الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 272
- بتاريخ: 19 - 09 - 1938
تذييل للحاشية
للأستاذ عباس محمود العقاد
الشاطئ قليل الزوار، مقفر أو وشيك الإقفار، وقد ظهرت الكروش في الحمامات، فكان ذلك علامة من علامات (التقويم) الذي اصطلح عليه رواد الشواطئ ومراقبوها، فلا تظهر النساء ذوات الكروش في الحمامات المشهورة إلا كان ذلك دليلاً على إقبال الخريف وانقضاء الصيف. إذ كان الزحام مغرياً بالتنافس في محاسن الأجسام، فإذا قل الزحام قل التنافس واجترأت على الظهور، من لم تكن قبل ذلك تجترئ على العبور
وقضى الله ألا يكون شيء من الأشياء نافعاً كل النفع ولا ضاراً كل الضرر. فمن محاسن الشاطئ الذي كثرت أضراره في رأي الوعاظ والمرشدين أنه يهدي إلى حاسة الجمال ويبثها في سليقة النساء والرجال. وهذا غرض كان الأقدمون يتوخونه بالرياضة، وكان الإسبرطيون يبلغونه بإقامة المواسم التي يتبارى فيها الفتيان والفتيات في مرانة الأعضاء ومرونة الأوصال. ولا ينحصر النفع بعد ذلك في تحسين الجسد أو تحسين الذوق أو تحسين الحركات، بل8 يسري إلى الأذهان والأخلاق والأعمال والمعاملات، فإن الذي تعود ملاحظة الجمال في تركيب الجسم وتوجيه حركاته خليق أن يتعود مثل ذلك في فهم الأمور وتقدير المناقب والصفات، ثم يقل اشتهاؤه للجسد من ناحية الغريزة الحيوانية، لأنه لا يستطيع أن يشتهي كل ما يراه، ولأنه يألف ما يراه ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم فينظر إليه نظرته إلى الصور والتماثيل، ويعرضه على مقاييس الفهم والتمييز، ولا يعرضه على مقاييس الشهوات واللذات
فالحسناء التي تبدو على الشاطئ عارية أو شبه عارية لا تثير من غريزة الناظر بعض ما تثيره وهي لابسة جلباب النوم في شرفة الدار، فإذا كان ما يراه مائة حسناء - ولم يكن فرد واحدة - فليس في وسع غريزته أن تنطلق في جماع شهواته ونزواته، ولا بد له من الإخلاد إلى التأمل والاكتفاء بالنقد والتمييز والتطبع بهذا الطبع والإعراض عن حكم الغريزة وحده في النظر إلى الأجسام
وعلى الشاطئ يعرف الناظر معنى الاصطلاح في قوانين الاجتماع، ويعرف أن مسألة الملابس أكثر ما تكون مسألة اصطلاح وعادة وتواضع بين الأمم كل أمة بما درجت عليه
وجنحت مع الزمن إليه
فقد كنا نجلس في ديوان من دواوين الحكومة والى جانبنا نافذة تطل على الطريق، وأمام النافذة بيوت وشرفات، فظهر على إحدى هذه الشرفات رجل يلبس (البيجامة) أو المنامة كما سماها صديقنا المازني وأصاب في إحدى قصصه الصغار، فما راعني إلا تأفف لمحته على وجه الموظف الكبير الذي كنت أزوره، وإذا به يصيح في غضب واشمئزاز: أهذا أدب؟ يتعلمون لبس المنامات ولا يتعلمون كيف يلبسونها وأين يدارونها عن الأنظار؟
فخطر لي أن الدعابة هنا واجبة وأنها من الدعابات التي يجئ معها البحث وتحسن فيها المناقش،
فقلت:
أترى الفرق عظيما بين المنامة والملابس التي يلبسها الموظفون من أهل الهند في دواوين الحكومة؟ أليس السروال هنا أسبغ على الجسم وأدنى إلى الوقار؟
فسكت قليلاً كأنما كان هذا السؤال لا يخطر له على بال، وراح يقول في تلعثم:(ولكن الناس عادات، وما يجوز في الهند قد يعاب بيننا نحن المصريين، وهذه المنامة من ملابس الأوربيين فإذا اقتدينا بهم فيها فليكونوا قدوة لنا في مواضع لبسها وآداب الأزياء عندهم في جملتها. . .)
وكان جوابه في الحقيقة مقطع القول وفصل الخطاب في مثل هذا الموضوع، لأن المسألة مسألة اصطلاح وتقدير، فإذا كانت البيجامة لباساً للنوم والتبذل فهي لا تحسن في غير مواضعها من البيت أو مواضعها من رفع التكليف، ولا محل للمقابلة بينها وبين أزياء أهل الهند في دواوين الحكومة لأن الهندي الذي يلقاني بالقميص الطويل والسروال الواسع لا يعتقد ولا أعتقد أنا أنه يلقاني بثياب التبذل أو بثياب النوم، وهذا هو الفارق الذي يفصل بين زي وزي في مشارق الأرض ومغاربها، ولا فارق سواه في اعتبار الثياب والأزياء
إن لاعب الكرة لا يغطي من جسمه نصف ما تغطيه المنامة، ولكنه يظهر بين مئات الألوف في ميدان لعب الكرة ولا يقدر على الظهور بالمنامة لواحد من الزوار غير من يعاشرونه في البيت ويرفعون بينهم وبينه التكليف، وقد بلغ من تحرج بعض الأوربيين أنه لا ينتقل إلى حجرة الاستقبال في داره بغير ملابس الاستقبال، ولو لم يكن هنالك أحد من
الزائرين
فالمسألة كلها مسألة اصطلاح حسب الوقت وحسب المكان وحسب السكان
ومن أجل هذا جاز أن يمشي الرجل والمرأة على شاطئ الحمام كالعاريين، ولم يجز لهما في عرف الشرطة أو عرف السابلة أن يصعدا السلم بهذه الحالة إلى عرض الطريق. ولقد يكون الشاطئ حافلا بالمئات من النظارة مستحمين أو غير مستحمين، ويكون الطريق خلوا من عابر واحد في تلك اللحظة، ولكن الاصطلاح وحده هو الذي يمنع هنا ما يجيزه هناك
ليست المسألة إذن مسألة طول (القماش) ولا مسألة شكله ولا مسألة تفصيله أو الجانب الذي يبديه أو الجانب الذي يخفيه، ولكنها كما أسلفنا مسألة المعنى الذي يوقعه في روع الناظر والشعور الذي يبعثه ويوحيه. ومن ثم يأتي اليوم الذي يغلب فيه الاصطلاح المتبع على الاصطلاح المهجور، وتخف وطأة الحكم الذي نحكمه على المستحمين والمستحمات ونحن صادرون عن معنى سابق وشعور قديم
على الشاطئ يعرف الإنسان هذا جميعه ويعرف معه سلطان الإرادة على تكوين الأعضاء، وتكوين الأذواق
فالأجسام الحسان التي ترى هناك لم تولد كلها ولا ريب على هذا الصقل وعلى هذا الهندام، ولعلها لم تكن كذلك قبل عام أو عامين، ولم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بفعل العلاج في الغذاء والعلاج في الحركة والعلاج في سائر الأعمال
وبهذه المثابة نفهم سلطان الإرادة، ونفهم أن الإرادة مسخرة لشعور الجمال حين يستعصي تسخيرها لشعور العقائد والفرائض والعادات
فهذه الحسناء اللعوب التي تحرم نفسها القوت والراحة وتنظر أمامها مشتهيات الطعام على المائدة فلا تقربها، وتصبر على يد الحلاق ساعات، وعلى يد الطبيب شهوراً وسنوات - كم تطيق من كل هذا أو بعض هذا في شهر رمضان؟
وكم تطيق من كل هذا أو بعض هذا إن كانت مسيحية وفرض عليها الدين أن تجتنب اللحوم والأسماك في بعض الأيام؟
بل كم تطيق من كل هذا أو بعض هذا إن قيل لها إن خطراً على الحياة يوجب عليها الصيام عن هذا الطعام أو التدثر بهذا الكساء على غير أحكام المساهر والأزياء؟
لا تطيقه كله ولا بعضه، ولا معنى لذلك إلا أن الإرادة تصوغ الأجسام، وأن شعور الجمال يصوغ الإرادة كما يشاء حين يستعصي أمرها على العقائد والفروض. ومتى علمنا ذلك فليس هو بالعلم الهين اليسير، ولا هو بالعلم الذي يأتي في عرض الشاطئ ويذهب في عرض الطريق، لأنه علم أصيل نستفيده ونستفيد به في التربية والتعليم: تربية الأفراد وتربية الجماعات
عباس محمود العقاد
في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
بنيتي العزيزة بثينة
لعل رسالتي الأولى بلغتك فسرَّتك. وهذه رسالتي الثانية.
قلت لنفسي وأنا على الباخرة (محمد علي): قد ركبت هذا البحر بحر الروم أربع عشرة مرة فلماذا لم يوح إليَّ شيئاً؟ لماذا لم أصفه أو أصف حالي فيه بكلمة؟ إنني حين أسافر إلى الشام أو العراق أو تركيا أو إيران أكتب عنها جهد المقِل، وعلى قدر ما يواتيني البيان، وتأذن لي المشاغل. وإن لم أكتب أظلّ راغباً في الكتابة، وتبقى في نفسي معان تودّ الإعراب عن نفسها أحدث بها نفسي وأصحابي بين الحين والحين. فلماذا لم أخط حرفاً عن البحر الأبيض وأوربا؟
قالت نفسي بعد تفكير طويل: أنت رجل عصبيُّ قد ملأ نفسك التعصب لقومك العرب ولدينك الإسلام فلست تبالي بغيرهما، ولا تستلهم البيان إلا منهما
قلت: هذا حق، ولكن يحسن أن تُصورِّيه صورة أخرى؛ أحرى بك أن تقولي: إنك حينما ذهبت في بلاد الشرق وجدت قومك ولغتك وتاريخك وآثار أسلافك فتفرح أو تحزن، وتنبسط أو تنقبض، ويجول فكرك بين الماضي والحاضر فاخِراً أو خجلاً، راضياً أو ساخطاً، داعياً أو ناهياً الخ. ولكن أوربا وأهل أوربا ليس بيننا وبينهم من سبب إلا ما أصابنا منهم وإلا هذا الجلاد الدائم بيننا وبينهم
قالت: ألا تكون مرة إنسانياً تسمو على العصبيات وتخرج من هذه الدوائر الضيقة، وتنظر إلى الإنسانية في سعتها، والحقائق في شمولها، والعالم في جملته؟
قلت: قد سألت السبب لك الحق، وصدقتك الجواب؛ فأما الإنسانية والعصبية فموضوع آخر لا أريد أن أكدَّر على نفسي صفو هذا السفر الممتع في هذا الجوَّ الصاحي والبحر الساجي، بالكلام في الإنسانية والعصبية وما يتصل بهما؛ فهذا كلام إن عرف أوله لم يعرف آخره
على أني - وحقاً أقول - أحسّ الآن في نفسي معاني كثيرة يلهمني إياها هذا البحر العظيم الذي نبتت حضارة الإنسانية على شواطئه، وحوت أعظم وقائع البشر صفحاته، ولا يزال تاريخ البشر يسكن إذا سكن ويهيج إذا هاج. كم وعى التاريخ من حادثات على سواحل هذا اليم العظيم وعلى أمواجه!
ألم يكن العرب فوق هذا البحر سلطان أعظم من لججه، وعزمات أهوال من أمواجه؟ إن دولتهم لم تبلغ من عمرها خمس عشرة سنة حتى طمحت إليه، ومدت سلطانها عليه؛ ولم تبلغ العشرين حتى جالدت الروم فيه، وحطمت أساطيلهم بأسطولها، وشهد العالم أعجب وقائع البحار: العرب الذين لم يعرفوا إلا الإبل سفن الصحراء، يغلبون الروم في البحر! أجل، هزموهم في موقعة ذات الصواري سنة إحدى وثلاثين. ثم فتح العرب الجزر الشرقية، ثم سارت من بعدُ أساطيل بني الأغلب لفتح صقلية فاستولوا عليها حقباً طوالاً، ثم. . .
قالت نفسي: قد انتكستَ في العصبَّية فانفسح لك مجال القول وانطلق لسانك تُشيد بالعرب ومجد العرب. ألم أقل إنك عصبي؟ ألم أقل إنك عربيٌ مسلم متعصب؟
قلت: إن هذا الأمر عجب! إن ذكرت تاريخ قومي كان هذا عصبية، وإن رويت تاريخ غيرهم كانت إنسانية؟ أليس قومي من البشر فتاريخهم للبشر تاريخ؟
لقد جاوزنا البارحة جزيرة كريد التي سماها العرب إقريطش وكان لهم دُول وغِيَر. أفتلزمني الإنسانية أن أذكر كل من ملكوا هذه الجزيرة إلا العرب؟ ليست العصبية أن أذكر قومي وأشيد بمآثرهم، وليست الإنسانية أن أنساهم وأغمط حقهم وأعق تاريخهم؛ ولكن العصبية أن أتزيد في القول فأحمدهم بما لم يفعلوا، أو أتحيف غير قومي فأبخسهم ما فعلوا. فأما أن أذكر الحق وأروي الصدق، فحقٌّ على الناس جميعاً وهو لقومي أحق
هاهو ذا مضيق مسٌينا قد اقترب، والسواحل عن يميننا وشمالنا تشتعل بالأضواء المتلألئة، والمصابيح المنشورة بين السواحل والجبال. وهو، ونور الحق، وجمال الشعر، منظر رائع جميل في هذا الليل السياحي، والباخرة تشق طريقها متمهلة تأخذ ذات اليمين مرة وذات الشمال أخرى، تتحرى سبيلها بين شعاب البحر وصخوره. والمنارات تومِض وتخبو، تهدي السفينة طريق النجاة وتحذّرها مواطن العطب. لشدَّ ما تعجبني وتملأ نفسي غبطة
هذه الحضارة الوهاجة، والمدنية المضيئة! وشد ما أرجو الخير للناس جميعاً في ضوء هذه الحضارة! ولشدَّ ما يؤلمني ويملأ نفسي أسفاً أن أذكر أن في طيّ هذه الحضارة دمارها وأن تحت هذه الأنوار نارها، وأن هذه المياه وهذه السواحل وما وراءها يبيّت للحضارة شرَّا، ويريد بها أمراً نُكرا. ليت الناس يدركون السلام، ويعرفون الوئام، فلا يبنوا ليهدموا، ويعمروا ليدمروا. . .
إن السفينة تتجه شطر الشمال الآن. وهاهو القطب أمامنا وبنات نعش الكبرى قد دارت إلى الشمال وهوت نحو الأفق. ونحن الآن في المضيق. فهذه إيطاليا إلى اليمين، وهذه صقلية إلى اليسار. أأستطيع أن أمر هنا، إنساناً أو شيطاناً، فلا أذكر قومي في صقلية وسواحل أوربا وأفريقية، وما كان لهم من مجد مؤثل، وعزة قعساء، ثم أذكر ما يحل اليوم بساحتهم في أرجاء العالم من العذاب والخراب؟ أأذكر طرابلس أم أذكر المغرب أم أذكر فلسطين؟
. . . إن قلبي يكاد يوحي إلى لساني لعن هذه الحضارة. إني أتخيل الآن ذلك الفقيه أسد بن الفرات يقود جيش الأغالبة على لجج البحر لفتح صقلية، وهو يحمل قلباً أبر بالإنسانية والحضارة من قلوب أبناء عصرنا
قالت نفسي: لا تغضب إذا ذكرتك أن العصبية جاوزت بك الحق. أترى أسد بن الفرات وأساطيله شيئاً مذكوراً بجانب هذه المدنية الخلاقة التي تذكرك بها هذه السفينة الكبيرة تمخر عباب البحر في ظلمات الليل لا تبالي أهاج البحر أم سكن؟
قلت: لم أتكلم عن الصناعة والعلم ولكن ذكرت الرحمة والبر بالناس، والعمل لإسعادهم والإخلاص في إنصافهم، والدعوة إلى المؤاخاة بينهم والتواضع للحق والبعد من الزهو والإعجاب والفخر والكبرياء، ومراقبة الله في خلقه
وبعد فقد جاوزنا المضيق وتركنا صقلية كما ترك الزمان تاريخ العرب. فأريحيني من هذا الجدال، وانظري إلى السماء والماء، واستشعري شيئاً من الصفاء والسلام
وبعد فيا بنيتي العزيزة! قد أخذت القلم لأصف لك بعض ما رأيت بعد أن فارقنا السفينة، وأحدثك عن سفري من جنوة إلى لوسرن في سويسرا، ولكن سبق إلي حديث البحر وتبعه القلم، ولست أجد الآن فراغا لاطالة الحديث. فحسبك هذه النبذة في هذه الرسالة. وعسى أن أجد عما قليل فراغا للرسالة الآتية. وأحسبها ستكون رسالة أختك مي لا رسالتك. والله
يحفظك ويرعاك والسلام.
(بركسل)
عبد الوهاب عزام
على هامش أبحاث التيسير
ملاحظات انتقادية على قواعد اللغة العربية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العراقية
- 1 -
هذه ملاحظات انتقادية، كانت قد عنت لي في أوقات مختلفة خلال دراستي للكتب المدرسية الموضوعة لتعليم قواعد اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية؛ وكنت سردتها على بعض علماء اللغة ومعلميها، غير أنني أحجمت عن جمعها ونشرها على صفحات الصحف. . إلى الآن.
أما الآن، فبعد أن أطلعت على تقرير اللجنة التي ألفتها وزارة المعارف المصرية لدرس وسائل (تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة) وبعد أن قرأت طائفة من الملاحظات التي أبدتها بعض المحافل اللغوية على المقترحات المدونة في التقرير المذكور، رأيت من المحتم علي أن أجمع وأنشر هذه الملاحظات والانتقادات.
ولهذا السبب جئت أرجو صديقي الأستاذ الزيات أن يتوسط في عرضها على أنظار قراء الرسالة بوجه عام، وعلى أنظار علماء اللغة ومؤلفيها بوجه خاص.
(أبو خلدون)
كلمة تمهيدية
إن الغاية التي استهدفتها في بحثي هذا، تنحصر في مناقشة (قواعد اللغة العربية: الصرفية والنحوية) وحدها، ولا تتضمن شيئاً في انتقاد (اللغة العربية) نفسها.
لأنني أعتقد أن (اللغة العربية) شيء، و (قواعد اللغة العربية) شيء آخر. . .
فإن (اللغة) - بوجه عام - تتكون تحت تأثير الحياة الاجتماعية، وتتطور بتطورها؛ في حين أن (قواعد اللغة) تتولد من الأبحاث التي يقوم بها العلماء، وتتبدل بتبدل النظريات التي بضعها هؤلاء. . .
فنستطيع أن نقول: إن (خصائص اللغة) تدخل في نطاق (الأمور الطبيعية) التي لا يمكن
أن تقاس بمقاييس العقل النظري والمنطق الموجود، في حين أن (قواعد اللغة) لا تخرج عن نطاق (الأمور الاجتهادية) التي يجب أن تبقى خاضعة لحكم العقل والمنطق على الدوام.
إنني لا أعترض - في مقالي هذا - على من يقول بوجوب التمسك (بخصائص اللغة) على علاتها؛ غير أني أقول في الوقت نفسه: إن (قواعد اللغة المدونة في الكتب) لا تدخل في نطاق (خصائص اللغة)؛ فمهما تطرقنا في الأخذ بمبدأ (التمسك بخصائص اللغة على علاتها)، ومهما استرسلنا في الدفاع عن نظرية (المحافظة على تلك الخصائص بدون تبديل وتحوير). . . يجب أن نسلم في الوقت نفسه بأن ذلك لا يستلزم - بوجه من الوجوه - (التمسك بقواعد اللغة) على أشكالها الحالية. فيجب أن نتذكر على الدوام أن هذه القواعد من وضع علماء اللغة الأقدمين، وهي تمثل - بطبيعة الحال - طرق تفكيرهم في مسائل اللغة، وأساليب استنباطهم لقواعدها. لذلك لا يجوز لنا أن نقبلها بدون مناقشة وتفكير؛ بل يجب علينا أن نعيد النظر فيها، ونطيل التفكير حولها، لنكشف مواطن الخطأ والصواب فيها، فنسعى إلى إصلاحها وتصحيحها وفقاً للطرق المنطقية المتبعة في الأبحاث العلمية بوجه عام. . .
إن الملاحظات الانتقادية المعروضة في هذا المقال، مستندة على هذا الرأي الأساسي، ومنبعثة عن هذا الاعتقاد الصريح، وهي تقوم بحملة على (قواعد الصرف والنحو المدونة) وتطلب إصلاحها إصلاحاً جوهرياً. . . دون أن تتجاهل (الخصائص) التي تختص بها اللغة العربية، ودون أن تدعو إلى إهمال تلك الخصائص أو الخروج عليها
هذا، ومما يجب ألا يغرب عن البال في هذا المقام أن العلماء الذين توغلوا في استنباط قواعد اللغة العربية وتدوينها لم يتفق بعضهم مع بعض في جميع المباحث والأمور؛ بل كثيراً ما اختلفوا في عدد غير قليل من المسائل والقواعد؛ واختلافهم هذا أدى إلى تكوين مذاهب لغوية شتى
إنني لم أر داعياً لاستعراض جميع الآراء والمذاهب اللغوية خلال هذا الانتقاد؛ بل رأيت أن أحصر بحثي وانتقادي على (قواعد اللغة العربية) التي أصبحت (رسمية نوعاً ما) لدخولها في الكتب المدرسية واندماجها تقاليد التدريس
وأعتقد أن الكتب المدرسية التي تمثل (القواعد الرسمية) أحسن تمثيل، هي السلسلة المطبوعة في مصر بعنوان كتاب (قواعد اللغة العربية)، لأن هذه السلسلة تدرس في جميع المدارس المصرية بناء على قرار (وزارة المعارف العمومية) منذ عدة سنوات؛ وهي تحمل توقيعات عدد غير قليل من كبار الأساتذة والمفتشين؛ فقد ألفتها لجنة مكونة من خمسة أساتذة، (ووضعت خطتها وراجعتها لجنة مؤلفة من) خمسة آخرين، وبين هؤلاء المؤلفين والمصححين ثلاثة من أساتذة الجامعة المصرية ومدرسيها:(طه حسين، أحمد أمين، إبراهيم مصطفى)، وثلاثة من أساتذة دار العلوم:(محمود السيد عبد اللطيف، عبد المجيد الشافعي، علي عبد الواحد وافي)، وثلاثة من المفتشين:(محمد عطية الإبراشي، محمد مهدي علام، ومحمد أحمد جاد المولى)؛ وقد ساعدت المكانة العلمية والأدبية التي اشتهر بها هؤلاء الأساتذة والعلماء على انتشار سلسلة هذه الكتب خارج القطر المصري أيضاً، حتى إن هذا الانتشار أخذ في آخر الأمر شكلاً رسمياً في العراق إذ اقتفت وزارة المعارف العراقية أثر وزارة المعارف المصرية في هذا الباب، فقررت تدريس الكتب المذكورة في جميع المدارس الابتدائية والثانوية
فإذا اعتبرنا (قواعد اللغة) المدونة في سلسلة هذه الكتب - المقررة في مصر والعراق - بمثابة (القواعد الرسمية) كنا قد عبرنا عن الحالة الراهنة أحسن تعبير
إن الملاحظات الانتقادية في هذا المقال تحوم حول الخطط المتبعة في الكتب الرسمية المذكورة وقواعد اللغة المدرجة بها
1 -
تبويب المباحث
إن أبرز المآخذ التي تلفت أنظار الباحث في كتب (قواعد اللغة العربية) تعود إلى الطريقة المتبعة في (تبويب المباحث وعرضها) فان هذه الطريقة تخالف أصول التربية والتعليم مخالفة صريحة، كما تنافي العقل والمنطق منافاة تامة
وأعتقد أن الأمثلة التالية تكفي لإظهار هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء:
1 -
من المعلوم أن مفهوم (المضاف) مرتبط بمفهوم (المضاف إليه) ارتباطاً وثيقاً، لأن كل واحد منهما يكون ركناً أصلياً من ركني (الإضافة). فلا نستطيع أن نتصور أحدهما دون أن نفكر في الآخر؛ ولا يمكننا أن نعطي فكرة واضحة عن أحدهما دون أن نتطرق إلى الآخر.
فالمنطق يقضي علينا بالبحث في المضاف والمضاف إليه بصورة مرتبطة، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر
غير أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية تهمل هذا الأمر البديهي إهمالا غربياً فلا تهتم بالعلاقة الوثيقة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما تجعل من كل منهما بحثاً مستقلا يدخل في باب خاص
غير أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية تهمل هذا الأمر البديهي إهمالا غربياً فلا تهتم بالعلاقة الوثيقة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما تجعل من كل منهما بحثاً مستقلاً يدخل في باب خاص
فإذا تتبعنا جميع الأبحاث المتعلقة بالمضاف والمضاف إليه في سلسلة كتب القواعد التي نحن بصددها، نجد أن الجزء الأول منها يبحث في (المضاف إليه) وحده فهو يحاول تفهيم (المضاف إليه) عن طريق مقابلته بـ (النعت)، ويعرفه بهذا التعريف:(اسم يكمل معنى اسم سابق ولا يدل على صفة فيه)(ص - 45)
وأما الجزء الثاني فيذكر (المضاف) في أوائل أبحاثه مستقلاً عن (الإضافة) وعن (المضاف إليه). يتطرق إليه في بحث (المعرفة والنكرة) عندما يستعرض أنواع (المعرفة) تحت تعبير (المضاف إلى معرفة)(ص - 11). وأما (المضاف إليه) فلا يذكره إلا في أواخر أبحاثه في باب الأسماء المجرورة. وهناك فقط يذكر العلاقة بين (المضاف والمضاف إليه)(ص101)
إنني أعترف بأنه يصعب عليّ أن أتصور طريقة بحث وتبويب أبعد من منطق اللغة من هذه الطريقة، كما يستحيل علي أن أبتكر خطة عرض وتعليم أفعل في تصعيب الأبحاث وتشويش الأذهان من هذه الخطة. . .
2 -
من المعلوم أن الأسماء تقسم من حيث شمول مدلولاتها إلى قسمين أصليين: أسم خاص أو أسم علم، واسم عام أو اسم جنس. ويعتبر هذا التقسيم من التقسيمات الأساسية والمباحث الأولية في جميع اللغات
غير أن قواعد (اللغة العربية) الرسمية (لا تذكر شيئاً عن اسم الجنس). وأما اسم العلم فتذكره في الجزء الثاني، دون أن تقابله بنقيضه. إنها تذكره في بحث (النكرة والمعرفة)
كنوع من أنواع المعرفة، بين الضمير واسم الإشارة والاسم الموصول والمضاف إلى معرفة (ص - 11)
إنني أعتقد بأن من ينظر في هذه الخطة نظرة انتقادية مجردة عن تأثير (الألفة المخدرة)، يضطر إلى التسليم بأنها لا تتفق مع أصول التصنيف العلمية بوجه من الوجوه، كما أنها تنافي أساليب التعليم الصحيحة كل المنافاة
3 -
لا يخفي أن الفعل ينقسم - من حيث المعنى - إلى قسمين: لازم ومتعد، ولا حاجة إلى البرهنة على أن المنطق يقضي بشرح هذا التقسيم في باب الأفعال. غير أن (قواعد اللغة العربية) لا تسير على هذه الطريقة المنطقية، بل تذكر ذلك عرضاً في بحث المفعول به، عند استعراض الأسماء المنصوبة في باب (إعراب الأسماء)(الجزء الثالث - ص106)
4 -
كذلك لا يخفي أن الفعل ينقسم - من وجهة أخرى - إلى معلوم ومجهول، والمنطق يقضي بشرح ذلك في باب الأفعال بطبيعة الحال؛ غير أن (قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه الطريقة المنطقية، بل تذكر (المجهول) وحده، وذلك بصورة عرضية في بحث (نائب الفاعل) عند استعراض الأسماء المنصوبة في باب (إعراب الأسماء)! (الجزء الثاني ص45)
5 -
من المعلوم أن (حرف التعريف) من أهم عناصر الكلام في اللغة العربية؛ وهو كثير الاستعمال جداً في التكلم والقراءة والكتابة؛ ومع هذا إذا تتبعنا كتب (قواعد اللغة العربية) نجدها لا تهتم به اهتماماً يتناسب مع كثرة استعماله:
فإن الجزء الأول منها لا يذكر شيئاً عن حرف التعريف بالرغم من كثرة وروده في عبارات الكتاب اعتباراً من صفحاته الأولى. والجزء الثاني أيضاً لا يلتفت إليه مع أنه يفرد بحثاً خاصاً للمعرفة والنكرة، ويذكر خمسة أنواع من المعرفة فيها الضمير، واسم الإشارة، والاسم الموصول، والمضاف إلى معرفة
إن حرف التعريف لا يثير شيئاً من اهتمام واضعي الكتب المذكورة إلا في الجزء الثالث منها، وهو الجزء الخاص بالصف المنتهي من الدراسة الابتدائية؛ وذلك في بحث أنواع المعارف تحت عنوان (المعرف بأل)(ص - 41)
6 -
من المقرر أن التنوين من خصائص اللغة العربية التي تستعمل كثيراً، والتي تؤثر في معنى الكلمات تأثيراً كبيراً. ومن الغريب أن كتب قواعد اللغة العربية لا تذكر شيئاً عنه إلا في أواخر الجزء الثالث منها؛ وذلك في بحث (الممنوع من الصرف) - وفي صدد (إعراب الممنوع من الصرف)(ص - 61)
وإذا أجلنا النظر في ذلك البحث وجدنا فيه استعراضاً طويلا للكلمات التي لا يجوز أن تنون، ولكيفية إعراب تلك الكلمات دون أن نجد فيه إشارة إلى مواطن استعمال التنوين، والمعاني المستفادة من التنوين، والعلاقة الموجودة بين التعريف والتنوين. . .
7 -
من الواضح أن أسماء الأعداد من أهم أركان اللغات؛ وهي من الكلمات التي تستعمل بكثرة خلال الحديث والقراءة والكتابة؛ غير أن كتب قواعد اللغة العربية لا تهتم بها ولا تذكر شيئاً عنها إلا في الجزء الثالث منها. كما أنها لا تفعل ذلك بصورة عرضية في بحث التمييز خلال استعراض الأسماء المنصوبة) في باب الأسماء المعربة. . . (ص - 130)
أنا لا أرى لزوماً حاجة إلى الإكثار من هذه الأمثلة، ولا إلى إطالة الشرح لإظهار مواطن الخطأ والشذوذ في كل واحدة منها غير أنني لا أود أن أختم ملاحظاتي على كيفية (التبويب والعرض) دون أن أشير إلى ما أعتقده في منشأ هذه المآخذ والأخطاء الغريبة وأسبابها - أعتقد أن أسباب كل ذلك تتلخص في نزعة واحدة وهي نزعة (الاهتمام بالأحكام النحوية وبمواطن الإعراب) أكثر من (الالتفات إلى المعاني المفهومة، ومواطن الاستعمال). كل شئ في الطريقة المتبعة في تبويب القواعد وعرضها يدل على أن الذين دونوا هذه القواعد وجهوا جل اهتمامهم إلى مسائل الإعراب، واعتبروها الغاية القصوى من دراسة اللغة، كأنهم ممن يعتقدون - ضمناً - أن جميع أبحاث قواعد اللغة يجب أن تبتدئ من وجهة نظر الإعراب، وتنتهي بتثبيت قواعد الإعراب، وتبوب حسب ما تقتضيه أحكام الإعراب؛ وأما المعاني التي تؤديها الكلمات والوظائف التي تقوم بها في تكوين العبارات فهي من الأمور الثانوية التي يجب أن تترك على الهامش، أو من الأمور التافهة التي يجب أن تهمل بتاتاً. . .
إن آثار هذه النزعة المخالفة لأهم أسس التربية والتعليم تظهر بكل وضوح وجلاء في الطرق المتبعة في قضايا (التبويب) كما شرحناها آنفاً، وتظهر بوضوح أكثر في الطرق
المتبعة في أمور (التعريف) كما سنذكرها بعد. . .
2 -
طريقة التعريف
إن معظم التعريفات المدونة في كتب (قواعد اللغة العربية) مخالفة للقواعد المنطقية التي يجب أن تراعى في كل تعريف، ومنافية للأسس التربوية التي يجب أن يبنى عليها كل تعليم. . .
وأبرز أمثلة هذه المخالفة تتجلى في تعريف (اللازم والمتعدي) من الأفعال. . . هذا التعريف مسطور في الجزء الثالث من كتب الدراسة الابتدائية والجزء الأول من كتب الثانوية. . فإذا راجعنا كتاب الدراسة الابتدائية وجدنا فيه هذا التعريف: (يسمى الفعل متعدياً إذا نصب مفعولا به، ويسمى لازماً إذا لم ينصبه)(ص 106) فهذا التعريف لا يدعو إلى التأمل في مدلولات الأفعال لتمييز اللازم والمتعدي منها، بل يطلب النظر في تأثيرها في إعراب الكلمات التي تليها دون ملاحظة طبيعة الحدث المفهوم منها
وإذا استعرضنا جميع التفاصيل التي تتقدم هذا التعريف نجد أن جميعها تسير على نفس النمط: المفعول به هو الاسم المنصوب الذي وقع الفعل على مسماه. . قد ينصب الفعل مفعولا واحداً. . وقد ينصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر. . . وقد ينصب مفعولين أصلهما ليس مبتدأ وخبراً. . . ويسمى الفعل متعدياً إذا نصب مفعولاً به، ويسمى لازماً إذا لم ينصبه. . . (ص105 - 106) هذه هي سلسلة الإيضاحات التي توصل إلى التعريف الآنف الذكر. . .
وأما إذا راجعنا الجزء الخاص بالدراسة الثانوية، وجدنا فيه أيضاً تعريفاً مماثلا للتعريف المذكور بعد كلمة عن رفع الفاعل ونصب المفعول به:
(إذا قلت انفتح البابُ، وفتح عليٌ البابَ، وتأملت الفعل في المثالين وجدت الأول رفع الفاعل فقط، ورأيت الثاني رفع الفاعل ونصب المفعول به. . . وكل فعل من النوع الأول يسمى لازماً، وكل فعل من النوع الثاني يسمى متعدياً. . . فاللازم مالا ينصب مفعولا به، والمتعدي ما ينصب المفعول به (ص - 68)
إن نزعة إهمال (المعنى) والاستناد على (الإعراب) تتجلى في هذه الشروح والتعريفات بكل وضوح وجلاء، وتؤدي إلى التباعد عن جادة المنطق تباعداً غريباً؛ لأن الأسماء التي
تقع تحت أبصارنا عندما نقرأ في الكتب والجرائد لا تكون مرفوعة أو منصوبة في حد ذاتها، بل تكون مشكولة، فتحتمل الرفع والنصب على حد سواء. ونحن نحتاج إلى (قواعد النحو) لنعرف ما إذا كان يجب علينا أن نقرأ أواخر تلك الكلمات مرفوعة أو منصوبة. . . وكذلك الأمر في الكلمات التي تجول في خاطرنا عندما نفكر في موضوع ونحاول التعبير عنه، فإنها أيضاً لا تكون مرفوعة أو منصوبة في حد ذاتها؛ ونحن نقدم على رفعها أو نصبها حسب ما تعلمناه أو اعتدناه من قواعد النحو، لذلك نستطيع أن نقول: إن اعتبار (نصب المفعول به) واسطة لتعريف (الفعل المتعدي) يكون بمثابة قلب الأمور رأساً على عقب. . .
إن أبسط قواعد المنطق تقضي بتعريف اللازم والمتعدي من جهة، والفاعل والمفعول من جهة أخرى، حسب معانيها ومعاني العبارة التي تتألف منها، وذلك كما يفعل لغويو العالم بأجمعهم
وأما كيفية الإعراب فيجب أن تكون بمثابة (القاعدة التي نصل إليها، لا (الأصل) الذي نبدأ منه، أو (الأساس) الذي تبنى عليه. . .
فلا يجوز لنا أن نقول: هذا الفعل متعد، لأنه نصب مفعولا به، بل يجب أن نقول: هذا الفعل متعد فيحتاج إلى مفعول به؛ وهذا الاسم مفعول به، فيجب أن يعرب منصوباً
إن طريقة (تعريف الكلمة بالنظر إلى إعرابها) في كتب قواعد اللغة العربية ليست من الأمور المنحصرة في بحث (المتعدي واللازم)، بل هي من الطرق المتبعة في كثير من الأبحاث الأخرى أيضاً:
المبتدأ - اسم مرفوع يقع في أول الكلام (ج - 1 - ص30)
الفاعل اسم مرفوع يدل على الذي فعل الفعل ويذكر بعده (ج 1 ص32)
نائب الفاعل اسم مرفوع حل محل الفاعل بعد حذفه، وتقدمه فعل مبني للمجهول (ج2 - ص46)
المفعول المطلق اسم منصوب من لفظ الفعل يذكر لتوكيد فعله أو لبيان نوعه (ج 2 - ص71)
المفعول لأجله اسم منصوب يبين سبب حصول الفعل الذي قبله (ج2 - ص74)
المفعول معه اسم منصوب يبين الشيء الذي قارن وجوده وقوع الفعل، ويكون مسبوقاً بواو بمعنى مع (ج2 - ص77)
ظرف الزمان اسم منصوب يبين زمن حصول الفعل (ج2 - ص80)
ظرف المكان اسم منصوب يبين مكان حصول الفعل (ج2 - ص80)
الحال - اسم منصوب يبين هيئة الفاعل أو المفعول به عند حصول الفعل (ج2 - ص85). . .
كل من ينعم النظر في هذه التعريفات على ضوء الملاحظات التي سردناها آنفاً حول تعريف اللازم والمتعدي يسلم بأنها لا تتفق مع (منطق التعريف) بوجه من الوجوه، كما أنها تخالف (أسس التعليم) مخالفة صريحة. في الواقع أنها لا تستند إلى أحكام الإعراب وحدها - مثل تعريف اللازم والمتعدي الذي انتقدناه آنفاً - ولكنها تجعل الإعراب ركناً أساسياً من أركانها، وتخلط - بهذه الصورة - بين التعريف والقاعدة، وبين الأصل والنتيجة، خلطاً غريباً. فإذا أردنا أن نرجع هذه التعريفات إلى مقتضيات المنطق العلمي، وجب أن نحذف منها كل ما يعود إلى الإعراب. أما مسألة الإعراب، فيجب أن نفرغها في قالب (قاعدة) مستقلة عن التعريف.
فلا يسوغ لنا أن نعرف الفاعل بقولنا: (الفاعل اسم مرفوع يدل على الذي فعل الفعل) بل يجب أن نعرفه بقولنا: (اسم يدل على الذي فعل الفعل) ثم نأتي بقاعدة في إعراب الفاعل مستقلة عن تعريفه، فنقول:(الفاعل يعرب مرفوعاً)
كما يجب أن نتبع خطة مماثلة لما ذكرنا في بقية التعريفات المذكورة آنفاً
ومما يلفت الأنظار في هذا الباب، بوجه خاص، هو أن واضعي كتاب (تكوين الجمل) - الذي يؤلف الجزء الأول من سلسلة كتاب (قواعد اللغة العربية) - كانوا عرفوا الفاعل على هذا النمط دون أن يدمجوا قاعدة إعرابه في تعريفه، وذلك في الطبعة الأولى من كتابهم؛ ولكنهم غيروا خطتهم هذه في الطبعة الثانية، كأنهم اعتبروا تعريفهم الأول خروجاً عن المألوف وغير واف بالمقصود، فأرادوا أن يصححوه بتعريف يستند إلى الإعراب قبل كل شيء. فقالوا:(الفاعل اسم مرفوع يدل على. . .). وبذلك أخرجوا هذا التعريف أيضاً عن جادة المنطق والصواب. . .
يظهر من هذه التفصيلات أن الخطة التي يمشي عليها المؤلفون في التعريفات تستمد اتجاهها من النزعة التي ذكرناها آنفاً، خلال تعليلنا للخطة المتبعة في أمر التبويب، وهي نزعة الاهتمام بالإعراب أكثر من الالتفات إلى المعنى والمفهوم
غير أني أعتقد أن لهذه الخطة - ولهذه النزعة - بعض العوامل التاريخية التي تعود إلى أدوار نشأة (قواعد الصرف والنحو)، فان من العلوم أن هذه القواعد دونت - في الدرجة الأولى - تحت تأثير حاجة الأعجام الذين لم ينشئوا على العربية، وذلك كما حدث في أمر تدوين القواعد في سائر اللغات بوجه عام؛ وكان القصد الأصلي من تعليم العربية لهؤلاء الأعجام تمكينهم من قراءة القرآن وتسهيل فهمهم لمعانيه. ومما لا يحتاج إلى إيضاح أن الأعجمي الذي يقرأ القرآن يرى أمام عينيه سلسلة كلمات مشكولة، بعضها مرفوع، وبعضها منصوب، وبعضها مجرور، وبعضها ساكن، فيرى ويقرأ هذه الكلمات قبل أن يفهم شيئاً من معانيها، فإذا اتخذ رفع الكلمة أو نصبها نقطة بدء لدرسه وبحثه فلا يكون قد سلك مسلكاً مخالفاً للعقل والمنطق، من الوجه العملية: فإذا قال: (هذا اسم مرفوع، وقع في أول الجملة فهو المبتدأ إذن. . .) وهذا اسم مرفوع أتى بعد الفعل، فهو الفاعل إذن، يكون قد سار على خطة لا تجانب الصواب - من الوجهة العملية - بالنسبة إلى حالته الخاصة
غير أن الاستمرار على اتباع خطة مماثلة لهذه في هذا العصر ولا سيما في تعليم أبناء الضاد الذين يتكلمون العربية ويقرءون الكتب والجرائد والمجلات المطبوعة - لا يمكن أن يتفق مع مقتضيات المنطق بوجه من الوجوه، ويخالف أصول التربية والتعليم من كل الوجوه
إنني لا أجد سبيلاً لتعليلها إلا بإرجاعها إلى تأثير الأحوال الخاصة التي أشرت إليها، وباعتبارها من تراث العصور القديمة التي نوهت بها. والمآخذ التي سأذكرها في بحث (العلامات) تؤيد هذا التعليل بوضوح أقوى
(يتبع)
ساطع الحصري
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
أمسلم مصري أم مبشر بروتستنتي؟
لأستاذ جليل
- 2 -
أراد الكاتب المسلم في تلك المجلة أن يغم إحدى الجريمتين - أعني جريمة اللصوصية - فأوراد في تضاعيف أقوال المبشرين هذا المُمْلي:
(ألسنا نقرأ قوله تعالى: (جنتان ذواتا أفنان) ونراه يثني (ذات) بذواتا مع أن نحونا يقول: إن مثنى ذات ذاتا)
(وقوله تعالى: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما) فلا ندرك سر نصب الظالمين إلا عندما يقول لنا المفسرون إنها منصوبة على التخصيص)
(وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين). فنسأل كتب النحو لماذا لم يقل طائعتين بدلاً من طائعين، وهو يخاطب مثنى والمجيب مثنى أيضاً فلا تسعفنا كتب النحو بجواب وإنما يسعفنا المفسر بقوله: إن المجيب هنا هم سكان السماء والأرض فنفهم المعنى وإن اختلفت القاعدة)
إن تلاعب الكاتب بخلطه أقوالاً بأقوال لم يستر لصوصيته بل ثبتها تثبيتاً، وعلن بأنه خريج في الضلال والتضليل غير حاذق، ودل على أنه يجهل (النحو) الجهل كله و (قتلت أرضٌ جاهلَها) وسأبين اليوم تخليطه ثم أجيء إلى كتاب المبشرين مغلط القرآن في العربية. . .
قال الكاتب المسلم: (. . . مع أن (نحونا) يقول إن مثنى ذات ذاتا)
أقول: إن علم العربية (أي النحو) في كتبه المختصرة وفي مؤلفاته الكبيرة يقول: إن مثنى ذات (ذواتان) وتقول مثل قوله المعجمات القديمة والمعجمات العصرية المبثوثة في كل مكان. و (ذاتان) قليلة جائزة في الشعر، وهي ليست بالقاعدة
قال (الكاتب): (فإنك تقول: ذووي ردّ إلى أصله، لأن أصله فعَّل؛ يدلك على ذلك قولهم ذواتان، وكذلك الإضافة إلى ذاه ذوَويّ)
وقال الرضي في (شرح الكافية): (وردَّ لام ذات في التثنية فقالوا: ذواتا مال، وقد جاء أيضاً ذاتا مال وهو قليل)
وقال ابن منظور في (لسان العرب): (وتقول هي ذات مال وهما ذواتا مال، ويجوز في الشعر ذاتا مال والتمام أحسن) ونقل قوله الزبيدي في (تاج العروس)
قال الكاتب المسلم: (. . . فلا بد سر نصب (الظالمين) إلا عند ما يقول لنا المفسرون إنها منصوبة على التخصيص)
أقول: قد ذكرني كلام هذا الكاتب بقول للعامة: (فلان من معرفته بالصحابة يترضى عن عنتر) وصاحبنا من تضلعه من النحو يخلط الخلط الذي ترى. وقد أوضحت الكتب المصنفة للصبيان (مثل الألفية وشرحها لابن عقيل) هذه (القاعدة) وعنوانها فيها: (اشتغال العامل عن المعمول). قال سيبويه في (هذا باب ما يختار فيه إعمال الفعل مما يكون في المبتدأ مبنياً عليه الفعل): (رأيت عمراً وعبدَ الله مررت به، ولقيت قيساً وبكراً أخذت أباه، ولقيت خالداً وزيداً واشتريت له ثوباً. وإنما اختير النصب ههنا لأن الاسم الأول مبني على الفعل فكان بناء الآخر على الفعل أحسن عندهم. ومثل ذلك: قوله عز وجل يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً)
وقال (المفصل) في (ما أضمر عامله على شريطة التفصيل): (فالمختار في موضعين أحدهما أن تعطف هذه الجملة على جملة فعلية)
قال شارحه ابن يعبش: (إذا كان النصب من غير تقدم فعل جائزا كان مع تقدمه مختارا إذ فيه تشاكل الجملتين؛ قال الله تعالى: (يدخل من يشاء الآية)
يقول الكاتب المسلم: (. . . فنسأل كتب النحو لماذا لم يقل طائعتين. . .)
قلت: لو سأل الكاتب (النحو) لأجابه، ولو استهدى لهُدي، لكنه كأنه في مسطوره - فاهالفيه - من (المصحبين. . .) فهو (يلفت القول لفتاً ماضياً على المخَيّل)!
إن المثنى قد تبدي (جمعاً) إذ (أن المثنى جمع) كما قال الرضي شارح (الكفاية) و (من حيث أن التثنية جمع في الحقيقة) كما قال ابن يعيش شارح (المفصل) و (نظيره قولك: فعلنا وأنتما اثنان فتكلمُ به كما تكلم به وأنتم ثلاثة لأن التثنية جمع) كما قال كتاب سيبويه: و (من سنن العرب إذا ذكرت اثنين أن تجريهما مجرى الجمع) كما قال الثعالبي في (سر
العربية ومجاري كلام العرب وسننها) وهذا من النحو - والنحو أنحاء - والذي حوَّشته مصنفاته هو جزء من أجزاء، وقد أبان ذلك العالم الشيخ (إبراهيم مصطفى) في كتابه (إحياء النحو)
وقد قال (الكتاب): قالتا أتينا طائعين - ولم يقل طائعتين والسماء والأرض مؤنثتان لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله: (ائتيا) نظيرة كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم فأجرى قوله طائعين على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك)
وإن قال جاهل ضال عمه أو خادم جوعان من خدام المحترفين بالتبشير (التضليل). هي السماء وهي الأرض فتأتيان طائعات لا طائعين فما لهما والياء والنون - أجاب (النحو) في الكتاب): (وأما كل في فلك يسبحون، ورأيتهم لي ساجدين، ويا أيها النمل ادخلوا مساكنكم فبمنزلة من يعقل من المخلوقين ويبصر الأمور، فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء تؤمر وتطيع وتفهم الكلام وتعبد بمنزلة الآدميين) وقال ابن يعيش مثل هذا، وقال (النحو) في (شرح الكافية):(يشبه غير ذوي العلم بهم في الصفات إذا كان مصدر تلك الصفات من أفعال العلماء كقوله تعالى: (أتينا طائعين) وقوله (فظلت أعناقهم لها خاضعين)(ورأيتهم لي ساجدين) ومثل ذلك في الفعل: (وكل في فلك يسبحون) وقال كتاب (أسرار العربية) لأبي البركان الانباري: (فإن قيل: من أين جاء هذا الجمع في قوله تعالى: (فقال لها وللأرض الآية)؟ قيل: لأنه لما وصفها بالقول والقول من صفة من يعقل أجراهما مجرى من يعقل، وعلى هذا قوله تعالى:(إني رأيت الآية) لأنه لما وصفها بالسجود وهو من صفات من يعقل أجراها مجرى من يعقل، فلهذا جمعت جمع من يعقل) وفي (أسرار العربية) للثعالبي مثل ذلك
وذكر الكاتب المسلم في هاتيك المجلة: (إن هذان لساحران) مشددا النون، وسلك في القول الكريم المسلك الزائغ المنحرف. وفي قول (الكاتب) قراءات:(إن هذين لساحران)(وإن هذان لساحران) وإن مخففة واللام هي الفارقة و (إن ذان إلا ساحران) و (أن هذان ساحران) بفتح أن وبغير لام بدل من النجوى، و (إن هذان لساحران) والهاء مراده والتقدير إنه هذان لساحران، وحسنت اللام إذ كانت الجملة مفسرة للمضمر كما قال ابن يعيش. وقال الرضي:(وقد جاء ذان وتان واللذان واللتان في الأحوال الثلاثة) ومما قاله في (ذان): (ذان
صيغة مرتجلة غير مبنية على واحده ولو بنيت عليه لقيل ذيان)
ذلك بيان نحو العربية (علم العربية) - لا تفسير المفسرين - في أقوال في (كتاب العربية) وقد أطلت بما أوردت لكيما تعلن خربشة المخربشين وتخاليط المخلطين علانية، وليعلم الجاهلون إما كانوا ينشدون هدى وعلما أن ليس ثم (نحوان): نحو العربية ونحو (القرآن)، إنما هو نحو (الكتاب)، وإنما هو نهج (الكتاب)، وإنما هو بلاغة (الكتاب)، وإنما هي سنة (الكتاب)، وإنما هي شرعة (الكتاب). وهل أقام (قواعد) العربية، وهل شاد مجد العربية، وهل أبدع حضارة العربية، وهل هدى الناس كلهم أجمعين إلا القرآن؟
إنه (والله) لمن دواهي الدهر أن يصير أناس في الغباوة والجهل إلى حيث صاروا، فنجبر أن نقعد نشرح الجلي كل الجلي، وأن نقول مصوّتين في الشرق، في مصر، في نهار غير مغيم، في راد الضحى، أو في الظاهرة: هذه الشمسُ وهذا ضوءها، فانظروا يا ناظرين. . .!
الإسكندرية
(* * *)
الدين والأخلاق
بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 5 -
جاء في كتاب الأغاني أن الأخطل الشاعر قال لرجل من شيبان: (إن الرجل العالم بالشعر لا يبالي وحق الصليب إذا مر به البيت العائر السائر الجيد أمسلم قاله أم نصراني) وكل نقاد العرب قديماً وحديثاً يقولون مثل هذا القول سواء أكان الناقد من أدباء المذهب الجديد أم أدباء المذهب القديم. ولو أن محدث الأخطل سأله عن اليهود والبوذيين لأضافهم إلى النصراني في قوله. وأنت ترى أن الأخطل أراد أن يؤكد قوله فحلف بحق الصليب. وكان كثير من المسلمين يفضلون الأخطل على غيره من شعراء عصره بالرغم من النعرة الدينية في قوله. وكان يحدث هذا في صدر الإسلام ولم يكن الدين في صدر الإسلام أقل أثراً في نفوس المسلمين منه اليوم، وإنما كان الأدباء وسامعو الشعر أعرف بتذوق الشعر وأكثر حظاً من نشوته وأريحيته من قراء اليوم. ولم يكن بين الأدباء في صدر الإسلام من يحس خوفاً على منزلته بين الأدباء والشعراء فيدفعه إلى أن يقول إن النصرانية أسقطت شعر الأخطل. نعم إن جريراً يعير الأخطل بخضوعه لرجال دينه. ولم يبحث النقاد عن عقيدة أبي تمام كي يحكموا بها على شعره. ولم يقل أحد من أمراء الشعر والنثر في عصور الأدب العربي إن الأُخُوَّة في الشعر أُخُوَّةَ في الله، أو أن الأُخُوَّةَ في الله أُخُوةٌ في الشعر. فهل كان أمراء البيان في الشعر والنثر في تلك العصور الطويلة على ضلال لا يفهمون الشعر ولا يجيدونه ولا يتبينون أصوله وشروطه وسننه ولا يعرفون كيف يتذوقونه؟ أم أنهم أصابوا عندما قصروا الأخوة في الدين على شعر حواشي ومتون كتب الفقه الديني؟ أليس ادعاء بعض أدباء العصر إحلال عامة الشعر منزلة شعر حواشي الفقه الديني دليلاً على فساد الذوق الشعري في هذا العصر؟ ثم أليس في اتخاذهم وسائل الدول السياسية بنشر الدعوة ضد منافسيهم واتهامهم أنهم أنصار إبليس والرذيلة، ما يدل على جانب من الضعف، وعلى أنهم إنما يريدون استغلال تعصب العامة وأشباه العامة في عصر لا يدرك
فيه الرأي العام الشعر كما كان يدركه الرأي العام في عصر الأخطل؟
وليت أن هذه الوسائل كانت تعين على عز وجاه في بلد للشعر فيه كل العز والجاه والمال، ولكنها وسائل لا تغني فتيلا ولا تقرب من عز أو جاه أو مال، لأن هذه أمور لا تنال بالشعر إلا التافه الحقير منها وما أكثر طلابه.
أما الأستاذ الغمراوي فليست له مطامع دنيوية، وإنما هي العقيدة التي تقدمت به وبهذا المبدأ الذي يريد أن يسنه للشعراء؛ ولكنه لو كشف له عن سريرة الأدباء جميعاً حتى أشدهم تعصباً للقديم لوجد في سريرتهم أنهم يقولون كما قال الأخطل وأنهم يعرفون من أدب اللغة العربية ما يقصر أُخوة الدين على شعر الحواشي والمتون.
قال الأستاذ الغمراوي إن أدباء المذهب الجديد يأخذون عن الأوربيين ما يخالف التقاليد الإسلامية، وأنهم إذاً يريدون (تغلب دين على دين) أي دين الأوربيين على دين العرب المسلمين، وإنهم يبيحون الشهوات، وإنهم أنصار الرذيلة. وقد ناقض الأستاذ نفسه في هذا القول لأنهم لو كانوا يريدون تغليب المسيحية حقاً ما أباحوا الشهوات ولا كانوا من أنصار الرذيلة. وإن إباحة الشهوات ليست مذهباً في الشعر أو النثر جديداً، ففي الأدب العربي في كل عصر من هذه الإباحة ما ليس له مثيل في هذا العصر. وكان الأدباء المبيحون للشهوات أمثال بشار وغيره لا يدينون بدين. وإن أدباء المذهب القديم في عصرنا لا ينكرون أن بشاراً وأبا نواس وغيرهما من مذهبهم الذين يدافعون عنه، أي المذهب القديم، وإن الفضائل إذاً ليست عامة فيهم والرذائل ليست عامة في خصومهم ولا التدين أيضاً، وإنما هم يعرفون أن سليقة الشعر فسدت في أكثر القراء والرأي العام عموماً في عصر عظمت فيه قوة الرأي العام ونفوذه، فهم يريدون استغلال تعصب الرأي العام الذي فسدت فيه سليقة الشعر ولم يبق له أو لطائفة كبيرة منه غير النعرة الدينية التي يريدون أن تستبيح كل شيء حتى المجون ابتغاء مرضاة الله. فقد بلغ القراء خبر الحفلة التي أقيمت لإحياء ذكرى حافظ بك إبراهيم، وقد نشرت الصحف القصائد التي قيلت فيها، وكان بها من المجون ما لو قاله أحد الأدباء الشبان من أنصار المذهب الجديد لقال أدباء المذهب القديم للناس: انظروا إلى خصائص المذهب الجديد كيف يستبيح المجون في حضرة كبار رجال الدولة والذين ينوبون عن المقام السامي! أما والذين نظموه لم يكونوا من أدباء المذهب
الجديد فهو إذاً ورع وتقوى وغيرة سامية على الفضائل في القول والعمل. هكذا ألف بعض الأدباء مجون الشعر العربي القديم حتى صار يُعَدُّ من الأخلاق السامية. وما على الأديب في هذا العصر إلا أن يعلن على رءوس الشهود أنه من أنصار المذهب القديم فيباح له كل شيء من أجل عدائه للجديد. ويكون مثله مثل الرجل الذي إذا عده العامة من أولياء الله الصالحين رفعوا عنه (الكلفة) وأباحوا له ما لا يبيحون لغيره من عباد الله. فإذا أرتكب أحد (أولياء) العامة أمراً (ينتقد) وحاول أحد النظارة أن يعيبه به تجمهر الناس حوله وكل يقول له: أتركه يا شيخ ولا تعبه، لأنه من أولياء الله وعباده الصالحين وقد رفعت عنه (الكلفة) فهو غير مسؤول عما يفعل. ومن الغريب أن بعض الأدباء أراد أن يفهم الحاضرين أن حافظ بك مات شهيد الحرب التي شنها عليه أدباء المذهب الجديد، ولم تكن هناك حرب وإنما انتقده الأستاذ المازني نقداً بريئاً خالياً من الفحش والمجون. أما الحرب فقد كانت سجالاً بين أنصار حافظ وأنصار شوقي وكان الفريقان من أنصار المذهب القديم وكانا يستبيحان كل سلاح مهما كان، وتشهد بذلك نسخ الجرائد الأسبوعية التي طبعت في ذلك العهد. وكان أشد الناس حرباً على حافظ بك أنصاره من المرتزقة وكانوا يصنعون صنع الجنود المرتزقة فيخذلونه في أثناء المعركة من أجل رشوة وأجر مُطمع من خصمه
فإذا كان حافظ بك قد هزم في بعض معاركه فالذنب ذنب الجنود المرتزقة الذين خانوه والمعركة قائمة ولم يقدر خيانتهم. ولم يكن للمذهب الجديد وقتئذ أنصار عديدون، ولو قامت بينه وبينهم معركة ما استطاعوا لكثرة أنصاره أن ينالوا منه، ولم يكن لهم حول حتى يدبروا له الدسائس. فكل ما قيل من هذا القبيل في الحفلة من قبيل السمر بالقصص الخيالية، وله منفعة أخرى جلب العداء لأنصار المذهب الجديد بالطريقة التي بها يجلب لهم العداء إذا قيل إنهم أنصار إبليس اللعين. ولو أن حافظ بك إبراهيم كان اليوم حياً لضحك ضحكاً كثيراً إذا سمع ما يقوله أدباء المذهب القديم من أن أدباء المذهب الجديد نالوا منه ودسوا له. نعم إن الرجل كان محاطاً بالوشايات والسعايات من الأدباء، ولا نعني أهل السياسة فهذه مسألة أخرى، وهذه الوشايات كان يتقدم بها الأدباء إما نكاية من بعضهم لبعض واستعانة بحافظ بك في تلك النكاية، وإما نكاية لشوقي منافسة كما كان جلساء شوقي يسعون عنده بحافظ نكاية له
ولو أنا رجعنا إلى ما أُلف من المقالات والكتب منذ ثلاثين سنة ما وجدنا أثراً لهذا الاصطلاح: أعني اصطلاح تقسيم الأدب إلى جديد وقديم، وإنما كان الشعراء الذين يسمون الآن أدباء المذهب الجديد يدعون إلى نبذ شعر الغزل المتكلف الذي كان مقدمة لقصائد المدح والهجاء والسياسة، ونظم الشعر فيما تحسه النفس من حب أو غير حب على طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ المغالاة في المحسنات اللفظية التي أولع بها شعراء الدولة العباسية والرجوع إلى طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في تفضيل صنعة العاطفة أو ذكرى العاطفة (وذكرى العاطفة عاطفة). وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ التضييق في أبواب الشعر ونبذ المغالاة في تقييد حرية القول والرجوع إلى شيء من حرية القول التي كانت في كثير من عصور الشعر العربي القديم من غير دعوة خاصة إلى إباحة حرية القول من أجل الإباحية في الخلق
هذه كانت مبادئهم؛ فهم إذاً كانوا أخلق بأن يدعوا رجعيين، فهم كانوا رجعيين في طلب احتذاء شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في وصف أحاسيس النفس وخواطرها رجوعاً عن الغزل الصناعي وأبواب القول الصناعي التي أولع بها المتأخرون. وكانوا رجعيين في طلب احتذاء سهولة العبارة وأقربها دلالة على الإحساس والمعنى كما كان يفعل شعراء الجاهلية وصدر الإسلام رجوعاً عن المبالغة في الصناعة التي أولع بها العباسيون. وكانوا رجعيين في طلبهم ألا يقصر الشعر على معان متفق عليها كما كان المتأخرون يفعلون والرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره وأن يباح له القول إذاً أكثر مما كان يباح للمتأخرين
فالنزعة إلى التجديد كانت في أول الأمر نزعة رجعية كما ترى؛ واتفق أن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية، وأنه إذا تقدم بهم الأدب الأوربي فيكون تقدماً كما كان يتقدم أدب الجاهلية وصدر الإسلام لو أنه لم تعترضه عوارض الجمود والقيود المصطنعة التي تغلبت على الأدب العربي بعد ذلك
فإذا كانت هذه النزعة قد دخلتها المغالاة فهي أمر طبيعي يعترض الأمور في أول الأمر حتى تستقر؛ وإذا كانت قد تفرعت منها فروع بعيدة فهذه سنة طبيعية، فالقرامطة
والحشاشون والباطنية فروع بعيدة تفرعت من الشيعة كما تفرعت الشيعة من الإسلام. وربما كان من تلك الطوائف البعيدة ما ينكره الشيعة. كذلك تفرعت من نهضة التجديد الرجعية فروع بعيدة ولا تزال تتفرع، ومن يحاسب نهضة التجديد عليها كمن يحاسب المسلمين عموماً على عقائد بعض الطوائف التي تفرعت من الإسلام
تفرعت من شيعة التجديد طائفة لم تراع أنه إذا أريد الإقلال من صناعة العباسيين فلا بد من الإكثار من سلامة أسلوب كأسلوب شعراء صدر الإسلام مع تجنب حوشي الكلام، فدعت هذه الطائفة إلى أن يكون أسلوب الشعر أقرب الأساليب إلى لغة الكلام؛ وهذا لا عيب فيه إذا روعيت سلامة اللغة والعبارة. وتفرعت طائفة لم تراع أن وصف أحاسيس النفس وخواطرها ينبغي ألا يبلغ حد الإباحية في الخلق إذا أريد أن يحل شرح الأحاسيس والخواطر وبحثها محل الغزل وأبواب القول المصطنعة التي أولع بها المتأخرون. ولا ننكر أن أشد الشعراء حيطة في وصف النفس الإنسانية وخواطرها على هذه الطريقة قد يشتط في بعض قوله، ولكنه شطط محدود ولا يهدم فضيلة المذهب، كما أن الغصة أو التخمة لا تقضي على فضيلة الأكل والطعام. وتفرعت طائفة لم تراع أن تجديد المعاني والأخيلة ينبغي ألا يتعدى المعاني والأخيلة التي يقرها ويفهمها العقل البشري سواء أكان مصرياً أو إنجليزياً أو صينياً. أما الأخيلة البعيدة وأوجه الشبه القصية والضئيلة والتي لا قيمة لها ليست من أوجه التشبيه في الشعر الراقي الذي يعد من الطراز الأول في أي مكان. وتفرعت طائفة ترى أن انقطاع الصلة بين الرموز والأمور التي يرمز إليها بالرموز، وتدخل صور الرموز بعضها في بعض، مما يروق بعض القراء لأنه يروع نفوسهم، ونسوا أن طمس معالم الصور إذا راق فترة لجماعة ليس من وسائل الشعر الخالد الذي يروق العقل البشري العالمي في كل زمان ومكان. وتفرعت طائفة تريد أن تحكم الوعي الباطني (أو العقل الباطن) بدل تحكيم ملكات العقل الظاهر المألوف، ورأوا أن هذه وسيلة للغوص إلى أعماق النفس ونسوا أن الغوص في أعماق النفس يقتضي يقظة الوعيين والعقلين الظاهر والباطن واتفاقهما وإلا كان ما يقوله القائل بالوعي الباطن وحده لا قيمة له
إن أدباء المذهب القديم عندما يحدثون عن نهضة التجديد يغفلون أسبابها والضرورة الاجتماعية التي دعت إليها، وأنها في أولها كانت نزعة رجعية أو شبه رجعية، وأن الأدب
الأوربي درس ليشد أزر الرجعية المقبولة، وأن الطوائف المتطرفة التي تفرعت من النهضة لا تمثل النهضة كلها، وأن النهضة لا يحكم عليها إلا بأحسن مظاهرها، وأن أدباء المذهب القديم هم أيضاً قد تأثروا هذه المبادئ الرجعية الحميدة التي تحث عليها نهضة التجديد
(قارئ)
ليوم الإسراء: يوم فلسطين
الثورة الفلسطينية ثروة ضخمة للنفس العربية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا مريقي دمائهم لنا! عقوق ما بعده عقوق أن نقدَّم لكم كِفاءها من المداد الأسود!
وأنا أعلم أنكم في شغل بجمع أشلائكم وآرابكم المبعثرة في الطرقات والجبال والمدن، عن جمع هذه الحروف والألفاظ من الصحف؛ وفي شغل يدوي الرصاص عن هذه الأصوات من بني عمومتكم الذين يكتفون في جهادهم لكم بإنشادها وتزويقها وتزويرها أمام عيونهم العمياء وأسماعهم الصماء. . . فلست أسوقها لكم فأهين قضيتكم وعزائمكم التي تقول لنا: الآن فات أوان الكلام وقصائد التشجيع والإطراء. . . وإنما أسوق هذه الكلمة لأنبه القوالين هنا وفي كل مكان عربي إلى أن من العيب الفاضح والقصور الفاحش أن نصر على ألا ندفع في مقابل هذه الثروة النفسية الضخمة التي قدمها أهل فلسطين للعالم الإسلامي والعربي إلا الألفاظ العاجزة الذليلة، وأن نتلهى بإدارة أحاديث شقائهم، ونقنع لهم بدعاء العجائز. . .
إننا نحصل كل صباح ومساء من ثائري فلسطين - والكل فيها ثائر - على مقتنيات من معاني التضحية والأيمان والبسالة، ما حصلنا عليها من كتاب ولا تاريخ ولا مشهد من مشاهد الدنيا ولا حركة من ثورات الأمم
لقد اشترى الله منهم نفوسهم ثم وزعها على أمثالنا من فقراء النفوس! ففي كل نفس مسلمة وعربية الآن قطعة من نفوس مجاهدي فلسطين، وزعها الله القوي بيده ليعطينا خمائر الإيمان به وبالحق إيمان المجاهد لا إيمان الضعيف المستضعف. ولعل وراء هذه المحنة إرادة خفية للقدر في إيقاظ نفوس العرب والمسلمين وتوجيههم إلى الطريق. . . ولعلها رسالة جديدة من فلسطين أرض الرسالات والنبوات. . .
فالله - له العزة - يقترض من الأغنياء للفقراء، والغنى والفقر على سواء في الأموال والأنفس. . . فلنفهم هذا
ولقد تضخمت الثروة النفسية للعرب والمسلمين من هذا القرض الذي يعقده الله لنا من الشهداء والمجاهدين. وقد كنا نعيش في فقر مدقع من الأمجاد والمفاخر منذ عهد صلاح
الدين، حتى أتى هؤلاء وجادوا علينا بأقصى غاية الجود فأصبحنا في غنى كبير
إن الله وحده هو الذي استطاع أن يشتري هذه النفوس الشابة من أسواق الحياة الناعمة وأن يرفعها على أعين المسلمين شهيدة كما ترفع الراية أمام الجيش المهزوم فتجمع فلوله، وتذكره بشرفه وترده إلى فكرة وطنه وأهله وذرياته ومصالحه
لقد أعطى الفلسطينيون أممهم الإسلامية والعربية قطعة من الزمن الخالد الذي يقف في مكانه من ذاكرة التاريخ جديداً عجيباً دائماً! مع الأيام الخالدات التي مضى الدهر وتركها للناس لأنها الساعات الفاصلة في وجود نوعهم على وجه الأرض. . . فهم يحتفظون بها في يقظة واعتزاز ويسلمونها كذلك إلى الذريات والأنسال
ولقد كتبوا بدمائهم وآلامهم براهين جديدة على صدق مولانا محمد، وأنه لن يزال مستطيعاً بحفنة من أبنائه أن يفعل في الدنيا الجديدة ما فعله في الدنيا القديمة بحفنة (بدر)!
أتقرءون أيها القراء أخبار ثورة فلسطين كما تقرءون بقية الحروف السوداء في الصحف؟
إني أقسم أني أراها حمراء نارية، صارخة، مطاردة، متربصة، لها وجوه وأجسام تسعى على الصحف كما تسعى وتحيا معانيها ومدلولاتها في الجبال والوديان والكهوف والمدن والقرى!!
إنها أول ما أبادر إلى قراءته كل يوم قبل الوضوء والصلاة لأغسل قلبي بالدم الكريم الذي يفيض من حروفها على نفسي. . ولأتلوها صلاة قبل الصلاة المكتوبة التي أقف فيها بعدئذ بنفس تشعر أنها ذليلة طريدة لم تدخل إلى الله كما دخل هؤلاء المجاهدون، وتشعر أنها في آخر الصفوف حين تكتفي في خدمة الله والحق والمجد بتزويق الحروف!
وقد أصبحت حريصاً على أن أدخل إلى نفسي في صباحها ومسائها أخبار هذه الزلزلة والتحطيم ومصارعة عوامل قوة الضعف لعوامل ضعف القوة، لأرى كيف تترك النفوس المؤمنة الشريفة حياة اللذة والرفاهية وتعيش في الجبال مشردة كالصقور والنسور. ولا ريب أن هذا يفتح أعيننا اللاهية على آفاق في الحياة رؤيتها ألذ من اللذة بألوان النعيم المعهود
ولقد أصبحت أكرر دائماً هذه الجملة:
لابد من جنون أيها العقلاء!
وهي جملة أوحاها إلي قلمي مصرع الشهيدين عز الدين القسام وفرحان السعدي: الشيخين اللذين فتحا باب الثورة في فلسطين بتدبير جنوني في رأي من يستعبدهم واقع الحياة، وليس لهم إلهام العقيدة الذي يمتد بالملهمين إلى ما وراء عالم الأعين والحواس. . .
ولكن هذا التدبير أنتج صميم العقل والمنطق لأنه دفع بالقضية الفلسطينية إلى الموقف الفاصل بعد أن سئم المحقون الجدل مع (الثعلب) و (الأسد) في الحق الذي ينادي على نفسه وأصحابه. . .
وسواء انتهى النضال في فلسطين بفوز العرب أم بفوز أعدائهم لا قدر الله، فإنهم أعذروا وأقاموا الحجة وشفوا نفوسهم ونفوس العرب وخلوا أنفسهم من تبعات التقصير، والتبعة الكبرى بعد ذلك على بقية العرب والمسلمين
وآفتنا في قضايانا الوطنية هي هؤلاء العقلاء المناطقة الذين لا يعرفون الفرص التي يجب على الإنسان فيها أن يجن! وأول درجات جنونه ألا يفكر في نفسه، وأن يذهل عنها. وحين ينحرف لهذا عقله وطبعه يفعل الأعاجيب، ويحصل بالجنون من الحياة التي لم تنصفه العقول فيها على كل ما يطلب. . .
انظر إلى المنطق الذي يقعد المسلمين عن الموقف الحاسم في المشكلة الفلسطينية: إنه يتمثل في هؤلاء الأفراد الذين لا يدينون إلا بالفردية ويسخرون من الأشخاص السائرين وراء كلمة الشرف أو (الوطنية) أو (العقيدة) وهؤلاء مقيدون بواقع منافعهم وخصوصياتهم ولذاتهم وحماقات نفوسهم وأجسامهم، وليس عليهم وراء ذلك مسئوليات وتبعات
وهؤلاء هم الذين يقعدون دائماً بأممهم عن الوثبات والقفزات لأنهم غلف القلوب عمي العيون عاجزو الأقدام
فلو فكر الفلسطينيون (بالعقل الوضعي) و (الواقع العملي) في قوة إنجلترا وغنى الصهيونيين، مقارنين ذلك بضعفهم وفقرهم أكانوا أقدموا على عمل شيء من هذه المعجزات التي يقومون بها الآن؟
لقد انطلقوا من كل قيد وصاروا قوة تفكر بالرؤوس والأرجل والأيدي كما توحي الساعة وتلهم الظروف وتحتم الحياة. وصاروا قوة من قوى الطبيعة الغاضبة كالأعاصير والزلازل والبراكين
أولى بساستنا وجماهيرنا أن يشعروا حلفاءنا الإنجليز في موقف حاسم تتجمع فيه كل الإيرادات بما في طويتنا من أننا لا يمكن أن نسلم بأن تخرج فلسطين من أيدينا.
والواقع أن هذا هو ما سيكون. ولكن ترددنا وتفرقنا وعدم إظهار مكنون صدورنا في الوقت المناسب هو الذي أطمع اليهود وأوهم الإنكليز أننا سنخدر بالتدريج ونخدع عن مصير فلسطين.
وأؤكد أن الفلسطينيين والمسلمين لو أبدوا من ابتداء ظهور القضية الصهيونية ما يبدونه الآن من الثورة العملية في فلسطين والثورة النفسية المنذورة بالشر في كل بقاع العرب والمسلمين. .
ما سارت فلسطين إلى مطمع لليهود. ولكن ترددنا وانقسامنا وعدم النظر البعيد إلى المستقبل هو الذي أطمعهم في أن يكون لهم حق فيها وان يصير هذا الحق مكتسباً بتوالي الهجرة.
يا أهل فلسطين المعذبين! وحق العزة والشرف لأنتم أسعد المسلمين الآن، وأغناهم وأكثرهم أمنا!
أسعدهم، لأنكم تركتم نحس الذلة وكآبة العبودية، وتحررتم من كل شهوة دنيئة إلى الحياة الحقيرة المحدودة التي يرومها لكم المتآمرون عليكم
وأغناهم؛ لأنكم ملكتم دنياكم وظروفها إذ ملكتم أنفسكم الرحبة العظيمة وصرَّفتم مقدرات وطنكم بها ولم تبيعوا منها شيئاً بشيء من أوساخ الدنيا وأثمان الناس. . بل جعلتموها وقفا محبوسا لله يأخذ منها ويوزع على المسلمين الفقراء إلى النفوس. .
وأكثرهم أمناً؛ لأنكم لكم ما تخافون عليه من الموت بعد أن صار الفداء مشتهى أحدكم. ومتى ما صارت المنايا أماني فالأموال والثمرات والأولاد تسقط من موازين التقدير وحساب الموجود والمعدوم. والنفس تنطلق كما ينطلق الإعصار لا يبالي أن يقع بجسمه على مطرح لين رخو كماء البحر، أو على مطرح قاس كوجه الصخر! إنه قوة مسلطة جائحة، قيل لها من إرادة الحياة العليا: كوني طائعة في يدي. . . ثم هُبي ثائرة جارفة كما أريد فكانت. . .
فالنفس الثائرة لحق الله وحق الحياة، آمنة غاية الأمن ولو طبخت بالنار. . . ولو زلزلت
من تحتها الأرض. . . ولو وقع عليها سقف الدنيا!
أيها المسلم!
أيها العربي!
أدفع ثمن ما تأخذ من أهل فلسطين كل يوم من المعاني الكريمة التي تخلقك خلقاً آخر. . . أدفعه للأرامل والأيتام والعجزة المنكوبين في سبيلك وفي سبيل مقدساتك
أدفعه لنفسك إذا كنت ذا نفس!
وإذا كنت أثيراً أنانياً لا تفهم هذا الكلام فافهم وتعلم أن تطفئ النار التي في بيت جارك قبل أن تمتد إلى دارك
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف
البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 4 -
الفجر في سورية
حديث الدكتور الكيالي
إن وزير المعارف والعدلية الدكتور الكيالي رجل قصير القامة ذو شكل عادي لا يوجد في كلامه أو مظهره ما يميز عن غيره. ولما زرته لأول مرة في مكتبه في (السراي) وجدته شديد التحفظ والخجل، ولكنه فيما بعد بينما كنا نتناول طعام الغداء معاً شعر باهتمامي الزائد فخرج من تحفظه وحدثني حديثاً شائقاً إرضاني أكثر من أي حديث آخر في زيارتي سورية. وقد تبين لي من حديثه أن اهتمامه بروح الأشياء أعظم من اهتمامه بالأشياء نفسها. قال:
(إنه لا خوف على الناحية الفكرية من التعليم في سورية. فالسوريون أذكياء، وقد هضم شبابنا القسم العلمي من منهجهم الدراسي بسرعة، إلا أننا نجد صعوبة في إيجاد واسطة تعبر تعبيراً صحيحاً عن الدافع الروحي وراء ميولهم. ولا شك أن هذا لا يتحقق إلا بإدخال الروح الديني الصحيح على المعارف العامة)
وتوقف الدكتور الكيالي لحظة كأنه يتساءل عما إذا كنت قد صدمت بعبارة كهذه يتفوه بها رجل تربى تربية علمية، ولكنه لما رأى إمارات الموافقة على وجهي استرسل في حديثه وقد زاد حرارة عن ذي قبل. قال:
(ما هو الدين؟ وهل هو عبارة عن دخول المساجد أو إطاعة قوانين الكنائس؟ قد يكون الدين الذي من هذا النوع ضرورياً لغير المتعلمين الذين لا يعرفون ما يمكن جنيه من نتاج الأفكار والعلوم الحديثة. إلا أن هناك نوعاً آخر أبعد نظراً من هذا، ألا وهو السعي الروحاني وراء شيء أسمى من المادة. والرغبة في هذا السعي موجود في كل واحد منا وإن خنقها التعليم المغلوط وجمود القواعد الدينية المقررة عند الطوائف المختلفة. ويمكن
تحقيق هذه الرغبة عمليَّاً بواسطة تقوية العقيدة الدينية. إن من واجب الدولة أن تنبه هذه الرغبة في شبابها وأن تفسح لهم المجال للتعبير عنها، إذ بدونها لا تبقى ثمة فائدة للدين أو العلم
(وفي نفس الوقت لا يمكن لوزارة المعارف أن تلعب دور المنافس للمؤسسات الدينية مع أن هذه المؤسسات لا تقوم دائماً بما هو مترتب عليها، وأكثر رجالها يشكون من ضعف الشعور الديني ضعفاً يزداد يوماً عن يوم بينما تتوالى الطلبات على المراجع المختصة في الوزارة من الآباء الذين يرغبون في تعميم التعليم الديني
(وكيف يمكن إجابة طلبات كهذه؟ إن الأولاد الذين شبوا في محيط تشتد فيه محافظة الآباء على الناحية الشكلية من الذين يجب ألا يخرج تعليمهم الديني على القواعد المألوفة والمعروفة، في حين أن الذين قد خرجوا على القواعد التقليدية بتأثير الأفكار الغربية يجب أن يهذبوا تهذيباً دينياً يوجه شعورهم الديني نحو تقوية العقيدة ويكون بعيداً عن الاختلافات المذهبية
(إن الأثرة صفة بارزة في شبابنا، ونحن في أشد الحاجة إلى تبديلها بصفة أسمى ترمي إلى حملهم على التفكير في المجموع، وإن كان تحقيق هذا الهدف أمراً عسيراً. يجب أن نشجع التعاون القائم على إنكار الذات: ومعنى ذلك أننا في الصناعة السورية مثلاً يجب أن نفضل جهود الجماعات وشركات التعاون على الجهود الفردية التي تنحصر غايتها في نفع الذات
(إن أمام جميع الأقطار العربية هدفاً واحداً في التعليم يجب عليها السعي لتحقيقه، ألا وهو تنبيه الشعور الاجتماعي في الصغار وتلقينهم معنى الخدمة العامة أو - باختصار - السعي لإظهار أحسن ما فيهم من صفات كامنة)
كان وزير المعارف، بين من قابلت في سورية، الرجل الوحيد الذي يتكلم بما يمليه عليه صوت قناعته الوجدانية، ذلك الصوت الذي لم أسمعه منذ أيامي الأخيرة في القاهرة، ومنذ تحدثت إلى الملك ابن السعود. وهو نفسه الصوت الذي يحطم الحواجز التي كثيراً ما حالت دون تفاهم العقلين الشرقي والغربي تفاهماً صحيحاً
رأي البطريرك
لم يكن كره الأساليب التقليدية للدين محصوراً في طبقة معينة من السوريين بل هو كره
عام لمسته في كل مكان، وقد قال لي البطريرك نفسه إن الطبقات الفقيرة إنما تعتبر الدين واسطة اقتصادية. وقد أخذ أفراد هذه الطبقات في اتباع الكنيسة التي تقدم لهم أكبر مساعدة مالية بصورة مباشرة أو بشكل صدقة. وقد اعترف لي بأن كل الكنائس في سورية قد بدأت تشعر بوطأة ضعف الشعور الديني
حديث فخري البارودي
إن المعروف عن فخري البارودي أن الجماهير تحبه حباً لا يشاركه فيه غيره من رجال السياسة في سورية، وهو نائب دمشق وزعيم الشباب السوري. وقد طلب مني أن أزوره ذات صباح في (مكتب فخري البارودي) المشهور. ولما فعلت استقبلني عند الباب عدد من الشبان ألقوا علي بعض الأسئلة، ثم قادوني إلى باحة داخلية نفذنا منها إلى غرفة كبيرة فارغة نصبت في إحدى زواياها منصة صغيرة جلس فوقها فخري البارودي وراء مكتب صغير يستقبل الزائرين الذين كانوا يساقون إليه الواحد بعد الآخر، فإذا اقترب منه أحدهم مال إلى أذنه وهمس بعض الكلمات بحيث لم يستغرق حديث الشخص الواحد أكثر من دقيقة. إن هذه الحالة حملتني على الظن بأن هناك مؤامرة تحاك لا نائباً يستمع إلى مطالب ناخبيه
ولحظت خارج الغرفة بعض الشبان وهم يرتدون الخوذ والقمصان الرمادية اللون ويرفعون الأيدي بالسلام الفاشستي، وكلهم متلهف لتلقي أوامر القائد، فتنبهت إلى أن هذا المكتب هو في نفس الوقت مركز أول هيئة عسكرية لتنظيم الشباب في سورية وهي فرق القمصان الحديدية.
لم أجد في مظهر فخري البارودي ما يبرر نفوذه السياسي وتعلق الشباب به، فهو رجل نحيف قصير القامة قد تجاوز الخمسين من العمر، وهو في شكله وحركاته وسكناته يمثل سكان الشرق الأدنى أحسن تمثيل. شعره خفيف وغير مرتب، وهو ذو حيوية عصبية هائلة تجعله يقفز من هنا إلى هناك بسرعة واستمرار. ولكني مع ذلك لم أشك قط في إخلاصه الملتهب الذي لمسته فيه أثناء الحديث فرفعه في نظري وجعله ذا شخصية جذابة بعد أن كنت أميل إلى الظن بأنه لا يختلف عن أي سياسي عادي كثير الكلام والحركة.
ولما انقطع حبل الزائرين أخذني إلى غرفته الخاصة في الطابق العلوي حيث سألته:
- (وكيف حظيت بهذه المكانة في القلوب؟ وهل توصلت إليها عن طريق الخطابة؟)
فدهش في أول الأمر ثم التفت إلى ثلاثة من الشبان وقفوا بين يديه ينتظرون أوامره وسألهم:
(الخطابة؟ وهل أنا خطيب؟ وهل بذلت جهوداً خاصة لاكتساب قلوب الشباب؟)
فهز الثلاثة رؤوسهم ثم ضحكوا. . .
ومع ذلك فقد أكد لي كل من حدثته في دمشق أن خطبه قد ساهمت مع إخلاصه ورفعته إلى المكانة التي يحتلها. إنه يعرف كيف يستعمل لغة الجمهور الذي كثيراً ما دخل السرور إلى قلبه وضحك ملء شدقيه لتورية خبيثة أتى بها أو فكاهة تفوه بها، وعلى هذا فإن بعض الناس يميل إلى اعتبار فخري البارودي (أفكوهة قومية) لأنه في نظرهم غير جدي، مع أن هناك براهين عديدة على أن إخلاص الخطيب ومحبة الجمهور له لأبلغ أثراً من المواهب الأخرى التي لها صلة بالعقل والأخلاق
وسألته:
(وما هو في نظرك الواجب الأول للشباب السوري؟)
فأجاب:
(أن يحصلوا العلم الذي يجعلهم مساوين لشباب أي شعب أوربي. ومع ذلك فلا تكفي المعرفة والعلم وحدهما: يجب أن نربيهم تربية قومية وسياسية لا يحتاجها شباب بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول التي لها كيان قومي وقد نالت استقلالها منذ أمد بعيد. أما نحن فإننا مازلنا نسعى إلى تحقيق استقلالنا القومي التام، ولهذا فإن فكرة القومية هي أسمى أهدافنا، فلا فائدة لنا من وجود الأطباء والمهندسين الأخصائيين إذا لم يكن الشعور الوطني قوياً عندهم
(إن مثل شبابنا الأعلى - وهو المثل الأعلى لكل السوريين - هو الوحدة العربية. وأول خطوة لتحقيقها الاتحاد مع لبنان، ثم مع باقي الأقطار العربية الواحدة بعد الأخرى. وستدخل مصر نفسها في هذه الوحدة آجلا أو عاجلا. قد نحتاج لتحقيق الوحدة إلى عشرين سنة أو خمسين ولكنها لا محالة واقعة في النهاية)
(يتبع)
علي حيدر الركابي
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
(بقية المقال الثامن عشر)
والآن نستعرض حالة دامية وجيعة، عميقة الألم والفجيعة، يزيدها جرحا وإيلاماً ما يبدو به قائلها من تماسك وتجلد وتجمل.
إنه (يوم الظنون): يوم يقف الإنسان تتجاذبه الدوافع والانفعالات، ويتقاذفه الإقدام والإحجام، وتتراءى له المسارب والطرقات، وهو لا يدري أيها أولى بالاتباع، بل هو لا يملك أن يدري، لأنه مسلوب اللب والإرادة
فإذا وضعت إلى جانب هذه الصورة شخصية العقاد الجبارة، أمكن أن تدرك مدى الألم العاصف، ومبلغ الفاجعة القاصمة:
يومَ الظنون صدعتُ فيك تجلدي
…
وحملت فيك الضيم مغلول اليد
وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي
…
ما لان في صعب الحوادث مِقودي
وغصصت بالماء الذي أعددته
…
للري في قفر الحياة المجهد
لاقيت أهوال الشدائد كلها
…
حتى طغت فلقيت ما لم أعهد
نارَ الجحيم إليَّ غير ذميمة
…
وخذي إليك مصارعي في مرقدي
حيران أنظر في السماء وفي الثرى
…
وأذوق طعم الموت غير مُصرَّد
أروَى وأظمأ: عذبُ ما أنا شارب
…
في حالتيَّ نقيع سُم الأسود
وأجيل في الليل البهيم خواطري
…
لا شارق فيه ولا من مسعد
وتعيدُ لي الذكرات سالف صبوتي
…
شوهاء كاشرة كما لم أشهد
مسخت شمائلها وبُدِّل سمتها
…
وبدت بوسم في السعير مخلد
يا صبوة الأمس التي سعدت بها
…
روحي، وليت شقيها لم يسعد
وعرفت منها وجه أصبحَ ناضرٍ
…
ورشفت منها ثغر العس أغيد
سومحتِ بل جوزيتِ كيف وعيت لي
…
بالأمس فيك ضراوة الذئب الصدى؟
سومحت بل جوزيت كيف طويت لي
…
زرق الأسنة في الإهاب الأملد
أمسيت حربي في الظلام وطالما
…
جلّيت لي وجه الظلام المربد
ورجعت أهرب من لقاك وطالما
…
ألفيت عندك في الشدائد مقصدي
ما كان من شيء يزيد تنعمي
…
إلا يزيد اليوم فيك تلددي
أواه من أمسي ومن يومي معاً
…
والويل من طول التردد في غدي
أهب الخلود كرامة لمبشري
…
أن ليس يومي في العذاب بسرمد
وأبيع حظي في الحياة بساعة
…
أنسى بها عمري كأن لم أولد
وأسوم مرعى العيش غير مزود
…
وأرود روض الحسن غير مقيد
يا للهول! لكلما قرأت هذه القطعة سرت رعدة في مفاصلي، وقشعريرة في كياني، وأحسست أمامي بإنسان يعتصر نفسه قطرة قطرة في ألم مبرح كظيم. وهو مع هذا يقظ متنبه لكل وخزة لا ينسى أن صبوة الأمس كانت تخفي في طياتها ضراوة الذئب الصدى، وأنها كانت تفعمه متعة، لتفعمه بعد ذلك ألماً منشؤه هذه المتعة ذاتها لا سواها
وفي يقيني أن هذا أفجع موقف مر بالشاعر، وقد لقي أياماً كثيرة من أيام الظنون، ولكنها ليست من هذا النوع المسموم؛ وما كان ليستطيع بعده أن يفارقه، وما كان قلبه ليصلح أن يوغل في الحب هذا الإيغال، وأن يأخذه بهذا الجد الصارم الذي يجعل الشك فيه دامياً تنضح منه النفس قطرات
وقد عاد إلى الحديث عن هذه (الظنون) في قطعة (الحب المريب) من الوزن والقافية والشعور! فكشف عن حالة نفسية فريدة، صور فيها كيف يحيل الشك متعة اللقاء إلى جحيم لا يعد له جحيم الفقدان، وكيف يقيم الحواجز والأبعاد بين أقرب قريبين في الوجود:
إني لفي ألمي بقربك كالذي
…
يحنو على ولد مريب المولد
أبدا يغص بقربه ويبعده
…
ما بين عطف أب وجفوة مبعد
وأراك طوع يدي وألبث حائرا
…
بين المحاذر منك والمتودد
أرضى وأغضب، لا الرضا ببالغ
…
أمن اليقين ولا الغضاب بمهتد
وأظل أسخر من رضاي وغبطتي
…
وأظل أسخر من عذابي الأنكد
وأشد من برح اللقاء بلية
…
تأبى الشقاء عليك غير مفند
يا هذه الدنيا أيندم باذل
…
يعطي القنوط ندامة المتردد؟
جودي علي بشقوة لم ترجعي
…
فيها على ندم إذا لم تسعدي!
ونستعير هنا من حديث العقاد عن (همام) في (سارة) ما نستعين به على شرح هذه الحالة التي صورها في نفس صاحبه أبدع تصوير:
(كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة. كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا؛ ولا يزال ينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار؛ وكثيراً ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة، في مداعبة الفريسة قبل التهامها؛ فينفرج وينفرج وينفرج، حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض، ولا مكان للتحول والانحراف: بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام، فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.
(وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذباً عنيفاً بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة ولا إلى الاتهام. . . بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام، فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب؛ وهكذا إلى غير نهاية، والى غير راحة ولا استقرار)
حتى إذا انتهى من الظن إلى (اليقين) كان يقيناً قاتلاً دامياً كالظنون!. وهي كذلك حالة فريدة من الحالات النفسية التي تجيش بها نفس العقاد الخاصة:
مضى الشك مذموماً وما كان ماضيا
…
فليتك تمسي عن يقينك راضيا
وجل عن التصديق أنك هاجر
…
وأنك مهجور وأن لا تلاقيا
فلله ماذا حل بالقلب فارغوي
…
وآمنت بالحق الذي كنت آبيا
وأمسيت تدري أن للود غاية
…
وأن زماناً سوف يلقاك خاليا
وعشت ترى حبا كحبك ينقض
…
وما خلته إلا يد الدهر باقيا
مضى غير مردود كأنك لم تكن
…
بعينيك ترعاه وبالنفس فاديا
ألا لا تذكرني بصدق وددته
…
على جنبات الغيب ما زال خافيا
ألا لا تذكرني يقيناً شريته
…
بأنفس ما يغلو به الشك شاربا
لكذبتُ صدق الهجر لو أن موطناً
…
من الشك يوماً لم أثب منه خاويا
سل الصبح كم ماريتهُ كلما بدا
…
ولم يبد فيه ذلك الوجه حاليا
سل الليل كم جافيتهُ كلما سجا
…
ولم أرتقب فيه الحبيب الموافيا
سل النيل كم أنكرته كلما جرى
…
ولم ألق فيه ذلك الحسن جاريا
سل الدار كم ناشدتها القرب راجيا
…
وأرهفت في أنحائها السمع صاغيا
ويخدعني ما اعتدت من طول قربه
…
فأحسبه عندي وقد بات نائيا
يريب فمي صمتي لياليَ لا يرى
…
على خده منه نجيا مناغيا
وتنكرني كفي ليالي لا ترى
…
على خصره منها نطاقا مدانيا
وتطلبه مني جفون تعودت
…
على البعد أن تلقاه في الحي آتيا
ويسألنيه كل يوم وليلة
…
فؤاد يراه حيثما كان رائيا
وأين؟ ولو أني قدرتُ لما غدا
…
به القلب ملتاعاً ولا الجفن شاكيا
وكيف بالنسيان الأليف الذي به
…
تذكره الدنيا إذا راح ناسيا
تفقده في كل شيء فما انثنى
…
فآمن بعد اليأس بالبين عانيا
سل الروض مطلولا. سل القفر صاديا
…
سل النجم لماعا. سل البدر ساريا
فإنك تدري كيف صدقت باسما
…
إذا بت تدري كيف كذبت باكيا
وإنك لا تخشى ردى الموت بعض ما
…
خشيت ردى الحق الذي لاح هاديا
وهكذا سار إلى اليقين، بعد ما طرق كل باب من أبواب الشك، فعاد منه خاويا، ولم يصر إليه مع هذا في سهولة ويسر، ولكنه أنكر الدنيا ومعالمها، وأنكرته نفسه وجوارحه. ولولا إرادة من حديد، ما ثاب إلى هذا اليقين الأليم.
علام تدل هذه الصورة النفسية الفريدة؟
إنها دليل الثروة في الأحاسيس، والانفساح في الشعور، ومظهر الحياة النفسية المهيأة للتأثر، القابلة للصوغ والإنشاء.
وهذا وذلك من ميزات المدرسة الحديثة، التي تخلص للحياة والإحساس بها، لا للأوراق وما حفظته منها
وفي ماضي الأدب العربي كله وحاضرة كذلك، لا تجد نظيرا لهذه الصور النفسية، مع شيوع الأحاسيس التي تستدعيها في كل حب قديم أو حديث
إنما هي النفس المهيأة، والطبيعة الخصبة، لا الحادثة التي تخلق القول أو الإحساس
(حلوان)
سيد قطب
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 39 -
(أشكر للأديب الفاضل - عبد القادر جنيدي بحمص - رأيه في هذه الفصول التي أكتبها من تاريخ المرحوم الرافعي؛ كما أشكر لغيره من الأصدقاء الكرام الذين رأوا في هذه الفصول ما يحملهم على الحديث عنها في صحف مصر والأقطار العربية ناقدين أو معجبين أو معقبين. . .
(على أن اعتراض صديقنا الأديب (جنيدي) على السبب الذي نسبنا إليه مقالات (الانتحار) لا يغير شيئاً من حقيقة ما كتبت؛ فإن سببها هو الذي ذكرت فيما سبق؛ أما الرسالة التي يقول الأديب الفاضل إنها وردت إلى المرحوم الرافعي من حمص وأشار إليها في الاستطراد المنشور بذيل كلمته المنشور في العدد 95 فقد جاءته اتفاقاً في الوقت الذي كان يتهيأ فيه لكتابة مقالات الانتحار لسبب سابق، وأحسب الرافعي قد حرص على الإشارة إلى هذه الرسالة في ذيل كلامه ليصرف ظن بعض القراء عن صديقنا الأستاذ (م) الذي كان نبأ شروعه في الانتحار بين الذيوع والكتمان، حتى لا يؤذيه في وقت هو مسئول فيه أن يخفف عنه، إذ كانت نزوة يحرص على كتمان خبرها. وما تزال رسالة الرافعي إلى صديقه (م) محفوظة لديه ذلك، وعلى هامش هذا الجواب إشارات بقلم الرافعي إلى جمل وعبارات من هذا الجواب نقلها الرافعي بنصها في الجزء الرابع من مقالات الانتحار؛ وكان الأستاذ (م) قد اشترط على الرافعي حين كتب إليه جوابه أن يرده إليه بعد أن يقرأه لأن فيه بعض سره، فوفى له الرافعي بما شرط، فاجتمعت - بذلك - الرسالة وجوابها عند الأستاذ (م) عافاه الله وفسح له!)
(م. سعيد)
المشكلة
استملى الرافعي موضوع (المشكلة) من رسائل قرائه إليه وصاحب هذه المشكلة هو صديقنا الأستاذ كامل. . . وهي كانت أول صلته بالمرحوم الرافعي ولم يكن لقيه من قبل؛ ولقد كانت قبل أن يكتب إليه مشكلة اثنين: هو وهي؛ فصارت من بعد مشكلتهما ومشكلة الرافعي معهما إذ لم يجد لها حلا. ولقد شغلته هذه المشكلة زمناً غير قصير، ثم اتصل بموضوعها عن كثب حين اتصلت أسبابها بصاحبها وصاحبته. وقد كتب الرافعي ما كتب في هذا الموضوع، ثم مضى وخلف دنياه وما تزال هذه المشكلة قائمة تنشد من يحل عقدتها. . .
كان ذلك في الخريف من سنة 1935 حتى جمعتني ظروف العمل بصديقي الأستاذ كامل في إحدى مدارس القاهرة؛ ولم يمض على تعارفنا أيام حتى استودعني كل السر. . .
. . . فقد أمه وهو غلام، فلم يلبث غير قليل حتى حلت غيرها محلها في بيت أبيه. وكان أكبر ثلاثة أخوة، فاقتضاه حق أخويه عليه أن يستشعر معاني الرجولة وما يزال في باكر الشباب. ورأى أبوه أن عليه شيئاً لهذا الرجل الصغير فسمَّى عليه بنت خاله قبل أن يدرك؛ ورأت تقاليد الريف الذي نشأ فيه أن عليها دوراً في هذه القصة فحجبت الفتاة عن خطيبها ولما تبلغ التاسعة وأغلقت دونهما الباب. . . ومضت سنوات وسنوات وسنوات وهو لا يراها ولا تراه، وفرغ من حسابها بينه وبين نفسه، ثم نسى ما كان وما ينبغي أن يكون؛ وكان يبغضها بغض الطفل والطفلة، فلما باعدت بينهما السنون انقطعت بينهما أسباب الكره والمحبة فلا يذكرها ولا يذكر شيئاً من خبرها. . .
وانتهى الفتى إلى مدرسته العالية وابتعد عن أعين الحراس والرقباء في القرية، فمضى على وجهة في القاهرة العظيمة يلتمس لذات الشباب. . .
وكان له فكر وفلسفة، وفيه خلق ودين ومروءة، وبين جنبيه قلب يحس ويشعر ويتأمل؛ وعلى أنه كان يهيئ نفسه ليكون من أساتذة (العلوم) فإنه كان ولوعاً بالأدب مشغوفاً بمطالعته، فكان له من ذلك روح وعاطفة ورقة؛ وكان في دمه ثورة وغليان، وكان في عقله مثال يريد أن يحققه، وكان في رأسه شِعر يحتاج إلى بيان؛ وكان له من كل أولئك قلب يتحفز لوثبة من وثبات الشباب في قصة حب؛ ثم لم يلبث أن اشتبك في الملحمة. . .
وأحبها وأحبته فما كان له من دنياه إلا الساعة التي يلتقيان فيها، وما كان لها. .
وأجمع أمره على أن يتزوجها لينعما بالحب ويحققا المثل الذي ينشدانه من زمان؛ وكان قد مضى على الباب المغلق بينه وبين الفتاة المسماة عليه بضع عشرة سنة. . فما يذكرها ولا يفكر فيها. . وكان نائما يحلم حين ترامى الخبر إلى أبيه بما أجمع أمره عليه، فما وجد أبوه وسيلة إلا بتعجيل زفافه إلى بنت خاله وفاء بوعد مضى في ذمة التاريخ. . .!
غضب الفتى واحتج وثارت كبرياؤه ورجولته أن ينزل على رأي أبيه في شأن هو من خاصة شئونه؛ ولكن الكثرة من أعمامه وأخواله قد أرغمته على إرادته، وساقته في عماية إلى دار خاله ليزف على عروسه ثم يصحبها في السيارة من ليلته مرغما إلى بيته في القاهرة. . . وابتدأت المشكلة. . .
. . . هذه الفتاة هي بنت خاله، وهي زوجه أمام الله والناس، ولكنه لا يحبها؛ ولكنه لا يطيق أن ينظر إليها؛ ولكن فتاة أخرى تنتظر؛ وأن عليه واجبا تحتمه عليه رجولته. . .
وما أطاق أن يمنحها نظرة أو يبادلها كلمة على طول الطريق حتى بلغت السيارة بهما الدار في القاهرة. . . كانت إلى جانبه ولكنه هناك، عند صاحبته التي فتنته واستولت عليه؛ فما نظر إلى وجه زوجه لأول مرة منذ بضع عشرة سنة إلا حين همت أن تنزل من السيارة لتدخل داره. . .
وكان حريا أن تثوب إليه نفسه حين نظر إليها فيعود إلى الحقيقة التي كتب عليه القدر أن يعيش فيها، ولكنه لم يفعل، وما رأى زوجته حينئذ إلا سجانه الذي يحرمه أن يستمتع بالحرية التي وهبها له الله يوم وهب له الحياة، وتأرَّثت في نفسه البغضاء من يومئذ لهذه المسكينة. . .!
وعاشت في بيته بضعة أشهر كما يعيش الضيف: لا يقاسمها الفراش، ولا يؤاكلها على المائدة، ولا يؤنسها من وحشتها بكلمة. . . فما تراه ولا يراها إلا في الصباح حين يخرج إلى عمله، وفي المساء حين يعود إلى داره قبيل منتصف الليل، وما كان بينهما من صلة تجمعهما إلا البغضاء التي تؤج في صدره، والحسرة التي تتسايل دموعا من عينيها، وإلا هذه الخادم التي تقوم لسيدها بشئونه وتقوم لها. . .
ولم يفتر صاحبنا عن لقاء صاحبته والاختلاف إلى ملتقاهما؛ على أن ذلك لم يزده إلا ولوعاً بحبيبته وتبرما بزوجته. . .
ومضت الأيام تباعد من ناحية لتقرب من ناحية، حتى جاء اليوم الذي وجد صاحبنا فيه أنه غير قادر على احتمال هذه الحياة أكثر مما احتمل. . . فمضى يدبر أمرا للخلاص من هذه المشكلة، ولكن المشكلة زادت تعقيداً على الأيام ولم يجد وسيلة إلى الحل. . .!
كان كل طريق يفكر فيه للخلاص محفوفاً بأشواك؛ فلا هو يرضى أن يطلق زوجه، ولا هو يطيق أن يهجر حبيبته، وليس في استطاعته أن يجمع على نفسه همين؛ وكان تفكيره في ذلك هماً ثالثاً يضنيه وينهك أعصابه ويعرق عظامه!
وكتب إلى الرافعي يستفتيه في مشكلته. . .
كنت مع كامل حين كتب قصته إلى الرافعي؛ وفي مساء اليوم التالي كنت في مجلس الرافعي بطنطا وبين يديه قصة صاحب المشكلة لم يفض غلافها بعد. . .
وقرأ الرافعي الرسالة ثم دفعها إليَّ وهو يقول:
(ماذا ترى حلَّ هذه المشكلة؟)
قلت: (لقد جهدت جهدي قبل اليوم فما أفلحت!)
قال: (أو تعرف صاحب المشكلة إذن. . .؟)
قلت: (نعم، وما كتب إليك هذه الرسالة إلا برأيي)
وأطرق الرافعي هنيهة يفكر وفمه إلى الكركرة (الشيشة) كما هي عادته حين يستغرقه الفكر، ثم رفع رأسه إلى قائلا:(تعرف؟ إن صاحبك لمفتون بصاحبته إلى درجة الحمق والسفه، وما تنحل هذه المشكلة إلا أن يكون له مع نفسه إرادة صارمة، وأن يكون له سلطان على هواه، وهيهات أن يكون له! فما هنا إلا وسيلة واحدة ترده إلى رشاده فتنحل المشكلة. . .)
قلت: (فما هذه الوسيلة؟)
قال: (أن تدخل بينه وبين صاحبته دخول الشيطان فتفرق بينهما. . . أتراك تستطيع؟)
فضحكت وقلت: (ثم ماذا؟)
قال: (فإذا بدا له من سيئاتها ما ينكر، وإذا بدا لها. . . انتهى ما بينهما إلى القطيعة فيعود إلى زوجه نادماً، وإن مرور الأيام لخليق أن يؤلف بينهما من بعد!)
قلت: (فهمت، ولكن ماذا تراني أقول حتى أبلغ من نفسه ومن نفسها ما تريد؟ وهبني
عرفتُ أن أقول له فمن أين لي أن أستطيع لقاءها فأتحدث إليها؟)
قال: (اسمع: أتراها تقرأ؟)
قلت: (إنني لأعرف مما حدثني عنها أنها قارئة أدبية، وأنها من قراء الرسالة، وقد كان فيما أهدى إليها كتاب (أوراق الورد) وأحسبها تنتظر ما تكتب في هذه المشكلة؛ فقد حدَّثها صاحبها أنه كتب إليك. . .)
قال: (حسن! فسأجرب أن أكون شيطاناً بينهما، بل ملَكا يحاول أن يرد الزوج الآبق إلى زوجته بوسيلة شيطانية. .!)
وكتب الرافعي المقالة الأولى من مقالات المشكلة، وكان مدار القول فيها أن يتنقص صاحبَ المشكلة ويعيبه وينسب إليه ما ليس فيه مما ينزل بقدره عند صاحبته، ثم نشر أجزاء من رسالته إليه ودس فيها ما دس مما يوهمها أن صاحبها هو كاتبه؛ وإن فيه لما يعيبها وبثلبها ويضعها بازاء صاحبها موضعاً لا ترضاه. فلما فرغ مما أراد جعل حديثه إلى القراء يسألهم أن يشاركوه في الرأي ويحكموا حكمهم على الفتى وفتاته بعد ما جهد في تصويرهما في الصورة التي أراد أن يكون عليها الحكم في محكمة الرأي العام، وترك الباب مفتوحاً لترى صاحبة المشكلة رأيها في القضية فيمن يرى من القراء. . .
ولقيت صاحب المشكلة من الغد، فسألني:(هل رأيت الرافعي؟)
قلت: (نعم!)
قال: (ورسالتي إليه!)
قلت: (بلغته!)
قال: (وماذا يرى؟)
قلت: (ستقرأ رأيه في الرسالة بعد أيام!)
وأخفيت عنه ما كان بيني وبين الرافعي من حديث وما دبّر من خطة. . . ونشرت المقالة الأولى من (المشكلة)، ومضى يوم، وجاء صاحبي غاضباً يقول:(كيف صنع الرافعي هذا؟) لقد نحلني من القول ما لم أقل. أتراني قلت عنها كما يزعم: لقد خلطتني بنفسها حتى لو شئت أن أصل إليها في حرام وصلت. . .! لقد ساءها ما نحلني الرافعي من الكلام، وقد تركتها الليلة غاضبة لا سبيل إلى رضاها. . .!)
وتحقق للرافعي بعض ما أراد، وانثالت عليه رسائل القراء يرون رأيهم في هذه المشكلة، وجاء في ما جاء من الرسائل، رسالة من صاحبة المشكلة نفسها. . .
وفعل برسالة صاحبة المشكلة ما فعل برسالة صاحبها، ولكنه تلقاها تلقَّياً حسنا، ومضى يتحدث عنها حديثا ليس فيه من رأيها ولا مما تقصد إليه، ولكنه إيحاء، إيحاء إلى الفتاة بأنها في مرتبة أعلى، وأن ما بها ليس حبا وإن زعمت لنفسها هذا الرأي؛ ولكنه شيء يشبه أن يكون صورة عقلية لخيال بعيد تظنه من صور الحب وما هو به. . . ثم مضى يفسح لها الطريق للفرار من هذه المشكلة بالإيحاء والإغراء والحيلة. . .
وكانت المقالات الثلاث الأخيرة تعليقا على آراء القراء وسخرية ونصيحة.
وفرغ الرافعي من مقالات المشكلة فما هو إلا أن تلاشى الصدى حتى عاد فلان وعادت فلانه، وما تزال المشكلة تطلب من يحلها. ومضت ثلاث سنين وفي الأتون ثلاثة قلوب تحترق. . . وعلى مقربة من النار صبي يحبو ينادي أباه، وأبوه في غفلة الهوى والشباب. أترى إلى هذه المشكلة وقد دخل فيها عضو جديد قد أوشكت أن تبلغ نهايتها، فيكون حلُّها على يدي هذا الصغير وقد عجز الكبار عن حلها بعد مجاهدة سنوات ثلاث، أم هو قلب رابع سينضم إلى القلوب المحترقة في أنون الشهوات. . .!
ومعذرة إلى صديقي الأستاذ كامل. . .!
(شبرا)
محمد سعيد العريان
حول تيسير القواعد العربية
للآنسة أمينة شاكر فهمي
سيدي الأستاذ صاحب (الرسالة):
تحية وسلاماً. أما بعد فلقد تتبعت بشغف واهتمام مقالات الأستاذ الفاضل (أزهري) عن تيسير قواعد الإعراب إلى أن تم بحثه من عملية التيسير والتغيير، فدهشت جداً لما جاء في مقاله الأخير من تطبيق؛ وما كنت أظن أن موجة التبديل والتحوير تطفو يوماً على اللغة وتمسخها بهذا الشكل الذي ينكره كل مخلص للعربية. فمهما فشت عملية التمدين والتقليد فلا ينبغي أن تمس اللغة التي هي فوق كل المشكلات الاجتماعية والحزبية والعلمية أيضاً. إن لدينا مشاكل عدة أحوج إلى الإصلاح والتيسير من لغتنا المقدسة
نعم إننا نعيش في عصر السرعة التي وفدت إلينا من أمريكا، ولكن غريب أن تطغي السرعة على قواعد اللغة والإعراب فتختصره بهذه الصورة المدهشة التي يقدمها الأستاذ أزهري في بحثه الأخير. فقد اختصر الإعراب وحذف منه حتى كدت لا أتعرفه، وخيل إلي أنني أقرأ لغة أجنبية
غريب أن يتأثر الأزهريون بحياة السرعة الأجنبية فيستعملوها حتى في اللغة وهم حماتها من كل اعتداء. وإني أرجو سيدي الفاضل صاحب (الرسالة) أن يأذن لي بنشر ملحوظتي هذه ربما كان بها شيء من الصحة
لست أدري سبباً لكل هذه الضجة الهائلة على قواعد الإعراب واللغة ومحاولة تيسيرها، وليست اللغة بحاجة إلى تيسير، وإنما التيسير لازم للأسلوب الذي تلقن به اللغة للنشء والكيفية التي تقدم بها إلى التلاميذ. فلا داعي لأن تقوم جماعة الأدب الرسمي بإبدال وتغيير وتحوير وحذف هو أقرب إلى التعقيد منه إلى التيسير، فتضيع معاني الجمل، ويستحيل على التلميذ تفهمها إلا إذا حفظها حفظاً. والإعراب لا يحفظ، بل هو تحليل معنوي للجمل والكلمات.
وكأن اللغة لم يكفها ما نالها من جماعة الأدب الرسمي حتى جاءت الآنسة ابنة الشاطئ تملأ صفحات الأهرام بدفاع عن كل ما تجريه الجامعة من تغيير في اللغة سواء أكان ذلك حقاً أم باطلاً. وفي رأيي أن الفلاح وقضيته أحوج إلى دفاع الآنسة الفاضلة من اللغة
وأخيراً جاء الأستاذ الفاضل (أزهري) يبحث في تيسير قواعد الإعراب ويتحفنا بدراسات تكاد تكون قيمة لو لم يناقض نفسه بنفسه ويزيد في تعقيد الإعراب، ثم يأتي بتطبيق غريب لا يتفق وقواعد اللغة. فكيف نعلم التلميذ إعراباً مخالفاً لما حفظناه من قواعد؟ وهل تغير كل قواعد اللغة كي تطابق الإعراب الحديث؟
يقول الأستاذ في مقاله الرابع: (إن الحرف لا حظ له من الإعراب أصلا). ثم يعرب (في، ومن، والباء) بأنها حروف جر مجزومة بالسكون أو مجرورة بالكسرة. ولفظة مجرور ومجزوم لا تستعمل إلا للألفاظ المعربة. والحروف كلها مبنية، فكيف نعلم التلميذ أن الحروف كلها مبنية ثم نقول له إن (في) حرف ولكنه حرف مجزوم؟! ثم ما هي العوامل التي جزمت أو جرت (في، ومن، والباء؟) هل سبقت بحرف جر أو جزم؟ أم كان موقعها في الجملة دافعاً لجرها وجزمها، مع العلم أن حروف الجر لا محل لها من الإعراب؟!
فكيف يتسر للطالب فهم هذه المتناقضات؟ وما المانع من أن نلقنه إعراباً مطابقاً لما جاء في كتب القواعد - من أن الحروف كلها مبنية، وأن (في) حرف جر مبني على السكون - كي تطبق القاعدة على الإعراب؟ وإلا وجب أن نغير القاعدة فنقول إن الحروف معربة وإنها تجزم وتجر وتنصب وترفع حسب موقعها في الجملة وما يتقدمها من عوامل؟! وفي هذا من الشذوذ والاضطراب مالا حد له
يقول حضرة الأستاذ في التطبيق الأول:
ألا إن قلبي لدى الظاعنين
…
حزين فمن ذا يعزي الحزينا؟
(قلبي) مبتدأ منصوب. وباب المرفوع في كتاب النحو يثبت أن المرفوع من الأسماء المبتدأ والخبر واسم كان وخبر إن. . . الخ. فكيف يفهم الناشئ وقد حفَّظناه أن المبتدأ دائماً مرفوع - ثم نعلمه إعراب مبتدأ منصوب؟ فمتى يكون المبتدأ منصوباً ومتى يكون مرفوعاً؟ وهل نترك التلميذ المسكين يتخبط في هذه الظلمات أم نخترع له قاعدة جديدة تفهمه الحالات التي يكون المبتدأ فيها مرفوعاً أو منصوباً، وربما يكون مجروراً أيضاً؟ ثم نحذف القاعدة العتيقة التي تنص على أن المبتدأ يجب دائماً أن يكون مرفوعاً ونستبدل بها قاعدة (مودرن). وما الدافع يا ترى - وقد غرسنا في أذهان الطلبة أن إن وأخواتها تنصب الاسم - أن نحذف هذه القاعدة. فبدل أن نعلمهم إعراب (قلبي) اسم إن منصوب لأن القاعدة تنص على أن اسم
إن وأخواتها دائماً منصوب - إذ نقول إنه مبتدأ منصوب وقد حفظ التلميذ أن لفظة (مبتدأ) لا يليها إلا كلمة (مرفوع) ولفظة (اسم إن) لا يليها إلا كلمة (منصوب)؟!
وليسمح لي سيدي الأستاذ الفاضل أن أقول إنه أسرف في اختصار الإعراب إلى درجة التشويه والتعقيد. فإن هذا الاختصار لا ييسر الإعراب بل يزيد في اضطراب التلميذ وتعقيد المعنى عليه. ففي اختصار إعراب (إن) وحذف ذكر عملها ينسى التلميذ أن الاسم الذي يليها يجب أن يكون منصوباً. ولا بد أن يستفيد التلميذ من تكرار ذكر هذه القواعد أثناء الإعراب فترسخ في ذهنه. وفي الإعادة إفادة.
ثم ما رأي الأستاذ في الضمائر؟ هل من رأيه أن نحذف لفظة (ضمير) من اللغة؟ فما باله يختصر إعراب الياء في (قلبي)؟ فهل يرهق التلميذ أن يقول ياء المتكلم ضمير متصل - لأن في اللغة ضمائر منفصلة - مبني على السكون - لأن كل الضمائر مبنية - في محل. . . فيطبق ما حفظ من قواعد على الإعراب.
أما (الظاعنين) فيجب على التلميذ أن يذكر أن علامة الجر هي الياء لأنه جمع مذكر سالم، إذ من الضروري تعليل كل حركة كي يطبق القاعدة على الإعراب وتثبت في ذهنه. أما إن اقتصر على أن (الظاعنين) مجرور بالياء فربما استغلق عليه المعنى وظن أن كل ياء علامة جر. وليس بمستبعد أن يظن أن ياء (غَنِيّ) علامة جر. وأذكر مرة إعراب تلميذ كلمة (لسان) إذ قال اللام حرف جر وسان مجرور باللام!
ويترك الأستاذ النون معلقة في الهواء. فكيف تنتظر أن يعرف التلميذ شيئاً عنها؟ ثم نشكو اللغة وصعوبتها ونعيب ما بها من تعقيد.
وأخشى أن تضيق صفحات الرسالة عن التحدث عن باقي التطبيق. وأكتفي بذكر فعل (ساد) في التطبيق الثاني للأستاذ (أزهري) إذ يقول إنه فعل ماض منصوب. والفعل الماضي دائماً مبني ولفظة منصوب لا تطلق إلا على المعرب من الأفعال وغيرها. فما هو الضرر من القول إنه فعل ماض مبني على الفتح؟
فإن كان قصد حضرات علماء اللغة من تيسير القواعد والإعراب هو اختصار الإعراب فإني أرى هذا الاختصار يزيد في ارتباك التلميذ. وأؤكد هذا بعد تجارب عدة قمت بها في تدريس القواعد والإعراب سنين عدة. ولقد نجحت في تدريس القواعد والإعراب بالتطويل
وتعليل وتحليل كل حركة وكل شاذة عن القاعدة. وكانت حصة القواعد أقرب إلى حصة إثبات وتعليل وبحث وتطبيق منها إلى حصة دروس نحوية جافة.
إن ضعف الطلبة في اللغة العربية لم ينتج عن عيب في اللغة أو تعقيدها، بل ليسمح لي حضرات علماء اللغة أن أصرح أنه ناتج عن فساد طريقة التعليم، وأن مدرسي اللغة أحق بالعناية والتيسير من اللغة. ولله در من قال:
نعيب زماننا والعيب فينا. . .
وإنني واثقة أنه لو وجه حضرات المشتغلين بالتيسير اهتمامهم إلى مدرسي اللغة في كل المدارس وحاولوا أن تكون طريقة إلقاء الدروس النحوية والتطبيق على أسلوب التحليل والتعليل بسهولة وسلاسة لزال كل ما يشكو منه الطلبة من صعوبات وسلمت اللغة من خطى عملية التيسير.
وخير لنا ألا نستعمل السرعة الأمريكية في تغيير قواعد اللغة والإعراب، فإن هذا عمل أخطر من أن يتم في هذه المدة الوجيزة وبهذه السرعة.
فنحن مسئولون أمام العالم الشرقي كله عن كل حرف يحذف أو يضاف إلى اللغة، وعن كل تغيير في كتب القواعد التي تثبت أجيالاً مضت ولم نثبت بعد خطأها ولم نأت بأحسن منها.
أمينة شاكر فهمي
تاريخ الحياة العلمية
في جامع النجف الأشرف
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
(تابع)
وتدل الآثار أنه كان في عهد عضد الدولة حول القبر الشريف العلوي مدرسة إسلامية فيها الفقهاء والقراء يتعاهدها بخيراته ذلك الملك العمراني المحب للعلم وأهله
ففي فرحة الغري عن يحيى بن عليان الخازن بالقبر الكريم أنه وجد بخط ابن البرسي المجاور بمشهد الغري على ظهر كتاب بخطه: قال توجه عضد الدولة عام 371هـ إلى المشهد الشريف الغروي وزار الحرم المقدس فكان مما فرقه ألف درهم على الناحية (الذين ينوحون على الحسين) وثلاثة آلاف درهم على الفقراء والفقهاء. وروى ابن مسكويه في تجارب الأمم (ص407ج6) وابن الأثير (ص234ج8) أنه في عام 369 أطلق عضد الدولة الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالغري وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرت لهم الأقوات
وفي أثناء عهد عمارة عضد الدولة حصل حادث مهم في تاريخ جامع النجف الأشرف كان له الأثر الفعال في تمركز التدريس فيه، فقد هاجر إلى الغرب العلامة شيخ الطائفة محمد أبو جعفر الطوسي فأقام نهضة علمية كبرى ونظم الحركة الفكرية وقواها ورفع منار الثقافة الإسلامية فأم النجف الأشرف من سائر أقطار الشيعة جمع غفير ليرتشفوا أفاويق العلم، وقد صارت في ذلك اليوم مركزاً مهما من مراكز العلوم الإسلامية الكبرى وأنشئت فيها المدارس الكثيرة والمكتبات من قلب سلاطين الشيعة ووزرائهم وأهل الثروة والعلماء أنفسهم
قدم الطوسي عام 408 فدرس على الشيخ المفيد ببغداد مدة حياته وبعد موته على السيد المرتضى صاحب الأمالي، وكان السيد يجري عليه شهرياً اثني عشر ديناراً كما يجري على تلامذته كل سنة. ولقد عظمت منزلته أخيراً وأصبحت له مكانة علمية أقبلت عليه طلاب العلم. حدث في (روضات الجنات) ورجال المامقاني أن فضلاء تلاميذه الذين كانوا
من المجتهدين يزيدون على ثلاثمائة فاضل من الشيعة، أما من أهل السنة فما لا يحصى، وأن الخلفاء العباسيين في بغداد أعطوه كرسي الكلام، وكان ذلك لمن كان وحيداً في ذلك العصر. وكانوا مبالغين في تعظيم العلماء لا فرق لديهم بين المذاهب الإسلامية، ولكن الوشايات أخذت تدب حول هذا العلم حتى اضطرته أخيراً أن يغادر الزوراء ويشد الرحال إلى جوار ابن عم الرسول وهناك يقيم دعائم مدرسته. حكى القاضي في مجالسه عن ابن كثير الشامي أن الطوسي كان فقيه الشيعة مشتغلا بالإفادة في بغداد إلى أن وقعت الفتنة بين الشيعة والسنة (وهذه الفتن الداخلية هي التي خضدت شوكة الإسلام حتى انهار مجده) سنة 448هـ. واحترقت كتبه وداره في باب الكرخ فانتقل من بغداد إلى النجف وبقي هناك إلى أن توفي سنة 460هـ. وأضاف في الروضات احتراق كرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام. وحكى جماعة أنه وشى بالشيخ إلى الخليفة العباسي فاستدعاه؛ غير أن الطوسي استطاع أن يزيل ما علق بخاطره فرفع شأنه وانتقم من الساعي وأهانه. وقال ابن الأثير (ج 9 ص 222) وفي سنة 449 نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ وهو فقيه الأمامية وأخذ ما فيها وكان قد فارقها إلى المشهد الغروي. هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف وسكنها وبقي يدرس اثنتي عشرة سنة، وألف كتباً قيمة في التشريع الإسلامي لم تزل مراجع؛ للعلماء فمنها (تهذيب الأحكام) و (كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) و (المبسوط) و (الفهرست) و (ما يعلل ومالا يعلل) و (المجالس) الخ. ثم بقي تلامذته بعد وفاته عند مرقد الإمام واستمر التدريس والمهاجرة إلى المعهد العلمي النجفي حتى ظهر في الحلة المحقق الأول صاحب شرائع الإسلام (المتوفى عام 676) فاتجه رواد العلم إليه وقامت حركة فكرية قوية فيها فيما بعد، من أقطابها تلميذه العلامة الحلي صاحب المؤلفات القيمة الكثيرة في الفقه وأصوله والكلام وغير ذلك وفي أثناء ازدهار الحركة العلمية في الحلة لم تضمحل في جارتها النجف، فهذا الشيخ الرضي كما قال السيوطي في بغية الوعاة (ص 24) هو الأمام المشهور صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل. وقد أكب الناس عليه وتداولوه واعتمده شيوخ هذا العصر فمن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم، وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختبارات جمة ومذاهب، ينفرد بها وله أيضاً شرح الشافية في الصرف. قال في
(الروضات) توطن الشيخ الرضي بأرض النجف الأشرف وصنف شرحه المشهور على الكافية في تلك البقعة المباركة، وذكر في خطبته أن كل ما وجد فيه من شيء لطيف وتحقيق شريف فهو من بركات تلك الحضرة المقدسة، توفى عام 686 انتهى. وقد نقل لي بعض الفضلاء أن الرضي ألف شرحه في مكتبة الأمام (ع) التي في الصحن الشريف وأنها كانت مكتبة عظيمة وحتى الآن لا تزال بقاياها تحوي نفائس الكتب، من جملتها قرآن بالخط الكوفي كتب عليه أنه بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومن ضمنها كتب علمية وأدبية نادرة قديمة الخطوط جداً، ويوجد فيها شرح الدريدية لأبن خالويه بخطه؛ ولكن لا ينتفع اليوم بنفائس هذا الكنز لأنه مقبور بالإهمال؛ وكان على مديرية الأوقاف العراقية أن تعهد بهذه المكتبة إلى رجل ضليع لينظمها ويعرضها لاستفادة رواد العلم وإلا فإن تبعثرها وضياعها واضمحلالها أقرب النتائج المترقبة وقد احترقت هذه المكتبة عام 755هـ وجددها جماعة من العلماء منهم ابن الآوي الذي كان صدراً للحكومة الأيلخانية وفخر المحققين ابن العلامة الحلي (كما أخبرني الأستاذ السمّاوي)
جدد تسعير بناية القبر عام 760هـ بعد احتراق عمارة عضد الدولة بعمارة رابعة ذكرها مؤلفون القرن الثامن الهجري مجهولا صاحبها يظن أنه من رجال الحكومة الأيلخانية، وقد أصلحها الشاه عباس الأول من أعظم ملوك إيران المتأخرين، وفي عهد هذه العمارة قويت الهجرة إلى جامع النجف الأشرف في عهد المقدس الأردبيلي (المتوفى عام 996هـ) وكان عالماً فاضلا مدققاً جليل القدر له عدة مؤلفات منها آيات الأحكام قد فسرها فيه وأرجح إليها قضايا الفقه، وله شرح الهبات التجريد وتعليقات على شرح المختصر للعضدي وشرح لإرشاد الأذهان في الفقه. وقد تولى الدرس في مدرسة الصحن الشريف، وكانت له حجرة فيه، هاجر إليه طلبة العلم وتخرج على يده جماعة من النوابغ منهم العلامة السيد محمد العاملي صاحب المدارك في الفقه وشرح القصائد العلويات السبع لأبن أبي الحديد في مدح الأمير (ع) وشرح الشواهد المدرجة في شرح بدر الدين لألفية أبيه ابن مالك وهو كتاب جليل مفعم بالفوائد غزير المادة الأدبية، وممن درس على الأردبيلي صاحب المعالم أحد الكتب المقرر تدريسها في جامع النجف الأشرف. ولنعد إلى بناية القبر الفخمة فإنها تضعضعت وحصلت صدوع في القبة المنورة بمرور العصور وتعاقب الأعوام، وأراد
الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول توسعة ساحة الصحن الضيقة فأمر بهدم بعض جوانبه وشيدت هذه العمارة الضخمة الباقية إلى اليوم وفي هذه العمارة كانت القبة الكريمة والإيوان والمئذنتان مبنية بالحجر القاشاني إلى عهد ملك إيران نادر شاه
أما هذا فقد نذر إذا فتح الهند أن يذهب قبر الأمام (ع). وكذلك لقد أمر عام 1155هـ بقلع الحجر القاشاني عن القبة المقدسة والمئذنتين والإيوان وتذهيبها، وبذل أموالا عظيمة فقام بالتذهيب أكثر من مائتي صائغ ونحاس قد جمعهم من سائر أقطار الأرض وفيهم الصبي والهندي والتركي والفارسي والعربي وقد طليت كل آجرة بمثقالين من الذهب الخالص على ما ذكر بعض الصاغة الذين تولوا إصلاح القبة أخيراً
وقد وضع في خزانة القبر الشريف تحفا جسيمة مما استلبه من ذخائر ملوك الهند، هذا فضلا عما أهدى إليها غيره من الملوك والأمراء المسلمين، ففيها من المجوهرات والنفائس مالا يثمن، وإن الأحجار الكريمة لا تعد ولا تحصى. أما القناديل الذهبية المرصعة والسجاد الفاخر الموشى بالذهب والستائر المنتظمة فيها الجواهر، الأمور التي تعز على - الملوك فهي أعلاق ونفائس تبهر العقول ولا يصدق اجتماعها في أعظم الكنوز
وإن بداعة الفن في البناية تبهر الأنظار وتخلب الأفكار بزخرفها وطلائها. وقد قال رحالة مصري: (وقبة القبر ومئذنتاه تكسى بالذهب الخالص في بريق خاطف. جزت الباب إلى الفناء السماوي المربع تطل عليه الحجرات المتجاورة ثم دخلت باب الضريح، وأنى لقلمي الكليل أن يصف إبداعه من نقوش وتطعيم بالذهب والفضة وزخرف بالبلور والزجاج والقيشاني ما فاق فيه جميع المساجد الأخرى) وإن هذه الحجرات كانت مساكن لطلبة العلم قبل أن تشاد المدارس العديدة
وعسانا نعود لدراسة النواحي الأخرى المهمة من جامع النجف الأشرف وحياته العلمية والأدبية
(العراق - النجف الأشرف)
ضياء الدين الدخيلي
بين اللغة والأدب والتاريخ
الفالوذج
للأستاذ محمد شوقي أمين
- 2 -
صلاحية معجزة بني. أخلاطه. شهرة النشا به. زعفرته. زبلته اللوزية. لونه. أكان يؤكل حاراً. وصفه بالترجرج. رقة جوانبه. أكان يؤتدم به.
وكما تمنى ذلك العربي، في ظرف وتملُّح، أن تكون صفة الفالوذج آية من الآي، وتنزيلا في التنزيل، بل موضع سجدة، ومحراب ضراعة؛ إغلاء بالوصف، وإعلاء لكلمة الموصوف: ترجِّي أخ له من بعد أن يكون الفالوذج معجزة نبوة، وبرهان رسالة، فإنه في حساب هذا العربي الفكه، لجدير أن تهفو إليه القلوب، وتجتمع عليه الإيرادات؛ وما هي إلا أن يؤمن الناس بمن يجيء بالفالوذج من عند الله: دليل إيحاء، ومظهر إعجاز. . . فقد ذكر أبو هلال أن إعرابِّياً سئل عن رأيه في الفالوذج، فقال: والله لو أن موسى أتى فرعون بفالوذج لآمن به، ولكنه أتاه بعصاه!
- 3 -
وأخلاط هذه الحلواء: لباب البر، ورضاب النحل، وخالص السمن وكان يضاف إلى هذه الأخلاط: النشا. ولعله لباب البر نفسه قال الأصمعي: النشا: شيء يعمل به الفالوذ، فانظر: كيف يذكر النشا بالفالوذج، وكيف صارت نسبته إليه تعريفاً به؟ وإنما جاء ذلك من بعد صيت الفالوذج، وذيوع صفته، ولن يُعرَّف شيء بآخر، حتى يكون الآخر أوسع شهرة، وأندى صوتاً. . .
وكان الزعفران كذلك من أدوات الفالوذج، فقد وصف رجل طعاماً أكله عند بعض الناس، فقال: أتانا بأرُزَّةٍ ملبونة، في الطبرزد مدفونة، وفالوذجة مزعفرة مسمونة. ولا أوقن: أكان يجعل فيه أم كان يصبغ به؟ فإن الكلام يحتمل أن تكون الزعفرة فيه التلوين، إلا أنه يجعل الزعفران فيه أولى، وبسياق الجملة أشكل. ففي الجملة: الملبونة وهي التي فيها اللبن، والمسمونة وهي التي فيها السمن. وقد يكون للزعفران في الفالوذج عملان معاً فهو مادة
فيه، وهو صبغة له وطِيب
ومما يؤيد أن الفالوذج كان يصبغ بالزعفران، وأن هذه الصبغة كانت من علامات التجوُّد فيه، وحسن الصنعة له؛ ما يؤثر من أن الكراريسي دعا أبا الحسن بن طباطبا، وقرب إليه مائدة، فخرج أبو الحسن ينظم قصيدة يذم فيها ما قدم له الكراريسي من ألوان الطعام، ويسمي كل واحد منها باسم يعيبه به، ويَزْري عليه؛ وكان مما أنكر من تلك الألوان الفالوذجة، لأنها كانت قليلة الزعفران والحلاوة؛ فسماها: صابونية، وبيتها في القصيدة:
وجام صابونية بعدها
…
فافخر بها إذ كانت الخاتمة
فلما بلغ الكراريسي شعر أبي الحسن، وعلم أنه في معشر يبتدرون أكله، ويتنقلون بذمه، حلف لا يُدخل أبا الحسن ولا أحداً من أصحابه داره، ولا يحضرهم طعامه!
وقد اتخذت للفالوذج فوق ذلك زينة مجلوبة، تمدُّ منظره بالبهاء والرونق، وتزيد في طعمه اللذاذة والسواغ، وهي: اللوز المقشور. فكان ينضد أنصافاً في جوانبه كاللؤلؤ، أو ينثر كالنوّار. فلما تواصف الأدباء هذه الحلواء المعجبة، تناولوا زينتها بالتشبيه الجميل. فقد نسب الحصريّ إلى أهل عصره جملة منثورة في وصفه هي:(كأن اللوز فيه كواكب در في سماء عقيق)
ولون الفالوذج كما يدل عليه ظاهر الصفة فيما سبق من النوادر: الحمرة، إذ كان العقيق أحمر تشبه به الأشياء في الاحمرار؛ غير أنه قيل لأعرابي: أتعرف الفالوذج؟ قال: نعم أصفر رعديد! ومفاد قولة الأعرابي الصفرة، على أنه قد يكون المراد منها: لون الورس والزعفران فإنه قيل فيهما: الأصفران. والورس: نبت يضرب من الاحمرار إلى الاصفرار ورَعْياً لهذا يسوغ لنا أن نقول: إن لون الفالوذج هو ما يكون بين الحمرة والصفرة ضارباً إلى هذه والى تلك؛ فهو اللون الورسي الزعفراني المقارب للعقيق، المشبه إياه في التوهج والبريق!
ولهذا شبهوا الفالوذج فيما وصفوه، بالشمس وهي متضيفة للغروب، حائلة اللون، بين الصفرة والحمرة؛ وقد ذكر الثعالبي أبياتاً لأبي الحسن الممشوق الشامي يصف جام فالوذج، منها:
فقد اغتدت في جامها وكأنها
…
شمس على بدر أوان المغرب
وتخال فيها اللوز وهو منصف
…
أنصاف درّ فوق صحن مُذْهب
ويجمل ألا نغفل هنا أن العقيق ليس مقصوراً على النوع الأحمر المتعارف، فمنه أصفر وأبيض، وربما كان الواصف في الكلمة التي نقلها الحصري أراد بالعقيق النوع الأصفر منه، إلا أنني لا أجد في نفسي ميلاً إلى وفاق هذا التخريج على سلامته، فالنوع الأحمر من العقيق هو مضرب المثل، وهدف الوصف، وهو مصرف الذهن إذا أطلق فلم يقيد بنوع خاص من أنواعه المختلفات.
ويشد عضد هذا أن الكلمة المنثورة التي نقلها الحصري تروي شطر بيت في قطعة للسري الرفاء، بعث بها إلى أبي بكر الخالدي، يصف جام الفالوذج ويشير إلى أن أبا بكر يقبل هذه الحلواء رشوة ينحاز بها إلى أحد الخصمين في الأقضية، قال السري:
إذا شئت أن تجتاح حقا بباطل
…
وتغرق خصما كان غير غريق
فسائل أبا بكر تجد منه سالكا
…
إلى ظلمات الجهل كل طريق
ولاطفه بالشهد المخَلَّق وجهه
…
وإن كان بالألطاف غير حقيق
بأحمر مبيض الزجاج كأنه
…
رداء عروس مشرب بخَلُوق
له في الحشا يرد الوصال وطيبه
…
وإن كان يلقاه بلون حريق
كأن بياض اللوز في جنباته
…
كواكب لاحت في سماء عقيق
فقوله: أحمر، وقوله كذلك: لون الحريق، وما تقدم من أن الزعفرة من عملها التلوين، يمنع كل المنع أن يكون المقصود من العقيق النوع الأصفر؛ ما من ذلك بُدّ!
والسري قد جعل المقطع من أبياته تضمينا لبيت لأبي بكر الخالدي المهجو، فإنه يروي له قوله يصف الخمر لا الفالوذج:
كأن حباب الكأس في جنباتها
…
كواكب در في سماء عقيق
وفي الحسبان أن العرب كانوا يأكلون هذه الحلواء مثلوجة باردة، إذ كانت كذلك تؤكل لعهدنا هذا. ولكن الجاحظ نقل طرفة واضحة الإفصاح بأنها حارة، وأنها كانت تقدم على هذه الصفة. أو أن منها ما كان يؤكل حاراً، فليست تثبت القصة إلا أن الفالوذج قدم مرة لآكليه يزفر أنفاسه الحرار. قال أبو كعب: كنا عند عياش بن القاسم، ومعنا سيفويه القاص، فأتينا بفالوذجة حارة، فابتلع سيفويه منها لقمة، فغشى عليه من شدة حرها. فلما أفاق، قال:
مات لي ثلاث بنين ما دخل جوفي عليهم من الحرقة ما دخل جوفي من حرقة هذه اللقمة! فلو صح أن الفالوذج كان لا يقدم إلا حارا فيؤكل فاترا لوجب تخريج ما سلف من قول السري الرفاء: (له في الحشا برد الوصال وطيبه) فيكون الوصف بالبرودة لغير حسّ الفالوذج، وإنما، هو لمعناه وأثر الالتذاذية. وإذاً يجري الكلام على أن للفالوذج في النفس من اللذة والهناءة، ما للوصال من برد في الصدر وثلج، وهو تخريج بديهأثأ، لا تأباه طبيعة البيان ولا يمس التشبيه بتشويه
وكانت هذه الحلواء هنية الريق، لينة المُزْدَرَد. وهي كذلك عريضة هفهافة الأعطاف، تستجيب للداعي بالغمزة الخفيفة؛ وبمثل ذلك يصفها صاغة الكلام، ويشهُّونها إلى الأفواه فقد سمع الثعالبي صديقه الخوارزمي يقول في وصف طعام قدمه إليه بعض أصحابه: جاءنا بشواء رشراش، وفالوذج رجراج
وقد تكون بعض جوانب الفالوذج في الجامات والصحاف أرق من بعض، فيكون ما رق منها أغبط عند الناس مما غلُظ، وأولى بالإيثار والتكرمة. حدث الجاحظ عن نفسه قال: كنت على مائدة محمد بن عبد الملك، فقدِّمت فالوذجة، فأومأ بأن يجعل ما رق منها على الجام مما يليني، تولُّعاً بي، فتناولت منه، وظهر بياض الجام بين يدي، فقال محمد بن عبد الملك: يا أبا عثمان قد تقشَّعت سماؤك قبل سماء غيرك؛ فقلت أصلحك الله لأن غيمها كان رقيقاً!
وما كنت أفهم حتى الساعة إلا أن الفالوذج كان يؤكل وحده، لا كالطعام يكون إداماً للخبز، فهو حلواء، والحلواء مكتفية بنفسها أبداً، وهو يحوي مادة الخبز كذلك في جوهره، فإن لباب القمح رأس من رؤوس أخلاطه التي يسوَّي بها. ولكن أبا العلاء في بعض تقوله اللغوية قرن الفالوذج بضرب من ضروب الخبز، فأدى إلينا الشك والتَّظَنَّي، ولا سيما أنه يعزو ذلك إلى خلف الأحمر، ومجمل الطرفة التي نقلها المعري أن خلفاً أنشد البيتين:
ألَمّ بصحبتي، وهمُ هجوع
…
خيال طارق من أُم حِصْن
لها ما تشتهي: عسلاً مصفى
…
إذا شاءت وحُوَّارَي بسَمْن
ثم قال لأصحابه: لو كان موضوع أم حصن: أم حفص، ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: وحواري بلمص، واللمص: الفالوذج، والحوَّاري خبز يكون من لباب البر،
وهو السميد. وقد تابع المعرَّي خلفا الأحمر في تغيير قافية البيت الثاني بأشتات من ألوان الإدام، وأَصْبِغة الطعام، وتعبير هذا في غير تَرَيبِ أن الفالوذج كان يؤتدم به مع السميد أو غيره مما يختبز، أو أنه كان يؤكل تارة وحده، ويؤكل مع الخبز تارة أخرى
(للبحث صلة)
محمد شوقي أمين
من وحي بغداد
من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد
للدكتور زكي مبارك
وَفَدْتُ عَلَى بغدادَ والقلب مُوجَعٌ
…
فهل فرَّجتْ كَربي وهل أَبْرَأَتْ دائي
تركتُ الخُطوب السُّودِ في مصرَ فانبرتْ
…
سِهاَم الْعُيُونِ السُّودِ تَصْدَع أحشائي
تركتُ دُخَاناً لو أردتُ دفعتُهُ
…
بعَزْمة مفْتُول الذَّراعين مضَّاء
وجئتُ إلى نارٍ سَتَشْوي جَوَانحي
…
وتصْهَرُ أضلاعي وتسحق أحنائي
فيا ويح قلبي عضَّه الدهر فاكتوى
…
بلَفْحَةِ قَتَّالَيْن: جَوْرِ وإصباء
سمعتُ حَماَماتٍ يَنُحْن فَعَزَّني
…
حَنيني إلى صحب بمصرَ أَشِحَّاء
هُمُ أسلَمُوني لا عفا الحبُّ عنهمُ
…
إلى ليلةٍ من غمْزَةِ الُحْزن لَيْلاء
أُنادِمُهُم بالوَهْم والقلبُ عارفٌ
…
بأني لَدَي كأسٍ من الدَّمُع حمراء
شربتُ الأسى صِرْفاً فثارتْ مدامعي
…
تذِيعُ حديثي في الغرام وأنبائي
أنا الطائرُ المجروحُ يَرْميه بُؤْسُهُ
…
لشقْوَتِه ما بَيْنَ نارٍ وَرَمْضاء
فإن عشْتُ آذتْني جُرُوحي وإن أَمُتْ
…
شَوَتْنيَ في الأرواح نيرانُ بأسائي
أحبَّايَ في مصر تعالَوْا فإنني
…
أُوَدِّعُ في بغدادَ أُنسي وسَرَّائي
تعالوْا أَعِينوني على السُّهد والضَّنَى
…
فلم يَبْقَ مني غَيْرُ أطياف أشلاء
تعالوا أُحدَّثْكم ففي القلب لَوْعَةٌ
…
هي الجاحمُ المَشبُوبُ في جَوْف قصْباء
تعالَوْا تَرَوْا بغدادَ أَغرتْ بمهجتي
…
نُيُوبَ المنايا في صَبَاحي وإمسائي
أحبَّايَ في مصر، وَهَلْ لي أَحِبَّةٌ؟
…
أحباي في مصر تعالَوْا أَحبائي
تعالَوْا إلى بغدادَ تَلْقَوْا أخاكم=صريعَ خُطُوب ينَتْحَيِن وأرزاء
تعالَوْا تَرَوْني في صروفٍ من الجوى
…
تهدّم بُنْياَني وَتَنْقُضُ حَوْبائي
عفا الحبُّ عن بغدادَ، كم عِشْتُ لاهياً
…
أكاثرُ أيامي بليلَى وظمياء
فكيف وقعتُ اليومَ في أَسْرِ طِفْلَةٍ
…
مكحَّلةٍ بالسحر ملثوغةِ الراء
أصاولُ عينيها بعينيَّ والهوى
…
يُشِيعُ الْحَميَّا في فؤادي وأعضائي
وأشهدُ أطياف الفراديس إن بدتْ
…
تراودُ أحلامي مزاحاً وأهوائي
وألمس نيرانَ الجحيم إذا مضتْ
…
ترُوم بعين الجِدّ بُعدي وإقصائي
أكاتِمُ أهليها هُيلَمي ولو دَرَوْا
…
لهامت بجنب الشط أرواح أصدائي
إلى الحب أشكوها فقد ضاق مذهبي
…
اخلفني بعد الفراق أعزائي
إلى الحب أشكوها فلولاهُ لم أَبِتْ
…
حَليفَ هُمُوم يَصْطَرعْن وأنواء
إلى الحب أشكو بل إلى الله وَحدهُ
…
أفوِّض بأسأئي لديها ونعمائي
أَرَبَّاهُ أنقذني فأنت رميتني
…
بقلبٍ على عهد الأحباء بَكاّء
أَرَباهُ لا تفعل فإني أرى الهوى
…
عَلَى وَقْدِهِ بالقلب أنفاسَ رَوْحاءِ
أُحِبُّ سعير الوجد فارْمِ حُشاشتي
…
على جمراتٍ منه حمقاء هوجاء
أُحب شقائي في الغرام وإنهُ
…
لأرْوَح من مطلولة الزَّهر شَجْراء
فيا خالق النار العَصُوف وشقائي
…
إليها أَدِمْ فيها لَوَاعج إصلائي
أحبك يا ربي فهل أنت شافعي
…
إلى سرحةٍ في شَطِّ دجلةَ زهراء
شهدت فنائي فيك حين رأيتها
…
تحاول إضلالي وَتَنْشد إفنائي
وَمَن أنت يا ربي؟ أجبني فإنني
…
رأيتك بين الحسن والزهر والماء
أنا الفاتِنُ المفتونُ فارحم بليَّتي
…
وَقدَّر بأرجاءِ الفراديس إثوائي
وَلاتُخْلني في جنة الخُلْد من هوىً
…
بِرُعْبُوبَةٍ لا تعرفُ الرفقَ حمقاءِ
أُحِبُّ المِلاح الهُوجَ في الخُلْد نفسهِ
…
عساني بدار الخلد أهجر إغفائي
تباركتَ! ما الجناتُ من دون لوعةٍ
…
سوَى بُقْعَةٍ في غابة الموت جَرْداء
يحبّ ضعيف الروح في الخلد أُنسَهُ
…
إلى غادَةٍ مأمونة الغيب بَلْهاء
وَأنْشدُ في الجناتِ إن ذُقْتَ رَاحَهاَ
…
مَلَاعِبَ مِن طَيْش وَفَتْكٍ وَإغوَاء
أَضاليلُ يُزْجيها خيالي وَأَنْثَني
…
إلى ساحةٍ مطموسة الأنس قَفْراء
لقد كنتُ في مصر شقيّاً فما الذي
…
سَتَجْنيِن يا بغدادُ من وَصْل إشقائي
أهذا جزائي في العراق وَحُبِهَّ
…
أهذا جزائي في رَوَاحي وإسرائي
أَخِلاّيَ ما بغدادُ راحي وإن دَرَتْ
…
قلوبُ صَباَياها مدَاَرِجَ إصبائي
أَخِلاّيَ رُدُّوني إلى مِصرَ إنني
…
أَرى الظلم دُونَ الوجد تسعير لأواء
سَقَى الغيثُ أيامي بحلوانَ وارتوتْ
…
مَلَاعِب أَحْلامي هناك وأَهْوائي
فما غدرَتْ بي في حماها نَسَائِمٌ
…
سقاها رَبيعُ الُحْبِّ أكوابَ أَنْدَاء
وَللهِ عَهْد بالزمالك لم يكنْ
…
سِوَى لمحاتٍ يَزْدَهِينَ وأضواء
هصرْتُ به غُصناً نضيراً تفتحتْ
…
أَزاهيرُهُ في ظِل خضراءِ لفَّاء
وأين على مصرَ الجديدةِ مَوْرِدي
…
وأين سُهاَدي في حماها وإغفائي
أطايبُ ذقناها ولم نَدْر أنها
…
لنُدْرَتِهَا في الدَّهر أزهارُ صَحْراءِ
أَحِبَّايَ في مصر الجديدةِ سارعُوا
…
فقد صَرَّعْتني حول دجلة أدوائي
أَجِدّكمُ هل تعلمون بأنني
…
وإن كنت جار الشط أشرب إظمائي
خذوني إليكم يا رفاق فإِنني
…
أحاذِرُ في بغدادَ حَتْفِي وإصمائي
أخاف العيونَ السُّودَ فليرحم الهوى
…
فجيعةَ أهلي يوم أقضي وأبنائي
أنادمُ أَحْبائي وفي الحق أنني
…
لهول الذي أَلقى أُصَاولُ أَعْدَائي
أَدِجلةُ ما بيني وبينك؟ أَفْصِحِي
…
فقد طال في مغناك تبريح إضنائي
وردتك أَستشفي فثارت بليتَّي
…
وَأَرْمضنيِ حُزْني وَأَضْرعني دائي
وَرَدْتُك أشكو النيل يطغي جُحُودُهُ
…
فأين سلامي في حماك وإشكائي
سقى وَرْدُك المعسولُ غيري ولم أَجِدْ
…
لهول بلائي غير أوشاب أقذاء
أطال أُناسٌ فيك نجوى نعيمهمْ
…
وفي شِطك المورودِ ناجيت بأسائي
أَدجلة أين الحب؟ قولي فإنني
…
تقلبت في نارين: حقدٍ وبغضاءِ
أدجلة أين النور؟ قولي فإنني
…
على الشط أستهدي دياجير ظلمائي
أَدجلةُ أبلاني اغترابي وَشَفَّني
…
هُيامي بظُلمي في بلادي وإشقائي
أَدجلةُ أَنت النيلُ بغياً وَكُدْرَةً
…
فكيف من النارين تسلم أحشائي
أدجلةُ ساقتني إليك مَقادرٌ
…
تأنَّقنَ في كيدي وأبدعن إيذائي
أَدجلةُ واسيني فللضيف حَقُّهُ
…
إذا شئت من زادٍ وحبٍ وصهباء
طغى موجك الصخاب فاهتاج لوْعتي
…
وَأَيقظ أشجاني وبلبل أهوائي
وقفتُ أَبثُّ الجسر ما بي فلم أكنْ
…
سوى نافثٍ في أُذني رَقطاَء صَماَّءِ
وقفتُ أُرجِّيه ولم أَدْرِ أَنني
…
أُسطَّر أحلامي على ثَبَجِ الماء
إلى أين هذا التِّبْرُ يجري وحولهُ
…
حرائقُ من أَرضٍ على الريَّ جَدبْاء
أرَقْتُ دُموعي في ثراها فما ارتوَتْ
…
وهل كان دمعي غير أطياف أنداء
شَوَتْنِي الخطوب السُّودُ شياًّ فلم تدع
…
لمُعْتَسِفٍ حُلْماً إذا رام إِبكائي
أجِبني يا صَوْبَ الغوادي فإنني
…
على علتي في الدهر أَسّاءُ أَدْوَاء
تحدَّرتَ مُختالاً فلم تُغن أُمةً
…
تَشْهي لطول الجدب أو شال أنهاء
بكى حولك الماضون دهراً فهل رَأَوْا
…
لدي موجك الصخّاب لحظة إِصغاء
تَشَكي العراقُ الَجْدْبَ وارتعتُ أبتغي
…
نصيبي فلم أَظْفر لديكَ بإرواء
أَعِنْدَكَ يا صَوْبَ الغوادي تحيةٌ
…
لناس عَلَى شَطَّيْكَ ذاوينَ أنضاءِ
تروحُ إِلى البحر الأَجاج سفاهَة
…
عَلَى شوْق أَهل في العراقِ أَوِدَّاءِ
أبوك السحاب الَجْوْدُ يرتاحُ جُوُدهُ
…
إلى كلَّ أَرْض في العراقيين مَيثْاَءِ
فعمَّنْ أخذت البخل يا جار فتيةٍ
…
هم الجعفر المنساب في جوف بطحاء
شكا الزهرُ في شَطَّيْكَ فاخجل وَنجِّهِ
…
مِنَ الظمأ الباغي وَمِنْ حيةّ الماءِ
جريتَ بلا وعيٍ إلى غير غاية
…
مُحَجَّلة بين المصاير غراء
فدعني أُطل فيك الملام فلم أكن
…
سوى شاعرٍ للحمد واللوم وشّاء
أأنت الذي يجفو الظَّماء لينْضَوِي
…
إلى لَّجُةٍ في باحِة البحر هوجاء
أأنت الذي يسقي البحار وحولهُ
…
أزاهير في سهل يفُديه مِظْماءِ
وقفنا على شطيك نشكو أُوامنا
…
على نبرات الدف والعود والناء
فأين العطاء الْجَزلُ يَا فَيْضَ مُزْنةٍ
…
مُحَمَّلةٍ بالخير والشر كَلْفَاء
عشقت شقائي فيك للحبِّ إنني
…
أُحبُّ شقائي في رحاب أحبّائي
أبغدادُ هل تَدْرين أنيِّ مودِّعٌ
…
وأن سَمُومَ البين تلفح أحشائي
وردتُك مُلتاعاً أصارع في الهوى
…
دموع رفاقٍ وامقين أخلاّء
تَنَادَوْا إلى باب الحديد فودّعُوا
…
بقايا فؤادٍ وافرِ العطف وضاء
وفيهم خَتُولٌ لو أراد لَرَدّني
…
إلى روضة من يانع الأنس غناّء
تقدم يستهدي العناق فلم يجد
…
سوى صخرة مكتومة السِّرِّ خرساء
وعاد يروض العَتْبُ أحلام قلبهِ
…
على خُطة من شائك الهجر عوجاء
وردتك مطعوناً تثور جروحهُ
…
فكان بنوك الأكرم ون أطبائي
لحبك يا بغداد والحبُّ أهوجٌ
…
رأيت فنائي فيك مَشرِق إحياء
تناسيتُ في مصرَ الجديدة صِبيْة
…
هم الزهَرُ الظمآن في جوف بيداء
يناجون في الأحلام أطياف والدٍ
…
لعهد بنيه وَالْبلَيَّات نسَّاءِ
أبغدادُ هذا آخرُ العهد فاذكري
…
مدامعَ مفطورٍ عَلَى الحبِّ بكاّء
أبغدادُ يضنيني فراقك فاذكري
…
لدى ذمة التاريخ بيني وإضنائي
خلعت على الدنيا جمالكِ فانثنتْ
…
تخايَلُ في طِيبٍ وَحُسْنٍ وَلألاء
سيذكرني قومٌ لديك عهدتُهُمْ
…
يحبوُّن ظلاّمين ضُرِّي وإيذائي
سيمُسي خصومي بعدَ حين أحبةً
…
يذيعون مشكورين أَطيبَ أَنبائي
ستذكرُ أرجاءُ الفراتين شاعراً
…
تفجَّر عن مكنونة الدر عصماء
سيسأل قومٌ مَن زكيٌّ مباركٌ
…
وجسميَ مَدْفونٌ بصحراَء صماء
فإن سألوا عني ففي مِصْرَ مرقدي
…
وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
ستذكرني غيدٌ ملاحٌ أَوانسٌ
…
أطلن بلائي في الغرام وإشقائي
ستذكرني مِصرٌ وَما كان قلبهاَ
…
سوى صخرةٍ في جانبِ النيل مَلْساَء
إلى اللهِ أشكُو لؤم دَهْرِي وَصَرْفَهُ
…
وَعِنْدَ الإلهِ البَرِّ أُودِع حَوْبائي
زكي مبارك
البَريدُ الأدَبيّ
حول لجنة إنهاض اللغة العربية
سيدي الأستاذ الزيات
سرني وأرضىَ نفسي ما كتبتم وما نشرتم لكرام الكتاب من الملاحظات على قرار لجنة إنهاض اللغة العربية وما انتهت إليه في اختيار الكتب التي تصلح لأن تكون في أيدي تلاميذ المدارس الثانوية وسيلةً إلى تقويتهم في اللغة العربية
ولكن شيئاً هاماً في قرار اللجنة قد فاتكم التنبيه إليه وما كان ينبغي أن يفوت: ذلك هو حق أدباء العروبة في مختلف أقطارها في أن يكون لهم ولمؤلفاتهم الأدبية اعتبارا في نظر وزارة المعارف المصرية أولا، ثم أعضاء هذه اللجنة. . .
فهل تذكرت وزارة المعارف المصرية يوماً أن في هذه الأقطار التي تريد أن تفرض عليها زعامتها الأدبية - علماء وأدباء وكتاباً ومؤلفين، هم في الطبقة الأولى من رجال الفكر العربي؟ وهل عرفت أن لهؤلاء الأدباء كتباً ومؤلفات حقيقة بأن تكون موضع تقدير رجال المعارف في مصر حين يريدون أن ينهضوا بالثقافة الإسلامية
ذلك - ولا شك - شئ تعرفه وزارة المعارف ولا تنكره، ويعرفه أدباء مصر ولا ينكرون، ولكن ما وراء هذه المعرفة؟ هل قررت يوماً كتاباً في مدارسها لكاتب عربي في غير مصر؟ هل عملت على أن يعرف تلاميذها في مصر أن تلك البلاد كتاباً وأدباء ينبغي أن تُدرس آثارهم وينتفع بها؟
إن الكتب المصرية تملأ أسواق الشرق العربي ومكتباته ومدارسه، ولا تخلو منها يد تلميذ عربي في تلك البلاد. فهل حرصت مصر على أن ترد هذا الجميل إلى أهله؟ أم تراها ضريبة على هذه البلاد تؤديها لمصر غير منتظرة جزاء عليها ولو كان هذا الجزاء هو الاعتراف بالجميل؟
أين مؤلفات الأساتذة إسعاف النشاشيبي في فلسطين، وأمين الريحاني في لبنان، وعلي الطنطاوي في دمشق، وساطع الحصري وطه الهاشمي في العراق؟ أليس لهؤلاء مؤلفات يمكن أن ينتفع بها في مصر، لتزيد الروابط بين البلاد العربية توثيقاً وقوة؟
م. سعيد
اقتراح على الشعراء
تغلي أطراف العالم العربي والعالم الإسلامي لأنهم يوقدون على قلبهما بالحديد والنار والمكيدة في فلسطين، وتسجل الأيام أروع قصة من قصص البطولات والإباء والتضحية في التاريخ كله، وتصبحنا الأنباء وتمسينا بما يبسط قلوبنا ويقبضها سروراً بانتصار إخواننا أو ألماً من اندحارهم
وتلتقي مشاعر المسلين والعرب لقاء عجيباً في هذه البقعة المقدسة من الأوطان العربية مما جعل الثورة الفلسطينية مبدأ عهد لتكوين الشعور الإسلامي والعربي، ومدار ذكرى ومداولات حول النفس العربية وتاريخها وخصائصها وجهادها ومستقبلها
فكيف تمر بنا هذه الحوادث الجسيمة، وتعرض على أعيننا وقلوبنا هذه المشاهد والمشاعر الفذة ثم لا تسجل تسجيلاً فنّياً خالداً في مطولات و (ملاحم) كما كانت حروب (طروادة) مدار أناشيد الإلياذة اليونانية؟
إن في شخصيات باعثي هذه الثورة وفي قوادها وفي جنودها رجالاً ونساء وفي شرفهم وسمو أخلاقهم وفي الأهوال التي تحيط بهم. . . معاني روائية نادرة ومنابع إلهام لذوي الأقلام
فمن يا ترى تنتدبه الأقدار وتصطفي قلمه لكتابة هذا الديوان الخالد كما اصطفت قلم الشاعر الكبير أحمد محرم لكتابة ديوان مجد العرب والإسلام الذي نرجو له التوفيق فيه؟
إني أخشى أن أشير بإصبعي في هذا المقام إلى بعض الشعراء الذين أعرف في خيالهم الواسع قدرة على ملء الفجوات التي بين الحوادث، وقدرة على تلوين الشخصيات والأحداث، وعلى الربط و (الحبكة) الفنية في الإخراج، وعلى خلق شخصيات خرافية عند اللزوم
أخشى هذه الإشارة حتى لا أصد بعض الذين قد يقعدهم أن ذكرهم نبأ عنه القلم في هذا المعرض. ولعل طبعهم الشاعر قد سما ونضج بالثورة الفلسطينية، و (قد يسمو الطبع الخافت لأن حادثة ما تحمله إلى الأفاق العليا من التفكير والأفتنان، كما تعلو العاصفة بالهشيم والريش إلى حيث تحلق ذؤابات الدوح وأجنحة النسور). كما يقول الأستاذ العقاد
ومن منا لم تسم بمشاعره حوادث فلسطين وتفجر في طبعه الشعر النفسي الذي يفيض على القلوب في بحوره المرسلة؟
إني لم أتمن أن أكون من رجال الشعر المنظوم الذي يرضي نفسي إلا اليوم حتى أظفر بهذا الشرف العظيم
فيا شعرائنا عشاق الخلود!
ليس التغزل في جسد جميل أو كأس فاتنة، ولا البكاء المزري بالرجولة من نفس هلوك على حبيب هاجر وخدين غادر، ولا الخواطر الكزّة الضيقة في مناسبات الحياة الشخصية الأنانية، ولا الوصف التقليدي للطيارات والقطارات والإبل والأشجار والأطيار، ولا. . . ولا. . . إلى أخر المكرور المعاد من العناوين المتوارثة كما تورث الأوعية والآنية ليصب فيها. . . ليس كل أولئك شيئاً ذا خطر ورجاحة في ميزان المواريث الأدبية الخالدة، لأنها لا تقترن بالنفس العربية العامة الواحدة في كل الأشخاص والأمكنة والأزمنة. . . وما لم يكن على الأثر الأدبي هذا الطابع طابع العموم والشمول فلن يحظى بالخلود
وفي الثورة الفلسطينية أوتار تتصل بكل قلب عربي ومسلم، فمن استطاع أن يجمع هذه الأوتار في يده، وأن ينشد عليها بإيمان وفن واستغراق، فسيذهب نشيده مردداً في كل يوم وفي كل مكان وبكل لسان. . .
وإذا مرت الثورة الفلسطينية من غير شاعر واحد يرصدها ويغني لها ويندب. . فأخشى أن يحكم المستقبل على شعرائنا أنهم (قليلو الملاحظة: يذهبون إلى الغابة للبحث عن وقود ثم يرجعون فارغي الأيدي!) كما يقول المثل الإنجليزي. . . أو أنهم يجرون وراء السراب ويتركون الأنهار المتفجرة. . .
عبد المنعم خلاف
حاجي بابا في إنجلترا
نشرنا في مجلتنا (الرواية) قصة بهذا العنوان للكاتب الإنجليزي جيمز موير وصف فيها بعض النواحي الاجتماعية في بلاد إيران أوائل القرن التاسع عشر. فخشي بعض إخواننا الإيرانيين أن يخلط القراء بين إيران القديمة وإيران الحديثة، مع أن المؤلف حدد زمن
القصة بسنة 1822. والواقع أن حاجي بابا لا يمثل في ذلك العهد إيران وحدها، وإنما يمثل مصر والشام والعراق وتركيا تمثيلا رائعاً لا يناقض الحقيقة. ومن يقرأ هذه القصة ثم يزر هذه البلاد اليوم يدهشه هذا التطور الذي نال العقلية الإسلامية في مدى قرن من الزمان. فإن تفتح الأذهان في تركيا وإيران ومصر للآراء الجديدة والمدنية الحديثة لا يدع مجالا للشك في حيوية الإسلام ومرونة الشرق.
إلى الأستاذ الكبير فليكس فارس
تحية معجب أبعثها في هالة من معاني الشكر التي هي جواب لقرار الوفاء. . . وما الوفاء إلا صدى هديتك التي بعثتها إلينا عن طريق الرسالة
أشرفت من فوق منبرك على عالم زاخر بشتى المعاني زادني يقيناً بأن الشرق هو الشرق وأننا كلنا على تباين أمصارنا أمة واحدة. . . وكأن كتابك هذا قد خلفني خلفة ثانية ذات مناعة لا تقبل مبادئ المترجمين المقلدين في رأيي وإن كانوا في رأي أنفسهم مجددين مبدعين
فشد على يدك فأنت صاحب رسالة ورسول بعث، فألق من فوق منبرك الهدايا، وادحض ببيانك وحججك أباطيل المخدوعين المغرورين. أيدك الله بروح من عنده وجعلك في الأواخر مقام المجاهدين العاملين في الأوائل. . .
(الزقازيق)
محمد جمال الدين درويش
بعثة الأمام محمد عبده
كان الدكتور محمد بهي قرقر والدكتور محمد ماضي عضوا بعثة المرحوم الشيخ محمد عبده قد أتما دراستهما في جامعة هامبرج في ألمانيا ونالا إجازة الدكتوراه منها. ثم رغبا إلى مشيخة الأزهر أن تطيل مدة البعثة لهما سنتين لينالا درجة الأستاذية من هذه الجامعة. وعرض هذا الموضوع على المجلس الأعلى في إحدى جلساته السابقة كما عرض عليه ما أظهرته المشيخة من الرغبة في سرعة الاستفادة من عضوي هذه البعثة وتعيينهما للتدريس في الأزهر فرأى المجلس الأعلى للتوفيق بين رغبة المشيخة في سرعة الاستفادة منهما
وبين رغبتهما في الحصول على درجة علمية كبرى من جامعة هامبرج أن يعود إلى ألمانيا لمدة فصل دراسي واحد ثم يرجعا إلى مصر للعمل في التدريس بالأزهر على أن يصرح لهما بعد ذلك بالسفر لأداء الامتحان لدرجة الأستاذية في الوقت الذي يطلبان من المشيخة السماح لهما بالسفر فيه.
وقد أرسلت مشيخة الأزهر في طلبهما لالحاقهما بوظائف التدريس في بدء السنة الدراسية القادمة على أن يعودا لأداء الامتحان في السنة القادمة.
العريان يؤرخ الرافعي الخالد
نشرت مجلة اللطائف المصورة في عددها الماضي ما يلي:
منذ نحو تسعة شهور والأستاذ محمد سعيد العريان ينشر في (مجلة الرسالة) فصولاً متتابعة في كل أسبوع عن حياة المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي أبي البلاغة والبيان الذي فقده عالم الناطقين بالضاد في العام الماضي. وقد أذيع أنه سيجمع هذه الفصول الثمينة بين دفتي كتاب يصدره قريباً
والأستاذ العريان معروف بأدبه وسعة إطلاعه. وقد لازم الرافعي العظيم ملازمة طويلة، فكان الفقيد يملي عليه كتاباته ويستشيره في معظم أعماله وأسراره، فأحاط علماً بشخصية الرافعي ووفق إلى دراستهما دراسة مستفيضة. . .
فهو بذلك خير من يتحدث عن الرافعي ويؤرخ حياته وأخلاقه وفلسفته والعوامل التي أثرت عليه وكونته، وطريقته في الكتابة وتسجيل خواطره العالية، وما هي المناسبات والظرف التي كانت تدعوه إلى تأليف الكتب والقصص والمقالات. . .
ولا شك في أن هذا العمل من الأستاذ العريان يعد خدمة أدبية كبرى تفيد الأجيال القادمة أكثر من أفادتها للجيل الحاضر، ولو وفق الأستاذ العريان في تاريخ حياة الرافعي فإنه سيخلد مع الرافعي، فإن كثيرين من الأدباء العالميين اشتهروا وخلدوا بوضعهم المؤلفات عن حياة أدباء سبقوهم أو لازموهم. وقد اشتهر الأديب الكبير (بوزوبل) بملازمته للأديب جونسون وكتاباته عنه. وليس الرافعي بأقل قيمة من (جونسون) فهو شخصية أدبية خالدة شهد لها أقطاب الفكر بامتلاكها ناصية البيان، وقل من يستطيع دراستها والإلمام بها وتحليلها، وهي جديرة بأن تكتب حولها الرسالات التي تجيز لصاحبها أرفع الشهادات
الأدبية. . .
فنحي في الأستاذ العريان وفاءه للرافعي في عصر يكاد ينعدم فيه الوفاء، ونثني على خدمته الأدبية الكبرى لعالم الأدب، ونشكر مجلة الرسالة الغراء، مجلة الأدب والفكر الرفيع، مجلة الرافعي الخالد، على تسهيلها للأستاذ العريان مهمته وقيامها بتسجيل هذه الفصول الثمينة عن حياة أبي البيان
للحقيقة والتاريخ
نشرت الرسالة الغراء بعددها رقم 270 مقالة بعنوان (فلسفة الأسماء) للأستاذ السيد شحاتة. وقد جاء في هذا المقال (ولما ظهر الإسلام تطورت الأسماء عند العرب إذ سمي النبي (محمداً) مع أنه لم يسم أحد من قبل بهذا الاسم) والحقيقة أن هناك من سمى باسم محمد في الجاهلية وهم ثلاثة:
1 -
محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر المشهور
2 -
محمد بن أحيحة بن الجلاح أخو عبد المطلب لأمه
3 -
محمد بن حمران بن ربيعة
أما أحمد فلم يسم به أحد في الجاهلية وأن جاء التبشير فيه، قال الله تعالى (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل أني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد)
محمد عبد الغفار
مجلة الأمالي - بيروت
وصلنا العدد الأول والثاني من مجلة (الأمالي) التي يتعاون على إصدارها في لبنان إخواننا الأساتذة الأدباء: محمد علي الحوماني، والدكتور محمد خيري النويري، وعارف أبو شقرا، والدكتور عمر فروخ. ومجلة الأمالي هي شيء جديد في صحافة لبنان، تنقل عن شرقية أصيلة وثقافة شاملة ومنطق متزن، وتشير إلى نهضة متوثبة في الآداب والفنون، وترمي إلى أهداف نرجو لهم فيها التوفيق والسداد. اشتراكها السنوي 750 مليما وعنوانها:
بيروت - صندوق البريد 941
المسرح والسينما
إلى اللجنة المشتركة لإنهاض السينما
بوزارتي التجارة والمعارف
تألفت بوزارتي التجارة والمعارف لجنة جديدة من بعض كبار رجال الإدارة مهمتها - على ما قيل وقتذاك - إنهاض صناعة السينما في مصر والأخذ بيدها حتى تصير إحدى صناعات الدخل القومي.
ونحب ونحن في بداية الموسم واللجنة لم تجتمع بعد أن نهمس في أذنها بما يتردد في الأندية والمحافل الفنية من نقدات وملاحظات على سياسة اللجنة السابقة المنحلة بتأليف اللجنة الجديدة. وأغلب ظننا أننا بتسجيلنا هذه النقدات والملاحظات إنما نسجل رأي السواد الأعظم من المشتغلين بإنتاج الأفلام في هذه البلاد
وأول هذه الملاحظات هو أن اللجنة ترى أن الشركات المصرية بحاجة إلى مساعدات مالية تقدم لها بين وقت وآخر وفاقاً لما تراه اللجنة عند تقدير جهودها وفحصها بالمنظار الفني. وهذه السياسة في نظرنا ونظر إخواننا المنتجين غير مجدية؛ وهي وإن أدت إلى رفع بعض الخسائر عن عاتق الشركات فلن تفيد في إنهاض الفن السينمائي ذاته.
إن الشركات بحاجة إلى (رؤوس أموال) لا إلى (إعانات نظامية)، لأن أغلب شركاتنا - إذا استثنينا أستوديو مصر - إنما أسس بأموال فردية، والجزء الأكبر من هذه الأموال استنفدته الخسائر التي تعرضت لها الشركات أول إنشائها. والذي يحدث الآن هو أن المنتج يذهب إلى واحد من كبار الماليين كبهلر وغيره فيأخذ ما يراه ضروريا من المال بفائدة مئوية كبيرة ومع اشتراط الحصول على نسبة مئوية أخرى من الإيراد الكلي للفلم، والنتيجة أن هذا المالي يسترد مبلغه مضاعفاً في مدى شهور معدودة أما المنتج فلا يغل له إنتاجه فائدة، أو هو يغل فائدة صغيرة لا تغني ولا تسمن من جوع
فإذا كانت وزارتا المعارف والتجارة جادتين في إنهاض السينما فليكن ذلك بتخصيص المبلغ المراد إعطاؤه للشركات كل عام كمساعدات نظامية، ليكون رأس مال يوزع منه دورياً على المنتجين بنظام الحصص، فيجدون بذلك ما يغنيهم عن الالتجاء إلى كبار المقرضين، وبذلك يتوفر لهم عن طريق اللجنة جانب كبير من أرباحهم ونتاج جهودهم،
وذلك كفيل بأن يدر عليهم ربحاً كافياً. ولم يقل أحد إن إخراج الأفلام غير مربح حتى يحتاج إلى مساعدة دائمة. ويبقى بعد ذلك نوع من الإنتاج السينمائي هو الذي نراه ويراه المنتجون بحاجة إلى المساعدة الدائمة، وذلك هو (الجرائد السينمائية) التي تسجل الحوادث الجارية على الشريط إذ أن هذه الجرائد لا تأخذها دور السينما إلا بإيجار زهيد لا يساعد على تغطية حتى نصف مصاريف عملها. فلا بأس من منح منتجي هذه الجرائد السينمائية مساعدات سنوية، ولكن على أساس العدل المطلق وعدم المحاباة لأي دعوى من الدعاوى، فلا نرى اللجنة تمنح إحدى الشركات مبلغاً كبيراً على أساس زعم من المزاعم التي لا علاقة لها بالسينما والفن السينمائي. . .
ثم إن هناك ناحية أخرى على هذه اللجنة أن تنظر فيها وتعمل على التخلص منها ما دامت تريد نهضة جدية للأفلام في مصر، وهذه الناحية هي جمود اللائحة التي تعمل بها وزارة الداخلية الآن في صدد ما يجوز معالجته وما لا يجوز معالجته في الأفلام من الموضوعات. وعندنا أنه ما لم تعدل هذه اللائحة فلن تشاهد مصر أفلاما لها قوة الأفلام الإفرنجية وروعتها وجمالها وإنما تكون أفلامنا جميعاً (نسخ كربون) من الأفلام التي رأينا حتى الآن، أفلام الغرام الفاشل والزواج غير الموفق، وخيانة الزوجات، وكان الله بالسر عليماً. . .
أخبار سينمائية ومسرحية
الانتهاء من فلم الدكتور
بذل الأستاذ نيازي مصطفى وسائر هيئة أستوديو مصر جهداً في الانتهاء من تصوير فلم الدكتور لمؤلفه وممثله الأستاذ سليمان نجيب بطل رواية الحل الأخير. والمفهوم حتى الآن أن الفلم ينتهي في آخر الشهر الحالي ويكون معداً للعرض في أوائل الموسم القادم في سينما تريومف سابقاً. وكل من شاهد منظراً من مناظر ذلك الفلم تأكد لديه أنه سيكون فلم الموسم دون ريب، وأن نيازي يستحق أن يقيم له الزملاء حفلة تكريم من أجله!
جريدة سالم السينمائية
كانت جريدة سالم السينمائية التي شاهدناها في الأسبوع الماضي خير دعاية لجهود هذا الشاب المقدام، وكل من شاهدوها وشاهدوا الجرائد الأخرى التي عنيت بتسجيل حفلة رفع الستار عن تمثال سعد، قد حكموا للأستاذ سالم بالإجادة والإتقان مما شجعه على أن يستمر في إخراج هذه الجريدة السينمائية مرة في كل شهر وكلما كانت هناك حوادث جارية كبيرة يجب تسجيلها
نساء بلا رجال
انتهى الأستاذ أحمد جلال عضو الثلاثي الفني من كتابة السيناريو الجديد لروايته (نساء بلا رجال) ويبدأ التصوير في أوائل الشهر القادم والمنتظر الانتهاء من إخراجه قبل شهر ديسمبر القادم ليمكن عرضه في النصف الثاني من الموسم الحالي
يوم المنى
تعرض سينما كوزمو ابتداء من يوم الخميس الماضي فلم (يوم المنى) لممثله الأول الأستاذ علي الكسار وهو من أقوى الأفلام الفكاهية الطويلة، فقد استغرق عرضه حوالي مائة دقيقة، وأجاد من الممثلات زوز لبيب وسلوى وعلام وبهيجة المهدي. والفلم من إخراج الفيزي وإنتاج شركة أرابيان سيستمر عرضه أسبوعاً آخر لشدة الإقبال على مشاهدته
الفرقة القومية
بعد أسبوعين نشاهد على مسرح الأزبكية أولى روايات الفرقة القومية للموسم الجديد، وسنتحدث عنها في عدد قادم
الأفلام الأجنبية الحديثة
- من أهم الأفلام التي تعرضها سينما ستوديو مصر في الموسم الحالي الفيلم (ماري انتوانيت) للنجمة الكبيرة (نورما شيرر) ويظهر فيه أمامها (تايرون باور) و (جون باريمور) و (جلاديس جيورجز وانتيا لويس وروبرت مورلي) وهو فلم الموسم للمترو جولدوين ماير دون نزاع
- انتهى (الكسندر كوردا) عاهل السينما الإنكليزي الكبير من إخراج فلمه الهندي الجديد (الطبلة). وقد اختير غلام هندي للقيام بالدور الثاني في هذا الفيلم فوفق فيه إلى حد كبير وأثبت أن إخواننا الهنود لا يقلون نبوغاً في السينما عن غيرهم
- انتهت استيديوات المترو جولدوين ماير في كاليفورينا من تصوير مناظر فلمها الجديد (غلام من مصحة الدكتور برناردو) وبطل هذا الشريط الكبير هذا الصبي العالمي (فريدي بارثولوميو)