظن بهذا المذهب. وثانيها أن الاجتهاد شبه الفقهي في تفسير الحياة وعوامل النفس قد يشط أحيانا. وقد أقفل باب الاجتهاد في الفقه النفسي والفكري لم يقفله المذهب الجديد. فخصائص المذهب الجديد الروحية هذه أي الرغبة في بحث جوانب النفس والحياة واستئناف اجتهاد الفقه الفكري والروحي هي خصائص يشط معها الأديب في بعض الأحايين، ويكون شططه في عهد الصبا أكثر، إذ تكون خبرته قليلة واندفاعه عظيماً. ثم أن بعض الأدباء قد تشط بهم هذه الخصائص دائما شططا بعيداً؛ ومن أجل ذلك ليس من الحق أن نسلك جميع الأدباء في نظام واحد. ألا ترى أن الأدب الأوربي الحديث يشمل نزعات مختلفة كل الاختلاف منها ما يحدث صلة بينه، وبين الأدب الأوربي في العصور السابقة، ومنها ما ينأى به عنها؟ فحكم الأستاذ النمراوي على المذهب الجديد كمن يحكم حكماً عاماً واحداً على الأدب الأوربي الحديث على اختلاف نزعاته الذي يشبه اختلاف نزعات الأدب المصري الجديد من أجل أن أساس تلك النزعات واحد وهو بحث التجارب النفسية والفكرية؛ فمن الأدباء من يبحثها على طريقه المعري، ومنهم من يبحثها على طريقة شكسبير، ومنهم من يبحثها على طريقة أدباء الرمزية. . . الخ. وكما أنه ليس من الحق أن يحكم الأستاذ حكماً عامّاً على أدباء المذهب القديم (وبينهم تفاوت في الروح)، ولا من الحق أن يحكم حكماً عاماً على أدباء الأدب الجديد، فليس من الحق أن يحكم حكماً عاماً على الشاعر أو الأديب الواحد، فإن الشاعر نفس وللنفس مظاهر مختلفة تقتضي تفصيل الحكم عليها ما دام لا يحكم على قول أو عمل واحد، أو عليها في حالة أو زمن خاص وليس من الحق أيضاً أن يُغْفِل الأستاذ أثر
حرية القول في الأدب العربي الذي شرحناه في أول هذا المقال، ولا من الحق ألا يرى أن حرية القول الناشئة من إطلاق الشاعر نفسه من القيود أثناء البحث شططا منه لم يأت بأشنع من الأمثلة التي ذكرناها للأستاذ من الأدب العربي، بل لعلها أقل شناعة؛ وهي على أي حال ليست من لوازم أي مذهب، فمثلها في آداب العصور والأمم موجود، وواجب الناقد أن يميز بينها وبين الصالح من قول الأديب أو الشاعر. ومما يدل الأستاذ على أن الأدب المصري الحديث خليط من القديم والجديد أن أحدهما يلقى زميله فيسأله هل أنت من أنصار المذهب القديم أم من أنصار المذهب الجديد؟. كأن الحكم ليس لما يؤلفه الأديب من شعر أو نثر، وكأنما يصح أن يكتب الأديب على طريقة المذهب الجديد ويختار أن يعد من أنصار القديم أو العكس. لكن هذا السؤال له معنى وقيمة؛ إذ هو دليل على الحيرة من أجل أن أدب كل أديب خليط من مؤثرات الأدب العربي في عصوره المختلفة والأدب الأوربي أيضاً؛ وإنما هذا الخليط عند كل واحد باختلاف مقادير عناصره. ومن الأسباب التي تدعو إلى سوء الظن بالأديب الجديد علاوة على ما ذكرنا، ما يقرأ منه أحياناً من سخر وتشاؤم، وقد يكون فيهما شطط، وقد يحسبان من قلة الإيمان، ولكنهم قد يكونان من الإيمان الحائر في وجوه الكون والحياة الذي لم يوهب نعمة الأستقرار، وهي حالة تعرض لكثير من النفوس فلا يستطيع تجنب وصفها كل التجنب. وإذا نظر الأستاذ إلى ما ينشر في الصحف والمجلات والكتب في جميع الأقطار العربية من شعر ونثر وجد في تباين أبواب القول الذي يترك جانباً من النفس والحياة لم يحاول نعته، ما يدل الأستاذ على أن هذا التنوع هو خصيصة الأدب الحديث، وهو يشمل ما يشكو منه الأستاذ، ولكنه أعم مما يشكو منه، وقد صار هذا التنوع في الأدب وشموله بحث نزعات النفس وجوانب الحياة قاعدة عامة في آداب العالم كله؛ ولا يمكن إعادة عقارب ساعة الزمن إلى ما كانت عليه في الماضي للقضاء على ما يشكو منه الأستاذ. فإذا أراد أن يظفر بتطهير الأدب كان الأحجى به ألا يتعصب لقديم ولا لجديد، وأن يأخذ من الجديد على تنوع أغراضه وأبوابه ما لابد لإشباع مطالب النفس والفكر في عصر تعددت فيه مطالبهما وأصبحت كمد النهر في فيضانه، وألا ينتقد هذا الأدب الجديد بالجلة كي يصيب سامعاً مجيباً إذا هو قصر نقده على ما في هذا الأدب الجديد من شطط، وأن يتخذ في نقده هذا الشطط طريقة التحليل النفسي والإلمام
بأسبابه ونتائجه وشواهده على طريقة الطبيب المداوي بالتحليل النفسي، وألا يقصر نقده على شطط الجديد من غير نظر إلى شطط القديم، وقد أوضحنا أن حرية القول في الأدب الجديد تمت بسبب إلى الأدب القديم سواء أكان ذلك في الغزل والأمور النفسية أم في الأمور الفكرية، وليطهر كتب الأدب القديم وعاداته المألوفة من مجون وشطط فكري كما بينا
وإني لأربأ ببصيرة الأستاذ وعقله أن يظن كما يظن بعض الناس أن إسقاط أديب أو أكثر من أديب من أدباء المذهب الجديد يقضي على هذا المذهب. ولو كان من المستطاع القضاء على كل ما قاله أدباء المذهب الجديد من شعر أو نثر - الجيد منهما وغير الجيد والمقبول، وغير المقبول - فان القضاء على ما قاله المعاصرون لا يقضي على الأدب الجديد، لأن أسبابه أعم وأكبر من أن تحسب من ابتكار أديب أو أكثر من أديب. وربما كان من الحكمة أيضاً ألا ينسى الأستاذ وهو الخبير بالنفس الإنسانية أن بعض العداء الذي لاقاه المذهب الجديد من غير المبرزين الفطاحل كان بسبب الإجادة المحمودة المأثورة المحسودة في بعض هذا الأدب الجديد، وإن كان عداء المبرزين الأفاضل أمثال الرافعي بسبب اختلاف حقيقي في الرأي والروح
(قارئ)
سهو
ذكرت سهوا أن أبيات ابن الرومي في (كتاب صهاريج اللؤلؤ) والحقيقة أنها في كتاب (فحول البلاغة) للمؤلف نفسه أي البكري ولا يوجد شرح ولكنه اختارها هي وقصيدة (بوران) ولم يكف عن اختيار المجون تحرجا. وكذلك لا يوجد شرح في الأرجوزة الأخرى ولكن عدم التحرج ملحوظ أيضاً
(ق)
بيجو
للأستاذ عباس محمود العقاد
حُزناً على بيجُو تفيض الدموعْ
حُزناً على بيجُو تثور الضلوع
حُزناً عليه جهد ما أستطيع
وإن حزناً بعد ذاك الولوع
والله - يا بيجو - لَحُزْن وجيع
حزناً عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مُسامري حيناً ومستقبلِي
وسابقي حيناً إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوع
وكلما داريت إحدى التحفْ
أخشى عليها من يديه التلف
ثم تنبهت وبي من أسف
ألاّ يصيب اليوم منها الهدف
ذلك خير من فؤاد صديع
حزناً عليه كلما عزّني
صِدْقُ ذوي الألباب والألسن
وكلما فوجئت في مأمني
وكلما اطمأننت في مسكني
مستغنياً، أو غانياً بالقنوع
وكلما ناديته ناسيا:
بيجو! ولم أبصر به آتيا
مداعبا، مبتهجا، صاغيا
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صَدىً فيه ولا من سميع
نسيت؟ لا. بل ليتني قد نسيتْ
أحسبني ذاكرَه ما حييت
لو جاءني نسيانه ما رضيت
بيجو مُعَزَّيَّ إذا ما أَسِيت
بيجو مُناجيّ الأمين الوديع
بيجو الذي أسمع قبل الصباح
بيجو الذي أرقب عند الرواح
بيجو الذي يزعجني بالصباح
لو نبحةٌ منه، وأين النباح؟
ضيّعت فيها اليوم مالا يضيع
خطوته. . . يا بَرْحَها ألأم!
يخدش بابي وهو ذاوي القدم
مستنجداً بي. . . ويح ذاك البكم!
بنظرة أَنطَقَ من كل فم
يا طولَ ما ينظر!. . هذا فظيع!
نَمْ. لا أري النوم لعيني يطيبْ
أنتم خبيرون بنهش القلوب
يا آل قِطمير هواكم عجيب
غاب سَناَ عينيك عند الغروب
وتنقضي الدنيا. . . ولا مِن طلوع
نَمْ واترك الأفواج يوم الأحدْ
والبحر طاغٍ، والمدى لا يحدْ
عيناي في ذاك، وهذا الجسد
بوحشة القلب الحزين انفرد
والليل. والنجم. وشعب خليع!
أبكيك. أبكيك وقَلَّ لجزاء!
يا واهب الود بمحض السخاء
يكذب من قال: طعام وماء
لو صح هذا ما محضتَ الوفاء
لغائب عنك. . . وطفل رضيع
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
4 -
وطني
كنت عند صديق لي شاب ذكي، نال شهادة البكالوريا، فلم يطف بها على دواوين الحكومة يستجدي (وظيفة) ويسأل (الخزينة) حسنة، كما يفعل كل شاب في هذا البلد، وإنما نزل إلى السوق ففتح للتجارة محلاً يعيش فيه سيداً عزيزاً، على حين يعيش الموظفون مقيدين مسودين، ويأكل خبزه بكسب يده على حين يأكله كثيرون بضمائرهم وأديانهم، ويخدم أمته هادئاً صامتاً على حين يؤذي أمتهم كثيرون، وهم يخطبون الخطب الوطنية، ويملئون الدنيا كلاماً جميلاً. . .
كنت عند هذا الصديق، ومن دأبي أن أزوره كلما مللت العمل أو نزلت إلى البلد، آنس به، وأشرف من دكانه على الدنيا فأرى ما فيها. . . فرأيت رجلاً يدخل عليه، فيريه نماذج من البضائع يعرض عليه أن يكون وكيل معملها، والتفرد ببيعها لما سمع عنه من الثناء وما وصف له به من الذكاء والاستقامة، ويخبره بالأثمان، فيتهلل وجه صاحبي، ويشرق فرحاً بهذه الأرباح التي سينالها، ولكنه يتريث فيسال الرجل أن يدع له البضاعة ويتركه ساعة يفكر، ثم يعود إليه فيأخذ الجواب. . .
فيمضي الرجل، ويميل علىَّ صاحبي فيسر إلى أن هذه الصفقة أجدى من دكانه وما فيه، فأهنئه وأتمنى له ما يتمنى لصديقه الصديق، ولكنه لا يلبث أن يقلب البضاعة فيعلو وجهه الأشمئزاز، ويبدو عليه الغضب. فأسأله: مالك يا صاحبي؟
فقال: مالي؟ إنها بضاعة صهيونية!
فقلت له: وماذا يعينك منها؟ أنت تاجر، فبع من شاء أن يشتري ولا تدعُ إليها أحداً
قال: معاذ الله! أأنا عدو وطني وديني؟ إني تاجر، ولكني أعلم أن على التاجر أن يخدم أمته من الناحية التي أقامه الله فيها كما يخدمها المعلم والموظف والصحفي. . . وخدمة الأمة بأن تتقدم لها منفعة في مالها أو أخلاقها أو أبنائها أو صحتها، أو تدرأ عنها ضرراً. ليست خدمة الأمة بالجعجعة والصياح والخطب المدوِّية والمقالات الطنانة؟
قلت: وهذا الربح الذي وصفته لي أترضى بأن تدعه لغيرك؟
قال: من أراد أن يأخذ جمرة من جهنم فليفعل. أما أنا فلا أريد، سيغنيني الله عنه
ولقيته بعد أيام، فقلت: ما فعل الله بتلك الوكالة؟
قال: رفضتها فعرضوها على أهل السوق فقبلها منهم فلان!
قلت: رئيس لجنة مقاطعة البضائع الصهيونية؟
قال: نعم!
5 -
معصرة
كنت أسير في (دوما) قصبة الغوطة الشرقية، فرأيت شارعها الأعظم (الذي يشقها شق شارع الرشيد مدينة بغداد) رأيته يمضي مستقيماً سوياً حتى إذا جاوز ثلثيها انحرف ذات اليمين وما ثمة مسجد يغشى عليه الهدم، حتى ينحرف لأجله الشارع ولا أثر قيم، ولا صخرة قائمة، فعجبت وسألت صاحبي الذي كان يمشي معي
فقال: كان هنا في سالف الدهر معصرة لوجيه من الوجهاء لم يقدر على هدمها، فلوى من أجلها الشارع!
فقلت: هذه هي مصيبتنا! ولو أنها معصرة واحدة لاحتملت، ولكنا كلما خططنا في الحياة طريقا مستقيما اعترضتنا (معصرة) لوجيه من الوجهاء. فكم من (معصرة) في طريق القوانين والنظم، وفي طريق العدالة والقضاء؟
هل خلا طريق لنا من (معصرة)؟ فمتى تهدم هذه (المعاصر)؟
(دمشق)
علي الطنطاوي
البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 3 -
الفجر في سورية
سورية وفرنسا
لقد قبل أهل لبنان الانتداب الفرنسي بلا مقاومة عنيفة، بينما بقي السوريون يعتبرونه حالة لا مبرر لها. وقد عبروا عن كراهيتهم له بمقاومات مستمرة مشروعة وغير مشروعة. وكانت ثورة سنة 1925 أبلغ هذه المقاومات أثراً، ولم ينجح الفرنسيون في قمعها إلا بعد عامين. وقد بدأت بعصيان قادة الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز الواقع في الجنوب الشرقي من سورية. إلا أن هذا العصيان ما لبث أن توسع حتى عم البلاد كلها. وقد أدت هذه الثورة التي كانت سادس حركة تحريرية قام بها السوريون إلى ضرب الفرنسيون دمشق بالقنابل في شهر أكتوبر سنة 1925م إذ ضربت مدافعهم بعض أحياء المدينة كما ألحقت الضرر الجسيم بكثير من الأماكن ذات الأهمية التاريخية مثل (الطريق المسمى بالمستقيم)
وسار السوريون في جهادهم للحصول على حقوقهم الطبيعية إلى أن منحهم الفرنسيون عام 1930 رئيساً للجمهورية ووزارة دستورية ومجلساً نيابياً. على أن الدستور الجديد لم يقض على سلطة المندوب السامي الواسعة، فهو ما زال يدير شئون سورية من مركزه في بيروت، كما أنه لم يخرج الجيش الفرنسي من البلاد. أما معاهدة سنة 1936 التي ستوضع موضع التنفيذ بعد ثلاث سنوات من عقدها فهي تتعهد بمنح سورية استقلالها التام. والتحالف السوري الفرنسي بموجب هذه المعاهدة ليس مؤبداً كتحالف لبنان، بل هو موقت بخمس وعشرين سنة
يوجد بين الأهلين في مصر والعراق والسودان أناس يعترفون بفضل بريطانيا العظمى عليهم في الماضي، ولا يشعرون بكره نحو الأفراد البريطانيين. أما هنا فالعداوة بين
السوريين والفرنسيين ذات صفة شخصية؛ وهي ليست موجهة ضد الأفراد الفرنسيين فحسب، بل إنها تتعداهم إلى أسرهم. وقد شرح لي أحد السوريين الشعور الذي يحمله أبناء وطنه بهذه العبارة:(أنني أحب فرنسا وأحترم الفرنسيين في بلادهم، ولكي أكرههم في بلادي التي باتت تئن من سوء إدارتهم)
أن أهم ما يتذمر منه السوريون هو أن فرنسا تسعى لجر المغانم المادية من وراء سورية. وهم يحملون الفرنسيين مسؤولية تأخر سورية الاقتصادي منذ عام 1920؛ وهم يتهمون موظفي فرنسا وجنودها باستعمال مراكزهم الرسمية لابتزاز المال. وقد قلت مرة لسوري: أن الرشوة وسوء الاستعمال هما عند الموظفين من التقاليد التي اشتهرت بها الإدارة الوطنية. فأجاب: (من المحتمل أن تكون مصيباً في ملاحظتك، وأنا أؤكد لك أن الذين يؤمنون إيماناً صحيحاً بنزاهة موظفينا في عهد الاستقلال الآتي هم قليلون؛ ولكن إذا كان لا مفر لنا من الخيانة فإننا نفضل أن تذهب الرشوة إلى جيوب السوريين دون جيوب الأجانب فان صرفها في بلادنا لأرجح من صرفها في فرنسا)
ويقال أن هناك سبباً آخر ذا علاقة بالأخلاق يزيد في موقف السوريين العدائي؛ فالأسرة تلعب دوراً مهماً في حياتهم، والفساد الجنسي عندهم أقل مما هو عليه عند الأكثرية من جيرانهم العرب، ولهذا فأن معظم سكان سورية يعترضون بشدة على وجود الجنود الفرنسيين (الملونين) بينهم أن بقاء الجند الأجنبي في البلاد في أيام السلم لابد أن يأتي بنتائج مضرة، وخصوصاً إذا كانت جيوش الاحتلال منسوبة إلى أقوام يشتد عند أفرادها الميل الجنسي
مشاكل وزعماء ومجاهدون
كنت أود الاطلاع على المشاكل التي سيكون لها أثر في حياة سورية المستقبلة، ولهذا قصدت زيادة كل من: بطريرك الروم الأرثوذكس وهو رئيس أكبر طائفة مسيحية في سورية، وفارس الخوري وهو أكبر رجال السياسة في البلاد، والدكتور الكيالي وزير المعارف وعميد الجامعة، وفخري البارودي زعيم الشباب السوري وهو السياسي الذي يحتل المكانة الأولى في قلوب الجماهير
حديث فارس الخوري
فارس الخوري هو رئيس مجلس النواب وزعيم الحزب الوطني وقد تمكن بفضل تجاربه الكثيرة في ميدان السياسة التي مارسها مدة طويلة أن يتمتع بنفوذ عظيم بين رجال السياسة في البلاد. وهو من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت وأستاذ في الحقوق في الجامعة السورية. وهو رجل قد أسبغت عليه مقدرته العقلية بالاشتراك مع مظهره المهيب حلة من الوقار. إلا أن جملة لم تكن خالية من الزخرف اللفظي الذي بمبل إليه بصورة جلية. وقد ذكرني وهو جالس وراء منضدته في مكتبة الخالص في دار البرلمان الجديدة بالأستاذ نيكولاس ماراي بتلر. قال بلغته الإنكليزية الصحيحة:
(أن سورية في نظرنا لا تنحصر بالمقاطعة المعروفة بهذا الاسم اليوم، بل هي تشمل كل البلاد التي كانت في وقت من الأوقات جزءاً منها: أي لبنان وفلسطين والعراق. إن حدودنا الحقيقة يجب أن تتاخم حدود تركيا والحجاز ومصر والبحر الأبيض المتوسط وإيران. إننا لا ننكر أن توحيد هذه الأقطار مستحيل الآن، ولهذا فإن همنا موجه أولاً إلى تشكيل اتحاد للدولة العربية تكون أعضاؤه مستقلة. إن اتحادنا مع لبنان هو أول خطوة لتحقيق هذه الغاية، فان انفصالنا عنه أمر غير طبيعي. إن اللبنانيين الذين يتحدثون عن الاختلاف بيننا في الأصل وفي المصالح الاقتصادية لمبالغون. فالواقع أن وجوه الاختلاف بيننا أقل من وجوه الشبه
(إن أمامنا مهمتين رئيسيتين، ألا وهما تشكل الجيش الوطني وتحقيق الإنعاش الاقتصادي. أما الجيش فهو ضروري لحفظ كرامتنا، وفرقة واحدة منه تكفينا الآن إذ أن الجيش الفرنسي الذي لا يوجد عندنا غيره في الوقت الحاضر قد يوجه في يوم من الأيام ضد مصلحتنا وذلك عندما تفكر فرنسا في تحويلنا إلى سفتجة تعرضها عند اللزوم على بريطانيا أو تركيا أو - حتى - إيطاليا. وبالإضافة إلى ذلك فلسنا كالإناث حتى نحتاج حماية جيش أجنبي، فنحن قادرون على حماية أنفسنا) وهنا رفع صوته ليؤكد جملته الأخيرة، وأجال بصره حول الغرفة كأنه يستعرض تلك (الفرقة الواحدة) ثم تابع كلامه بلهجة هادئة فقال:
(أما المهمة الثانية وهي تقوية دعائم البلاد الاقتصادية فان الوحدة العربية ستبقى خيالا إذا لم تسبقها هذه التقوية. إن ما نستورده في الوقت الحاضر من الخارج يساوي أربعة أمثال
ما نصدره، وعليه فلا بد لكل دولة عربية من تحقيق توازنها الاقتصادي قبل تحقيق الوحدة العربية المنشودة. ولن تنجح سورية في تعديل ميزانها الاقتصادية ما لم تعمل على تخفيض مقدار ما تستورده تخفيضاً شديداً، وتسعَ إلى خلق صناعات جديدة في البلاد وتحسين الزراعة
(إن نسبة تقدمنا الثقافي تكاد تفوق نسبة ما تتحمله البلاد من تقدم اقتصادي. فالسوري ذو ميل فطري للدراسة؛ ونحن نثقف أولادنا في الجامعات الأوربية حتى أوشك عدد المتعلمين عندنا أن يزيد على الأعمال المفتوحة لهم)
(يتبع)
علي حيدر الركابي
النظام القضائي في مصر الإسلامية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
القضاء في أمة من الأمم مظهر من مظاهر تقدمها. ولقد قال لينبول في معرض كلامه عن القضاء في مصر الإسلامية: (إن هذه الروح الاستقلالية عند القاضي الذي كان يُضرَبُ بالسياط إذا ما خالف الأوامر العالية كانت رمزاً لما كان يعامل به غيرُه ممن هم في مرتبته وفي مركزه. ولقد ساد الظلم في هذا العصر وتفشت الرشوة في سائر الأعمال الإدارية، ودخلت البلاد تحت حكم طائفة من الولاة وعمال الخراج ممن جمعوا الأموال كرهاً وعسفاً في عصر لم يكن القاضي ليؤتمن فيه على الشريعة الغراء. هذا فضلا عما كان هنالك من رشوة متفشية وتهديدات مصوبة إلى هذا القاضي
(وربما كانت الشريعة الإسلامية محدودة المادة، وقد يكون القاضي متطرفاً في اعتقاده. غير أنه كان على الأقل على نصيب من العلم والمعرفة، وله خبرة اكتسبها من اشتغاله بالتشريع الإسلامي، كما أنه اشتهر لدى الجمهور بالاستقامة وسمو الخلق، ولما كان لمركزه من أهمية ولشخصه من كبير نفوذ لم يكن يجري عليه ما كان يجري على غيره من العمال، بل ظل القاضي في كثير من الأحيان يشغل منصبه في عهد ولاة عدة، بل كثيراً ما أعيد إلى منصبه إذا ما تولى الحكم أو وال جديد
(ولم يكن هناك أسرع من القاضي في تقديم الاستقالة إذا تدخل في أحكامه الشرعية متدخل. وقد بلغ من محبة الناس للقضاة أن أصبح الولاة يفكرون ملياً إذا حدثتهم أنفسهم بالإقدام على عزلهم حتى لا يعرضوا أنفسهم لكراهة الجمهور التي قد يجرها إليهم أي تدخل من جانبهم في السلطة القضائية. وفي الحق لم يعدَ الوالي في العصر العباسي يملك سلطة عزل القضاة. ويظهر أن تعيين القضاة أصبح منذ أيام أبن لهيعة (155 - 164هـ) تصدر به المراسيم من بغداد عادة، كما غدت مسألة تحديد الراتب ودفعه موكولة إلى الخليفة نفسه)
وهذه العبارة التي ذكرها لينبول في جملتها بمثابة وصف موجز لحالة القضاء في هذا العصر. على أنه بالرغم من ذلك فقد أتى بعض قضاء هذا العصر بضروب من الإصلاح بارزة، فعرف توبة أبن نمر الحضرمي (115 - 120هـ) بالاستقامة، وكان يهيب إخوانه
ويصلهم بكل ما ملكت يداه حتى وصفه الناس بالتبذير هذا إلى أن توبة كان أول قاض وضع يده على الأحباس (118 هـ) حفظاً لها من التَّوى والثورات وجعل لها ديواناً كبيراً
كذلك كان القاضي غوث بن سلمان الحضري (135 - 140هـ) حسن الأحدوثة وقد عمل على تطهير القضاء من العيوب التي كانت متفشية فيه وأخصها شهادة الزور. ولقد عالج هذا العيب فكان يسأل عن الشهود سراً. فإذا تأكد من استقامتهم وحسن شهادتهم قبل شهادتهم. وقد عرف غوث بالنزاهة والاستقامة، وكان كما قال الكندي (أعلم الناس بمعاني القضاء وسياسة) وأشتهر بالعدل والاعتدال في أحكامه على الرغم من عدم تضلعه في الفقه الإسلامي. يدلّك على ذلك ما كان من كثرة الخصوم على داره بعد وفاة خلفه. وقد بلغ من عدل غوث هذا أنه جعل الخليفة المهدي العباسي وامرأة شكته إليه على قدم المساواة في الحكم. ولما وكّل الخليفة عنه رجلاً، ساوى بين هذا الرجل وبين الخصم في مجلس القضاء
كذلك كان أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد (144 - 153هـ) فقيهاً متضلعاً في علم الشريعة. ولقد بلغ من نزاهته أنه كان لا يأخذ عطاءه عن اليوم الذي لم يعمل فيه للقضاء شيئاً. وربما يعجب القارئ لما كان عليه هؤلاء القوم من النزاهة والورع في هذا الوقت، ولقد كان يقضي هذا القاضي يومه بعيدا عن مجلس الحكم إذا رأى التخلف لغسل ثيابه أو لحضور جنازة أو نحو ذلك حتى عبر عن اعتقاده بقوله (إنما أنا عامل للمسلمين، فإذا اشتغلت بشيء غير عملهم فلا يحل لي أخذ مالهم)
ولعل القارئ يعجب كيف يتخلف ذلك القاضي العظيم، وهل كان يوجد في ذلك الوقت من يكفيه مؤونة غسل هذه الثياب؟
ولكن أخلاق القضاة في ذلك الوقت كانت أخلاقا إسلامية متواضعة، وكانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في تواضعه وتنزهه عن الكبرياء، فلقد أَثِرَ أنه كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقضي كثيرا في حاجاته بنفسه؛ وهذا العمل في حد ذاته رياضة محبوبة ينزع إليها كثير من العلماء، وهو نوع من الديمقراطية لإرضاء الفقير
وكان أبو عبد الله بن لهيعة (155 - 163هـ) أول قاض ولي من قبل خليفة في العصر العباسي، كما كان أول قاض حضر في إثبات رؤية الهلال. ولقد أتى المفضل بن فضالة (168 - 169، 174 - 177هـ) بكثير من ضروب الإصلاح التي أدخلها على نظام
القضاء. وكان كذلك أول من عنى بالسجلات وجعلها تامة وافية، فدوّن فيها السَّحايا والوصايا والديون وأول من أتخذ (صاحب المسائل) ومهمته الوقوف على حقيقة الشهود.
ويظهر أن هذا الإصلاح الأخير إنما كان ظاهرياً فقط، فقد قيل أن هذا الموظف كان يرتشي من بعض الناس ليقرر عدالتهم لدى القاضي. على أن المفضّل فطن إلى ضرر الاستعانة بهذا الموظف، وأضطر أمام الأمر الواقع فعين عشرة رجال للشهادة، ولكن هذا العمل لم يرق في نظر الجمهور لاتخاذ الشهود بهذه القلة، ولأنه عمل جديد لم يسبق إليه أحد من القضاة، فقال رجل يدعى اسحق بن معاذ يقبح رأي القاضي:
سننْتَ لنا الجوْرَ في حكمنِا
…
وصّيرت قوماًُ لصوصاً عُدولا
ولم يسمع الناسُ فيما مضى
…
بأن العدول عديداً قليلا
وقد نظم لهيعه بن عيسى الأحباس وكانت في أيامه على ما قال هو لأحد أصحابه (سألت الله أن يبلغني الحكم فيها فلم أترك شيئاً منها حتى حكمت فيه وجدّدت الشهادة به) ولا غرو فقد جمع الأموال التي من الأحباس وخصص منها نصيباً لأهل مصر كما أدخل فيها المطوعة الذين كانوا يعمرون المواخير وأجرى عليهم العطاء من الأحباس فكان ذلك أول ما فُرضت فروض القضاة فسنّ الناس هذه السنة بعد لهيعه وسميت (فروض لهيعة) ثم سميت بعد ذلك فروض القاضي وفي ذلك يقول فراس المرادي
لعمري لقد سارت فروض لهيعة
…
إلى بلد قد كان يهلك صاحُبهْ
إلى بلد تُقرَى به واليوم والصدى
…
تعاوره الروم الطغام تحارُبهْ
رشيد وإضنا والبرلّس كلها
…
ودمياط والأشتوم تقوى تغالبه
لهيع: لقد حزت المكارم والثنا
…
ومن عند ربي فضله ومواهبه
فقد عمَّرت تلك الثغور بسنة
…
تعد إذا عدت هناك مناقبه
على أن لهيعه قد أغضب أهل مصر لما كان من اتخاذه ثلاثين رجلاً من الشهود جعلهم بطانة له، فقال أبو شيب مولى نجيب في صحابه لهيعة شعراً ننقل بعضه لأنه يبين كيف كان يعقد مجلس الحكم في هذا العصر، وأن كنا نرى في هذا الوصف مبالغة قوامها التشهير بهذا القاضي وصحابته:
لازموا المسجد ضلاّ
…
لاً من الأمر الرشيد
لحوانيت بَنَوْها
…
بغناً كلّ عمود
والأحُوا بجباهٍ
…
من نطاح الحُصر سودِ
تحت أميالٍ طِوال
…
كبراطيل اليهود
وتراهم للوصايا
…
وعدالات الشهودِ
في مراء وجدال
…
وقيام وقعود
وخشوع وابتهال
…
وركوع وسجود
وعلى القسمة أضرى
…
من تماسيح الصعيد
هذا حال نظام القضاء في مصر إبان هذا العصر، غير أنه للأسف لم يكن خالياً من عيوب ونقائص جعلته متمشياً في جملته مع تلك الحال السيئة التي سادت البلاد في هذا الوقت. نعم! قد عرف بعض القضاء بسوء السيرة فأساءوا إلى سمعتهم وسمعة كتابهم بما أتوه من أعمال الرشوة؛ على أنه يلوح لنا أن الخلفاء كانوا لهؤلاء وأمثالهم بالمرصاد، فقد ذكر الكندي أن هشام بن عبد الملك الأموي بلغه أن يحيى بن ميمون الحضرمي (105 - 114هـ) لم ينصف يتيما احتكم إليه بعد بلوغه، وحوّل قضيته إلى عريف قومه، وكان اليتيم وقتئذ في حِجره، ثم حبسه حين أتصل به أنه أخذ يشنع عليه ويرميه بعدم إنصافه، وعلم الخليفة بهذا فعظم ذلك عليه وصرفه، وكتب إلى الوليد بن رفاعة عامله على مصر يقول:(أصرف يحيى عما يتولاه من القضاء مذموماً مدحوراً، وتخير لقضاء جندك رجلاً عفيفاً ورعاً تقياً سليما من العيوب لا تأخذه في الله لومة لائم)
حسن إبراهيم حسن
فلسفة الأسماء
للأستاذ السيد شحاتة
إن أول ما يصادف الإنسان في حياته فيوسم به ويبقى ملازماً له، ويشتهر به حتى بعد موته، ويمتاز به عن غيره من الناس، هو الاسم. وقد ترتفع بالإنسان الشهرة وذيوع الصيت إلى أن يكون طبيباً نطاسّياً أو شاعراً فحلا أو عالماً نحريراً أو خطيباً لسناً أو صانعاً ماهراً فلا يعرفه الناس ولا يقرون له بفضل إلا مقروناً باسمه
فالاسم هو السمة الواضحة البارعة التي تفصح عن صاحبها وتبين عن مواهبه. وفي القديم والحديث تفنن الناس في انتقائها وجهدوا في اختيارها حتى اتخذوا من الأسماء علامات للخير والشر والذكاء والغباء والسعادة والشقاء
ولرجال التربية مذهب في تسمية الأبناء فهم يرون أن أول واجب على الأب أداء هذا الدين على وجه موفق محبوب باختيار اسم جميل يكون عنواناً محبباً مقبولاً لابنه على تقادم الأيام، يرى فيه عزة وكرامة لا مهانة وسخرية. فهم ينصحون الآباء بأن يؤدوا الأمانة أحسن أداء فلا يسمون أبناءهم باسم قبيح مرذول حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب
وفي الحقيقة أن للاسم تأثيراً كبيراً في توجيه عقلية الإنسان وفي سعادته وفي نبوغه وفي شهرته. وقد تسعد الأسماء أو تشقى بسعادة أصحابها أو شقائهم. وقد يتهافت الناس على أسم فيشيع ويذيع لأنه لنبي أنار الظلمات، أو ولى أزال الشبهات، أو قائد أو زعيم طارت شهرته، فأخذ الناس بسناه، وتأصل بينهم من اسمه سحر يجذبهم إليه
الإنسان والأسماء
لقد كانت التسمية عند الإنسان هي المحور الأساسي الذي تدور عليه قواعد التسمية أجمع، لأن الاسم من أفضل علامات التكريم ومن أبين دلائل الرقي والكمال. وما من شك في أن الله قد كرم بني آدم وفضلهم على سائر المخلوقات
ولكنا على رغم هذا نجد الإنسان نفسه قد استعار من أسمائه ومن غيرها فسمى الخيل والشوارع والقطط والكلاب والبلاد وغير ذلك فأطلق على الخيل (فواز)(غاوي)(سحاب). . . الخ
وفي كل منزل يسمي الناس كلابهم وقططهم بأسماء خاصة يقصدون فيها إلى الرشاقة
والدلال. وكذلك الشوارع تسمى بأسماء يخذها المختصون من التاريخ أو الموقع أو اسم أحد الفطان الملوك والزعماء
ولقد غدا تكريم الملوك والعظماء يأخذ من أسماء الشوارع أعز مكان. فهم يطلقون أسم ملك أو العظيم حباً فيه وتخليداً لذكراه واعترافاً بأياديه
والمدن تنسب إلى الملوك (كالإبراهيمية. الفاروقية. الإسماعيلية. بور سعيد. بور فؤاد. الإسكندرية). وقد تدل على صناعة أو زراعة راجت فيها مثل (معمل الزجاج. المعصرة. كفر الزيات. كفر البطيخ. التل الكبير). ومنها ما تنسب إلى شخص أشتهر فيها مثل (أبو حماد. سيدي جابر. جرجا) - نسبة إلى ماري جرجس - ولبعض المدن أسماء غربية من اللغة القبطية القديمة مثل (دمنهور). وهور: أحد آلهة المصريين القدماء. ودمن: أي مدينة
وقد أنساق الناس في تعليلات طريفة لبعض أسماء المدن والقرى فهم يزعمون أن يوسف عليه السلام تقابل مع زليخا زوج العزيز بعد أن طوي شبابها تتابع الأيام فذوت نضرتها وذبل جمالها - تقابل معها في المكان المعروف بمديرية الجيزة فقال لها (أصبح البدرشين) فلذلك سميت مدينة البدرشين باسمها هذا
ويزعمون أن القائد جوهر أراد أن يضع أسس البناء في عاصمة مصر في ساعة سعيدة يقدرها رجال الفلك، فجعل أجراساً تدق للبنائين ليضعوا البناء إذا ما حانت ساعة سعيدة، ولكن الحظ خانه إذ حرك طائر حبال الأجراس، فرنت، فوضع الأساس في ساعة القهر فسميت القاهرة. وهذه مزاعم دفع الناس إليها حرصهم على المبالغة في التعليل.
والمدن كالإنسان خاضعة عند تغيير اسمها إلى قانون فلا يجوز تغيير اسم بلد إلا بعد موافقة وزارة الداخلية ووجود ضرورة لهذا التغيير.
التسمية عند القدماء
لقد وضعت أسماء الأعلام والأجناس للدلالة على أفراد النوع الإنساني وما يحيط به في بيئته الطبيعية وما يبتكره في حياته الفكرية. وليس من شك في أن وضع هذا النوع من الأسماء قد جاء سابقاً في المرتبة على وجود الأفعال والحروف التي ما وجدت إلا لتربط الأسماء في الجمل المختلفة.
ولكن المرجح أن الإنسان لم يتذوق التسمية بمعناها السامي الفني، ولم يعن بها ولم يتفنن
في اختيارها قبل أن يعرف الحضارة والمدينة ويسمو إلى أفق الحياة الكاملة. وإنما كان الناس في عصور الجهالة يطلق بعضهم على بعض أوصافا تميز كل واحد منهم من الآخر؛ وهذه الأوصاف تدل على ميزة كل شخص بقدر الامكان، كقولهم (الرجل القصير. الرجل البدين. ذو العين الواحدة. وهكذا. . .) ولكنا نحن في عصورنا هذه عصور الحضارة والمدينة نلجأ إلى ذلك في مواطن كثيرة. فإذا أردنا وصفا دقيقا لمن لا يعرف اسمه وصفناه بأخص صفاته وأظهرها
وقد كان المتوحشون يخافون أن تستحسن العفاريت والأرواح الشريرة أسماء أولادهم فتقبض أرواحهم، فلذلك كانوا يسمون أولادهم بأسماء بشعة (القذر. الوغد. الجبان) وكان بعضهم يسمى الطفل باسم تاريخي (القحط. الوباء. الحرب) وما زلنا نحن نسمي أولادنا بأسماء تاريخية (عيد. خميس. جمعه. شعبان. رجب، محرم. ربيع) ولبعض الأسماء القديمة دلالة تدل على ميزة بها أو أصل طبيعتها؛ فقد أشتق (آدم) من أديم الأرض لأنه خلق من الطين واسم (إبليس) من الابلاس وهو اليأس
التسمية عند العرب
ذهب عرب الجاهلية مذاهب شتى في تسمية أبنائهم، فمنهم من تفاءل بالنصر والظفر فسمى (غالب. غلاب. ظالم. طارق. معارك. منازل) ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ فسمى (سعد. سعود. غانم. غياث. غوث) ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن لإظهار القوة فسمى (صخر. جندل. جبل. قهر)
ومن العرب من كان يخرج وزوجته قد جاءها المخاض فيسمى من تلده امرأته بأول أسم يقابله كائناً ما كان (سبع. ثعلب. كلب) ويروون في هذا أن أسماء بنت دريم من قبائل العرب كانت تلقب (أم الأسبع) لأنها سمت أولادها (كلب. أسد. ذئب. فهد. ثعلب. سرحان. خثعم. هر. ضبع)
ومن العرب من أضيف إلى عبودية الأصنام (عبد العزى. عبد مناه) وقد كان في الأمة العربية من اشتهر بلقب غلب عليه في شعره حتى أصبح علماً له مثل: (عمرو بن رباح السلمي)(أبو الخنساء - الشاعرة المشهورة) إذ سمى (الشربد) لقوله:
تولي إخوتي وبقيت فرداً
…
وحيداً في ديارهم شريدا
ومنهم (عمرو بن سعيد - الملقب بالمرقش) لقوله:
الدار قفر والرسوم كما
…
رقش في ظهر الأديم قلم
ومنهم سالم بن نهار العبدي الذي لقب بالمزق لقوله:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
…
وإلا فأدركني ولما أمزق
وكذلك أمرؤ القيس أمير شعراء الجاهلية يلقبونه (بذي القروح) لقوله:
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة
…
فيالك من نعمى تحولت أبؤسا!
وما زلنا نحن في عصرنا هذا نسمي الناس بشيء يرتبط بهم من صناعة أو أي عمل؛ فعندنا الآن ألقاب ربما شاعت بين الناس حتى طغت على شهرة الاسم الحقيقي، فأصبح المسمى لا يعرف إلا بها (الصحافي العجوز. أبو بثينة. برسوم المجبر. ابنة الشاطئ) وفي العرب أسماء كثيرة من هذا النوع. كما أن بينهم أسماء أخذت في حوادث معينة - مثل جرير الشاعر الأموي المشهور؛ فقد ذكروا في ذلك - أن الجرير في اللغة هو الحبل. وقد سمي الشاعر بذلك لأن أمه رأت في منامها وهي حامل به أنها تلد حبلاً يخنق الناس، فذهبت في الصباح إلى معبر للرؤيا وقصت عليه رؤياها فقال لها (لتلدن ولداً يكون شراً على الناس) وفعلا كان كذلك جرير. وكانت أمه ترقصه وهو صغير وتغني له:
قصصت رؤياي على ذاك الرجل
…
فقال لي قولا وليت لم يقل
لتلدن عضلة من العضل
…
ذا منطق جذل إذا قال فصل
وسمى الجاحظ جاحظاً لجحوظ عينية. والمتنبي لادعائه النبوة كما أشتهر كثيراً بنسبتهم إلى بلادهم أو قبائلهم (البحتري. أبو العلاء المعري. الطائي. الخزرجي. المزني) ونحن نسمي الأشخاص نسبة إلى بلد أو صناعة (إبراهيم المصري. خليل الزيات. بيومي الطبال. محمد النجار. خديجة العياشة)
وكذلك (الصباغ. الجمال. الدباغ) ومما تحسن الإشارة إليه بمناسبة الدباغ. أن رجلا في الماضي القريب أسمه إبراهيم الدباغ اشتهر بكثير الأكل، فأطلق الناس كلمة دباغ على كل إنسان يكثر الأكل
أما النسب إلى القبيلة كما كان الحال عند العرب، فقلما نجده الآن لشيوع روح المدينة وتقطع التواصل بين الناس وعدم الاعتزاز والفخر بالقبيلة كما فعل العرب، ولأن الوحدة
أصبحت للدولة لا للقبيلة
الأسماء والأديان
لم تكن للأسماء في العصور الأولى صبغة دينية خاصة، إلا أن الحال تغيرت بعد ظهور المسيحية، إذ أخذ المسيحيون يقلعون شيئاً فشيئا عن بعض الأسماء اليهودية والوثنية ثم يختارون أسماء جديدة
وفي أوائل عهد النصرانية درج النصارى على أن يسموا أبناءهم بأسماء القديسين والأنبياء، إذ يعلن الأب اسم ابنه جهاراً عند المعمودية فيصبح اسماً معترفاً به قانوناً
وفي فرنسا لا يجوز لأحد أن يبتدع لابنه اسماً غريباً لم يعرفه الناس من قبل، وما يزال في فرنسا حتى اليوم سجل رسمي يحتوي الأسماء التي يجوز للإنسان أن يختارها لأبنائه ولا يجوز له أن يسمى بما عداها، وهذا السجل يهذب من وقت لآخر بإضافة أسماء حديثة وحذف أخرى قديمة
وفي أسبانيا - حيث ديانتهم الرسمية الكاثوليكية وقد كانت حكوماتهم ملكية - كان الآباء مقيدين عند تسمية أبنائهم بطائفة من أسماء القديسين والقديسات مأخوذة من تقويم الكنيسة؛ ولكن بعد زوال الملكية قريباً قد أبطل هذا وصار الآباء أحراراً في تسمية أبنائهم
ولما ظهر الإسلام تطورات الأسماء عند العرب، إذ سمي النبي (محمد) مع أنه لم يسم أحد من قبل بهذا الاسم، ثم شاعت الأسماء المضافة إلى عبودية الله وتعدت لفظ الجلالة إلى غيره من أسماء الله الحسنى. والآن نجد بين المسلمين نحو النصف من الأسماء تدعى محمداً أو ما اشتق منه مثل محمود. أحمد. حامد، وقد أثر عن النبي (صلعم) أنه قال (خير الأسماء ما حمد ثم ما عبد)
والأديان على العموم لا تحرم اسماً ولا تبيح آخر، بل الإنسان حر في التسمية بما شاء. غير أنه على الرغم من هذه الحرية المطلقة نرى بعض أسماء اختص بها المسلمون، وأخرى اختص بها اليهود، وغير ذلك من الأسماء تفرد بها المسيحيون. فمن أسماء النصارى الخاصة (بطرس. ميخائل. حنا. جرجس. عبد المسيح. هيلانة. ماري) ومن أسماء اليهود الخاصة (باروخ. عزرا. كوهين. ليفي. حانان) ومن أسماء المسلمين الخاصة (محمد. مصطفى. حسن. علي. فاطمة. عائشة) ومن أسماء المسلمين المشتركة (يوسف.
سليمان. إبراهيم. داود. يعقوب. توفيق)
وفي الواحات المصرية كما في جزيرة قبرص أسماء مخلوطة، فهناك بطرس حسين. جورج محمد. نقولا عثمان. وفي سوريا من المسيحيين من سمى ابنه محمداً. وفي مصر تميل الأسماء المسيحية شيئا فشيئا نحو الإسلامية، حتى أنها لتشتبه بها في كثير من الأحيان. وفي أسبانيا حيث مكثت الديانة الإسلامية نحو ثمانية قرون، نجد كثيراً من أسماء الأجداد الأولين للأسبان المعاصرين تنتهي بأسماء إسلامية.
(البقية في العدد القادم)
السيد شحاته
بين الفن والنقد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
قالت لي نفسي بعد شهودها معركة للنقد بين جماعة من أصدقائي لحق منها مؤسسين عظيمين من مؤسسي الأدب الحديث جملة من النعوت أذكر أنها لم تكن لتلحقهما لو مضيا من الحياة ولم يتركها بيانهما العظيم:
(حطم قلمك! وأغلق أقفالي عليّ، واتركني أمضي من الحياة من غير صوت ولا ذيول يتعلق بها متجن وعابث. ودعك من أسطورة الخلود. . . تلك التي تفتنكم وتجركم إلى النزاع وإضافة تعبيرات جديدة إلى سجل الشتائم المهذبة الخالدة المذاعة وقل في تلك الأسطورة ما قال المازني الأديب الساخر منذ سنوات في صحيفة البلاغ: (طُزْ!)
فقلت لها يا نفسي: ألم تعلمي في سنن الحياة أن لكل شيء وجهين: وجه جمال، ووجه قبح؟. ألم تحفظي قول القائل:
نقول هذا مجاج النحل تمدحه=وإن تذم فقل قيء الزنابير
(والعظيم دائماً يحظى بشرف المبالغة من أنصاره وأعدائه) وتاريخ الآداب والفنون والعلوم مملوء بالمعارك العنيفة بين المنتج والناقد وأنصارهما. ولم يفد الأدب والعلم بقدر ما أفادا من النقد على شريطة الإنصاف فيه والبعد عن المهاترة وتسقط العيوب وإدخال النوازع الشخصية في موازينه
غير أن المنتج غيور على إنتاجه، فتارة يجهد نفسه في التجويد والتهذيب والتنقيح قبل أن يعرض نتاجه كما يفعل زهير في حولياته. وتارة لا يلقي باله إلى كلام النقاد ولا يحفل رضاهم أو سخطهم ما دام هو راضياً عن نفسه، كما قال الفرزدق لناقد احتار في إعراب كلمة من شعره (عليَّ أن أقول وعليكم أن تعربوا) وكما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
…
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وكما قال الأستاذ العقاد في تقدمه ديوانه:
هذا كتابي في يد القراء
ينزل في بحر بلا انتهاء
فليلق بين القدح والثناء
ما شاءت الدنيا من الجزاء
وكما هو شعار برناردشو الذي يستدفئ بموقد كتبت على حافته هذه الكلمة:
(إنهم يقولون. . . ماذا يقولون؟ دعهم يقولون. . .)
وتارة يحمل المنتج على النقاد فيخافون لسانه ويقرظونه أو يسكتون عنه كما كان يفعل ابن الرومي
وتارة ينال المنتج من الناقدة ثأره كما قال شلي الشاعر الإنجليزي (ما عدا أمثلة نادرة لا يمثل النقاد سوى سلالة غبية خبيثة. وكما يتحول اللص المفلس إلى خفير كذلك يتحول المؤلف العاجز إلى ناقد!) وقال كولردج (النقاد هم عادة أناس كان ينتظر أن يكونوا شعراء ومؤرخين وكتاب سير لو استطاعوا. وقد جربوا مواهبهم في هذا أو ذاك ففشلوا؛ ولذلك انقلبوا نقاداً)
غير أن من القليل النادر أن نجد هذه الغيرة من الفنان والمنتج تبدو في صورة (الكبت) أو (الوأد) ولن يقدم على ذلك أديب أو عالم محترف أو مؤمن بنفسه يريد أن يفرضها على التاريخ؛ وإنما هو أحد رجلين: رجل (هاو) يجمع إلى إنتاجه وفنه حرفة أخرى يلابس الحياة بها وينال احترام الناس منها، فلن يضيره أن يتخلى عن إذاعة فنه عندما يرى أنه سيجلب عليه تنغيصاً ومحنة وعداوة من حيث يرجو الترفيه والحب؛ كما قال المتنبي (أعادي على ما يوجب الحب للفتى)؛ أو هو رجل شاك في نفسه رافع ثقته فيها لا يراها إلا بعيون الناس، فإذا قالوا لها أو عليها فهو وما قالوا
والأستاذ عبد الرحمن شكري والدكتور الشاعر إبراهيم ناجي مثلان مضروبان للرجل الأول في عهد من عهودهما بين يدي هذا العصر؛ كما يضرب أبو حيان التوحيدي الأديب المتوفى سنة 403هـ مثلاً في العصر القديم، فقد أحرق مؤلفاته ولما سئل في ذلك أجاب (شق على أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها)
هذه صورة من غيرة المنتج، في بعضها يصل الناقد إلى حد الجناية لأنه يحمل بعض النفوس على الكبت أو الوأد لما لا بد أن يشتمل على نفع كثير للإنسانية ما عساه أن يكون فيه من ضرر أو تفاهة. نعم إن بعض المنتجين يعرضون أشياء تافهة أو مكررة تستحق
التزييف وتأديب أصحابها لأنهم لم يعوا معنى كلمة الجاحظ (ينبغي لمن يكتب كتاباً أن يكتبه على أن الناس كلهم له أعداء، وأنهم أعلم منه بما يقول. وأن لابتداء القول فتنة وعجبا)، ولا قول الآخر:(من ألف فقد استهدف)
غير أن هذا كله ليس مبرراً لتهجم الناقد على نفس المنقود وذهنه، وليس داعياً إلى تحطيم حرماته وإهدار قداسته الطبيعية التي هي له حق طبيعي من قبل أن يخط حرفاً أو يعمل عملا هو فيه حسن النية لا ريب؛ إذ أنه يريد أن يشارك به في المجهود الإنساني. فإذا لم ينل الشكر فلا أقل من ترك حرماته من غير تجريح
وأذكر أنني قرأت منذ عشر سنوات لكاتب تونسي لا أتذكر اسمه كلمة في مقدمة كتاب ألفه، تفيض باسترحام القارئ ليفضي عما في الكتاب من نقص يجده؛ إذ أن مؤلفه كتبه بضياء عينيه ساهداً في جوف الليل ليسعد به قارئوه الذين كانوا نياماً في ذلك الوقت. وهو معنى جميل لو وضعه الناقد أمام عينيه لوقف وقدر ثم وقف وقدر كرتين قبل أن يعمل قلمه بالنقد المسلح الجارح
وأظن أن كاتباً ما، لم يحمل قلمه ويخط به حرفا إلا وهو يضمر مع ما يضمر من شهوة خلود الذكر أو الشهرة، النفع وتنمية الميراث الفكري. وهذا وحدة يحتم علينا احترام اتجاهه تشجيعا له ولغيره. اللهم إلا الكاتبين الهدامين الذين في تركهم أو تقديرهم خطر؛ فأولئك يجب هدمهم بالنقد وإهدار حرماتهم كما أهدروا حرمات المجتمع
وما أجمل مذهب القائل - وأظنه شاعرا سوريا أو لبنانيا معاصراً -:
أيها الناقص أعمال الورى
…
هل أريت الناس ماذا تعمل؟
لا تقل عن عمل: ذا ناقص
…
جيء بأوفى ثم قل: ذا أكمل
إن يغب عن عين سارٍ قمر
…
فحرام أن يعاب المشعل
القاهرة
عبد المنعم خلاف
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 9 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (رداً على جورجياس) وإذا فلنر الآن إذا كنت أستطيع أن اشرح لك ما أريد أن أقول بوضوح أكثر. عندنا من الفنون بقدر ما عندنا من الجواهر. وأحد هذه الفنون يختص بالنفس وأدعوه (السياسة) والآخر يختص بالجسد ولست أجد له الآن اسماً مفرداً وإن كنت أميزُ في وحدته قسمين هما (الرياضة البدنية) و (الطب) كما أميز في السياسة بالمثل (التشريع) ويقابل الرياضة البدنية، و (العدالة) وتقابل الطب. ولما كانت فنون هاتين المجموعتين تتصل بموضوع واحد فإنها بالطبع ذات علاقات فيما بينها؛ كما هو الحال في الطب والرياضة البدنية من ناحية، وفي العدالة والتشريع من ناحية أخرى، ولكن توجد بينها مع ذلك بعض الفروق. . .
هناك إذاً تلك الفنون التي ذكرتها، والتي تعمل على تحقيق أعظم الخيرات، والتي يختص بعضها بالجسد، وبعضها الآخر بالنفس. وهناك (أيضاً)(التملق) الذي لا نستطيع أن نتصوره إلا بالظن والتخمين دون العقل المنطقي، والذي ينقسم في نفسه إلى أربعة أقسام تنزلق تحت تلك الفنون الأربعة الآنفة وتتداخل فيها، ويدعى أنه هو نفس الفن الذي انزلق تحته واختفى فيه. . .، وهو (أي التملق) لا يعني بالخير قط، ولكنه يجذب الحماقة دائماً بما يقدمه لها من (طُعم) اللذة فيغشها ويخدعها وينال بذلك تقديراً كبيراً!؛ (فالطهي) مثلاً ينزلق تحت (الطب) ويتخفى فيه ويدعي مفتخراً أنه يعرف أفضل الأغذية الملائمة لصحة الجسم بحيث لو تجادل الطاهي والطبيب أمام الأطفال - أو من هم مثلهم عقلاً وفهماً - في:
أيهما أعرف من صاحبه بالأغذية المفيدة والضارة؟
لا نخذل الطبيب وباء بالخسران المبين
وإذا هو ما أدعوه (بالملق) يا بولوس، وما أدعى أنه شنيع وكريه، لأنه يهتم باللذات (الحسية) ويهمل الخيرات. وأنا أوجه ذلك التأكيد إليك وأضيف أنه ليس بفن؛ ولكنه مجرد تجربة وتمرين؛ لأنه لا يستطيع أن يبين الطبيعة الحقيقة للأشياء التي يشتغل بها، ولا أن يقدم لها تعليلا! ولذلك لا أستطيع أن أطلق (الفن) على شيء لا تفكير فيه. فإذا كنت تنازعني في ذلك فإني مستعد للدفاع عن قولي!. . . (لا ينطق بولوس)
وأستطيع أن أكرر ثانية أن الملق المتعلق بالطهي ينزلق تحت الطب ويختفي فيه، وأن التزين (أو التبهرج) ينزلق بالمثل تحت الرياضة البدنية ويصبح شيئاً مؤذياً خداعاً دنيئاً غير جدير بالإنسان الحر، لأنه يعمل على تمويه الصور والأشكال، والألوان والأثواب، والبريق والصقال، كيما يجلب للمرء جمالا مصطنعاً، ويصرفه بذلك عن الجمال الطبيعي الذي تستطيع أن تقدمه الرياضة البدنية
وجرياً وراء الاختصار سأحدثك بمنطق الهندسة لأنك قد تفهمني إذا خاطبتك بهذا المنطق فهما أدق وأصح. -: إن التزين بالنسبة للرياضة البدنية كالطهي بالنسبة للصحة. وبالأحرى التزين بالنسبة للرياضة كالسفسفطة بالنسبة للتشريع، والطهي بالنسبة للطب كالبيان بالنسبة للعدالة. وتلك هي الفروق الطبيعية بين هذه الأشياء، ولكنها لما كانت
متقاربة فيما بينها فان الخطباء والسفسطائيين يختلط فيهم الحابل بالنابل على نفس الأرض؛ وحول نفس الموضوعات؛ ولا يعرفون ماذا عسى أن تكون وظيفتهم الحق؛ كما لا يقل عنهم جهلا بهذه الوظيفة. . .، والحق أن النفس إذا كانت لا تحكم الجسد، وكان هو المتصرف في أمر نفسه بحيث لا تختبر هي الأشياء بذاتها ولا تفرق بين الطهي والطب، وكان هو الذي يحكم وحده تبعا لما يحصل عليه من لذات، أقول: الحق أن لو كان الأمر كذلك لرأينا في الغالب تلك (الفوضى) التي تعرفها يا عزيزي بولوس، والتي ذكرها (أناجساجور) في قوله (كان حابل الأشياء يختلط بنابلها!)، ولَكُنِّا لا نستطيع أن نفرق بين ما يختص بالطب، وما يختص بالصحة أو الطهي!!. .
فها قد سمعت ما أعتقده في البيان وعرفت أني أعتبره للنفس كالطهي للجسم!؛؛ وقد يكون من التناقض أن أحرم عليك الأقوال المسهبة وأضطرك مع ذلك إلى الإنصات إليّ هكذا طويلا؛ ولكني جدير في الواقع بالعذر؛ لأني عندما كنت أتكلم بإيجاز كنت ألاحظ أنك لا تفهمني ولا تستطيع أن تخرج بشيء من أقوالي؛ فوجب لذلك أن أقدم لك الشروح الكافية؛ وإذا رأيتُ بدوري غموضا في إجابتك فتستطيع أن تبسطها مثلي. أما إذا فهمتها فاتركني أقنعُ بها لأن من حقي. ويسرني الآن أن أسمع ما في مقدورك أن تذكره عن حديثي.!
ب - وماذا قلت؟ أتدعي أن البيان مجرد تملق ورياء؟
ط - لقد قلت إنه قسم من الملق فحسب!. أفيحتاج شبابك يا بولوس إلي ذاكرة؟
وماذا يكون شأنك غدا إذا ما تقدمت بك السن؟
ب - أتعتقد أن الخطباء المجيدين يعدون في المدن كالمتملقين وأنهم لذلك أقل احتراما؟؟
ط - أذلك سؤال توجهه إليّ أم هو حديث ستشرع فيه؟
ب - إنه سؤال
ط - حسن. فأنا ممن يعتقدون أنهم غير محترمين على الإطلاق. . .!
ب - وكيف يكونون كذلك وهم أقوياء وجِدَّ أقوياء في الدول؟
ط - ذلك إذا كنت تعد (القوة) خيراً لمن يمتلكها!
ب - أني لأعدها كذلك!
ط - حسن. ولكني أرى أن الخطباء أضعف المواطنين قوة وبأساً!
ب - وكيف؟ ألا يستطيعون أن يقتلوا من يشاءون، وأن ينهبوا أموال من يسرهم أن يفعلوا معه ذلك ثم ينفونه إلى الخارج كما يفعل الجبابرة الطغاة؟
ط - إني لأسأل نفسي - وحق الكلب - يا بولوس عند كل كلمة تقولها لا أعرف إذا كنت تتكلم بلسان أستاذك، أم تعبر عن رأيك الشخصي، أم تبغي رأيي فحسب
ب - إني لأبقي رأيك أنت!
ط - ليكن يا صديقي! ولكنك توجه إليّ سؤالين دفعة واحدة. . .!
ب - وكيف ذلك؟
ط - ألم تقل منذ لحظة أنهم يقتلون من يشاءون كما يفعل الجبابرة الطغاة، وينهبون وينفون من يسرهم أن يفعلوا معه ذلك؟
ب - بلى!
ط - حسن! أرى أن هذين سؤالين مختلفين، وسأجيب على أحدهما ثم على الآخر: إني أعتقد يا بولوس أن الخطباء والطغاة لا يملكون في الحكومات إلا قدراً ضئيلاً جداً من القوة كما ذكرتُ منذ لحظة؛ لأنهم لا يعملون تقريباً شيئاً مما يريدون؛ وإن كانوا ينفذن مع ذلك ما يلوح لهم أنه أفضل الأشياء!
ب - حسن. ولكن أليس هذا (قوة)؟
ط - كلا! وعلى الأقل بالنسبة لما يقول بولوس!
ب - وهل قلت (كلا)؟ لقد قلت على النقيض إن ذاك (قوة)!
ط - كلا وحق الإله! أنك لا تقول ذلك ما دمت قد أكدت أن (القوة) العظيمة خير لمن يمتلكها!!
ب - أتعتقد أنه من الخير للمرء أن ينفذها ما يبدو له كأفضل الأفعال إذا ما كان مسلوب العقل؟ وهل تسمى مثل هذه الحال (قوة كبيرة)؟
ب - كلا!!
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
التاريخ في سير أبطال
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 21 -
وأقام لنكولن في الفندق ينتظر يوم الاحتفال؛ وإنه ليحس أنه كالغريب في هذه المدينة العظيمة؛ ولقد كان كثير من أهلها يتوقعون قبل وصوله أن تصلهم الأنباء عن مقتله في الطريق؛ فلما فوت على الماكرين قصدهم ودخل المدينة ولم تزل غافية أصاب المؤتمرين به كمدوغم؛ ولكن هل فاتت الفرصة فلا سبيل لهم إليه بعدها؟ كلا فما زال الكائدون يتربصون به حتى لقد سرت في الناس إشاعة قوية أنه لن يحتفل بالرئيس الجديد؛ وأنه راجع إلى سبرنجفيلد قبل ذلك اليوم حياً أو ميتاً
وكانت المدينة إلى أهل الجنوب أكثر ميلاً منها إلى أهل الشمال؛ وكان سادتها وكبراؤها ممن يقتنون العبيد ويتمسكون بنظام العبيد؛ وكانت تقع عين القادم إلى المدينة على العبيد رائحين غادين؛ ولقد كان هذا منظراً تنفر منه عينا لنكولن وهو يطل على المدينة من الفندق. . . وكان ذوو النفوذ من أهلها يكرهون الجمهوريين ويسمونهم الجمهوريين السود. . . لذلك أحس ابراهام أنه في جو غير جوه كالنبات نقل إلى حيث لا يجدي معه ري ولا ينفع غذاء
وجلس ابراهام يفكر ويتدبر، فإذا امتد إلي الحاضر فكره رأي كيف تشيع الفتنة وكيف يستفحل الشر، وكيف يزلزل بناء الاتحاد حتى ليوشك أن ينهار. . . وإذا استشرفت للمستقبل نفسه رأى ظلمات فوقها ظلمات؛ فالحرب كما يبدو له واقعة لا محالة، ما لم يقع ما ليس في حسبان أحد. . . وهي إذا شبت نارها واستعرت اكتوى بسعيرها أبناء الوطن
الواحد وأصحاب المصلحة الواحدة؛ إنها حرب سوف تكون بين نصفي شعب بقاؤه وسعادته لن يكونا إلا في اتحاد كلمنه والتئام شمله. . .
وليت الفتنة اقتصرت على الناس ولم تمتد إلى الحكومة؛ إذاً لكانت أهون على الرئيس وعلى الشعب. . هاهي ذي تندس حتى تتغلغل في وحدات الجيش والبحرية والسادة المسؤولين من رجال الدولة؛ ولقد وقف بيوكانون حائراً لا يدري ما يأخذ مما يدع حتى لم يعد في إمكانه أن يحسم الشر؛ فكان بذلك وجوده على رأس الحكومة يومئذ شراً على شر
ولكن ابراهام لم يكن بيوكانون؛ وحسبه عزمه المصمم الجبار في هذا الموقف الرهيب؛ هذا إلى إخلاصه وكراهته للعدوان ويقينه الذي لا يداخله شك ولا يحوم حوله شيء مما ينسج الباطل من وهم وما يصور من ريبة
ولقد أشفق من لم يكونوا يعرفونه، بل لقد جزع بعض الناس أن تلقى أزمة الحكم في مثل هذه الظروف في يدي رجل هو في زعمهم لم تحسن يداه أن تقبضا على شيء غير المعول؛ وعجبوا أن تترك الأمور للرجل القادم من الغرب. . . لذلك المحامي الذي كان من قبل يخطط الأرض ويوزع البريد؛ والذي نشأ بين الأحراج ونما كما ينمو وحشي النبات. . . وسخط أعداؤه ممن لا يجهلون مقدرته واشتد بهم الغيظ ألا يجلس في كرسي الرياسة يومئذ إلا هذا الجمهوري الأسود! هذا الذي يعد في الجمهوريين كبيرهم الذي ألهمهم ما يلوكونه من عبارات تؤذي الأسماع وتخز القلوب وتقبض الصدور. . .
أما الذين عرفوا لنكولن وعرفوا خلاله فما خالطهم شك أنه الرجل الذي ليس غيره في الرجال تكون على يده السلامة ويتم الخلاص. . والحق لقد خلقت هذه الحوادث هذه الأزمة وخلقت في الوقت نفسه الرجل الذي ينهض لها والذي لن يقوىعلى حمل أعبائها سواه. . ولو لم يكن في أمريكا في تلك الأيام ذلك الرجل الذي أخرجته أحراجها لتغير تاريخها باتخاذه وجهة غير التي سار فيها
وإنا لنرى في ابراهام أحد الأفذاذ الذين يبرهنون بأعمالهم على فساد الرأي القائل بأن الظروف هي التي تخلق العظماء؛ فهذا رجل نجم عن أبوين فقيرين ودرج بين أحراج الغابة وألفافها؛ فلما واجه الحياة وأخذ يعول نفسه راح يشق طريقه في زحمتها ومفاوزها كما كان يشق طريقة بين الأدغال، ولا عاصم له مما يحيط به من مخاوف إلا عزيمته
وفتوته
راح ابراهام يستقبل الحياة ويمشي في مناكبها، وكأن الظروف كلها عدوه؛ فما زال يغالب الظروف وتغالبه، ويعركها وتعركه، حتى وصل إلى مركز الرياسة في قومه، دون أن يستمد العون مرة من أحد؛ أو تكون له وسيلة من جاه أو مال؛ أو حظوة عند ذي قوة، أو غير هذا وذاك مما يبتغي به الناس الوسائل إلى ما يطمحون إليه من غايات. . .
ولما أن بلغ هذا المركز كانت البلاد كما أسلفنا تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر؛ فكانت الظروف يومئذ كأسوأ ما تكون الظروف؛ ولكنه على الرغم من ذلك سار إلى غايته غير خائف ولا وان ولا منصرف عن وجهته إلى وجهة غيرها حتى عقد له النصر وتم له أداء رسالته. . .
وكيف لعمري تخلق الظروف والعظماء؟ وكيف يسمى عظيما ذلك الذي تخدمه الظروف فلا يكون له من فضل إلا ما يجيء عن طريق المصادفة؟ ألا إن العظيم الحق إنما هو الذي تخاصمه الظروف فينجح على الرغم ما تكيد له الظروف؛ وتتجهم له الأيام فيقدم على العظائم على الرغم من تجهم الأيام، وتعترضه الصعاب الشداد فلا تثنى له عزمه أشد الصعاب. بذلك تكون الظروف هي التي تخلق العظماء؛ فيكون الرجل الذي يظهر عليها ويظفر على الرغم منها هو العظيم، ويكون في ذلك كالدر تطهر النار جوهره
لبث ابراهام في الفندق ينتظر حتى يتخلى له بيوكانون الشيخ عن قيادة السفينة؛ وكان ابراهام يستمع إلى دوي العاصفة يزداد يوماً بعد يوم فيتلفت فلا يرى حوله غير سيوارد؛ ولكن سيوارد وصاحبه لا يلبث أن يدب بينهما خلاف شديد؛ فلقد كبر على سيوارد ألا يشاوره ابراهام في الخطبة التي أعدها ليوم الاحتفال وكان قد كتبها قبل أن يسافر من سبرنجفيلد. . .
وعلم ابراهام بالأمر فألقى بالخطبة بين يدي صاحبه؛ فاقترح عليه أن يغيَّر فيها أشياء وأن يضيف إليها أشياء، فلم ير ابراهام رأيه؛ على أنه قبل أن يضيف إلى الخطبة خاتمة كتبها سيوارد وتناولها ابراهام بالتغيير ليلتئم أسلوبها مع أسلوب الخطبة؛ وظن ابراهام أنه أرضى بذلك صديقه. . . ولكنه فوجئ في اليوم السابق ليوم الاحتفال بخطاب من عند صاحبه ينبئه فيه أنه يتحلل من وعده الذي سبق أن قطعه على نفسه بالاشتراك معه في
الحكم؛ وطوى ابراهام الخطاب متألماً مكتئباً. . . ألا ما أشد عنت الأيام! حتى سيوارد الذي ليس غيره ترجى منه المعونة تكون من جانبه العقبات؟
وأشرقت شمس اليوم الرابع من مارس عام 1861، وكان يوماً من أيام الربيع طلق المحيا رخي النسائم. . . فخرج الناس يشهدون موكب الرئيس الجديد؛ وكان موكب الاحتفال بتولية رئيس الولايات من أعظم ما تهتم به البلاد؛ وهو في هذه المرة أجل قدراً منه في كل ما سلف من الأيام؛ وذلك لما كان يحيط بتولية ابراهام من معان تجيش بها نفوس الخصوم والأنصار
وقضى ابراهام صباح ذلك اليوم يقرأ خطبته من جديد ويهذبها بالحذف والإضافة، حتى متع النهار فجاء بيوكانون إلى الفندق في عربة فركب معه ابراهام، والناس على طول الطريق إلى بناء المحافظة (الكابتول) تقع أعينهم على الرجلين، فهذا هو الرئيس القديم يشيع في رأسه الشيب ويبدو على بدنه ومحياه الهزال من أثر السنين ومن اثر ما حمل من عبء أوشك أن يلقيه وقد أربى على السبعين. . . وهذا هو الرئيس الجديد يبدو قوياً فتيّاً وهو يومئذ في الثانية والخمسين؛ هذا هو الرجل القادم من الغرب، هذا هو ابن الغابة. . . هذا هو النجار تملأ الأعين قامته الطويلة التي تلوح للأعين أكثر طولا إلى جانب صاحبه الشيخ الضئيل. . . وهو يرتدي اليوم حلة ما ارتدي مثلها من قبل، حلة ارتضتها له ماري وهيأنها لذلك اليوم، ثم هو يقبض بيده الكبيرة التي أكسبها حمل المعول كبرها وخشونتها، على عصا جميلة أنيقة
وضاقت بالناس الطرقات؛ وكان رجال الشرطة قد أبعدوا الجموع قليلاً عن حافتي الشارع، وقد أمرهم كبيرهم ألا يسمحوا بأي عبث بالنظام مهما خيل لهم أنه تافه. وكان كبير الشرطة يخاف أن تمتد أيدي الآثمين إلى الرئيس بالعدوان إذ كانت الإشاعات قد اتخذت مجراها في كل سبيل، وملأ الهمس بها الآذان، ووجفت من هول الجريمة قلوب الكثيرين من المخلصين
ووصل الرئيس إلى مكان الاحتفال، وهو مرتفع أعد لهذا الغرض، وقد امتلأت الساحة المحيطة به بجموع من الناس حتى ما تتسع بعدهم لقدم. . . وكان على مقربة من المكان تمثال وشنجطون وقد نحت من المرمر الأبيض وهو يتلألأ في ضوء الشمس وتنبعث منه
معاني البطولة والعظمة والحرية والفداء. . .
ووقف الرئيس الجديد يوجه الكلام للشعب جميعاً لأول مرة وقف فتى الأحراج هاتيك المجموع ثبت الجنان، مستوي القامة، مرفوع الهامة، وإلقى نظرة أمامه على علية القوم من الشيوخ والأعيان ورجال الجيش ورجال الدين والقضاة وغيرهم وغيرهم ثم مدّ بصره في المجموع وقد سكنت ريحهم فتهيأ للكلام. . . ولكن ماذا عراه؟. لقد وقف يمسك بإحدى يديه عصاه وبالأخرى قبعته، فكيف يمسك الورق ليتلو منه خطبته؟ ها هو ذا يسند العصا إلى الحاجز الخشبي أمامه فأين يضع القبعة؟ لقد أوشك أن يقع في ورطة، وأوشك أن يثير ضحكات الخصوم بحيرته؛ ولكن هاهو ذا رجل يثبت من مكانه وكان يجلس منه في سمت بصره، فيأخذ القبعة من يده. . . ومن هو ذلك الرجل؟ إنه دوجلاس خصمه القديم ومنافسه ذو البأس الشديد. . .
وكان دعاة الانسحاب من أنصار الجنوب يأملون أن يتهدد لنكولن الولايات الجنوبية ويتوعد، فيشتد بذلك الهياج في تلك الولايات ويتعذر لعدها أن يجنح هؤلاء للسلم، ولكن لنكولن خيب ظنونهم وزادهم بحكمته وحصافته وبعد نظره ويقظته غماً على غم. . .
كانت خطبته خير مثال للاعتدال في غير تفريط، وللتواضع في غير استخذاء أو استسلام، وللتحذير في غير إثارة أو استفزاز، وللمرونة في غير رياء أو التواء، وللعدالة في غير مشادة أو عناد. . . كما كانت كالسلسل العذب فصاحة وسهولة؛ ناهيك بما امتازت به من نصوع البرهان ومتانة الحجة واستقامة المنطق وجمال السبك وبراعة السياق ودقة الإلمام بالموضوع، وسعة الإحاطة بما كان يشغل الأذهان
وكان الخطيب رنان الصوت، قوي الجرس، وثيق الإشارات تشيع في كلماته حرارة الإيمان وقوة اليقين وصدق الإخلاص فتنفذ إلى قلوب أنصاره وخصومه على السواء؛ وإن كان خصومه ليكرهون فوزه وينكرون مبادئه. . .
قال يشير إلى مخاوف أهل الجنوب: (يظهر أن المخاوف تنتشر في الولايات الجنوبية، ومبعثها أن قبولهم الحكم الجمهوري من شأنه أن يعرض أملاكهم وسلامتهم وأمنهم على أشخاصهم المخاطر. إنه لم يكن هناك سبب معقول لهذه المخاوف؛ بل لقد قامت بينهم أقوى شهادة على نقيض ذلك، وكانت دائماً سمعهم وبصرهم. . . إنها تكاد توجد في كل خطبة
من خطب ذلك الذي يحدثكم الآن، وإني لأقتبس من إحدى تلك الخطب حين أقول ليس لي من غرض مباشر أو غير مباشر في التدخل في نظام العبيد في الولايات التي يقوم فيها ذلك النظام. . . وإني أعتقد أنه ليس من حقي أن أفعل ذلك، وأن الذين رشحوني وانتخبوني إنما فعلوا ذلك وهم على علم تام أني صرحت كثيراً بمثل هذا، ولم أتزحزح مرة عما قلت)
ولم يقف الرئيس في اعتداله عند ذلك الحد، بل لقد ذهب إلى التصريح بأن العبد الفار إلى الولايات الحرة لا تمنح له الحرية. ولقد أشفق كثير من أنصاره من هذا التصريح، ولكن لنكولن يستند في ذلك التصريح إلى مبادئ الحزب التي لا يمنح بمقتضاها العبد حريته إلا إذا ذهب مع سيده غير فار إلى ولاية حرة وأقام فيها
وتكلم لنكولن عن انسحاب الولايات من الاتحاد فقال: (لن يخول القانون لأية ولاية حق الانسحاب) ثم أردف قائلا أن القسم الذي أقسمه على المحافظة على الدستور يجعل لزاماً عليه أن يقوم بواجبه فيعمل على أن يكون قانون الولايات المتحدة نافذاً في جميع الولايات. وأختم الحديث في هذا الموضوع بقوله: (إني واثق أنكم لن تحملوا على التهديد كلامي، بل إنها كلمة الاتحاد يعلن أنه سوف يحمي ويدعم بناءه على أساس من الدستور. وهو إذ يفعل ذلك لا يرى ثمة حاجة إلى سفك الدماء والعنف، وسوف لا يكون شيء من هذا إلا إذا أجبرت عليه السلطة القومية
وأشار إلى الوحدة من الناحية العضوية فقال أن نصف الشعب لا يستطيع أن يقوم بغير الآخر، وإذا كان في الدستور عيب فمن الممكن إصلاحه على يد مؤتمر يجتمع فيه ممثلو الشعب. فإذا رأى الشعب الانفصال حقاً لكل ولاية فله رأيه وليفعل كما يرى، أما هو فليس لدبه من قوة إلا ما منحه الشعب
وتكلم عن الداعين إلى الثورة فقال إنه لا مبرر للثورة إلا إذا لجأت الأغلبية إلى الطغيان؛ ومثل هذا المبرر لا وجود له، وإن الانسحاب معناه الفوضى ولا نتيجة للفوضى إلا الاستبداد. . .
واختتم لنكولن خطبته بتلك العبارة التي اقترحها سيوارد وتناولها بالتعديل قال: (لسنا أعداء بل نحن أصدقاء؛ ويجب ألا نكون أعداء. ومع أن الغضب قد جذب حبال مودتنا فيجب ألا
يقطعها؛ وأن الأناشيد الخفية التي ترن في الذاكرة منبعثة من كل ميدان من ميادين القتال ومن كل قبر من قبور الوطنيين، إلى كل قلب حي وإلى جانب كل موقد في هذه البلاد العريضة لتزيد في جوقة الاتحاد، إذا ما مسها من جديد كما نثق أنها ستمس - وحي من طبيعتنا
وأقسم ابراهام اليمين ويمناه على الإنجيل. وتولى صيغة القسم القاضي تين صاحب قضية دروسكوت الشهيرة وكان يومئذ القاضي الأعلى للبلاد. وبعد أن أدى ابراهام اليمين أن يحترم الدستور ويحافظ على قوانين البلاد سار إلى البيت الأبيض، وكان أول عمل له بعد وصوله أن تناول القلم فكتب إلى سيوارد الخطاب الآتي:
(سيدي العزيز: تسلمت رقعتك المؤرخة 2 الجاري التي تسألني فيها أن اقبل انسحابك من الاشتراك معي في إدارة الحكم؛ ولقد كانت رقعتك هذه سبباً لأعظم قلق عندي إيلاما، وإني لأشعر أني مضطر إلى أن أرجوك أن تلغي هذا الانسحاب. أن الصالح العام ليدعوك أن تفعل هذا، وإن شعوري الشخصي ليتجه في شدة الاتجاه. أرجو أن تتدبر وأن يصلني رد منك في الساعة التاسعة من صباح الغد. . . خادمك المطيع. . .)
(يتبع)
الخفيف
تيسير قواعد الإعراب
لأستاذ فاضل
- 5 -
تطبيقات
فرغنا في مقالاتنا السابقة من ذكر مؤاخذاتنا على جماعة وزارة المعارف فيما رأته من تيسير قواعد الإعراب، وكان سبيلنا في هذا مخالفاً لسبيل غيرنا في مؤاخذاته عليها، لأنا نتفق معها في غايتها من الإصلاح، فهدمنا من عملها لنبني أتم منه، وأبطلنا من رأيها لنصل في الرأي إلى ما لا يمكن هدمه، فتعلو به كلمة الإصلاح، وينتصر ما نريده من التجديد النافع. وقد بلغني عن صديق لي أن عضواً بارزاً من هذا الجماعة ذكر له أنه معجب بما كتبناه في ردنا عليهم، فلا أدري ما بمنعه من ذكر رأيه فيما كتبناه من ذلك على صفحات مجلة الرسالة الغراء، ليتبين الحق في هذا الموضوع ونصل إلى ما تريده وزارة المعارف من الإصلاح في قواعد الإعراب
وإني أريد الآن أن أذكر تطبيقات على ما ذهبت إليه في إصلاح هذه القواعد، ليتبين أن ما ذهبت إليه من هذا مذهب مطرد، ورأي لا شذوذ فيه ولا اضطراب
التطبيق الأول
ألا إنَّ قلبي لدى الظاعِنينَ
…
حزينٌ فمن ذا يعزَّى الحزينا
(ألا) أداة استفتاح مجزومة بالسكون (إن) حرف توكيد منصوبة بالفتحة (قلبي) مبتدأ منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على آخره (لدى) ظرف مكان منصوب بفتحة مقدرة على آخره، وهو متعلق بحزين مقدم عليه، ولدى مضاف والظاعنين مضاف إليه مجرور بالياء نيابة عن الكسرة (حزين) خبر المبتدأ مرفوع بالضمة (فمن ذا) الفاء للتفريع منصوبة بالفتحة، ومن اسم استفهام مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة في آخره وذا خبر المبتدأ مرفوع بضمة مقدرة في آخره (يعزى) فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة في آخره، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو (الحزين) مفعول به منصوب بالفتحة، ولا داعي إلى ذكر أن الجملة صلة لا محل لها
من الإعراب، وإنما يعنى بتقدير الإعراب في الجمل التي لها حظ منه
التطبيق الثاني
ببذلِ وحلم ساد في قومه الفتى
…
وكَوْنُكَ إيَّاه عليك يسير
(ببذل) الباء حرف جر مجرور بالكسرة، وبذل مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة في آخره، والجار والمجرور متعلق بساد (وحلم) الواو حرف عطف منصوب بالفتحة، وحلم معطوف على بذل مجرور بالكسرة (ساد) فعل ماض منصوب بالفتحة (في قومه) في حرف جر مجزوم بالسكون، وقوم مجرور بفي وعلامة جره الكسرة، وقوم مضاف والضمير مضاف إليه مجرور بكسرة في آخره (الفتى) فاعل مرفوع بضمة مقدرة (وكونك) الواو حرف عطف منصوب بالفتحة، وكون مبتدأ أول مرفوع بالضمة، والكاف المضاف إليه مبتدأ ثان مرفوع بضمة مقدرة (إياه) خبر المبتدأ منصوب بفتحة مقدرة في آخره (عليك) على حرف جر مجزوم بالسكون، والكاف مجرور به وعلامة جره كسره مقدرة، والجار والمجرور متعلق بيسير (يسير) خبر المبتدأ الأول مرفوع بالضمة
ولا غرابة في أن يكون المضاف إليه مبتدءا في هذا البيت، فان هذا هو الواقع في أمره، أما إعرابه اسما للسكون فأنه هو الغريب في الحقيقة، لأن المضاف إليه ليس اسما له. وإذا كان لنا مبتدأ مجرور بالحرف في نحو - ربه فتى - فأنه لا يكون هناك غرابة في أن يكون لنا مبتدأ مجرور بالإضافة في ذلك المثال ونحوه
التطبيق الثالث
يُغْضِي حياءً ويغضَي من مهابته
…
فما يُكلَّم إلا حين يبتسم
(يغضي) فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو (حياء) مفعول لأجله منصوب بالفتحة (ويغضي) الواو حرف عطف منصوب بالفتحة، ويغضي فعل مضارع محذوف الفاعل مرفوع بضمة مقدرة (من مهابته) من حرف جر مجزوم بالسكون، ومهابة مجرور بمن وعلامة حره الكسرة، وهو مضاف والهاء مضاف إليه مجرور بالكسرة والجار والمجرور متعلق بقوله يغضي (فما يكلم) الفاء للتفريع منصوب بالفتحة، وما نافية مجزومة بالسكون، ويكلم فعل مضارع محذوف الفاعل مرفوع بالضمة،
والمفعول ضمير مستتر جوازاً تقديره هو (إلا) أداة استثناء مجزومة بالسكون (حين) ظروف زمان منصوب بالفتحة (يبتسم) فعل مضارع مرفوع بالضمة، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل مضافة إلى حين مجرورة بكسرة مقدرة
وفي هذه التطبيقات الثلاثة كفاية
(تم البحث)
أزهري
بين اللغة والأدب والتاريخ
الفالوذج
للأستاذ محمد شوقي أمين
- 1 -
لفظه. تعريفه. الإبدال من حروفه. مستعمله في الأدب. واحده. جمعه. معناه. رحلته إلى العرب. إطعامه الناس. تهيب ذوي الورع إياه. رحلة أعرابي إليه.
- 1 -
الفالوذج كلمة فارسية النشأة، أصل على ألسنة أهلها: بالوذة، فأول حروفها: الباء التي بين الباء والفاء، أو المخلوطة بالفاء على تعبير الشهاب الخفاجي. وختامها: الهاء الساكنة على اصل اللسان الفارسي. ومن حروفها الذال المعجمة كما في الكثير الأكثر من كتب اللغة وأقوال الأئمة. ولكن الشيرازي محمداً علياً قال: إن الفالوذج معرب عن بالودة بالدال المهملة. وهذا يؤيد ما نقلته المعجمات المؤلفة لهذا العهد من قولها: إن الفالوذج بالمهملة، لغة فيها بالمعجمة. والشيرازي من نبعة الفرس، فهو يتحدث عن لغة قومه. فحقيق بنا أن نرجع إليه، ونعول عليه، وندع ما لكسرى لقوم كسرى!
وقد عرّب العرب هذه الكلمة، بعد تشذيب وتثقيف، مبالغة في تحقيق الجنسية اللغوية، كما يقول الرافعي، فقد سَمَوْا بالحرف الأول المترجح بين الفاء والباء، إلى الفاء، إذ كان هذا الحرف المذبذب ليس في عداد الأصلي من حروف الفصحى، واستبدلوا الذال بالدال، كما صنعوا في سَذَاب وساذَج وباذَق، فالذال عوض من الدال الفارسية في هذا الألفاظ. ثم جعلوا الهاء جيماً، على أسلوبهم الأغلبيّ في التعريب. فقالوا: فالوذج، ولم يرتض هذا الإبدال الأخير جمع من نقدة اللغة، فقالوا: بل تبدل الهاء قافا، وهي طريقة العرب كذلك، أو تحذف الهاء دون إبدال، وعلى هذا القول المخِّير بين أثنتين من الحذف أو إلحاق القاف: تماسَح فقهاء اللغة، فما إن تجد في المعجمات الوثيقة وما في حكمها إلا: الفالوذ، أو الفالوذق
فأما مناهل الأدب والتاريخ، ومكانز النوادر والطرف، فقد آثرت كلمة الفالوذج على هذا الوجه، فهي ثَمَّ مستعملة سائرة، لا يُعدل عنها إلا في الندرة والفلتات. وهي كذلك في أكثر
شعر الشعراء بين القديم ومحدث، ولا سيما عصر بني العباس. وما أجدر ذلك على اجتماعه أن يكون برهاناً قائماً على أن جمهور الأمة العربية كان يجري على إبدال الهاء جيماً، وأن اللفظ قد ذاع على هذه الصورة أول ما ذاع. فتلقفته الألسن بعد ذلك عصراً في أثر عصر، وفي التصحيح اللغوي أثراً مهجوراً لا يقتفيه أحد في صحراء المعجمات!
والطائفة من هذه الحلواء: فالوذجة، كما قال السيرافي، وهذا قول يَعُدَّ كلمة الفالوذج في أسماء الأجناس التي يُفرق بينها وبين وأحدها بالتاء، كتمر وتمرة، وبطيخ وبطيخة. وهي قياس في المخلوقات، سماع في المصنوعات، فما يجئ من هذه مُشَبَّه بما جاء من تلك
ولو أريد جمع الفالوذج جميعاً صناعياً على ما ينقاس في مثله، لكان أقرب شيء متناوَلاً جمع الألف والتاء، كما هو مفهوم قول سيبويه، وصريح رأي أبن عصفور. فيكون: الفالوذجات. ولم يقع لي هذا الجمع فيما قرأت. بيد أن الزمخشري أثبت جمع الفالوذ على فواليذ، في سجعة من أسجاعه الرقاق. ولست أحُق: أذلك تطبيق على القواعد وصناعة، أم نقل لمأثور، أم تقييد لسماع؟. لم ينته إليّ من علم ذلك إلا أن الجمع صحيح على أية خطة!
وقد ذكر أبو علي الفارسي أن الكلمة الفارسية ترجمها: الحافظ للدماغ؛ ويبدو أن هذا التفسير كان متعارفاً للخاصة من العرب حين حلِيَت موائدهم بالفالوذج وحلَت. والدلالة على ذلك فيما حكى عن الخليفة الأموي: سليمان بن عبد الملك، فقد كان أعرابي على مائدته يسرع في الفالوذج. فمازحه سليمان بقوله: أأزيدك منه يا أعرابي، فانهم يذكرون أنه يزيد في الدماغ؟ فقال الأعرابي: كذبوك يا أمير المؤمنين، لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل!
فلم يَنبس سليمان، واحتملها منه، ولم يحتملها له
- 2 -
وكلمة الفالوذج تدل على حلواء ليست من أطعمة العرب، وإنما هي من جملة ما اجتلبوه من موائد الفرس في مستهل الحضارة، قبيل فجر الإسلام. وقد حكى أن عبد الله بن جدعان التميمي، وهوالملقب بحاسي الذهب، لأنه كان يشرب في إناء ذهبي، وفد على كسرى مرة، وأكل عنده الفالوذج، فتعجب منه، وسأل عن حقيقته، فلما أجيب بصفته، ابتاع من بين الفرس غلاماً يحسنُ صنعه، ورجع به إلى مكه، ثم سَمًت به أرْيحِيَّته إلى أن يطعم الناس
عامةً جديد هذه الحلواء. فبسط الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى: من أراد أن يأكل الفالوذج فليحضر، فاستجاب له الخلق من كل فج، وكان ممن حضر أمية بن أبي الصلت
فقال يمدحه من قصيدة:
لكل قبيلة هاد ورأس
…
وأنت الرأس تقدم كل هادِ
عماد الخيف قد علمت معدَّ
…
وإن البيت يرفع بالعماد
له داع بمكه مُشْمَعِلٌ
…
وآخر فوق دراته ينادي
إلى ردح الشَّنرى ملاء
…
لباب البريُلْبَكُ بالشهادِ
ومالي لا أحييه وعندي
…
مواهب يطَّلعن من النجاد؟.
ولما حفلت موائد العِلْية والسراة من العرب المتحضرين بالفالوذج، طوفت في شأنه الأقاويل، فتهيبه ذوو الورع، إذ كان المسلمون حديثي عهد بالحنيفية، يتعففون عن كل ما تطالعهم به الأمم الدخيلة في مختلف أسباب الحياة، وبخاصة المتع واللذائذ، قانعين من شئون اجتماعهم بما أشرقت عليه شمس الإسلام، وما رأي النبي صلوات الله عليه الناس يأكلونه فلم ينههم عنه. فإنه ليحكى أن الحسن البصري - إمام الفقه والفتوى - سمع رجلاً يعيب الفالوذج، فذكر له الحسن أخلاطه التي يبني عليها، وقال: ما عاب هذا مسلم!. . . وعلم الحسن كذلك أن رجلاً يتنزه أن يأكله، فراجعه، فقال الرجل: يا أبا سعيد، أخاف ألا أؤدي شكره، فقال الحسن: يالكع، وهل تؤدي شكر الماء البارد؟ ثم تلا عليه قول الله: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم
ويظهر أن انتشار الفالوذج في الأمصار العربية والحواضر، وتَضوع أخباره في البوادي، شوق الأعراب إلى استكناه هذا الطعام الموصوف، فأني لأنسي ولا أنسى نادرة يقطر منها ماء الظرف، وقعت لي في بعض القراءات، وهي أن أعرابيا خرج يضرب آباط الإبل إلى حضَر المسلمين، يسأل: ما الفالوذج؟. ومُ يُبَرَّدْ ظهر مطيته حتى وصف له، فلما سمع الوصف تَمَطَّق، ثم قال: أي والله لو نزلت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع سجدة. . . وهكذا كشف تلك الرحلة الفالوذجية العاجبة، أمنية أدعى إلى العجب، وهي أن تنزل صفة الفالوذج في محكم الكتاب: سورة الحلوى!!
(للبحث صلة)
محمد شوقي أمين
حول الطريقة التجانية
للشيخ محمد الحافظ التجاني
شيخ هذه الطريقة بمصر
قرأت في العدد (266) من مجلة الرسالة أسئلة من ألبانيا إلى الأستاذ الحجوي وهذا نصر السؤال:
(أن الطريقة التجانية المنتشرة في أكثر البلاد حتى البلاد الأرناؤودية ولا سيما بلدتنا أشقودرة هل المندمج فيها غير مناف للشريعة الغراء؟ ومنتسبو تلك الطريقة يدعون أفضلية قراء (صلاة الفاتح) لما أغلق على تلاوة القرآن ستة آلاف مرة وهو أكبر الأذكياء متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن كما فصله في كتاب جواهر المعاني المنسوب إلى التجانية، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة الخاصة إنما يترتب عليها الثواب إذا أعتقد أنها من كلام الله القديم من قوله عليه السلام (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً)، وأن تلك الصلاة مع فضيلتها بتلك المثابة لم يعلمها النبي عليه السلام لأحد إلا لمؤسس تلك الطريقة. وفي ذلك مالا يخفى من لزوم الكتمان ومنافاته للتبليغ المأمور به عليه السلام؟ وأن مؤسس تلك الطريقة أفضل الأولياء مع أن الإجماع هو أن الأفضل بعد نبينا محمد عليه السلام، الخلفاء الأربعة على الترتيب المعلوم، وأن من انتسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب وتغفر ذنوبه الكبار والصغار حتى التبعات وغير ذلك مما هو مبسوط في الكتب التجانية)
وحيث أننا - أهل هذه الطريقة أحق الناس ببيان ما نحن عليه - وكان في تلك الأسئلة تحريف عن الحقيقة التي عرفناها ونقلناها عن شيوخنا قاطبة، فإنني أعلن بلسان كل من ينتسب إلى هذه الطريقة أن من يعتقد أن صلاة الفاتح أو غيرها من الصلوات أفضل من القرآن فهو ضال مضل ما عرف الإسلام؛ وليس هناك في طريقتنا من يعتقد تلك العقيدة الزائفة، وقد قال شيخ الطريقة الأكبر في جواهر المعاني:
أما تفضيل القرآن على جميع الكلام من الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الكلام فأمر أوضح من الشمس كما هو معلوم في استقراءات الشرع وأصوله شهدت به الآثار الصحيحة
أما الذي نقول به فهو أن من لم يحسن أدب تلاوة الكتاب الواجبة، فلأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل له من أن يتلو القرآن وهو مخل بشروط تلاوته. فالمقارنة في حال التالي لا في المتلو فأنه لا خلاف في أفضلية القرآن. فأي شيء في ذلك وهو الذي يقول به العلماء؟
على أنه لا حرج في رجاء الإثابة على العمل القليل بالجزاء الكثير، وإن كان العامل لا يستحقه ولا العمل، والفضل الإلهي يتسع لإثابة المؤمن على تسبيحة واحدة بجزاء عمل كثير من محض الفضل الإلهي بغير استحقاق. وقد صح في التأمين والتسبيح والذكر شيء من ذلك. وليس هذا من باب تفضيل غير القرآن على القرآن بأي وجه من الوجوه. ولا يذكر هذا ليتكل عليه المؤمنون فالمؤمن يعمل ويخاف ويرجو - وعدم الأمن أصل في العمل بالطريق - ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون - ولا بيأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وإن من مكارم الأخلاق حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله
وليس هناك في طريقتنا من يعتقد أن الشيخ أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعم السائل
وقد صرح في جواهر المعاني أنهم أفضل ممن بعدهم مستدلا بما روى عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله أصطفى أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين) وقال: أعمالنا معهم كسير النملة مع سرعة طيران القطاة. وذكر أن أعمال من بعدهم في صحيفتهم. أما دعوى تفضيله على النبيين فهي دعوى لا تستحق أن يلتفت إليها لوضوح بطلانها
أما صلاة الفاتح ودعوى أن أهل الطريقة يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم كتمها عن أصحابه وأعطاها للشيخ وكونها من كلام الله القديم، فهذه الصلاة موجودة قبل الشيخ، وهي منسوبة لسيدي محمد البكري وهو موجود قبل ولاة الشيخ بزمن طويل، فكيف تكون مكتومة؟ ومن نسب الكتمان له صلى الله عليه وسلم فيما أمر بتبليغه فهو كافر مرتد. وكذلك من اعتقد أنها من أي نوع من أنواع وحي النبوة. ولم يقل أحد عندنا إنها من الأحاديث القدسية. والذي حققه حجة هذه الطريقة سيدي العربي بن السائح في كتابه (بغية المستفيد) أنها يصح أن تكون من الإلهام الذي يجوز للأولياء
قال صلى الله عليه وسلم: (ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. قالوا وما المبشرات يا رسول
الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له)
والرؤيا ليست بقاصرة على ما يراه المرء في نومه كما هو معروف في اللغة. وذكر الحافظ بن حجر في شرح حديث أبن عباس هي رؤيا عين أريها صلى الله عليه وسلم الخ في البخاري فيصح أن تشمل ما هو معروف بالإلهام والمشاعر والوقائع والتحديث ونحوه مما حقق العلماء أنه جائز أن يكون نصيب الولي من ميراث النبوة. ويجب عرض ذلك على الشريعة فما وافقها أخذ به ومالا فلا؛ وقد يكون له تأويل كالرؤيا المناسبة سواء بسواء. وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان فيمن قبلكم رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء)
وأهل هذه الطريقة قاطبة في أنحاء المعمورة فيهم واحد على غير مذاهب أهل السنة والجماعة، فهم حنفية أو مالكية أو شافعية أو حنابلة. ومعتقدهم معتقد أهل السنة الذي عليه الفقهاء والمحدثين والأصوليون والصوفية. وقد بلغ فيهم الكثيرون الإمامة في عصرهم في أقطارهم كسيدي إبراهيم الرياحي شيخ الإسلام بتونس، وسيدي أحمد كلانباني شيخ الجماعة بفاس، والفقيه جنون، وسيدي علي بن عبد الرحمن مفتي وهران، وسيدي محمد الحافظ العلوي الشنقيطي
وكل ما يوهم في كتبنا غير هذه العقيدة فقد تصدى علماء الطريق لبيان المراد منه وحمله على الوجه الذي يوافق ما عليه الجماعة ولنا أسوة بمن سبقنا من العلماء. أما ما نسب للشيخ رضي الله عنه مما لا يمكن تأويله ولا يمكن حمله على وجه صالح فنحن نراه كذبا عليه ونرده. وقد سئل: (أيكذب عليك؟. قال نعم - إذا سمعتم عني شيئاً فزنوه بميزان الشرع)
وقد كذب على الله والرسول والصالحين فأي حرج أن يكذب عليه؟
وإن الواقع هو أوضح دليل على براءة الشيخ وطريقته من هذه الأكاذيب المفتراة أو التي ولدها فهم في كلامه لا نقول به يحسب صريحا وهو عندنا مؤول يحرم الأخذ بظاهرة. ذلك الواقع أننا نجد أصحابه لا يقولون بها. وقد أطبق علماء الطريق من عصر الشيخ على إعلان البراءة منها صريحا وبيان أن من يعتقدها ليس في الطريق في شيء. ومعلوم أن أتباع كل امرئ أخبر الناس بما هو عليه. وصريح كلامه الذي لا إبهام فيه ولا غموض هو
المرجع الصحيح، وقد تبرأ من كل قول يخالف الشرع ولم يجعل ميزاناً بينه وبين أتباعه غيره
وإذا فليس في هذه الأمور معضلة من معضلات العصر، ولكن المعضل حقيقة هو النزاع فيما بيننا معشر المسلمين؛ ولا شك أن لأعداء الإسلام المصلحة في التفرقة
ولا أدري ألم يحن الوقت الذي يترك فيه نزاع الطوائف الإسلامية ويوضح سلاح الافتراء والتحريف وسوء الظن الذي يتحاربون به؟ وهلا ييسر لهم من يسعى في التفاهم على أساس حسن الظن بينهم وجمع كلمتهم والتماس المعاذير لمن لعل له العذر منهم؟
وليس هذا كل ما يقال عن الطريق فقد ذهب نزاع الطوائف إلى حمل كل موهم في كتبنا على أسوأ الوجوه مما لا يخطر على بال أحد منا ولم نسمعه إلا من خصوم الطريق، وإلى أبعد من هذا، إلى التدليس كما يقال: فويل للمصلين - ويترك الذين هم عن صلاتهم ساهون، وإلى الاختلاق والكذب على التاريخ وعلى الأحياء من العلماء، ووصل حتى إلى الأمور الشخصية، وسأقدم للعالم الإسلامي مثيلين واقعين من ذلك الافتراء:
فها هو ذا جواب العلامة المحدث السيد عبد الحي الكتاني أطال الله حياته على سؤال رفعته إليه عن دعوى رجل زعم أن جواهر المعاني ألفه بعض المستشرقين الفرنسيين وزعم أن الأصل موجود في مكتبة السيد
وزعم قوم أن قبر أوريلي الفرنسية زوجة سيدي أحمد عمار حفيد الشيخ الأكبر جعلت عليه قبة ورسم عليها صليب. والحقيقة أنها ماتت مسلمة وثبت لدى الحكومة الفرنسية ودفنت بالفعل في مقابر المسلمين وليس على قبرها أثر لقبة ولا لصليب. وها هي ذي صورة قبرها بكوردان التابعة للأغواط في صحراء الجزائر. وترى قبور مجاورة سيدي أحمد عمار، وقبر أوريلي هو الثالث الملاصق للجدار في فضاء حديقة القصر ليس فوقه إلا السماء، وقد وضع رجل يده على حجر قائم عليه يقابله حجر آحر عليه تاريخ وفاتها، وأنها ماتت مسلمة بشهادة عدول مسلمين
ولست بعد ذلك بصدد التعرض لجواب الأستاذ الحجوي لأن هذا هو الذي لدينا ونبرأ من كل ما يخالف شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحاب هذه الطريق ولله الحمد من أشد الناس قياماً بالقرآن تلاوة ومدارسة، وبالسنة علماً وعملاً، وأساسها تصحيح
العقيدة، والقيام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات جميعها، والتقرب إلى الله بالنوافل على حسب الاستطاعة مع عدم الأمن - ولا واجب عندنا إلا ما أوجبه الشارع ومنه وفاء المكلف بنذره بشرطه المعروف في الفقه، ولا مندوب إلا ما ندب إليه، ولا حكم إلا لله
وليكتب خصوم الطريق (قائمة) بكل ما يخالف الكتاب والسنة من العقائد فنكتب تحتها: هذا باطل لا نقول به، ونستطيع أن نريهم من كلام الشيخ نفسه ما يرده. والفقهاء فيها ممن لهم الباع الطائل في الأصول والفقه كثيرون ولله الحمد، وكلهم أهل سنة واستقامة، وقد بينوا ذلك وشرحوه
وقد عاشرت كثيراً ممن بالمشرق والمغرب من السادة التجانيين فما وجدت أحدا منهم يعتقد شيئا مما يتهم به أهل الطريق مما يخالف الكتاب والسنة. وعلى فرض أن جاهلا اعتقد ذلك فليس منا لمخالفته اعتقادنا، ونحن من اعتقاده بريئون
وإذن فذلك الإنكار المتفرع على تلك العقائد الزائفة لا يصلنا منه شيء، فهو موجه إلى غيرنا ممن يعتقدها. والطريقة وشيخها وأتباعه يبرءون من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وليس لديهم إلا ما عليه أهل السنة والجماعة
(الزاوية التجانية بالقاهرة)
محمد الحافظ التجاني
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
تتمة
ومنذ جريان العمل بهذا النظام والانتقادات توجه إليه من كل طبقة من الطلاب. وأحق هذه الانتقادات بالالتفات أن غالب المواد أسندت إلى من لا يحسنها، وأن كتب الدراسة لم يدخل عليها أي تعديل. فالفقه مثلاً لا زال في مختصر الشيخ خليل ذي الشروح العديدة والحواشي الكثيرة؛ والنحو لازال يدرس في الابتدائي بشرح الأزهري للأجرومية. والألفية أبدل شرح المكدودي لها بشرح أبن الناظم وليس بذاك
على أن الذي لا يصح إنكاره من محاسن هذا النظام فضلا عن ضبطه لأوقات الدراسة هو إحياؤه لعلوم الحديث والتفسير، وإدخاله لبعض العلوم التي كان الطالب القروي محروماً منها كالتاريخ والجغرافية والهندسة. فأما كون المواد تسند إلى غير أهلها فالحقيقة في ذلك أن بعض العلوم لم يكن لأهل القرويين في الوقت الحاضر بها مساس مع ما انضم لذلك من إبعاد نبغاء أهل العلم والأدب عن الكلية وأخذهم للوظائف الحكومية؛ فواجب أن تجلب الحكومة بعض أساتذة تلك العلوم من معاهد الشرق بينما ترسل بمئات من أبناء القرويين للتخصص فيها وتدريسها عند عودتهم. كما يجب أن يعاد أولئك الأفاضل المقصون عن الكلية إلى حظيرة التعليم؛ فمن الجور أن يضيع عمرهم في غير ما خلقوا له ويضاع معه مستقبل الطلبة الذي نحن عليه جد حريصين
وأما مسألة الكتب فإن الزمان كفيل بتعديلها على أحسن الوجوه. ومن الإنصاف أن نعترف أن الوقت لم يحن بعد لتسويقها كما ينبغي، لما نرى عليه بلادنا من التأخر المزري في وسائل النشر وصناعة الطبع. وعسى ألا يستمر الأمر على ذلك زماناً طويلاً ولا سيما بعد تنظيم خزانة القرويين والاهتمام بجمع كنوزها وذخائرها وحفظها من التلف ورد اليد العادية عنها فالمستقبل باسم إن وجد من يعمل بجد وإخلاص
هذا، ولنا نظر في إصلاح القرويين ونبديه هنا - ولو لمجرد المناسبة - فهو أقرب تناولا وأمثل سرعة وأنسب حالا من كل إصلاح غيره. وذلك أننا نرى أن تخصص الكلية بالدراسات الإسلامية المحضة وما يعين عليها، من علوم القرآن بما فيها القراءات التي
قدمنا ما كان لأسلافنا من العناية بها، والحديث والفقه والأصلين ووسائل ذلك من النحو والفقه والبيان والمنطق والحساب والهيئة ونحوها، على أن تكون دراسة هذه بحسب التبع لتلك، ومن أجل أنه لا يتوصل إلى المطلوب إلا بها، ولذلك كان أشياخنا رحمهم الله يسمونها علوم الآلات، والمقصود الأهم الذي يجعل نصيب العين بالتعمق في النظر والتوسع في البحث هو الفقه والحديث وسائر العلوم المذكورة سابقاً التي نؤمل من وراء دراستها على هذا النمط والانقطاع لها بهذه القابلية أن نخرج رجالاً متضلعين منها أشد التضلع، متقنين لها أحسن الإتقان، فنعيد عهد مالك والشافعي والبخاري وأحمد بن حنبل والأشعري والماتريدي وأبن حزم وأبن العربي وعياض وأبن تيمية وابن حجر وأضرابهم
وذلك في حين توجه الرغبة واشتداد الطلب وتضافر الجهود إلى تأسيس جامعة عصرية ' تتكون من ثلاث كليات إحداهما للأدب والثانية للطب والثالثة للعلوم. والتي للأدب نعوض بها تلك الدراسة الناقصة العقيمة التي حذفناها من برنامج القرويين، إذا اصبح من المسلم به أن الأدب لا يحيا بتلك الطريقة، ولا ينتظر أن يكون له مستقبل في هذه البلاد ما دام لم يوجه الاتجاه المطلوب التي تقتضيه الظروف الحاضرة، وامتداد إبان البحث إلى ما لم تكن عليه في الأزمان الغابرة. واللتان للطب والعلوم نسد بها مفاقرنا في الحياة العلمية والعملية التي ما فتئنا نسمع التبشير بها والوعد باستقبالها منذ ربع قرن فأكثر كما كنا لا نرى لها أثراً إلا عند الغير
وبقطع النظر عن مسألة القرويين ونحن لا نرى بداً - إذا كنا نريد نهضة حقيقية مبنية على أساس متين من الإصلاح الاجتماعي الشامل - من إنشاء هذه الجامعة التي كم عنينا بأمرها وتهممنا بشأنها. ولذلك نتوجه بطلبنا هذا إلى سدة ملكنا المحبوب سيدي محمد الذي نحمد الله على شفائه من مرضه وحفظه لأمته التي لها فيه آمال كبار ومتمنيات جسام لا طمع لها في غيره بتخفيفها وإقرار عينها بها، ومن جملتها الجامعة التي تشرف المملكة السعيدة وتغني كثيراً من أبناء المغرب عن تكبد مشاق السفر والغربة في طلب العلم في البلاد الأجنبية، وما ذلك على همته العلوية بعزيز
(طنجه)
عبد الله كنون الحسني
القصص
أماني حسناء
للقصصي الفرنسي كاتول مانديز
بقلم الأديب صلاح الدين المنجد
(كاتول مانديز شاعر وروائي وقصصي. . . أوتي من الفهم والذكاء ما جعله يخوض في كل فن ويطرق كل باب. . . قضي حياته في العمل المثمر والسعي المتواصل، وكان يعشق الحياة والشباب والجمال وله في ذلك قطع أرق الشعر وأحلاه. أشهر مؤلفاته: الأماسي الكئيبة، مجموعة أقاصيص، عذراء افيلا)
كانت رائعة الحسن غضه الصبا. ظهر الورد في خديها الناعمين فوق الزغب الحريري الجميل. وبدا السحر في أهدابها الوطف الناعسة، وتفتحت أنوثتها الرقيقة عن جسم بض ريان، وثديين بارزين فيهما السحر الحلال، فغدت كزهرة من أزهار التفاح في أوائل نيسان. . . كلها فتنة، وكلها جمال
انطلقت ذات صباح تتهادى بين الحقول بتيه وخيلاء؛ يعلو جبينها المشرق سحابة من هّم روع قلبها وأضناه. فرأتها جنية صغيرة كانت تتنقل بين الأعشاب، فحزنت لها وأشفقت على ذلك الشباب. . . فخرجت إليها تجرر ثوبها الأزرق الحريري، وسألتها بصوت هادئ رنان:
- ما الذي يشجيك يا حسناء. . .؟ لقد أوتيت من الحسن ما تتمناه كل فتاة! إن لك لشعراً لونه كلون سنابل القمح في حزيران. . . وإن لك لعينين لونهما في زرقة السماء إذا تنبه الفجر الوسنان. . . وإن لك لفماً رقيقاً وطلعة ساحرة مشرقة، ومشية خفيفة فاتنة، فما الذي ينغص عيشك ويحزنك يا أختاه. . .؟
-. . . . . .؟
- لم لا تقولين ما بك يا فتاة. . .؟ أتشتهين ارتداء ثوب حريري جميل. . .؟
أتودّين لبس حذاء رصع بجوهرة نادرة وزين بشرط ناعمة؟
- أواه! أواه!
- لكن حدثيني. . . مالك. . .؟ أتشكين من الخبر الذي تأكلينه؟ أترغبين في العسل الشهي والرُطب الجني؟. . لشد ما تحزنيني يا صبية! تكلمي وأسمعيني. . أتطمعين في أن تكوني ابنة أمير غني ظالم ترفلين في قصره بالدمقس وبالحرير بين ستور الخز ونضائد الديباج، وتحيط بك الوصائف والجواري، تغمضين أجفانك إذا أقبل الليل بين أناشيدهن العذاب، وتفتحين أجفانك إذا أقبل النهار بين رقصاتهن السواحر. . . ويأتي إليك الأمراء ينشدون ودك ويطلبون رضاك. . لتنظري إليهم بطرفك الفتاك، أو لتبتسمي لهم بثغرك الفتان. . .! تكلمي. . تكلمي. .
قالت الفتاة وقد وضعت كفيها الصغيرتين فوق وجهها لتخفي ابتسامة علت ثغرها كلها سحر ودلال. .
- كلا. . كلا. . ما أريد هذا ولا ذاك! ولكني أغار. . نعم أغار من الأزهار. إنهن لجميلات. . وإني لأغبطهن تارةً، ويداخل قلبي الحسد لهن أخرى. . . آه لو كنت زهرة بنفسج في أحد المروج الخضر. . .!
- هه. . هه. . إذن كوني زهرة بنفسج يا حسناء. . .!
فانقلبت حسناؤنا فجأة إلى زهرة بنفسج نبتت بين الأعشاب الندية في أحد الحقول. . . وراحت تغازل الشمس في النهار، وراح القمر يغازلها في الليل. . لقد كانت فاتنة تبهر العين وتغريها. ولقد كان لها أريج عَطِرٌ يسكر النفس ويحيها. . . يا لجمالها! إنها ترقد بهناء وسرور. . تضحك وتلهو. . وترسل شذاها يملأ السهل والوادي. . حتى إن أزاهير الغاب حسدنها، ورحن يتهامسن ويقلن: (يا لسحر هذه الزهرة!. إن الفراشات ليتشاجرن من أجلها، ويترامين فوقها. . يا لسحرها. . يا لسحرها!
ولكن. . ما لها. .؟ أن الكآبة قد عاودتها، وكاد الذبول يقضي عليها؛ وإنها لتذرف الدموع صباح مساء. .!
وجاءت إليها جنيتا تمشي فضلاً بثوبها الأزرق الحريري. . . وقالت لها:
- إيه يا زهرة البنفسج! ما الذي يشجيك أيضاً. . .؟ أما تمنيت أن تكوني زهرة بنفسج فكنتها. . .؟ إنك الآن سيدة الأزهار. . . أن صواحبك زهرات الغاب ليحسدنك على جمالك ونضرتك. فتكلمي يا زهرة البنفسج. . .
-. . . . . .!
- لك الله يا زهرة البنفسج! كم أنت حزينة. . . أرغبت عن الحياة بين الأعشاب؟ أتريدين العيش وسط الخمائل والرياض؟ تكلمي. . . أيتها الزهرة الصامتة!
-. . . . . .؟
- أأصابك الملل يا حسناء من أولئك الفراشات اللائي يطفن حولك ليل نهار ويتشاجرن من أجلك ويسعين لتقبيلك؟
فتنهدت الزهرة ولم تقل شيئا
قالت الجنية:
- لشد ما يغيظني صمتك يا زهرة البنفسج! ألم ترقك الحياة هنا؟ أتريدين أن تعيشي في قصور الأميرات لتوضعي في أواني الصين الفاخرة فيعجب من حسنك كل من يراه! ولتحلي صدور أولئك النواعم الحسان. . .! آه منك يا زهرة البنفسج. . . لم لا تكلمينني!
قالت الزهرة:
- كلا يا أختاه. . ولكن حسبت أن زهرة البنفسج هي أجمل الأزهار، وما علمت أنها صورة الحزن ورمز الألم. .! وأنا أنفر كما تعلمين من الحزن وأخاف الألم. . . آه لو كنت زنبقة في إحدى الرياض. . . أن الزنبق لأجمل الأزهار. أليس كذلك؟
- أوه! أهذا كل ما تتمنينه؟ إذن كوني زنبقة كما تريدين!
فانقلبت زهرة البنفسج إلى زنبقة ما رأت العين أجمل منها أبداً. ولكن. . . لقد عاودتها الكآبة بعد أيام. إنها تريد أن تكون ياسمينه بيضاء. . كلا. . كلا، أن الفل أجمل من الياسمين. . وأن شذاه لمسكر! ولكن. . . الورد. . . الورد. . أليس الورد ملك الأزهار؟ إنها تريد أن تكون وردة. . . وردة حمراء. . .!
وانقلبت الفتاة من زنبقة إلى ياسمينه، ومن ياسمينه إلى وردة؛ عندئذ قالت:
- الآن طاب لي المقام وطاب لي العيش. لقد أصبحت سيدة الأزهار وهدية الأحباب إلى الأحباب. . .! وما عليَّ إلا أن ألهو براحة وهناء. . .!
فلما كان الليل رأت فتى وإلى جانبه فتاة يتقدمان على مهل حتى أستقرَّ بهما المكان إلى جانبها. فهمست في أذن جارتها:
- أواه أنها لجميلة. . . انظري إلى الجمال كيف يرفَّ في وجهها، وإلى السحر كيف يشيع في صوتها. . . لقد كنت أجمل منها إذ كنت فتاة! يا حسرتاه!. . .
وراحت الوردة تنظر وتصغي. . . تنظر إلى الحبيب يعانق حبيبته، فيلثم تغرها ويجس نهدها. . . أو يناجيها بأرق الغزل وأحلاه. في هدأة هذا الليل المقمر الشاحب، فتجيبه بكلمات تخالها قطع الرياض كسين زهراً!
وذرفت الوردة دمعة. . . وقالت
- آه لو بقيت فتاة إذن لكنت. . . ولكان لي فتى. . .! ولكن. . . أن جنيتي قد تولت عني فمن لي بها؟ لقد قالت لي إنها سترجع، ولكن أين هي؟ وتنبهت الوردة عند السحر، فذكرت ما رأته في الليل. . . وما سمعته، وذكرت جمالها وسحرها، وكيف ذهب الجمال وغاض السحر. فذرفت دمعاً بلَّل خديها وراح يروى الثرى؛ وقضت نهارها في وجوم يبعث في النفس الأسى. فلما كان أصيل الغد، وكادت الشمس أن تطفل، رأت امرأة بارعة القد، صبيحة الوجه، تمشي الهوينا إلى جانب رجل في ريعان الشباب، ومعهما طفل يعدو وراء الفراشات فجلسا إلى جانبها. قالت المرأة:
- أنظر إلى طفلنا يا عزيزي. . كيف يهيم وراء الفراشات هه. . . هه. . . أتذكر يوم لقيتني لأول مرة على ضفاف البحيرة في حديثة كهذه، فجئت إلى فصددتُ عنك. . . ثم. . . يا لله لشد ما تزدحم الصور في مخيلتي! ثم جئت إليَّ وكلمتني كلمات. . وكلمُك كلمات. . . وكان يوم الزفاف بعد أسبوع!. . .
أتذكر يوم قلت لي إنك تريد طفلاً يدخل على نفسينا السرور وعلى عيشنا الهناء؟ فأضحك. . . ها هو ذا طفلنا يلهو ويلعب، وها هي ذي الحياة تبسم لنا وتضحك! تعال يا طفلي أقبلك. تعال فأنت الذي أذقني طعم الهناء. . .
وقام الزوج يطبع على ثغر زوجته قبلة أودعها كل معاني الحب والإخلاص. قالت الوردة:
- الآن فهمت معنى الأمومة ومعنى الزواج
كانت الشمس ترسل أول شعاع لها فتنبه شجيرات الورد الناعس عندما جاءت إليها الجنية تقبلها قبلة الصباح وتسألها عما بها فتجيبها بصوت هادئ حزين:
- آه! لن أتمنى بعد اليوم شيئاً! أريد أن أرجع فتاة لأكون أماً!
صلاح الدين المنجد
إلي نورك السجين.
. .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(من أحلام كوخي البعيد، أهتز لك بهذه الأنشودة. . . لعل
فيها سلواناً لعذابك!)
إنْ رَأيْتِ النُّورَ مذعُو
…
رُ الْخطَى نحْوَ الْمَغيبِ
وَرَأيْتِ الطَّيْرَ يَنْعي
…
هـ لأوْرَاد الكثيبِ
وَرَأيْتِ الْعطْرَ نَعْساَ
…
نَ عَلىَ الأيْكِ الرَّطِيبِ
وَرَأيْتِ الَّنهْر سرَّا
…
لَفَّهُ صَمْتُ الْغُيُوبِ
وَرَأيْتِ الشَّمْس لا شَم
…
ْس سَوِى طَيْفِ الْغُرُوبِ
وَرَأيْتِ الَّليْل (قدَّي
…
ساً) تَهاَدَي للِصَّلِيبِ
غامضِ الأسْرَارِ يَحْكى
…
سِتْرُهُ نَعْشَ الذَّنُوبِ
فاْنظُرِيِ منْ شُرْفةِ الْقَص
…
رِ ونادِي: يا حَبِيبي!
تُشْرِقُ الدُّنياَ ويَنْدي
…
جَوُّهاَ مِنْ كلَّ طِيبِ
وَتَهِلُّ الْفَرْحَةُ الْكُبْ
…
رَى عَلَى قَلْبي الْكَئيِبِ
وَيُعودُ الأملُ ألهاَ
…
رِبُ لي عَوْدَ الْغَرِيبِ!
وَإِذَا ما الْفَجْرَ أضْفَى
…
نُورَهُ فَوْقَ التِّلَالِ
وَزكَتْ (مِئْذَنةُ) النَّا
…
سِكِ منْ عِطْرِ (الهِلالِ)
وَإِلى اللهِ دَعا الدَّا
…
عِى بِطُهْر وابتِهَالِ
وَأفاقَ الدَّيكُ يَنْعِي
…
خَلْفَ (تابوُتِ) اللَّياَلي
وَأنْتَشَى الوادِي مِنَ الن
…
ورِ وَصَهْباَءِ الطِّلالِ
وَمَضَى الرَّاعِي إلى دُنْ
…
ياَهُ في سَفحِ الْجبَالِ
وَاحْتَسَى الْعُصْفُورُ في الرَّوْ
…
ضِ عَبيرَ الْبُرْتُقَالِ
وتَنَاغَى هَزَجُ (النَّح
…
لِ) بِأفْيَاءِ الدَّواَلي
وغَدَا النَّيْلُ من الْبَهْ
…
جَةِ قُدْسيَّ الْجَمالِ. . .
فانْظرِي منْ شُرْفةِ الْقصْ
…
رِ عَلَى الوْادِي حِيَاليِ
تسْكِرُ الدَّنيَا لِمَرْآ
…
كِ تَسَابِيحُ الْجلَالِ
وَتَرَيْن السَّحْرَ سِحْرَ الْ
…
كَوْنِ يَفْنى في خَيَالي
أَنْتَ سِحْري وَفُتُوِني
…
وَصَلَاتي وَابِتهاَلي
لا تَظُنِّي نوُرَك الْعل
…
وِيَّ تُفنِيهِ الْقُيُودُ
هُوَ كَوْنٌ عَبْقَرِيٌ
…
لا تُوَاِتيهِ الْحدُودُ
وهْوَ دُنْيَا مِنْ صَفاَءِ
…
لا يُساَمِيهاَ الْوُجُودُ
رَفْرَفٌ للْخلدِ لا يَرْ
…
قَى لِشطَّيْهِ الْخلُودُ
تَهْرَمُ الدُّنيا وَتَبْلَى
…
وَهْوَ شَعْشاَعٌ جدِيدُ
مَاَلهُ منْ مهُجَتي (
…
م) إلا التّغَّني وَالُّسجُودُ
فاسْكُبِيهِ فَوْقَ عُمْر
…
كادَ يُبْليِهِ الُّصدُودُ
أنا ظْمآنُ. . . وَلكِنْ
…
خانَ أياَّميِ الوُرُودُ!
وَعَلىَ كَفَّيك أقْدَا
…
حِي وخَمري وَالنَّشيدُ. .
فَدَعِي الأغْلَالَ ماشَا
…
َءتْ غَداً يَبْلَى الْجدِيدُ
قَدْ رَعَى اللهُ هَوَاناَ
…
وَأظَلَّتْهُ الْعهُوُدُ
ما الَّذي يَبْقَى سِوَى أَنْ
…
يُشْرِقَ الْفَجُر السَّعِيدُ!
تحية دامية!
للأستاذ أمجد الطرابلس
غردَّي يا دمشقُ لحنَ العيدِ
…
وَذي النَّدبَ وأصْدَحي بالنَّشِيدِ
وأسْدلي برُقُعَ الأباءِ على الدّم
…
عِ، وأخفى الجراحَ تحت البرودِ
واهتفي فرحةً بأشبالِ مصرِ
…
وميامينِها الأباةِ الصِيد
لبت أياّمَكِ الطّوالَ جميعاً
…
مثلُ هذا اليومِ الضَّحوكِ السَّعيد!
إيِه أحباَبنا وقد تُنْكَرُ الكُلْ
…
فَةُ في رفرفِ الهوى المدود
هذه الدارُ داركم، وبنوها
…
أهلكم بين شارخ ووليد
قبَّلتكم فيها ثغورُ الأقاحي
…
والنسيماتُ في الربى والنجود
فأنزلوها ملَء القلوبِ الوجيعا
…
تِ، ولا تنكروا قَتَادَ المهود!
أيها العرب يا فجار الحضارا
…
ت، وأشودة العُلى والخلودِ
يا مشعَّ الأنوار وسط الدياجي
…
يا سيوفاً أبت إسارَ الغمود
ليس ينجي النَّعاجَ من شفرة الجزَّا
…
ر إيمانُها بعدل الوجود
فاحطموا في الإسارِ إيمانكم بالغر
…
بِ والعدل قبلَ حَطْمِ القيود
وانزعوا من صدوركم طِيبةَ القل
…
بِ، وشُبوَّا فيها لهيبَ الحقود
فالسياسات لا تدينُ بحقٍ
…
لضعيف ولا تفَي بعهود
لو أراد القوىُّ إنقاذ شعبٍ
…
لم يمدَّنه بالّلظى والحديد
تَعسِ الخلقُ أن غَداً في البرايا
…
من قيودِ المستعبدِ المصفودِ
تَعسَتْ هذه المرؤاتُ إمَّا
…
أصبحت في الأنامِ دين العبيد
تعس برُّ العهود إذا صا
…
رَ دليلاً على الونى والجمود
إنما الخلقُ ما يقولُ قويٌّ
…
يتجنىَّ بعدّةٍ وعديد
كذبُ الأقوياء صدق وعدلٌ
…
واعتداء القويّ فوقَ الحدود
ورشادُ الضَّعيفِ شرُّ الضلالا
…
تِ، وشكواه من عجيب الكنودِ
وبلاد الضَّعيفِ جسم بغيٍّ
…
مستباحُ الهوى لكلِّ مريدِ
يتُنَادى عليه بين الضَّواري:
…
أيُّها الطامعون هل من مَزيد؟
أيها العربُ، آن أَنْ يعصفَ الهو
…
لُ، فيهوي بكلَّ جَوْرٍ مَشيد
آن أَنْ يجمع الأَتيُّ على الأسْ
…
رِ ويَطغي على مَنيعِ السّدود
آن أن تُحْشَدَ الحشودُ إلى المجدِ
…
وتختالَ تحت حُمْرِ البنود
آن أن تَنبذوا النعيم إباءً
…
أَنكَدُ العيشِ في الهوان الرّغيد!
لا يسيغُ الهناَء ندبٌ، أخوه
…
من سياطِ الطعام دامي الجلودِ
وعيونُ الكرامِ بَسْلُ عليها
…
في جراحِ الكرامِ طَعْمُ الهجوِ
هذه الشام في اللّظى فحرامٌ
…
أن تناموا على رنين العودِ
تتلوى على جراحاتِ جَنْبَيْ
…
ها، وما للجراح من تضميد
تَصرُخُ الصَّرْخة التي ترعش الأف
…
قَ وتبلو النُّجُومَ بالتسهيدِ
وتمدَّ اليدين ترجوا نصيراً
…
وهي بين الّتتْرِيك والتَّهويد!
بسمت في وجوهكم وهي تخفى
…
من جراح الأيْام أيَّ وقودِ
وكذلك الأباةُ يخفونَ أَوجا
…
عَ اللّيالي تحت الإِباءِ العنيد
إيه أحبابَنا! شكوتُ إليكم
…
وَعَذيِري ما بيننا من عُهودِ
من لنا أو لكم إذا الغاصِب العا
…
تي تَمادى في العَسْفِ والتنكيد!!
هل يُرَجّي الشقيق إلاْ أخاه
…
في دُجَي الخطب والبلايا السُّودِ
فإذا عُدْتُمْ غداً في أمانٍ
…
ونعمتم بنيلكم والصَّعيد
فاذكروا رفارف الشام أهلاً
…
وَجَدوا لقائِكُمْ خَيْرَ عِيدِ!
سحر لبنان
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
ربوع لبنان أم جنات رضوان؟
…
وصورة الخلد أم تصوير فنان!
بوركتَ يا فتنة الأجيال من جيل
…
سامي الذري مشمخرَّ الأنف ريان
زاهي الربي ناصر الوديان متشح
…
في كل ناحية بالحسن فتان
يا ملتقى الخلق من بدو وحاضرة
…
ومجمع الشرق من قاص ومن دان
ملأت عينيّ سحراً والفؤاد مُنَى
…
ودب سحرك من روحي لجثماني
وشاع عطرك في نفسي فأسكرني
…
وذاع ضوءك في قلبي فرواني
لم يبق جارحة إلا نفثت بها
…
سحراً حلالاً فجددت الصبا الفاني
حتى غدوت فتياَّ ضاحكاً مرحاً
…
من بعد ما هدت الأيام بنياني
لو كان أهليّ في لبنان ما نزعت
…
نفسي إلى وطن لي غير لبنان
عبد الحميد السنوسي
البريد الأدبي
من غرور الأدب الرسمي
على أثر ما كتبناه عن لجنة إنهاض اللغة العربية وغمطها لحق فريق من الأدباء لشهوة أو جفوة، تحدث إلينا في التليفون الأستاذ محمد جاد المولى بك أحد أعضائها ومفتش اللغة العربية الأول، حديثاً كان في معناه وروحه خيراً من كتاب صديقنا الأستاذ أحمد أمين. فقد أعترف الأستاذ جاد المولى بالحق، وصرح بالاعتذار، وود أن ما حدث لم يحدث. ولكنه قال آخر حديثه:
سنعوضك تعويضاً أدبياً أن شاء الله!
- وما هذا التعويض الأدبي يا أستاذ؟
- أن الوزارة بصدد أن تؤلف كتاباً في المختارات وستختار لك فيه بعض القطع
سبحان الله يا أستاذ! وهل تعتقد بإخلاص أن هناك فرقاً جدياً بين ما ينشره الكاتب في كتبه للناس، وبين ما تنشره له وزارة المعارف في كتبها للطلبة؟ لعل الأستاذ يرى أن وزارة المعارف حين تختار من الكتاب تشهد له رسمياً بأنه يحسن الكتابة! إن كان ذلك ما يراه الأستاذ فأظنني شببت عن هذه الشهادة. وإني أشكر للأستاذ جميل اعتذاره، وخلوص نيته، وحسن قصده؛ وأسأله أن يدع للقراء أن يقرءوا، وللأدباء أن يحكموا، وللزمن أن يغربل!
الزيات
حول ديوان الجارم
كتبت زميلتنا (المكشوف) الغراء كلمة بليغة في (أنانية الأدب الرسمي)، وأشارت إشارة لبقة إلى ديوان الجارم وسرعة إخراجه وطريقة شرحه. ولولا أن يداً أخذت المكشوف ولم ترده لنقلنا هذه الكلمة في العدد الماضي. واليوم أرسل إلينا أديب معروف هذا السؤال ننشره من غير جواب ولا تعليق، قال:
(كتب الدكتور زكي مبارك كلمة حق عن ديوان الجارم في مجلة الرابطة الأدبية فغام عليه الأفق في وزارة المعارف، وأخذه الرعد من كل مكان. وكتب أستاذ آخر مقالين في تقريظ هذا الديوان نشرهما في البلاغ، المقال الأول وهو في التدريس، وأمضى المقال الثاني وهو
في التفتيش. فهل كان ذلك لمجرد المصادفة السعيدة؟)
(ز. ح)
بين الأستاذين الغمراوي وقارئ
كتب إلينا صديقنا الأستاذ الغمراوي ما يأتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد قرأت مقال الأستاذ (قارئ) وأنا مريض ببور سعيد، وقرأت عوده إلى الموضوع وأنا مريض بالقاهرة؛ وهذا هو عذري إليك وإلى الأستاذ (قارئ) وإلى قراء الرسالة في تأخيري الإجابة عن نقده. وكل الذي أستطيع أن أقوله الآن هو أن الذي انتقده الأستاذ (قارئ) شيء لم أرده بما كتبت، مع علمي بأكثر الوقائع التي ذكرها الأستاذ في نقده. أما تفصيل ذلك فموعده حين يأذن لي الطبيب في الكتابة
والسلام عليكم ورحمة الله
محمد أحمد الغمراوي
جانب من الوطنية العراقية
ورد لي من العراق منذ أن رجعت منه إلى مصر لقضاء عطلة الصيف ما يزيد على عشرين رسالة من الطلاب. ومما لفت نظري في أكثرها وحملني على زيادة التقدير والإعجاب بالوطنية العراقية أن كل هذه الرسائل ما عدا واحدة، تفيض بأحاديث الغيرة على سمعة العراق، وباللهفة على تعرف أثر مقتل المرحوم الدكتور سيف، وبرجائهم أن نعمل على محو هذا الأثر - إن وجد - بإفهام إخوانهم المصريين أنه حادث فردي لظروف خاصة
وقد تعمدت - كما بينت في ردودي على هذه الرسائل - أن أمرّ هذا الحادث مروري على أي حادث من نوعه يقع في مصر أو في العراق، ولا أشترك في رد الغلو الذي ورد في كتابة بعض الذين تهيجوا للحادث، فعلقوا بعض تعليقات شذت عن تقدير الظروف تقديراً صحيحاً، ورأيت أن ذلك أولى بنا كأمة واحدة، أو كأمم ربط الله مصائرها وآمالها وآلامها برباط واحد، وأن ذلك أحرى بها ما دامت ترمي إلى أهداف مشتركة نرجو من المستقبل
القريب أن يحقق لها الوصول إليها. فلا بد أن تتلقى هذا الحادث وأمثاله - ولا أكثر الله من أمثاله - بشيء كبير من سعة الصدر، وعدم التعليق الكثير عليه، والتمطيط في سيرته، والتشقيق لحديثة؛ شأنها في الحوادث المحلية العادية التي تحدث في مصر أو في العراق كما قدمنا. وذلك كله لإفهام الجماهير في الأمتين الشقيقتين والأمم العربية جمعاء، أن أمثال هذا الحادث يجب أن تتوطن النفوس على وقعه ولا تحسب له حساباً في العلاقات الدائمة بين هذه الأقطار
ولكن هذه الظاهرة الحميدة التي لمستها في الوطنية العراقية مما ورد لي من رسائل شباب العراق الذين لم يبلغ أكثرهم بعد درجة المسؤولية الوطنية فيما يتعلق بحسن سمعة الوطن والغيرة عليها بلهفة، وتصحيح خطأ وقع من فرد منها. . . هذه الظاهرة وحدها هي التي حملتني على تسجيل هذا الحديث، وما لغيرها كنت أرضى أن أخوض في حديث هذا الحادث
ومقياس الوطنية عندي هذه الغيرة الحادة اليقظة التي قد تتحول في بعض النفوس الكريمة إلى شبه أنانية فردية. فكأن ما يقع على عموم الوطن يقع على خصوصية الفرد. . . وكأن كل فرد يحمل وطنه على قلبه، فما يثقل على الوطن من مصيبة أو سوء سمعة أو شبهة يثقل على قلوب الأفراد
وفي الحق أن هذا الجانب من الوطنية العراقية يشاهد نامياً بارزاً جدا، مما يجعل الوطن في ضمانه وحمايته وفي أمل كبير منه
فإلى أصدقائي الذين راسلوني من العراق وأداروا هذا الحديث في رسائلهم أرسل هذه الكلمة على صفحات (الرسالة) لأن موضوعها ليس لي ولهم ولا لمصر والعراق فقط، بل هو فوق ذلك أنه للعروبة في جميع بقاعها ممن يقرؤون (الرسالة)
ولتطمئن قلوب الشباب العراقي، وهنيئاً للعراق هذه الغيرة في قلوب بنيه
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف
بين الرافعي والقشاشي
مضى الأستاذ محمد سعيد العريان مترجم فقيد الأدب العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي في سبيله يكتب ذلك التاريخ الزاهر، وينشره بشكل مقالات في (مجلة الرسالة) حتى بلغ الآن المقالة (32) وفيها دعا من كان عنده شيء من أخبار الرافعي غير ما ذكره هو، أن يتفضل بالكتابة إليه رأساً أو على صفحات (الرسالة) يحيطه علماً بذلك، وفاء بحق الأدب وأهله، ورجاء إتمام ذلك التاريخ الذي كاد يغمره النسيان ويجني عليه الإهمال
ونحن إجابة لدعوة الأستاذ ننبهه إلى خصومة أخرى كانت قد نشبت بين الفقيد الكريم والأستاذ مصطفى القشاشي صاحب مجلة (الصباح)، ولعلها آخر الخصومات الأدبية للرافعي؛ وقد كانت هي التي أوحت إليه بمقال (صعاليك الصحافة) المنشور (بالرسالة) (أعداد: 189 و 190 و 191 و 192) وقد عرض فيه بالصباح تعرضاً مكشوفاً، إذ أتى في العدد 191 على جملة من عناوين مقالاتها التي كانت صدرت فيها أثناء تلك المدة، كنماذج للموضوعات التي تطرقها تلك المجلة
وكان السبب في هذا الحملة من الرافعي على صاحب (الصباح) أنه حمل إليه كتابه (وحي القلم) ورجا منه أن يكتب تقريظاً له، وهذا ما يؤخذ من كلام الأستاذ القشاشي؛ وبما أن القشاشي تأخر مدة عن كتابه التقريط، وعذره أن الكتاب ضخم يتألف من جزأين في تسعمائة صفحة ويتناول مائة موضوع وموضوع، فإن الرافعي ظن السوء بصاحبه وقام يجلد صعاليك الصحافة، ويا لله من غضب الرافعي فإنه يزري بغضب عنترة!
وشاءت سخرية القدر أن يبرز مقال (الصباح) في تقريظ (وحي القلم) بعد أن ينشر الرافعي ثلاثة أقسام مقاله (صعاليك الصحافة) والقسم الثالث منه الذي به انكشف مراده فظهر أنه يعني صاحب الصباح، صدر في عدد (191) أول مارس 1937 على حين أن تقريظ الصباح كان في عددها 545 (الصادر) في خامس مارس المذكور، وقد كان تقريظاً بليغاً يرضى الرافعي ويدخل على نفسه السرور، وحسبك منه هذه الجملة التي يقول فيها الأستاذ القشاشي:(أن كتاب وحي القلم ليحتاج إلى كتاب آخر في الإشادة بذكره، فلعل ضيق المجال يعتذر لنا عند الأدب العربي ثم عند الأستاذ الرافعي)
ولكن الأستاذ الرافعي قد عجل - وفي العجلة الندامة - فسرعان ما انقلب مدح (الصباح) له قدحاً فيه، وثناؤها عليه طعناً. وكنا نحن قد انتظرنا ذلك لما قرأنا القسم الثالث من مقال
صعاليك الصحافة، فكيف وقد قرأنا أيضاً ثناء الصباح وتقريظها؟ وأخذتنا الشفقة على الأستاذ الكبير الذي طالما أشفقنا من الخصومات التي كانت تثور بينه وبين أهل الأدب ولا سيما الإمام العقاد. وهكذا صدق ظننا فبرز مقال الأستاذ القشاشي (صعاليك الأدب واستجداء المدح والثناء) في العدد التالي من (الصباح). ولا تسأل عما يحوي من قوارص الكلم وفاضح التعريض
قلنا إننا نشفق من هذه الخصومات التي تقع بين كبار الأدباء لأنها في الغالب لا يكون باعثها النقد النزيه، فيسمج عندنا أن ينزل مثل العقاد والرافعي من عليائهما إلى ميدان المهاترة إرضاء لحالة الموجدة وطبيعة الغضب كما وقع في قضية الرافعي والقشاشي، فبينما الصفاء والسلام إذ الحقد والحرب. ونحن لسنا من مقلدة الرافعي ولا من المتعصبين للعقاد، ولكن لهما معاً عندنا مقام سام، وفي أنفسنا لكل منهما حيز لا يشغله الآخر. عرفناها معاً من قديم واغتبطنا بآثارهما كل الاغتباط؛ وكنا نأسف على ضياعهما بين قومهم وعدم عرفان حقهما حتى جاءت (الرسالة) فعرفت بالرافعي الذي كان أكثرهما ضياعاً وأنكرهما عند جمهور القراء في العالم العربي. وسيكون لهما من الذكر في المستقبل الأيام ما يغطى على غيرهما أياً كان، بل أنها سيكونان علمي عصر النهضة في تاريخ الأدب العربي الحديث، ورمز المذهبين المدرسي والابتداعي المتكونين في هذا الأدب كما يجب الآن.
ولسنا ندلي برأي إلى الأستاذ العريان، وحسبه من كلمتنا هذه ما يتعلق منها بخصومه الرافعي والقشاشي، لكن القراء أيضاً لهم حظهم فيما يقرأون، فلذلك تطرقنا ولو بهذه الإلمامة الخفيفة إلى وجه الرأي في أدب الرافعي والعقاد، حاسبين أن ما كان بينهما من خصومة إنما هو نتيجة الغيظ وحدة البادرة وأن ما كتبه كل منهما في هذه الخصومة إنما من قبيل ما كتبه الرافعي والقشاش باعثه الظن السيئ والعجلة. وللقوم وفي عمرو بن الأهتم وما كان بينه وبين الزيرقان بن بدر من المنافسة والمشاتمة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شافع وعذر. . .
(طنجة)
عبد الله كنون
مستعمرة مصرية في إنجلترا
نشرت جريدة نيوز كرونيكل في مكان بارز خلاصة درس لكتاب عنوانه إيزيس نفتيس في ولتشير وخارجها، تأليف الدكتور رندل هاريس العالم الأثري الشهير وقد طبعته شركة الطباعة في بريستول
فالدكتور هاريس يعالج نظرية مؤداها أن الآثار السابقة للتاريخ قرب سالسبوري التي زارها الملك فاروق أثناء وجوده في إنجلترا إنما هي من آثار قدماء المصرين، وقد ثبت له الآن أن مركز المستعمرة المصرية وجد فعلاً في (لتشير) قرب برادفورد أون أفون
ويعتقد الدكتور هاريس أن المصريين صعدوا في نهر أفون من بريستول واحتلوا تلك الأماكن. وهو يقدم سلسة أدلة لتأييد اعتقاده، مثال ذلك الاحتلال المصري لمنطقة تشالفيلد. فيقول هاريس إن (تشال) محرفة عن الكلمة المصرية (تشار) وهي إحدى الأسماء العديدة المزدوجة للإلهتين إيزيس ونفتيس
المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية
عقد المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية جلسته الأولى في زوريخ يوم الاثنين الماضي، وقد بلغ عدد أعضاء الوفود الممثلة للحومات والجامعات والمجامع العلمية في المؤتمر ألفاً ومائتين، وكان أكثر الوفود عدداً الوفد الألماني ويليه الوفد الفرنسي فالإنجليزي فالبلجيكي فالإيطالي فالبولندي
وأما الوفود الشرقية فأكبرها عدداً الوفد المصري الذي يرأسه الأستاذ محمد قاسم بك ناظر دار العلوم، والوفد التركي وعلى رأسه الأستاذ فؤاد كوبريلي الاختصاص في العلوم التاريخية. ولكل من إيران وأفغانستان وسوريا ممثل واحد ولم يمثل العراق ولا لبنان أحد
وسيلقي ممثل مصر في إحدى جلسات المؤتمر محاضرة موضوعها (توسع أساليب المباحث التاريخية في مصر)
ويتكلم الأمير شكيب أرسلان ممثل سورية عن سيرة صلاح الدين الأيوبي الشخصية. وسيتوفر للشرق الأدنى قسط كبير من مباحث العلماء في المؤتمر: فالأستاذ كوبريلي التركي جعل موضوع محاضرته سياسة الإقطاع عند المسلمين والترك في القرون
الوسطى، ويبحث الأستاذ لامونتي الأميركي في أسباب عظمة الإقطاع الإفرنجي في سوريا إبان الحروب الصليبية وانهيارها؛ ويتكلم زميله (ليبيار) عن أهمية السلطان محمد الفاتح في التاريخ؛ وسيتقدم الأستاذ (هاليكي) البولندي ببحث طويل عن تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق؛ ويتناول العالم الإيطالي (مونداييني) تاريخ السياسة الاستعمارية والمستعمرات من سنة 1815 أي منذ سقوط الإمبراطورية الفرنسية الأولى إلى نشوب الحرب العظمى سنة 1914؛ ويحاضر الأستاذ (جويله) الفرنسي في تاريخ البحر المتوسط في القرن التاسع عشر؛ ويخطب أستاذ إيطالي آخر في مساهمة إيطاليا في كشف أفريقيا في القرنين الخامس عشر والسادي عشر، ويتحدث المؤرخ (راين) الألماني عن بسمارك وسياسته الافريقية؛، وجعل مندوب الجمهورية الأسبانية محور بحثه (أصل القنصليات البحرية في سواحل البحر المتوسط)
بين القديم والجديد
سيدي الأستاذ الكبير صاحب الرسالة
تحية: وبعد فقد حسب الأستاذ محمد احمد الغمراوي في آخر مقال حول أدب الرافعي (بين القديم والجديد)، أنه انتهى من (تزييف) كلام الأستاذ سيد قطب إلى المبلغ الذي كان يريد وأكثر؛ وأنه وضع العقاد موضعه والرافعي موضعه، وإن كان هذان الموضعان ليسا إلا أن الرافعي أنصع لفظاً من العقاد، وأنه رجل يهتدي بنور الدين، والعقاد لا يهتدي بأي نور!
كذلك حسب الأستاذ الغمراوي أنه فصل بين الحق والباطل في هذا الأمر واستراح إلى نتيجة تلك، ولم أكن أود أن أنفس عليه هذه الراحة لولا أنه شاء أن يعرض لكلمة سابقة لي في هذا المضمار، ورأى أن يرميني بالفزع من ذكر الدين فزع (الملسوع) بالنار فقال:
(لكن أصحابنا المجددين أنصار ما يسمونه الأدب الحديث يفرقون من ذكر الدين كأنما تلسعهم من اسمه النار، كذلك فزع أحدهم بالعراق، وكذلك يفزع هذا الآخر. . .)
وأنا المقصود ولا ريب بالفازع الأول. والقارئ يذكر أن فزعي المزعوم هذا لم يكن من الدين، فما فيه ما يفرع أو يلسع، وإنما كنت اعترضت على إقحام الدين - بدون داع ولا مبرر ولا فائدة - في نقد أدبي قاله الأستاذ سيد قطب حول بيت من أبيات الرافعي، وجاء الأستاذ الطنطاوي يحوره ويتجه به نحو الدين كما يفعل الأستاذ الغمراوي الآن، وكما فعل
المرحوم الرافعي في كل نقد أدبي له، وكما يفعل كل من يؤوده أن يكسر من شوكة هذا الذي يسمونه تجديداً أو كفراً من سادتنا الرافعيين! فما الذي يقصده الأستاذ الغمراوي بالفزع؟ وما شأن الدين بكل شيء يتصل بالأدب الحديث الذي يسعى إلى التجديد والنهوض وتوسع أفق الحياة الأدبية وإخراجها من عصر الاجترار والتخلف، إلى عصر التمثيل والحيوية؟
وإذا كان الأستاذ الغمراوي يقول في مقالة الآنف الذكر:
(إن الفطرة كلها ينشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد اجتمعا على استحالة التناقض في الفطرة، فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة كما يزعم أهلها وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة دين الإسلام في شيء. . .)
وهو بذلك يريد أن يحد من مفهوم الأدب، فما نصنع إذن بالأدب الذي أقره العالم واعترف به أدباً سامياً ولم يكن مصدره الدين الإسلامي، والذي لم يخلفه أدباء مسلمون ولم يأتلف مع قواعد الدين الإسلامي في شيء؟ أقول ماذا بأدب طاغور، وملتون، ودانتي، وتورجنيف، وإيبانيز، وابسن، وموباسان، وغوركي، وهاردي، وجيتي؟. . . بل ماذا نصنع بأدب بودلير، وفرلين، ولورنس، وجويس، وهينسكي، ولوتي؟ هل نرمي بهم في البحر أن نعترف بأدبهم؟ وهل يتفق أدبهم مع الفطرة؟ وهل هو خير أم أدب الرافعي؟
وحضرة الأستاذ يذكر أدب الإيمان فهل يرى أن الشك لا أدب له؟ وما يقصده من التعرض بالإيمان، والشك؟ والحوم حوالي الدين في كل مناسبة عرض لها في نقده وبحثه أدب العقاد والرافعي؟ هل يريد أن نفهم من أقواله تلك أن العقاد ومن يرى رأيه ملحدون لا إيمان ولا نور لهم يهتدون به؟ وكيف يتسنى له أن يحكم هكذا بدون تدليل؟
سيدي الأستاذ:
إن الأستاذ الغمراوي - وقبله الأستاذ الطنطاوي - يريد أن يضع ما اسمه (الأدب) على الرف ويريد أن يدخله في بوتقة الدين بوجه عام، والدين الإسلامي بوجه خاص، وفي هذا من الجناية على الأدب مقدار ما فيه من التجني على الدين وأكثر. ولا أظن الأستاذ يخالفني في أن موضوع الدين موضوع شائك جداً لم يتعرض له متعرض سلم من تهمة المروق! فليفسر موقفنا كيف شاء، وليسمه فزعاً وهلعاً، فالحق أن الدين الإسلامي لم يدخله التأويل
والخلاف من كل باب إلا بعد أن أقحم في غير مجالاته! وهو بعد مقحم إقحاماً في موضوع الجدل هذا
وما دام الأستاذ الغمراوي يرى أنه فصل أدبياً في أمر العقاد ومكانه من الأدب الحديث، فلماذا يريد أن يخرجه من دينه فيقول عنه معرضاً:(إن الرافعي عنده نور يهتدي به ليس عند العقاد؟)
وبعد فليكن الرافعي عند الأستاذ الغمراوي ما يشاء له أن يكون، فان ذلك لا يمنع العقاد أن يكون هو الآخر حيث يشاء له الأدب والحق أن يكون. ولسنا نعجب به لشخصه، بل لأنه يؤدي الرسالة عنا؛ فما يقال فيه فينا نحن أنصاره والمعجبين به؛ ولذا أود أم أكرر ما سبق أن قلته وهو أن من الواجب اعتبار الدفاع عن العقاد دفاعاً عن مذهبه في الأدب وفي الحياة لا دفاعاً عن شخصه، فلسنا نملك حق الدفاع عنه
وتقبلوا تحيات المعجب بكم
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين
المسرح والسينما
المسرح المصري والطريق إلى إنهاضه
يروق لبعضهم في مثل هذه الأيام من كل عام أن يتحدث عن المسرح المصري وطرق إنهاضه ووسائل ترقيته والأخذ بيده في مدارج النجاح. وقد يكون مثل هذا الكلام مفهوماً إذا صدر عن مجرب كبير أو إحدى الأساطين التي يقوم عليها صرح المسرح في مصر. ولكن من غير المفهوم أن يتصدى للحديث في هذا الشأن لفيف من الشباب كل ما يعرفونه عن المسرح أن الناس يذهبون إليه من أجل اللهو والتسلية! ولا ريب أن الخطر على المسرح قائم من جراء هذه الكتابات التي تسيء إليه وإلى القائمين بأمره أكثر مما تفيد أصحاب الصحف الذين يفضلون أن يملئوا صحفهم بأي كلام (والسلام). . .!
كتبت إحدى الزميلات الأسبوعية تقول في لف ودوران إن وزارة المعارف قد عهدت إلى الأستاذ سليمان نجيب بالأشراف على إدارة الفرقة القومية طول غياب مديرها الأستاذ خليل مطران بالإجازة، وأضافت إلى ذلك كلاماً يفهم منه أنها علمت أن الإشراف على هذه الفرقة سوف يعهد به نهائياً إليه، لما تعرفه عنه الوزارة من كيت وكيت. . .
والغرض من كتابه هذا الكلام وأضح، ولا داعي لأن نكشفه؛ ونحن وإن كنا نقدر الأستاذ سليمان وكيل دار الأوبرا ونعرف عنه القدرة على التمثيل الجيد المتقن، إلا أننا نرغب عن نشر أخبار غير صحيحة من جهة، وعن الإساءة إلى بعض الكرامات من جهة أخرى
ولعمري ماذا يجدي وجود مطران أو غيره على رأس الفرقة، إذا كان جسمها ذابلاً خائر القوى تنذر حاله بالموت والفناء؟ ماذا يفعل حاكم الصحراء مع ما قد يكون مشهوداً له به من فروسية وشجاعة إذا أغار على صحرائه جيش وكان هو بلا جيش تتوافر فيه عوامل الكفاح والنضال، أو كان له جيش ولم يكن لديه من الميرة والذخيرة ما يكفل النصر ويؤدي إلى ضد الغارة؟
في أستوديو مصر
يبذل أستوديو مصر جهوداً مشكورة موفقة ليغزو سوق الأفلام المحلية بثلاثة أفلام كبيرة من أفلام الدرجة الأولى، انتهى العمل في اثنين منها هما:(لاشين) و (شيء من لا شيء)، وأوشك العمل أن ينتهي في الجزء الداخلي من الفلم الثالث وهو فلم (الدكتور). ولن نسبق
المناسبة فنتحدث بالتفصيل عن هذه الأفلام وإنما ندع ذلك لحين عرضها، ونكتفي اليوم بأن نقول بأن - ثلاثتها - جديدة الموضوع، حية الإخراج، ولكن أهم ما ينبغي أن نسجله في هذه الكلمة الوجيزة هو أن الأستاذ (نيازي مصطفى) مخرج الفلمين الأول والثالث
ويساعد الأستاذ نيازي مصطفى في إخراج فلم الدكتور الزميل الفاضل الأستاذ أحمد كامل مرسى، وهو من أكثر شبابنا المثقف إلماماً بالشئون المسرحية والسينمائية وقد اشتهر في الأوساط السينمائية لأول مرة، كناقد ذي أسلوب خاص، وذوق خاص، وإخراج خاص يرضى الفن وكذلك يرضى الجمهور ثم اشتهر بعد ذلك بأنه بطل تجربة عملية الدوبلاج الصوتية التي أجريت بنجاح لفلم جاري كوبر في نيويورك
(ناقد قديم)
أخبار سينمائية
هل يستقيل
ترددت في الأوساط الفنية في الأسبوع الماضي إشاعة فحواها أن سفر الأستاذ حسني نجيب مدير استديو مصر إلى أوربا لم يكن إلا تمهيداً لاستقالته من إدارة الاستديو. وقد حاولنا أن نتحرى عن هذه الإشاعة فلم نوفق ولم نسمع ممن سألناهم غير كلمة (يجوز)!
والحق أننا لم نجد مبرراً لهذه الإشاعة. فالمعروف أن الأستاذ حسني نجيب منتدب لإدارة الأستوديو ولم يعين مديراً له قط، وانتدابه يجوز أن ينتهي في أي وقت تراه شركة مصر للتمثيل والسينما، سواء أكان ذلك بعد عودته من أوربا أو بعد شهرين أو بعد عامين، ولكن ما حيرنا من هذه الإشاعة هو: هل يستقبل من إدارة الأستوديو ويبقى في وظيفة أخرى كسكرتير الأستوديو أم يترك الأستوديو بتاتاً؟ والذي سمعناه هو أنه سوف ينقل إلى وظيفة بالبنك وقد نعود إلى الكلام في فرصة أخرى
طبعة جديدة من فلم ليلى بنت الصحراء
سافرت السيدة بهيجة حافظ إلى أوربا منذ أسبوعين وتركت قرينها الفاضل الأستاذ محمود حمدي يؤدي جهود شركة (فنار فيلم) في الناحية الجديدة التي اختارت أن تكون ميداناً لجهودها هذا العام. ومما ينبغي ذكره أن إدارة هذه الشركة تعني الآن بإدخال تعديلات كثيرة على فيلم ليلى بنت الصحراء وعمل نسخة فرنسية منه لعرضها في باريس وفي الأقطار العربية التابعة لفرنسا، أما مهمتها الرئيسية هذا العام فستكون عرض كثير من الأفلام الفرنسية الكبيرة التي حصلت على امتياز عرضها في الموسم القادم، وقد يذكر القراء أن شركة فنار فيلم استأجرت استديو ناصيبيان لمدة عام كامل، فمعنى هذا أن الشركة سوف تستغل هذا الأستوديو بطريق تأجيره للراغبين في العمل به
عودة الثلاثي الفني
عاد الثلاثي الفني - آسيا - جلال - ماري كويني - من رحلتهما في تركيا ولبنان وسيشرع الأستاذ جلال على الفور في كتابة السيناريو الجديد الذي سمعنا أنه سيفوق سائر السيناريات الماضية رغم أنها كانت جميعاً قوية وناجحة وشهد لها الجمهور شهادة حسنة
ونهنئ الأستاذ جلال وباقي الثلاثة بالعودة ونرجو لهم توفيقاً كبيراً في الموسم القادم.
أخبار خارجية
- ظهر (راي ميلاند) في عدة روايات ناجحة في الموسم الماضي منها رواية (السفينة الملعونة). وسيراه الجمهور المصري في سينما رويال في رواية (الضوء الذي خبا) ومن طريف ما نذكره أن راي يمثل في هذه الرواية دور رجل أعمى، وقد اضطر من أجل إتقان دوره إلى معاشرة رجل ضرير لمدة ثلاثة شهور درس فيها نفسية الأعمى وحركاته وخاصياته وأعطاه في نظير ذلك خمسمائة جنيه!
- ومن أشهر الأفلام التي تعرضها رويال للمتروجولدوين ماير في هذا الموسم رواية (ماري انتوانيت) التاريخية الكبرى ويشترك في تمثيلها (نور ماشيرر) والنجم اللامع الشاب (تيرو ماباور)
- وتعرض برامونت للنجم الهزلي الشهير (هارولد لويد) فلما فكاهياً جديد اسمه (كن على حذر أيها المدرس!)
- لما رأى دوجلاس فيربانكس الصغير رواية (طالب في اكسفورد) أرسل برقية إلى النجمة (بربارا ستانويك) يقول فيها (أنا لا أعرف روبرت تايلور ولكن أحب أن تبيني له كم أعجبت بنبوغه في تمثيل الدور وتهنئيه باسمي) وتصادف أن النجم كان يتناول العشاء مع بربارا، وقت وصول البرقية فرد عليه ببرقية يقول فيها (وصل الشكر. . . أشكركم)!!
- يعود (كارل بريزون) إلى الشاشة بعد غياب عامين ونصف فيقوم بالدور الأول في رواية (كلود دوقال)، وآخر فيلم له كان من إخراج البرامونت وكانت تدعى (قهوة في سفينة)
- انتهى النجم (ريكاردو كورتيز) من إخراج أول رواية عهدت إليه بإخراجها استيديوات فوكس القرن العشرين واسمها (فرصة عملية للغاية) وقد حصل كورتيز من إدارة الشركة على عقد بمقتضاه يحق له أن يشتغل مؤلفاً ومخرجاً وممثلا
- من أفلام المتروجولدوين الكبيرة التي تعرض هذا الموسم رواية (امتحان الطيار) ويقوم بتمثيل الدور الأول فيها معبود السيدات كلارك جابل وتشترك معه في تمثيلها (ميرنا لوى)