الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 271
- بتاريخ: 12 - 09 - 1938
إنهاض اللغة العربية
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
جرى قلمك بإضافة اسمي إلى المؤلفين الذين نسيتهم لجنة إنهاض اللغة العربية، وذلك منك تفضل وتلطف، فمن الغريب حقا أن اخطر على بالك أو على بال غيرك، ومالي وسيلة في هذه البلاد غير الكدح الموصول في التفكير والتأليف، وهي وسيلة ضعيفة في زمن لا ينفع فيه غير تضييع الوقت في خلق الصداقات والمودات مع الذين يملكون تأليف اللجان لتقرير مصاير العلوم والآداب والفنون
وأنت قد تشجعت فقلت ما قلت لأنك خارج القفص
أما أنا فأعيش في قفص لأني موظف في الحكومة المصرية، وقد سمعت أنها حكومة رقيقة القلب يؤذيها أن يمر النسيم على خدها الأسيل!
ومن واجبي أن أتلطف بهذه الحكومة وأترفق، وإلا كان جزائي أن اخرج من القفص لأعيش كما كنت أعيش بين الأزهار والرياحين
ولكن الحكومة أمكنتني من ناصيتها هذه المرة؛ لأنها في هذه القضية ممثلة في جماعة من الأدباء كنا نصلح لمحادثتهم ومسايرتهم منذ حين. ومن ذا الذي يتوهم إني اعجز عن مصاولة علي الجارم أو أحمد أمين، وهم خلق من خلق الشعر والنثر والتأليف؟ من ذا الذي يتوهم إني أتهيب مناوشة القائمين بتأليف اللجان في وزارة المعارف وفي يدي قلم أمضى من السيف وأحد من السنان؟
اعترف باني أتردد في الهجوم على وزير المعارف لأنه يملك إيذائي حين يشاء
ولكن وزير المعارف في هذه المرة زميل قديم. وللزمالة وإن قدمت حقوق. وهو قد شغل نفسه في الأعوام الأخيرة يدرس الدين الحنيف، ولابد أن يكون عرف أن لصاحب الحق مقالا، وصاحب الحق في قضية اليوم هو مؤلف النثر الفني، الكتاب الذي استحق أن يثني عليه معالي الدكتور هيكل باشا في مجلة الهلال
ولكن ماذا صنعت لجنة إنهاض اللغة العربية حتى نوجه أليها الملام؟
إنها اختارت طوائف من المؤلفات الحديثة فأقرت مبدأ تعبنا في الدعوة إليه منذ سنين فلها
منا أطيب الحمد واجزل الثناء
وأنت تعيب عليها أنها نسيتك ونسيتني، واللوم في هذا عليَّ وعليك، لأننا لم نحسن التذكير بأنفسنا عند السيدين الكريمين علي الجارم واحمد أمين
وأخشى أن نكون أسأنا اختيار الظرف المناسب للتذكير المنشود، فهؤلاء الزملاء يملكون ما لا نملك، وكان العقل يقضي ن ننتظر حتى يتفضلوا بالاعتراف بأننا بشر مثلهم نكتب وننظم ونؤلف!
وكلمة (زملاء) تسبق إلى قلمي بلا تحفظ، لأني واثق بأنهم اكرم والطف من أن يبخلوا علينا بهذا التطاول الخفيف!
إن لجنة إنهاض اللغة العربية فوق الشبهات، ولكني لا افهم كيف جاز أن تقرر كتاب ضحى الإسلام وتنسى كتاب النثر الفني مع أن كتاب ضحى الإسلام لا علاقة له بتقويم الأساليب
ومن الصعب عليّ أن اقبل أن يكون في اللغة العربية كتاب يشبه كتاب النثر الفني، ولكني راضٍ للضرورة بأن يكون قريعا لكتاب ضحى الإسلام. أنا راض بان أكون من زملاء الأستاذ احمد أمين في قوة التأليف ليصل كتابي عن طريق وزارة المعارف إلى الجيل الحديث، إن كان التواضع ينفعني عند أولئك الناس
وأين كانت اللجنة من كتاب (الموازنة بين الشعراء)؟
دلوني متى عرف النقد الأدبي مثل هذا الكتاب؟
إن الحياة في مصر أصبحت جحيما لا يحتمل ولا يطاق بفضل ما يقع فيها من الاستهانة بآثار العقول. وأخشى إن طال هذا الليل أن تنقرض حياة التفكير والتأليف، وأن ينفض الباحثون أيديهم من الثقة بموازين العدل في هذه البلاد
إن مصر لا تعرف أنها مدينة بسمعتها الأدبية والعلمية إلى رجال يعدون بالآحاد لا بالعشرات ولا بالمئات ولا بالألوف، وهؤلاء الآحاد ينفقون من أعصابهم ودمائهم ليحفظوا لمصر مكانتها العلمية بين الأمم العربية
وما يليق بمصر أن تترك مصاير هؤلاء الآحاد لرجل آو رجلين يسمى أولهما علي الجارم وثانيهما احمد أمين
ما يليق بمصر أن تسكت عن أبنائها الأوفياء حتى يصرخوا من الظلم والإجحاف
ما يليق بمصر أن يعرف علماؤها وأدباؤها أن لا حياة لهم ألا أن ضيعوا ذاتياتهم بالفناء في خدمة الأحزاب
أما بعد فأنا لا انتظر شيئا من وزارة المعارف، ويكفي ما ظفرت به من القراء الذين استطعت بفضل إقبالهم أن أقول إن في مؤلفاتي ما طبع مرتين وما طبع ثلاث مرات
هذا عصر التضحية يا صديقي، وهذه مصر التي لا تعرف أبناءها الأوفياء
فإن سمعت إننا قهرنا المصاعب فصدق
وان سمعت أننا أمنا عدوان الأحقاد والضغائن فصدق أيضا
صدق كل شيء يا صديقي، إلا شيئا واحدا، هو ما تسمع أحيانا من اعتدال الموازين
وكل ما أرجوه في ختام هذه الكلمة الوجيزة أن تسكت عني سكوتا مطلقا فلا تذكرني بهمومي في وطني وبين أهلي
لقد كنت نسيت فكيف جاز لك أن تصنع ما صنعت!
وهل كان الأمل في إنصاف الزملاء إلا باباً من الخيبة والضياع؟
إن أرزاقنا في آسنة أقلامنا، وسنصبر بعون الله على الصدق في الجهاد
والعاقبة للصابرين والصادقين.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
بنيتي العزيزة بثينة
أحدثك عن رحلتي راجيا ألا تكلفيني ترتيب الحديث على ترتيب المشاهد. فإنما هي فرص تنتهز. فسأبدأ بالحديث عن سويسرة قبل الحديث عما رأيت في الطريق إليها.
اكتب إليك من قرية في قمم جبال سويسرة الشامخة اسمها برجنشتوك وقد أضحى النهار، والدجن مطبق، والجو بارد، أحس منه مثل ما أحس في شتاء مصر إذا قرس. وأنا أضع قلمي بين الحين والحين لأعرك كفي إحداهما بالأخرى حتى احسن إمساك القلم. فشتان ما بيني وبينكم؛ شتان ما بين حلوان وبرجنشتوك!
لا تقع العين هنا إلا على خضرة أو زرقة، أو بياض: خضرة العشب الأثيث، والشجر الكثيف، وزرقة السماء إذا تصحو، وزرقة البحيرات ترى من قمم الجبال بعيدة بعد السماء، وبياض السحب.
تسالين: ما الذي أحللك هذه القرية الباردة في تلك القمم العالية؟
نزلت أنا وزميلي الأستاذ احمد أمين مدينة لوسرن من سويسرة، وأردنا أن نركب في البحيرة: بحيرة لوسرن إلى مكان قريب. فقيل: كرسيتن. فقصدناها على باخرة صغيرة بين مناظر معجبة بل مدهشة من جبال تخالط قممها السحب، ويزين سفوحها حلل من الأشجار ضافية في الماء وتطل في مرآة البحيرة منازل متفرقة أو قرى صغيرة كأنها أعشاش الطير بين أفنان الدوح
بلغنا كرسيتن بعد أربعين دقيقة، فنزلنا لنجول فيها قليلا فإذا شاطئ ضيق بين الماء والجبل، فيه فندق ومطعم ودور قليلة، وإذا الناس يجتمعون عند السفح، وإذا مركب عجيب مدت أمامه قضبان من الحديد، ولكن إلى أين؟ إلى ذروة الجبل الرفيعة التي يكاد الطرف يعيا دونها. مدت القضبان على السفح، واعد هذا المركب على شكل لا يميل راكبه مع انحدار الطريق بل يجلس مستويا كأنه في قطار عادي. ويجذب هذه (المرقاة) حبل من حديد مفتول فتصعد خمس دقائق في طريق ضيق عن يساره الجبل، وعن يمينه مهوى
هائل إلى الحضيض. انتهى بنا هذا المرتقى المخيف إلى مكان به فنادق عظيمة وطريق ضيقة معبدة، فسرنا نتأمل جمال الخليقة وجلالها حتى راقنا مكان قصيَّ على سفح اخضر؛ فصعدنا إليه، وأخذنا حظنا من الراحة والتأمل والتعجب. وكان معنا طعامنا فطعمنا
وسرنا إلى مرقب يطل على البحيرة يعلو على البحر ثلاثة آلاف وأربعمائة قدم، فجلسنا قليلا ولحق بنا جماعة من السائحين الأمريكانيين معهم امرأة تدلهم الطريق والتاريخ. وقفت وحفوا حولها فقالت:(هنا منظر من أروع مناظر العالم؛ هنا سبع بحيرات؛ إلى اليسار بحيرة سمباخ. ولها صيت في تاريخ سويسرة: هنا كانت حرب بين النمساويين والسويسريين الذائدين عن بلادهم، وكان الأولون مثلى الآخرين عدداً. فلما أعيت السويسريين بين الحيل تقدم واحد منهم إلى معسكر العدو فجمع من رماحهم ما استطاع وهم بالرجوع لولا أن أدركه العدو فقتله. وتحمس قومه وحاربوا حتى ظفروا. هذا البطل اسمه (وينكل ريد). ومضت في حديثها عن البحيرات. وقد رأيت اسم هذا البطل على إحدى البواخر الماخرات في البحيرة
وقرانا في لوحة هناك إن على مسيرة عشرين دقيقة مصعدا هو أعلى المصاعد وأسرعها في أوربا. يصعد خمسمائة وستا وخمسين قدما. فسرنا في طريق بين الأشجار الباسقة تلوح من خلالها زرقة السماء وزرقة البحيرة، وقد تتابعت الأشجار على السفح هابطة، وإن الواحدة منها ليرى جذعها مستقلا بعيدا على السفح، وتشرف ذروتها معتلية مشرفة فوق الطريق. وهذه الأشجار السامقة ترى من الحضيض كأنها أعشاب على سفح أو شجيرات
وانتهى المسير إلى المصعد، فإذا قضبان محكمة على جانب الجبل يصعد بها هذا المصعد وينزل في دقيقة. يصعد من جوف الجبل حينا ثم يبدو بين جدارين ناتئين من السفح، ثم يظهر معلقا في اللوح كأنه طائر يحاول ذروة شاهقة
بدا لنا أن نترك لوسرن لنقيم في هذه الناحية أياما. فسرنا نرود المكان وفنادقه حتى وقف بنا الاختيار على فندق صغير منفرد هو اقرب مكانا ومنظر إلى الريف منه إلى المدن. فقلنا: هذا منزل حسن. . ماذا نصنع بالمدن وهي متشابهة في العالم كله؟ وماذا نرى في الفنادق الكبيرة وهي لا تختلف بين مدينة وأخرى إلا قليلا؟ هنا نظفر بالهدوء والسكون، ونقرب من الغابات والحقول ونرى من عادات القوم ما لا نرى في لوسرن
وجاءت الخادم تكلمنا بلغتها وهي لا تعرف لغة مما نعرف فتفاهمنا بالألفاظ المتقاربة بين الإنكليزية والفرنسية وبين السويسرية، ولمحنا في جانب الحجرة رجلا أشيب فأشرنا أليه ليكلمنا فأشارت الخادم انه أصم فقلت:(كالمستجير من الخرساء بالصمم)
أخذنا بعض متاعنا من لوسرن إلى برجنشتوك. وبلغنا الفندق حين الغذاء (والساعة اثنتا عشرة وربع) دخلنا قاعة الطعام فإذا امرأتان ليس في القاعة غيرهما، وقد اعد لنا الطعام معهما. وليس بيننا لغة إلا الإشارات وكلمات حائرة بين ما نعرف وما تعرفان من اللغات. وقدم اللحم فرابني بياضه. فأشرت: أي لحم هذا؟ قالت إحداهما كلاما وحكت صوت الخنزير - وهذا الخنزير يخيفني حيثما حللت من أوربا - أشرت إننا لا نأكل الخنزير. قالت المرأة الأخرى لصاحبتها: إسرائيليان. قلت: لا، لا، لا، ولكن المصريين لا يطعمون لحم الخنزير. فكانت حركة في الفندق وارتباك. ثم قدم لنا لحم البقر سريعا. وفي العشاء قدم إلينا الكاكاو وكثير من اللبن وعجة البيض وفاكهة مطبوخة ورأينا القوم يأكلون العجة مع الفاكهة فعجبنا من اختلاف العادات والأذواق.
استرحنا ثم نزلنا لنخرج فدعينا إلى شرب القهوة وقدم لكل واحد مع القهوة ملء كوب من اللبن الجيد، اللبن عندهم موفور لكثرة البقر وقرب مراتعها، وأصحاب الفندق أسرة من الفلاحين
وكنا حين قدمنا هذا الصقع لأول مرة، سمعنا جلجلة أجراس مختلفة لا تنقطع فحزرت، وصدق الحزر، أنها أجراس في أعناق البقر أو الغنم. (وكننت رأيت في أصفهان من بلاد الفرس أجراسا في أعناق الإبل والثيران، ورأيت البدو يعلقون جرسا في رقبة الكبش تهتدي به الغنم وتجتمع على صوته؛ ورأيت هذا في مضارب قبيلة شمر في العراق وعلمت انهم يسمون هذا الكبش المرباع) فلما استقر بنا المقام في الفندق أردنا أن نجوس خلال الحقول لنرى البقر في مراتعها. وكانت أجراسها تجلجل في الأرجاء بين هذا الجمال الأخضر والجلال الرائع، بل في هذا المعبد العظيم من الخليقة فكأنها أجراس المعابد!
سرنا بين المروج فرأيناها مقسمة بحواجز. كأن لكل بيت مساحة من المرعى، ورأينا على الطريق أبوابا تمنع البقر إن تجاوز مراعيها. ثم رأينا بقر يرعى وقد جعلت أجراسها على قدر أسنانها: للعجل جرس صغير، وللثنى جرس اكبر منه، وللبقرة الفارض جرس كبير
كأنه القدح. ورأينا حظائر للبقر تأوي أليها في الشتاء، وهي بيت من الحجر فيه قنوات لسيل الماء، وعنده حوض لشرب الدواب، وفوقه بيت من الخشب يوضع فيه الحشيش وأدوات الفلاحة. وتجعل الحظائر بجانب مكان عال ليتسنى دخول عربة الفلاح إلى الطبقة العليا. وبيوت الفلاحين جميلة المرأى يتجلى فيها النظافة والترتيب والنعمة. وكم تمنيت أن يكون لفلاحنا بعض ما لهؤلاء
ورأينا على الطريق نصبا عليه صليب، فاقتربنا منه فإذا حجر واحد نحتت في أعلاه طاقة عليها شباك من الحديد. فاطلعنا فيها فإذا صورة قديس وقديسة، ورأينا امرأة مرت بهذا النصب فوقفت قليلا تتعبد، وكان كل من يمر بهذا الطريق يقف هناك وقفة للعبادة. وكذلك رأينا بجانب الفندق بنية صغيرة يعلوها صليب، فاطلعنا فيها فإذا معبد يتسع لبضعة نفر، واحسبناه معبد الأسرة التي تقوم على الفندق. وهكذا يحرص القوم على دينهم ويتوسلون إلى العبادة بكل الوسائل
وأما الفندق فهو مثل من نشاط القوم ونظافتهم ونظامهم. هناك أُم كثيرة الأولاد قد أحسنت تربيتهم، ومنحت من قلبها ويدها ما جعلهم قرة عين الرائي صحة وجملا ونظافة. وهي قائمة على الفندق تعينها خادم واحدة لا ترى إلا ساعية أو عاملة أو متكلمة أو ضاحكة. وقد تبؤات الأسرة بعض الفندق وجعلت للنزال بعضه، ولم تنس حقها ولا حق النزال من رفاهية ومتاع. وأنا اكتب الآن وقد جاء صبي من هذه الأسرة يطرب الحاضرين بموسيقاه. وهكذا يبدو النشاط والمرح والسرور ليل نهار
وحول الفندق أشجار الفاكهة، ومزرعة صغيرة عليها سياج ومن هذه الأشجار وهذه المزرعة فاكهة الفندق وبقوله يجنيها الأولاد كما تأمرهم الأم
أحدثك مرة أخرى عن روعة هذا الصقع فقد بدا لي إن أعود إلى هذا الحديث:
خرجنا عصر اليوم فسرنا إلى المصعد الذي وصفته آنفاً في طريق ضيقة نحتت على سفح الجبل ينيف فوقها جبل شامخ وتبدو تحتها هوة هائلة. فلما جاوزنا المصعد تمادت بنا الطريق صاعدة في السفح تخترق الجبل بين الحين والحين إذا لا تجد على السفح منفذاً. فلما اعجز القوم النحت في مواضع من هذا الطود العاتي الأشم مدد الطريق على دعم من الحديد مثبتة في الجبل، فترين السائر معلقاً بين السماء والأرض على هذه الشقة الضيقة
حتى يبلغ الغاية
وقصارى القول أن تسخير الإنسان للخليقة سهلها ووعرها وصعبها وسهلها، شجرها وزرعها، وبرها وبحرها، يبدو للسائر هنا في كل خطوة، بل لست ادري أأقول: هنا جهاد الإنسان والخليقة أو اصطلاحهما على العمل والسعادة؟
ولا أنس جلسة في العشي ونحن عائدون إلى الفندق وقد جلل الضباب الخليقة، وأطبقت السحب وأسف بعضها دون القمم، وتتابعت على العين قمم الجبال تسيل منها النضرة والجمال على السفوح، والمساكن والفنادق منثورة في هذه المرائي المدهشة! منظر لا يمكن وصفه، ولا يدركه إلا من يراه!
لا ينقص هذا الجمال إلا أن تكوني أنت وأخواتك معي فأرى دقائقه بأعينكن، وأسمع بيانه البليغ من أفواهكن. فليت ثم ليت!
(جنتشو)
عبد الوهاب عزام
في (الحب)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
- 1 -
(يا أخي، أقول لك الحق وأمري إلى الله، أنا لا أعرف الحب، ولا أستطيع أن أحب، ولم يخلقني الله لأحب، فأنا على الأرجح مخلوق ممسوخ، أو هذه الخلائق هي المسيخة إذا صدق ما يزعمون عن الحب وما يعانون من تدليهه؟)
فهز صاحبي رأسه مفكراً وسألني: (وإبراهيم الكاتب؟)
فقلت: (إبراهيم الكاتب مخلوق لا حقيقة له. . . أنا الذي خلقته، فإذا كنت لم أحسن خلقه فاعذرني، فإنها أول تجربة لي في (الخلق). ومع ذلك أدر عينيك في الغادين علينا والغاديات والرائحين والرائحات، وتدبر نفوسهم إذا استطعت، واعذرني: وأحسبك تريد أن تزعم أني وصفت حب إبراهيم هذا، أو معاشقه، وأن هذا وصف خبير. ربما! الحقيقة أني نسيت حكاية إبراهيم هذا ولكني واثق أن عقله لم يطر من الحب، ولبه لم يزدهف، وأنه كان يعرف القيمة الحقيقية لكل واحدة ممن أحب، وكان يستطيع أن يكبح نفسه ويصرفها)
فكابر بالخلاف، فتركت له الصفقة، إيثاراً للراحة من عناء الجدل الذي لا طائل تحته، وأردت أن أستطرد عن هذا الموضوع إلى سواه، فأبى أن يدعني أهرب، فدار بي فعاد إلى الحب، فقلت له:(إني أراك جائعا) قال: (جائع؟ أبداً) قلت: (والله جائع، ومتضور أيضاً. . .) ووضعت إصبعي على قلبه: (هنا فراغ أسميه أنا جوعاً، فأنت لهذا فيما أرجح، تجد لذة في الكلام في الحب الذي حرمت ما تتوهمه نعمته. . . أعترف!)
قال بضحك: (ليتني أكون محباً محبوباً. . . الحقيقة إن حياتي صحراء جرداء)
قلت: (اشكر الله، وأسأله دوام هذه النعمة.)
قال: (يا شيخ، حرام عليك!)
قلت: (والله إني أريد لك الخير، أو اسمع، إذا كان لا بد من هذا، فأحبب أنت كما تشاء، فأن أمرك يبقى بيدك، ولكن إياك أن تكون محبوباً من امرأة، فأن هذا هو العذاب الغليظ)
فظنني أمزح، فقلت:(لا والله. وإني في هذا لأتكلم بلسان الخبير المسكين. هل تصدق أن امرأة في هذه الدنيا يبلغ من قلة عقلها أن تترك الناس جميعاً وتحبني أنا؟)
قال: (ولم لا؟ هذا جائز)
قلت: (جائز. . . وهل أنا أتكلم في الجائز وغير الجائز؟ جائز أيضاً أن تصح ساقي المهيضة، وتسلم؛ وجائز أن تطول قامتي وتعرض ألواحي، وأن اصبح مصارعاً ومن أبطال العلم في هذا الباب. . . ولكن تصور عقل هذه الفتاة المسكينة! وتصور موقفي أنا حيالها. . . أنا الذي ليس له طاقة على الحب ولا صبر لي على ما يغري به من الحماقات والسخافات. أقول لها مثلاً، وأنا أناشدها أن تثوب إلى رشدها: (يا ستي! يا حبيبتي! أين ذهب عقلك؟) فتترك السؤال. . . لا تسمعه في الحقيقة. . . وتصيح وتلوح بيديها وتقول: (حبيبتك!؟ هذه أول مرة أسمع فيها منك هذا اللفظ الجميل. . . أعده على سمعي. . . أرجو) فأدهش من سوء التأويل وأقول لها: (يا ستي إنما عنيت. . . لم أعن شيئا في الحقيقة. . . مثل قولي يا صديقتي لا أكثر) فتقطب وتقول (خيبت أملي! لماذا تأبى عليَّ حتى أن أسعد بلفظ؟) فأقول: (يا ستي والله ما أكره لك السعادة ولا أنا آباها عليك لو كان بيدي إسعادك؛ ولكني لا أستطيع أن أكذب عليك، وعلى نفسي. . . هذا الحب شيء لا قبل لي به) فتقول: (ولكني أريده) فأقول: (إذن التمسيه عند غيري. . . اطلبيه من دكان آخر) فتغالط نفسها وتقول: (أنت هكذا دائماً. . مكابر. . هذا أنت. . . بس أريد أن أعرف ماذا تخسر إذا اعترفت؟) فأقول: (وكيف أعترف بما لا أحس به؟) فتروح تحاورني وتداورني، وفي ظنها أني أغالطها وأكذب عليها، أو أن، بي كبراً يمنعني من الإقرار لها بحبها، وتمسح لي شعري. . . أعني الشعرات العشر الباقية في رأسي. . . وتربت على كتفي برقة فأضحك، فتدير إلي محياها الدقيق وعلى ثغرها الرقيق اللين ابتسامة سرور، وفي عينيها ومضة أمل، فأقول، وأنا أرد القهقهة التي أحس أني أوشك أن أنفجر بها:(أتراني لعبة؟) فتقول (لعبة؟ استغفر الله! لماذا تقول هذا؟ أنت عندي. . .) فأقاطعها وأقول (دعي هذا. . . فأني أعرف منزلتي التي لا تدانيها منزلة. ولكن أن تمسحي لي شعري؟ أين هذا الشعر الذي تمسحينه؟ سبع شعرات ونصف شعرة! ومع ذلك أقول لك الحق: أنا استحيي أن أراك تصنعين هذا. . . أحس - لا أدري لماذا؟ - أني ارتددت طفلا صغيرا تلاعبينه. . .) فتقاطعني هي وتقول (يسرني أن ألاعبك. . أن تكون لعبتي!) فأقول: (أما الملاعبة فأنا فيها خادمك المطيع، تعالي نلعب كما تشائين. . . ولكن أن تلعبي أنت بي أنا. . .؟ هذا
لا يكون. . . لا استكبارا مني، بل لأن طباعي، وفطرتي لا تساعد على هذا. . . ثم كيف تلعبين بي؟ أأنا كرة؟ أم ماذا! ألا ترين أن هذا كلام فارغ، وإنا نضيع الوقت فيما لا خير فيه ولا متعة؟ أولى بنا أن نضحك، ونلعب. . .)
فتعود إلى رأس البلاء وتقول (ولكن لماذا تكره الكلام في الحب؟ أليس لذيذا؟)
فأقول (لست أكره شيئا، وإنه ليسرني أن يكون مدار حديثنا على شرط أن لا أكون أنا مداره! ثم قولي لي، أليس في عينك نظر؟)
فتعبس وتهز رأسها مستفسرة فأقول: (تحبينني أنا؟ يا خبر أسود! وهل خلت الدنيا من الناس فلم تجدي سواي؟)
فتطمئن وتضحك، وتقول (أنت متواضع. . جدا)
فأقول (يا ستي والله أبدا. . . إن بي كبرا أن يكون بي كبر. ولكن الحقيقة أنك بلهاء أو لا أدري ماذا دهاك. . .)
فتسأل بلا مناسبة: (لماذا لا تحبني؟)
فأقول: (هذا سؤال غريب. . . طيب أسمعي. . . أنا لا أحبك لأني لست عدوك!)
فتصيح: (ايه؟)
فأقول: (تمام. الحب في لغتنا لفظ سقط منه حرف. . . كان يجب أن يسمى الحرب!)
(حرب؟)
(أي نعم يا مولاتي! لأنه ضرب من الجوع)
(جوع؟)
(أي نعم مرة أخرى يا مولاتي. . تجوعين فتشتهين الملوخية بالأرانب، أو الإوز، وتجوعين جوعاً آخر فتشتهين رجلا. . . وأنت تحبين الملوخية، ولكن ليس بينكما مودة متبادلة، وإنما العلاقة بينكما آكل بمأكول؛ وكذلك الجوع الذي نسميه الحب، فأنه ليس أكثر من رغبة في الاستيلاء على مخلوق آخر أو التهامه إذا شئت. وإذا كان الحب متبادلا فان معنى هذا أن الحرب معلنة من الجانبين - كل جانب يريد أن يستحوذ على الجانب الآخر بأسلحة شتى، منها الغزل والقبل والعناق والضم وغير ذلك من وسائل التليين. . .)
قالت: (لا أصدق هذا الكلام الفارغ)
قلت: (سامحك الله. وخذي كلاماً آخر لا تصدقينه. . . كما أن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على طعام واحد، فلا يأكل سوى الملوخية مثلا، كذلك لا صبر للإنسان على امرأة واحدة. وصدقي هذا أو لا تصدقيه، فأنت حرة؛ ولكن ثقي أن من يقول لك غير هذا يكون خادعاً أو مخدوعاً: خادعاً إذا كان يدرك الحقائق، ومخدوعاً إذا كان مثلي يأبى أن يواجهها، وأنا أعرف منك بالحياة وأخبر. الرجال جميعاً خوانون غدارون - إذا صح أن نسمي غدراً وخيانة ما ليس سوى نزول منهم على حكم الطبيعة)
فقالت بسرعة: (هذا صحيح. . . كلهم خائن)
قلت: (لا تعجلي فالنساء أيضاً مثل الرجال. والطبيعة واحدة يا ستي!) فلم تقتنع يا أخي، وقد تعبت ومللت، وخطر لي مراراً أن أتركها وشأنها، ولم أكتمها أني ضجرت من هذا الحب، ولكني أشفق عليها وإن كان هذا الحب منها يغيظني ويحنقني. وما ذنبها إذا كانت لا تستطيع أن تدرك هذا الذي أبينه لها؟؟ ثم إن عقولهن غير عقولنا - نحن الرجال عقولنا في رؤوسنا، أو نحن على الأقل نتوهم ذلك، أما النساء فعقولهن ليست في رؤوسهن - هذا محقق - وقد قلت هذا مرة، فثارت علي فتاة ذكية جميلة مثقفة وسألتني وهي محنقة (أين إذن عقل المرأة إذا لم يكن في رأسها؟) فحرت كيف أجيب، وكان الجواب حاضراً ولكن الإفصاح عنه لا سبيل إليه، وألهمني الله أن أخرج من المأزق بقولي (عقولهن في قلوبهن) فأرضاها هذا التعبير الحسن عن معنى يعده الجهلة سيئاً وما هو بسيئ، وإنما هو الطبيعي. فكيف تريد مني وهذا تصوري للأشياء أن أعرف الحب كما تريد النساء والشبان أن أعرفه. . . خيالات وأوهاماً وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، ووفاء وحفاظاً إلى آخر هذا الهراء الذي لا يكون؟؟
فهز رأسه متعجباً، ولم يقل شيئاً، فحمدت الله واغتنمت فرصة سكوته واستأذنت في الانصراف
إبراهيم عبد القادر المازني
الدين والأخلاق بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 4 -
لو أن الأستاذ الغمراوي فحص عن أخلاق أمة من الأمم في نفوس آحادها لوجد اتفاقاً أو شبه اتفاق في خصائص تلك الأمة.
ولا نعني بالخصائص أنها تفردت بأخلاق لا يوجد مثلها في أمة أخرى، فإن الأخلاق شائعة في النفوس البشرية، وإنما نعني أن تلك الأخلاق أكثر شيوعاً فيها بالرغم من تفاوت نفوس آحادها في خصال الحمد والذم والخير والشر، ويستوي في تلك الخصائص من يقرأ فلسفة هربرت سبنسر ومن يقرأ كتب الغزالي، ومن يقرأ شعر شكسبير ومن يقرأ شعر المتنبي، فان تلك الخصائص المتوارثة لها عدوى تذيعها في البيئة الواحدة وهي راسخة لا تغيرها أيام ولا سنوات قليلة، وأسبابها حوادث وشرائع اجتماعية ظلت تؤثر في الأمة زمناً طويلا.
فإذا نظر إلى أخلاق البيئة المصرية وفحص عنها على ضوء هذه الحقيقة وجد أن الخصائص الخلقية شائعة يشترك فيها العظيم والحقير، ويشترك فيها الشيخ والأفندي كما يشترك فيها الفلاح وساكن المدينة بالرغم من التفاوت الظاهري في العادات وفي مقادير رسوخ هذه الخصائص أو المقادير التي تظهر بها وإن كان التشابه في مقاديرها الكامنة أعظم. وأوجه الاختلاف الظاهري تظل ملازمة للمرء ملازمة كبيرة وإن حاول أن يحول بعض خصائص نفسه إلى جانب المقادير المقهورة التي يخفيها في النفس إذا أنتقل من طائفة إلى طائفة أخرى من طوائف الأمة؛ فالفلاح إذا ألبسته طربوشاً أو قبعة لا يخلع خصائصه ولا يستطيع خلعها ويبقى فلاحاً بخصائصه، ولكنه ربما حاول أن يخفي بعض تلك الخصائص في نفسه.
والمذهب الجديد في الأدب هو إلى حد كبير كالطربوش أو القبعة التي يلبسها الفلاح؛ والمذهب الجديد كما أوضحنا قد تأثر مباشرة بما أخذه عن المذهب القديم وبما أخذه بطريق غير مباشر بعد أن تأثر الأدب الأوربي الذي هو وليد نزعة أحياء العلوم في أوربا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بالأدب والفكر العربي.
ولابد أن الأستاذ الغمراوي قد عاشر طوائف مختلفة من طوائف الأمة وإن لم يكن قد درس
حالة الأدباء الخلقية دراسة العشير الذي لا يُخاتل لا دراسة القائل بما يسمع. ولابد أن الأستاذ قد أيقن من اتفاق طوائف الأمة في الخصائص الخلقية. ولو أنه أتيح له أن يدرس أخلاق الأدباء لوجد أن الخصائص الخلقية متشابهة فيهم بالرغم من المذهب القديم والمذهب الجديد، وأن التفاوت الفردي بين آحاد كل طائفة ربما كان أهم من تفاوت أدباء كل مذهب. فالاستقامة والصدق والعفة والنزاهة والسماحة في الخلق والوفاء الخ ليست ملكا لمذهب في النثر أو الشعر. وكذلك اللؤم والكذب والغدر والانصراف إلى الملذات والحقد ليست ملكا لمذهب في الشعر أو النثر. ولو أن الأستاذ بحث هذه الخصال لوجد أن خصال الحمد والذم لابد أن توجد في المذهبين، فأن هذه خصال وميول متوارثة تزيدها حوادث الحياة وحالاتها قوة أو ضعفاً. أما غير هذا الرأي فلا يأخذ به إلا من يسهل أن يخدعه التعصب لجماعته، فأن المذهب القديم أو الجديد ليس دينا له أخلاق معينة لا يتعداها، وإلا فإن الأديب الذي يكتب على طريقة الأدب الجديد متأثرا بالأدب الأوربي ويطري الاستقامة، يعد في نظر الأستاذ كافرا بالأدب الحديث؛ وإن الأديب الذي يطري أبياتا فيها مجون من صنع شاعر من شعراء المذهب القديم يعد كافرا بالمذهب القديم. وعلى هذه القاعدة يكون أكثر شعراء العرب وأدبائهم من عهد امرئ القيس (كما ذكر الأستاذ خلاف) إلى عهدنا هذا كافرين بالمذهب القديم؛ وإذاً لا يكون هناك مذهب قديم في عالم الوجود، ويكون السيد توفيق البكري متفرنجا عندما اختار لابن الرومي أرجوزته النونية في وصف الزنا، ويكون الشيخ شريف مفتش اللغة العربية ورجل التربية متفرنجاً عندما شرح أرجوزة اللواط لفظاً ومعنى، أو يكون الأديب الواحد تارة من أنصار المذهب القديم إذا تمثل بأبيات من زهد أبي نؤاس أو أبي العتاهية، وتارة من أنصار المذهب الجديد إذا تمثل بمجونهما. ويكون إذاً حافظ إبراهيم من شعراء المذهب الجديد إذا قص قصص المجون في مجالسه أو روى أشعار المجون، ويكون حافظ إبراهيم نفسه من شعراء المذهب القديم إذا تناول مسبحة وروى أشعار الزهد والتقوى، ويكون كل أديب أو شاعر من شعراء أو أدباء المذهب القديم كما يكون حافظ في حالتيه. ويكون الأديب منهم من أنصار المذهب الجديد إذا تمثل بأبيات من لزوميات المعري لا يرضى عنها الأستاذ الغمراوي، ومن أنصار المذهب القديم إذا تمثل بأبيات أخرى من اللزوميات يرضى عنها الأستاذ. وفي اللزوميات ما يرُضي وما لا
يرُضي الأستاذ؛ ويستطيع الأستاذ أن يتخلص من هذه الورطة فيقرر أن الشاعر الذي يجهل اللغات الأوربية ولا يقرأ الأدب الأوربي المنقول إلى العربية هو من أدباء الفضيلة (والفضيلة كما قرر الأستاذ هي المذهب القديم) حتى ولو قال النثر والشعر في المجون والزيغ متأثراً بمجون وزيغ شعراء (الفضيلة) القدماء ممن كتبوا باللغة العربية، وأن الأديب الذي يعرف اللغات الأوربية والذي درس آداب اللغات الأوربية والذي يعد نفسه من أدباء المذهب الجديد هو في الحقيقة من أدباء (الرذيلة) حتى لو أطرى الفضيلة كما أطراها شكسبير وفكتور هيجو. وإذاً يكون من الواجب المحتوم أن الشاب الذي لا هو من أدباء المذهب القديم ولا الجديد، لأنه ينقل عبارات إفرنجية نقلا حرفياً كالضحكة الصفراء (وغيرها من العبارات المضحكة التي يدعي أدباء المذهب القديم أنها من خصائص المذهب الجديد) أقول إنه من الواجب المحتوم أن يعد هذا الشاب من أنصار المذهب القديم مادام يطري الفضيلة حتى ولو أطراها كما أطراها فكتور هيجو إطراء صحيحا ولكن بأسلوب عربي سقيم، وأخشى أن هذا المنطق الغريب قد يسوقنا إلى أن نعد الأسلوب السقيم إذاً من خصائص المذهب القديم مادام صاحبه يطري الفضيلة، وأن نعده من خصائص المذهب الجديد إذا كان صاحبه يطري الرذيلة. على أننا لو فرضنا أن الأستاذ قد أصاب في جعله المذهب القديم مرادفاً للفضيلة وأنه عقيدة دينية، فكم من معتنق عقيدة يقول بلسانه ما لا يتفق وأخلاقه وأعماله! فكيف به وهو ليس عقيدة دينية حتى ولو كان كل أدبائه من عهد حسان بن ثابت إلى اليوم منزهين عن الفحش في قولهم وعملهم فكيف به وليسوا كلهم منزهين عن الفحش في قولهم وعملهم بل كان منهم من بلغ من الفحش في القول والعمل غاية ليست بعدها غاية. ألا يرى الأستاذ أن جعله المذهب القديم مرادفاً للفضيلة مع هذه الحقائق يؤدي إلى أن ينافق من ينافق فيدعي أنه حامي حمى الدين والفضيلة كي ينال ما يرادف هذه الألقاب حسب اصطلاح الأستاذ فيلقب بزعيم النثر وسلطان الشعر؟ إن بعض أدباء المذهب القديم قد نشروا هذا الاصطلاح بكل ما أوتوا من بيان، كما كان كل فريق من الدول في الحرب العظمى يدعي أنه حزب الله المصطفى وأن الفريق الآخر حزب إبليس الخاسر عليه لعنة الله. فكان الإنجليز يقولون إنهم يدافعون عن الفضيلة والحضارة والعدل والخير والحق، وإن خصومهم خصوم هذه الصفات العليا. وكان الألمان ينشرون مثل هذه
الدعوة لأنفسهم حذوك النعل بالنعل. وكان كل فريق يضحك في سره من سذاجة من يصدق أقواله. وكذلك يفعل بعض الأدباء هنا وهم يخفون ما يعرفون من أن الشطط في القول لم يكن مقصوراً على مذهب في الفنون والآداب، وأن مناصرة الفضائل ليست مقصورة على مذهب، وأن جعل الفضيلة مرادفة للمذهب القديم والرذيلة للمذهب الجديد شطط وظلم لا يتفق وروح العدل الذي تأمر به الشرائع السماوية، وأنه حتى على فرض أنهم يفعلون ذلك مناصرة للشرائع السماوية لا كسباً للرزق والشهرة والمكانة، فإن مناصرة الشرائع السماوية بما ينقض عدل الشرائع السماوية من تعميم هو غاية الظلم يجعل مناصرتهم للشرائع السماوية مهزلة لا يرضاها الله، فان مناصرة الشرائع السماوية لا تكون ألا بفضائلها، فكيف وهم يعلمون أن شطط القول أو الفعل لم يكن قديماً ولا حديثاً مما يلتصق بطائفة دون طائفة، وأنه لم يخلق الله مذهباً من مذاهب الفنون من عهد آدم إلى اليوم يصح أن يعد مرادفاً للفضيلة في جميع مظاهره؟
قال الأستاذ الغمراوي إن النزعة إلى التجديد بدأت منذ ثلاثين سنة. وقد أوضحنا أن التجديد بمعناه الأعم الذي شرحه الأستاذ بدأ منذ دخول نابليون مصر وذاع أيام محمد علي باشا وإسماعيل باشا، فليس له مبدأ واحد. أما التجديد بالمعنى الأخص وهو التجديد في أبواب الشعر والنثر ومعانيهما فهو أيضاً مما لا يحد بمبدأ واحد كما يعرف من يدرس حياة الأمم ونمو النزعات والأفكار فيها، ولكن الذي يقرأ مقالات الأستاذ وأقوال بعض الكتاب يحسب أن النزعة إلى التجديد هذه نزعة متضامنة الأفراد متحدة العناصر متفقة الأهواء والمشارب والمبادئ بدأت بمؤامرة على الدين والأخلاق. والذي يدرس حياة الأمم ونمو الأفكار فيها يعرف أن هذا خيال في خيال. والذي يدرس النزعة إلى التجديد يرى أنها ليست ذات مبادئ واحدة وأنها نزعات مختلفة، فان من أدباء التجديد من يرى في المذهب الرمزي كل علو فني، ومنهم من لا يستلذه ولا يقنع عاطفته إلى الفن لإبهامه وسقوط الصلة بين الرموز والحقائق التي تشير أليها الرموز، ولتكاثر الصور فيه بعضها فوق بعض. وقد أوضحنا أن الرافعي - وهو في رأي أصدقائه زعيم المذهب القديم - كان أقرب إلى المذهب الرمزي في بعض كتبه مثل حديث القمر. وليس من البعيد أن يأتي يوم يعد فيه الرافعي من زعماء المجددين في الأدب الرمزي أو زعيمه الأكبر. ولا أحسب أن الأستاذ الغمراوي كان منذ
ثلاثين سنة متتبعاً تلك النزعات تتبع المعالج للبحث الاجتماعي، فهو إذاً يقول بالسماع. وقد أوضحنا في مقال سابق أن الأستاذ يصنع خيراً لو أنه اجتبى من المذهب الجديد ما يرتضيه وهو واجد الكثير المرتضى نقده يكون أوقع وأنفذ، وإصلاحه أقدر، وحكمه أعدل. أما جعله مذهباً مرادفاً للفضيلة ومذهباً آخر مرادفاً للرذيلة، فليس ذلك من اعتدال أمثاله من العلماء
(قارئ)
عود على بدء
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل احمد أدهم
- 3 -
(قلنا في المقال الأول في الرد على مزاعم مناظرنا الفاضل الأستاذ فيلكس فارس إن لكل أمة في العالم روحها التي تحتضن تراثها التقليدي، وعن طريق تحليل تراث مصر التقليدي انتهينا إلى أنها فرعونية آخذة بأسباب العربية لتجاري فن الحياة في ذلك العصر الذي طغت فيه العربية على كل شيء وكانت مركزاً للجذب الاجتماعي في الشرق الأدنى.
وفي المقال الثاني بينا الفروق الأساسية بين ما سميناه ذهنية للغرب وطابعاً للشرق، وقلنا إن نزعة الذهن الغربي يقينية ونزعة العقلية الشرقية غيبية، واستدللنا على هذه الحقيقة من حقائق التاريخ، واستشهدنا بكلام للأديب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم. ولهذا قلنا إنه من الصعوبة بمكان أن تأخذ مصر الثقافة الغربية وهي محتفظة بثقافتها التقليدية وأساسها الإيمان بالغيب. وقد قرأ قراء (الرسالة) منبر الأدب الحي في الشرق العربي رد مناظرنا الفاضل على ما قلناه في عددي الرسالة 263، 264، لهذا اضطررنا أن نعيد الكرة من جديد لدحض ما أثاره المناظر الفاضل من اعتراضات. ولن نتقيد في ردنا على المناظر بما جاء في كلامه، وإنما سنرجع لكتاب رسالة المنبر إلى الشرق العربي فهو إنجيل المناظر في الأيمان بثقافة الشرق)
يقول الأديب النابغة فيلكس فارس:
(الثقافة راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائداً لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة المتمتعة في الإنسان بتلك الحاجة بعد بلوغه إياها)
هذا. . . ونحن نفرق بين الثقافة والفطرة، بين تراث الشعب الذي يخرج به من ماضيه انسلالا على مدى الدهور والأعوام، وبين الفطرة من حيث هي روح الأمة التي تحتضن تراثها. فتراث مصر الفرعونية التي أسلمته لمصر الإسلامية فاختلطت نتيجة لذلك
الفرعونية والعربية فكان من ذلك ما سميناه لمصر من ثقافة تقليدية شيء والروح المصرية شيء آخر. إلا أن هذا لا يمنع من أن ترسخ الثقافة التقليدية وتصبح وكأنها من صميم فطرة الشعب. وانسلاخ الشعب عن ثقافته التقليدية، وإن كان لها رجة في صميم الفطرة والروح إلا أنها لا تعني انسلاخ الشعب عن روحه وفطرته. وما ثقافة الشعب وتراثه إلا أثر وقوع الفطرة والروح تحت تأثير ظروف ومؤثرات تجد في طريقها للمحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية للشعب. بيان ذلك أن الروح المصرية تحتفظ بذاتيتها منصبة في قوالب شتى، فهي في قالب في العصر الفرعوني، وهي في قالب في العصر الإسلامي، وجماع هذه القوالب المختلفة يكافئ الحالات المتباينة التي يتضمنها المحيط اجتماعياً وطبيعياً. وإنكار هذا معناه أن الروح المصرية تغيرت من العصر الفرعوني إلى صورة أخرى في العصر الإسلامي. فما الذي يمنع أن تتغير إلى صورة أخرى في العصر الحديث؟ ولعمري هذا لا يتفق مع ما يعرف من قواعد الاجتماع وعلم تكون الشعوب، لأن روح الشعب شيء مجرد، يكتسب عن طريق وقوعه تحت تأثير الفواعل الاجتماعية والطبيعية خصائص متباينة شكلا وإن كانت متفقة روحاُ
من هذا أرى أنه من الضروري التفرقة بين روح الأمة من جهة، وثقافتها وتراثها الشعبي من جهة أخرى، وإذاً أيكون من الممكن لمصر أن تتجرد عن ثقافتها التقليدية، وتستبدل مثلاً بدينها ديناً آخر وبلغتها لغة أخرى كما حدث ذلك في عهد الفتح العربي ومع ذلك تحتفظ مصر بروحها وفطرتها، لأن ما ستأخذه الروح من القوالب سيكون عن طريق الوقوع تحت تأثير عوامل ومؤثرات وجدت طريقها للمحيط الاجتماعي والطبيعي، ويكون بذلك صور متباينة تأخذها فطرة الشعب، وبمعنى آخر قوالب شتى، غير أن قانون العادة يدخل لاستحداث المماثلة في عقل ومشاعر الشعب فيكون من ذلك تماثل الثقافة التقليدية الجديدة في سريرة كل فرد من أبناء الشعب
على هذا الوجه فقط يمكن تعليل تفسير القالب العربي للروح المصرية والذي تكون نتيجة لوقوع الروح المصرية تحت تأثير الثقافة العربية. وعلى نفس الوجه يمكن تفسير وجه قيام الثقافة الغربية في مصر مع احتفاظ مصر بروحها وفطرتها.
وأظن أن هذا الإيضاح كاف يقطع السبيل على كل اعتراض يمكن توجيهه من أن الثقافة
الغربية لا تتفق والروح المصرية.
وكل الخلاف على ما يتبين أخيراً راجع إلى عدم التفريق بين الثقافة التقليدية والروح، فعندما يقوم أنصار الثقافة الغربية بدعوة إلى مدنية الغرب يثور عليهم أنصار الثقافة العربية قائلين إن معنى ذلك ضياع الروح المصرية والقومية، مع أن الروح شيء ثابت والثقافة شيء عرضي يتقوم بالروح وفطرة الشعب.
والآن لنتمش مع كلام المناظر في رده ولنعقب عليه بما يكفي لإظهار زيغه وبيان وجه بطلانه.
1 -
نقلنا في صدر كلامنا في المقال الأول في الرد على مزاعم مناظرنا الفاضل كلمة عن هابل آدم بك الفيلسوف الاجتماعي المعروف. والكلام واضح بين في أننا بحكم كوننا في الحياة يجب أن نفكر فيها وحدها وأن نعمل لأجلها وأقامتها على أساس إنساني بدون أن نجعل للغيب سبيلاً للتدخل فيها. وهذه الكلمة تتجلى في صدر الحديث النبوي: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا). ومع ذلك رأى المناظر فيها غموضاً وحاول أن يتعسف بتأويل الكلام إلى أن معناه إنكار الآخرة. وقال وأين عجز الحديث: (واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً)
يا صديقي ليس هكذا يكون الكلام!
قد يكون بدؤنا في طريق الله ونهايتنا في طريق الله، لكن (الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة أخرى طريق بعضنا إلى البعض) يجب أن يكون مبدؤها ومردها الأول والأخير عندنا، حيث يقوم العقل الإنساني بتنظيم الحياة البشرية
هذا هو حقيقة كلام هابل آدم في ضوء تحليل مدلول عبارته التي أستهل بها كتابه الخالد (مصطفى كمال للترك كتابي) الذي ترجم لأكثر اللغات الحية ونقل ملخصاً إلى العربية بقلم صديقنا الأستاذ إسماعيل مظهر عن ترجمته الإنجليزية.
2 -
قلنا إن موضوع الخلاف بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق يرجع إلى كون الثقافة الشرقية وقفت عند حدود الدرجة الثانية في سلم الارتقاء الفعلي بعكس الثقافة الغربية فإنها اجتازت هذه الدرجة إلى التي بعدها. ولا أدل على ذلك من بعض المراجعة لثقافة كل من الشرق والغرب في ضوء قانون الدرجات الثلاث الذي كشف عنه أوغست كونت
يقول أوغست كونت:
(إن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا وكل فروع معرفتنا لا بد من أن تمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة: الأولى الحالة الخرافية وهي حالة تصورية تخيلية، والثانية الحالة الغيبية وهي حال تجرد، والثالثة الحالة اليقينية وهي حالة تيقن)
ومع ذلك يجادلنا المناظر فليكس فارس مرجحاً الحالة الغيبية وهذا قلب لقانون الدرجات الثلاث!
3 -
يرى المناظر متابعة لاعتقاده برجحان الحالة الغيبية أن ميزة الشرق هي في الحالة الغيبية وفي إيمانه بالغيبيات. وهذا القول لو صدر من شخص ليس في مكانة مناظرنا الأستاذ فليكس فارس - وهو على علم واسع وفضل راجح - لما اهتممنا له. ولكن صدوره من مناظرنا يجعله حدث الأحداث في عصرنا الراهن
وإذا كان وقوف الشرق عند الدرجة الثانية في سلم الارتقاء العقلي سبباً للاعتقاد بتفوق هذه الدرجة على ما بعدها، فماذا يكون موقف مناظرنا إزاء أحد الزنوج أو متوحش أفريقيا إن وقف يرجح الحالة الهمجية والحالة الخرافية اعتقادا منه بتفوقها على ما فوقها، وقال لمناظرنا ما يقوله هو لنا؟ إذن ماذا يكون منه الجواب؟
4 -
إن قول المناظر برجحان الحالة الغيبية على الحالة اليقينية وإن كانت ظاهرة البطلان إلا أن هذا البطلان لا يمنعنا عن مناقشتها حتى لا يظن مناظرنا أن كلامه حق يعلو على التجريح والنقد
يقول العالم الياباني (موريكاتو إيناجاكي) إن في كل عنصر بشري استعداد لأن يظن في نفسه الكمال. ويثبت هذا العالم هذه الحقيقة من حقائق علم النفس والإنسان. وفي ضوء هذا القول نفهم اعتقاد مناظرنا برجحان ثقافة الشرق الغيبية، ولكن ما هي الأسباب العلمية والفلسفية التي يبرر بها المناظر إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية؟
بحثت كثيراً في كلام المناظر وفتشت بين السطور عن الأسباب العلمية لإيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية، ولكن بلا جدوى. فرجعت لكتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فلم أخرج بغير (قانون الرجعي) سببا في تفوق ثقافة الشرق الغيبية!
يرى المناظر أن العلم الحديث أكد وجود قوة مستترة في الإنسان أسماها العقل الباطن،
وهي مستودع الفطرة والانطباعات السابقة، وهي نفسها تسير الآن متلبسة بمظهر الاختيار. وما العقل الباطن كما دلت التجارب إلا الحوافز التي وجدت في الأجداد ونمت على اتجاه مقدور أيضاً زمن الطفولة. وهذه الحوافز تكمن فيها فطرة الأمم لأنها أداة شعورها بالحياة. وما دام الأمر كذلك فهو يرى أن سعادة المجتمع العربي في ملاءمته لما فطر عليه هي الغيبيات لأنها استلهام للروح العليا
كلام كما تراه يخترمه التناقض ومجانبة الحقائق. ومع ذلك فلننظر فيه
من المعلوم أن الإنسان بتكوينه الطبيعي يستجيب للمؤثرات الداخلية والخارجية استجابة ذاتية وهذه الاستجابة مرتبطة فيه بأنصاف الكرات المخية التي هي أعضاء رد الفعل في الإنسان. وترتبط بهذه الأنصاف الكروية المخية الوراثة والعقل الباطن. بيان ذلك أننا لو أتينا بكلب ووضعنا أمامه قطعة من الحلوى فان لعاب الكلب يسيل. هذه الظاهرة تحدث بتأثر ذاتي في الكلب ومن غير أن يكون للتجربة يد في تغييره أو تكوينه؛ ومن هنا تعتبر فعلاً عكسياً أصيلاً. وهذه الأفعال العكسية الأصيلة هي ما كنا نسميها من قبل بالغرائز. فالغرائز مجموعة من الأفعال العكسية مندغم بعضها في بعض كما هو الحال في غريزة بناء الطيور لأعشاشها. غير أن هذا الفعل العكسي الأصيل وإن كان يحدث بقاسر ذاتي في الأحياء العضوية لا يتغير فإن ذلك وقف على الأحياء الدنيا. أما في الأحياء العليا في سلم المملكة الحيوانية فان سلوك هذه الحيوانات وإن كان مرتكزاً على استجاباتها بقواسر ذاتية للمؤثرات فإنها تستفيد من التجارب، إذ تترك التجارب أثراً بيناً في سلوكها. والإنسان كأحد أصناف المملكة الحيوانية العليا يخضع لنفس هذه السنن. والأفعال العكسية المستفادة من التجارب مؤصلة لأنها مكتسبة يكتسبها الحي من ظروف حياته كنتيجة لما يلابسه من مؤثرات؛ وهذه الأفعال تختفي وتضمحل إذا ما تغايرت المؤثرات. ولما كانت الأفعال العكسية في الأصل تحدث بقاسر ذاتي مصحوبة بحركة انفعالية جاز لنا أن نعتبر الأفعال العكسية المؤصلة - وهي المستفادة من التجارب - كنمو ارتفاقي في الأفعال العكسية الأصيلة.
ولما كانت هذه الأفعال تقوى وتضمحل وتضعف وتتغاير باضمحلال المؤثرات وتغايرها، فإن مراكزها في الكرات النصفية المخية تكون قابلة لدرجة قليلة أو كبيرة لإمكان تكون
الانعكاسات المؤصلة حيث تعتمد في قوتها على التكرار الاصطحابي كما أن ضعف أواصر التلازم أو تقطعها يؤدي إلى ضعف الانعكاس المؤصل أو اضمحلاله. غير أنه يعود بصورة أيسر لأنه يكون قد ترك أثراً في الحي من حالته الأولى الارتفاقية. وهذه الحقائق بإثباتها ديناميكية خاصة للنفس وساحة لا شعورية تبين إلى أي حد قد جانب المناظر في كلامه حقائق العلم. لأن الحوافز التي بالأحياء نتيجة للارتباط الارتفاقي بين الأفعال العكسية الأصيلة والمؤصلة وليست نتيجة للوراثة. وهذا لا يمنع أن الإنسان يولد وفي تضاعيف تلافيف مخه، وفي ثنايا أنصاف كراته المخية، وفي لحائها، وفي مراكز أعصابه ميول وكفايات إمكان لبعض الأفعال المؤصلة. والإنسان بخروجه لعالم الحياة يكون جهازه العصبي في طور نمو وتكوين إذ تسيطر عليه الأفعال العكسية سيطرة مطلقة، وهذه الأفعال مجردة. . . ويكون للمؤثرات التي تلابس الإنسان أثراً في أن تحدث استجابات تكون مقدمة لفعل عكسي مؤصل. فأذن العلاقة بينما هو كائن في النفس عن طريق الوراثة لا تتعدى الإمكان المحض. وهو تحت تأثير المؤثرات يظهر مصحوباً به. فالاعتقاد بوجود أساس وراثي يرثه الإنسان ويتركب عليه مكتسباته لا يتعدى هذه الحقيقة. وهو لا يثبت دعوى أن اللاواعية أو العقل الباطن يحتوي على الحوافز المتوارثة عن الأجداد
فإذا لاحظنا هذا كله وجدنا أن للمحيط الاجتماعي وما يعرض له من العوامل والمؤثرات الأثر الأكبر في تكوين الإنسان على غرار معين. . . وإذاً يكون التجاء المناظر إلى الوراثة والحوافز المتوارثة عن الأجداد - وهي حالات إمكان في النفس - خطأ من الناحية العلمية، ويكون بالتبعية اعتقاده في سلامة وسعادة المجتمع لما فطر عليه من الحوافز المتوارثة خطأ. والصحيح أن يقال إن الإنسان من حيث يولد وهو طفل وأفعاله العكسية المؤصلة هي التي تستحكم في جهازه العصبي، وبتعبير أدق غرائزه، يكون مطواعاً للمؤثرات التي يحتويها محيطه الطبيعي والاجتماعي، ويخرج مصبوبا في قالب معين يكافئ الحالات التي أحاطته. ونظراً لأن المحيط الطبيعي والاجتماعي عادة واحد في الحالات الاعتيادية فإن المؤثرات تكون واحدة، ومن هنا يخرج الناس في قبيل معين وجيل معين مصبوبين في قالب معين.
وقانون العادة يتدخل لأحداث المماثلة في القالب المصبوب فيه القبيل حتى ينتهي لذلك. أما
في الحالات التي تكون فيها المؤثرات في المحيط الاجتماعي متباينة، فان القبيل يخرج في قوالب شتى جماعها يكافئ الحالات التي يتضمنها المحيط الاجتماعي؛ وهذا ما هو حادث اليوم في مصر. فإن أهل المدن من الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة يعيشون على غرار غربي، لأن العوامل في محيطهم الاجتماعي متأثرة بالروح الأوربية، بعكس أهل الريف الذين يعيشون على غرار شرقي. وهذا الانقسام في المجتمع المصري ملحوظ للنظر.
وإذن تكون نقطة الخطأ في كلام المناظر، بل الخطأ الأساسي هو إغفاله للمؤثرات الطارئة التي تدخل في المحيط الاجتماعي، وتؤثر في المجموع الإنساني، وتصبهم في قوالب جديدة تكافئ المحيط الاجتماعي في الصورة الجديدة التي أخذها بالمؤثرات التي طرأت عليه. وهذه الحقيقة تتبين من نظرة سريعة في كتاب (رسالة المنبر إلى الشرق العربي).
ولقد كشفنا عن هذه الحقيقة في النقد الذي كتبناه في مجلة (العصبة الأندلسية) في عددي فبراير ومارس سنة 1938 لكتابه، وهي تبين أن المناظر يمضي في كلامه مغفلاً شأن العوامل والمؤثرات التي تجد طريقها إلى المحيط الاجتماعي للشرق العربي. ومن هنا نرى أن الشرق العربي شاء أو لم يشأ مفكروه سيمضي في سلسلة من التغايرات حتى ينتهي إلى أن يحوز المكافأة للمؤثرات التي دخلت محيطه؟
(إسكندرية)
إسماعيل احمد أدهم
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
أمسلم مصري أم مبشر بروتستنتي؟
لأستاذ جليل
- 1 -
اقترحت وزارة المعارف المصرية ذاك المقترح في تيسير (القواعد)، وأعلن أولئك الفضلاء (الميسرون) منهجهم، فقال قائلون من العلماء لما رأوه: إن هذا التيسير تعسير، وإنما تسهيل القوم تصعيب. وتجادل الفريقان في الجرائد والمجلات والكراريس. و (كتاب العربية) يقول:(فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
والعربية هي كسائر اللغات وليست بأصعبهن، وإن نحوها - وإن لطفت دقائقه وجلت حقائقه - إلا كنحوهن
وليست المشكلة في صعوبة اللغة أو سهولتها ولا في (قاعدتها) وإنما هي في (المعلم والكتاب) فهما اللذان يسهلان ويصعبان، وهما اللذان يهديان ويضلان، وهما اللذان يحببان إلى الفتى لغته أو يكرهان. فالمعضلة كل المعضلة هي في المعلم وعلمه وتعليمه وكتاب كل صف من الصفوف وتبويبه وتربيته وتبيينه، ولو غزت الوزارة هذين لقرطست
ومن ظن أو أيقن أن تقريب العربية أو تسهيلها هو في تهديم قواعد فيها - فهو مهوَّس يهذي، أو موسوس يلغو. وليست اللغة العربية ملك كاتب أو كويتب، أو أديب أو أُدِّيب، أو عالم أو عويلم، حتى يتصرف فيها تصرف المتملكين، كلا، ثم كلا. إنها تراث قرون وملك أمم، فأين يذهب بكم يا لاعبون؟
واللغات في المشارق والمغارب إنما يقدم فيها ويؤخر، ويلغي ويعلق، وينقص أو يزيد، ويحيا أو يبيد - فأنه لا يفعل ذلك إلا الاحتياج الطبيعي أو الانتخاب الطبيعي وإلا الدهر، لا اللاعب العابث ولا الجاهل الغر. ولقد كان التبديل الطبيعي في هذا اللسان في كل عصر. ولو استمرت تلك المدنية، ولولا التتر والصليبيون المخربون في الشرق، والفرنج الجاهلون المدمرون في الأندلس في الغرب، لرأت الدنيا من ارتقاء العربية كل عجيبة
كان مقترح الوزارة أو فتنة الوزارة، وجاء شر يقفوه شر، وأهزأ مهرئون، وانبرى الصبيان يقولون، ونطق الرُّوْبيِضة (واستنت الفصال حتى الفرعي) ثم جاءت الطامة الكبرى:(أعني الضلال الضال في مجلة في القاهرة؛ فقد نجم فيها ناجم وتهدًّم على هذا اللسان العربي وكتابه الكريم بالقول السخيف مُشيعاً بالرأي الركيك والصنع اللئيم. ولو أقتصر هذا الخارجي على بقبقته في تقويض (القواعد) أو نسفها ما باليناه بالةً ولقلنا:
إنما هو ضحكة جاء بأضاحيك، فليضحك الضاحكون؛ لكنه شاء أن ينقلب لعنةً يلعنه اللاعنون؛ فقد تمسك هذا الكاتب في هاتيك المجلة بالذيل أو (التذييل) لكتاب (مقالة في الإسلام) لجرجس سال الإنكليزي (وهو الكتاب الذي نشرته جماعة التيسير بل التضليل من البروتستانت في مصر) وانجرأ واستجر مسلم ابن مسلمين - يا للأسف - للطاعنين في الدين، والمُقْدمين وقحين على تنقص القرآن وتغليطه في العربية. . .!
وهذا هراء صريع (التضليل)! وهذا بذاء صاحب (التذييل)! فاسمع - يا أخا العرب - غرائب العصر، ومضحكات في مجلات في مصر؛ بل شاهد أشراط الساعة، بل انظر أهوال يوم القيامة!
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وإلا فكيف نعرب كلمة (الصابرين) في قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء) كيف نعرب كلمة الصابرين المنصوبة هنا مع كونها معطوفة على جميع المرفوعات التي سبقتها إلا إذا عاوننا المفسرون؟)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت:
(وإذ قد تقرر هذا فلنشرع في تعقب خطئه. قال في سورة البقرة: (ليس البر الآية) وكان الوجه أن يقول والصابرون لأنه عطف على قوله والموفون، لكن المفسرين قالوا إنه نصب الصابرين على المدح)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) فنفهم المعنى وإن فات بعضنا سر جزم (أكن) مع مجيئها معطوفة على فعل (أصدق) المنصوب بفاء السببية!)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت:
(وقال في سورة المنافقين (وأَنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) بجزم أكن والوجه وأكون بالنصب)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) فنفهم معنى الآية وإن كنا لا نفهم لماذا قال (كن فيكون) بدلا من كن فكان مادام سياق الرواية كله في صيغة الماضي)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت:
(وقال في سورة آل عمران: (إن مثل عيسى الآية) والوجه فكان، وفي هذا الموضع يقتضيه بصيغة الماضي)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا) فنفهم المراد وإن عجبنا لتأنيث العدد مع أن العدد مذكر، وإن قيل لنا إن السبط يذكر ويؤنث فسنظل نعجب من جمعه المعدود ونتساءل لماذا لم يقل اثنتى عشرة سبطا)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت: (وقال في سورة الأعراف (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا) فأنث العدد وجمع المعدود والوجه التذكير في الأول والإفراد في الثاني كما هو ظاهر)
قال الكاتب المسلم في المجلة: (وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون من آمن بالله. . . الخ) فنفهم معنى الآية ويدهشنا في الوقت نفسه رفع (الصابئون) رغم كونها معطوفة على المنصوبات التي قبلها وكلها واقعة في اسم إن)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت: (وقال في سورة المائدة: إن الذين آمنوا والذين هادوا
والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) والوجه أن يقول والصابئين)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر) فنفهم أيضاً معنى الآية ونحن لا ندري من سر نصب (المقيمين الصلاة) مع كونها معطوفة على المرفوعات التي سبقتها وأعقبتها إلا ما يقوله المفسرون من أنها وحدها منصوبة على التخصيص)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت: (وقال في سورة النساء (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر) وكان الوجه أن يقول والمقيمون الصلاة كما قال بعده والمؤتون الزكاة. هذا ما تقتضيه القاعدة إلا أن المفسرين زعموا أنه نصب المقيمين الصلاة على المدح)
فمسطور (المضلَّل) - كما يرى القراء - هو مكتوب (المذيَّل) وقد نتش (المسلم) أقوال (المبشر) وأربى عليها ذاك الهزأة باستهزائه بآيات (الكتاب). وهل قوله (وإن كنا لا نفهم لماذا)(فسنظل نعجب)(ويدهشنا في الوقت نفسه) - إلا تهكم؟!
وقد تَتَرّس الكاتب في المجلة بقوله (وقوله تعالى) وما حكى (وقوله تعالى) ومسيء إلى إسلاميته وعربيته ومصريته وشرقيته بتصديق الحاقدين الجاهلين ومظاهرة المبشرين رسل الغربيين المغيرين - إنما هو أعزل، وإنما هو أكشف، وإن استجن بكل ترس أو مجن
وسأبين جهل الجاهل وضلال الضال تبييناً
الإسكندرية
(* * *)
فلسفة الأسماء
للأستاذ السيد شحاتة
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
القديم والحديث من الأسماء
الأسماء عنصر تاريخي مهم إذ نعتمد عليها كثيراً في الاستدلال على مختلف التقلبات السياسية والاجتماعية، وترشدنا إلى مقدار النفوذ والسلطة لطائفة أو فرد في أيام معينة، كما أن منها ما يتناساه الناس حيناً من الدهر خوفاً من بطش الجبابرة. وقد قالوا إن الناس كانوا يتحاشون تسمية أبنائهم بأسماء علوية خوفاً من بطش الأمويين
هذا إلى أن الأسماء أوضح بيان ولع المغلوب بالتشبه بالغالب ومحاكاته، فمصر في أيامها الحديثة غلبت عليها أسماء تركية أيام أن كانت تابعة للعثمانيين، وسار بعض الناس في تيار الأسماء الأجنبية بعد الاحتلال. كما أننا نجد الأسماء الفارسية واليونانية تشيع أيام العباسيين مما يدل على نشاط هذه العناصر وقوتها في تدعيم أركان الدولة
وقد ينتاب الناس نوع من الاندفاع فيأخذون باسم مخصوص فتكثر التسمية به ويزيد الإقبال عليه. وقد لاحظت ذلك في مواطن معينة من القطر المصري فوجدت اسما مخصوصاً يشيع في الفيوم وآخر يفشو في طنطا وثالثاً يذيع في المنصورة وهكذا. . وليس لذلك من سبب إلا وجود كبير أو ولي يشتهر في كل إقليم
وإننا لندرك عند البحث أن هناك أسماء بادت وانقرضت فلا يسمى بها الناس الآن إلا نادراً (أم الخير. ست أبوها. زنوبة. زهرة. حنونة. مصطفية. مريم - عمر. سالم. جرجس. حنا عثمان) وكثير من الناس اعتادوا في العصر الحديث أن يسموا أبناءهم بأسماء مستحدثة ينظر فيها إلى التجديد والابتكار والرشاقة اللفظية (نبيل. سمير. كميليا. سوسن. آمال. سهير)
كما أن هناك أسماء أخرى يميل أصحابها إلى الشذوذ والغرابة لاعتقادهم أن التسمية تحفظ صاحبها من العين والحسد، أو أنها تطيل العمر فتجد من يسمس (دحيكة. حلوتهم. حلموس. الفص. قطش. بعزق. بندق. مليم. أبو قرشين) وهناك أسماء تدل دلالة صريحة على
الموطن، فعندنا في الصعيد مثلا أسماء مخصوصة قل أن تجدها في الوجه البحري (أبو عميرة، وأبو ستيت) ومن الأسماء ما يدل على الجنس كالأسماء الأرمنية فكلها تقريباً تنتهي؛ (يان)(ملكونيان ماتوسيان ببازيان صاروخان يعقوبيان)
الألقاب
لم تعرف اللغة العربية تفخيما في الأسماء قبل عهد العباسيين، وإنما نشأ عن اختلاط الفرس بالعرب إبان الدولة العباسية أن تأثر العرب بالمغالاة في التعظيم والتفخيم، فكانت أسماء الملوك لا ينطق بها أصلا وإنما يطلقون ألقاباً للتعظيم اشتهرت حتى أصبحت أعلاماً (الرشيد - الهادي - الأمين - المأمون)
وفي أزمنة الغلو الديني والتشيع المذهبي يقترن لفظ الجلالة بأسماء الخلفاء والأمراء (الحاكم بأمر الله والعزيز بالله والواثق بالله) وقد يتجرد الاسم عن لفظ الجلالة (المعتمد - المعتصم - المعتضد) مما دعا ابن شرف القيرواني إلى أن يقول:
مما يزهدني في أرض أندلس
…
أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
…
كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
وفي تركيا درج الأتراك منذ الزمن القديم على طريق ذكر الاسم مجرداً عن اللقب، إلا أنه في العهد الأخير قرروا أن يتخذوا ألقاباً تدل على أسماء تركية يظهر فيها معنى تاريخي أو قومي. فقد تسمي رئيس الجمهورية (أتاترك) ومعناها (أبو الترك)، كما لقب رئيس وزرائهم عصمت باشا بلقب (أون أوين) وهو أسم لبلدة ريفية كانت فيها الموقعة التي انتصر فيها الترك على اليونان في حرب الأناضول
وما تزال الأسر العريقة تشفع أسمها بألقاب مأخوذة من أسماء المقاطعات التي ينتمون إليها (دوق بربانت) - (برنس أوف ويلس) - (دوق يورك). وإن إطلاق اسم أمير الصعيد على صاحب السمو الملكي ولي العهد المحبوب لمن هذا القبيل. ولدينا في مصر بعض من الطرق الظريفة يلجأ إليها الناس في التسمية والتلقيب، فمن ذلك بعض الأسماء التي تطلقها بعض الجرائد والمجلات على كثير من الناس والهيئات فإذا بتلك الأسماء أشهر من الاسم الحقيقي. وفي كثير من الحوادث والمناسبات يشتهر إنسان باسم خاص فيصبح لقباً لأسرته من بعده لا يحيد الناس عنه
كما أن ببلادنا نوعاً غريباً من التلقيب وهو دلالة الكنى على أسماء معينة: مصطفى (أبو درش) يوسف (أبو حجاج) حسن (أبو علي) إسماعيل (أبو السباع) علي (أبو علوة) إبراهيم (أبو خليل) محمد وأحمد ومحمود (أبو حميد) كل اسم مصدر بعبد (أبو عبدة) سليمان (أبو داود)
وقد جرت مصر على عادة الألقاب ففيها، كلمتا (أفندي) و (شيخ) وهما تمنحان بلا حساب ولا رقيب، ولقب حاج ويقابله عند المسيحيين المقدس، ولا يلقب بهما إلا من تمتع بالوصول إلى الأماكن المقدسة. وأما بك وباشا فهما من حق صاحب الجلالة مولانا الملك ينعم بهما على من يشاء. ومن الألقاب التي تملكها كل سيدة لقب (هانم) إلا أن العرف والعادة خصت الفتاة قبل الزواج بالآنسة وأطلقت عليها بعد الزواج لقب (السيدة) وقد سار الغربيون على عادة ذكر الزوج بعد اسم زوجته بدل أبيها. ولقد حاكاهم أخيراً كثير من المصريين وشاعت هذه الطريقة الآن ، ومن أشهر من سمي بها (صفية زغلول. هدى شعراوي) وكثيرات غيرهما
وقد درج الناس على أن ينعموا بأحد اللقبين (أفندي وشيخ) على من يشاءون، يسمون من كان مطربشاً بالأول ومن كان معمما بالثاني، وفي ذلك من الحيد عن وجه الصواب وما فيه. أما الشيخ فهي كلمة عربية ومعناها (من تجاوز سن الشباب) أو (من توفرت له حكمة الشيوخ وفضلهم ولو كان شاباً). أما الأفندي فهي كلمة تركية كانت تطلق على ولي العهد في تركيا زمن الخلافة، ثم نقلت إلى مصر وشاعت فيها. وإنجلترا تسير على نظام الألقاب (مستر وسير ولورد) أما فرنسا فقد ألغيت فيها الألقاب ولم يبق للعظيم والحقير إلا كلمة (مسيو)، وكذلك فعلت تركيا في عهدها الأخير. وفي سوريا قررت الكتلة الوطنية هناك إلغاء جميع الألقاب من باشا وبك وأفندي وصاحب الدولة والفخامة والعزة والاستعاضة عن كل ذلك بلقب (السيد)؛ وقد قابلت الطبقات السورية كلها هذه الخطة بالمدح والاستحسان. أما في مصر فقد صدر قانون منذ خمس سنوات يحرم ألا يلقب بلقب إلا من أحرزه، فقلل بذلك الألقاب الزائفة إلا أن الأمر مع الأسف اقتصر على المكاتبات الرسمية والصحف. أما في غير ذلك فلا زال الناس يكيلون بغير حساب. وحسناً تفعل الحكومة المصرية لو أنها ألغت جميع الألقاب فيصبح متساوين ولا فضل لأحد على أحد إلا بعمله
ونبوغه وقدرته
غرائب التسمية
للأسماء غرائب مدهشات نذكر بعضاً منها:
جرت العادة أن يعرف الإنسان باسمه واسم أبيه وأسرته، إلا أننا في كثير من الأحيان نجد الاسم يطغى على اسم الأب والأسرة فكثير من الناس قد يعرفون الملك أو العظيم باسمه فقط على أنهم يجهلون اسم أبيه
ومن عجائب الأسماء ما شاع اليوم من إطلاق اسمين على مسمى واحد، يظهر ذلك في الذكور والإناث (محمد طلعت - محمود شكري - زينب كميلة - فاطمة ثريا - ثروت هانم).
وفي مصر من أعجب الأسماء أننا نسمع عن اسمين أحدهما أخ للآخر، ولكنا لا نلمح أي اتفاق في اللقب حتى يكادان أن يكونا متباعدين (إسماعيل صدقي أخوه محمد نجيب شكري. عبد الخالق ثروت أخوه مصطفى رياض. أمين أنيس باشا أخوه محمد بك رياض) وتلك طريقة غريبة تضيع معها ألقاب الأسرات بمرور الزمن. ومن أغرب ما سمعت أن المدارس المصرية في عهد المغفور لهما محمد علي وإسماعيل كانت تطلق أسماء جديدة على تلاميذها يعرفون بها في المدرسة ويشتهرون بها في الحياة العامة
وفي الصين نجد معظم السكان لا تتعدى أسماؤهم أربعة (شانج - وانج)
وكل مسمى في الغالب له حظ من اسمه فالذي اسمه (ماهر، ذكي، سعيد) ينال في الغالب شيئاً من دلالة اسمه. و (فؤاد، فاروق، فايزة، فوزية، فوقية، فايقة، فتحية) أسماء بدأت بالفاء: فكل من يسمى بواحد منها يتفاءل أولا لأنها أسماء ملوك وأمراء، وثانياً لأن فيها معنى الفوز والفتح والفضل
والذين ينجمون ويتعرفون حظ الإنسان ويكشفون له عن مستقبله كل عمادهم على الأسماء: فهم يرون في حروف كل اسم ما يدل على حظ صاحبه وما قدر له في عالم الغيب، ولهم في ذلك طرق كثيرة: منها أنهم يقسمون الحروف طوائف وكل طائفة منها تدل على معان يتصف بها صاحب الاسم الذي تغلب فيه هذه الحروف. ومنها أيضاً أنهم يجمعون الأعداد الدالة على الحروف وهو ما يعرف عندهم (حساب الجمل) فيجمعون اسم الشخص واسم
أمه ثم يسقطونها سبعة سبعة، والباقي يدل على حظ صاحبه
الأسماء واللغة
اصطلح علماء العربية على تقسيم الأسماء الأعلام إلى ثلاثة: كنية وهي المصدرة بأب أو أم (أبو طالب، أبو الفضل - أم كلثوم أم الخير) ولقب وهو ما أفهم مدحاً أو ذماً (الرشيد، الفاضل، الجاحظ، السفاح) والثالث اسم وهو ما سمي به الإنسان (أحمد، علي، فرج، سليم)
ولو تتبعنا معظم الأسماء لوجدناها تقريباً (من المشتقات) فمنها أسماء فاعلين (حامد، قاسم، راغب، ماهر، عادل) ومنها أسماء مفعولين (محمود، منصور، معروف، مبروك، مسعود) ومنها صفات مشبهة: (سعيد، بخيت، سمير، كريم، ذكي، نبيل) إلا أنه على الرغم من كونها مشتقة فإننا نعتبرها من القسم الآخر وهي أنها جامدة
كما أن هناك كثيراً من الأسماء يختلط فيها المذكر بالمؤنث (عطية، إحسان، ثروت، آمال، رجاء، صوفي) واللغة العربية تنزل المذكر المسمى باسم من هذا النوع منزلة المؤنث فتمنعه من الصرف
اقتراح
وأخيراً لقد تقدم عالم أمريكي وقال إن الأسماء قد كثرت كثرة عظيمة، وصارت من أسباب الفوارق بين أبناء الأمة الواحدة لدوافع دينية، فهو لذلك يقترح الاستغناء عن الأسماء بتاتاً وتسمية الناس بأرقام فيقال مثلا (43 ابن 35) وهكذا. ولذلك سوابق، فالمسجونون والعساكر وعمال الترام يعرفون في معظم الأحوال بأرقامهم
والإنجليز يشيع بينهم اسما (جون) و (إسميث) حتى ليبلغ عدد من يسمون بهذين الاسمين في إنجلترا مليوناً من السكان
وفي مصر نجد الأغلبية يشيع بينها (محمد، محمود، أحمد، علي)
وللألقاب كذلك غرابة: فبعضها يدل على معان غريبة، ربما كانت ثقيلة، ولكنها اشتهرت فأصبحت سهلة ذائعة مقبولة (البلط، الجحش، أبو شوشة، البرش. أبو شناف، عجور، شبايك)
الأسماء والقانون
جرت العادة أن يطلق الاسم على الطفل فتسجله القابلة في سجل أعد لذلك بمكاتب الصحة، ومتى عرف الابن أو البنت بهذا الاسم فلا يجوز تغييره إلا بشروط خاصة، أن يتقدم الطالب إلى بعض الجهات القضائية ويدفع رسماً خاصاً، ويأتي بشهود ويسجل اسمه الجديد، والغرض من هذا التشديد في التغيير تضييق السبل أمام من يريد الفرار من حكم القضاء أو من دين عليه. وكثير من الناس يتقدمون لتغيير أسمائهم إما لأنها مكروهة في نطقها أو لاشتهارهم بغيرها بين الناس
وهناك كثير من الناس لهم أسماء رسمية وأخرى عرفية: فالأسماء التي سجلت في سجل الميلاد وهي الرسمية، وقد يعرفون بغيرها عرفاً واصطلاحاً بين مواطنيهم ولكن الأحكام القضائية والشهادات الدراسية تصدر بالاسم الرسمي
الأسماء والخط
التفاؤل بالأسماء والتشاؤم بها قديم جداً، فقد كان قدماء المصريين يتفاءلون بأسماء آلهتهم فيسمون بها أو ينسبون إليها (خفرع، آمون، حتب، توت عنخ آمون) وكان العرب يسمون أولادهم بأسماء يتشاءم منها (تأبط شرا، أبو الغول، أبو لهب، أبو جبل) وفي نفس الوقت يسمون عبيدهم بأسماء يتفاءل بها (الفضل، جوهر، فرج، سالم، سرور) وقد سئل بعضهم في ذلك فأجاب: (إنما سمينا عبيدنا لنا، أما أبناؤنا فسميناهم لأعدائنا) ومما يؤثر: أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم حينما بشروه بولادة النبي قال سموه (محمداً) فإني لأرجو أن يحمد في الأرض وفي السماء، والمسلمون يتفاءلون دائما بهذا الاسم المبارك الكريم
ولكن الاسم فيه معنى من معاني التكريم للإنسان والسمو إلى منزلة يتفرد بها ويمتاز عن غيره من المخلوقات، فلو أخذنا بنظام الأرقام كان ابن آدم سلعة من المتاع ولكن من يدري:
فالليالي من الزمان حبالى
…
مثقلات يلدن كل عجيب
السيد شحاتة
المدرس بالجامعة الأمريكية
خواطر ورموز
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 -
أطماع لا حد لها
تكتب يد بليدة ما رأته عين ضيقة في الدنيا الواسعة ذات الأبواب التي لا عدد لها، كتابة المتعجل الذي يريد أن يرى ويسجل قبل الرحلة التي لا رجعى بعدها هنا. . .
ورحلتنا من هنا قد حملت كثيراً من الركب على أن يتخففوا ما استطاعوا، وأن يمروا على أشياء الدنيا بالنظرة الخاطفة، والخطوة العابرة، إيماناً بأن كل شيء هنا للفناء والعفاء، فلا غناء فيه ولا وراء من أخذه في الحس وتسجيله في النفس والطرس بالتأمل والدرس
بيد أن كل هذه الأضواء الفانية، والألوان الفاصلة، والرؤى المتلاحقة، والدنيا التي تمتلئ وتفرغ كل لحظة. . . هي أحق شيء بالتسجيل وفتح الأعين الخفية عليها من غير إغماض أبداً
فلئن عشنا حياة أخرى، وهو الموقن به في إلهام الروح، والمحكوم به في إثبات العقل، فان أمتع شيء لنا هناك أن نستعرض صورنا هنا يوم تمحي هذه الأرض من الوجود ولا تبقى إلا في النفس الإنسانية كمرحلة من مراحلها في سيرها إلى غايتها المجهولة
ولكن الألفاظ ضيقة والدنيا واسعة والحياة سريعة السير. فلا أدري هل أنا مستطيع أن آخذ في ألفاظي الضيقة ما أريد أخذه حتى أشعر يوم يقبل اليوم النهائي أنني خارج من الدنيا ممتلئ الأوعية (بأفلام) طويلة كاملة الإخراج؟
أنا في إرهاق دائم بمطالب العيش ومشاكل الناس وضرورات الأبدان. . . وإنما أنظر إلى ما أمام الستار وما وراءه، في فترات قصيرة كفترات الأحلام.
فما لي على إدراك هذا يدان ولا قدرة إلا أن يضاعف صاحب الحياة من قوى نفسي فيمدني بعيون كثيرة وآذان كثيرة (وعدسات) كثيرة.
من لي بمن يدمجني في كل شيء حتى أتحدث عنه كأنني هو متحدثاً عن نفسه؟!
فيا أيتها الدنيا البُعْدَى. . .! اكشفي لي القناع واهتكي أستارك لتلك العين الضيقة التي أرمدها السهر على بابك، وولهها الدنو من رحابك، حتى ما وراء الستار.
فإن مبلغ علمي بدنياي أن أولها: أنا. . . وثانيها الأرض. . . وثالثها: السماء. . ورابعها:
أنا غير الأولى. . وخامسها: هؤلاء جميعاً!. . .
فهات يا دنيا! املئي يدي وفمي وكل وعاء فيَّ. . . إني واقف أنتظر الكنوز الموعودة. . . يداي مازالتا مبسوطتين منذ أن عرفت. . . وفمي فاغر إلى فوق،. وعيناي كهفا ظلام لم تقنعا بما ينفذ إليهما من هذا الضوء الذي تراه أيضاً كل العيون الضالة فلا يهديها. . .
2 -
والمحصول؟
ولكن. . .
هل في الدنيا إلا طريق واحد تذهب فيه الأقدام طولا وعرضاً على الشوك والحصى والغبار، ثم تنتهي إلى الحفرة التي لا تشبع أبداً من الجثث والحطام؟
وهل أنا عالم بذلك علم الذي ينظر الخواتيم دائما في المبادئ؟
وهل لا يزال يزيغ حواسي ذلك البريق الخالب فأجري وراءه وأنا أعلم أني أجري إلى لا شيء؟
أو لم أجرب العناوين وما وراءها ودنيا الألفاظ التي تضع الأسماء ليعيش الناس بها فقط؟
وهل أذهب كما ذهب أكثر الناس غريق الوهم والسعي المكدي إلى الأصفار التي غرنا منها أنها تعد أيضاً كما تعد الأرقام؟
ماذا وراء التراب المزوق يا أولي الألباب؟ املئوا منه أواعيكم ما شئتم. . .!
ماذا وراء التجارة بالألفاظ أيها الحكماء؟ املئوا الصحف بها ما أردتم. . .!
فليس في الدنيا إلا يوم واحد تفرغه الشمس أضواء وظلاماً على أجسادنا فتبينها ثم نبليها به. . .
والأرض دائماً تقرع بالأقدام. . . والصبح دائماً معه صوت الطير. . . والليل دائماً معه نجومه. . . والمحصول عدد لا نهائي من الأصفار!
3 -
لابد من جنون أيها العقلاء!
ولكن أيضاً. . .
لابد من جنون أيها العقلاء لندرك!
لابد أن نصر على هذا النداء:
أمسكي الماء أيتها الغرابيل. . . اقبضي على الريح أيتها الأصابع. امضغي الهواء أيتها الأضراس. . . أدلي الدلاء إلى السراب أيتها الأيدي. . . اطحني القرون أيتها الطواحين. . .
4 -
الأعمى والمرآة
- وهذا الإصرار هو أمانيُّ أعمى ينظر في مرآة! ليرى فيها خيوط ضوء من أفق مجهول يقع على وجهه المجهول لديه الخالد في الظلام بخلود أقفال عينيه!
إنه يتعزى بأن المرآة هي التي تراه. . . فاعذروه واتركوه يقلب وجهه فيها. . .
عبد المنعم خلاف
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
6 -
رطل عنب
كان عندنا منذ أسبوع عمال أنفذهم صحب المنزل ليصلحوا شيئاً في الدار. وابتغاهم من الأرمن ولم يسمع نصيحتي إليه بان يستبدل بهم عمالاً من أهل البلد، وتعلل عليَّ بان هؤلاء أجود عملاً، وأقل كلفة. ولقد وجدتهم والله كما قال: عملوا في اليوم ما لا يعمله غيرهم في الثلاثة، فكنت أرقبهم وأدرس طبائعهم فما أنكرت منهم شيئاً حتى أظهر الظهر وزال النهار، فقطعوا العمل، وقعدوا يأكلون ويستريحون، فلم يجدوا العنب، والعنب الأحمر في الشام قوام حياة العامل لقلة ثمنه، وكثرة فائدته، وإن من يأكله إنما يأكل الصحة والقوة ثمراً شهياً، فبعثوا أحدهم، بقروش ليشتري لهم رطلاً، ولبثوا ينتظرون. . . فمضى ربع ساعة وربع آخر، وربع ثالث، ولم يحضر، ثم جاء يلهث من التعب، فلم أتمالك أن صحت به:
- أين كنت يا هذا؟ أرحلت في طلب العنب، والعنب ملء الأسواق؟
- قال: لقد اشتريته من (البرامكة)
- قلت: من البرامكة؟ على مسافة كيلين اثنين؟ ولم هذا العناء؟. . .
- قال: لم أجد بائعاً أرمنياً إلا هناك!!. . .
7 -
أبوه!
أخبرني صديق لي من جلة العلماء، قال:
كنت أتولى المدرسة الخيضرية، وهي من المدارس القديمة في دمشق، فجاءني ذات يوم شيخ هرم عليه ثياب أخلاق، وعمة بالية، فأقبل على استحياء يسألني عملا في المدرسة وظيفته خمسة أرغفة في اليوم. فأعطيته الذي يريد، ولم أسأله عن نفسه حتى مرت أيام، فخبرني أن له ابناً، ولكن ابنه يعرض عنه وينكره، فعجبت من ذلك وقلت له: من هو ابنك؟
- قال: فلان!
فلما سمعت الاسم صعقت، وعدت أسأله:
- فلان؟ الأستاذ الكبير، صاحب الشهادات الكبرى من أوربا. .؟
- قال: نعم، هو والله ابني. ولقد أنفقت عليه مالي وشبابي، فلما صار شيئاً، جزاني شر جزاء، وجعل مكافأتي الإنكار والاحتقار، واضطرني إلى سؤال الناس وإراقة ماء وجهي في رغيف من الخبز
فقلت: أنا أكلم ابنك، فهو صديقي. . .
قال: لا، لا تفعل سألتك بالله. . . فأنه إن عرف أني خبرتك ضربني وآذاني. لقد حرم عليَّ أن أنبئ أحداً أني أبوه!
قال صديقي الأستاذ: هذا والله ما كان، ما زدت فيه حرفاً ولا نقصت!. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 38 -
1 -
(. . . وأنا على كل أحوالي إنما انظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعا في الهواء: لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى اكبر من المرأة، اكبر منها غير انه هو منها!)
2 -
(. . . ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه؛ فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس: ما نطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها ولاشيء غير ذلك؛ ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه اليها، وليس إلا هذا
(والذي هو اعجب أن ليس في حبه شيء نهائي فلا هجر ولا وصل، ينساك بعد ساعة ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب، تبكيه هو أيضاً وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تجبره على جبار الحب!)
(هو الرافعي)
الجمال البائس
وهذا حب جديد وليلى جديدة، ولكنه حب كما وصف الرافعي؛ فما هو إلا سمو بالنفس فوق نوازع البشرية إلى غيب السماوات يتنور في عوالمها الخفية نور الإنسانية في حقائقها العالية
كان ذلك في صيف سنة 1935، وكان الرافعي يصطاف في سيدي بشر؛ ثم كان يقصد إلى الإسكندرية أحيانا ليلقى صديقه السياسي الأديب الأستاذ حافظ. . .؛ فان بينهما لصلات من
الود ترجع إلى نحو عشرين سنة، منذ كان الأستاذ حافظ محاميا في طنطا.
وكان صديقه يقضي أجازته في الاسكندرية، مشغولا بكتاب يهم أن يصدره في شأن من شئون الإسلام أوحى إليه بموضوعه فترة غير قصيرة من تاريخه السياسي قضاها في بلاد الحجاز، وكان الرافعي يعاونه في إنشاء كتابه. . .
وكانا يتواعدان على اللقاء في ملهى من ملاهي الإسكندرية على شاطئ البحر، حيث تتهيأ لهما الفرصة من هدوء المكان في النهار وقلة إقبال الناس عليه، لما هما فيه من عمل
في هذا الملهى كانت تعمل فرقة الراقصة المشهورة (ببا) فيعج كل مساء بمن يفد إليه من طلاب اللهو والهوى، ليفرغ للرافعي وصاحبه في النهار يداولان الرأي في شئون الأدب والدين والفلسفة. وشتان ليله ونهاره!
وكثر تردد الرافعي وصاحبه على هذا الملهى حتى ألفهما المكان وألفا ما فيه، وألفهما فيمن أَلِف فتاة من راقصات الفرقة، هي الإيطالية الحسناء (بـ. . .) فما كان بينها وبين الرافعي إلا نظرة وجوابها ثم كانت قصة حب. . .
وجلس الرافعي إليها يتحدثان ذات نهار، وكشفت له عن صدرها وكشف لها، فكان بينهما حديث طويل، شهده الأستاذ حافظ من بدايته إلى منتهاه، ثم ترك الرافعي لهواه وتركته صاحبته. . .
وذاق الرافعي مرة أخرى لوعة الحب وبرجاء الهوى، وكانت محبوبته الأخيرة راقصة من بنات الهوى تعمل في مسرح هزلي من مسارح الصيف المتنقلة بين شواطئ الإسكندرية. . .!
تلك هي صاحبة (الجمال البائس)
وانتهت اشهر الصيف وعاد الرافعي إلى طنطا وعادت الفرقة الراقصة إلى القاهرة، وشت ما بين الحبيبين!
ولقيت الرافعي بعدها فحدثني حديثه والكلمات ترتعش على شفتيه وفي عينيه بريق عجيب؛ ثم تهدج ورق صوته وهو يقول: (مسكينة! يا ليتني أستطيع أن ابلغ ما في نفسها لأعلم ما تشكر من حظها وما تنكر. . . ليس موضعها هناك، ولكنه القدر!)
ولقيته في القاهرة ذات مساء، وقد فرغ من مقالات (الجمال البائس) فدعاني أن اصحبه إلى
الملهى الذي تعمل فيه ليراها من بعيد، وأرسل من يطلب له تذكرتين عند الشاب من أبناء عمومته يعمل في (دار الهلال) وأبطأ عليه الرسول فلم ينتظر، فنهض ونهضت معه واتخذ طريقه إلى (عماد الدين). .
ووقف بالباب ينظر الصور ويقرأ الإعلان وهو يسألني: (أين اسمها؟ وأين صورتها؟ وأين. . . وأين هي!)
وطالت وقفته وهو ينظر إلى صورتها في إطار كبير إلى جانب الباب يضم صورتها إلى صور شتى من راقصات الفرقة ما منهن إلا لها جمال وفتنة، ولكن عينيه كانتا تنظران إلى صورة واحدة، إلى صورتها!
ثم تحول عن الباب مسرعا عجلان وهو يجمجم بكلام لا يبين
وقال لي وقد أسرعت إليه حتى حاذيته: (أيليق أن ندخل إلى هذا المكان؟ أتراه من المروءة؟ وددت لو رأيتها ولكن. .)
وانتهينا إلى قهوة (بول لور) فجلس وجلست، ومضى يتحدث عن السحر والشعر وفتنة الجمال؛ فما هي إلا لحظة ثم مرت بنا منحدرة من شارع فؤاد إلى شارع سليمان باشا، فأتبعها عينيه من نافذة إلى نافذة حتى توارت في مزدحم الناس ثم عاد إلى نجواه وشكواه. . .
وجلس مرة يتحدث إلى صديقه الأستاذ حسن مظهر محرر (اللطائف) عن ذات (الجمال البائس) فأهدى إليه صورتها؛ فما زالت هذه الصورة معه إلى أخريات أيامه لا تفارقه.
ولقد كان يحسن الظن بعلمها وفهمها، حتى ليحسبها من قراء الرسالة فتفهم ما كتب من مقالات الجمال البائس لتعرف موضعها من نفسه!
وكان لا ينفك يسأل: (أتراها علمت؟ أتراها قرأت. . .؟)
وما أحسبه لقي صاحبا من أصحابه إلا تحدث إليه عن صاحبة الجمال البائس. . .
جلست منذ قريب إلى الأستاذ توفيق الحكيم نتحدث عن الرافعي ونذكر من خبره فقص علىَّ، قال: (كان الرافعي يجلس على هذا الكرسي، من هذه الغرفة، وكان ذلك قبل منعاه بأشهر قليلة؛ ومضى الحديث بيني وبينه حتى جاء ذكر صاحبة الجمال البائس؛ فأخذ الرافعي يصفها لي وصفا لا أجد أبلغ منه ولا أجمل من صاحبته، وطاوعه القول على
تصويرها كما هي في نفسه؛ فما كانت عندي بما وصف إلا امرأة قد أجتمع لها من ألوان الجمال وفنون الحسن وسحر الأنوثة ما لم يجتمع مثله لامرأة؛ وتمثلت صورتها لعيني كما أراد أن يصف؛ فلما بلغ آخر الحديث عنها، قدم إلى صورتها في ورقة لأرى بعيني مصداق ما سمعت. . .
قال الأستاذ توفيق الحكيم: (ونظرت إلى الصورة التي صورها لي حديث الرافعي والى الصورة التي في الورقة، فكأنما استيقظت من حلم جميلّ. . . يرحمه الله لقد كان شاعرا. . .)
كذلك كان سلطانها في نفسه وأثرها في خياله!
وكانت نشأة هذه الفتاة في طنطا لأول عهدها بالرقص، وكانت تعمل مع فرقة قروية أقامت (خيمتها) في طنطا بضع سنين؛ ولم يكن الرافعي يعلم ذلك حتى عرفتها في فرقة (بيا) ورأيت صورتها؛ فلما أخبرته به أغمض عينيه وراح في فكر عميق. . . أتراه كان ينظم شعرا لم يجهر به ولم يسمعه أحد؟
والعجيب أن الرافعي وهو في غمرة هذا الحب الجديد لم ينس صاحبته (فلانة) ولم يفتر حبه لها، بل أحسبه كان أكثر ذكرا لها وحنينا إليها مما كان، وكأنما كان قلبه في غفوة فأيقظه الحب الجديد ورده إلى ما كان من ماضيه
لقد كان قلب الرافعي عجيبا في قلوب العشاق؟ ليت من يستطيع أن يكشف عن أعماقه!
طنطا
محمد سعيد العريان
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 10 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني:) ك)
ط - (مجيبا بولوس) فبرهن لي إذاً على أن الخطباء قوم عقلاء، وعلى أن البيان من الفنون وليس بأحد أقسام الملق، وهنالك تكون قد ناقضت رأيي!، أما إذا لم تناقضني فلن يكون للخطباء الذين يفعلون في الدولة ما يشاءون، ولا للجبابرة الطغاة أي خير! وها قد اعترفت بنفسك - حسبما جاء في قولك -: بأن القوة خير، وبأن فعل ما يشاء الإنسان عندما يكون مسلوب العقل شر!، أليس كذلك؟
ب - بلى
ط - وإذا كيف يصير الخطباء والجبابرة جد أقوياء في الدول إذا كان بولوس لم يناقض سقراط ولم يقنعه بأنهم يفعلون ما يريدون؟
ب - يا للرجل. . .!
ط - إنني أدعي أنهم لا يفعلون ما يريدون! فناقضني!
ب - ألم توافق منذ لحظة على أنهم يفعلون ما يبدو لهم كأحسن الأفعال؟
ط - ومازلت للآن موافقا على ذلك؟
ب - فهل يفعلون - على ذلك - ما يريدون؟
ط - ذلك ما أنكره!
ب - حتى ولو كانوا يفعلون (ما يسرهم)؟
ط - بلى
ب - إنك لتقول أشياء بالغة الغرابة وجديرة بالرثاء يا سقراط؟
ط - لا تلمني هكذا سريعاً يا بولوس إذا استعملت لهجتك وأسلوبك!، إنك إذا كنت قادرا على توجيه الأسئلة إلىَّ فبرهن لي أني قد غششت نفسي!، وإلا فلتجبني بنفسك
ب - وإني لجد راغب في إجابتك كيما أعرف أخيرا ماذا تريد أن تقول!
ط - أتعتقد أن الناس يريدون كل ما يفعلون من أعمالهم أم هم لا يريدونها إلا من أجل شيء آخر؟ مثلا أولئك الذين يتناولون جرعة الدواء التي يقررها الطبيب: أتراهم يريدون في رأيك أن يبتلعوا ما لا يسيغونه؟ أم هم لا يفعلون ذلك إلا من أجل شيء آخر هو (الصحة)؟
ب - واضح أنهم لا يريدون من ذلك غير الصحة!
ط - وبالمثل أولئك الذين يركبون البحر أو ينهمكون في كل بحارة أخرى فانهم لا يريدون ما يباشرنه يومياً - لأن من يواجه البحر يعرض نفسه لصنوف العوائق والأخطار - وإنما الذي يريدونه في رأيي هو الشيء الذي من أجله يبحرون وأعني به (الثروة)، لأنا لا نبحر إلا لكي نثري!
ب - ذلك مؤكد!
ط - أو ليس الأمر بالمثل في جميع الأفعال؟ أي إذا فعل الإنسان شيئا من أجل غاية ما، فانه لا يريد ما يفعل، ولكنه يريد (الغاية) التي من أجلها يفعل ما يفعل؟
ب - بلى!
ط - والآن هل يوجد في الدنيا شيء لا يكون حسنا أو رديئا، أولا هو بالحسن ولا هو
بالرديء؟
ب - لا يوجد في الدنيا شيء على خلاف ذلك يا سقراط!
ط - أو لا تعد الحكمة والصحة والثروة وكل الأشياء الأخرى المماثلة من الأشياء الحسنة؟ بينا تعد نقائض هذه من الأشياء الرديئة
ب - نعم
ط - وألا تقصد بالأشياء التي هي بين بين، تلك التي قد تكون حسنة وقد تكون رديئة، أعني تلك التي لا تمايز فيها، كالجلوس والمشي والملاحة والجري، أو كالحجارة والخشب وكل ما شابه ذلك من موضوعات؟ أليست هذه في رأيك هي التي ليست بالحسنة وليست بالرديئة؟ أم ترى هي شيء آخر؟
ب - كلا! إنها كذلك لعمري!
ط - والآن عندما نفعل هذه الأشياء غير المتمايزة، أنفعلها من أجل أشياء حسنة أم نفعل الأشياء الحسنة من أجلها؟
ب - لا شك في أننا نفعل هذه الأشياء من أجل غايات حسنة.
ط - وإذا فهو (الخير) الذي نسعى إليه بالمشي عندما نمشي لأننا نرى أننا نكون في حالة أحسن إذا مشينا. وبالمثل عندما نبقى - على النقيض - ساكنين، فإننا نفعل ذلك من أجل نفس الغرض، وهو الخير، أليس ذلك صحيحاً؟
ب - بلى!
ط - ونحن كذلك لا نقتل - عند ما نقتل، ولا ننفي الغير ولا نسلبه إلا عندما نقتنع بأن الأفضل لنا هو أن نفعل ذلك لا نفعله ألا نفعله؟
ب - بالتأكيد!
ط - وإذا فنحن لا نفعل كل ما نفعل من هذا النوع إلا من اجل (الخير)!
ب - أوافق على ذلك.
ط - وإذا قد اتفقنا على أننا عندما نفعل شيئا من اجل غرض ما، فإننا لا نبغي الشيء حينذاك وإنما نبغي الغرض منه؟
ب - بالتأكيد!
ط - وإذا فنحن لا نريد ذبح الناس ونفيهم وتجريدهم من أملاكهم لمجرد هوى يسير، وإنما نفعل ذلك مريدين عندما يكون في ذلك نفع لنا. أما إذا كان في ذلك ضرر لنا فنحن لا نريده لأنا لا نريد إلا الخير كما صرحت أنت بذلك، أما ما هو ليس بالحسن ولا بالرديء فنحن لا نريد كما لا نريد بالأولى كل رديء، أترى ذلك صحيحا؟ أيلوح لك أني محق يا بولوس؟ أجبني بالنفي أو الإثبات. .! مالك لا تجيب؟
ب - إنك محق يا سقراط؟
ط - وما دمنا قد اتفقنا على ما تقدم، فهل إذا قتل خطيب أو طاغ شخصاً آخر أو نفاه من المدينة، أو جرده من أملاكه معتقداً أنه يخدم بذلك منفعته، بينما لا يكون في ذلك إلا ضرره، أتراه يفعل حينذاك ما يسره؟
ب - بلى
ط - ولكن أتراه يفعل أيضاً ما (يريده) إذا رأى أن النتيجة ستكون وبالا؟. . . لماذا لا تجيب؟
ب - لا يلوح لي أنه يفعل حينذاك (ما يريد)!
ط - وإذاً أيمكن أن يلوح لمثل هذا الشخص (قوة كبيرة) في المدينة، إذا صح ما سلمت به من أن القوة الكبيرة خير؟
ب - كلا، فذلك مل لا يمكن أن يكون!
ط - وإذاً فقد كنت محقاً في قولي إن المرء يستطيع أن يفعل في الدولة ما يسره دون أن يكون عنده من أجل ذلك قوة كبيرة أو دون أن يكون فاعلا لما (يريد)!
ب - وما دام من شأنك يا سقراط أنك لا تفضل أن تكون (حراً) في الدولة بحيث تفعل ما يسرك، على أن تكون بعكس ذلك، أفلا تحسد من تراه يقتل ويسلب ويقيد بالحديد؟ من يسره أن يفعل معه ذلك؟
ط - أتقصد أنه يفعل ذلك عدلا أم ظلماً؟
ب - ليكن عدلا ذلك أم ظلماً، أفلا ترى أنه جدير بالحسد في كلتا الحالتين؟
ط - قل شيئاً أفضل من ذلك يا بولوس!
ب - ولم لا؟
ط - لأننا يجب ألا نحسد من هم ليسوا جديرين بالحسد كما لا يجوز أن نحسد الأشقياء والتعساء! بل يجب على النقيض أن نرحمهم يا بولوس!
ب - ماذا؟ أترى أن أولئك الذين أتحدث عنهم جديرون بالرحمة؟
ط - وكيف لا يكونون جديرين بها؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 18 -
متى كان الشاعر صادقا في شعوره وتعبيره، صاحب خصوصية في فهم الحب والحياة، متعدد الجوانب منفسح الآفاق؛ كثرت غزله - وفي شعره كله - صور (الحالات النفسية) - وهي الخاصة التي رصدنا لها هذا المقال في غزل العقاد - ولم يقف في الغزل عند الصور العامة الشائعة، لأنه معنيّ بإظهار خاصة نفسه، وتصوير خلجات ضميره.
وخصائص العقاد العامة - كما قلت في الكلمة الماضية - لا يخطئها الناقد في كل بيت له وكل قصيدة، حتى ليستطيع دارسه أن يثبت له أو ينفي عنه أقوالا لم يعلم صدورها عنه. وبعض إخواني الآن يتفكه معي، فيعرض عليَّ أقوالا منثورة ومنظومة ناسبا إياها للعقاد، فلا أجد صعوبة ما في نفي بعضها وإثبات بعضها، وبيان حكمة النفي والإثبات بخصائصه العامة التي لا تخطيء ولا نتخلف
هذه الخصائص أشد وضوحا في شعر (الحالات النفسية) بطبيعة الحال. وهذا الضرب من الشعر يمتاز فيه العقاد بالوفرة والتنوع والشمول، كما يمتاز (بالخصوصية) والتفرد.
ولا بد من التنبيه إلى هذه الامتيازات. فشعر الحالات النفسية قد يكون، ولكنه يكون ذا لون واحد، أو قريبا في غوره وانبساطه، فلا يكون - إذ ذاك - ميزة للشاعر، إلا من حيث إشارته إلى وجود البذرة الصالحة للإنبات؛ بذرة الأساس الصادق الأمين.
والحالات النفسية التي سنعرضها في هذا المقال فيها الطريف في نوعه وشكله، وفيها الشائع في نفوس المحبين الصادقين، ولكنه معروض في شكل جديد ونسق واتجاه خاصين خصوصية العقاد في عالم الشعراء
الصبابة المنشورة:
الحب الذي طمسه السلوان، وعفى عليه النسيان، يبعثه العقاد حيا، ويشخصه جسما، ويقول له ويستمع إليه، ويعجب منه ويرثي لمصيره، في جو مرهوب مسحور، كجو البعث والنشور.
صبابة قلبي! أقبل الليل غاضباً
…
فهبي فقد يغشى الرفاتُ المغانيا
وقد تهجر الموتى القبورَ أمينة
…
إذا الليل غشى بالرقاد المآقيا
وثوبي إلى الدنيا مع النوم فانظري
…
مكانك قد أقوى وعرشك خاويا
ومري به مر الغريب. وطالما
…
تربعت فيه قبل ذاك لياليا
ولا تسألي: من بالديار؟ فإنها
…
على موثق ألا تجيب مناديا
بدا شبح عار من اللحم، عظمه
…
يجاذب أضلاعا عليه حوانيا
يقاربُ في قيد المنية خطوَه
…
ويمشي به ليلا مع الليل ثانيا
وقال: سلام! قلت: فاسلم وإن يكن
…
دعائي لميت بالسلامة واهيا!
من الطارق الساري؟ فقال: صبابة
…
نعمت بها حينا وما أنت ناسيا
فقلت: أرى جسما عري من روائه
…
وعهدي به من قبل أزهر كاسيا
جهلتكِ لولا مسحة فيك غالبت
…
بشاشتها أيدي المنون المواعيا
جهلتك لولا هزة في جوانحي
…
يدَ الدهر لا تبقي من الشك باقيا
ألا شدَّ ما جار البلى يا صبابتي
…
عليك فكيف استل تلك المعانيا
أأنت التي أسهرتني الليل راضيا
…
وأنت التي أسكرت عيني صاحيا
وأنت التي كنا إذا الناس كلهم
…
تولوا، وجدنا مغنما فيك وافيا؟
وأنت التي جليت لي الأرض جلوة
…
أسائل عنها الأرض وهي كما هيا
أسائل عنها كل شيء رأيته
…
أما كنت فينان المحاسن شاديا
نفختِ بها روحا فغرد صامت
…
ورنم جلمود، وأصغيت لاهيا
فلما ألمّ البين لاذت بصمتها
…
وأمسيت حتى يأذن الله صاغيا
وهل يسمع الصاغي إلى القبر نأمه
…
ولو كان فيه (معبد) القوم ثاويا
نعم أنت لولا ساتر من منية
…
وحسبك ستراً بالمنية ساجيا
وإن امرأ ماتت خوالج نفسه
…
لقد جمع الشرين حياً وفانيا
حياة لها حد ولا حد للردى
…
فليت المنايا والحياة تواليا
كما تتوالى يقظة العيش والكرى
…
وتعقب أنوار الصباح الدياجيا
إذن لتشوقنا الحمام اشتياقنا
…
إلى النوم واشتقنا الحياة دواليا
درج الحب:
الحب الظامئ للمزيد ما يصل إلى غاية حتى يتطلع إلى ما وراءها، وهي حالة من أصدق حالات الحب التي لا يلتفت إليها المحبون، في حين أنها تكاد لا تتخلف في كل حب طويل.
أبصرته. فوددت ألزمه
…
باللحظ في حل ومرتحل
وطفقت أرجو أن يحادثني!
…
فبلغت ما أرجو على مهل
حادثته والنفس شيقة
…
للنهل من فمه وللعلل!
وتهم تتبع كل بادرة
…
من فيه باللثمات والقبل
قبلته فتجدّدت علل
…
غير التي داويت من عللي
الآن أطمع أن أكون له
…
ويكون إذ يمسي ويصبح لي!
وأكاد أشفق أن تراعيه
…
- حرصاً عليه - شواردُ المقل!
في القلب شيطان يقول له
…
زِدْ، كلما أوفي على أمل
بالوكف لا نرضى فوا عجبي
…
كيف ارتضينا أمس بالبلل؟
اليوم الموعود:
وليس هو يوم لقاء عادي، ولكنه يوم سيجعل له من جنته التي يخطر فيها كالغريب ملكا ذلولا، يلتذ فيها التذاذ المالك الحر المنطلق من قيود الوله والضرورة والخلسة إلى آفاق المتعة المطلقة الراوية القريرة. وهي قطعة من ثمرات النضوج الفني والنفسي، ومن قطوف الحس الرفيه المترف الذي يفرق بين أدق ألوان الشعور
وفي أولها تعبير مبتكر طريف عن اللهفة إلى الموعد المرتقب حين يقول:
يا يوم موعدها البعيد ألا ترى
…
شوقي إليك؟ وما أشاق لمغنم
شوقي إليك يكاد يجذب لي غدا
…
من وكره يكاد يطفر من دمي
أسرع بأجنحة السماء جميعها
…
إن لم يطعك جناح هذى الأنجم
ودع الشموس تسير في داراتها
…
وتخطها قبل الأوان المبرم
ما ضر دهرك إن تقدم واحد
…
يا يوم من جيش لديه عرمرم؟
ثم يأخذ في بيان مهمة هذا (اليوم الموعود) وتفرده في الأيام، وما عقد بمفرقه من تحول في
هذا الحب إلى الطلاقة والاستقرار:
لي جنة يا يوم أجمع في يدي
…
ما شئت من زهر بها متبسم
وأذوق من ثمراتها ما أشتهي
…
لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي
وتطوف من حولي نوافر عصمها
…
ليست بمحجمة ولست بمحجم
وتلذ لي منها الوهاد لذاذتي
…
بتصعد في نجدها وتسنم
لم آس بين كرومها وظلالها
…
إلا على ثمر هناك محرم
فكأنما هي جنة في طيها
…
ركن تسلل من صميم جهنم
أبدا يذكرني النعيم بقربها
…
حرمان مزءود وعسرة معدم
وأبيت في الفردوس أنعم بالمنى
…
وكأنني من حسرة لم أنعم
يا يوم موعدها ستبلغني المنى
…
وتتم لي الفردوس أي متمم
لا غصن رابية تقصر راحتي
…
عنه، ولا ثمر يعز على فمي
سأظل أخطر كالغريب بجنتي
…
حتى أثوب على قدومك فاقدم
فأبيت ثم إذا احتواني أفقها
…
لم أُنهَ عن أمل ولم أتندم
فرحي بصبحك حين تشرق شمسه
…
فرح الضياء سرى لطرف مظلم
ثم يختم القصيدة بخاطرة هي إحدى (خصوصيات) العقاد في فلسفة الحرية والضرورة ممزوجة بعاطفة الحب، فيرى الوله نوعاً من نداء الضرورة لا يليق بالخلد الذي تشبع فيه الرغبات، وتقر القلوب وتحس بالحرية والانطلاق من الضرورات:
أمعيرتي خلد السماء سماحة
…
صونيه عن ولهٍ صيانة مكرم
رفقا بخلدك أن تشوبي صفوه
…
إن لم ترى رفقاً بمهجة مغرم
الليلة الفطيم:
المتعة الخاصة التي لا يغني عنها سواها، لأن لها أما لا يغني عنها سواها، ولو كن جميلات شهيات، فإذا اجتمعن ولم تحضر هذه (الأم) فالليلة الفطيم لا ترضع ثدياً آخر ولا تجد متعة أخرى!
ياله من طريف!
بكت الليلة الفطيم شجاها
…
ما بكاء الفطيم بين الثديِّ
الثدي الحسان تبغي رضاها
…
ما لثغر الفطيم غير رضيّ؟
لو أرادت لكان عند مناها
…
كل صدر، وكل نهد شهي
أمها! أمها! وليس سواها
…
ذات صدر على الشفاه ندي
ثم يخاطب ليلته هذه خطاب الأب الواثق، يداعب طفلته واليقين يملأ نفسه، والرضا يطلق البشاشة والدعابة في وجهه ولسانه:
ليلتي. ليلتي الحزينة صبرا
…
ليس هذا الفطام بالأبديِّ
سوف تروين من أمْيِمك ثغرا
…
فارضعي الآن من دموع الشجي
واذرفي هذه المدامع غزرا
…
هل يضير البكاء عين الصبي؟
من أذاب الرضا عينيه وسهرا
…
في ارتقاب النعيم، غيرُ شقي
يوم:
يوم أوله لقاء ومتاع، وآخره فرقة ووحشة. وهو يوم يمر على كل حبيبين، وهي وحشة تلمس كل قلب في هذا الموقف، ولكن العقاد وحده هو الذي يعبر هذا التعبير، وهو الذي يستقصي كل شوارد الإحساس، ويتتبع كل مطارح الشعور ويفصل كل هواجس الضمير
ذهب الليل ودار المللوان
…
وشدا قبل الصباح الكروان
ومشى الصبح على مهل كمن
…
يطرق الدار على غير أمان
وتلمست هنا تغريدة
…
في فمي تصدح في هذا الأوان
قبلة منك هي الفجر وفي
…
طيها تبدو ثناياه الحسان
عن شمالي كلما ولى الدجى
…
وسرى فجر وحنت شفتان
وتراءت نظرة ناعسة
…
عند أخرى فتلاقت نظرتان
بان ليلي لا تسلني كيف بان
…
أنت تدري فاغتفر عِيَّ البيان
كلما يممتُ داري قلت لي
…
أجناحان لنا أم قدمان؟
فأتيت الدار لا احسبها
…
قربت قط ودوني خطوتان
لم أكن أطلبها ويحي ولا
…
أطلب المهرب منها حيث كان
أين أمضي؟ أين تحدوني الخطأ؟
…
ضاقت الدار وضاق المشرقان
راعني نقص بعيني ويدي
…
وفمي الصادي وقلبي واللسان
خلتني بدلت منها غيرها
…
ولو أستبدلها الخطب لهان
أهزيع منك يا ليل مضى؟
…
أمضى نصف؟ أما ينشطران
بان ليلي؟ لا تسلني كيف بان
…
حاطك الله من الليل وصان
إي وربي بان. لكن بعد ما
…
نفدت ساعات عمري في ثمان!
لا زمان حيثما لاقيتني
…
فإذا فارقتني كان الزمان
طلع الصبح حزينا عاطلا
…
أتراه كان بالقرب يزان؟
وسرت أنفاسه يا حسرتا
…
أين أنفاسك يا زين الحسان؟
نسمات الصبح أورت كبدي
…
فحجبت الأنف عنها والعيان
ثم ماذا؟ ثم يرى أن يتسلى بالقراءة، وأن يستمع إلى أصدقائه وخاصته من دواوين الشعراء. فماذا يكون؟
وتمشيت إلى كتبي على
…
مضض مني وللكتب أوان
يا (أبا الطيب) لا تهرف. ويا
…
صاحبي (الرومي) ما هذا الرطان!
شعراء الشرق والغرب أما
…
تملكون الصمت يوما في عنان؟!
أو فهاتوا الشعر لي صرفا بلا
…
أحرف في الطرس منه أو معان
أفرغوه جملة في خاطري
…
ليس لي بالطرس والدرس يدان
رب شعر شاقني لما تكد
…
شفتا قائلة تنفرجان!
هذا شأنه مع الكتب - وهو ملول قلق - فما شأنه مع الأصدقاء الأحياء؟
وتجلى الباب لي عن زائر
…
من أودائي كأنا أخوان
فتعلمت ولبي شارد
…
كيف يكسى الود ثوب الشنآن
قال لي: (الأفق جميل) قلت لا
…
بل دميم. قال: زاه. قلت: قان
قال: زبد قلت: حاشا فانثنى
…
نحو عمرو. قلت: كلا بل فلان!
فمضى يعجب مني سائلا:
…
أسلام؟ قلت: بل حرب عوان
ذهب اليوم وما أحلكه
…
كان من يوم نماه النيران
لم يكن في صبحه أو ليله
…
حظ عين، أو لسان، أو جنان
ذاك يوم يا حبيبي واحد
…
وغد منه غني عن بيان
نعم يا سيدي (غني) عن بيان، فقد عشنا معك في هذه القصيدة يوماً مخنوق الأنفاس، مكروب الصدر، ورأينا فيه وحشتك وقلقك وتبرمك، بل احسبنا نحن بالوحشة والقلق والتبرم، وتمثل لنا يومك لحظة وساعة ساعة، كالح الوجه كئيب الطلعة، ثقيل الخطوات!
(للمقال بقية)
سيد قطب
تاريخ الحياة العلمية
في جامع النجف الأشرف
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
- 1 -
هاهي ذي مجلة الأستاذ الزيات تحمل على أجنحتها رسالة الإخاء الإسلامي العربي! أما ترى كيف أصبحت رابطة التعارف بين أستاذ في جامع النجف الأشرف وبين أخ له وراء الصحارى والقفار؟
أي وكرامة العروبة والإسلام هو أخ لي تضمني إليه ربقة الجامعة المقدسة وإن لم تسبق لي معرفة بذاته الكريمة. هلم بي يا قلمي لتلبية الدعوة وإن أثقلتك المشاغل. هذا أخي الأكرم يناديني من (طنجة) لأبادله المعرفة وأسهب له في حديثي عن سير المعهد العلمي الذي أنتمي إلى قدسيته. . . فهيا إلى (الرسالة) مجلة الأدب العالي
أيها الأخ، إن تاريخ الدراسة في هذا المعهد الجليل يتوغل إلى أعماق العصور الإسلامية إلى أمد بعيد. وبما أن نواته هي البناية التي أقيمت على مرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع) فلابد للراغب في معرفة حياته العلمية والأدبية في أدوارها من طفولتها إلى شيخوختها - أن يلم إلمامة قصيرة بنشأة هذه البنية وتطورها في مراقي العمران. فقد كان حب الشخصية الإسلامية القوية الدفينة هنا، هو الذي جذب العلماء إلى مجاورة المرقد الطاهر ليشيدوا قواعد هذه المدرسة ويكونوا الحلقات لرفع منار الثقافة الإسلامية من الحديث والفقه وأصوله والفلسفة وما تستلزم من مقدمات تمهيدية وأسس أصبحت بعد حين مباني مستقلة بنفسها كفنون الأدب والرياضيات من هندسة وحساب وهيئة. لقد أستمر التدريس في بناية القبر العلوي حتى الآن، فقد درست فيها النحو والمنطق والمعاني والبيان وعلم الفقه وأصوله والفلسفة الإسلامية على أساتذة عرب وفرس في حلقات كبرى وصغرى ولقد نظمنا فيها الجماعات للتذاكر وحل عوائص تلك الأفانين من الثقافة وقضيت فيها ردحاً من الزمن قيماً. أما كيف قامت أركان هذه المدرسة العالية فذلك حديث جذاب ممتع
هناك أسطورة تقص (في إرشاد الديلمي وعمدة الطالب) تقول إن القبر كان مخفيا عن عبث
أعداء الدعوة العلوية إلى أن أظهره الرشيد وبنى عليه قبة ذات أربعة أبواب من طين أحمر وعلى رأسها جرة خضراء وتحتها الضريح من حجارة بيضاء. وحكى في فرحة الغري في قصة طويلة أنه قبل الرشيد وضع داود بن علي المتوفى سنة 133هـ صندوقا دُرس بإهماله خوف سطوة العباسيين الذين تبدلت سياستهم تجاه العلويين حتى بطشوا بهم واضطهدوا شيعتهم وقعدوا لهم كل مرصد. وسبب آخر في اندراسه هو عامل طبيعي غير هذا الأدبي، فقد ساعد على ضياعه وقوعه في منخفض الوادي معرضاً لجري السيول ومهب الرياح
قال في نزهة القلوب: وعقيب بناء الرشيد بعد سنة 180هـ جاوره الناس. ويمكنك أن تعتبر هذه المجاورة بذرة الحياة العلمية الأدبية الحاضرة، فمن مستلزمات مجاورة هذا المعبد الإسلامي الذي كان ولا يزال منتجع الزوار من قاصي الأرض ودانيها - تدبر الشريعة الإسلامية وتداول أحكامها. وقد وجدت إجازات برواية أحاديث قال راووها إنهم تلقوها في رواق قبر الإمام (ع) وكان عهد هذا التلقي للعلم الإسلامي سحيقاً في القدم. وقرأت في (فرحة الغري) أنه في أيام المعتضد العباسي بني محمد بن زيد العلوي الداعي الصغير (صاحب طبرستان الذي ملكها عام 270 بعد أخيه الحسن ثم قتل عام 287 كما في كامل أبن الأثير وقد تنسب العمارة لأخيه الحسن) - قبة وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقا. وقد لوح أبن أبي الحديد إلى هذه العمارة إذ قال (زار القبر جعفر الصادق وأبوه محمد ولم يكن إذ ذاك قبراً معروفاً ظاهراً وإنما كان به سرح عضاه حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبة) وقال أبن الأثير (وفي سنة 282 هـ وجه محمد بن زيد العلوي سراً من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد والكوفة والمدينة فسعى به إلى المعتضد فأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهراً وأن يفرق ما يأتيه ظاهراً وتقدم بمعونته على ذلك) وهذا يؤيد ما رواه ابن أبي الحديد. وقد طرأ على ما بناه الداعي بناء الرئيس الجليل عمر بن يحيى القائم بالكوفة فقد عمر قبر جده (ع) من خالص ماله ثم قتل عام 250هـ وحمل رأسه في قوصرة إلى المستعين العباسي
وبعد هذا تقوم بناية ضخمة يشيدها رجل السطوة والعمران عضد الدولة البويهي، فحين
تولى السلطة في العراق شاد عمارة القبر الثالثة (أقام بعسكره في ذلك الطرف قريباً من السنة وبعث فأتى بالصناع والأساتذة من الأطراف وخرب تلك العمارة وصرف أموالا كثيرة جزيلة وعمر القبر عمارة جليلة حسنة)
وقرأت في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب. . . إلى أن كان زمن عضد الدولة فناخسرو ابن بويه الديلمي فعمره عمارة عظيمة واخرج على ذلك أموالا جزيلة وعين له أوقافا، ولم تزل عمارته باقية إلى سنة 753 وكان قد ستر الحيطان بخشب الساج المنقوش فاحترقت تلك العمارة وجددت عمارة المشهد على ما هي عليه الآن (توفى المؤلف سنة 828) وقد بقي من عمارة عضد الدولة قليل)
وقال آخر إن عمارة عضد الدولة من أجل العمارات ومن أحسن ما وصلت إليه يد الإنسان في ذلك الوقت بذل عليها الأموال الطائلة وجلب إليها الرازة والنجارين والعملة من سائر الأقطار. قالوا إن هذه العمارة وإن كان لعضد الدولة يرجع تأسيسها فقد عرضت عليها إصلاحات جمة وتحسينات قيمة من البويهيين ووزرائهم والحمدانيين ومن المستنصر العباسي الذي عمر الضريح المقدس وبالغ فيه وزاره مراراً (كما في فرحة الغري) وكذلك لقد عمر من قبل: بني جنكزخان وغيرهم حتى وصلت العمارة إلى ما شاهده ابن بطوطة الرحالة الذي وردها بعد أن قضى حجه عام 725هـ وقال في رحلته: (نزلنا مدينة مشهد علي بن أبى طالب (رضه) بالنجف وهي مدينة حسنة نظيفة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً وأتقنها بناء. . . ودخلنا باب الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي (ع) وبازائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه أحسن. ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة؛ ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة عليه الحجاب والنقباء والطواشية يأمرون الزائر بتقبيل العتبة وهي من الفضة وكذلك العضادتان؛ ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء، وارتفاعها دون القامة وفوقها ثلاثة قبور يزعمون أن أحدها قبر
آدم (ع) والثاني قبر نوح (ع) والثالث قبر علي (رض)، وبين القبور طسوت من ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن وجهه تبركا. وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضة وعليه ستور من الحرير الملون يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير وله أربعة أبواب عتباتها فضة وعليها ستور الحرير. وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط لكثرته)
(العراق. النجف الأشرف)
(يتبع)
ضياء الدين الدخيلي
رسالة الشعر
في الليل
يا ليلُ طُلْ يا لَيْلُ
…
على أليف الوِسَادْ
الويل كلُّ الويلْ
…
لمن دهاه السهادْ
دقيقةٌ ساعاتْ
…
وساعةٌ أيامْ
شَطْرٌ من الليل فاتْ
…
كأنه أعوامْ!
مُضْنيً طَوَاهْ المساءْ
…
وَلَفَّهُ في الظُّلَمْ
فهاجت الأدواءْ
…
في جسمه المنهدمْ
حيرانُ! ما يستريحْ
…
كزورق في عُباَبْ
يشكو بقلب جريح
…
ما ذاقه من عذابْ
ويرسل الأسماعْ
…
تصغي إلى الأفواهْ
فما توَافِي الرِّباعْ
…
بمثله أَوَّاهْ!
ويبصر الأشجارْ
…
من حوله وَسْنَى
وفوقها الأطيار
…
تقضي الدجى أَمْناَ
أَكلُّ ما في الوجودْ
…
غفوانُ حتى الجمادْ
إلا المُعَنَّى الشريدْ
…
فقد جفاه الرقادْ؟
الفجْرُ! أين سناه
…
يشع في مُقْلَتَيْهْ
وأين طِيبُ نداه
…
يَرِفُّ عطفاً عليه
يا ليلُ طلْ يا ليلْ
…
على صريع الهوَى
سيلُ من السهد سَيْلْ
…
طواه فيمن طوَى
نَزَا به العِرْبيدْ
…
يستعجل الوعدا
والدهرُ جافٍ عنيدْ
…
يزيده بُعْدا
كم عَاثَ بالعقربيْن
…
في الساعة الدائرةْ
وما هما واقفَين
…
بل عينُهُ القاصرةْ
وكم أَرَاهُ الخيالْ
…
في الموعدِ الُمنْتَظَرْ
دُنْيَا من الآمالْ
…
تْسبِي النهَى والفِكَرْ
وَحان وَقتُ اللقاء
…
ولم يُوَافِ الحبيبْ
فلم يَزَلْ بالرجاءِ
…
يدعوه أّلا يخيبْ
وَبَثَّ منه العيونْ
…
ترتادُ أقْصَى مَدَى
يا مُسْرِفاً في الظنون
…
صَفِرْتَ منها يَدَا
وعاد يطوي حشاهْ
…
على لظىً سَوَّارْ
يضجُّ! وا أسفاه
…
نار ولا كالنار
والليلُ عوْن الهمومْ
…
يهيجها السكونْ
ما الليل للمحروم
…
إلا مَثار الجنون
نَمْ يا خَلِي الفؤاد
…
وانعمْ بطيب المنامْ
خَلَّ الْجَوى والسُّهاَدْ
…
لِذِي الهوى والسقام
(منوف)
فريد عين شوكة
شك وأمل
وقنعت منك بنظرة وبلفتة
…
وطفقت أحلم بالنعيم المقبل
أصغي إلى رنات صوتك مثلما
…
يصغي الغدير إلى هزيج البلبل
وشربت من هذا الحديث المشتهي
…
كأساً ألذَّ من الرحيق السلسل
كاشفتك الحب الدفين فأشرقت
…
عيناك تفحصني وتنكر مقولي
وظننتني ألهو بقوليَ مثلما
…
يلهو الوري في خسة وتبذل
إني أمحضك الوداد فصدقي
…
فالشك يطعن مهجتي في مقتل
لوددت أن يبدو فؤادي حاسراً
…
لتريْ وفائي في هواك فتعدلي
ستجيئك الأيام بالخبر الذي
…
ينبيك عن قلبي فلا تتعجلي
أو ما قرأت الحب في عيني وفي
…
نبرات صوتي الواجف المتبلبل
وأبنت لي شطراً من الهم الذي
…
يجثو على جنبيك مثل الجندل
فبكى فؤادي حسرة وعجبت من
…
دنيا تغر الناظرين وتبتلي
أفمثل هذا الحسن يجرع في الأسى
…
ويبيت في ليل بهيم أليل
أخشى عليك لهيب حب جامح
…
فأصد عنك وفي صدودي مقتلي
ألقاك بالذكرى على رغم الألى
…
بخلوا علينا باللقاء الأول
لأطعت فيك صبابتي مستهتراً
…
لولا حديث المحنقين العذل
لكن بحسبي أن قلبك عالم
…
بنوازعي وخوالجي وتعللي
إني لأهزأ بالعوالم كلها
…
ما دمت أشعر أن قلبك صار لي
(الإسكندرية)
عبد الحميد السنوسي
يا أيها الطفل
يا أيُّها الطِّفلُ أَنْتَ أُغْنِيَةُ
…
غَنّى بها الدَّهرُ في مَجاَهِيلِ
الشَّدْوُ من نَاظِرَيْكَ أَسمَعُهُ
…
يُتْبِع ترتيلَه بتَرْتِيلِ
وَالّلحْنُ من لَفْتَتَيْكَ مُنْطلقْ
…
بنْساَبُ حُرًّا بغير تَكبِيلِ
يا أَيُّها الطِّفلُ، أنت أُمنيةُ
…
وأنت نَبْضٌ في مُهِجَة الزَّمنْ
كَيْفَ تَرَاني وَكيفْ تَسمعُني
…
أجْمَعَ ما في الحياَةِ في قَرَنِ
وكلُّ لحنٍ مما بَعَثتَ به
…
طِفلٌ بِحسّ الوجودِ جِدُّ غَنِي
يا أيُّها الطفلُ، أنت خاطرةٌ
…
من قبلُ لاحَتْ في خاطِرِ الأبَدِ!
دَعَا بها اللفظُ وهي سَانحةٌ
…
فَحُوصرَتْ بين ذلك الْجَسدِ
قد قالَكَ الكونُ قِيلةً عجباً
…
في لَفْظةٍ فَرْدَةٍ وَلم يَزِدِ!
(دماص)
العوضي الوكيل
بيجو
(كلب الأستاذ العقاد الذي رثاه في العدد الماضي بتلك المرثية
الفريدة)
(بيجو) من الأرض سلام لكا
قد عز عندي أن تهلكا
لو لم تكن مستأهلاً ذلكا
لما بكى (الجبار) من أجلكا
واهتزت الدنيا لهذا الصنيعْ
دنيا الوفاء الحق لا الكاذب
والود: ذاك العجب العاجب
أين صديق الناس يا صاحبي؟
إن لم يكن في سوقها الكاسب
أيشتري - خير له - أم يبيع؟!
خُلدت (يا بيجو) ونعم الخلود
وعدت حياً أيهذا الفقيد
في عالم الذكر الذي لا يبيد
تهفو لك الدنيا بذاك النشيد
فيه أمير الشعر باك ضريع
(دمنهور)
إبراهيم إبراهيم علي
البريد الأدبي
مؤتمر المستشرقين في بروكسل
احتفل رسمياً في صباح اليوم الخامس من هذا الشهر بافتتاح مؤتمر المستشرقين في بروكسل وناب عن جلالة ملك البلجيك أحد كبار رجاله، وأعلن وزير المعارف افتتاح المؤتمر بخطاب ألقاه باللغة الفرنسية ثم باللغة الفلمنكية، حيا فيه الأعضاء ورحب بهم؛ ثم تلاه رئيس المؤتمر الأستاذ كافار وهو عالم كبير في الآثار المصرية وله مؤلفات ومقالات تربى على 300، من أحدثها كتابه عن الحضارة المصرية وقد صدر في سنة 1936، فشكر لوزير المعارف وعدد فضائل الأسرة المالكة في بلجيكا واهتمامها بالعلوم ولا سيما الاكتشافات الأثرية في مصر
وتكلم الدكتور طه حسين بك عن كتاب (الفصول والغايات لأبي العلاء المعري) وهو الكتاب الذي صححه وشرحه وضبطه ونشره عن نسخته الوحيدة الأستاذ محمود حسن زناتي
ثم ألقى الأستاذ ماير من جامعة القدس بحثاً عن الدراسات الإسلامية الحديثة في فلسطين ونوه بجهود الجامعة العبرية في المخطوطات وفي الحفر عن آثار الأمويين وأشار إلى النقود الإسلامية
وألقى الأستاذ محمد محمود جمعه بحثاً عن العرب في بلاد فارس في عهد الفاطميين
وفي المساء أقام حاكم بروكسل حفلة شاي فخمة لأعضاء المؤتمر خطب فيها مرحبا بهم، ورد عليه المسيو كافار
واجتمع المؤتمر في اليوم الثاني فتكلم الأستاذ سامي جبره عن اكتشافات الجامعة المصرية الحديثة وعرض بعض صورها
وألقى الأستاذ بروجلهان المستشرق المعروف بحثاً عن الشعر العربي من عهد المرحوم محمود سامي البارودي باشا ذكر فيه من شعراء مصر شوقي وحافظ وأبا شادي وخليل مطران
وتكلم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن السلطان النوري وعلاقته بالعلوم والآداب وعن مخطوط (نفائس المجالس السلطانية)
ودعي المؤتمر في المساء إلى حفلة كبيرة أعدتها لهم الحكومة؛ واحتفلت بهم في اليوم التالي جامعة لوفان. وفي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم لبوا دعوة وزير المستعمرات وفي يوم الأربعاء ألقى الأستاذ جب المستشرق الإنجليزي محاضرته في آراء أهل السنة في الخلافة. وفي يوم الخميس زار الأعضاء المكتبة الملكية وشهدوا حفلة افتتاح معرض الدراسات الشرقية
وسيرسل إلينا صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام خلاصة وافية عن أعمال هذا المؤتمر، وسننشر كذلك عنه فصلاً قيماً للدكتور بشر فارس، فقد شهد المؤتمر عن نفسه وعن الرسالة
حول ديوان الجارم
أخي الأستاذ الزيات
أشرتم في البريد الأدبي إلى أن مجلة المكشوف أشارت إلى سرعة إخراج ديوان الجارم، فكأنها تريد أن تقول أنه أخرج بسرعة ليضاف إلى الكتب المقررة لطلبة المدارس
فمن الخير أن أصرح بأني كنت من الداعين لإخراج هذا الديوان وقدمت أصوله إلى المطبعة منذ أربعة عشر شهراً، فالشبهة من هذه الناحية منتفية تمام الانتفاء
وكتب إليكم أحد الفضلاء يقول إني حين شرعت في نقد ديوان الجارم غام على الأفق في وزارة المعارف وأخذني الرعد من كل مكان
ومن حقي عليكم أن تعلنوا أني لم أر في وزارة المعارف شيئاً من بوادر الغيم والرعد، ولن أتهيب كلمة الحق ولو أنذرتني السماء بالصواعق
والجارم لا يملك شيئاً من مصير ديوانه، وسأمضي في نقده بعد الفراغ من طبع كتاب التصوف الإسلامي
والعناية بنقد ديوان الجارم هي مظهر مودة لذلك الصديق. ولو كنت أضمر العتب عليه لسكت عنه. ولعله يعرف أن الثناء الذي يكال لديوانه في بعض الجرائد بلا حساب قد يكون بابا لسقوط ذلك الديوان
لقد انعدم النقد الأدبي أو كاد
فلنتوكل على الله ونواجه ذلك الصديق بكلمة الحق، وإن كنت أومن بصواب الحكمة التي
تقول: (إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)
إن الجارم هو الصديق الذي بقي على الأيام، فلنضفه باسم النقد إلى قائمة من أضعناهم من الأصدقاء. والقلم يجني على صاحبه في أكثر الأحيان، وقد جنى علي ما شاء له العنف والإسراف
زكي مبارك
المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية
أقيمت الحفلة الختامية للمؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية الذي عقد في زوريخ، وقد وقع الاختيار على الدكتور ليلاند الأمريكي ليتولى رياسة الاجتماع القادم الذي سيعقده المؤتمر في مدينة براغ في مايو سنة 1939. وقد أجلت المناقشة في الدعوة التي أرسلتها الحكومة الإيطالية لعقد المؤتمر في روما عام 1942
وكانت أهم ما امتازت به أعمال المؤتمر الحالي امتداد نشاطه إلى الهند والشرق الأقصى. وبدلا من أن ينظم المؤتمر الدراسة التاريخية بموضوعات مختلفة، حاول في هذه المرة توسيع نطاق النظام الإقليمي للأبحاث التاريخية، وألف ثلاث لجان لدرس أحوال البلطيق والشرق الأدنى والشرق الأقصى. وستتناول لجنة الشرق الأدنى بلاد البلقان وتركيا واليونان ومصر وفلسطين وسورية؛ وسيكون أهم دراستها الوقوف على مدى نفوذ الفكرة الإسلامية وتأثيرها في هذه البلدان. وسيكون غرض اللجنة التحقق من حالة المعارف الحالية وزيادة عوامل الاتصال بين المؤرخين وجمع المعلومات الجديدة.
إلى الأستاذ محمد سعيد العريان
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة:
أقرأ بإمعان الفصول الممتعة البليغة التي توالون نشرها في (الرسالة) الغراء عن حياة المرحوم الرافعي. وأشهد أن الأستاذ محمد سعيد العريان - صديق الفقيد وكاتب وحيه - قد أنفق جهداً قوياً في أن يجتنب القراء مشاركته فيما يحتمل من عناء ويلقى من مشقة ويذوق من مرارة الصبر والمصابرة ليظهر لهم تاريخ حياة الرافعي كما هو من دون أن يعدل عن الأمانة التاريخية والتحقيق اللذين يفرضهما البحث الحديث فرضاً على الأدباء والمفكرين.
وأشهد أيضاً؛ لقد وفق الأستاذ سعيد في ترجمة حياة الرافعي ترجمة يغلب عليها الأسلوب التحليلي الفني أكثر من الأسلوب العلمي الجاف، على ما في الثاني من قوة وسمو. فأنت ترى كيف يعرض علينا حياة الرافعي والمناسبات التي ألجأته إلى كتابة فصوله الممتعة القوية فتحس أنك أبعد شيء عن جفاء التاريخ وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته. . .
لن تكن حياة الرافعي وفصوله الممتعة منذ اليوم، كما كانت من قبل، غامضة مضطربة يتحدث عنها الأدباء بالتقريب لا بالتحقيق، ويقولون فيها بالظن لا باليقين
بلى.! ولسوف يجدون الرافعي عاش مخلصاً للفن يدع أهله وذويه وما هم فيه من هم وبلوى - على فقد زوجة أبنه - ليسجل على القرطاس خلجات فؤاده وشكايات ضلوعه وليخرج لقراء العربية قطعته الخالدة: (عروس تزف إلى قبرها). . .
ثم ماذا؟. . .
ثم نود أن نسأل أخانا العريان عن سر هذا التناقض الذي وقع في السبب الذي من أجله كتب الرافعي مقالاته: الانتحار. فالأستاذ العريان يحدثنا عن السبب بقوله: (فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه (شروع الأستاذ م وهو أبن لشيخ كبير من شيوخ الأزهر) بالانتحار جزع وتطير وضاقت نفسه وناله من الهم ما لم ينله لحادثة مما لقي في دنياه فمن أجل هذه الحادثة أنشأ مقالات الانتحار). . .
ولكن الرافعي يزعم غير هذا الزعم فيقول (عندما انتهيت إلى هذا الموضع من تصنيف هذه الكلمات ألقى إلى كتاب ورد من مدينة (حمص) يذكر فيه صاحبه ضيقاً وشدة ويسأل: (ما هو علاج الملل النفساني واليأس الدنيوي إن لم يكن الموت أن لم يكن الانتحار؟) ثم يرجو أن يتولاه أول عدد ينتهي إليه من (الرسالة) كيلا يبغي على نفسه: وهاأنذا أعجل له كلمات تأتي على أثرها إن شاء الله في العدد التالي مقالة الانتحار) فما هذا التناقض بين الروايتين؟. . . أرجو أن يجلوه لنا الأستاذ سعيد وله الشكر. . .
(حمص)
عبد القادر جنيدي
الحفلة التذكارية السنوية لجبران
كان عدد المكشوف الأخير خاصاً بوصف الحفلة التذكارية السنوية لجبران ونشر ما قيل فيها من الخطب. ولعل قراءنا لا يعلمون شيئاً من تاريخ هذه الحفلة، فنحن ننقل لهم طرفاً مما كتبت المكشوف:
عندما توفى جبران خليل جبران منذ سبعة أعوام خلف ثروة قيل أنها تبلغ خمسين ألف دولار، أوصى بها لشقيقته مريانا التي رافقت جثمانه إلى لبنان، ثم عادت إلى بوسطن، حيث تقيم الآن
وفتحت وصية جبران فإذا هو يطلق يد ماري هاسكل في مخلفاته الأدبية ولوحاته الزيتية على أن تختار ما تشاء منها فترسله إلى بشرى. أما ريع مؤلفاته الإنكليزية فقد أوصى بإنفاقه على المنافع العامة في وطنه الصغير
وبلغ مجموع ما أرسل إلى بشرى منذ سبع سنوات إلى اليوم 25 ألف ليرة لبنانية سورية، ويتراوح الدخل السنوي من المؤلفات بين 6و7 آلاف دولار
وترك جبران مخطوطة كتاب بالإنكليزية عنوانه (حديقة النبي). ولكن شقيقته مريانا رفضت ضم دخل هذا الكتاب إلى دخل رفاقه بحجة أن الوصية تشمل الكتب المطبوعة لا المخطوطات. وكانت بينها وبين لجنة جبران الوطنية في بشرى منازعة حول هذا الحق نظرت فيها المحاكم الأميركية فحكمت لها، لأن لجنة جبران لم تتمكن من إقامة وكيل عنها إلا بعد مرور الزمن بعد صدور الحكم لمصلحة مريانا
أما ماري هاسكل فقد نفذت القسم المتعلق بها من الوصية وتتولى الآن تنفيذ القسم المتعلق بالإنفاق على المنافع العامة في بشرى لجنة مؤلفة من 16 عضواً يمثلون جميع الأسر البشراوية ويرأس هذه اللجنة الأستاذ سليم رحمة. ويتجدد أعضاؤها كل سنتين، وهي التي تحيي كل سنة حفلة تذكارية لليوم الذي وصل فيه جثمان جبران إلى لبنان. فيقام قداس في دير مار سركيس الذي يضم بين جدرانه رفات جبران، ثم تقام حفلة خطابية يتكلم فيها أدباء بدعوة من اللجنة
وكان يوم 21 أغسطس الماضي موعد الحفلة التذكارية، فانتدب غبطة البطريرك الماروني
سيادة المطران الحاج لإقامة الذبيحة الإلهية في الصباح. وبعد الظهر غصت باحة فندق لبنان الكبير بالمدعوين إلى الحفلة الأدبية التي ترأسها سعادة فؤاد بك البريدي محافظ الشمال وحضرها جمهور غفير من الأعيان والمصطافين وقد تعاقب الكلام عن جبران وأدبه الأساتذة مارون عبود وعمر فاخوري وخليل تقي الدين وحليم كنعان
وقد قال الأستاذ سليم رحمة في خطابه الذي تحدث فيه عن الأعمال التي قامت بها اللجنة:
(أما العمل الذي تعتبره اللجنة في مقدمة واجباتها فهو إنشاء جائزة سنوية قدرها مائتا ليرة لبنانية سورية تشجيعاً للتآليف القيمة وسعياً لتحقيق أمنية في نفس جبران عندما كان لا يزال في قيد الحياة. ويسر اللجنة أن تساهم بهذه الجائزة في الحركة الأدبية، على أن تمنح الجائزة الأولى لأفضل كتاب يدرس جبران درساً واسعاً عميقاً شاملا. وقد سعت اللجنة في تأليف مجمع أدبي من كبار أدباء لبنان قوامه تسعة أعضاء: سبعة من حملة الأقلام المعروفين واثنان من بشرى)
ومن أنفس ما نشر في هذا العدد فقرات من رسائل تبودلت بين جبران ومي وُجدت بين مخلفاته؛ وهي تكشف عن ناحية مجهولة في حياة الصديقين العبقريين نختار منها قطعة من رسالة لمي تاريخها 15 يناير سنة 1924
(. . . ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به. ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيراً فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. ولكن القليل في الحب لا يرضيني. والجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط به، لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلا فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً لأني بها حرة كل هذه الحرية
أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب؟ إن القديس توما يظهر هنا. وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو على هدى، فإني أثق بك
وأصدق بالبداهة كل ما تقول. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما في يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق. من خلال السحب العجيبة والأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة، هي الزهرة إلهة الحب. أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد حلو بعيد بعيد هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه، فتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في أسم واحد: جبران.
مصر، 15 يناير سنة 1924
وحي بغداد
صديقنا الدكتور زكي مبارك من الشعراء المقلين القلال. وقد يفيض عليه الإلهام في بعض أحواله فيطول نفسه ويتسع مداه. وقد نظم في هذه الأيام قصيدة عصماء بلغت أبياتها 111 بيت عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة، إلى سعير الوجد في بغداد). وقد تفضل فخص بها الرسالة، وسننشرها في العدد المقبل.
الكتب
الفلسفة الشرقية
تأليف الدكتور محمد غلاب
للأديب السيد احمد صقر
الدكتور محمد غلاب في طليعة رجالنا الممتازين الذين جمعوا بين الثقافة العربية، والثقافة الغربية؛ وتذوقوا ما جمعوا، وهضموا ما تذوقوا، وأنتجوا مما هضموا نتاجاً شهياً يمتاز بالعمق، وجدة العرض، وغزارة المادة، ورشاقة الأسلوب. ويمتاز الدكتور غلاب من بين هؤلاء الأفذاذ بميله الشديد للفلسفة، ولعل لوظيفته في ذلك أكبر الأثر. فهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين إحدى كليات الأزهر. ولقد كان الأزهر إلى عهد غير بعيد يحرم الفلسفة ويقذف المشتغلين بها بالزندقة والمروق، أما اليوم فقد صارت الفلسفة بأنواعها تدرس فيه، ووجد من رجاله من يؤلف فيها كتباً قيمة كهذا الكتاب الذي ألفه الدكتور ليسد ثغرة كانت مفتوحة في الحياة العقلية المصرية؛ إذ أن ثقافتنا قد بلغت في العلوم الطبيعية شأواً يسمح لنا بالوقوف في صفوف الأمم الراقية، ولكنها في العلوم العقلية ليست شيئاً مذكوراً (فلا تزال مصر مقفرة في الفلسفة إقفاراً يندى له جبين الإنسانية خجلا، ولا تزال معارفنا الفلسفية بالقياس إلى أوربا تعد جسما بلا روح أو كائناً أعجم إلى جانب إنسان) لذلك أعتزم الدكتور القيام بهذه المحاولة الخطيرة مسترشداً بنور الحق والواجب ففكر وقدر ثم نظر فألفى الشرق - وهو منبع الحكمة، ومصدر العرفان - مغموط الحق، مطمور المجد، مجحود العظمة، في هذه الناحية، فأراد أن يصحر من مجده، ويظهر من حقه، ويجلو من عظمته بكتاب الفلسفة الشرقية والفلسفة الشرقية ليست كما يصورها (بارتلمي سانت هلير) عديمة النفع (لا تفيدنا دراستها إلا من جهة إرضاء النزعة في الإطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيراً، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا) بل هي جمة المنافع، حرية بالبحث والتحليل. والواجب على من أراد دراسة الفلسفة أن يبدأ بها ليكون على بينة من العناصر الأساسية التي تكون منها الجسم المراد درسه من جهة، ولكي يصل أوائل حلقات السلسلة العقلية بأواخرها من جهة ثانية)
يقع هذا الكتاب في 550 صفحة من القطع الكبير، وهو مصدر بمقدمة اشتملت على مناهج البحث في العصر الحديث وعلى ما يجب أن يسلكه الفيلسوف في استعراض المذاهب الفلسفية، وما يجب أن يكون عليه من الصفات، وما يجب أن يلاحظ من ترتيب الحوادث بعضها على بعض تبعا لقانون المنطق القويم حتى تكون نتائجه سليمة قويمة، واشتملت فوق ذلك على بحث مشكلتين عويصتين طال فيهما لجاج العلماء. وهما: أصل الفلسفة وهل هي إغريقية مبتدعة أم شرقية متبعة؛ وتسلسل الثقافات بعضها من بعض. أما الكتاب نفسه فقد عرض في تفصيل وتحليل دقيقين للفلسفات المصرية، والهندية، والفارسية، والصينية، والكلدانية، والعبرانية، فدرس في مصر الحياة العقلية منذ نشأتها، وتعقب التفكير وتطوره في عصر ما قبل التاريخ، ثم في عصور: منفيس، ومدينة الشمس، وطيبة، فأبان بإسهاب التطورات التي تعاقبت على آراء المصريين في الألوهية، والنفس والآخرة، والسؤال والميزان، والعقاب والثواب، والأخلاق والآداب، والفنون والعلوم. ولعل من الطريف أن نذكر هنا أن الدكتور قال: عرف المصريون الضمير منذ أقدم عصورهم، ووصفوه وصفا فلسفيا فقال فيه قائلهم: إن قلب الإنسان هو إلهه الخاص، وإن قلبي قد رضى عن كل ما عملته وكل من رضى قلبه عن عمله التحق بمرتبة الآلهة)
ثم أنتقل الدكتور إلى الهند فتناول فيها أربعة عشر مذهبا بين ديني وفلسفي بتحليل ونقد لو أننا حاولنا تعقبهما لطال بنا الكلام ولكنا نكتفي بالإشارة إلى مدارسة (ساسكيهيا) التي وجد فيها المنطق قبل أن يوجد أرسطو بأمد بعيد، ولم يذر الحديث عن الهند حتى قرر (أن الفلسفة بجميع أقسامها قد أزهرت فيها إزهارا فائقا، وأن اليونان مدينة لتلك البلاد بكثير من نظرياتها التي يعتقد السطحيون أنها مبتدعة) وحسبك أن تعلم أنهم (وصلوا إلى نظرية الذر أو الجوهر الفرد قبل (يموقريت) و (لوسيب) وأنهم أساتذة (فيثاغورث) أكبر رياضي اليونان على الإطلاق)
وبعد أن فرغ من الهند انتقل إلى الكلام عن الفرس. فدرس الديانات القديمة ومذاهب (زرادشت) و (ماني) و (مزدك) دراسة وافية ممتعة. ثم عرج على الصين فتناول عصر ما قبل التاريخ. ثم العصر المنهجي، حيث درس في عمق مذاهب:(لاهو - تسيه) و (كونفوشيوس) و (مانسيوس) والمدرسة السوفسطائية والمنطق في الفلسفة الصينية إلى
غير ذلك من المباحث القيمة. ثم عرض بما يشبه ذلك إلى الفلسفتين: الكلدانية والعبرية، وبالأخيرة ينتهي الكتاب
ولا أخالني بحاجة إلى أن أقول إن الدكتور أجاد العرض وأحسن القول فقرب الفلسفة إلى الناس، بعد طول نفور وشماس، فذلك معروف له من الفصول التي نشرتها الرسالة من الكتاب قبل ظهوره. بيد أني بحاجة إلى أن أقول كلمة صغيرة لا أجد مناصاً من قولها الخاص) كما يسميه ذلك القديم:
ذهب الدكتور إلى أنه هو الذي أثبت بالأدلة القاطعة (سذاجة أرسطو وأذنابه في دعواهم أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في (إيونيا) في القرن السادس قبل المسيح، وأن أول فيلسوف في الدنيا هو (تاليس المليتي) والحق أن هذا الإثبات قديم الميلاد، وليس أدل على ذلك مما قاله الدكتور عن (ديوجين لا إرس) أنه أثبت في كتابه (حياة الفلاسفة): أن الشرق قد سبق الغرب في النظر العقلي وأنه كان أستاذه وملهمه) وقد عاش هذا المؤرخ الإغريقي في القرن الثالث قبل المسيح.
وبعد فهذه كلمة عابرة أردنا بها التعريف بهذا الكتاب العظيم الذي سيكون - إن شاء الله - عظيم الأثر في حياتنا العقلية عامة، وفي نهضتنا الفلسفية خاصة.
السيد احمد صقر
المسرح والسينما
وسائل الإنعاش للمسرح المصري
يبدي كثير من كتاب المسرح الأسف من حالة الضعف والذبول التي وصل إليها في السنوات الأخيرة، ونلاحظ أنهم يسرفون في إبداء ذلك الأسف ويبالغون في تصوير الدرك الذي تسفل إليه المسرح، ويكتفون بعد ذلك بالوقوف على هيكله المحتضر وقراءة الفاتحة من أجله!
وقد جرت للكاتب محادثات طويلة مع أقطاب المسرح وعمده في مصر وأتفق رأينا جميعاً على أن إنعاش المسرح المصري ينبغي له إجراء تجديد شامل في الطرق والوسائل التي يظن أنها مؤدية إلى ما نريد له من سمو وازدهار.
وخلاصة الرأي عندنا جميعاً أن هناك ناحيتين كبيرتين هما اللتان يجدر بنا أن نركز فيهما جهودنا وهما الجمهور والعرض.
وإذا نحن نظرنا ملياً في الأسباب التي من أجلها عاش المسرح في فرنسا وإنجلترا واستطاع أن يقف في وجه التيار السينمائي الجارف محتفظاً بجمهوره وتقاليده، نجد أن من أهم تلك الأسباب وجود جمهور كبير - في فرنسا وإنجلترا على السواء - مسرحي الثقافة والليل، ولا يستبدل بالمسرح سينما أو استعراضاً راقصاً ولا يستغني عن مشاهد المسرحيات الحديثة، على فداحة أسعار الدخول وتخصص المسارح المختلفة في نوع واحد من المسرحيات. وخلق جمهور مثل هذا ليس من الأمور اليسيرة ولكنه ليس متعذراً ولا مستحيلا، لا سيما بعد ما أخذت وزارة المعارف بنظام تعميم فرق الهواة بمدارسها على اختلاف درجاتها، وبعدما أسست الوزارة فرقة كبيرة حبتها بأسباب البقاء والاستقرار وخصصت لها نيفاً وعشرة آلاف جنيه
ولكن قيمة (البضاعة) هي أهم العوامل في جذب العميل بلا مراء. وكلما زاد احتواؤها على الميزات والخصائص التي يرغبها ويريدها، أزداد إقباله عليها وتشجيعه لها. وأنجح الفرق لدينا هي التي تميزت إدارتها بفهم مزاج الجمهور وميوله. ومع ذلك فهناك بدهيات عامة يتفق عليها الجميع، ويقر بها الجميع، وفي مراعاتها إنهاض حقيقي للمسرح.
وخلاصة هذه البدهيات أن المتفرج الذي يذهب لمشاهدة إحدى المسرحيات، يقوم في خياله
أنه سوف يشاهد قصة قوية الموضوع، واضحة الفكرة، باهرة الإخراج، رائعة التمثل، تعينه على قضاء سهرة مفيدة ولذيذة في نفس الوقت.
وروعة التمثيل مصدرها محاكاة الطبيعة والواقع والبعد عن التكلف. ومع أشد الأسف نعترف بأنه قل بين ممثلينا ومخرجينا من يجهل هذه البديهة، ولكن قل منهم في نفس الوقت من عرف كيف يتخلص من ذلك التقليد المسرحي القديم، وهو التهويل في كل شيء! أما القصة فقد تحدثنا عنها في الأعداد الماضية بما يثبت أن القصة المصرية الصحيحة، القوية الموضوع الواضحة الفكرة لم توجد بعد والنادر لا حكم له
والحركة الحركة! فإن السينما لم تكتسح المسرح إلا لأنها نشاط وحركة دائمة مستمرة؛ أما المسرح فتهويل وتكاسل ونوم عميق
فليكن أول همنا خلق (الجمهور المسرحي) وليكن اعتمادنا في خلقه على المرغبات العملية التي نقدمها له. ولا فائدة من أية محاولة تقوم على غير هذا الأساس الواضح لكل ذي عينين
(الناقد القديم)
أخبار سينمائية ومسرحية
الانتهاء من فلم الدكتور
يتقدم العمل في إخراج فلم الدكتور بسرعة فائقة والمنتظر أن ينتهي في آخر هذا الشهر. وهو ثالث الأفلام المصرية التي يقدمها لنا (أستوديو مصر) في الموسم الذي بات على الأبواب. وممثل الدور (الرجالي) الأول في هذا الفيلم هو الأستاذ سليمان نجيب صاحب الرواية المسرحية الشهيرة بهذا الاسم. أما السيناريو فقد شاركه في وضعه الأستاذ عسر. وتمثل الدور الأول أمامه الفنانة الموهوبة الآنسة أمينة رزق كما تقوم بدور نسائي كبير آخر السيدة دولت أبيض. ويقوم بالإخراج الأستاذ نيازي مصطفى الذي بزغ نجمه في عالم الإخراج المحلي منذ أخرج شريط (سلامة في خير) للأستاذ نجيب الريحاني
فلم عزيزة أمير
ويسرنا أن نعلن على صفحات (الرسالة) عودة مؤسسة فن السينما في مصر إلى إخراج أفلام لحسابها فقد شرعت السيدة عزيزة أمير في عمل سيناريو الرواية التي ألفها لها الزميل حسين فوزي. والمنتظر أن تبدأ العمل قبل نهاية شهر ديسمبر، أما اسم الرواية فلم يستقر عليه الرأي بعد
سيمون سيمون
في أوائل هذا الشهر انتهى العقد بين سيمون سيمون النجمة الفرنسية الأصل المعروفة. وبين شركة فوكس القرن العشرين وعاهلها (داريل زانوك) ومما يؤسف له أن (داريل) رفض تجديد ذلك العقد الذي بمقتضاه ظلت (سيمون) طوال العامين الماضيين تتقاضى أجراً قدره 200 جنيه عن كل أسبوع دون أن تعمل ما يساوي ربع هذه القيمة، إذ أن الشركة لم تستفد منها كما يجب إلا في روايتي (حب وإشارات) و (وأجوزيت) وقد نشرت إحدى المجلات الأمريكية أن سيمون سوف تشتغل بصالات الرقص الغنائي في برودواي
فرانك كابرا
تعرض شركة كولومبيا لفرانك كابرا رواية كبرى هذا العام (أنت لا يمكنك أن تأخذها معك) ويشترك معه في تمثيلها من المشاهير (جين أرثر) و (ليونيل باريمور) وهي
مسرحية فكاهية نجحت للغاية في برودواي ولها كسائر روايات في هذا النجم مغزى سام
والت ديزني
جددت شركة (راديو) العقد مع (والت ديزني) الرسام العالمي الشهير. وبمقتضى العقد الجديد في تعهد والت بتقديم فيلم طويل واحد وثمانية عشر فلماً قصيراً للشركة في العام القادم والسبب في قصر الأفلام الطويلة على فيلم واحد هو فيلمه الطويل السابق (سيندريلا والأقزام السبعة) لم ينجح بدرجة فيه من الوجهة المالية، كما كانت به عيوب كثيرة من الوجهة الفنية.