المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 273 - بتاريخ: 26 - 09 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٧٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 273

- بتاريخ: 26 - 09 - 1938

ص: -1

‌بين الديمقراطية والدكتاتورية

أسبوع محموم. . .

لم يَعُد الناس في هذه الأيام ناساً لهم دين ومدنية وفلسفة، وإنما عادوا

كما بدأهم الله أصحاب غلبة وأثرة وبغي؛ يتخاطبون بلغة القوة،

ويتجادلون بمنطق الذئب، ويتصاولون بعصبية الجاهلية، ويسرف

عليهم الطغيان فينزلون عن نفوسهم المريدة ليكونوا قطعاناً من ألبهم

تسوقهم عصا واحدة إلى المزرعة أو إلى المجزرة!!

هاهو ذا إنسان القرن العشرين ينسى أنه تقدم حتى جاوز حدود الغيب، وارتقى حتى بلغ أسباب السماء، وتعلم حتى هتك أسرار الكون، وتهذب حتى تخلق أخلاق الملائكة؛ ينسى ذلك ويعود فيقف على الصخرة الصماء التي هبط عليها أبواه من الجنة، عاري الجسم من زينة المدنية، فارغ النفس من كرم الدين، مجرد العاطفة من جمال الأدب؛ ينظر إلى فريسته الدامية وفوه يتحلب ريقاً، ورمحه يقطر دماً، وأشباهه من حوله بين مطعون يتوجع، وموهون يتضرع، وموتور يتوعد!!

وقف الحاكم بأمره على منصة هائلة يحملها سبعون مليون رأس، ونظر بعين النسر إلى فرائسه السمان وهن آمنات في حمى القوانين، غافلات في ظلال المعاهدات؛ فثارت الشهوة في نفسه، وعصفت القوة في رأسه، وزأر زئير الأسد المسعور، وفغر فاه الجهنمي الأهرت عن وسائل المنايا الحمر والسود تضطرب في لعابه، وتصطخب على أنيابه؛ فجزعت البشرية، وريعت الديمقراطية، وخنست المدنية، وخرست عصبة الأمم، ووقفت حجج تشمبرلن أمام رغبات هتلر موقف المضخة الصغيرة أمام الحريق المهول، وأصبح العالم كله لأول مرة في تاريخ حياته يهذي في جهاته الأربع هذياناً واحداً من حمى واحدة: هي إعلان الحرب، وويلات الحرب، ونتائج الحرب!

إذن لم يبق لعلاج ابن آدم حيلة! فشرائع الله، ومذاهب الحكماء، ومراشد العقول، ومناهج التربية، لا تجد سبيلها إلى قلبه إلا حين تسكن الطبيعة فيه؛ فإذا ثارت به لسبب من الأسباب كان حاله كحال العواصف والزلازل والفيضانات والبراكين لا تعرف الأرصاد ولا

ص: 1

المقاييس ولا الحواجز. وحينئذ لا ترى الشطئان الجميلة، ولا الأودية الممرعة، ولا المدن الفخمة، ولا الحضارة الرائعة!

منذ أسبوع تحركت طبيعة الإنسان الأصيلة في الدولتين الدكتاتوريتين على حين غرة، فوقع العالم كله في بحران من القلق على حضارته وسلامته؛ وحاول الكتاب بالبلاغة والحكمة، والساسة بالمنطق والحيلة، أن يدفعوا وقوع الكارثة، أو يؤخروا يوم القيامة، فما رجعوا بطائل. ولم يكن ذلك لأن الخلاف بين برلين وبراغ لا يدخل في نفوذ العقل، وإنما كان لأن الذئب متى صمم على افتراس الحمل بطل كل دليل وأَبْدعت كل حجة. وإذا انفجر البركان ودوَّت حُمَمُه وسال حميمه، فمن ذا الذي يقول للطبيعة: رويدك يا أمَةَ الله! إن على السفوح وفوق السهول ملايين من عباد الله لهم حق الحياة وليس عليهم أن يموتوا ليتنفس فلكان من ضيقه في السماء، ويشتفي من غليله على الأرض؟

هذه أزهار الشباب الغضة في أوربا الجميلة تُنظم عقوداً وأكاليل لتذويها سَموم الحرب في غير ذِياد عن حرمة حق، ولا جهاد في سبيل مبدأ. فهل درى هتلر وصاحبه أن كل زهرة من هذه الزهرات بهجة بيت وسعادة أسرة؟

إن السلام العالمي يحتضر الآن بين قرع النواقيس وصلاة الرهبان ودعاء الآباء وبكاء الأمهات، والفكر الإنساني ينظر خزيان إلى كبره وهو يتطامن، وإلى جهده وهو ينهار. فهل استطاع حماة السلم وأُساته أن يحفظوه ومن ورائهم كل حي يطلب الحياة، وكل ضعيف يرهب الموت، وكل فتاة تنشد الحب، وكل أم تلعن الحرب، وكل رافه يريد الطمأنينة؟ ماذا يصنع الطب إذا انتشر الوباء، وماذا ينفع الكوخ إذا عصفت الأنواء، وماذا تغني المذاهب والقوانين والنظم إذا عارضت هوى الطبيعة؟

لا جرم أن الحرب سلاح من أسلحة الطبيعة تدرأ به عن نفسها الفضول والخمود والوهن؛ فهي نوع من التشذيب والتطهير والتنقية تصلح عليه الدنيا، ويتجدد به الوجود. والديمقراطية نظام من نظم الناس أقاموه على الحرية والمساواة، ودعموه بالفلسفة والقانون، ونشروه بالأدب والفن، وقرنوه بالسلام والأمن؛ وفي كل أولئك كفكفة لسلطان الطبيعة، فهي تحاربه بضده كما تحارب الحياة بالموت، والخير بالشر، والجِدَّة بالبلى، فتسلط عليه الطغيان المطلق في بعض الأمم، فيخضد من شوكته، ويقلل من هيبته، حتى يشك الناس

ص: 2

في أثره وغناه. فالدكتاتورية إذن هي نكسة الداء الحيواني في الإنسان المهذب. تعود به إلى حمى الشهوة وكَلَب الوحشية فلا يفهم غير لغة السباع، ولا يخرج من النزاع إلا بالصراع.

فمن زعم أن السلم العالمي تحفظه عصبة الأمم أو تحالف الدول أو تقدم الحضارة، فقد أحسن الظن بالإنسان إلى حد الغفلة، وأساء الفهم للطبيعة إلى حد الجهالة. إنما يحفظ السلام السلاحُ الإيجابي وهو القوة. وهذا السلام لا يمكن أن يكون إلا نسبياً ووقتياً بالضرورة؛ فإن القوى إذا تكافأت تساقطت، وإذا تفاوتت كان هناك الآكل والمأكول والغانم والغارم. وهكذا قضى الله على الحياة أن تكون دُولة بين الفساد والكون: تبني جانباً بهدم جانب، وتوجد حياً من عدم حي، وترفع دولة على أنقاض دولة. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين

من القاهرة إلى بروكسل

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 3 -

بنيتي العزيزة ميّة

لم أجد قبل اليوم فراغاً لأحدثك عن مشاهدي في السفر إلى بروكسل، ولولا وعد سبق في رسالتي إلى بثينة لوجدت من مشاغلي عذراً وأخرت الكتابة حيناً.

بلغنا جنوة ظهر الأحد 25 جمادى الآخرة (21 أغسطس) فبدت المدينة مطلة على خليجها بين أمواج البحر وقمة الجبل. وما راقني مرآها ولا راعني، ولكني حينما دخلتها رأيت مدينة نظيفة الأبنية فسيحة الطرق رفيعة الأبنية يلفت الوافد إليها ضخامة البناء ورفعته، لها على البحر شارع طويل تفضي إليه شوارع أخرى ذات بهاء وضخامة

ولن أحدثك عن شيء في هذه المدينة إلا شيئاً واحداً لا يخطر ببالك أني أحدثك عنه: سمعنا ونحن على الباخرة أن مقبرة جنوة ومقبرة ميلانو جديرتان بالزيارة، ثم نزلنا إلى المدينة مزمعين أن نبيت بها لنستجمَّ ونستعدَّ للمرحلة الثانية. وغادرنا الفندق في العشىَّ نجول في الأرجاء، وبدا لنا أن نسأل عن طريق المقبرة.

ثم عنَّ لنا أن نركب تراما فنذهب معه إلى منتهى مسيره لنرى بعض جوانب البلد! ركبنا فسألنا العاملُ: إلى أين؟ قلنا: إلى نهاية الطريق. وبلغ الترام أطراف البلد وما زال حافلاً بالراكبين. فقلنا: إن للمكان الذي نسير إليه لشأنا. وإلا فما بال الناس لا ينزلون وقد أوشكنا أن نخرج من عمران المدينة؟ ثم بلغ الترام غايته، فإذا الناس يتجهون وجهة واحدة يؤمون باباً رفيعاً واسعاً. قلنا: أتراها مقبرة المدينة؟ ورأينا على جانبي الطريق باعة الأزهار، وأبصرنا كثيراً من الداخلين يحملون طاقات من الزهر فغلب على ظنّنا أنها المقبرة. ثم ولجنا الباب فإذا هالات من الأزهار مسندة إلى الجدار، ثم ولجنا باباً آخر فإذا مدينة الأموات: ماذا عسى أن أصف من مقبرة جنوة الهائلة؟ أصف لك بعض ما وعيت منها، والذي وعيته بعض ما رأيت. ولم أر المقبرة كلها. .

ص: 4

هناك جبل عال بنيت المقبرة في حضيضه وسفحه؛ في الحضيض ساحتان متصلتان بينهما جدار، يحيط بكل ساحة منهما أروقة عالية سميكة الجدُر رفيعة العمد. فأما الساحة فقد نظمت فيها صفوف كثيرة من القبور تحنو عليها الأشجار وتعطف عليها الرياحين - قبور بيضاء تختلف أشكالها وما عليها من تماثيل وصور، ويجمعها معنى واحد هو الفناء، بل معنيان: الموت الهامد تحتها، والحسرات المرفرفة فوقها.

وأما الأروقة ففي أرضها بلاطات نقشت عليها أسماء وتواريخ دلت على أن تحتها أجساماً وتواريخ، وفي صدرها صفوف من النواويس الحجرية تتخلل الجدران بعضها فوق بعض، قد انطبقت على أسرارها ونطقت بمواعظها وعبرها؛ وبجانب الجدران نواويس أخرى من الرخام والمرمر افتن النحاتون في تشكيلها ونقشها وإقامة التماثيل عليها - تماثيل الموتى والقديسين والملائكة، وتماثيل لآمال الناس وآلامهم على ظهر هذه الأرض بين المولد والممات. وكأنما يمشي الزائر في متحف ازدحمت فيه التماثيل والصور وبدائع الفنون. وإلى هذا وذاك قناديل معلقة تبِص فيها الفتائل أو فوانيس صغيرة يخفق فيها الشمع: مناظر إذا تقصَّاها المعتبر أو اللاهي أمضى نهاره دون أن يحصيها.

فإذا صعد الزائر على السفح وجد قبوراً أضخم أو حُجَراً تلوح من أبوابها القبور والتماثيل، أو دهاليز نظمت فيها قبور وهياكل وكنائس في أطراف هذه الصفوف؛ ثم إذا صعد رأى نظاماً آخر من القبور والفنون حتى يملَّ أو يتعب فيهبط وهو يصعَّد الطرف في هذا الجلال والجمال ويرجع أدراجه إلى الحضيض ويعود إلى طريقته في الساحة أو تحت الأروقة حتى يخرج وهو يتلفت ليتزود من هذا الجمال في الموت والبقاء في الفناء

جُلنا في المقبرة تسير أفكارنا أكثر مما تسير أرجلنا، وتتلفت قلوبنا أكثر مما تتلفت عيوننا. خرجت قائلاً: ليت شعري أهنا موت أم حياة؟

وأصبحنا يوم الاثنين مبكرين إلى المحطة فركبنا القطار إلى ميلانو نجتاز طريقاً أخضر ممرعاً كثير الزرع والشجر والعشب حتى بلغنا المدينة بعد ثلاث ساعات.

نزلنا بميلانو فأمضينا بقية النهار نجول في أرجائها، ولم نر من مشاهدها العظيمة القديمة إلا الكنيسة الكبرى، وهي من عجائب الأبنية تبدو في حلة من الرخام لم تعطل قطعة فيه من نقش أو صورة أو تمثال، وتبدو شرفاتها ومناراتها في صنعة لطيفة دقيقة كأنما يستقبل

ص: 5

رائيها دوحة من الرخام. وليس باطن الكنيسة أقل فخامة ورونقاً من ظاهرها، وهي فيما سمعت من آثار القرن الخامس عشر. برحنا ميلانو صباح الثلاثاء نؤم سويسرة، فلما أجزنا حدودها أحسسنا تغير الأرض شيئاً فشيئاً حتى تغلغلنا في مناظرها الساحرة الرائعة: أودية وبحيرات تطل عليها جبال شاهقة ترقي العين فيها معجبة بالخضرة الناضرة على سفوحها، ثم ترقى فترى الجبل قد انتطق بالسحاب وأوفت قمته عليه، أو ترى القمة قد تغلغلت في السحب فاختفت فيها، وترى زرقة السماء بين السحب وذرى الجبال كزرقة البحيرات في الحضيض فتُسِف العين متمهلة على السفح كأنها تشفق أن تزل إلى الأودية العميقة والبحيرات، حتى تبلغ الماء وكأنما عادت به إلى صفاء السماء وزرقتها. وترين الماء مندفقاً على السفح فإذا حاولتِ أن تعرفي أوله رأيته هابطاً من السحاب كأن السحاب يسيل أنهاراً لا أمطاراً.

وقصارى القول في هذا الجمال الهائل أنه صلة السماء بالأرض، وأنه حيرة الطرف، ومتعة النفس، وروعة القلب، ومسرح الفكر، وتجلى الخالق في جمال خليقته وجلالها في مشاهد لا ينتهي أولها إلى آخر.

ما أعجب هذا مجالاً لشاعر مُلهَم أو كاتب مبين لو اتسع الوقت وأمهل السفر وانفرجت المشاغل عن ساعة يستملي فيها القلم الوجدان والخيال!

بلغنا لوسرن في ثلاث ساعات.

ولعلي أصل الحديث من بعد، وإن لم أجد فراغاً للتفصيل والتطويل لأجعله حديثاً ممتعاً شائقاً.

تحيتي ودعائي لك وللأخوات والأسرة كلها.

(بروكسل 9 سبتمبر سنة 1938)

عبد الوهاب عزام

ص: 6

‌على هامش أبحاث التيسير

ملاحظات انتقادية على قواعد اللغة العربية

للأستاذ أبى خلدون ساطع الحصري بك

مدير دار الآثار العراقية

- 2 -

أبحاث العلامات

إن سلسلة (قواعد اللغة العربية) تحتوي - في أقسامها الثانوية - على عدة أبحاث في (العلامات)، فتذكر سلسلة طويلة من (العلامات) التي (تميز) كلاً من الاسم والفعل والحرف، كما تشرح العلامات التي تميز كلاً من الماضي والمضارع والأمر.

وتذكر تسع علامات للاسم، وخمس علامات للفعل بوجه عام، وعلامتين لكل من الماضي والمضارع والأمر بوجه خاص؛ وأما فيما يخص (الحرف) فأنها تقول في صدده (ليس للحرف علامات تميزه، فعلامته ألا يقبل شيئاً من علامات الاسم والفعل).

إنها تعتبر - مثلاً - (قبول التنوين من علامات الاسم)(وقبول ضمير الرفع المتصل) من علامات الفعل، (وقبول تاء التأنيث الساكنة) من علامات الفعل الماضي، و (صحة الوقوع بعد لم) من علامات فعل المضارع. .

كل من ينظر في هذه الأبحاث، نظرة فاحصة عارية عن تأثير الألفة المخدرة، يضطر إلى التسليم بأنها خالية من الفائدة، ومخالفة للمنطق في وقت واحد. .

من الأمور البديهية أن مفهوم (ضمير الرفع المتصل) الذي يلحق الفعل - مثلاً - أعقد بطبيعة الحال من مفهوم (الفعل) نفسه، ومعرفته أصعب من معرفة الفعل بدرجات؛ فلا يجوز أن نعتبره واسطة لتمييز الفعل من غيره من الكلمات بوجه من الوجوه؛ ولا سيما أن (قبول أو عدم قبول ضمير الرفع المتصل) ليس من الأمور التي يمكن معرفتها رأساً واختبارها مباشرة. فاعتبار (القبول أو عدم القبول) علامة للفعلية أو عدم الفعلية يخالف أبسط قواعد المنطق مخالفة كلية. .

كذلك الأمر في سائر العلامات. فأعتقد أنه يتحتم حذف جميع الأبحاث المتعلقة بالعلامات

ص: 7

التي ذكرناها آنفاً، على أن يفرغ البعض منها على (شكل قاعدة) يتعلمها الأطفال:(للعمل) لا (للتمييز):

لا يجوز لنا أن نقول: (دخول قد على الكلمة يدل على أنها فعل)، بل يجب علينا أن نقول:(لفظة قد لا تدخل إلا على الأفعال). .

لا يجوز لنا أن نقول: (صحة وقوع الكلمة بعد لم تدل على أنها فعل مضارع)، بل يجب أن نقول:(إن لفظة لم تدل على النفي؛ غير أنها لا تستعمل إلا في المضارع؛ فيجوز أن يقال لم يكتب، ولا يجوز أن يقال لم كَتب).

وبهذه الصورة تتحول هذه الأبحاث إلى قواعد عملية مفيدة. وأما الاستمرار على استعراض الأمور التي ذكرناها آنفاً كعلامات تساعد على تمييز أنواع الكلمات فهو بمثابة الخروج على المنطق بصورة صريحة. .

أما دخول مثل هذه الأبحاث في كتب القواعد، بالرغم من مخالفتها الصريحة للمنطق، فأعتقد أنه لا يمكن أن يعلل إلا بالرجوع إلى السبب الأصلي الذي ذكرته آنفاً. .

فالأعجمي الذي يتعلم العربية، دون أن ينشأ عليها، والذي يستطيع أن يقرأ الكلمات دون أن يفهم معانيها، قد يستفيد من مثل هذه الأبحاث في تمييز أنواع الكلمات حسب بعض العلامات الظاهرية التي ترافقها؛ فإذا رأى كلمة لا يعرف معناها، ولاحظ أنها منونة استطاع أن يقول إنها (من الأسماء لأنها منونة)، كما أنه إذا رأى كلمة غريبة عنه ولاحظ أنها مسبوقة بلفظة قد، قال (هذه من الأفعال، لأنها قبلت دخول لفظة قد عليها).

فإذا جاز لعلماء اللغة القدماء أن يسلكوا هذا المسلك، متوخين بعض الفوائد العملية التي يستطيع أن يجنيها منها بعض الأعجام. . فلا يجوز لمؤلفي القواعد ومعلمي اللغة في هذا العصر أن يشوشوا الأذهان بمثل هذه الأبحاث الغريبة. .

4 -

تصنيف الكلمات والجمل

قبل أن أختم هذه الملاحظات الانتقادية، أرى أن ألفت الأنظار إلى مآخذ الخطة التي اعتادها علماء اللغة العربية في أمر تصنيف الجمل والكلمات:

1 -

من المعلوم أن الكلمات تقسم - في قواعد اللغة العربية - إلى ثلاثة أنواع: اسم، وفعل، وحرف؛ في حين أنها تقسم في سائر لغات العالم إلى أنواع كثيرة يبلغ عددها ثلاثة

ص: 8

أمثال ذلك.

فيجدر بنا أن نتساءل - تجاه هذا الفرق العظيم - فيما إذا كان هناك مبررات فعلية وأسباب حقيقية تستوجب التباعد إلى هذا الحد بين العربية وبين سائر اللغات من وجهة تصنيف الكلمات.

إذا أنعمنا النظر في المعاني التي يقصدها اللغويون من كلمتي (الاسم والفعل) وجدنا أن علماء العربية يُضيقون (مفهوم الفعل) بعض التضييق، غير أنهم يوسعون (مفهوم الاسم) توسيعاً كبيراً. . .

إنهم يحددون مفهوم الفعل بحدود ضيقة جداً، لأنهم لا يرون (الدلالة على الحدث والعمل) كافية لتعريف الفعل، بل يشترطون فيه (الدلالة على حصول العمل في زمن خاص) ولهذا السبب لا يدخلون المصدر واسم الفاعل واسم المفعول في عداد الأفعال. . .

وأما مفهوم الاسم، فإنهم يوسعونه بدون حساب، ويدخلون فيه كثيراً من الكلمات التي تعتبر في سائر اللغات أنواعاً قائمة بنفسها. ولا نغالي إذا قلنا إنهم يدخلون في مفهوم الاسم كل ما يبقى خارجاً عن نطاق الفعل والحرف. فالاسم الذي يتصورونه يشبه كشكولاً يحتوي على أشياء شتى - من اسم العلم إلى الصفة، ومن اسم الموصول إلى الضمير، ومن اسم الإشارة إلى المصدر. . فيصبح من المتعذر على المتعلم أن يكوّن في ذهنه مفهوماً واضحاً عن الاسم، كما يتعسر على المؤلفين أنفسهم أن يحددوا مفهومه ويعينوا معناه بالدقة التي تتطلبها التعريفات العلمية. .

فإذا استعرضنا التعريفات المسطورة في (كتب قواعد اللغة العربية) الرسمية عن (الاسم)، وجدناها لم تكن من التعريفات الجامعة المانعة، وأن الغموض والنقص والارتباك تسودها بكل وضوح وجلاء. . .

لأننا نجد في الجزء الثاني - الخاص بالدراسة الابتدائية - التعريف التالي: -

(. . . اسم لإنسان أو حيوان أو نبات أو جماد. . .)(ص1) من الأمور البديهية أن التعريف لا يشمل - من الوجهة المنطقية - الصفات والأعداد، ويبقى أضيق من أن يتسع للاسم الموصول ولاسم الإشارة بطبيعة الحال. . .

وأما في الجزء الثالث، فنجد تعريفاً يحاول إكمال التعريف الأول وتصحيحه بقيد جديد: -

ص: 9

(الاسم هو الذي يدل على الإنسان أو الجماد أو النبات أو الحيوان وغير ذلك. . .)(ص1) ولا حاجة للبيان أن تعبير (وغير ذلك) الذي أضيف إلى التعريف بهذه الصورة لا يخلو من الغموض، ولا يحدد الأمر بوجه من الوجوه.

وأما إذا راجعنا كتاب الدراسة الثانوية، فنجد فيه تعريفاً آخر يختلف عن التعريفين السابقين اختلافاً كبيراً:

(الاسم ما دل بنفسه على معنىً تام ليس الزمن جزءاً منه)(ص1) كما نجد بعد هذا التعريف بعض التفاصيل الإيضاحية (ويكون: 1 - لإنسان. . . 2 - ولحيوان. . . 3 - ولنبات 4 - ولجماد. . . 5 - كما يكون لمعنى يفهم ويتصور ولا يحس، مثل الذكاء، الحكمة، الفهم (ص1).

إنني أعتقد أن هذا التعريف أيضاً لا يمكن أن يشمل - منطقياً - الضمائر والأسماء الموصولة بالرغم من كثرة المفاهيم المجردة التي تقيّده وتعقّده. . .

وتأييداً لذلك ألفت الأنظار إلى الأمثلة المذكورة خلال التفاصيل التي تلي هذا التعريف، فإنها لا تحتوي على مثال واحد من نوع الضمير واسم الإشارة والاسم الموصول. . .

هذا ولا يستطيع أحد أن يدعي بأن كلمات (الذي، ذلك، نا، كما. . .) تدل على معنى تام قائم بنفسه. . . كما أنه ليس في وسع أحد أن يسلم بأن الزمان ليس جزءاً من مدلول كلمات (الماضي، الآني، الأمس، السنة، الشتاء، أسرع، أقدم. . .).

يظهر جلياً من جميع هذه الملاحظات أن علماء اللغة لم يوفقوا لإيجاد تعريف يشمل جميع الكلمات التي اعتبروها من أقسام الأسماء. . .

فليس من المعقول إذن أن نبقى متمسكين بهذا التقسيم القديم؛ بل من الأوفق أن نعيد النظر فيه على أساس تكثير أنواع الكلمات، أسوة بما يفعله لغويو العالم. . . ولا شك في أن ذلك يكون أقرب إلى مقتضيات العقل والمنطق، وأضمن لتسهيل التفهيم والتعليم.

أنا لا أحاول وضع خطة تفصيلية لهذا التقسيم الجديد، بل أكتفي ببيان الحاجة إليه، وأذكر بعض الأمثلة لتوضيح رأيي في هذا الأمر وتأييده. .

(أ) أن معنى الاسم - في حد ذاته - يختلف عن معنى الصفة اختلافاً بيناً؛ لأن الاسم يدل عادة على الأشياء نفسها، في حين أن الصفة تدل على أوصاف الأشياء وحالاتها. والصفات

ص: 10

تقوم بأدوار مهمة في الحديث والكتابة تختلف عن أدوار الأسماء الاعتيادية اختلافاً كبيراً. فلا مبرر لاعتبار الاسم والصفة من نوع واحد خلافاً للخطة المتبعة في تصنيف الكلمات في سائر اللغات.

ومما يجب أن يلاحظ في هذا الصدد إن الاسم والصفة يختلفان في اللغة العربية من وجهة بعض القواعد أيضاً: فإن الاسم - بالمعنى الخاص الذي أشرنا إليه آنفاً - يكون مذكراً أو مؤنثاً في حد ذاته، وأما الصفة فلا تكون مذكرة أو مؤنثة في ذاتها؛ بل تقبل التذكير والتأنيث بطبيعتها، فتذكر أو تؤنث حسب جنس الأسماء التي تصفها. . .

أعتقد أن هذه الملاحظات كافية لاعتبار (الصفة) قسماً خاصاً من أقسام الكلام مستقلاً عن الاسم؛ ولا شك في أن ذلك يكون أوفق وأقرب لمقتضيات العلم والتعليم في وقت واحد.

(ب) إن مدلول الضمير أيضاً يختلف عن مدلول الاسم الاعتيادي اختلافاً واضحاً، ولا سيما الضمائر المتصلة، فإنها تتباعد عن مدلول الأسماء تباعدً كلياً

فإذا احتفظنا بمبدأ تقسيم الاسم إلى ثلاثة أقسام، وفكرنا في القسم الذي يجب أن يدخل فيه (المتصل) من الضمائر وجدنا أنه أقرب إلى مدلول الحرف من مدلول الاسم. وما دمنا نعرف الاسم بقولنا (كلمة تدل بنفسها على معنى تام) ونعرّف الحرف بقولنا (كلمة لا يظهر معناها إلا إذا ذكرت مع غيرها. . .) فلا نستطيع أن ندخل الضمير المتصل - دون أن نخرج عن جادة المنطق - في عداد الأسماء، بل نضطر إلى اعتباره من جملة الحروف. . .

ومهما استرسلنا في سلوك طرق التأويل الملتوية، لا نستطيع أن نجد مبرراً منطقياً لاعتبار لفظة (نا) من الأسماء مع اعتبار لفظة (لا) من الحروف، أو (ها) من الأسماء مع اعتبار (ما) من الحروف. . .

وإذا استعرضنا بعض التعبيرات المتداولة مثل (عنه، منك، فينا، بها، لكم. . .) وأنعمنا النظر في مدلول كل جزء من جزئي هذه التعبيرات على ضوء التعريفات الموضوعة لكل من (الاسم والحرف) لا نستطيع أن نجد أدلة منطقية على أن الجزء الأول منها: (عن، من، في، بِ، لَ) يجب أن يعتبر من جملة الحروف، والجزء الثاني منها:(هُ، كَ، نا، ها، كم) يجب أن يعتبر من الأسماء. . .

ص: 11

فمن الأوفق - من جميع الوجوه - أن نعتبر الضمير قسماً مستقلاً من أقسام الكلام، لا نوعاً من أنواع الاسم.

2 -

من المعلوم أن علماء اللغة يحصرون الفعل في الماضي والمضارع والأمر، لأنهم يعرّفونه بقولهم:(ما يدل على حصول عمل وحدث في زمن خاص) ويدعون أن اسم الفاعل لا يتضمن (الحدوث في زمن خاص) في حين أن الأمر يعني (طلب العمل بعد زمن التكلم).

إنني أرى في كل ذلك شيئاً من الجبر لطبائع الكلمات، لأن الأمر يدل - في حقيقة الحال - على (طلب العمل) فقط، ولا يدل على زمان العمل مباشرة.

لا شك في أن (الأمر) لا يمكن أن يعود إلى الماضي، والمأمور لا يمكن أن يعمل العمل الذي يؤمر به إلا بعد تلقيه، فيجوز لنا أن نقول بهذا الاعتبار:(إن الأمر يعود إلى المستقبل بطبيعة الحال).

غير أنه يجب أن نلاحظ على الدوام أن المعاني التي يستدل عليها من الكلمات والعبارات بنتيجة المحاكمات الذهنية شيء، والمعاني التي نفهمها منها مباشرة شيء آخر.

وإلا فإذا أردنا أن نسترسل في المحاكمات والتفسيرات استطعنا أن ندعي أن اسم الفاعل أيضاً لا يخلو من فكرة الزمن، كما أن اسم المفعول لا يختلف عنه في هذا الباب. فعندما يقال لنا (الطائر مجروح) نستدل من كلمة مجروح أن الطائر جرح قبلاً، وأن آثار الجرح لا تزال ظاهرة عليه. وعندما يقال لنا:(فلان نائم) نفهم من كلمة نائم أنه نام قبلاً، ولا يزال في حالة النوم. وعندما يقال لنا:(أنا ذاهب) نفهم من كلمة ذهب أن القائل يتأهب للذهاب.

ومن الغريب أن علماء اللغة العربية الذين يتناسون هذه الحقائق الواضحة يسترسلون في تأويلات غريبة لإظهار معاني الأزمنة المندمجة في أسماء الأفعال، فيقولون مثلاً:(آه) اسم فعل مضارع بمعنى (أتألم). و (هيهات) اسم فعل ماض بمعنى (بَعُد). و (هلُمَّ) اسم فعل أمر بمعنى (أقبِل). .

كل من ينعم النظر في هذه التعريفات والتقسيمات والتفسيرات الملتوية دون أن يبقى تحت تأثير الألفة المخدرة، يضطر إلى التسليم بأن كل ذلك يحتاج إلى التبديل والتصحيح، ويتطلب البحث عن تعريفات وتقسيمات جديدة.

ص: 12

3 -

من المعلوم أن الجملة تقسم إلى نوعين: فعلية واسمية. ولكنا عندما ننظر إلى الأمور نظرة منطقية، يجب أن نفهم من تعبير (جملة فعلية) الجملة التي تحتوي على فعل، وبتعبير آخر: الجملة التي تعلمنا ما حدث وما يحدث؛ كما يجب أن نفهم من تعبير (جملة اسمية) الجملة التي لا تحتوي على فعل؛ وبتعبير آخر: الجملة التي تخبرنا عن أوصاف اسم من الأسماء وحالاته.

غير أن قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه التعريفات والمفهومات المنطقية بل تخالفها مخالفة كلية:

فإنها تعتبر الجملة (فعلية) عندما تبتدئ بفعل، و (اسمية) عندما تبتدئ باسم. ومعنى ذلك: - أنها لا تصنف الجمل حسب أنواع الكلمات التي تتألف منها، بل تصنفها حسب نوع الكلمة التي تبتدئ بها دون أن تلتفت إلى بقية كلماتها.

ونظراً لهذه القواعد الرسمية فإن عبارة (نام الولد) يجب أن تعتبر جملة فعلية، في حين أن عبارة (الولد نام) يجب أن تعتبر جملة اسمية، مع أن كلتيهما تتألفان من نفس الكلمات، وتؤديان إلى نفس المعنى.

إنني أعتقد أن تقسيم الجملة على هذا النمط الغريب نتيجة خطأ منطقي، وقع فيه علماء اللغة - في عصور التدوين الأولي - بسبب اهتمامهم بالأوصاف الظاهرة أكثر من تفكيرهم في المعاني المفهومة. . كما شرحنا ذلك آنفاً.

وأما استمرار المؤلفين المعاصرين على التزام هذه الخطة العجيبة فلم أجد سبيلاً إلى تعليله إلا بتأثير (الألفة المخدرة) ونزعة التفادي من الخروج على التعاريف والتصانيف القديمة. .

ومما يجب أن نلاحظه في هذا الباب أن هناك أمراً آخر يزيد في غرابة نتائج هذين التعريفين، ويوسع المسافة بين المنطق والقواعد:

لقد عرّف علماء اللغة (الفاعل) - تحت تأثير النزعة التي ذكرناها آنفاً - بقولهم: (اسم مرفوع يتقدمه فعل). . فإذا تقدم الاسم على الفعل لا يترتب على ذلك - في عرفهم - تحول الجملة من فعلية إلى اسمية فحسب، بل يترتب على ذلك خروج الاسم من الفاعلية أيضاً. فعندما يقال (الولد نام) لا يرون مسوغاً لاعتبار كلمة الولد فاعلاً، نظراً لمخالفة ذلك

ص: 13

للتعريفات التي وضعوها. . .

وبما أن هناك (فعلاً) يتطلب فاعلاً، فإنهم يلتجئون إلى طرق التأويل الملتوية، فيقولون إن الفاعل لهذا الفعل ضمير مستتر، وأما الولد فما هو إلا مرجع هذا الضمير المستتر. وبتعبير آخر: يدعون إن الفاعل ليس (الولد) المذكور صراحة، وإنما هو ضمير مستتر يعود إلى الاسم المذكور. .

إنني أعتقد أن الإنسان لو قصد التعقيد والتشويش لغرض من الأغراض، لما استطاع أن يجد طريقة تصنيف وتفسير أكثر اعوجاجاً وأشد غرابة من تلك. . .

أفلم يحن بعد وقت الإقدام على التخلص من هذه المسالك الملتوية والرجوع إلى طرق المنطق والصواب؟

الخلاصة

إن الأمثلة الانتقادية التي استعرضتها في الأبحاث السالفة تبين بكل وضوح وجلاء أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية مشوبة بنقائص كثيرة، من حيث الخطط المتبعة في التعريف والتصنيف والتبويب. . .

وأما الأسباب المولدة لهذه النقائص والشوائب، فتتلخص في تأثير نزعة أساسية، هي نزعة الاهتمام بالإعراب أكثر من الالتفات إلى المعنى، والاعتماد على العلامات المحسوسة أكثر من الاستناد إلى المعاني المفهومة.

هذه النزعة نشأت من الظروف الخاصة التي أحاطت بعلوم اللغة العربية في أدوار تكوينها الأولى، واستمرت بتأثير (روح المحافظة) التي سيطرت على أذهان علمائها في أدوارها الأخيرة. . وباعدت بين قواعد اللغة وأحكام العقل والمنطق من جهة، وبينها وبين أسس التربية والتعليم من جهة أخرى.

ولذلك يجب علينا في موقفنا هذا أن نخرج على هذه النزعة التقليدية، ونعيد النظر في جميع ما ألفناه من أساليب التعريف والتصنيف والتبويب في قواعد اللغة العربية، فنتأمل فيها بنظرة علمية جديدة، مراعين مقتضيات العقل والمنطق من جهة، ومطالب التربية والتعليم من جهة أخرى. . حتى نتخلص على هذا الوجه من أغلاط الاجتهاد والاستنباط التي وقع فيها اللغويون القدماء. . .

ص: 14

هذا ما أود أن أدعو إليه العلماء والمؤلفين

أدعوهم إلى إعادة النظر في جميع مباحث الصرف والنحو، بنظرة محايدة خالية من تأثير الألفة المخدرة، مستنيرين بالطرق المتبعة في سائر اللغات، ومستندين إلى المعاني المفهومة من الجمل والعبارات. . .

وأعتقد أن الإصلاح على هذا الوجه يجب أن يكون أول خطوة من خطوات التيسير.

أبو خلدون

ص: 15

‌الدين والأخلاق

بين الجديد والقديم

لأحد أساطين الأدب الحديث

- 6 -

لا يدهش أحد إذا عددنا ما يسمى نزعة التجديد نزعة رجعية في أولها، فقد أوضحت أنها في مبادئها كانت رجوعاً إلى مبادئ الشعر العربي القديم من قلة تكلف الصناعة، ومن نظم الشعر بالعاطفة أو ذكري العاطفة بدل نظمه تعمداً بالصنعة، ومن البحث في خواطر النفس وشجونها وأشجانها والتعبير عنها بدل تنميق المعاني المتفق عليها. فلا شك أن شعر الجاهليين وشعر شعراء صدر الإسلام كان أكثر نصيباً من هذه المبادئ من شعر الدولة العباسية، وإن كان لشعر الدولة العباسية روعة وفيه قوة، ولكن أروعه وأقواه ما قارب طريقة الأقدمين وكان أقل تعملاً في الصنعة، أو ما كانت صنعته أشبه بالطبيعة.

ولا يدهش أحداً إذا وجدنا أن هذه المبادئ يتفق فيها الشعر العربي القديم والشعر الأوربي الصحيح السليم، وأن الصناعات الغريبة في الشعر الأوربي ما ظهرت إلا في عصرنا هذا؛ ولكن كثيراً من أدبائنا الذين لا يعرفون اللغات يحكمون على الشعر الأوربي بشعر شعراء الرمزية أو شعراء الوعي الباطني وأمثالهم، وهي طوائف حديثة في أوربا كما هي حديثة في مصر، ويغر أدبائنا ما يقع فيه بعض المطلعين على الأدب الأوربي من النقل الحرفي لأساليب الكلام والمصطلحات، ولكل لغة خصائص في المصطلحات وأساليب الكلام إذا نقلت نقلاً حرفياً إلى لغة أخرى عدت معاني سخيفة. ومن هنا نشأت فكرة من يقول إن معاني وأخيلة الأدب الأوربي لا تتفق والذوق العربي.

ولكن مما لا شك فيه أنه بالرغم من اختلاف خصائص العربية والإفرنجية، فإن الشعر الأوربي قبل أطواره الحديثة كان في مبادئه الأساسية قريباً من الشعر العربي القديم قبل غلبة الصناعة عليه غلبة قضت على تلك المبادئ.

ولا يدهش أحد إذا قلت إن كل نهضة تجديد دخلت الأدب والشعر العربي حديثاً كانت نزعة رجعية؛ فنهضة البارودي وشوقي وحافظ وحفني ناصف ومطران (في شعره الحديث)

ص: 16

كانت أيضاً نهضة رجعية بدأها الساعاتي وقواها البارودي ومن أتى بعده؛ وهي كانت نهضة رجعية لأنهم رجعوا بالشعر عن طريقة البهاء زهير وابن الفارض والبستي وابن نباتة المصري وابن النحاس وخليل الصفدي: طريقة الجناس الغالب والنكات، إلى طريقة الصنعة العالية القوية صنعة مسلم بن الوليد وأبي تمام وإضرابهما. وترى هذه الرجعية ظاهرة في شعر شوقي أعظم ظهور، فقد بدأ بمدح البهاء زهير في مقدمة الطبعة الأولى القديمة من الشوقيات وأسرف في مدحه. وترى شعر شوقي في صباه مما أثبته في الطبعة القديمة بعضه أشبه بشعر المتأخرين، وأظن أنه حذفه ولم يثبته في الطبعة الحديثة؛ ثم صار شعره يقترب من نسق فطاحل الدولة العباسية أمثال مسلم وأبي تمام والبحتري.

وكان منتهى أرب الشاعر قبل نهضة البارودي وشوقي وحافظ أن يكثر من الجناس وأنواع البديع حتى ليقال إن أحدهم أفنى عمره في صنع قصيدة بديعية كبيرة شحنها بما يقرأ طرداً وعكساً، وما يقرأ من أسفل ومن أعلى، وبالجناس وأنواعه، وأشباهه من المحسنات، فاحتال عليه أصدقاؤه وسرقوها منه فمات كمداً وراح ضحية الطرد والعكس وصريع الجناس. وكان الأدباء إذا أرادوا إن يستجيدوا بيتاً أنشدوا بيت ابن نباتة المصري، ولا أذكر كلماته بالضبط، ولكنه يمدح سلطان مدينة حماه في الشام فيقول: إن (حماه)(المدينة) علمتهم نعمى الممدوح حتى غدا كل منهم يحب (حماته)(أي أم زوجه). هذه هي (مفارقات) النكات العامية المصرية التي كانت تطرب الأدباء. أو قول البهاء زهير لمعشوقته إنه دعاها (ست) أي سيدة، لأنها ملكت جهاته (الست).

فرجوع البارودي وشوقي وحافظ إلى عصر أقدم من هذا العصر لا بد أن يسمى رجعية، وليست كل رجعية ذميمة.

والنزعة الحديثة إلى التجديد هي في الحقيقة تكملة النزعة الرجعية التي نشطها البارودي، فكانت نزعة التجديد نزعة تفضيل (مبادئ) الشعر العربي الأقدم من العباسي ومن العباسي ما يقارب ذلك الشعر. وقد شرحنا تلك المبادئ. والذي غطى على هذه الحقيقة أثر الأدب الأوربي، وفتحه أبواباً جديدة من أبواب القول، وشده أزر الخيال والفكر. وغطى على الحقيقة أكثر من كل ذلك تشعب نزعة التجديد إلى فروع جديدة بعيدة كالرمزية وغيرها.

ولكنا إذا نظرنا إلى هذه الفروع وجدنا أن كلاً منها مغالاة في مبدأ من تلك المبادئ كما

ص: 17

فصلنا في المقال السابق؛ فالذين يريدون تغليب الوعي الباطن مثلاً إنما تفرعوا من مبدأ جعل الشعر بحثاً في صفات النفس وخواطرها وشجونها وأشجانها بدل ترديد معانٍ متفق ومصطلح عليها. ولا شك أن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا ينظمون بالعاطفة أكثر من شعراء الدولة العباسية. ومعنى النظم بالعاطفة البحث في شجون النفس وأشجانها، فهذه الطائفة في نشأتها كانت رجوعاً إلى طريقة الشعر القديم، وإن كانت قد غالت محاكاة للنزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. وبهذه الطريقة نستطيع أن نرد كل طائفة من طوائف وفروع نزعة التجديد إلى أصلين: أصل في الأدب العربي القديم غالت فيه، وأصل من محاكاة النزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. فإذا تتبع الأستاذ الغمراوي الأسباب والعوامل التي أثرت في الأدب العربي الحديث وجد أنه لم تكن هناك مؤامرة على الدين والفضيلة نشأت عنها النزعة إلى التجديد؛ فإن تتبع الحوادث يُظْهِرُ كيف أن بعض أدباء المذهب القديم يقلبون (النتيجة) العارضة الثانوية المحدودة وهي الشذوذ والشطط فيجعلونها (سبب) نهضة التجديد كلها؛ وقد أوضحنا أن الشذوذ والشطط موجودان في كل عصر ومذهب وذكرنا شواهد وأمثلة.

وإذا نظرنا في تاريخ النزعات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية وجدنا أنها كانت مصحوبة كلها أو أكثرها بشيء من الشطط؛ وهذا الشطط إما أن يكون متعمداً لمحاربة الجمود أو الوقوف، أو غير متعمد، بل تندفع إليه بعض النفوس قهراً. وقد لا يعرف الشطط ولا يميز من غير الشطط إلا بعد عصور طويلة تمحص فيها الأمور. ولو أن كل نزعة من النزعات البشرية رفضت كلها بسبب ما يصحبها من الشطط ما تغيرت الإنسانية. ومن الحقائق الثابتة أن بعض الخاصة كانوا في كل نزعة تجديد يخلطون بين مبادئ النزعة ومظاهرها؛ وبين ما يصحبها من الشطط، حتى كانوا يحسبون أن الجنس البشري مقضي عليه بسبب تلك النزعة. فالنزعة إلى الديمقراطية في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كانت مصحوبة بالشطط. وحسب بعض الخاصة أنه سيقضى على الإنسانية، وأن القيود والشرائع الاجتماعية مقضي عليها بالاضمحلال، فرفضوا النزعة بأجمعها بدل رفض الشطط وحده. وهذا هو ما حدث في نزعة الإصلاح الديني في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو ما حدث في

ص: 18

النزعة إلى تحرير الرقيق في أمريكا. ولعل الشطط الذي كان في رفض النزعة كلها كان يغفر الشطط الذي يصحبها ويهون أمره في نفوس أنصارها ويساعد على نجاحها.

ومما يشاهد أيضاً في حياة الأمم أن الفساد الكثير المألوف قد لا يثير من التسخط قدر ما يثيره الفساد القليل غير المألوف، وإن كان الأول أوخم عاقبة وأكثر ضرراً. والنوع الأول من الفساد هو كما في الأدب العربي من مجون وإباحية صقلهما الدهر واعتادهما القراء حتى صارا لا يثيران تسخطاً بل يُنْظَرُ إليهما كما يَنْظُرُ الأب إلى ابنه الكثير الدعابة واللعب فيلومه ولكنه يحن إليه ويعطف عليه وتزيده دعابته ولعبه حباً له.

ومن المشاهد أيضاً أن الأديب أو المفكر قد يدافع عن مذهب وهو يعمل على هدمه من غير عمد، أو يعمل على الأقل لإذاعة نقيضه بمؤلفاته وهو في بعضها يعمل لنقيض هذا النقيض. فشوقي الذي أطرى البهاء زهير في مقدمة الطبعة القديمة من الشوقيات، هو شوقي الذي عمل بشعره المتين الأخير للقضاء على طريقة البهاء زهير وإضرابه. والرافعي الذي يروج أشد مذاهب الأدب الأوربي الحديث تطرفاً وهو مبدأ الرمزية من غير قصد بتأليف (حديث القمر)، هو الرافعي الذي ينتقد الأدب الأوربي أشد انتقاد في مقالاته. وكم من أديب قريب العهد بالأدب لولا بعض كتب الرافعي ما احتذى هذا المذهب فيما كتب.

فالعقل أو الوعي الباطن قد يُمَوِّهُ على العقل الظاهر الناقد. أليس في بعض شعر الصوفيين من شعراء اللغة العربية شهوة مكتومة يبوح بها العقل الباطن بالرغم من صرف العقل الظاهر معناها إلى الذات الإلهية؟ وهذا مع أن أوصاف المحبوب لا تشير إلا إلى إنسان جميل وإن القول شهوة محض.

ولعل الأستاذ قد قرأ وصف النابغة الذبياني للمتجردة زوجة النعمان واطلع على ما فيها من وصف عورة المرأة وما هو أشد من أشد من وصف عورتها في قوله (وإذا. . . وإذا). نعم إن النابغة شاعر جاهلي، ولكن استشهاد الأفاضل الإجلاء من شيوخ الأدب والعلم بهذا الوصف ونشره في الكتب التي يعدونها للقراء ومنهم الفتيان والفتيات، يدل على أن العقل الناقد فيهم قدْسها عن أن هذا الوصف يخالف العرف والتقاليد والآداب الإسلامية.

وهؤلاء الأفاضل هم الذين يسخطون على وصف الغواني في لباس البحر وصفاً لا يبلغ

ص: 19

مبلغ وصف العورة والفجر كما فعل النابغة وكما فعل كثير من أدباء العرب في العصور المختلفة احتذاء للنابغة حتى في عبارات وصفه.

على أن رجوع نزعة التجديد إلى طريقة النظم بالعاطفة أو بذكرى العاطفة، ومحاولة الإقلال من المغالاة بالصنعة العباسية ليس من جهل بفضل الأدب العربي في العصر العباسي، ولا من جهل بفطاحل شعرائه وأدبائه، ولكن هؤلاء الشعراء شغلوا بمدح الخلفاء والأمراء ووضعوا لهذا المدح أوضاعاً. وإذا قرأت أجزاء مختارات البارودي هالك نصيب باب المديح من تلك الأجزاء الأربعة، وهالك تردد المعاني في ذلك الباب؛ وهذا معنى ما أشير إليه من جمود المعاني والموضوعات وغلبة الصنعة على العاطفة النفسية، وذلك لا ينفي أن نصيب هذا العصر من التفكير وحرية القول كان عظيماً. ومما يؤسف له أن حرية القول كان أكثرها في المجون إلا عند بعض المفكرين من الشعراء. ولا ينفى أن تلك الصنعة التي ما لبثت أن تحجرت في أوضاع المديح كانت في أول أمرها تجديداً، ولكنها في المتأخرين ضاع التجديد فيها وتدلت إما إلى محاكاة عبارات ومعاني السابقين، وإما إلى ما رأينا من النكات اللفظية والجناس وأشباه من الأمور التي استغنى بها حتى عن روعة الأسلوب وفخامته، إلى أن جاء البارودي وحافظ وشوقي فعادوا إلى محاكاة أفخم أساليب العصر العباسي الأول. ثم جاءت نزعة المذهب الجديد وحاولت إحداث شيء من التجديد في أبواب القول ومعانيه وأخيلته، وفي طريقة بحثه للموضوعات بالرجوع إلى خواطر النفس وأحاسيسها. فإذا كان بعض أدبائها قد وصف في الأحابين خواطر لا يصح وصفها، فإنه أمر عارض لا يصح أن يكون عنواناً للمذهب، أو أن يفسر به المذهب؛ وهو على أي حال أهون مما في كتب الأدب القديم من وصف فُجْرِ ومن مجون يقرؤه الفتيات والفتيان في مكتبات مدارسهم كل يوم حتى صغارهم الذين يكاد المرء يعدهم من الأطفال. فينشأ هؤلاء الأطفال على النفاق والبجح إذا ما لقنهم الملقنون أن الأدب الأوربي من آداب الرذيلة، وهم منغمسون في حمأة الرذيلة بسبب كتب الأدب العربي القديمة. أما ما يأخذه بعض كتاب المذهب القديم على المذهب الجديد من الولوع بشعر التأمل فهو أعجب العجب. وهم إنما يخلطون بين شعر التأمل وبين شعر متون وحواشي كتب الفلسفة، أو بين شعر التأمل وشعر تعليم الأولاد. فشعر التأمل في الحياة والنفس هو خلاصة النفس؛ وهو لا

ص: 20

يختلف عن الشعر الذي يقال في وصف أحاسيس النفس في موضوعه ما دمت تحسُّ فيه العاطفة الشعرية. ولا يجوز الحط منه إلا إذا خلا من كل أثر للعاطفة النفسية؛ فليس شعر التأمل في المرتبة الثانية، وإلا أخرجنا أبا العلاء المعري والمتنبي من عدة الشعراء وأخرجنا أجود ما في شكسبير. وقد فرق الأدب الأوربي بين شعر التأمل وبين شعر متون الفلسفة، كما فرّق بين شعر التأمل والشعر التعليمي في الأسماء؛ فلتراجع هذه الأسماء في مصادرها.

(قارئ)

ص: 21

‌عود على بدء

بين الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

- 4 -

كان يرى الأستاذ فليكس فارس رجحاناً لطابع الشرق الغيبي على قالب ثقافة الغرب الأثباتية. ومرد هذا الرجحان كما ظهر لنا من مناقشة كلامه اعتقاده بقانون الرجعى، وبأن لهذا الشرق من كيانه نافذة يتطلع منها إلى الحياة، هي نافذة فطرته الموروثة، فمنها يستقبل النور، ومنها يستقبل النسمات لأنفاسه. . وفطرة الشرق الموروثة على زعمه قائمة على الإيمان بالغيب. ونحن نرى ما يعبر عنه بالفطرة الموروثة هو التراث الشعبي لهذا الشرق والثقافة التقليدية له. وهو شيء كما قلنا غير فطرة الشرق وروحه، لأن الفطرة شيء مجرد يظهر في تاريخ الشعب وفي ثقافاته المتعاقبة من حيث يحتضن ثقافة الشعب التقليدية. إذاً من الخطأ من الناحية العلمية ما يقوله مناظرنا الفاضل الأستاذ فليكس فارس من أن فطرة شعوب الشرق هي الحالة الغيبية. والصحيح أن يقول إن طابع ثقافة الشرق التقليدية هو غيبي.

ولا شك أن طابع هذه الثقافة التقليدية ممكن تغييره بالطابع اليقيني، ولكن هذا التغيير وقف على العوامل والظروف التي تجد طريقها إلى محيط هذا الشرق. فنحن نعلم بأن كينونة الإنسان وقف كما قلنا في المقال السابق على مجموع الصلات المتبادلة بين المؤثرات المختلفة التي يختص بها المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية من جهة، والإنسان من جهة أخرى؛ فإذا ما تغايرت المؤثرات في المحيط الاجتماعي فتبعاً لهل يتغاير منتوج الصلات القائمة بينها وبين البيئة الطبيعية حتى تحوز من المكافأة ما يتوافق مع ما أستجد من المؤثرات. ومثل هذا التغاير الخارجي يؤدي إلى تغير في الأفكار والسلوك الاجتماعي والشعور الذاتي في الجماعة البشرية. . .

وأظن أن مناظري مهما حاول أن يتعسف فلا يساعده المنطق والعلم أن ينال من صحة هذه المقررات الأولية.

ص: 22

وإذن يسقط السبب الوحيد الذي يرجع إليه مناظرنا في إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية.

ولنا أن ننظر مع ذلك في حقيقة الاتجاه الغيبي في المجموع البشري كحالة طبيعية تمر بها الجماعات في تطورها التاريخي وارتقائها الطبيعي، مجردة عن تلك الحالات التي تقيمها اليوم في كيان المجتمع العربي على وجه عام، والمصري على وجه خاص. وسنجد أن الحالة الغيبية مبعثها الجهل بأسباب الأشياء الطبيعية وعللها الكونية، فيجنح العقل إلى ما وراء الطبيعة والكون محاولاً أن يستنزل منها تفسيرات وتعليلات للحالات التي يخلص بها من حياته في العالم المنظور. وأظن أن أحسن ما يمكن أن أقدمه لمناظري الفاضل تاريخ النزاع بين اللاهوت والعلم، ففي كل صفحة من صفحات هذا التاريخ يقع على ما يؤيد فكرتنا.

يقول الأستاذ (بيتي كروزيار):

(لقد كف الناس عن القول بأن المذنبات نذر إلهية عندما عرفوا أسباب ظهورها وعللوا وجودها. وكفوا عن القول بأن الصواعق نتيجة غضب إلهي عندما عرفوا حقيقة الكهربائية الجوية، وعندما استكشف (فرنكلين) مانعته المشهورة. ورجعوا عن القول بأن الجنون والمس عائد إلى أعمال السحرة والمشعوذين وأنصار الشياطين عندما دلهم الطب على أسبابها العصبية. ورفضوا الاعتقاد بأن اللغات منشؤها بابل عندما وضعت قواعد مقارنة اللغات).

نعم لقد كف الناس في العالم المتمدن عن كل هذا، وآمنوا بسنة (كُنْت) من أن الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية لا بد أن تعود إلى سبب طبيعي، وأنه من المستطاع تعليلها تعليلاً علمياً مبناه العلم الطبيعي. من ذلك اليوم انهار قائم اليقين بما بعد الطبيعة للإفصاح عن حقيقة الظاهرات الطبيعية، وكان نتيجة ذلك أن خلص العالم المتمدن بعقلية وثقافة جديدتين طابعهما يقيني إثباتي. ونحن أن كنا نقول باستحالة الأخذ بالعلم الأوربي مع الاحتفاظ بالثقافة الشرقية من حيث أن طابعها غيبي، فذلك مرده أن العلم الأوربي قائم على عقيدة أولية في إمكان الكشف عن سبب طبيعي لكل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية.

6 -

يظهر أن المناظر الفاضل حين أراد أن يرد على القول بوجود أصل فرعوني في

ص: 23

ثقافة مصر التقليدية، تعسف إلى حد أن خرج على الأوليات المعروفة في حقائق الاجتماع وعلم تكون الشعوب. وإلا فليفسر لنا معنى سخريته من هذه الأوليات؟

يقول المناظر الفاضل:

(أما أن يعد المناظر (يعنيني بذلك) طريقة استغلال الأرض فطرة (لم نقل فطرة وإنما كل ما قلناه ثقافة تقليدية أو تراث للشعب، فإذا صحح الكلام على هذا الوجه يستقيم) فذلك مما لا يوافقه عليه أحد - لماذا؟ - لأن المسألة هنا تتعلق بتطور في أساليب الصناعة. ولو كان الأمر كذلك لكان كل مرتد غير القميص الأزرق، وكل حارث بآلة حديثة، وكل مستبدل (شادوقاً)(بطلمبة) فاقداً للأصل الفرعوني في ثقافته التقليدية).

وهذه لعمري إحدى أطاريف الكلام في مناظرتنا. ومنحى الطرافة أن يحمل المناظر الحقيقية على وضع يسخر منه!

نعم أيها الصديق، إن ما تظنه موضعاً للسخرية حقيقة واقعة. وإذا أردت السبب فإننا نسوقه بكل بساطة قائلين:

إن منحنى الحياة المعاشية التي يحياها الإنسان لهل أثر في تحديد مشاعره وتوجيه عقليته وتكوين ثقافته، من حيث أن الحياة المعاشية تقيم جواً طبيعياً واجتماعياً يعيش فيه الإنسان، وإلا فما الفرق بين ثقافة إنسان يحيا حياة رعي وصيد، وحياة إنسان يحيا حياة زراعة، وحياة إنسان يحيا حياة صناعية؟

لا أظن أن المناظر الفاضل يتعسف إلى الحد الذي ينكر الفرق الثقافي بين هؤلاء وأثر حياتهم المعاشية في تكوين ثقافاتهم إلا ويخرج عن الأوليات المعروفة في علم الاقتصاد والاجتماع. وهو إن شاء أن ينكر فلسنا نمنعه. ولكن ليبين لنا إلى أي شيء يستند حتى نناقشه على أساسه؟!

كذلك إنكار المناظر أن تكون التقاليد التي احتفظ بها المصريون من العهد الفرعوني دليلاً على ظهور الدين الإسلامي في مصر على الدين الفرعوني فلا أظن أن منطقه أسعفه في إنكاره، لأنه يعترف ضمناً بهذه الحقيقة في اعتراضه بقوله:

(على أن ما تبقى من التقاليد يعد بدعاً لا يزال الدين يعمل على اقتلاعها من المجتمع لخيره وسلامة إيمانه) فكأن هناك تقاليد تبقت من العهد الفرعوني وتسربت إلى الدين الإسلامي

ص: 24

في مصر ولونته بلون محلي. أما أن الدين يعمل على اقتلاعها لخير المجتمع وسلامته فليس ذلك من شأن الباحث المستقري. وله أن ينظر إليها إذا ما نجح الدين في اقتلاعها وأصبحت حقيقة ملموسة.

7 -

قلنا إن لمصر ثقافتها التقليدية التي تتميز بها عن جاراتها من بلدان الشرق العربي. غير أن المناظر وإن اعترف معنا بأن للمميزات الإقليمية أثراً على ثقافة الأمم اعتبر أن لكل أمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة، ومن هنا اعترض علينا وقال بوحدة ثقافة أمم الشرق العربي. غير أن هذا الاعتراض في غير محله، لأن اعتباره أن لأمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة إن كانت صحيحة إلى حد ما فهذه الثقافة تتلون وتأخذ طابعاً في كل بلد من بلدان الشرق العربي، فمظهرها في سوريا غير مظهرها في العراق، وهي في العراق غيرها في مصر، وهي في مصر غيرها في الحجاز، وهي في الحجاز غيرها في مراكش أو تونس. وهذه حقيقة قد تظهر أوضح للمراقب الأجنبي من حيث تتميز عنده الفروق الأساسية. ومن مظاهر هذه الفروق اللهجات العربية في مختلف بلدان العالم العربي، ومناحي الحياة المعاشية.

ولقد وهم المناظر الفاضل أننا نهزل حين قلنا إن العامية في مصر هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية، بينما نحن في مجال الجد؛ غير أن ناحية من الهزل بدت من خلال كلامنا حين لم يلاحظ مناظرنا ما قلناه في المقال الأول من أننا نعني بالفرعونية وحدة الحياة - عقلية أو معاشية - متمشية في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني. فإذا قلنا إن العامية هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية فإنما نعني أنها تأخذ طابعاً مصرياً خاصاً بها، هذا الطابع هو الذي يتمشى في ثقافة المصريين التقليدية حتى العصر الفرعوني، ومن هنا جاءت كلمتنا الآخذة بأسباب الفرعونية).

وأظن أن كلامي قد وضح وبان مفهومه وظهر أنه جد لا هزل. . . وبهذه المناسبة ألفت نظر المناظر إلى مراجع قيمة في اللهجة المصرية تشفي غلته وتؤيد وجهة نظرنا، وأهم هذه المراجع بحث للبروفيسور نلينو عنوانه (كتاب في اللهجة المصرية) وهو مطبوع بميلانو عام 1903، ودروس الأستاذ احمد والي ويوسف المغربي والأستاذ كراتشفوفسكي.

(للمقال بقية)

ص: 25

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 26

‌السلطان الغوري

مكانته في الأدب والعلم وأثره فيهما

للدكتور عبد الوهاب عزام

ظفرنا بهذه الخلاصة الوافية للخطاب القيم الذي ألقاه صديقنا

الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام في مؤتمر المستشرقين

ببركسل؛ فنال إعجاب العلماء المجتمعين بطرافة موضوعه،

ودقة بحثه، وسداد طريقته

(المحرر)

- 1 -

السلطان قانصوه الغوري أحد سلاطين المماليك بمصر. حكم من سنة 906 إلى سنة 922 هـ.

ولست أريد أن أعرض للأحوال السياسية التي تولى فيها، والأحوال التي أزالت ملكه وقضت على دولة المماليك؛ ولكني أريد أن أذكر طرفاً مما عرف من صلته بالأدب والعلم.

كان ذا حظ وافر من العلوم الدينية: التوحيد والتفسير، والفقه؛ وكان ذا نصيب من التاريخ معنياً بقراءة التواريخ والقصص وسماعها، كما كان ذا بصر بالأدب، وله نظم بالعربية والتركية؛ وكانت له مشاركة في الموسيقى والغناء، وله موشحات كان يُتغنى بها.

- 2 -

وتاريخ الغوري مفصل في كتب التاريخ ولا سيما كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لمحمد بن إياس؛ ولكن سيرته في الأدب والعلم تتجلى في ثلاثة كتب لم تنل نصيبها من العناية وفيهما للمؤرخ مجال واسع.

1 -

كتاب نفايس المجالس السلطانية، في حقائق الأسرار القرآنية: ألفه حسين بن محمد الحسيني، وهو شريف كما يؤخذ من اسمه ومن عبارات في ثنايا الكتاب، ويظهر أنه تركي

ص: 27

ساح في إيران والبلاد الشرقية، وقد نظم بيتين بالتركية في رثاء ابن السلطان الغوري، وروى من شعر حسين بيقرا. وفد على مصر فأقام عشرة أشهر شهد فيها مجالس السلطان الغوري، وجمع في كتابه هذا بعض المباحث التي كان السلطان والعلماء يتكلمون فيها.

والعجمة ظاهرة في كتابته حتى اسم الكتاب فقد سماه (نفايس مجالس السلطانية في أسرار مجالس القرآنية) فحذف اللام من المجالس والأسرار

والنسخة التي بأيدينا هي النسخة التي كتبت للسلطان وأهديت إليه. وقد كتب عليها الصيغة المعتادة:

(برسم خزانة المقام الشريف ملك البرين والبحرين مولانا السلطان المالك الملك الأشرف قانصوه الغوري خلد الله ملكه)

ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب: أما بعد فإني لما تشرفت في خدمة أشرف الملوك وأعظم السلاطين ظل الله في الأرضين، ناظر أربع حُرُم رب العالمين، سلطان العرب والعجم، صاحب البند والعلم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ملك الأشرف عزيز مصر أبو النصر قانصوه الغوري، أعز الله أنصاره، وضاعف أقداره - ولازمتُ بابه الشريف عشرة أشهر، وجمعت درر فوائده في سمط العبارة، ونظمت جواهر زواهره في خيط الكتابة. فإن باب الكريم مجمع الأفاضل، وجنابه العظيم بحر الفضائل والفواضل. هذا مع ما خصه الله تعالى من الفضائل النفيسة، والمناقب الشريفة اللطيفة، أعطاه من الفهم أوفره، ومن الذهن أغزره، ومن الحلم أشرفه، ومن العلم ألطفه، ومن الرتب أقواه، ومن الملك أعلاه، ومن الشجاعة أبلغها، ومن السخارة أعظمها، كل هذه الصفات خصه الله تعالى بمجموعها. ولهذا ارتقى إلى الذروة العالي، التي كانت نهاية درجات الأفاضل الأهالي. وفضل هذا السلطان على سلاطين الدنيا كفضل سلاطين الدنيا على الرعايا.

وكل هذه الأوصاف والمناقب بما قرن به من محبة العلم والعلماء والتفتيش عما وضعته الحكماء في كل نوع من العلوم، لو يقول البشر في وصف هذا المظهر إنه هو سلطان العلماء المحققين ما هو كذب في حقه، أو يقول في مدحه: إنه هو سلطان العارفين ما هو عيب في وصفه)

ص: 28

وجعل كتابه في مقدمة وعشر روضات. والمقدمة قصيرة تتضمن كلام بعض السلاطين ومنهم الغوري. والروضات العشر يذكر في كل واحدة منها مجالس السلطان في شهر. وكانت المجالس تجتمع في كل أسبوع مرة أو اثنتين أو ثلاثاً.

وأولها مجالس رمضان سنة عشر وتسعمائة. وأول مجلس منها يوم الخميس الثالث والعشرون من الشهر، وآخرها مجالس رجب فهي عشر روضات في أحد عشر شهراً لأن السلطان لم يجلس في شهر ذي القعدة، لوفاة ولده محمد.

والمؤلف يصف كل مجلس وتاريخه ومدته، ويذكر الإمام الذي يحضر المجلس وكبار الحاضرين، ثم يذكر المسائل التي طرحت للبحث في المجلس. يقول في المجلس الأول:

(طلعت يوم الخميس ثالث وعشرين رمضان المبارك في تاريخ سنة عشر وتسعمائة، وكان في خدمته ناصح الملوك والسلاطين شيخ حسن جلبي؛ وكان الإمام في تلك الليلة شيخ شمس الدين السمديسي. وقعدوا في الأشرفية ستين درجة. ووقع في تلك الليلة أسولة. السؤال الأول الخ). .

ويقول في المجلس الثاني من شوال:

(طلعت يوم الأحد تاسع شهر شوال، وقعدوا خمسين دقيقة في البيسيرية الأشرفية. والإمام كان شيخ محب الدين المكي، وشيخ الإسلام كان حاضراً. وخواجه غياث الدين ده دار، وقاضي جمال الدين الخشاب، وكثير من الناس كانوا في الخدمة الشريفية والعتبة العلية).

يبدأ السلطان أكثر الأحيان بسؤال يجيب عنه أحد الحاضرين فيرتضي السلطان جوابه أو يناقشه، وأحياناً يبدأ أحد الحاضرين الكلام. وأكثر المسائل دينية وبعضها تاريخية، ومنها الغاز في موضوعات شتى، وقصص عن الملوك وغيرهم.

وأحياناً يصف المؤلف مشاهد ويروي أحاديث لها في التاريخ خطر كبير.

مثلاً يصف إحياء السلطان المولد النبوي، ويذكر طوائف الناس الذين اجتمعوا، وما فعلوا في هذا المحفل، ويبين كيف جلس السلطان ليلاً وكيف يتقدم إليه كبار الدولة وينشد كل منهم شعراً في مدحه وكيف يقابلهم السلطان. وقد ذكر أن الخليفة يعقوب المستمسك بالله خليفة مصر تقدم (وباس الأرض، كفرض العين وعين الفرض) وأنشد:

إن الخلافة ثوب قد خُصصت به

إذا لبست فلم يفضل ولم يعزِ

ص: 29

ما أودع الله في أحداقنا بصراً

إلا لنفرق بين الدر والخرزِ

وكذلك يمر القارئ بمسائل ذات خطر في التاريخ والسياسة إذ ذاك كقول السلطان: (الجركس من الغساسنة فهم عرب) وكالبحث في شروط الإمامة في مجلس السلطان وقول مؤلف الكتاب: فإن لم يوجد من يستوفى الشروط من ولد إسماعيل جاز أن يُولّى واحد من العجم أو من ولد إسحاق. وقوله بعد هذا:

الحمد لله والمنة، الجركس من ولد إسحاق. وجميع هذه الشرائط موجودة في السلطان الأعظم.

بل نجد في الكتاب بحثاً صريحاً في نيابة الغوري عن الخليفة العباسي وهل هذه النيابة لازمة لصحة أحكامه في الأمور الشرعية. ويشتد الخلاف بين المؤلف وأحد العلماء في هذه المسألة فيحقر المؤلف الخليفة ويعظم السلطان، ثم يذهب يستفتي العلماء ويأخذ خطوطهم بأن نيابة السلطان عن الخليفة غير لازمة.

ويرى القارئ أحياناً اهتمام السلطان بتعليم المماليك وإحضارهم معه من حين إلى آخر إلى مجلسه ليقرءوا أمامه ويمتحنهم

وهكذا يجد القارئ في الكتاب مسائل مهمة لا يظفر بها في كتب التاريخ، ويرى صوراً من آراء السلطان وعلماء عصره، ويتبين مقدار اطلاعهم ودرجة تفكيرهم

2 -

الكتاب الثاني: اسمه الكوكب الدري في مسائل الغوري، وهو يحتوي على ألفي مسألة وأجوبتها من المسائل التي وقع البحث فيها في مجالس السلطان الغوري أيضاً. ولدينا الجزء الأول من الكتاب وفيه ألف مسألة في 338 صفحة. والنسخة مكتوبة في عهد الغوري. . ويظهر أنها نسخة المؤلف. وعليها خطوط ثلاثة من علماء وقته المعروفين يشهدون بأنهم اطلعوا على الكتاب. وبعض هذه الخطوط مؤرخ بالسنة التي تم فيها كتابة هذا الجزء.

ويقول المؤلف في آخر الكتاب: (وكان الفراغ منه في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع عشر وتسعمائة).

ويقول في المقدمة: وبعد فإني لما رزقني الله سعادة الدارين وتشرفت مدة عشر سنين بخدمة سلطان الحرمين الشريفين خان الأعظم وخاقان المعظم، مولى ملوك الترك والعرب

ص: 30

والعجم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، وارث ملك يوسف الصديق، إمام الأعظم بالحق والتحقيق، مظهر الآيات الربانية، مظهر الأسرار الروحانية، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، الملك الأشرف ذو الفيض النوري، أبو النصر قانصوه الغوري الخ. . . قصدت أن أجمع در فوايد مجلسه في سمط العبارة والكتابة، وأنظم جواهر زواهره في سلك الاستعارة والكناية، لأنه ورد في كلام بعض الأنام: كلام الملوك ملوك الكلام، سيما إذا كان المبحوث عنه تفسير كلام رب العالمين، ونكات أحاديث سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، ومباحث سلطان الإسلام الخ. . .

إلى أن يقول: وجمعت شيئاً يسيراً وفاتني منه شيء كثير، فجمعت من بحار فوايده قطرة، ومن شموس محاسنه ذرة، لم أقدر أن أجمع إلا واحداً من ألف بل من مائة ألف. . . فجمعت من المسائل المشكلة ألفي مسألة، وسميته بالكوكب الدري في مسائل الغوري. . .

وفي هذه المقدمة شبه بمقدمة الكتاب الأول، وبعض عباراتهما واحدة، وبين تاريخهما زهاء عشر سنين

وهذا الكتاب ليس مقسماً على المجالس كالكتاب السابق، بل المسائل فيه متتابعة بغير فصل. والمطلع على الكتاب يرى صوراً من أفكار علماء مصر وأمرائها في ذلك العصر. يرى إلى المسائل الدينية وهي معظم الكتاب، مسائل تاريخية، وجغرافية، ويرى انتقال الحديث من تفسير آية أو حديث إلى السؤال عمن بنى الأهرام أو عن سبب زرقة السماء أو السؤال عن كيورث أول ملوك الشاهنامة أكان قبل نوح أو بعده، أو عن شهر المحرم لماذا جعل أول التاريخ الهجري، أو هل الأرض أفضل أم السماء. ويجد القارئ في الحين بعد الحين فكاهة من السلطان أو نادرة، ويعرض في المجالس ذكر الملوك المناصرين والأمراء الذين وفدوا على السلطان كابن السلطان سليم. ويرى بعض الأسئلة الدينية التي سألها هؤلاء الأمراء وجواب السلطان أو بعض علمائه

لا ريب أن هذا الكتاب على تفاهة معظم المسائل التي يدور عليها البحث، يصور بعض النواحي الفكرية والاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي، في ذلك العصر

3 -

الغوري والشاهنامة:

- 1 -

ص: 31

كان حسين بن حسن بن محمد الحسيني الآمدي أحد شعراء التركية في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجري وشهد عهد السلطان الغوري في مصر، ولعله فرَّ إليها إذ كان من المقربين إلى الأمير جم بن محمد الفاتح. وتوفى بمصر سنة 920 وقد أمره السلطان الغوري أن يترجم شاهنامة الفردوسي إلى اللغة التركية فترجمها في عشر سنين آخرها سنة ست عشرة وتسعمائة

وقد نظم الشاعر في مقدمة الكتاب فصلاً يبين فيه سبب نظمه. وخلاصته أن السلطان كان ولعاً بقراءة التاريخ والقصص، وكان في خزانته كتاب الشاهنامة، فدعا الشريفيِّ وقال: إني أحب هذا الكتاب وأعرف ما تضمنه من المواعظ والأخبار وأريد أن يترجم إلى اللغة التركية ليسهل علينا إدراك معانيه. وأعرف أن لك مقدرة على نظمه، فترجمه إلى التركية. فقال الشاعر: أيها السلطان المعظم! كيف تريد أن تسهل عليك معانيه بالترجمة وأنت تعرف لسان العجم أحسن من العجم؟ بل هو أسهل عليك من اللغة التركية، وليس بك حاجة إلى ترجمته.

قال السلطان: أريد أن يبقى ذكراً بعدي، فإنما يخلد الإنسان بالذكر الحسن

قال الشاعر: ولكن نظمي ليس من البلاغة والسلاسة بحيث يعجب السلطان؛ وليس يسيراً أن يبلغ الكلام الدرجة التي ترضيك، والشاهنامة كتاب غير الترجمة.

قال: دع الاعتذار ولا تعتل فأنت من آل الرسول. فشمْر للأمر، وإن لم يكن كلامك مزخرفاً مصنفاً فلست أبالي. لست أكلفك كلاماً ملوكياً، ولكن أريد أن تقول باللسان التركي قولا درويشياً.

يقول الشاعر: فلم أجد بداً من امتثال الأمر على ثقل العبء وعلى بعد ما بيني وبين الفردوسي، وشرعت في نظم الكتاب في وزن آخر غير وزنه الفارسي الخ. . .

- 2 -

في مقدمة الكتاب وخاتمته نحو ألف بيت؛ يبدأ الكتاب بالتحميد، ومدح الرسول والخلفاء على سنّة شعراء الفرس والترك، ثم يذكر سيرة مماليك مصر منذ سنة 970هـ، يذكر قايتباي والملوك الذين خلفوه في فترة الاضطراب التي بينه وبين الغوري، ثم يفيض في

ص: 32

مدح السلطان، ثم يبين سبب نظم الكتاب ويشرع في ترجمة الشاهنامة. وفي الخاتمة يمدح السلطان ويبين أنه نظم الكتاب باسمه وأتمه في دولته، ويتكلم عن أخلاق السلطان وسياسته وشغفه بالعلم والأدب، ومعرفته لغات كثيرة، ومشاركته في الإنشاء والشعر ونظمه في توحيد الله ومدح الرسول، وإلمامه بالموسيقى، ونظمه موشحاً للغناء، وولعه بقراءة التواريخ الخ. . . ثم يصف مجلس السلطان واجتماع العلماء فيه لمذاكرة العلم، ويذكر المغنين والموسيقيين الذين يطربون السلطان في مجالسه.

ثم ينتقل إلى وصف عمارات السلطان وصفاً مفصلاً فيعدد تسعاً منها. والخلاصة أن في مقدمة الكتاب وخاتمته ما يكشف بعض تاريخ الغوري ولا سيما الجانب الأدبي منه، ويبين طرفاً من تاريخ مصر - بعد حساب المبالغات الشعرية.

- 3 -

هذا الكتاب له قيمة عظيمة في تاريخ اللغة التركية، فهو سجل جامع لألفاظ اللغة التي كانت مستعملة في القرن العاشر الهجري ولقواعد النحو والصرف التي كانت متبعة إذ ذاك.

وفيه كذلك صورة مفصلة للضرورات الشعرية التي كانت تعانيها اللغة من بعض الشعراء في ذلك العصر، والتي ذكرها ضيا باشا في مقدمة (الخرابات).

- 4 -

ويزيد في قيمة الكتاب وفائدته، أن عندنا منه نسخة الأم أعني النسخة التي كتبها المترجم بخطه، وقدمها إلى السلطان؛

فعلى صفحة العنوان نجد هذه الصيغة:

(برسم خزانة مولانا المقام الشريف السلطان مالك رقاب الأمم، السلطان المالك، الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عز نصره وخلد ملكه.

وفي آخر الجزء الأول:

(وقع الفراغ من تحرير المجلد الأول في أول ليلة من شعبان المبارك في محروسة مصر صانها الله من الآفات، في قبة الحسينية لأمير يشيك، تغمده الله بالرحمة والغفران)، كاتبه ناظمه أضعف عباد الله حسين بن حسن بن محمد الحسيني سنة ثلاث عشر وتسعمائة.

ص: 33

والحمد لله الخ. .

وفي آخر الجزء الثاني:

تم الكتاب بعون الملك الوهاب ضحوة النهار يوم الأحد ثاني شهر ذي الحجة الحرام سنة ست عشر وتسعمائة من هجرة النبوية عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، كاتبه ناظمه وهو أضعف العباد حسين بن حسن بن محمد الحسيني الحنفي في مدينة مصر حرسها الله من الآفات والبليات في جامع المرحوم المغفور السعيد الشهيد الملك المؤيد شيخ سقى الله عهده بالرحمة والمغفرة.

وبعد هذا سطران بالتركية:

(بو كتابك نظمنه مولانا السلطان عز نصره الغوري أول سلطنت يلنده ابتدا إيلدك، أون يلده تمام أولندى، أونك دولتذه إتمامه أرشدي).

حسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

(ومعنى العبارة التركية أنه بدأ الكتاب في أول سنة من عهد السلطان وأتمه في عشر سنين في دولته)

- 5 -

والنسخة في 1170 ورقة كبيرة أي 2340 صفحة، كل صفحة 25 سطراً، وهي مذهبة، وبها اثنتان وستون صورة ملونة. وإزاء كل صورة في الحاشية عنوانها بخط مذهب. ولهذه الصور قيمتها في الدلالة على التصوير المصري في ذلك العصر.

- 6 -

ثم يزيد هذه النسخة نفاسة وفائدة أنها واضحة الخط تميز فيها الحروف الثلاثة ب، ج، ز، من الحروف العربية ب، ج، ز، بوضع نقطتين تحت الحرف أو ثلاث. وهذا نادر في الكتب القديمة، وهي بعد هذا مشكولة شكلاً تاماً لا يرتاب القارئ في ضبط كلمة منها

فبين أيدينا زهاء ستة وخمسين ألف بيت من الشعر التركي في القرن العاشر الهجري مضبوطة ضبطاً تاماً، وقيمة هذا في اللغة والأدب ليست هينة

- 7 -

ص: 34

عرفنا من هذه الكتب أن السلطان كان مولعاً بالأدب وأن له نظماً بالعربية والتركية. ولدينا نماذج من نظم السلطان في موشح في كتاب نفايس المجالس، وقصيدتين وموشحين بالعربية، وموشح بالتركية في كتاب تاريخ حلب للطباخ، وعند بعض أدباء حلب قطع أخرى من شعر السلطان، وفي أستانبول مجموعة من شعره

عبد الوهاب عزام

ص: 35

‌للتاريخ السياسي

النزاع الروسي الياباني

للدكتور يوسف هيكل

شهد شهر أغسطس (آب) الفائت حوادث دولية متفاقمة الخطورة، إذ طارت شرارة الحرب العالمية في الشرق الأقصى فأشعلت النار بين الروس واليابان، فكادت الحرب تجتاح العالم لولا الجهود الدبلوماسية التي بذلي لإخماد نار الحرب الروسية اليابانية. غير أن شبح الحرب العالمية عاد من الشرق الأقصى إلى أوروبا الوسطى، وأخذ يحوم في جوها مهدداً السلام بشدة.

وحديثنا في هذا المقال مقتصر حول النزاع الروسي الياباني. ولعرض هذا النزاع يحسن بنا التكلم عن أسباب الصدام الذي حدث بين القوى الروسية واليابانية، وعن تطور القتال بينهما، وأخيرا عن المفاوضات الديبلوماسية التي بذلت لعقد الهدنة بين موسكو وطوكيو، وعن شروط هذه الهدنة وأسبابها.

نشأت في اليابان في السنين الأخيرة روح استعمارية جديدة. فبعد أن أغرقت اليابان أسواق الشرق بمنتوجاتها، مما أدى بالدول الأخرى إلى وضع ضرائب فادحة على المنتوجات اليابانية لتحول دون دخولها بلادها، أخذت تتبع سياسة تتعارض وبقاء الأوربيين في الشرق. وكان هدفها الأول إجلاء الأوربيين عن الصين. فعملت، قبل احتلالها منشوريا، على تحقيق هذه الأغراض بالتفاهم مع الصين، ولذلك ساعدت على قيام أحزاب قوية في بلادها مطالبة بأن تكون (آسيا ل

الآسيويين كما أن أوربا للأوربيين، وأمريكا للأميركيين). ثم عملت على إنشاء فروع عديدة لهذه الأحزاب في الصين وجاوة والهند.

ولكن الحكومة اليابانية رأت أن الحالة الدولية تتطلب السرعة في العمل، فعدلت عن سياسة التفاهم مع الصين، وعمدت إلى سياسة القوة التي مكنتها من احتلال منشوريا، على رغم تعدد المصالح الغربية فيها. بعد هذا الفتح واجهت اليابان أوربا بقاعدة جديدة هي (ارفعوا أيديكم عن الصين).

لم تتحسن العلاقات بين اليابان والصين بعد استيلاء اليابان على منشوريا، بل عمدت

ص: 36

الصين إلى مقاومة النفوذ الياباني، وجدت في المحافظة على كيانها. غير أن اليابان قررت شل الحركة الصينية المعادية لها بالقوة، فكانت الحرب اليابانية الصينية.

واستيلاء اليابان على الصين يهدد وجود الدول الغربية في البلاد الأسيوية، ولا سيما في الشرق الأقصى والأوسط. ويتحقق حينئذ الخطر الأصفر الذي كان الإمبراطور ولهلم أول المنذرين به.

وفي مقدمة الدول التي تخشى اليابان في الصين الحكومة الروسية. لأن الخطر الأصفر لا يحرم هذه الدولة بعض مستعمراتها فقط، بل ربما يسلخ عنها قسماً كبيراً من بلادها، وهو سيبريا الممتدة في شمالي آسيا من أقصى الشرق حتى الغرب منها. وقد كانت الروسيا في المدة الأخيرة هدف عداء اليابان، إذ أن طوكيو عقدت تحالفاً مع برلين وروما، غايته مكافحة الشيوعية. والشيوعية ما هي إلا رمز يراد به الحكومة الروسية. فهذه المصالح المتضاربة هي السبب الرئيسي لكل حرب تقع بين اليابان والروس، أو بين اليابان وأية دولة غربية أخرى.

أما السبب المباشر للنزاع الأخير الذي حدث بين اليابان والروسيا فهو حادث حدود، وهو أن الجند الروس، حسب قول اليابان، اخترقوا الحدود الفاصلة بين السوفيات (الروسيا) ومنشوكو واحتلوا تشانج كوفنغ ومضيق شانغ كو. ولذلك طلبت طوكيو من موسكو سحب القوات السوفياتية إلى ما وراء الحدود، فرفضت موسكو ذلك أواسط شهر يونيه، مجيبة بأن المنطقة المختلف عليها هي جزء من الأراضي الروسية، وأن طلب اليابان يعد تدخلاً منها في شؤون السوفيات الداخلية

إن تهديد اليابان وجواب روسيا جعلا الدولتين تقفان وجهاً لوجه دون أن تستطيع إحداهما الرجوع عن موقفها من غير أن يكون ذلك تراجعاً منها أمام رغبة الأخرى. وفي أثناء ذلك كانت الجيوش تتجمع، والطائرات تحوم في الجو، فكان التصادم، وكانت حوادث قتال محلية لم تأخذ صبغة حرب بين الدولتين، لأن القوى التي اشتركت في القتال كانت محدودة، ولأن المفاوضات كانت مستمرة لإيقاف القتال وإيجاد حل للخلاف.

أما هدف القتال فكان احتلال قمة (تشانج كوفنغ) وما جاورها. فبعد أن احتلت القوى السوفياتية هذه القمة، أصر الجيش الياباني على إرجاع الروس عنها؛ فدارت معارك

ص: 37

عديدة، واشتركت فيها القوى البرية على اختلاف أنواعها والجوية، وأدت إلى استيلاء الجيش الياباني على تلول (تشانج كوفنغ) و (شاتسا) و (بينج) وذلك في 30 يوليه سنة 1938. وقد صرح حينئذ الميجر (اكياما) بلسان الجيش قائلاً (قد عدنا إلى احتلال هذه الأراضي المنشوكية بالقوة، ولا نريد شيئاً أكثر من ذلك. فنحن نجهل النيات السوفياتية. ولكن إذا حاول السوفيات استرداد هذه المواقع وجب أن ينتظروا معاملة أقسى وأشد)

ولكن هذا التهديد لم يثن عزيمة السوفيات بل أثار هياج الرأي العام في روسيا، فقامت الجماهير بمظاهرات عدائية نحو اليابان جاء في قراراتها:(يجب أن لا تنسى قط اليابان وإيطاليا وألمانيا أن الجيش الأحمر لن يتخلى عن متر واحد من الأراضي السوفياتية، كما يجب أن لا يفوتها أن الشعب الروسي بأكمله هو في حالة تجنيد، وأنه يجيب أول نداء تذيعه حكومته وسلاحه بيده) وقد أصدرت الجمعيات العامة المنشأة في جميع أنحاء البلاد قرارات جاء فيها: (إننا لن نتراجع أمام أي تهديد. فحدودنا لا يمكن خرق حرمتها، وستدفع العصابات اليابانية موت جنودنا سيولاً من الدماء).

استعد الروس لاسترجاع منطقة (تشانج كوفنغ)، فظهر الجيش الروسي الأحمر الأول مرة في القتال، فقام في 3 أغسطس بهجوم عنيف على هذه المنطقة، اضطر اليابان إلى دفع عشرين ألف مقاتل لصد هجوم الروس. ولم تكن هذه المعركة حاسمة، ولم يتمكن الروس من استرداد المنطقة التي استولى عليها اليابانيون في 30 يوليه الماضي. على أن القتال لم يقف، بل ازداد حماسة وشدة. فحدثت معارك، أدت إلى تقدم الروس، فأعلنت قيادة الجيش الروسي في 7 أغسطس أن القوى السوفياتية (أجلت بتاتا الجيش الياباني عن الأراضي السوفياتية). ولكن المقامات اليابانية نفت بتاتاً جلاء اليابانيين عن أكمة (تشانج كوفنغ). ويظهر أنه في ذاك التاريخ قد جلا اليابانيون عن قسم من المنطقة المختلف عليها، وظل القسم الآخر تحت سيادتهم

واصل الروس القتال، وتسلم المارشال بلوخر القائد العام للقوات السوفياتية في الشرق الأقصى، قيادة الأعمال الحربية، فتقدم الروس وتراجع اليابانيون. وصدر في موسكو بتاريخ 10 أغسطس بلاغ رسمي يقول:(إن تشانج كوفنغ التي وقع الخلاف عليها بين الروس واليابانيين أمست الآن في أيدي الروسيين).

ص: 38

وفي 10 أغسطس أيضاً أعلنت الهدنة بين روسيا واليابان، وأوقف القتال في ساحة (تشانج كوفنغ) عند ظهر اليوم التالي حسب توقيت الشرق الأقصى أي قبيل شروق الشمس في بلادنا.

كانت خسائر الطرفين حسب تقدير اليابان الرسمي 158 قتيلاً و 723 جريحاً من اليابانيين، وما ينيف عن 1700 قتيل وجريح من الروس. غير أن إحصاء الروس الرسمي ينص على أن عدد قتلى الروس 236، وجرحاهم 611، وعدد قتلى اليابان 600، وجرحاهم 2. 500. ومن الأكيد أن هذه الأرقام غير صحيحة لأن من عادة الدول المتحاربة محاولة إخفاء حقيقة خسائرها، والمبالغة في مقدار خسائر الخصم. والغاية المتوخاة من ذلك بيان تفوقها وتقوية روح جيوشها المعنوية من جهة، وإظهار ضعف الخصم وإضعاف روحه المعنوية من جهة ثانية

لم يكن إعلان الهدنة مفاجئاً لأن المفاوضات لتصفية النزاع الروسي الياباني كانت سائرة منذ ابتداء القتال. وكانت الدوائر السياسية الغربية تتفاءل تارة وتتشاءم تارة أخرى، ولكن التفاؤل غلب التشاؤم بتراجع اليابان عن موقفها

فكيف كانت المفاوضات؟ وما هي شروط الهدنة؟ وما هي الأسباب التي دعت اليابان إلى هذا التراجع؟

على أثر دخول الجند الروسي المقاطعة المختلف عليها قابل البارون سيجيمنسو السفير الياباني في موسكو، الرفيق لتفينوف وزير خارجية روسيا عدة مرات طالباً منه سحب القوى الروسية من مقاطعة (تشانج كوفنغ). وكانت خلاصة الحديث الذي دار بينهما في 20 يوليو (تموز) أن الحكومة اليابانية مقتنعة بأن المنطقة الواقعة غربي بحيرة (كاسان تشانتشي) داخلة في حدود منشوريا، وأنها توافق على تعيين الحدود تعييناً دقيقاً، والدخول في مفاوضة مع حكومة موسكو لهذا الغرض؛ ولكن بعد أن يتم انسحاب القوات السوفياتية من المنطقة التي احتلتها. وقد رد وزير الخارجية الروسية على بيانات السفير الياباني بأن الحكومة السوفياتية قدمت إلى السفارة اليابانية عدة وثائق منها معاهدة (هونتشون) والخرائط الملحقة بها المبينة للحدود بدقة وجلاء تامين. وهذه الخرائط والوثائق التي وقعها ممثلو الحكومة الصينية السابقة تثبت أن المنطقة الواقعة غربي بحيرة كاسان داخلة ضمن

ص: 39

نطاق الحدود الروسية، وأن روسيا كانت ترسل إليها الدوريات العسكرية ولا تزال تفعل ذلك. فأبان السفير الياباني أن حكومته لن تكون مرتاحة إلى هذا الرد، وأنه من الضروري اتخاذ تدابير تعيد الأمن إلى نصابه على الحدود، وإلا اضطرت اليابان أن تستنتج من ذلك وجوب الالتجاء إلى القوة. فرد الرفيق لتفينوف أن مثل هذا التهديد لا يؤثر في روسيا ولا يخيفها. وعلى أثر ذلك قطعت المفاوضات

وبعد احتلال اليابان لتلول (تشانج كوفنغ) في 30 يوليو (تموز) تلقى سفير اليابان في موسكو التعليمات من حكومته بأن يطلب من الرفيق لتفينوف استئناف المفاوضات بشأن (تشانج كوفنغ) التي قطعت في 20 يوليو (تموز) فاجتمع السياسيان في 4 أغسطس وبسط السفير الياباني وجهة نظر حكومته التي ترمي إلى تسوية النزاع بالطرق الودية. فأصر الرفيق لتفينوف على أنه يجب على اليابان قبل بدء المفاوضات أن تسحب جيوشها إلى وراء الخط المعين في الخريطة الملحقة بمعاهدة (هونتشون) المبرمة عام 1886. فأجاب السفير بأن الخريطة المذكورة التي لا يوجد لها صورة رسمية إلا في وزارة الخارجية في موسكو، لا يمكن قطعاً اعتبارها المستند الوحيد الذي يستطاع استخدامه في تعيين الحدود، لأنها لم تنشر قط، ولأن السلطات اليابانية المختصة لم تعلم بها لحد الآن. على أثر ذلك انفض الاجتماع دون أن يصلا إلى نتيجة إيجابية

وفي اليوم التالي قابل السفير الياباني وزير الخارجية الروسية وعرض عليه اقتراح حكومته المشتمل على النقط التالية:

1 -

انسحاب القوات اليابانية إلى المنطقة المتنازع عليها حول جبل (تشانج كوفنغ).

2 -

تعهد روسيا بألا تحتل هذه المنطقة.

3 -

بقاء هذه المنطقة منطقة حياد إلى أن تقوم لجنة بتخطيط الحدود.

فرد الرفيق لتفينوف على هذا الاقتراح بقوله: إن روسيا لا تدخل في أية مفاوضات قبل سحب القوات اليابانية داخل حدودها. وعلى أثر هذه العبارة استأذن السفير الياباني بالانصراف وارفض الاجتماع. وكان القتال في هذه الأوقات شديداً، وهجوم الروس لاسترجاع منطقة (تشانج كوفنغ) قويا

وفي 10 أغسطس اجتمع الرفيق لتفينوف والبارون سيجيمنسو واتفقا على شروط الهدنة

ص: 40

التي تلخص كما يلي:

1 -

وقف الحركات العسكرية ظهر يوم 11 أغسطس حسب توقيت الشرق الأقصى أي الساعة الخامسة صباحاً في موسكو.

2 -

بقاء قوات الفريقين في المواقع التي كانت فيها في منتصف ليل 11 أغسطس.

3 -

تأليف لجنة مختلفة قوامها عضوان روسيان وعضو واحد ياباني، وآخر منشوري لتعيين حدود المنطقة المختلف عليها، فإذا لم تتوصل هذه اللجنة إلى الاتفاق وجب عرض الخلاف على حكم يختاره الفريقان.

4 -

تستند هذه اللجنة في أبحاثها إلى الخرائط الملحقة بالمعاهدات المعقودة بين روسيا وحكومة الصين السابقة.

وبرغم الهدنة حدث في 12 أغسطس حادث جديد فحواه، حسب تقرير السوفيت، أن الجيش الياباني أخذ يتقدم، فجابه الجيش الروسي على بعد مائة متر. وبقي الجيشان وجهاً لوجه حتى اتفقا على أن ينسحب كل منهما مسافة ثمانين متراً. وفي 13 أغسطس قدم الرفيق لتفينوف إلى السفير الياباني احتجاجاً على (الاعتداء الجديد على حدود السوفيات) طالباً انسحاب القوى اليابانية، ومهدداً باعتبار حكومة السوفيات الهدنة ملغاة فيما إذا لم تجب الحكومة اليابانية مطالبها. فانسحب الجيش الياباني، في 14 أغسطس، إلى الضفة اليمنى لنهر (تومن) داخل حدود كوريا ولم يبقى جندي واحد في منطقة (تشانج كوفنغ) الواقعة على الضفة اليسرى.

كانت هذه الهدنة فوزاً سياسياً كبيراً للحكومة السوفياتية، عزز نفوذها وهيبتها في الشرق الأقصى، وذلك بإكراهها اليابان على قبول شروطها من سحب الجيش الياباني من المنطقة المختلف عليها، ومن تشكيل لجنة الحدود بحيث يكون فيها أعضاء للروس بقدر ما لليابان وحكومة منشوكو معاً. أما اليابان فكانت تريد أن يكون لكل من روسيا واليابان وحكومة منشوكو عدد متساو من الأعضاء.

وسبب تراجع اليابان هذا أنها يوم أقدمت على إخراج الجنود السوفياتية من هذه المنطقة بقوة السلاح، كانت تظن أن روسيا ليست في حالة تمكنها جدياً من محاربتها، وكانت تعتقد أنها ستلقى من ألمانيا وإيطاليا مساعدة عملية، عملاً بميثاق مكافحة الشيوعية وامتداد محور

ص: 41

روما برلين إلى طوكيو.

ولكن الحوادث لم تحقق هذا الظن، لأن حكومة السوفيات أظهرت بطريقة لا شك فيها أنها لا تتردد في خوض غمار الحرب دفاعاً عن كرامتها وسلامة حدودها في الشرق الأقصى. ولأنه ظهر وهن ميثاق مكافحة الشيوعية المراد منه مقاومة نفوذ السوفيت. إذ أنه لما استفسر سفير اليابان في برلين من الهر ريبنتروب وزير خارجية ألمانيا يوم الاثنين الموافق 8 أغسطس، عن مدى المساعدة التي تقدمها ألمانيا لليابان إذا خاضت غمار الحرب ضد روسيا، أجاب الهر ريبنتروب بما معناه: أن ألمانيا مع ميلها إلى اليابان وتمنيها لها الفوز، لا تستطيع في الوقت الحاضر مدها بمساعدة عملية في حالة نشوب حرب يابانية روسية فأبرق السفير الياباني في برلين حينئذ إلى حكومته أن تعمل كل ما في وسعها لعدم تمديد الخلاف مع روسيا

أما روسيا فسوف لا تكتفي بهذا الفوز الأدبي الذي أحرزته على اليابان لأن مسألة (تشانج كوفنغ) لم تكن السبب الحقيقي في النزاع الذي كاد يؤدي بها إلى الحرب (بل هناك سبب أعظم منه هو أن مصالحها الحيوية تقضي عليها بوقف المطامع اليابانية في الصين عند حدودها، فإذا لم تعدل اليابان عن هذه المطامع، وتحل خلافها مع الصين على أساس يكفل للصينيين سيادتهم وسلامة بلادهم، فالحرب واقعة بينها وبين روسيا، وربما تشترك فيها بعض الدول الغربية من أصحاب المصالح في الصين

يوسف هيكل

ص: 42

‌آراء وتحقيقات

الخير والسعادة

الخلاف عليهما عند أكثر فرق الفلسفة

للأستاذ عباس طه

منذ قرابة عامين عرضنا في بعض المجلات العلمية للبحث عن الفرق بين الخير والسعادة لماما، ثم لمدى الخلاف بين المتقدمين من الفلاسفة وبين المتأخرين منهم في ماهية السعادة وهل هي سعادة بالإضافة إلى غيرها أم هي سعادة مطلقة بغض النظر عما عداها من الاعتبارات، وهل هي من ملابسات النفس الناطقة وحدها، أو أن البدن أيضاً من مقوماتها.

لكن البحث لم يتسق للكشف عن مبلغ آراء فرق الفلاسفة في السعادة والخير يومئذ في تلك المجلة. من أجل ذلك نحب أن نعرض لقراء الرسالة - بقدر - في هذا البحث الراهن للسعادة في رأي فيثاغورث وأفلاطون وبقراط، وهؤلاء من متقدمي الفلاسفة، ثم نعرض بعد ذلك لرأي ارستطاليس، ثم نقارب بين رأي فيثاغورس ومتابعيه، وبين جمهرة من المشائين حتى يتسق البحث على وتيرة واحدة، ويجري على سنن مستساغ.

في الاتجاهات التي اتجه إليها فيثاغورث وأفلاطون وبقراط ومن إليهم تلقاء النفس الناطقة أن الفضائل الأربع التي هي قوام السعادة وعتادها حاصلة كلها في النفس وحدها فليس لها مرد من الخارج ولا قوة تصدر عنها سوى النفس الناطقة؛ ولذلك حينما عرضوا لتقسيم قوى النفس في كتبهم اعتبروا كل هذه القوى منحصرة في الفضائل الأربع وهي: (الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة) على ما سيجيء الكلام عنه في بحوثنا المتلاحقة المتعلقة بالنفس الناطقة، ثم رتبوا على ذلك الاتجاه أن تلك الفضائل الأربع وحدها كافية لتكون قواماً للسعادة في فصولها المختلفة، فلا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن ومميزاته ضرورة أن ذا النفس الناطقة إذا حصل تلك الفضائل مجتمعة فلا يغض من سعادته أن يكون سقيماً أو فاقداً لبعض أعضائه أو مبتلى ببعض صنوف العلل والأدوار إلا إذا تأثرت تلك النفس بأوصاب البدن وأسقامه فيما يصدر عنها من أفعال كفساد العقل واضطراب التفكير وضعف الروية والخلط بين الآراء، فإن ارتفعت كل هذه الأعراض على إصابة

ص: 43

البدن بعلله وأوصابه فليس بضير النفس الناطقة في شيء أن يعرض لها الفقر والخمول وسقوط الحال وخشونة العيش مثلاً وكل ما هو خارج عنها فليس ما كان خارجاً عن النفس الناطقة بقادح في سعادتها. وبدٌ هي أن فيثاغورث ومن لف لفه يذهب إلى أن السعادة لا تعدو النفس الناطقة فلا تتناول الأبدان ومميزاتها، ويرتبون على ذلك الاتجاه أن السعادة والخير في مختلف مناحيهما ليس لهما إلا مصدر واحد وهو قوى النفس الناطقة وبالتالي الفضائل الأربع، وليس للبدن على هذا الاعتبار إلا مظهر آليته، فالنفس مديرة والبدن لها آلة.

أما جمهرة من الرواقيين فتذهب إلى أن السعادة والخير يصدران عن النفس والبدن معاً. فإذا صدر الخير عن النفس دون تقدير لكفة البدن فإنما يصدر ناقصاً بالقياس إلى ما تتعاون النفس والبدن مجتمعين في صونه وإبرازه.

يأتي بعد ذلك أرستطاليس فينحو نحواً آخر وهو أن السعادة والخير متخالفان، ثم إن السعادة بعد ذلك مقولة بالتشكيك فهي معروضة للمقولات العشر

ومعلوم أن المحققين من الفلاسفة يحقرون شأن البخت والاتفاق وكل ما هو منقطع الصلة بترتيب الفكر وأعمال الروية، ولا يؤهلون أصحاب هذه الاتفاقات وحملة تلك المصادفات لاسم السعادة. فالسعادة في أوضاعها أمر قار غير زائل، بل هم فوق ذلك يعتبرون كل ما يصل الإنسان من غير طريق التدبير والروية ومن غير أن يجري على سنن له مقدماته ونتائجه ضرباً من ضروب البخت فهو قابل عندهم للبقاء والزوال والزيادة والنقص والتعديل والتجريح والصحة والفساد والرفعة والخفض وكل الأشياء ونقائضها؛ وتابعهم في ذلك كثير من متأخري الفلاسفة أخذاً بنظرية صادقة عندهم وهي: من قدمه الاتفاق فقد أخره الاستحقاق. وهنا وقع خلاف ذو شأن بين قدماء الفلاسفة ومتأخريهم فيذهب فيثاغورث وأفلاطون وبقراط إلى أن السعادة العظمى لا تتحقق للإنسان إلا بعد أن تخلع البدن وما يلابسه من غاشيات الطبيعة، تطبيقاً لمذهبهم القائل بأن السعادة لا تحصل إلا في قوى النفس الناطقة. من أجل ذلك أطلقوا على الإنسان أنه جوهر النفس الناطقة دون البدن، فحكموا بأن البدن ما دام سياجاً لها وقفصاً لإيوائها، وما دام يخلع عليها غاشيات الطبيعة وأكدارها ولوثاتها وعلائقها فليست تلك النفس بسعيدة السعادة المطلقة الموموقة؛ ومبعث

ص: 44

ذلك الرأي عندهم أن النفس الناطقة لا تستوحي الكمال الذاتي والعقل النوراني ما دامت متصلة بتلك الهيولي التي تحجب عنها العلوم والمعارف الكلية، إلا إذا فارقت ظلمة الهيولي ولوثة تلك الكدورة، وحينئذ تفارق الجهالات المتنوعة فتصفو وتخلص من ربقة البدن فتكتب لها الإضاءة ويواجهها النور الإلهي. ويترتب على رأي هؤلاء بادئ ذي بدء أن الإنسان لا يظفر بالفوز الأكبر والسعادة العليا إلا في حياة الجزاء بعد موته.

لكن تأتي بعد ذلك جماعة أخرى من الفلاسفة المتأخرين وأرستطاليس منهم في الطليعة، فتذهب إلى أن من الشناعة والعبث وتجاهل الواقع أن ينعت الإنسان الذي يعمل الأعمال الصالحة ويعتنق الآراء الصحيحة، ويجد في تحصيل الفضائل لنفسه أولاً ثم لأبناء جنسه ثانياً، فينشئ صروحاً من الخير متنوعة، ويقيم أعماله وما يصدر عنه من الآثار على محبة القلوب وكسب ألسنة الناس في سبيل إعلاء معالم الفضيلة والحق والنصفة وتحقيق معنى العدالة في أنبل مثلها - بأنه شقي في حياته الأولى وأنه لا يعتبر سعيداً إلا إذا فارقها وخرج من طبيعتها وملابساتها.

فالسعادة في رأي أرستطاليس ومتابعيه تتحقق في الحياة الأولى تطبيقاً لنظرية اشتهرت بينهم، وهي: أن الإنسان عندهم مركب من بدن ونفس، ولذلك يحدون الإنسان بالناطق المائت أو بالناطق الضاحك أو ما إلى ذلك، وفرعوا على هذه النظرية أن السعادة تحدث للإنسان إذا جد في طلبها وسلك إليها الوسائل المؤدية إليها. غير أن أرستطاليس حين رأى أن السعادة قد أشكل فهمها على الناس واضطربت فيها آراء العلماء والفلاسفة، عقد لها في كتابه المسمى (بفضائل النفس) فصلا طويل الذيل ضافي التفاريع حافلا بالحجج والآراء، فقال في فاتحة هذا الفصل مع تصرف في المبنى واحتفاظ في المعنى:(من البين أن الفقير في هذه الحياة يرى سعادته في الغنى واليسار، وأن المريض يراها في الصحة والسلامة، وأن الذليل يتمثلها في الجاه والعزة والسلطان، وأن الخليع يلمسها في التمكن من الشهوات المختلفة، وأن النبيل الفاضل الكريم ينشدها في تعميم مناحي الخير وإفاضتها على مستحقيها، والحد من طغيان ذلك الخير حتى لا يشمل غير مستحقيه) ويتحققها الفيلسوف المستقصي لحقائق الأشياء والمستتبع لملابسات القواميس الكونية في أنها إذ تكون مرتبة بحسب تقسيط العقل لها على معنى أن يلحظ فيها وقتها الذي يجب أن تقع فيه وكما يجب

ص: 45

أن تكون وعند من تجدر فهي سعادات متنوعة، فما كان منها يراد لشيء يناسبه فذلك الشيء أجدر أن يطلق عليه أسم السعادة.

ثم كشف بعد ذلك أرستطاليس عن رأيه في بسط وإبانة، فقال مع تصرف في مبناه والاحتفاظ في معناه: قلما يتاح للإنسان أن يفعل الأفعال الشريفة المرضية دون مادة تقوم عليها كاتساع اليد وكثرة الأعوان وجودة البخت، ويتضح ذلك جلياً في صناعة المُلْك والرياسات المختلفة حيث لا يواتيهم توطيد لأركان هذه الزعامة إلا مقترناً بالشرائط المبنية على أن هناك نوعاً من الأعطية هي عطية الله تعالى جده، فهي السعادة لأنها عطية منه عز اسمه وموهبة في أشرف منازل الخير وأعلى مراتبه، وتلك الموهبة خاصة من خواص الإنسان الكامل فلا يشاركه فيها من ليست إنسانيته تامة كالصبيان وما يجري مجراه

وتلك النظرية تقوم على نظرية أخرى عند أرستطاليس فهو يرى أن السعادة تعتبر كذلك بالإضافة إلى صاحبها فهي كمال له، فالسعادة على هذا الوضع خير ما، وقد تكون سعادة الإنسان غير سعادة الفرس وما إليه، فسعادة كل شيء في تمامه وكماله الذي يلائمه، وهنا يفرق بين الخير والسعادة فيرى أن الخير من حيث أنه مقصود للناس جميعاً بالشوق إليه والعمل على تحصيله طبيعة تقصد، وله مفهوم عام يدل عليه وهو الخير المطلق للناس من حيث أنهم كذلك. فالناس أجمعون محاصون فيه. لكن السعادة شيء آخر غير الخير عنده، فهي خير ما لواحد من الناس، وهي بالإضافة ليست لها ذات معينة، وهي تختلف بالإضافة إلى قاصديها اختلافاً يرجع إلى مؤهلاتهم وما ركب فيهم من فطر ومعدات، ومن أجل ذلك يكون الخير المطلق غير مختلف فيه. وقد يظن بالسعادة أن تقع لغير الناطقين، لكن ليس على نحو من أنحاء الناطقين فإنها إذا وقعت فإنما هي استعدادات فيها بقبول كمالاتها الملائمة لها من غير روية ولا تدبير، وهي بمنزلة الشوق أو ما يجري مجراه من الناطقين بالإرادة

فما يقع للحيوانات في مآكلها واستجمامها لا يمكن أن يسمى سعادة بل الوضع الصحيح له أن يسمى بختاً أو اتفاقاً، وجلى أن العقل بفطرته قد جعل للسعي والحركة والإرادة المكتسبة للإنسان حداً تنتهي إليه، فذلك كان من المعقول أن يوجد خير مطلق لا تأباه طبيعة هذا الوجود ولا يوجد بين الناس خلاف عليه، فالهمم والصناعات والتدابير الاختيارية المجدية

ص: 46

مثلاً، كلها يقصد بها خير ما لوجه الإنسانية على الأقل ولا يرتاب أحد في أنها كذلك وأنها تثمر ثمرتها المرجوة لها، فكل تصرف لا يقصد به خير ما كان عبثاً والعقل يحظره ويأباه

فيكون الخير المطلق مقصوداً إليه من الناس أجمعين، لكن بقي بعد ذلك أن يعلم ما هو ذلك الخير المطلق، وما الغاية القصوى منه التي هي غاية أنواعه وأعلى مراتبه؟ وذلك ما سنعالج تبيانه بعد. غير أن أرستطاليس قسم الخير تقسيماً مفصلاً ونوعه تنويعاً يكشف عنه كثيراً من الإبهام الذي وقعت فيه جمهرة من متقدمي الفلاسفة فهي ترى أن الخير أنواع وفصول، فمنه ما هو شريف ومنه ما هو ممدوح ومنه ما هو بالقوة، فالشريف منها ما كان شرفه مشتقاً من ذاته بحيث بقلع الشرف على من قام به وهو الحكمة والعقل، والممدوح منها كالفضائل والأفعال الجميلة الإرادية. أما ما كان بالقوة فكالتهيؤ والاستعداد لقبول الأشياء التي تكون نوعاً من هذه الأنواع، ومن الخير ما هو غاية، ومنه ما ليس كذلك، ومن الغاية ما هو تام، ومنها ما ليس كذلك؛ فما هو تام كالسعادة، لأن من بلغ إليها كان في غناء عن أن يكون له وراءها مطمع في مزيد، وما هو غير تام كالصحة واليسار، فإن من واتته الصحة وواتاه اليسار لم يكن له عن طلب المزيد غناء، بل ربما كانت الصحة أو اليسار من أقوى الحوافز له على طلب المزيد. أما الذي ليس بغاية منه فكالعلاج والتعلم والرياضة والعمارة والزراعة وما إلى ذلك. وجملة القول في الخير على ما حققه أرستطاليس وحكاه عن فرفوريوس أن من أنواع الخير ما هو خير على الإطلاق وما هو خير عند الضرورة. ومنها ما هو خير ولكن ليس من طريق له مقدماته ووسائله كالاتفاقات التي تتفق لبعض المجدودين من الناس، وأيضاً منها ما هو خير لجميع الناس ومن جميع الوجوه وفي جميع الأوقات. ومنها ما ليس بخير لجميع الناس ولا من جميع الوجوه (وبالتالي) منها ما هو في الجوهر ومنها ما هو في الحكم، ومنها ما هو في الكيف، ومنها ما هو في ألاين، ومنها ما هو في الضاف، ومنها ما هو في الخير. وعلى الجملة فالخير يعرض للمقولات العشر التي يعبر عنها الفلاسفة الأقدمون بأنها الأجناس العالية التي ليس فوقها جنس بل هي أعلى الأجناس جميعاً فهي تحمل عليه حملاً اصطلاحياً إخبارياً. وقد أفاض أرستطاليس إفاضة مبسوطة في تبيان هذه الأجناس العالية، وعروض الخير لها دلالة منه على أن مناحي الخير غير محدودة، وأن نعمة الله التي أسبغها على عباده أوسع

ص: 47

من أن تضيق بها تلك الرقعة السوداء بل إن آثار الله وآلاءه مبثوثة في كل جزء من أجزاء الكائنات، حتى يبقى البرهان القاطع قائماً على شيوع الآيات الباهرة في سائر مناحي تلك المجموعة الشمسية

وفي كل شيء له آيه

تدل على أنه الواحد

وقد سلك أرستطاليس في ذلك مسلكاً يخالف مسلك المتقدمين من الفلاسفة كأفلاطون وبقراط ومن إليهما - فالمفهوم من تفاصيل مذهبه في النفس الناطقة وفي الخير والسعادة التي تنفعل بها قوى النفس جلي، بل إن الخير شيء غير السعادة وإنه شائع بأجزائه في كل مناحي الوجود حتى سرى الخير إلى سائر المقولات سريانه إليها دليلاً على ذيوعه وانتفاع الناس به. فالخير في الجوهر وهو ما ليس بعرض يمثل له أرستطاليس بالحق تعالى جده، فهو الخير الأول على حد تعبيره، فإن جميع الأشياء تتحرق بالشوق إليه ولأنه يفيض السرمدية والبقاء على الخير الذي كتب له الخلود وعلى الآلاء اللانهائية، وعلى كل ما لا يطرأ عليه الفناء من أجزاء العالم الثاني الذي يعبر عنه المتقدمون من المتكلمين بعالم الجزاء. وفي الكم يمثل له بالعدد والمقدار المعتدلين، ويمثل للكيف باللذائذ وألوان المتاع، ويمثل لمقولة الإضافة بالصدقات والرياسات التي تنبعث عنها صلاحية تنطوي على خير الإنسانية في أكمل حدودها، ويمثل لمقولة الأين بالمكان المعتدل في أبعاده وأجوائه ومحيطاته وبالزمان الأنيق البهيج المتفتح الأكمام عن المرح والسرور. ويمثل لمقولة الوضع بالقعود والاضطجاع وسائر المشاهدات المؤثرة، ويمثل للعقل برواج الأمر ونفاذ الكلمة وسعة السلطان. وعلى الجملة فأنواع الخير عنده منها ما هو من قبيل المحسات ومنها ما هو من قبيل المعقولات. ولعل الأستاذ أحمد أمين، وقد أذاع على متن الأثير محاضرتين في السعادة والشقاء، يعود فيصحح بعض نظرياته التي طالع بها سامعيه. ولعل الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وقد أذاع هو الآخر على متن الهواء محاضرتين أو ثلاثاً لا أدري في الحياة المثالية والحياة البدائية وما يتصل بهما من قوى النفس الناطقة، يعود هو الآخر فيصحح بعض نظرياته ليرضي الحق وهيبة العلم في صميمه من جهة، ثم ليرضي في الأقل سامعيه من جهة أخرى، وموعدنا بالكشف عن ذلك كله سوانح مقبلة.

عباس طه

ص: 48

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 22 -

جلس أبراهام ينتظر رد سيوارد بصبر فارغ وفؤاد قلق، فإنه ليعجب كيف يقف منه صاحبه مثل هذا الموقف؛ على أنه لن يحجم عن مواجهة العاصفة وحده مهما بلغ من شدتها، وإن كان ليود بينه وبين نفسه أن يكون سيوارد إلى جانبه في تلك الشدة التي تطيش في مثلها أحلام الرجال وإن كانت تزن الجبال. . . يود أن يستعين بصاحبه فهو واثق من كفايته مطمئن إلى إخلاصه

وما بال الرئيس تزداد سحابة الهم كدرة على محياه حتى ليبدو للأعين كمن أخذته غاشية من حزن أليم؟ ما باله طويل الإطراق كثير الصمت، لا يستمع إلى حديث زوجه إلا قليلاً ولا يشاطرها جذلها ومرحها ولا يشاركها ما دب في قلبها من الزهو بما باتا يتقلبان فيه من نعمة ويحظيان به من جاه. . .؟

إنما يكرب الرئيس ما آلت إليه حال بلاده، فما به خوف أو تردد وما هو عن البذل بضنين؛ وإنه ليحزنه أن يكون بنو قومه بعضهم لبعض عدو في غير موجب لذلك وهم عن الحق في عماية من تبليل أفكارهم وتسلط العناد على نفوسهم، وما له إلى هديهم بالتي هي أحسن حيلة.

ورضى سيوارد آخر الأمر أن يعمل مع أبراهام، وكان سيوارد قليل الثقة بكفاية صاحبه الإرادية لأنه لم يسبق له أن شغل منصباً إدارياً قبل هذا المنصب الخطير، ولذلك كان يطمع سيوارد أن تكون في يده السلطة الفعلية وتكون للرئيس الرياسة فحسب؛ وبهذه الروح

ص: 50

بدأ العمل مع صاحبه. . .

واختار لنكولن رجالاً للحكومة كون منهم مجلسه ومن أشهر هؤلاء نشيس، وكان من أعظمهم كفاية بعد سيوارد؛ غير أنه لوحظ على الرئيس أن أربعة من رجال مجلسه كانوا منافسين له في الرياسة مما يخشى معه أن ينسوا الصالح العام من أجل العمل على توطيد مراكزهم توطئة للانتخاب القادم، ولكن لنكولن رد على هذه المخاوف بما ارتآه من اعتبارات أملاها عليه بعد نظره، فلكل من هؤلاء شيعة وأعوان، وكل منهم يمثل ولاية من الولايات الشمالية؛ هذا إلى ما يعلمه من كفايتهم، وإنه ليركن إليهم مطمئناً إلى وطنيتهم قائلاً إن الوقت عصيب فما يظن أن أحداً تحدثه نفسه أن يعمل لصالحه الشخصي في ظروف كتلك الظروف. . .

ولما جلس لنكولن معهم حول المنضدة عرف كيف يؤلف بين قلوبهم وكيف يحملهم على احترامه ثم محبته ثم الإذعان له والتسليم بالتفوق. ولقد باتوا جميعاً يعجبون كيف يدير الأمور كما يلمسون رجل لم يعهد إليه مثل هذا العمل من قبل، ولولا أنهم يعرفونه جميعاً لما صدقوا أن هذه هي أول مرة يضطلع فيها بمثل هذا العمل

رأوه يخفض لهم جناحه ويبسط لهم مودته ويوسع صدره؛ يستمع لآرائهم جميعاً ولا يتكلم حتى ينتهوا؛ فإذا أعجبه رأي قبله مغتبطاً، وإذا خالف أحداً في رأيه أظهر له في دماثة سبب مخالفته مع شدة الحرص على احترام شخصية من يخالفه وإظهار الاستعداد للاقتناع إذا استطاع محدثه أن يزيده إيضاحاً أو يسوق له الجديد من الحجج

وعرفوا من كثب خلاله فأعجبوا بأدبه وعذوبة روحه ونقاء سريرته وطيب قلبه؛ ولمسوا شجاعته في الحق، وأنسوا نكرانه لذاته ونسيانه كل شيء عدا رسالته التي يستمد منهم العون في أدائها. . . وبلوا بأنفسهم صبره في الشدائد وعزيمته إذا همّ بأمر اقتنع بصوابه؛ وتبينوا حصافته وأناته وبعد نظره، وبهرهم فوق هذا ذهنه المصفى ومنطقه المستقيم وفصاحته وفطنته، تلك الخلال التي جعلته أقدر الناس فيهم على أن يفصح عن آرائه لمن إليه، وأن يتبين ما يأخذ مما يدع في كل ما يعرض له من الأمور مهما تعقدت والتوت على غيره الأمور. . .

ولقد عد كثير من المؤرخين إدارة لنكولن مجلسه على هذه الصورة مظهراً قوياً من مظاهر

ص: 51

عظمته، وناحية متينة من نواحي نجاحه، وسلكوه بها في ثبت كبار الساسة في تاريخ الأمم، ولا عجب فإنه ليندر أن نجد في سجل الأيام مجلساً حكومياً شعر أعضائه من معاني الاحترام والمحبة بمثل ما شعر به أعضاء هذا المجلس نحو رئيسهم. . . لا يستثنى منهم أحد، حتى سيوارد الذي كان يدل أول الأمر بتجاريبه ودرايته بأساليب الحكم والسياسة، ما لبث أن اعترف في نبل وكرامة نفس أن رئيسه أقدر منه وأجدر بذلك المنصب. . .

وكان أول ما تلقاه الرئيس من البريد في صباح اليوم الثاني لتسلمه العمل خطاباً من الجنرال أندرسون في حصن سمتر ينبئه فيه أنه ما لم يصل مدد إلى الحصن فإنه لا يقوى على الدفاع عنه أكثر من أسبوع. . . وكان أهل الجنوب وأهل الشمال على اتفاق ألا يهاجم أنصار الانسحاب من الاتحاد الحصن إلا إذا رأوا من أهل الشمال ما يبرر ذلك. . . وماذا عسى أن يفعل الرئيس إذن؟ أيترك حامية الحصن بلا مدد أم يرسل المدد فيتحدى بذلك أهل الجنوب؟ إن عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مرْ.

لذلك أخذ الرئيس يتدبر عله يجد مخرجاً، وهو على عادته طويل الأناة لا يخطو خطوة قبل أن يحسب لكل أمر حسابا، ولكن سيوارد يضيق ذرعاً بهذه الأناة وينصح للرئيس أن يأمر بإخلاء الحصن، وكذلك يشير عليه سكوت رأس جنده؛ وهو لا يرى ما يريان فالمسألة دقيقة شائكة. أو ليس التخلي عن الحصن معناه الاعتراف ضمناً لأهل الجنوب بصواب دعوتهم إلى الانسحاب؟ ثم أليس في ذلك خروج على ما أعلن الرئيس في خطبة الاحتفال؟ وهو أن أرسل المدد إلى الحصن ألا يعتبر عمله هذا تحدياً للثائرين فيكون بذلك هو الذي خطا أول خطوة نحو الحرب، الأمر الذي يحرص أشد الحرص أن يتجنبه؟. . . إذن فلابد من الروية والتدبر والصبر. . .

وجاء رجلان من الجنوب إلى العاصمة الشمالية كممثلين لدولة أجنبية يطلبان أن يفاوضا لنكولن على هذا الأساس، ولكنه رفض أن يلقاهما ولم يفعل أكثر من أن يرسل إلى كل منهما نسخة من خطبته. . وبقي الرجلان في العاصمة يجمعان الأنباء ويرسلانها إلى أهل الجنوب. . .

والصحف تهيب بالرئيس أن يأتي عملاً إيجابياً ولكنه صامت يفكر. . والرأي العام يغلي كالمرجل حتى لقد أطلق الناس ألسنتهم فيه بالسوء من القول، فالرئيس غِرٌ جبان، متورط

ص: 52

لا رأي له ولا بصيرة ولا حزم. . . وتفرق الناس في الشمال شيعاً فمنهم من يرى وجوب الحرب، ومنهم من لا يرضى إلا المسالمة والاتفاق، ومنهم من يتذمر ويتبرم ولكنه لا يرى شيئاً ولا يحس غير القلق والخوف، والرئيس لا يجيب إلا بقوله (إذا أخلى أندرسون حصن سمتر فسيكون عليَّ أنا أن أخلي البيت الأبيض). . .

ويهتدي ابن الأحراج بعد طول روية إلى رأي فيه دليل قوي على حنكته السياسية حتى لكأنه مارس السياسة طول حياته، ذلك أنه يزمع أن يرسل القوت ليس غير إلى الحصن، وحجته أن ذلك عمل إنساني لا عدوان فيه، فإذا قبل الثائرون هذا حلت المشكلة؛ أما إذا قابلوا ذلك بالقوة فعليهم إثم ما يفعلون، فهم بذلك يكونون بادئي العدوان ومشعلي نار الحرب. . . ولأهل الشمال بعد ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم العدوان إن كانت في نفوسهم حمية وفي رؤوسهم نخوة الرجال. . .

وتسير السفن محملة بالقوت، بعد أن يرسل الرئيس نبأ عنها إلى قائد الثوار حول الحصن، ولكن القائد لا يكاد يبصر السفن من بعد، حتى يطلق النار على الحصن فيسقط علم الاتحاد وتنسحب الحامية بعد دفاع مجيد. . .

ويثب أهل الشمال للنبأ وثبة واحدة فلا خلاف بينهم بعد ذلك ولا تنازع، وما فيهم إلا من يريد الدفاع عن الاتحاد ورد الإهانة التي لحقت بالعلم الذي طالما خفق على رأس وشنجطون وجنوده البواسل غداة حرب الاستقلال. . .

وما حدث في تاريخ العالم من قبل أن تحمس شعب إلى الدعوة للجهاد كما تحمس أهل الشمال يومئذ؛ فلقد كان الشيوخ قبل الشباب يريدون خوض غمار الحرب، ولم يتخلف النساء ولم يقعدن عن شحذ العزائم واستنهاض الهمم وإن لم تكن هناك حاجة إلى سعيهن. . . أما الشباب البواسل فقد استحبوا الموت على الحياة فساروا مغتبطين يطرحون نفوسهم تحت المنايا كأنما يسيرون إلى نزهة لا إلى مثل عذاب الجحيم. . .

وهكذا تقع الحرب بين نصفي شعب واحد. ولقد كان الرئيس أكثر الناس في الشعب جميعاً تألماً، وكان قلبه الإنساني الكبير يكاد يتفطر، ولكن ما الحيلة وهو يرى بناء الاتحاد أمام عينيه ينهار حجراً بعد حجر؟

وحسبك دليلاً على حماسة أهل الشمال أن الرئيس عندما أهاب بالولايات أن ترسل إليه

ص: 53

خمسة وسبعين ألفاً من المتطوعين، هرع إليه أكثر من تسعين ألفاً، وبعد شهرين وصل العدد إلى أكثر من ثلاثمائة ألف من البواسل الأمجاد.

وكان الموقف قبل وصول المتطوعين إلى العاصمة أشد ما يكون هولاً وخطراً. . . فلم يكن لدى لنكولن سوى ثلاثة آلاف، ولن يستطيع هؤلاء الدفاع عن العاصمة مهما كان من استماتتهم وشجاعتهم؛ لذلك سرى الخوف في المدينة وأيقن أهلوها أنها واقعة في أيدي الأعداء لا محالة

والرئيس ينتظر قدوم المتطوعين لإنقاذ المدينة من الخطر المحدق بها؛ ذلك الخطر الذي تشتد وطأته تبعاً لمسلك الولايات المحايدة وعلى الأخص فرجينيا؛ إذ كانت تلك الولايات تقف من النزاع موقفاً مبهماً ظن من أجلها أنها تلتزم الحيدة وإن كانت في الواقع تنزع إلى أهل الجنوب؛ وكانت فرجينيا أقربها موقعاً من وشنجطون لا يفصلها عنها إلا نهر ضيق. وسرعان ما أعلنت فرجينيا انضمامها إلى الاتحاد الجنوبي فبات العدو بذلك على أبواب عاصمة أهل الشمال، بل لقد كان البيت الأبيض على مرأى من الجند؛ لذلك شاع في الناس أن الجند سيعبرون النهر عما قريب فيستولون على مركز الحكومة ويسوقون لنكولن ومجلسه أسرى بين أيديهم. . .

وتزايد القلق وعظم الهول واشتد بالناس الكرب، والرئيس يسأل عن المتطوعين فلا يجد جواباً شافياً من أحد، حتى يصل إلى العاصمة قطار يهرول الناس على صوت صفيره إلى المحطة فتقع أعينهم على أول فرقة من فرق المتطوعين وهي فرقة نيويورك، وتعظم حماسة الجميع فيتصايحون ويرددون الأناشيد.

ويظل الرئيس يبحث عن القائد الذي يوكل إليه أمر هذه الحرب فلا يجد غير رجل يدعى (لي)، وكان يومئذ غائباً في فرجينيا وهو خير من يضطلع بهذا العبء، ولكن (لي) يرفض أن يأخذ قيادة الجيش، فيجزع لنكولن لهذا الرفض ويكتئب.

وبينما هو يبحث عن قائد غيره ينذره أهل بلتيمون، وهم الذين تآمروا من قبل على قتله، أنهم لا يسمحون بمرور جند في ولايتهم لأنهم محايدون. . . وينقضون بعد ذلك على فرقة قادمة من مساشرست، كانت من أقوى الفرق وأعظمها نظاماً، فيقتلون عدداً منها ويجرحون عدداً، ويحمل الجرحى على محفات إلى وشنجطون، فتلهب جراحهم حماسة القوم وتستثير

ص: 54

حميتهم وتزيد بأسهم. . .

ولم يكتف الثوار في بلتيمور بما فعلوا فحطموا الجسور التي تصلهم بالشمال والغرب، وعطلوا الخطوط الحديدية المؤدية إلى وشنجطون. . . ولكن أحد القواد الشجعان الموالين للرئيس لنكولن خرج من وشنجطون على رأس عدد من المتطوعين وباغت المدينة ليلاً وقبض على كثير من الثوار وقتل نفراً منهم ففت ذلك عضدهم، وأعلنت ولاية ماري لند بعد أن خضعت عاصمتها على هذا النحو انضمامها صراحة إلى الاتحاد، وكانت هذه الخطوة من جانب أهل الشمال أولى خطواتهم الموفقة

وأعلن الرئيس لنكولن الحصار البحري على موانئ الاتحاد الجنوبي ليقطع الصلة بينها وبين العالم، ثم أهاب بالولايات الخاضعة له أن تمده بعدد جديد من المتطوعين، فما لبثت أن أمدته بما طلب، حتى لقد غصت وشنجطون بهؤلاء المستبسلين الذين أراد لنكولن أن يستعيض بحماستهم عما يعوزهم من التدريب والنظام.

وفي تلك الأيام العصيبة نرى دوجلاس خصم لنكولن القديم يسعى إلى البيت الأبيض ويقابل الرئيس ويفضي إليه بإعجابه بما انتهج من خطة، ويعده أن يظل إلى جانبه خادماً لقضية الاتحاد وتتوثق عرى المودة بين الرجلين، ويستأذن الرئيس صديقه الجديد أن يذيع في الناس هذا النبأ، فيأذن دوجلاس مغتبطاً بعد أن يقرأ ما أعد للنشر؛ ويقابل الديمقراطيون وغيرهم هذا النبأ بالابتهاج، ويشعرون بقوة جديدة يظفر بها أهل الشمال

ولا يني دوجلاس يدافع عن الرئيس وسياسته يخطب الناس في المدن يستحثهم إلى البذل والتضحية؛ ولا يفتأ يضع بين يدي الرئيس من نصحه ومشورته ما يحرص الرئيس على الانتفاع به. ولكن يد الموت لا تمهل دوجلاس أكثر من شهرين فيلقى حتفه، ويتلقى لنكولن نبأ الفجيعة فيذرف الدمع السخين ويشتد به الغم حتى يرمض فؤاده. . .

ولقد امتدت يد الموت قبل دوجلاس إلى شاب مجاهد كان أول أمره يعمل في مكتب لنكولن أيام كان يحترف المحاماة؛ ولقد أعجب لنكولن بذكاء هذا الشاب وملك قلبه شدة محبته له، فلما سار إلى العاصمة سار معه؛ ولما تحرجت الأمور، برز هذا الشاب الباسل الذكي يجمع الفرق ويدربها ويعدها للنضال. . . إلى أن كان ذات يوم فأرسله لنكولن إلى ضفة النهر المواجهة للعاصمة ليحتل المرتفعات هناك. . .

ص: 55

ثم إن هذا الشاب الذي يدعى الزورت ذهب على رأس جنده فاحتل الأماكن المعينة؛ وهناك بصر بعلم من أعلام الثوار يخفق على جدار فندق في مدينة صغيرة تسمى الإسكندرية فتسلق الحائط في بسالة عجيبة وانتزع العلم من موضعه، وبينما هو نازل من أعلى الجدار إذ أصابته رصاصة فانكب على وجهه، وتدفق الدم من قلبه على هذا العلم، فكانت ميتته هذه ميتة بطل، تركت في نفوس أصحابه ما لا يتركه النصر في معركة حامية. . . ولا تسل عما أصاب الرئيس يومئذ من هم وحسرة. . . لقد حزن على هذا البطل كما كان يحزن لو أن الميت كان وحيده؛ وجاءت بعده منية دوجلاس فكانت الميتتان فاتحة الكوارث في هذا النضال العظيم. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 56

‌دمعة

لشاعر الحب والجمال لامرتين

للأديب عارف قياسه

فلنقطف الورد في غدوة حياتنا، ولنجن الرياحين في بكرة أعمارنا، ولننسم على الأقل أريج أزهار الربيع الخاطف، ولنغمس قلبينا في فيض اللذة النقية الطاهرة، وليكن هوانا يا حبيبتاه بحراً مسجوراً لا حد لسعته.

حين يبصر الربان زورقه الهش يتراقص فوق أعراف الموج الثائر، ويرجحن على غارب الآذى الغضبان، يكاد يزدرده اليم الهائج، يرجع ببصره إلى الشطآن التي نأى عنها، ويأسف على ما ذاق فيها من متع، وما رأت عيناه من مباهج وفتون

واحسرتاه! لشد ما يرغب في أن ينفق أيامه الداجية في مثوى آبائه وأجداده - غنياً عن فراق وطنه وآلهته - آمن السرب، ناعم الخاطر، لا يشمخ المجد بأنفه، قرب آثار عزيزة عليه، أثيرة لديه، لا يبارح طيفها خاطره، ولا يفارق خيالها ذهنه ولا مشاعره

كذلك الرجل الذي تقوس ظهره تحت أعباء السنين، وآصار الأعوام، يبكي ربيعه البهيج الزاهي - وقد ذهب إلى غير معاد، مَرِه العين، كليم الفؤاد، ويهتف:

(ردي عليَّ يا آلهتي الرحيمة تلك السويعات المضمخة باللذة والنعيم، فقد أنسيت أن أرشف رحيقها في حينه!)

ولكن المنية وحدها هي التي أجابته، وتلك الآلهة لم تصخ لرجائه، ولم ترق لبكائه، وإنما حدته إلى الرمس حدواً، وزجته في غياهبه زجاً، دون أن تأذن له في أن ينحني فيلتقط تلك الأزاهير التي لم يتح له أن يجنيها، فيستروح عَرفها وشذاها، ويفعم أنفه بعبقها ورياها

فلنتساق يا حبيبتاه أكؤس الهوى مترعة دهاقاً

ولنضحك ملء أفواهنا من الهموم التي تساور نفوس الأحياء، وتخامر قلوب الأشقياء!

ولنرث لأولئك الذين أفنوا شطر أعمارهم، سعياً وراء حطام الدنيا الكاذب، وهبائها الغرور.

لنعزف عن صلف أولئك الفارغ، ولنصدف عن ادعائهم الأجوف، ولندع الأمل العريض لمعلمي الإنسانية، يتعللون به ويتفكهون، ولنسارع نحن إلى احتساء كأس عمرنا حتى ثمالتها، ما امتطت تلك الكأس أكفنا

ص: 57

وسواء علينا أزانت مفارقنا تيجان الغار، ونقشت أسماؤنا في سجل (بلّون) الصلفة الراعف، على المرمر أو الفلز

أم توج الحب جباهنا المتواضعة بزهرات بسيطة جناها الجمال، فإننا جميعاً في يمْ واحد طاوون، وعلى شاطئ واحد لمتحطمون.

أليس سواء لدى المسافر الفريد، ساعة الغَرَق: أكان راكباً في سفينة شامخة شماء، تشق بحيزومها عباب الماء، تجاهد الزعازع وتصارع الأنواء، أم كان ممتطياً زورقاً خفيفاً تلعب به الأمواج، يلامس الساحل، ولا يجسر أن ينأى عنه؟

حماة (سوريا)

عارف قياسه

ص: 58

‌حول قصة حاجي بابا في إنكلترا

كما يرانا غيرنا

للأستاذ عبد اللطيف النشار

أشارت الرسالة في عددها الأخير إلى ما يخشاه بعض إخواننا الإيرانيين من اللبس بين إيران كما هي اليوم في مدنيتها الزاهرة وبينها كما وصفها مؤلف قصة حاجي بابا في إنكلترا، تلك القصة التي ترجمتها وتفضلت مجلة الرواية فنشرتها في بعض أعدادها الأخيرة

ولقد ذكر الأستاذ صاحب الرسالة أن مؤلفها نشرها في سنة 1822 ووصف بها إيران كما كانت في عهده غير متجنِ على الشرق كله، فما كان الوصف إذ ذاك قاصراً على دولة دون دولة من الشرق الإسلامي

وما من شك في أن هذا الجواب السديد جدير بأن يزيل كل لبس من هذه الناحية؛ وقد عنَّ لي أن واجباً عليَّ بيان السبب في ترجمتي هذه الرواية لإزالة لبس آخر أخشاه من ناحية الاختيار، فأتقدم إلى قراء الرسالة وهم ممثلو كل الأمم الشرقية الإسلامية بأن جهدي في الترجمة لم يقتصر على تلك القصة، ولكنني ترجمت نحو الخمسين رواية معظمها عن الشرق وفيها عن مصر وعن العرب، وفيما ترجمته عن مصر وعن العرب نقد أشد مما احتوته قصة حاجي بابا، فاختياري قائم على الرغبة في إطلاع الشرقيين وهم جميعاً إخواني على ما يكتب عنهم بلغة اعتدت القراءة بها ليعرفوا رأي الغير فينا. ولا أراني أقل غيرة على دولة شرقية مني على دولة أخرى، فإن الدم الذي يجري في عروقنا نحن الشرقيين دم مشترك. لا بل أجد الفرصة مناسبة لأطرح على القراء رأياً لي في اختيار الكتب للترجمة:

للمستشرقين جهود غير منكورة ولهم أغلاط شنيعة. وكتبهم مقروءة باللغات الأوربية بين من يثقون بهم ويجلونهم ويمدونهم حجة. وكتب هؤلاء المستشرقين وتلاميذهم تعد بالمئات وكتب الذين ينهجون نهجهم ممن لا يساوونهم في المعرفة أكثر عدداً. ومن بين قرائها شرقيون قد يتأثرون بها ويعجزون عن دفع شرها إن كان - فهل يحسن بهم أن ينقلوها إلى لغاتهم الشرقية ليتولى دفع الشبهات من يستطيع ذلك من أبناء تلك اللغات الذين لا يعرفون

ص: 59

لغة أجنبية، أو الذين يعرفون ولكن لا يقع في متناول اطلاعهم ذلك النوع من الكتب الممزوج خيرها بشرها؟

أقول ذلك وأضرب المثل بنفسي ولديَّ بحمد الله الشجاعة ما يساعدني على الاعتراف بأني لا أملك تصحيح أخطاء شنيعة في كتاب أترجمه الآن عن الإنكليزية وعنوانه (الواثق)

في هذا الكتاب تجن شديد على خليفة من خلفاء المسلمين وافتيات صريح على التاريخ. وقد قرأته في لغته وقرأه من أبنائها عشرات الألوف في مدى مائة عام مضت من عهد تأليفه إلى الآن؛ وقرأه باللغات الأخرى عشرات الألوف من أبناء الأمم الأخرى؛ فهل يرى الأزهري والدرعمي وخريج مدرسة القضاء الشرعي وغيرهم ممن تخصصوا في دراسة التاريخ الإسلامي أن يظل هذا الكتاب مقروءاً ممن يحسنون لغة أجنبية دون أن تصحح أخطاؤه، أم يرون أن يترجم لهم وهم أقدر على التصحيح ممن يقرؤون عادة باللغات الأجنبية؟

أنا لا أقوم بدعاية لكتاب كهذا حين أترجمه ومن السهل عليَّ تمزيق مسوداته. ولكن هل يزول أثر الكتاب إن فعلت ذلك أم يظل منتشراً بين الناس في لغات أخرى يقرؤها الكثير من الشرقيين؟

أما أنا فرأيي أن نعرف رأي الغير فينا فذلك أدنى إلى تصحيحه وما أحوجني إلى معرفة الحجج التي يدلي بها أنصار التجاهل

عبد اللطيف النشار

ص: 60

‌بين اللغة والأدب والتاريخ

الفالوذج

للأستاذ محمد شوقي أمين

- 3 -

صنفه السوقي، هل وضع له أسم عربي، قول الثعالبي، نقل

السيوطي، رأي السكندري، فصيح الألفاظ في معناه

- 4 -

ولما تألق الفالوذج في دنيا المطاعم، وازَّينت به موائد الأثرياء، تسامع به العامة، فتحلبت له شفاههم، وتشوفت إليه شهواتهم، فراح السوقيون من صناع الأطعمة وباعتها يلهوجونه على ما يعرفون من صفته، فيخرجونه مسيخاً مليخاً لا تأنق في طهيه، ولا استجادة لمادته، حتى يتسنى لهم أن يبيعوه بالثمن القليل الذي لا تعجز عنه طاقة العامة من رقاق الحال وذوي العسرة. ولم يكن هذا الصنف المبتذل من الفالوذج إلا بهرجة صبغ، وتضوُّء بريق فافتضح على الأيام زيفه، وثأرت لأذواقها الألسنة بذمة، فقيل في كل من حسنت جهيرته، ولم تطب سريرته: فالوذج السوق وصارت الكلمة مثلاً سائراً يتناقله الأدباء والشعراء، ومن أمثلة استعماله قول ابن حجاج، وهو الشاعر المزاح السليط الذي ترجم له الثعالبي فأوفى:

أعززْ عليَّ بأخلاق وُسِمتَ بها

عند البرية يا فالوذج السوق!

وقد أثبت الميداني هذا المثل في أمثال المولدين، وأضاف إليه توأماً له، ذلك هو: فالوذج الجسر. ولا بد أن يكون باعة هذا الصنف الملَهْوَج كانوا يجولون به، فيعرضونه للعامة في الطرق الصادرة والواردة. وبَديه أن من أحفلها بالناس: المعْبَر. فهو ملتقى السابلة من الطبقات العاملة، يغدون على الحاجات؛ ويروحون بالسلَع. فيبلون لهواتهم بالفالوذج المسموع به، الشهي مذاقه، الرائع منظره، ومن ثم شاع اسم فالوذج الجسر، إلى جانب فالوذج السوق، وكانا مثلين لذي المظهر بغير مخبر!

ص: 61

- 5 -

أسلفنا القول في صفة الفالوذج، على ما استنبطناه مما أنهته إلينا نقول الأدب والطرائف، وأدرنا الحديث قبل ذلك في لفظه والوجه في تعريبه كما تعرفناه في نصوص المعجمات وما في حكمها. فبان لنا أن اللغويين مجمعون على أنه معرب، فهو في عديد الألفاظ التي اغتنمت العروبة، وارتضى تجنيسها القُوَّام على الفصاحة.

وبقي أن نعرف: هل وضع العرب لهذه الحلواء اسماً فصيحاً غير اسمها الأعجمي، أو اكتفوا باستعمالهم لهذا الاسم بعد تعريبه وإلحاقه ببنات الضاد؟!

ساق الثعالبي جملة أسماء تفردت بها الفرس دون العرب؛ وقال: إن العرب اضطرت إلى تعريبها أو تركها كما هي، وجعل يعد من هذه الأسماء، فإذا من بينها الفالوذج. وقد نقل السيوطي فصل الثعالبي برمته، ما تعقبه بنقد، ولا استدراك عليه من شيء. فهل يريدنا ذلك على أن نعتقد أن العرب اكتفوا بالاسم الأعجمي، ووقفوا عنده، فلم يضعوا لهذه الحلواء لفظاً تقر به عين الزارين على التعريب مهما تمس إليه الحاجة، الضانين بالجنسية العربية على الدخيل، وإن ملك الألسن، وتراوحت عليه الأحقاب؟!

إن قول الثعالبي ونقل السيوطي خليقان أن يهيئا للباحث هذه العقيدة، ويغرياه بها. ولعل ذلك هو الذي مَهَدَ لعلامة الفقه اللغوي الشيخ أحمد الإسكندري - رضوان الله عليه - أن يقول فيما يستعمل من الألفاظ وما لا يستعمل:(وإذا سبق أن استعمل لفظ أعجمي زمن العرب كالفالوذج الذي عرف من أيام الرشيد، فمثل هذا في الواقع لم يكن من تعريب العرب، بل أطلقه طباخ أعجمي، وسمعه العرب واستعملوه؛ فمثل هذا وفُقِّنا إلى لفظ عربي سهل له، استغنينا عنه، لأن الواضع له في الحقيقة أعجمي لا عربي. . .)

فأما قول العلامة الإسكندري إن الفالوذج ليس من تعريب العرب، فهو قول ينفرد به، ولم أجد من سبقه إليه، بل لقد أصفن اللغويون على أنه معرب، وقد جاء في حديث للنبي صلوات الله عليه، أضف إلى ذلك أن العلماء القدامى ناقشوا في تصريفه، وجادلوا في تعيين حروفه. ولا يأخذ لغوي نفسه بهذا الصنيع، إلا إذا كان اللفظ معرباً أُفسح له في البقاء، فوجب توضيح زيه وشارته التي سيبقى بها في وطنه الجديد. وإن لزاماً علينا أن نشير إلى أن قول الإسكندري إنما جاء في عرض حديث شفوي شأنه الإعجال والإرتجال،

ص: 62

وهو منقول عنه، ومنسوب إليه، لا مكتوب بقلمه، ومثل هذا لا يؤخذ به صاحبه كما يؤخذ الكاتب راجع ما كتب وحققه على نص ما يريد. والرجاء أن نكون بذلك قد أنصفنا ذكرى رجل نعرف له الفضل والبَصارة، وتطوي له النفس على التجلّة والإكبار.

وأما رغبته في البحث عن لفظ عربي، يوضع للفالوذج اليوم جديداً من الوضع، فقد أداه إليها ما علمه وقدمنا بيانه من قول فقهاء اللغة: إن العرب تركوا الفالوذج على ما هو عليه، فأفهم قولهم هذا أنه لم يوضع له في سالف الزمن لفظ فصيح؛ ومن ثم وجب عنده أن نعمد إلى البحث والتفتيش حتى نوفق إلى لفظ عربي سهل، نستغني به عن الاسم الأعجمي، كما توضع اليوم المصطلحات الجديدة للأشياء المستحدثة بالطرق المعروفة من نحو المجاز والنقل والاشتقاق.

- 6 -

ولقد رصدت عيني منذ عهد ممدود لهذا الشأن فيما أرتصدها له من مباحث الفصحى؛ فتتبعت مواقع الفالوذج في أشتات الكتب، وفتشت عن ألفاظه في أجلاد الألفاظ، واستقريت منها ما راج لي أن أستقري، فتحصل لي من صحاح العربية: اثنا عشر لفظاً، وضعها العرب ليقوم كل منها مقام الفالوذج الأعجمي. ولم أر من المتحققين باللغة من أستوعى هذه الألفاظ، فلاءم بينها بعد الشتات والفرقة، وسوى بها فصلاً من فصول الفقه اللغوي، على نحو ما يصنع الأئمة في المعنى يؤدى بغير لفظ فذ، فقد ظلت هذه الألفاظ في المعجمات اللغوية أباديد، فجعلتها في هذا المعرض فصل من نتاج الاستقراء والتلقط جديد، لم يسبق إليه أحد، فيمن أجد، ولا مسه قلم فيما أعلم.

(للبحث صلة)

محمد شوقي أمين

ص: 63

‌لمناسبة الرحلة الملكية في الصحراء الغربية

لسان الصحراء

في رحلة جلالة الملك

للمرحوم مصطفى صادق الرافعي

(في شهر أكتوبر من سنة 1928 قام المغفور له الملك فؤاد برحلة إلى الصحراء الغربية وواحة سيوة، وكان المرحوم الرافعي يومئذ شاعر جلالته وحادي ركابه؛ فأنشأ هذه القصيدة يتحدث فيها عن الصحراء لمناسبة هذه الرحلة الميمونة

(واليوم - وبعد عشر سنين كاملة - يقوم جلالة الملك فاروق الأول برحلته إلى الصحراء ليرود المعالم التي رادها من قبل والده العظيم؛ فلعل في نشر هذه القصيدة لهذه المناسبة ما يقوم بواجب الولاء ويبعث طيب الذكرى)

سعيد العريان

تَساََءلَ القفرُ إذ حلَّ المليكُ به

أدار بي موضعي أم حان تجديدي؟

أم بعد زرعي دهوراً لا حصيدَ لها

من التواريخ، آن اليوم محصودي؟

رَمْلي على الأرض كالدينار من ذهب

مُلْقىً ضَياعاً وموجوداً كمفقود

أَم غَيَّرَ اللهُ أيامي فأسعدني

مليكُ مصرَ بيوم منه مسعود؟

كأن لي زمناً ما كان من زَمَنٍ

وَلا مَشَى بحسابٍ أو بتعديد

والوقت يخضع للساعات تمسكه

بكل ثانية من غير تبديد

وساعة القفر قفرٌ، فالثلاثُ بها

كالخمس، كالتِّسع، لا معنى لتحديد

أَم طُولُ صبري على الفِقدان عوَّضني

بأن يزور قِفاري خيرُ موجود؟

شمسٌ من الله في صدري وما كملتْ

إلا بشمس من الإنسان في جيدي

أَم ما لقيتُ من الحرمان كافأني

بأن يحلَّ بأرضي سيِّدُ الجود؟

مَلْكٌ كأن نباتَ العزِّ في يده

تجنيه من ذهبٍ أيدي المجاهيد

ويسحر الأرضَ حتى الأرضُ من أُفُق

ويسحر الوقتَ حتى الوقتُ من عيد

أَم ذاك حُلمُ الصحارى بالنعيم سَرَى

وَمَرَّ منطلقاً في هجعة البيد؟

ص: 64

في القفر دنيا ورا الدنيا نفرُّ لها

على مطايا الكرى من عيش تنكيد

إني كقطعة وحش صُوِّرَتْ بلداً

أَرْضِي سواءٌ وإنساني وجُلمودي

وَعوُدُ آدمَ عُريانٌ بلا ثمر

وزهرُ حواَء محطومٌ بلا عود

فلا بَنِيَّ لهم دنيا تَعُدُّهمو

فيها، ولا أنا في الدنيا بمعدود

لو أنزل الله سقفاً من كواكبه

لهم ليَبْنُوا لما هَمُّوا بتشييد

لو أمسكوا ظلَّ طير الجوِّ في قفص

ما أمسكوا ظِلَّ عُمْرانٍ بمجهود

وفي عريض فجاجي الشمسُ طالعةٌ

تزيد في ظلماتي الحيَّةِ السودِ

في الجدب، في الوحش، في الأحياء، في زمني

وفي طبائع أرضي، في تقاليدي

فاليوم أعرض آمالي على ملكي

وهو الكفيل بمرجُوِّي ومقصودي

لعلني خطَّ لي منه كتابُ هُدىً

وما زيارته إلا كتمهيد. . .

لبَيْك يا مُعضِلات القفر قد بَعثتْ

لك العنايةُ صنديدَ الصناديد

آباؤه الصيدُ هِمَّاتٌ مُجَمَّعَةٌ

فيه، وزاد على آبائه الصيد

رَحْبُ الأمانيِّ وثاب على فُرصٍ

ما أطمعتْ غيرَه في غير تزهيد

يرمي بحَبْلَيْهِِ: محلولٍ وَمُنعقِدٍ

فيها على كل محلول ومعقود

سرُّ اللُّيوث بعينيه، فنظرته

فيها اكتشافُ فريساتِ المواعيد

وتحت راحته سرُّ السيوف، فإِن

أشار راعَ كسيفٍ عند تجريد

وفي أنامله سِرُّ الأعنَّة: لا

ينفكّ يطلب ميداناً لتأييد

مليكُ معجزةٍ في أرض معجزةٍ

مخلّدُ الحمدِ في تاريخ تخليد

وما يُسَدُّ طريقٌ دون غايته

طريقُ كلِّ سعيدٍ غيرُ مسدود

ستستفيض على الصحراء همتُه

ثجَّاجَةً بالمشاريع المحاميد

فَيُولَدُ الزمنُ المشبوبُ من زمن

فانٍ تَكلَّحَ في تلك التجاعيد

هيهات هيهات ما يبني القفارَ سوى

صبرٍ كصبر (فؤادٍ) غير محدود

هُمُ الأعاريب في تلهيب جمرتهم

مثلُ البراكين لن تحيا بتبريد

يا لَلعزيمةِ لو أخرجْتَهم عربا

تحت القوانين أحراراً بتقييد

إذن لضاعفَ مِصراً سحرُ ساحرِها

وَابتزَّ ممدودَها من غير ممدود

ص: 65

النيل كنزٌ من الخضراء منكشفٌ

في جنب كنز من الصحراء مرصود

عَزَّ الذي جَمَعَ الكنزين في يده

يَحْمى بكنزِ زئيرٍ كنزَ تغريدِ

مصطفى صادق الرافعي

ص: 66

‌تسبيح.

. .!

للأستاذ سيد قطب

لعينيك تسبيحي وهمس سرائري

وفي صمتها الموحى مَرادُ خواطري

تطل على الدنيا فتوقظ قلبها

وتمنح هذا الكون إيمان شاعر

وتسكب في ألحانه عبقرية

من الفن لم تخطر بآمال ساحر

وتجلو من الدنيا عميق فنونها

وتكشف في أطوائها كل خاطر

ومن عجب توحي بفتنة ساحر

وتهمس في صمت بتقديس طاهر

لقد شف هذا الوجه حتى كأنه

خواطر فنان ندىّ المشاعر

وقد رق هذا الجسم حتى كأنه

هواتف حلم ناعمات البشائر

وقد رق هذا الصوت حتى كأنه

أغاريد لحن في السموات عابر

وقد خف هذا الخطو حتى كأنه

مرور نسيم بالأزاهير عاطر

وخلتك طيفاً هامساً في ضمائري

وإنك طيف هامس للنواظر!

لأيقظت في نفسي سعادة شاعر

وراحة موهوب وغبطة ذاخر

وأشعرتني معنى الطلاقة والرضا

ومعنى الغنى عن كل آت وغابر

مدى فيه من أفق الخلود مدارج

رقيتُ إليها في سنى منك باهر

سبقتُ به خطو الحياة لنهجها

وجزتُ به آفاقها في المعابر

فيا لك من هادٍ سَنِىَّ المنائر

ويا لي من سارٍ وَحِيِّ البصائر

(حلوان)

سيد قطب

ص: 67

‌أنتِ

للأستاذ عبد الحميد السنوسي

أَنتِ جدَّدت لي شبابي وقد كن

تُ دفنتُ الشباب من أزمان

أَنتِ جمَّلتِ لي الحياة فأصبح

ت أراها كما تشاء الأماني

ومحوتِ الظلماء فاختلب النو

رُ عيوني وانساب في وجداني

أَنتِ صورتِ لي الوجود وما في

هـ جميعاً بريشة الفنان

وخلقتِ الحياة خلقاً جديداً

ونفضتِ الترابَ عن أكفاني

أَنتِ زخرفتِ لي معالم دنيا

ي فأتقنتِ أيما إتقان

ونفيتِ الركود عني فهبَّ ال

قلب كالبحر صاخب الإرنان

أَنتِ أفهمتني الذي كنت لا أد

ريه في الكون من خفيِّ المعاني

وجلوتِ الأسى وغالبتِ همي

وشفيتِ الفؤاد مما يعاني

أَنتِ فجَّرت في الجوانح ينبو

عاً من الشعر زاخراً كل آن

وأزحتِ الستار عن عالم الصم

ت فأطلقتِ عقدة من لساني

أَنتِ أنشأتِ في جنانيَ كوناً

أي كون أنشأتهِ في جناني!

فائضٍ بالنعيم والخير والنو

ر وبالحسن والهوى والحنان

أَنتِ قرَّبتني إلى الخلد حتى

أصبح الخلد قطعة من كياني

أَنتِ علمتني الغناء فَغَنَّيْ

تُ وأشجيتُ كل قلب مُعاني

غَرَّد الحب في فؤادي فردد

تُ صداه الشجيَّ في ألحاني

ص: 68

‌البريد الأدبي

إلى وزارة المعارف

في هذا العدد والذي قبله والذي بعده بحث جليل قيم في قواعد اللغة العربية وتيسيرها لعلم من أعلام التربية والتعليم هو الأستاذ ساطع الحصري مدير دار المعلمين في تركيا، ووزير المعارف في الشام، ومؤسس النهضة التعليمية في العراق، ومنشئ أول مجلة تربوية في الشرق، عالج فيه مسائل في تعريف القواعد وتبويبها وترتيبها وتهذيبها لم يفطن إليها من قبله أحد. وهو يقدمها عن طريق الرسالة إلى معالي الوزير وسعادة الوكيل وأعضاء لجنة التيسير عسى أن يجدوا فيها ما يعينهم على ما نهضوا إليه من إصلاح القواعد العربية وتقريبها إلى عقول الطلاب. وفي رأينا أن ملاحظات الأستاذ ساطع جديرة بالاهتمام والنظر لصدورها عن لقانة نادرة وروية صادقة وخبرة طويلة

وزير المعارف يحكم بيننا وبين لجنة إنهاض اللغة العربية

تفضل صاحب المعالي هيكل باشا وزير المعارف فنظر فيما كتبناه ونشرناه عن افتيات لجنة إنهاض اللغة العربية علينا وعلى فريق من الأدباء الفضلاء لا تخشاهم ولا ترجوهم، ثم أمر بتقرير كتابنا (في أصول الأدب) لطائفة من مدارس الوزارة. وصنيع الأستاذ هيكل باشا هو الفرق بين وزير يقرأ ويقضي، وبين وزير آخر يسمع ويُمضي. . .

حول إنهاض اللغة العربية

حضرة الأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة

لا أحسبكم قد فرغتم من الحديث عن إنهاض اللغة العربية في مدارس الحكومة حين فرغتم من الحديث عن الكتب وطريقة اختيارها، فإن شأن اللغة العربية في وزارة المعارف خليق بأن ينال من عنايتكم أكثر من ذلك. ولقد حمدنا لكم ما نشرتم من الملاحظات على لجنة اختيار الكتب، وإننا ليسرنا بجانب ذلك أن تظل الرسالة حاملة راية الأدب الحر، دائبة على إنارة السبيل أمام القائمين على شؤون اللغة العربية في وزارة المعارف. فلقد مضى الوقت الذي كانت فيه وزارة المعارف تعمل منفردة في الميدان، لا تجد من يشد أزرها أو يناقشها الحساب أو يهديها السبيل. وليس من أحد غير الرسالة يستطيع أن يفرض على

ص: 69

نفسه هذا الواجب أو يرى نفسه أهلاً لهذا الحق.

كان مما قررته لجنة إنهاض اللغة العربية أن تزيد درسين في كلتا السنتين الأولى والثانية أحدهما اختياري، ودرساً واحداً في باقي الفرق. فهل يعلم سيدي أن هذه الزيادة قد انتهت نهايتها إلى أن تكون من أسباب ضعف اللغة العربية في مدارس الحكومة بدل أن تكون من وسائل إنهاضها وقوَّتها؟

ذلك أن وزارة المعارف حين زادت هذه الدروس لم تحسب حسابها فتزيد عدد المدرسين ليقوموا بهذه الزيادة؛ والمدرسون القائمون بالعمل الآن في المدارس الثانوية لا يسعهم - على ما هم فيه من رهق ومشقة وزحمة في العمل - أن ينهضوا بهذا العبء الجديد. وقد جاء موسم العمل وليس في المدارس حاجتها من مدرسي اللغة العربية، فلم يجد نظار المدارس أمامهم وسيلة - والحالة هذه - إلا أن يزيدوا العمل على المدرسين الذين يعملون معهم - مدرسي اللغة العربية خاصة -: ثلاثة دروس في الأسبوع على كل مدرس؛ فعليه منذ اليوم واحد وعشرون درساً في الأسبوع، بعد ثمانية عشر درساً كان يشكو كثرتها التي تستنفد الوقت والعافية والطاقة العصبية، فليس له معها فسحة ليستجم لعافيته أو ليجدد مادته أو ليبتكر في وسائله

أفتكون هذه وسيلة من وسائل النهوض باللغة العربية أم سبب من أسباب الضعف والخذلان؟

وثمة عبء جديد أضيف هذا العام على كاهل مدرس اللغة العربية، ذلك أن النظام في العام الماضي والأعوام السابقة كان يحدد عدد التلاميذ في دروس اللغات ببضعة وعشرين تلميذاً في كل شعبة فألغي هذا النظام في العام القادم وصار على مدرس اللغة العربية أن يلقي درسه على أكثر من بضعة وثلاثين تلميذاُ إلى أربعين؛ فهل تراه مع ذلك يستطيع أن يعمل وأن ينشط وأن ينهض باللغة؟

ثم إن كثيراً من نظار المدارس الثانوية قد تعجلوا الحكم والاختيار فاستغنوا عن درس من الدرسين المزيدين في اللغة العربية لتلاميذ السنتين الأولى والثانية قبل أن يتحققوا الحاجة إلى هذا الدرس، بل قبل أن تبدأ السنة الدراسية وينتظم التلاميذ.

والخلاصة ما يأتي:

ص: 70

أ - أوصت اللجنة بزيادة دروس اللغة العربية فزيدت ولكن على حساب المدرس المرهق بحيث يصير عمله لا خير فيه

ب - أوصت اللجنة بزيادة العناية بدروس اللغات فزيد عدد تلاميذ الفرق بحيث يجتمع على المدرس كثرة لا يستطيع معها أن يعرف تلاميذه

ج - زادت الوزارة بعض دروس اللغة العربية زيادة اختيارية، فألغى نظار المدارس الثانوية بعض هذه الزيادة قبل أن يتحققوا الحاجة إليها رغبة في التخفف من العمل!

. . . وأخيراً ما زالوا يتحدثون عن الوسائل التي قدروها للنهوض باللغة العربية، وما زالوا يكررون الحديث عن تنظيم المكتبات المدرسية، وتوجيه التلاميذ إلى المطالعات الخارجية، وإنشاء المحاضرات، وإقامة المناظرات، وترتيب المباريات بين الطلاب في الكتابة والخطابة والمناظرة والإلقاء. . . ولا عليهم فيما يتحدثون وما يقدرون، وما ننكر أن هذا الذي يتحدثون عنه من أنجح الوسائل في تقويم اللسان وتقوية اللغة، ولكن. . . أين هو المدرس الذي يجد عنده الوقت الذي ينفقه في ذلك؟

نحن موقنون تمام اليقين بصدق نية معالي الدكتور هيكل باشا على النهوض باللغة العربية، موقنون أنه قد أدى واجبه في ذلك على الوجه المستطاع؛ ولكن ما يزال أمام معاليه واجب آخر هو أثقل عبئاً وأكثر نفقة: أمامه أن يباشر تنفيذ الوسائل التي وضعها مستشاروه لينهضوا باللغة العربية؛ فليست تغني النية عن العمل، وليس يكفي وضع البرامج وتمهيد الخطط دون العناية بوسائل التنفيذ. ولربّ عمل صالح أسلمه صاحبه إلى من لا يحسنه أو من لا يخلص له، فأداه غير مؤداه وانتهى به إلى غير غايته

(مدرس)

مجمع المعارف بحيدر آباد (دكن) واجتماعه السنوي الأول

في حيدر آباد (دكن) مجمع علمي أسسه منذ أكثر من نصف قرن المرحوم النواب عماد الدين ورفقاؤه، وغايته الأساسية إحياء الكتب العربية القديمة تعميماً لنشرها وتداولها بين طبقات العلماء. وهذا المجمع يمتاز عن غيره بروحه العلمية وبمطبوعاته الثمينة المتداولة بين أوساط العلم المعتمد عليها من رجال البحث والتحقيق الآن - ومن هذه المطبوعات ما

ص: 71

يتعلق بالحديث والرجال، وما يتعلق بالفلسفة والتاريخ، وما يتعلق بالطبيعيات والطب وغيرها من العلوم والفنون - ويقول العلامة السيد سليمان الندوي: نحن، أهل الهند نفتخر، مع إفلاسنا العلمي في هذه الأيام، بهذه الدرر الثمينة النادرة التي أخرجها مجمع المعارف في (حيدر آباد) إلى طبقات العلماء ونرجو أن يعود إلينا مجدنا العلمي تحت ظل الدولة الآصفية.

ولقد فكر القائمون بأمره في عقد اجتماع سنوي عام يدعى إليه العلماء الممتازون في العلوم العربية بأنحاء الهند تنشيطاً للحركة العلمية وتمهيداً لتوسيع أعمال المجمع بالاستفادة من مواهب العلماء الأجلاء غير أعضاء المجمع في البحث والتحقيق، فانعقد الاجتماع الأول الذي دام أربعة أيام من 9 إلى 12 يوليه سنة 938م في خمس جلسات أولها في إيوان البلدية الفخم حضرها أركان الدولة الآصفية وأساتذة العربية في جامعات الهند المختلفة وأرباب العلم وجماعة من الطلبة النابهين، وعلى كرسي الصدارة السر أكبر حيدري الوزير الأعظم. ثم التمس من القارئ إبراهيم رشيد أن يتلو ما تيسر من القرآن بصوته الرخيم، ثم ألقى خطبته الافتتاحية وذكر فيها خدمات المجمع في السنين الماضية بعد أن تلا على الحاضرين رسالة ملكية آصفية مفعمة بالعبارات الرقيقة والعواطف السامية.

فقام النواب مهدي يارجنك وزير التعاليم والسياسات ورئيس المجمع فألقى خطبة بلسانه المبين ذكر فيها غرض المجمع وغايته وما تم من الخدمات وما درج في البرنامج من الأعمال التي يرجو أن يتمها المجمع بتوفيق الله ومساعدة العلماء - وبعده ألقى مولانا عبد الله قصيدة عربية تخليداً لهذا الاجتماع العظيم واليوم المبارك

ثم انعقدت الجلسة الثانية في اليوم التالي وكان الشيخ إبراهيم حمدي، شيخ الإسلام بالمدينة المنورة، النزيل بحيدر آباد الآن، حاضراً، فتفضل بتلاوة آيات من القرآن على النغمات الحجازية. ثم اقترع على من يكون أول المتكلمين في الجلسة فاستخرج بطريق القرعة اسم العلامة السيد سليمان الندوي فقام وألقى بحثاً مستفيضاً عن (كتاب المعتبر) وهو كتاب غير مطبوع للفيلسوف أبي البركات البغدادي الذي عاش في القرن السادس الهجري، وألف كتابه هذا في نقد فلسفة أرسطو ومنطقه وهو كتاب وحيد في بابه فريد في فنه، ثم تكلم الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي الذي حضر إلى مصر في السنة الماضية لطبع

ص: 72

سمط اللآلى، ثم سافر إلى دمشق واستنبول باحثاً في دور كتبها ومنقباً في خزاناتها فرجع بكثير من المعلومات عن النسخ والكتب، وكان موضوعه (ما رأيت في دور الكتب بالممالك الإسلامية) وذكر أهمية دار الكتب باستنبول والكتب النادرة فيها. وبعده قام السيد مناظر أحسن الجيلاني رئيس الشعبة الدينية بالجامعة العثمانية، فتكلم عن فلسفة محيي الدين بن عربي وابتدأ بكلام عن تخلص المجتهدين الفقهاء من تصرف الملوك في تدوين الفقه وانتقالهم إلى الأندلس وسبب انتشار المذهب المالكي فيها، ثم شرح فلسفة ابن رشد وأسس بحثه، ثم بيّن كيف خالفه محيي الدين بن عربي في المسائل الفلسفية وحملاته عليه حتى انتهى إلى وحدة الوجود، فإذا هي فلسفته الخاصة

ثم كانت الجلسة الثالثة في قاعة المحاضرات بالجامعة العثمانية وكان أول من تكلم الدكتور داود بوتاء أستاذ العربية بالكلية الإسماعيلية (بومباي) وموضوعه فلسفة ابن خلدون الاجتماعية وكانت المقالة طريفة مصحوبة بالمقارنات والانتقادات، والدكتور المذكور يقوم الآن بترجمة مقدمة ابن خلدون إلى اللغة الانكليزية، وبعده تكلم الشيخ عبد الرحمن عضو مجمع المعارف في علم أسماء الرجال وأهميته، ثم ألقى الدكتور حميد الله أستاذ أصول الفقه والقانون بالجامعة العثمانية، بحثاً مستفيضاً عن (دستور الدولة في العهد النبوي)(هاجر رسول الله إلى المدينة وعقدت معاهدة بين المسلمين واليهود) فجمع الدكتور المذكور أجزاء هذه المعاهدة وشرحها شرحاً وافياً واستنبط منها العناصر الأساسية لدستور الدولة.

ثم تكلم السيد أحمد الله الندوي عضو مجمع المعارف في (علم صناعة الجراحة وشرح آلات الجراحة عند العرب). وفي ختام هذه الجلسة قام الدكتور عبد الحق وألقى كلمة في موضوع (حاجة الهند إلى المجمع العربي)

وفي هذه الجلسة ألقى الدكتور حسين الهمداني أستاذ العربية بكلية استيفن بومباي بحثاً عن (كتاب الرياض لأحمد الكرساتو) وكان أحمد هذا إسماعيليا متكلماً فيلسوفاً عاش في القرن الثالث الهجري وكان معاصراً للفارابي، وأما الدكتور الهمداني فكان أصله من اليمن، ويعتبره علماء الهند أعلم العلماء بالإسماعيليات، وهو أول من عرّف العالَم العلمي بالكتب الإسماعيلية وقد أشار في بداية كلامه إلى تاريخ الأدبيات الأسماعيلية؛ ومقالته مفعمة بالمعلومات الجديدة التي كانت مجهولة من العلماء. ثم ألقى مولانا عبد الله العمادي بحثاً في

ص: 73

(علم المرايا والمناظر لأبن الهيثم) وبعده تكلم العلامة مأمون الأرزنجاني من علماء دمشق، في مناهج التعليم العربي، مشيراً أثناء كلامه إلى كتب القواعد والمطالعة التي وضعت على قاعدة جديدة للمدارس بالشام.

وبعده قام الفاضل المولوي عبد القدوس الهاشمي المساعد في ترتيب معجم المصنفين وألقى بحثاً في (كتاب المخترع في فنون من الصنع) ومؤلف الكتاب لا يزال مجهولاً، غير إن النسخة التي توجد في دار الكتب الآصفية كتبت في سنة 876هـ في الهند بقلم ضياء ترك القاضي خان الناخوري. وللكتاب أهمية فيما يتعلق بفنون الصناعات الإسلامية العربية ومناهج الصانعين فيها. ثم تكلم الأستاذ امتياز علي، مدير دار الكتب برامبور في (تفسير الإمام سفيان الثوري) ومن هذا الكتاب نسخة بدار الكتب المذكورة وأشار في بحثه إلى أن المسلمين أول ما خدموا من العلوم علم القرآن وأول ما كتبوا من الكتب في فن التفسير.

وفي الجلسة الأخيرة تكلم الشيخ شبير أحمد ناظر دار العلوم الديويندية ورئيس المدرسين بجامعة دابهيل في موضوع (الوحي معصوم عن الخطأ) واقترح على مجمع المعارف الالتفات إلى علوم القرآن ونشر الكتب في فنونها. ثم ألقى مولانا عبد الرحمن أستاذ العربية بجامعة دهلي بحثاً في (المستشرقين) من حيث التاريخ والخدمات العلمية ومعايبهم. وأخيراً قام الدكتور زبير الصديقي رئيس الشعبة الإسلامية بجامعة كلكته متكلماً في (علم الحديث وخصوصياته) من حيث الإسناد وطرق المحدثين في البحث وعدم خضوعهم لسلاطين الزمان واستقلالهم العلمي واشتراك النساء في الرواية، وهذه هي الخصوصيات التي قد حافظت ولا تزال محافظة على جوهرية الأحاديث من عبث المستشرقين بها كما فعلوا في أكثر الوقائع التاريخية الإسلامية كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

واختتم هذا الاجتماع الذي دام أربعة أيام في حيدر آباد وتناول البحث فيه أهم موضوعات العلوم العربية وفنونها، بالسلام لصاحب الجلالة آصف السابع ملك دكن والدعاء لذاته الكريمة

بدر الدين الصيني

تكريم الأستاذ قسطاكي بك الحمصي

ص: 74

أقام أدباء الشهباء حفلة تكريمية للأستاذ قسطاكي بك الحمصي مساء يوم الأحد 4 سبتمبر سنة 1938 بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره وتنويهاً بمآثره وخدماته في عالم الأدب. وكانت الحفلة تحت رعاية معالي الأمير مصطفى الشهابي وزير المعارف سابقاً ومحافظ حلب اليوم. وقد تكلم في الحفلة الأساتذة عيسى اسكندر المعلوف، وأمين هلال، والشاعران عادل الغضبان، وحليم دموس وألقى الأستاذ أسعد الكوزاني كلمة عن أسلوب المحتفى به في الكتابة النثرية سننشرها في العدد القادم. وقد ألقى في ختام الحفلة الأمير مصطفى الشهابي كلمة قال فيها إن هذه الحفلة قد ذكرته بأسواق العرب الأدبية، وتكلم عن فضل النصارى على اللغة العربية، ونوه بالخدمات الجليلة التي قاموا بها في هذا السبيل، وأشاد بفضل المحتفى به ومآثره في عالم الأدب

والأستاذ قسطاكي بك الحمصي من أوائل الأدباء الذين قاموا بخدمة اللغة والأدب منذ ستين عاماً، ولا يزال حتى اليوم على شيخوخته يقوم بخدمتها بالمقالات والأبحاث التي ينشرها في مختلف المجلات والصحف. وقد أقام بمصر في أوائل هذا القرن مدة طويلة اتصل خلالها بأدبائها ولا سيما الشيخ إبراهيم اليازجي الذي كان له أثر بارز في أدبه وأسلوب كتابته. وله من المؤلفات المطبوعة كتاب (منهل الوارد في علم الانتقاد) وهو يقع في ثلاثة أجزاء طبع الجزء الأول منه في مصر سنة 905، وطبع الجزءان الأخيران في حلب بعد الحرب العظمى. وله كتاب (أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر) ترجم فيه للأدباء الحلبيين الذين عاشوا في هذا القرن ولهم أثر من شعر ونثر

ص: 75

‌الكتب

وحي بغداد

للدكتور زكي مبارك

يظهر في الأسبوع المقبل كتاب جديد للدكتور زكي مبارك أسمه (وحي بغداد) والى القراء فاتحة هذا الكتاب

أما بعد فقد كتب الله تباركت أسماؤه أن يجعلني من الموفين بالعهد: فأخرجت كتاب (ذكريات باريس) تحية لمدينة النور التي اتصلت بها نحو خمس سنين، واليوم أخرج كتاب (وحي بغداد) تحية لمدينة الرشيد التي اتصلت بها نحو تسعة أشهر قضيتها في يقظة عقلية أوحت إلى قلمي ألوف الصفحات

وكنت نظرت فرأيت كتاب (ذكريات باريس) أوحى إلى فريق من الكتاب أن ينشئوا المؤلفات عن العواصم الغربية أمثال باريس ولندن وبرلين، وأنا اليوم أرجو أن يكون كتاب (وحي بغداد) سنّة حسنة لمن يعيشون في العواصم الشرقية عساهم يحببون العرب والمسلمين في بلادهم بما يبتكرون من شائق الوصف ورائع الخيال

وقد عجب ناس من وفائي لأهل العراق واهتمامي بتسجيل ما لهم من محامد ومناقب، وكنت أستطيع أن أقول إني عشت في العراق معلماً، ومن واجب المعلم أن يبرز المحاسن ليقوّي الروح المعنوي في تلاميذه ويسوقهم إلى ميادين الجهاد. كنت أستطيع أن أقول ذلك، ولكني في الواقع لم أر من أهل العراق غير الشهامة والنبل والوفاء؛ ويسرني ويشرح صدري أن أقول كلمة الحق في تحية من يعيشون في أنس بزهرات بغداد ونخلات البصرة وسمكات الفرات

وسيأتي يوم يعذرني فيه من اتهموني بالإسراف في حب البلاد التي عرفت بكاء الحمائم وظلام الليل

سيعرف إخواني في مصر أني بنيت لهم صرحاً من الوداد في وطن نبيل هو العراق

سيعرف إخواني أن غيرتي على سمعة العراق ستضاف إلى المحامد المصرية، وسيقول المنصفون إن المصري حين يغترب لا ترى عينه غير الجميل من شمائل الرجال

وهل كنت أملك أن أذكر العراقيين بغير الثناء؟ لقد نُظِمَتْ في تكريمي هناك قصائد وخطب

ص: 76

ومقالات لو جُمِعتْ لكانت مادة كريمة لكتاب نفيس، فبأي وجه ألقى الله إذا ذكرت العراق بغير الجميل؟

كنت أعرف أن أيامي قصيرة في العراق فتجشمت ما تجشمت لأزور أشهر الحواضر العراقية، فكانت فرصة عرفت فيها كيف يلتاع من يفارق حواضر العراق؟

يا ليت ماء الفرات يخبرنا

أين استقلت بأهلها السفنُ

ولا يعلم إلا الله كيف رحلت عن البصرة والحلة والنجف والموصل وكركوك وكربلاء

لا يعلم إلا الله كيف أخفيت يوم الفراق عن أصدقائي في بغداد

لا يعلم إلا الله كيف أخفيت نيتي عن تلاميذي فلم أخبرهم أن التسليم عليهم يوم الرحيل هو آخر العهد

لا يعلم إلا الله كيف انخلع قلبي وأنا أنظر إلى دار المعلمين العالية آخر نظرة، وألقي عليها آخر سلام

وإذا كانت شواغلي بمصر قضت بأن أعتذر عن المضيّ في خدمة تلاميذي بالعراق فسأتعزى عن فراقهم كلما تذكرت أني أوقدت في صدورهم جذوة لن تخمد أبداً، وسيصيرون بإذن الله من أشرف خدام العراق

والعهد بيني وبينهم أن نقضي العمر كله أوفياء للحق والواجب، وألا نرى المغانم في غير طهارة الضمائر وسلامة القلوب

هذا كتاب أوحته بغداد، وفيه ما في جوّ بغداد من طغيان الرفق والعنف، وصولة العقل والفتون

هو كتاب سيّرقَم على وجه الدهر وجبين الزمان

هو كتاب سيسعد به قوم ويشقى به آخرون

ولكنه سيظل أثيراً لدى بغداد، لأنه من وحي بغداد

زكي مبارك

ص: 77

‌المسرح والسينما

ملاحظات وخواطر

حول ترقية الأفلام المصرية

تحدثنا في الأسبوع الماضي عن ضرورة قيام الحكومة بإيجاد رأس مال مناسب يكون في متناول المنتجين المصريين الذين تعوزهم النقود اللازمة لإكثار جهودهم وموالاتها وأكدنا أن هذه هي أفضل الطرق لترقية الأفلام المصرية والأخذ بيد صناعة السينما في مصر. وقلنا كذلك: (إن هناك ناحية أخرى على اللجنة أن تنظر فيها وتعمل على التخلص منها ما دامت تريد نهضة جديدة للأفلام في مصر، وهذه الناحية هي جمود اللائحة التي تعمل بها وزارة الداخلية الآن في صدد ما يجوز معالجته وما لا يجوز معالجته في الأفلام من الموضوعات في مصر)

ونسجل على هذه الصفحة بضعة خواطر وملاحظات لنا على هذه اللائحة فنقول: إن هذه اللائحة تتناقض تناقضاً بيناً مع القانون الأساسي للبلاد وهو الدستور، وإذا كانت الحكومة قد ظلت مشغولة إلى عهد قريب بالقضية الخارجية، فقد آن الأوان لأن تراجع هذه اللائحة وتحذف منها ما لا يتفق مع هذا الدستور. فقد كفل هذا الدستور حرية القول والتأليف والكتابة والاعتقاد في حدود مبادئ القانون العام وهي ألا يكون في ذلك القول أو التأليف ما من شأنه تقويض النظام القائم أو المناداة بمبادئ خطيرة أو ما يمس الآداب العامة أو الشرف الخصوصي للأفراد والعمومي للدولة وتاريخها ورجال تاريخها. ونعتقد نحن أن في استطاعة قانوني كبير كبدوي باشا أن يضع لنا لائحة جديدة على أساس مبادئ دستورنا فيما لا يزيد على يوم وليلة! حتى لا تعارض وزارة الداخلية بعد الآن في فلم وطني أو سياسي أو فلم يدور حول فتاة لقيط مثلا - كما حدث منذ عامين

روزالي. . . فلم الافتتاح لسينما ستوديو مصر

افتتح أستوديو مصر يوم الاثنين الماضي دار العرض الجديدة التي رأى أن تتخصص لعرض منتجاته على أن تعرض أفلام المترو جولدوين بجوار أفلام الأستوديو. ولسنا في حاجة إلى أن نقول إن حفلة الافتتاح كانت فريدة في بابها ونادرة بين حفلات الافتتاح،

ص: 78

ويكفي أن نقول إن جميع ذوي وذوات المكانة من أهل الطبقات الراقية والمثقفة وممثلي وممثلات السينما والمسرح وجميع ممثلي الصحف المصرية العربية والإفرنجية كانوا حاضرين في هذه الحفلة احتفالاً بهذه الخطوة الجديدة الموفقة التي يخطوها أستوديو مصر ولمشاهدة أحد أفلام الدرجة الأولى للمترو جولدوين ماير في الموسم الحالي وهي رواية (روزالي) أو الأميرة الراقصة من تمثيل (الينورباول) و (نلسون إدي)، والفلم كوميدي غنائي راقص مليء بالمواقف اللطيفة المسلية

فتهانينا لبنك مصر وأستوديو مصر وقسم الإنتاج في أستوديو مصر، ونأمل أن تتبع هذه الخطوة خطوات نرى بعدها عدداً من دور السينما الكبيرة مصرياً في كل شيء، وليس ذلك كثيراً على بنك مصر ومديريه الأفذاذ وسعادة الدكتور فؤاد سلطان بك مدير شركة مصر للتمثيل والسينما

خبر سابق لأوانه

أكد لنا أحد كبار ممثلي الفرقة القومية أن كل ما ذكرته الصحف عن مسرح حديقة الأزبكية وعمل الفرقة القومية به إنما هو سابق لأوانه. والصحيح أن مفاوضات دارت بين إدارة الفرقة وإدارة ذلك المسرح، ولكن هذه المفاوضات وقفت حتى يعود الأستاذ خليل مطران مدير الفرقة من إجازته بلبنان. ومعنى ذلك أن الدورة الأولى من موسم الفرقة ستكون في دار الأوبرا الملكية كالمواسم السابقة

ص: 79

‌أخبار مسرحية وسينمائية

مترو جولدوين وتوفيق الحكيم

أبلغنا أحد أصدقائنا المتصلين بالكاتب القصصي الكبير الأستاذ توفيق الحكيم، أن هناك مفاوضات بين شركة المترو جولدوين ماير والأستاذ توفيق الحكيم بخصوص رواية (عودة الروح) إحدى قصصنا الأدبية الكبرى. وأن هذه المفاوضات قد انتهت فعلاً أو أوشكت على الانتهاء وقريباً نرى إحدى معجزات الحكيم الأدبية على الستار الفضي

والحق أننا لا ندري هل نهنئ المترو جولدوين ماير أم نهنئ كاتبنا الكبير بهذه الصلة السعيدة التي نأمل ألا تقتصر على (عودة الروح)

فلم جميل للموسم الجديد

ينتظر أن يكون موسم سينما ديانا عظيم هذا العام. وكفى دليلاً ما قدمته لنا في حفلة الافتتاح وهو فلم (فندق هوليوود) الفلم الغنائي الراقص الجميل.

أجنحة الصحراء والرحلة الملكية

علمنا أن (اللقطات) الأخيرة لفلم أجنحة الصحراء، وهو باكورة منتجات سالم تتم في الأيام القليلة الباقية من هذا الشهر. أما موعد عرض الفلم فقد علمنا أنه سيكون في أواخر النصف الأول من نوفمبر

وبمناسبة الحديث عن الأستاذ سالم نسجل له على هذه الصفحة نجاحاً كبيراً في الشريط الناطق الذي أخرجته جريدته السينمائية للرحلة الملكية السعيدة إلى الصحراء الغربية ويكفي أن يكون عرضه على شاشة الرويال بعد يومين اثنين فقط من عودة جلالة الملك إلى الإسكندرية

شيء من لا شيء

عرضت نسخة كاملة من فلم (شيء من لا شيء) على حضرات أعضاء اللجنة الفنية في أستوديو مصر، فوافقت عليه وأبدت إعجابها به، واعترفت له بأنه من أقوى وأكبر الأفلام المصرية التي رآها الأعضاء حتى الآن. وسيعرض هذا الفلم بسينما أستوديو مصر في الشهر القادم.

ص: 80