الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 274
- بتاريخ: 03 - 10 - 1938
ختام
للأستاذ عباس محمود العقاد
بدأنا بقنطار ثمين فأجملنا ما نراه من مذهب في صفات الجمال، وكانت خلاصته أن الجسم الجميل هو الجسم الذي ليس به فضول، وهو الذي يحمل كل عضو فيه نفسه غير محمول في مشهد العين على سواه، وهو الذي يكون مقياس الفضول فيه أداء الوظيفة، ومقياس الوظيفة بين عضو وعضو وبين حيوان وحيوان قربها من الحرية وبعدها من القيد والضرورة
وهذا مقياس أعضاء وأجسام
ومقياس معان أيضاً وأفكار وأرواح
فأننا بهذا المقياس نعرف الكلمة الجميلة والشعر الجميل والخلق الجميل والفكر الجميل
فلن يكون جميلاً فكر به فضول فهو زائد فضفاض في غير طائل، أو فكر فيه قصور فهو مفتقر إلى غيره وليس بمحمول على نفسه، أو فكر يظهر فيه عجز التقييد وعسف الضرورات
وذلك ما أردناه حين قلنا إن الجمال يخرج الأجسام من عالم الشهوات والنزوات إلى عالم المعاني والأرواح، وأن العين التي تنفذ إلى لبابه تنظر إليه كما تنظر إلى الحقائق العليا، وإلى الأصول الشائعة في نظام الوجود كافة؛ فإذا اتفق أن يعبث العابث بالجمال فكما يتفق أن يسرق السارق جوهرة نفيسة: لا يسرقها لأنها جميلة وهو يحب الجمال، ولكنه يسرقها لأنه يستحضر في ذهنه السوق، والسوء!
ثم رجعنا إلى بقية الذهب، ثم تلاحقت الملحقات من تفريع إلى حاشية إلى تذييل، إلى هذا الختام، وكان به ختام الصيف وختام السفرات في كل أسبوع إلى الإسكندرية
أكتبه إلى جوار الصحراء صديقتي القديمة منذ عرفت الأصدقاء في الأماكن والبقاع
وأصغي فلا أسمع الأمواج كأنها فوران القدر العظيمة عند ميناء الإسكندرية، ولا أسمع الأمواج كأنها غطيط النائم في اطراد رتيب عند ميناء مرسى مطروح، ولا أسمع الأمواج كأنها المارد الوديع الحالم عند ميناء السلوم، فلا هدير له ولا ضجيج، بل سكون كسكون النيل في ساعة صفاء قرير
لا أسمع الأمواج ولكني أسمع الصحراء، ومن طالت عشرته للصحراء سمعها وهي تسكت، وسمعها وهي تصخب، وسمعها وهي لا تحفل بأسماع، ولخص ذلك كله في كلمة واحدة، وهي القناعة أو الاستخفاف أو القوة التي تغالب الأزمان؟ لأن الأزمان تقوى على التغيير. . . فإذا لم يكن تغيير فماذا يبلغ من قوة زمان واحد أو من قوة جميع الأزمان، وإذا كان التغيير لا يغير منها الحقيقة ولا يمس منها إلا العرض فلماذا تباليه الصحراء؟
ورجعت أعرض صور الإسكندرية فإذا هي كثيرة تتصل بها أجزاء الدنيا وترينا كيف يتشعب العالم وكيف يؤول إلى التماثل والتوحيد
فالعالم اليوم يحكمه زي واحد تبصره في شواطئ القارة الحديثة، وتبصره في شواطئ الصين، كما تبصره في شواطئ بحر الروم وفي شواطئ بحر الظلمات، الذي ليس فيه اليوم ظلمات
أو هذا كل ما هنالك من تماثل وتوحيد بين أجزاء العالم المتنابذ المستعد في هذه الساعة لأشنع الحروب
كلا. بل هنالك تقارب بين المثل والأوضاع في كثير من الأمور
هنالك العملة التي كانت من قبل أخص الخصائص فيما يسمونه بالسيادة القومية فأصبحت اليوم موضع التفاهم والاتفاق بين شتى الحكومات
وهنالك المحظورات والتواصي بمنعها بين الدول من الرق إلى المخدرات إلى المهربات
وهنالك الجيوش والمؤتمرات التي تنعقد من حين إلى حين لتقرير عددها وتقرير سلاحها وتقرير نظامها، وإن لم تسفر عن وفاق وإجماع
بل هنالك الحرب التي لا يتأتى أن تنفجر في مكان إلا عمت جوانب الأرض بعد بضعة أسابيع
فالعالم يمضي إلى التماثل والوحدة، ولا ينفي هذه الحقيقة أنه ماض كذلك إلى الوحدة في الشرور والنكبات، بل إن هذا ليؤكدها ويجلوها في جانبها المخيف كما يجلوها في جانبها المأمون، وجانبها المحبوب
أزياء الشاطئ تكشف لنا هذه الحقيقة وتكشف لنا معها حقيقة أخرى يأسى لها كثيرون ويغتبط بها كثيرون
أو لم يكن الراقصون والمغنون وأصحاب الملاهي والملاعب نفاية الجماعة الإنسانية في الأجيال القريبة؟
فأنظر اليوم من ذا الذي يفرض على الناس الأزياء والآداب؟ ومن ذا الذي يملي عليهم ما يشتهون وما ينبذون؟!
إنهم هم نفاية المجتمع بالأمس وسادة المجتمع اليوم!
إنهم فتيان هوليود وفتيات الستار الأبيض فيها وفي كل مكان
فأين هي اليوم تلك السيدة التي تخجل من ظهورها في مظهر الممثلات على ذلك الستار؟
وما معنى ذلك إلا أن المجتمع ينقلب رأساً على عقب ثم لا يستقر على هذا الانقلاب؟
وهل بعيد ما بين هذه الحقيقة وبين حقيقة أخرى في عالم السياسة الدولية نشهدها ونسمعها الآن فيما نشهد ونسمع من نذير وشرر مستطير؟
ما معنى الحرب اليوم إلا أن نفايات المجتمع قد أصبحوا يسوسون الدول ويقودون الشعوب ولا يؤمنون إلا بما يؤمن به النفايات من غلظة وجور وعنت وتحطيم؟
لئن كان الحجر على هذه النفايات فيما مضى ظلماً لقد رأينا الساعة أن سيادتها ليست بأنصاف، بل فيها الظلم والإنصاف مزيج كريه المذاق، ومصفاة الزمن خير كفيل بالتصفية والترويق، ولا خوف على الزمن آخر الأمر من العجلة ولا من الأناة. .
صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ
وستبقى ما قدر لها البقاء، وسيكون من إبقائها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي (بيجو) الذي فقدناه هناك. وأني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوه من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. . . فكم من مبَّجل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا!
وكم من محَّقر بينهم ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار!
وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الشديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي
الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين
فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أياماً في القاهرة وأياماً في الإسكندرية من كل أسبوع، ولم أصحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الثانية ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف، اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة وأن أعود إليه كل أسبوع
ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها، لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في الرحلة الثانية، وزاده إصراراً على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد حمزة طاهينا القديم الذي يعرفه قراء كتابي (في عالم السدود والقيود)
والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يكثر الصلاة والوضوء ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار
وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى. فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا: (يا شيخ أحمد). . . فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد
فلما استحال التوفيق بينهما واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين بالذهاب والإياب، واصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له، يتألف منها تاريخ وجيز. . .
ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم الذي كان فاشياً فيها واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكاناً أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه
وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي وخدش يكاد لا يبين، ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعاً في ركنه يرفع إلي رأسه بجهد ثقيل، وينظر إلي نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار: أحس المسكين وطأة الموت فتحامل على نفسه، وخطا
من حجرته إلى باب حجرتي، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته وفتحت له، وهو لا يزيد على النظر والسكوت
كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة حتى وجدناه، وقد شاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به وعطف عليه، لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته، ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصاحبها أكثر من سنتين
سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى، وسيزول منها ما يزول، ولكني لا احسبني أنسى ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله، ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذراً كافياً لإقلاق صديق. ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا ينسى، فأن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظاً من الخلائق الإنسانية، لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيداً من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب
عباس محمود العقاد
ملاحظات انتقادية على مقترحات لجنة التيسير
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العراقية
- 1 -
إن الملاحظات الانتقادية التي نشرتها في العدديين الأخيرين من الرسالة حول كتب (قواعد اللغة العربية) تغني عن شرح طويل لتحديد موقفي وتبين رأيي في المقترحات الواردة في تقرير لجنة التيسير
فبعد تسجيل واجب الشكر لوزارة المعارف في مصر، لإقدامها على تأليف لجنة خاصة لدرس وسائل تيسير قواعد الصرف والنحو، ولفتحها باب الدرس والمناقشة في هذه الوسائل، أرى من واجب الصراحة أن أقول: إني قرأت التقرير الذي وضعته هذه اللجنة بشيء كثير من خيبة الأمل. . . لأني لاحظت أن المقترحات الواردة فيه ضيقة النطاق جداً، وليس من شأنها أبداً أن تؤدي إلى (تيسير) مهم. . .
فاللجنة المحترمة لم تتطرق في تقريرها إلى شيء من المسائل التي عرضتها في مقالي الانتقادي، ولم تنتبه إلى النقائص المهمة والأغلاط العظيمة المندمجة في خطط التبويب والتعريف، ولم تقدم على إنعام النظر في طرق التقسيم والتصنيف. . .
فأستطيع أن أقول إذاً، إنها لم تتخلص من النزعة العامة التي أشرت إليها وإلى أضرارها، ولم تخرج على المسالك الملتوية التي شرحتها وانتقدتها. . .
فجميع الملاحظات الانتقادية المسرودة في مقالي عن (كتب قواعد اللغة العربية) تنطبق على أبواب (الصرف والنحو) التي اقترحتها اللجنة المحترمة أيضاً. . . وفي الواقع أن اللجنة قد صرحت في تقريرها أنها قدمت اقتراحاتها كخطوة أولى في سبيل التيسير إذ قالت ما يلي: (وقد اتصلت اجتماعات اللجنة للنهوض بهذه المهمة التي وكلت إليها حتى انتهت إلى طائفة من الاقتراحات ترفعها الآن إلى الوزارة، لا على أنها المثل الأعلى لما ينبغي الوصول إليه من تيسير النحو والبلاغة، بل على أنها خطوة معتدلة موفقة في سبيل التيسير قد تتاح بعدها خطوات أدنى إلى التوفيق وأقرب إلى الكمال. . .)
فقد يقال - نظراً إلى هذا التصريح - إن النقوص والأخطاء التي كانت موضوع مقالي السابق، ربما كانت من جملة المسائل التي لاحظتها ودرستها اللجنة وتركتها إلى الخطوات التالية لاعتقادها صعوبة معالجتها في الخطوة الأولى من خطوات التيسير. . .
غير أني اعتقد أن الخطوة الأولى يجب أن ترمي إلى معالجة (أهم المسائل من حيث مقتضيات العلم والتعليم، وأسهل الإصلاحات من حيث العمل والتنفيذ) كما اعتقد أن النقوص والأخطاء التي أشرت إليها أكثر خطورة وأسهل معالجة من الأمور التي اقترحتها اللجنة. فأقول بهذا الاعتبار أن معالجة هذه النقوص وهذه الأخطاء يجب أن تكون أول خطوة من خطوات التيسير والإصلاح
ولهذه الأسباب أتقدم إلى أعضاء اللجنة المحترمين برجاء خاص أن ينعموا النظر في المآخذ التي عرضتها في مقالي السابقين بنظرة متجردة عن تأثير الألفة المخدرة؛ ولا أشك في أنهم عندما يفعلون ذلك يسلمون بأن قواعد اللغة في حاجة إلى معالجة وتيسير وإصلاح من النقائص التي ذكرتها آنفاً قبل سائر النواحي. . .
- 2 -
بعد هذه الملاحظات العامة التي أنتقد بها اللجنة لعدم تطرقها إلى الأبحاث المهمة يجب علي أن أنتقل إلى المسائل التي عالجتها اللجنة المذكورة فأبدي رأيي فيها. . .
إنني أؤيد معظم آراء اللجنة ومقترحاتها، غير أني أرى نقصاً في بعضها وخطأ في البعض الأخر
أولاً - حللت اللجنة أهم أسباب الصعوبة التي اكتنفت قواعد اللغة العربية فقالت:
(وقد لاحظنا أن أهم ما يعسِّر النحو على المعلمين المتعلمين ثلاثة أشياء:
أولاً - فلسفة حملت القدماء على أن يفترضوا ويعللوا ويسرفوا في الافتراض والتعليل
(الثاني - إسراف في القواعد نشأ عنها إسراف في الاصطلاحات.
(والثالث - إمعان في التعمق العلمي باعد بين النحو وبين الأدب. . .
(وقد حاولنا أن نخلص النحو من هذه العيوب الثلاثة، فبرأناه من الفلسفة ما وسعنا ذلك. ومحونا منه الافتراض والتعليل اللذين لا حاجة إليهما، وقاربنا بين أصوله وقواعده. فضممنا بعضها إلى بعض، كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا)
إنني أشارك اللجنة في هذه الملاحظات، غير أنني أرى من الضروري أن يضاف إلى هذه العوامل الثلاثة عامل آخر، ربما كان أفعل من جميعها في توعير المسالك وتوليد الأخطاء:
هذا العامل هو النزوع إلى اعتبار مسائل الأعراب الغاية القصوى من دراسة اللغة، والاهتمام بالأحكام النحوية وبمواطن الأعراب أكثر من الالتفات إلى المعاني المقصودة ومواطن الاستعمال، كما شرحت ذلك وعللته في مقالي الأخير. إنني اعتقد أن التخلص من هذه النزعة ومن نتائجها، من أهم الأسس التي يجب أن تبنى عليها محاولات التيسير والإصلاح. .
ثانياً - تقترح اللجنة ترك فكرة الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وحذف تعبيرات الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ والخبر، واستبدال هذه التعبيرات المختلفة بكلمتي الموضوع والمحمول (حسب اصطلاح المناطقة)
وأنا لا أرى في ذلك وجهاً للتيسير، بل أعتقد أن هذه الخطة تزيد الأمر صعوبة، كما أنها تخالف طبيعة اللغة العربية مخالفة واضحة. . .
وذلك لأن تفهم المبتدأ والخبر، وتمييز الفاعل، أسهل بكثير من تفهم المحمول والموضوع وتصورهما. كما أن تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية أكثر انطباقاً على خصائص اللغة العربية:
إذ من المعلوم أن بعض اللغات محروم مما يشبه الجملة الاسمية، لأن كلمة جملة فيها تحتوي على فعل، ولو كان من النوع الذي يدل على الكينونة والصيرورة؛ غير أن اللغة العربية لا تدخل في عداد تلك اللغات، لأنها تساعد على تكوين جمل بدون أفعال؛ فتمييز الجمل الاسمية من الفعلية، ودرس كل منها على حدة، يكون أقرب إلى طبيعة اللغة العربية، وأوفق لمقتضيات أصول التدريس. . .
ولا أراني في حاجة إلى القول بأن درس كل نوع من هذين النوعين من الجمل على حدة، لا يعني عدم إجراء مقارنة بينهما. . . لأن التمييز بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية لا يمنعنا من لفت النظر إلى المشابهة الموجودة بين الفاعل والمبتدأ، من حيث المعنى ومن حيث الأعراب. . . ولا أشك في أن الإقدام على مثل هذه المقارنات مما يضمن لنا الحصول على الفوائد المتوخاة من التقريب، دون أن يعرضنا للمشاكل التي تتولد من
المزج والإدماج. .
ثالثاً - تقترح اللجنة توحيد الاصطلاحات المتعلقة إلى بحركات البناء والأعراب، كما تقترح حذف الأعراب التقديري والمحلي. .
إنني أحبذ ذلك كل التحبيذ؛ غير أنني أطالب بأكثر من ذلك فأقترح حذف الأبحاث المتعلقة بحركات البناء حذفاً تاماً. لأني لا أرى فائدة عملية أو علمية في البحث عن هذه الحركات.
أن حركة الحرف الأخير من الكلمة تكتسب خطورة كبيرة في المعربات، نظراً لتحولها حسب موقع الكلمة من العبارة وعلاقتها بالكلمات التي تسبقها وتليها؛ وأما حركة الحرف الأخير في الكلمات المبنية، فلا تمتاز عن سائر الحروف امتيازاً يستوجب إنعام النظر فيها بوجه خاص. . فإذا عرف الطالب مثلاً - أن (أجلس) فعل أمر، وكلمة (علم) فعل ماض، وكلمة (منذ) حرف، وعرف في الوقت نفسه أن الحروف وأفعال الأمر والماضي من المبنيات. . . فلا يجني أية فائدة عملية، من ملاحظة حركة الحرف الأخير في هذه الكلمات؛ وربما استفاد من الانتباه إلى حركة الحرف الثاني أكثر من ذلك، لكثرة وقوع الخطأ فيها. .
فيكفي الطالب أن يعرف الكلمة، ويلاحظ عملها في العبارة دون أن يتوغل في تعيين حركة بنائها. .
فعندما نسعى إلى تمرين الطلاب على تحليل العبارات، يجب أن نطلب إليهم أن يعينوا نوع كل كلمة من كلماتها. . ويذكروا الوظيفة التي تقوم بها في العبارة كل واحدة منها. وأما إعرابها في المعنى المصطلح والبحث في حركة حرفها الأخير، فيجب أن ينحصر في المعربات منها.
وأعتقد أن هذه الخطة تخلص المعلمين والمتعلمين من أتعاب الذهن وإضاعة الوقت في أمور غير مجدية، وتضع حداً للملل الذي يغشي درس اللغة العربية في أكثر الأحيان.
(بغداد)
أبو خلدون
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
أمسلم مصري أم مبشر برتستنتي؟
- 3 -
إن المبشرين البروتستنت الذين أضلوا ذلك الكاتب المسلم فضل وروى باطلهم - ليستيقنون أن القرآن هو الكتاب العربي العبقري، ويعلمون أن تلكم (الآلات) إنما هي قواعده قد أخذت منه، وكانت له. فلن يخطئ فيها. . وكيف يخطئ فيها. .؟!
إن القرآن لهو الكلام العربي الصافي الصرف المحقق الصحيح الذي لا ريب فيه. وكل قول غيره يلاقيه الشك شاكي السلاح. فهو حجة الأقوال العربية وظهيرها. وليست الأقوال العربية - وأن كانت من خدمه - بحجة له ولا ظهيراً
ولقد قال العربانيون المنصفون والعبقريون والمفكرون من الغربيين في عربية القرآن الصريحة الخالصة وعبقريته قولهم، وقرأ المبشرون (المظللون) ما كتب المنصف، وقال العبقري. وإن كتموا الحق، وجحدوا بالذي استيقنته أنفسهم - أينكرون قولاً في كتابهم الذي نشروه للإضلال - مبينا؟
قال (سال) في (مقالة في الإسلام): (مما لا خلاف فيه أنه (يعني القرآن) الحجة التي يرجع إليها في العربية، وأنه شمس قلادة الكتب العربية، وواسطة عقدها)
إن هذا في (مطبوع) المبشرين الذين يخطئون (الكتاب) في العربية. وإنه لذم وتقريع للسفسطيين المقبحين لكن صخري الوجه لا يستحي
وإذا لام (المظللين) لائم، وقبح عليهم ما يصنعون قال لسان الحال: أنا ما شرقنا محترفين بحرفة (التظليل) - وما التظليل إلا حرفة من الحرف - وآخذين جعالاننا إلا لنعمل ما يبغيه المجعلون المطعمون، فهي الجعالة، وهو الرغيف. فلا تلومونا ولوموا المعدة. .
أجل إن المظللين ما طرءوا على هذه الأقاليم ليحقوا حقا، ويرهقوا باطلاً، ويهدوا ضالاً، ويرشدوا حائراً، بل جاءوا مغوين متوهين حتى يخرجوا المسلمين من دينهم فيستعبدهم الغربيون المغيرون استعباد الهون. وقد قال (غلادستون): لا راحة لمعالم (يعني قومه) ما كان القرآن. وقال سواس فرنسيون: لن يكون لنا الملك الحق في بلاد المغاربة أو نغرب دين القوم
فالمضللون، مقصدهم أن يصدوا أمة محمد عن كتابها، ويلفتوها عن شريعتها ابتغاء أن تذل للغربي وتستقيد. فليس الشأن إذن في نحلة تبطل أو عقيدة تزول، ولكنه أمر أمم تستخذى وتهون بل تفنى وتبيد. فليدر بهذا السفهاء والبله والأغبياء من المسلمين إما كانوا يجهلون
والمضللون مدفوعون إلى اقتراف ما يقترفون: تدفعهم حرفتهم وجعالتهم والرغيف المأكول، فهم مرغمون أن يسلكوا كل سبيل في التضليل، ويتذرعوا بكل ذريعة غير متذممين من منكر، ولا متصحبين من شيء، وغير حافلين بكل خيبة تجبههم، وبكل خذلان يصعقهم، وبكل لعنة تتبعهم. وطرق الشر عند هذه الإضمامة (الجماعة) كثيرة، وذرائع الفساد مستوفرة. فهناك التنويم المغناطيسي. . وهناك التنويم النسوي. . . وحكايات هذين التنويمين من وسائل التضليل معروفة في القاهرة مشتهرة ومن كفر منوماً وسنان عاد إلى الأيمان سريعاً يقضان. وهناك الجنون المجنون في الإقدام على تغليط القرآن في العربية. . .
ليس في القرآن آية أو كلمة قد عدلت عن سنن العرب، وإن (علم العربية) أو النحو أو القواعد العربية - كما يسميها مسمون - هو حجتها، وهو دليلها، وهو المهيمن عليها، وشواهدها كلماته، وهذا كتاب سيبويه وهذه أبوابه وبيناته
ذلكم القرآن. بيد أن المضللين يقولون: نحن نهذي ونخرفش، وعلى إبليس تتميم العمل. وقد جمعوا في (مكتوبهم) بضع عشرة آية (منها الست التي نقلناها - وزعموا أنها مالت عن نهج العربية، وتلكم الآيات الكريمات كلتهنَّ قواعدهنّ مبينة مفصلة في (علم العربية) تفصيلاً. وهذه أقوال نحوية في الست المنقولة
1 -
. . . والصابرين. . . قرء (والصابرون) وقرء (الموفين والصابرين) والنصب على التعظيم والمدح كما قال (الكتاب) وفصلت (خزانة البغدادي) والقراءة الناصبة تنصر قول الخِرْنِق (أخت طرفة):
لا يبعدن قومي الذين هم
…
سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك
…
والطيبون معاقد الأزر
وتؤيد ما أنشد القراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام
…
وليث الكتيبة في المزدحم
قال (جامع البيان): (أن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض في المدح والذم بالنصب أحياناً وبالرفع أحياناً)
وقال أبو علي الفارسي (أستاذ الأئمة وشيخ أبن جني): (إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها، ولا تُجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند اختلاف الأعراب يكون وجهاً واحداً، وجملة واحدة)
2 -
. . . فاصدق وأكن. . . قرء (وأكون) بالنصب على اللفظ، (وأكون) على وأنا أكون، وقرء (وأكن) على محل فأصدق. قال المبرد:(وأكون على ما قبله لأن قوله فأصدق جواب للاستفهام الذي فيه التمني، والجزم على موضع الفاء) قال الرضي: (وكذا ما جاء بعد جواب الشرط المصدر بالفاء نحو قوله تعالى: (من يضلل الله فلا هاديَ له (ويذرهم) قرء رفعاً وجزماً، ولا منع في العربية من النصب، فلما كان فاء السببية بعد الطلب واقعاً موقع المجزوم جاز جزم المعطوف عليه؛ قال تعالى: فأصدق وأكن)
قال أبن يعيش: (فإذا عطفت عليه فعلا آخر جاز فيه وجهان النصب بالعطف على ما بعد الفاء، والجزم على موضع الفاء، ونظير ذلك في الاسم: (إن زيداً قائم وعمرو، وعمراً) إن نصبت فبالعطف على ما بعد أن، وإن رفعت فبالعطف على موضع إن قبل دخولها وهو الابتداء) والقراءة الجازمة تنصر صاحب الصمصامة في قوله:
دعني فأذهب جانبً
…
يوماً وأكفك جانباً
3 -
. . . كن فيكون. . . من كان التامة أي احدثْ فيحدث (والرفع على الاستئناف أي فهو يكون) كما قال العكبري. قال الرضي: (وأما النصب في قراءة أبي عمرو فلتشبيهه بجواب الأمر من حيث مجيئه بعد الأمر، وليس بجواب من حيث المعنى)(وهذا مجاز من الكلام وتمثيل، ولا قول ثم) كما قال (الكشاف) وهو (حكاية حال ماضية) كما في هذا الكتاب
وقد كان (يكون) ولم يكن (كان) إذ لو قال: (كان) ما قلنا: إنه (قرآن)؛ إنه (الكتاب) يتكلم لا مخبر مسكين في (الأهرام) و (المقطم) ومثل هذا في (المعاني) مشروح في المطولات والمقصرات أو المختصرات؛ قال الخطيب في (الإيضاح)(قال: (فأضربُها) ليصور لقومه
الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيباً من جرأته على كل شدة، ومنه قوله تعالى:(أنُّ مثل عيسى عند الله كمثل أدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون) وكذا قوله تعالى: ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)
وعلم (المعاني) نحو من (علم العربية) بل هو علم معاني النحو، وقد (استقل) يوم قطعوا (العربية) ولن يفارق نشء العرب وطلابهم ذاك الهم، وذاك الغم، وذاك الضيم الأوقت (الضم) وحين جمع الاخوة
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
…
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
4 -
(وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً، أمماً) قرئ وقطعناهم بالتخفيف. وعشرة بكسر الشين. قال (جامع البيان): (قطعناهم قطعاً اثنتي عشرة ثم ترجم عن القطع بالأسباط) قال العكبري: (اثنتي عشرة: مفعول ثان أو حال أي فرقناهم فرقاً (أسباطا) بدل من اثنتي عشرة (أمما) نعت لأسباط أو بدل بعد البدل) قال الزمخشري: (لو قيل اثني عشر سبطا لم يكن تحقيقا لأن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطا موضع قبيلة، ونظيره: بين رماح مالك ونهشل قال أبن يعيش: (فان قلت عشرون رجالا كنت قد أخبرت أن عندك عشرين، كل واحد منهم جماعة رجال كما قالوا: جمالان وإبلان)
وسنين في الآية الكريمة: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) بدل مثل (الأسباط) كما قال أبن الحاجب والرضي والزمخشري وابن يعيش وغيرهم. قال الزمخشري: (وقُرء ثلاث مائة سنين بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله: قل: هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً) قال الرضي: (الأصل في الجميع الجمع فإذا استعمل المميز جمعاً استعمل على الأصل)
5 -
. . . والصابئون والنصارى. . . قرى (والصابئون) بالنصب والرفع وأورد العكبري سبعة أوجه في رفعها. قال (الكتاب): (وأما قوله عز وجل (والصابئون) فعلي التقديم والتأخير كأنه أبتدأ على قوله والصابئون بعدما مضى الخبر) قال القراء: (إن كلمة (إن) ضعيفة في العمل ههنا) قال خطيب الري: (إذا كان أسم إن بحيث لا يظهر فيه أثر الأعراب - مثل الذي وهذا واللذين وهؤلاء - فالذي يعطف عليه يجوز نصبه على إعمال
هذا الحرف والرفع على إسقاط عمله) وقال (فتح القدير): (إن خبر إن مقدر والجملة الآتية خبر (الصابئون والنصارى) كما في قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راض والرأي مختلف
والقراءة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه تنصر بشر بن أبي خازم القائل:
وإلا فعلموا أنا وأنتم
…
بغاة ما بقينا في شقاق
ونؤيد قول ضابىء البرجمي في رواية:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
…
فأني وقيارٌ بها لغريب
6 -
. . . والمقيمين الصلاة. . . قُرء والمقيمون والمقيمين والنصب على التعظيم كما قال (الكتاب) في (باب ما ينتصب في التعظيم والمدح) وذكر العكبري ستة أوجه للنصب. وروي (الكتاب) في ذاك الباب قول ذي الرمة:
لقد حملت قيس بن عيلان حربها
…
على مستقل للنوائب والحرب
أخاها إذا كانت غضاباً سما لها
…
على كل حال من ذلول ومن صعب
ثم قال: (إن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيماً، ونصبه على الفعل كأنه قال: اذكر أهل ذاك، واذكر المقيمين، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره. وليس كل موضع يجوز فيه التعظيم ولا كل صفة يحسن أن يعظم بها، فاستحسن ما استحسنت العرب، وأجره كما أجرته)
قال البصريون: (إذا قلت مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد، ولك أن تنصبه على تقدير أعني، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم، وعلى هذا يقال: جاءني قومك المطعمين في المحل، والمغيثون في الشدائد) والعربية تنصب على الشتم والذم كما تنصب على التعظيم والمدح. قال أمية بن أبي عائذ:
ويأوي إلى نسوة عطل
…
وشعثاً مراضيع مثل السعالي
وقال أبن خياط العكلي:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم
…
إلا نميراً أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحداً
…
والقائلون لمن دار نخليها؟!
وكتاب (المظللين) هذا معروف، وطبعاته كثيرة، وقد عزي إلى (هاشم العربي) وهو من قبيلة (هيّان بن بيّان أو ضُلّ بن ضلّ) المشهورة. . . وفي (قرار النيابة العامة) الذي أعلنه الأستاذ (محمد نور) رئيس نيابة مصر في شأن أستاذ مسلم - إشارات إلى كتاب المبشرين أرى نقلها في هذا المقام. قال الأستاذ الرئيس (محمد نور):
(. . . على أنه سواء كان هذا الغرض من تخيله كما يقول أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت أسم هاشم العربي فأنه كلام لا يستند إلى دليل ولا قيمة له. على أنا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام كان. . . كما نلاحظ أيضاً أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل لأن وظيفة التبشير لدينه غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر. . . يقول الأستاذ. . . وهاشم العربي يقول في مثل هذا. . فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر!)
ولما ظهر مؤلف المبشرين أشاع مشيعون تكبيراً لحقير، وترويجاً لزائف، وتهويلاً بضئيل شخت - أن هاشماً العربي هو صاحب (مجلة الضياء) ثم نجمت طبعة للكتاب بعد موت اليازجي وفيها:(هاشم العربي الشيخ اليازجي)
(الإسكندرية)
* * *
مؤتمر المستشرقين العشرون
المنعقد في مدينة بروكسل
من 5 إلى 10 سبتمبر سنة 1938
للدكتور مراد كامل
حفلت عاصمة البلجيك بنخبة من علماء المشرقيات في الثلث الأول من شهر سبتمبر. وقد زاد عددهم على عدد الذين اشتركوا في مؤتمر المستشرقين السابق المنعقد في روما سنة 1935
هذا وقد قسمت أعمال المؤتمر ومحاضراته تسعة أقسام:
علوم مصرية قديمة وأفريقية - علوم آشورية - آسيا الوسطى - الهند - الشرق الأقصى - اللغات والشعوب السامية - العهد القديم والعلوم اليهودية - الإسلام - الشرق المسيحي
وإذ بلغت المحاضرات التي ألقيت الثلاثمائة أو زادت (بلغات مختلفة منها العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية) سأقصر بياني على أجلها شأناً تارة بالتفصيل وتارة بالإشارة:
القسم الأول: تقرير عن حفائر مدينة إدفو التي قامت بها جامعة فارسوفيا والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية. تكلم فيها المحاضر وهو سانت فارجرنو على آثار الدولة القديمة المكتشفة في الحفريات من الأسرة السادسة ثم على آثار الدولة الوسطى
- ألقى الأستاذ سامي جبره محاضرة بواسطة الفانوس السحري عن حفائر الجامعة المصرية في تونه الجبل (هرموبوليس الغربية) أظهر فيها أهم الآثار المكتشفة وقيمتها التاريخية
- محاضرة عن فكرة النقود والمعاملة بها في مصر القديمة لدِمِل من فينا
- محاضرة عن الضمير في اللغات الكوشية في الحبشة لفراريو الإيطالي
- ألقى الأستاذ مورينو رئيس القسم الشرقي في وزارة المستعمرات الإيطالية محاضرة ذكر فيها النتائج التي وصل إليها العلماء الإيطاليون حديثاً في بحثهم عن لغات السداما الشرقية في الحبشة وعن مركزها بين اللغات الأخرى
القسم الثاني: تكلم الأستاذ كرستيان من فينا عن أول ظهور الشعوب السامية في ما بين النهرين وقال أن التاريخ يحقق وجودهم حوالي سنة 2500ق. م إلا أن هناك دلائل لغوية تثبت لنا وجودهم قبل هذا التاريخ
- أراد هروزني أن يثبت بمقارنة لغوية أثر السومريين والأكاديين في الحضارة المصرية لأربعة آلاف سنة ق. م
القسم الثالث: تكلم الأستاذ عيني التركي على اللغة التركية في بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي فذكر قاموس محمود أبن الحسين بن أحمد الكشكري الذي وضعه بأمر الأمير عبد القاسم عبد الله بن الخليفة العباسي المقتدي سنة 466 هـ ثم أشار إلى مخطوط من هذا العصر يحتوي على شعر باللغة التركية والفارسية لعبد القادر الكيلاني
- وقد تكلم الهمداني (لندن) على مخطوط وجده في القسطنطينية فيه قصيدة صوفية فريدة لأوحد الدين الكرماني المتوفى سنة 635 هـ والمسماة (مصباح الأرواح) فنقد القصيدة وترجم للشاعر
القسم الرابع: ألقى شترجي من جامعة كلكتا محاضرة عن مخطوط بالحروف العربية - الفارسية، استخلص منه طريقة نطق اللغة السنسكريتية في شمال الهند في العصور الوسطي
القسم السادس: ألقى الأستاذ بروكلمن المستشرق المعروف محاضرة عنوانها (معضلات الصياغة الشعرية في الأدب العربي الحديث) وقد قصر محاضرته على الشعر المصري الحديث فقال: (إن الشعر العربي بقي موثقاً بالقيود القديمة إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، غير أن استعمال الموشح أدخل نغمة جديدة في النظم التقليدي الجاري على وتيرة واحدة، ثم حطمه الشاعر خليل مطران من قيود القديم متأثراً بألفرد دي موسيه الشاعر الفرنسي الابتداعي فأنشأ مدرسة من أفرادها أبو شادي المتأثر بالأدب الإنجليزي، ثم هب الجيل الحديث فذهب في تجديد الصياغة مذهباً يمتاز بالجرأة والاستقلال) وذكر المحاضر شعر الدكتور بشر فارس مثلا لنظم الجيل الحديث
- أفضت السيدة الإنجليزية تومسن بواسطة الفانوس السحري بنتيجة الكشف عن معبد بوادي عمد في حضرموت ثم تلاها الأستاذ روكمن مجملاً شرح النصوص السبأية التي
وجدت بهذا المعبد والتي أنافت على السنتين
- تحدثت الآنسة هوفنر من جامعة جراتز من أعمال النمسا عن نتائج بحثها في المصدر والفعل الماضي في لغات اليمن القديمة القتبانية والسبأية والمعينية
القسم السابع: وجعل الأستاذ بركلند من جامعة أوسلو موضوع محاضرته (كيف نستدل باللغة العبرية على الحالة الاجتماعية لسكان فلسطين في العصور القديمة)
القسم الثامن: وأما القسم الإسلامي فقد كان شاملاً جامعاً كثرت محاضراته وتوافر المستمعون لها. وقد مثل مصر في هذا القسم الدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين والدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ فييت. وكان عدد غير قليل من المصريين يستمعون إلى المحضرات ومعظمهم من الطلبة الذين يدرسون في جامعات أوربا، وسأبسط أهم المحضرات التي ألقيت في هذا القسم بحسب ترتيب إلقائها:
- محاضرة للأستاذ ماسينيون عنوانها (بحث في قيمة الظواهر الفكرية التي نتجت عن سورة أهل الكهف عند المسلمين) ومما ذكر المحاضر أن المتصوفة سلخوا من هذه السورة ميداناً للتأمل (والشطح) فقالوا: (إن الحلاج سر هذه السورة لأنه مات سنة 309 هـ وفي السورة أن الفتية عاشوا في الكهف 309 سنة) وأما الشيعة فقالت: (إنما الكهف هو الزوال الظاهر للحكم) ناظرة بذلك إلى الإمام المختفي. وأما أهل السنة فكانوا أكثر تحفظاً؛ ومما قاله الغزالي: (إن أهل الكهف هم الأقطاب السبعة أو الأوتاد السبعة الذين يحفظون العالم من السقوط لأنهم يمثلون العدل) ثم تكلم المحاضر على تأويل المفسرين لهذه السورة ومذاهبهم فيها وقال إنهم وقفوا عند ألفاظ فيها عدوها (مفاتيح) للولوج إلى كنه أسرارها، ومن هذه الألفاظ: فتية، كهف. فالمحاضرة تدور حول تبيين اعتماد المسلمين على سورة أهل الكهف لشرح أمور إسلامية وقعت بعد نزول القرآن الكريم أو لتعزيزها
- وألقى الدكتور طه حسين بك تقريراً علمياً قسمه قسمين:
الأول في المجهودات التي بذلت في مصر لتيسير قواعد الأعراب وقد أثار هذا الموضوع اهتمام المستشرقين. وأما القسم الثاني فخاص بكتاب الفصول والغايات لأبي العلاء المعري، وفي رأي المحاضر أن كتاب الفصول والغايات هو الخطوة الأولى للزوميات ثم قال: إن أبا العلاء حاول أن يحاكي فيه أسلوب القرآن من الوجهة اللغوية والشكلية
- وتكلم الأستاذ لفجرين من جامعة أبسالا عن شروعه في طبع الجزأين الأول والثاني من كتاب الإكليل للهمداني
- وألقى بيرس من الجزائر محاضرة عنوانها (بدء القصص الأخلاقية والاجتماعية في الشرق العربي في مختتم القرن التاسع عشر وغرة القرن العشرين) وقال: أن السياسة تحكمت في الفكر الأدبي ولا سيما في مصر من سنة 1882 حتى آخر القرن التاسع عشر إلى أن ترجم أحمد فتحي زغلول سنة 1899 (سر تقدم الإنجليز السكسونيين). فتنبه المصريون من رقادهم ورجعوا إلى أنفسهم فألفوا في الاجتماعيات وأهم هذه التآليف كتاب المويلحي (حديث عيسى بن هشام) وهو الذي أنشأ هذا اللون من الأدب في مصر
- تكلم الأستاذ جويدي من جامعة روما على نشر مخطوطات الكندي الصحيحة المعروفة بفضل نسخة أيا صوفيا رقم 4832
- حاضر الدكتور عبد الوهاب عزام في (السلطان الغوري ومركزه في الأدب والعلم). فبعد أن ذكر شغف الغوري بالعلم والأدب ومعرفته بعلوم الدين والتاريخ ذكر أن له شعراً بالعربية والتركية ومقطوعات لحنها للغناء. ثم تكلم المحاضر عن ثلاثة كتب ألفت بأمر السلطان الغوري: الكتاب الأول (نفائس المجالس السلطانية) لحسين بن محمد الحسيني، شرح فيه المؤلف بعض مسائل دارت بين السلطان والعلماء، وجعل الكتاب في عشرة فصول وسم كل فصل (بالروضة) ثم شرح المحاضر موضوع الكتاب وبين نواحيه الخاصة وقيمته التاريخية. والكتاب الثاني عنوانه (الكوكب الدري في مسائل الغوري) وفيه ألفا سؤال دارت حولها مناقشات في مجلس الغوري وكل ألف من هذه المسائل يقع في جزء. ثم بين المحاضر هذا الكتاب كمرآة لآراء علماء وأمراء مصر في ذاك العصر. وأما الكتاب الثالث عن الغوري وشاهنامة الفردوسي، فذكر المحاضر كيف أمر السلطان الغوري الشاعر التركي حسين بن حسن بن محمد الحسيني الآمدي بنقل الشاهنامة من الفارسية إلى التركية. وأضاف أن للترجمة مقدمة وخاتمة. تظم ألف بيت تقريباً
- بحث بلاشير كتاب شرح العكبري على ديوان المتنبي وخرج من بحثه بأن العكبري لم يؤلف هذا الشرح وإنما ألفه أحد معاصريه
- تكلم الأستاذ أحمد أمين على كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، فأستهل
الكلام بترجمة لأبي حيان، ثم ذكر ما دعا أبا حيان لتأليف كتابه؛ وبيان هذا أن أبا الوفاء المهندس هو الذي قرب أبا حيان من الوزير عبد الله العارض فسامر أبو حيان الوزير ستاً وثلاثين ليلة؛ فسأله أبو الوفاء أن يقص عليه جميع ما دار بينه وبين الوزير فأجاب طلبه بهذا الكتاب. ثم حقق المحاضر شخصية الوزير أبي عبد الله العارض ورجح أنه هو الوزير أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي. ثم ترجم لأبي الوفاء. ثم ذهب المحاضر في وصف الكتاب فبين تنوع موضوعاته وطرافتها وختم محاضراته بأن بشرنا أن الجزء الأول من الكتاب سيكون بأيدي القراء في شهر أكتوبر لهذه السنة وسيلحقه الجزء الثاني
- تكلم الأستاذ كاله على مخطوط لمحمد بن دانيال المتوفى سنة 1311م عن خيال الظل في مصر أعده للنشر
- وألقى الأستاذ شاده محاضرة عنوانها (العمل المشترك بين الشرقيين والمستشرقين لدراسة الأدب العربي)
وألقى الأستاذ جب محاضرة عنوانها (بعض اعتبارات في نظرية أهل السنة عن الخلافة)
- وقال كسكل من دنزخ في محاضرة سماها (مقدمة لتاريخ بلاد العرب): إن تكوين الشعب العربي بدأ في القرن الثاني للمسيح بعد أن أفسح له المجال سقوط دولة النبط. وزاد أن تكوين هذا الشعب ظهر في شمال الجزيرة أولاً واستدل على هذا بوجود اللغة العربية الفصحى على النقوش التي ترجع إلى القرن الثالث للمسيح
- وألقى آبل من بروكسل محاضرة عن (الاتجاهات اللغوية في كتب الشعوبية) وبين أن الشعوبية تأثرت بالفارسية في فارس وباليونانية والسريانية في الشام والعراق. وهذا النوع من البحث يرفع الستار عن اندماج الحضارات المختلفة بالإسلام ويثبت لنا الكثير من تاريخ الفكر العام، ويمكننا من دراسة تطور اللغات ومقارنة اللغات السامية
- وتكلم الأستاذ برتسل من جامعة ميونخ على (طرق الدراسات القرآنية وأغراضها)
- وألقى الدكتور بشر فارس محاضرة بين فيها طريقته في نقد الأدب العربي الحديث، فأبتدأ يعرض مذهبه من الناحية الفلسفية فقال إنه ينظر إلى الأدب الحديث من جانب اجتماعي لكي يلمس ظواهر الأزمة المعنوية والأخلاقية والثقافية التي يعانيها الشرق
العربي في هذه الفترة. ثم أخذ يحلل ستة كتب ظهرت سنتنا هذه على سبيل التمثيل. فعرض للأزمة المعنوية بنقد كتاب في (منزل الوحي) لحسين هيكل، و (على هامش السيرة) لطه حسين، ثم للأزمة الأخلاقية بنقد كتاب (سارة) للعقاد، و (في الطريق) للمازني، ثم للأزمة الثقافية بنقد كتاب (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، و (سندباد عصري) لحسين فوزي. فخرج من هذا التحليل بتدليل مستقيم على شرح طريقته التي بينها في أول المحاضرة
- وشرح لنا الأستاذ فييت في محاضرة لطيفة اسطرلاباً مربعاً صنع في دمشق برسم أمير دمشق سنة 767 هـ
- وتكلم لبفي بروفنسال على رسالة وجدها في مكتبه لمدينة فاس وعنوان الرسالة (كتاب الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السِّكة) ألفها أبو الحسن علي بن يوسف الكومي المديوني من سنة 767 - 774 هـ
القسم التاسع: ألقى الأستاذ سيمون أستاذ اللغة القبطية والحبشية في المعهد البابوي بروما محاضرة عن المخطوطات القبطية بلهجة الفيوم المكتشفة حديثاً والتي يرجع تاريخها من القرن الرابع إلى الحادي عشر للميلاد وبين قدر هذا الاكتشاف في تاريخ اللهجة القبطية الفيومية
- وألقى هوسهر محاضرة عن جريجوار القبرسي السرياني الذي عاش حوالي سنة 600 م وتكلم على كتبه في التصوف وعلى أثر تاريخ الأدب الصوفي السرياني في الأدب الصوفي البيزنطي والإسلامي
- وبحث بلايل من هيدلبرج عن بدء الكتابة بالحروف القبطية وذكر اكتشافه لورقتين من أوراق البردي يتبين منهما المحاولات الأولى للكتابة بالحروف القبطية ويرجع تاريخ هاتين الورقتين إلى ما قبل أوراق البردي الموجودة بهيدلبرج والتي ترتد إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وأخبر أيضاً باكتشاف ورقة بردي ترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد تبين لنا كيف استعان المصري بالحروف الديموطيقية لخط الحروف القبطية التي أخذت عن اليونانية
هذا وقد قامت مناقشات بعد إلقاء طائفة من المحاضرات، رأيت إهمال ذكرها خشية الإطالة والإثقال، وممن اشترك في المناقشات فجاء بجديد أو دفع وهماً أو حقق مسألة متشابهة
الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين بك والأستاذ جويدي والأستاذ كولان والأستاذ كابار والدكتور بشر فارس والأستاذ كلنجنهيبن والأستاذ كرنكو
(برلين)
مراد كامل
دكتور في اللغات السامية
عود على بدء
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية المقال الرابع)
8 -
يسخر المناظر من قولنا أن هناك صلة اليوم بين الثقافة والعلم على اعتبار أن الثقافة تنبثق من العلم، نظراً لأن الحياة اليوم ينظمها العلم بقواعده المادية - ويقول: أي صلة المبادئ الأدبية التي يقوم المجتمع عليها وبين علم طبقات الأرض. ونحن نقول إن هناك صلة، ومرد هذه الصلة أن العلم بكشفياته يقيم حياة مصبوبة على نمط معين، ويتأثر هذا بهذا النمط الإنسان في شعوره واتجاهاته ومنحاه، بيان ذلك أن علم طبقات الأرض - وهي التي ضرب بها مثل المناظر - بما تنتهي إليه من اكتشافات لها أثر في الحياة الأدبية، ذلك أنه من المعروف الآن أن الكشفيات الأخيرة في الصعيد من جهة أسوان كشفت عن مناجم للحديد يمكن استغلالها لمتوسط نصف مليون طن سنوياً لألفي عام. فهذا الاكتشاف الذي مرده البحوث العلمية في طبقات الأرض لو استغل استغلالاً صناعياً في مصر لأقام صناعة في مصر يشتغل فيها على أقل تقدير ثلاثة ملايين عامل، ومثل هذه الحياة الصناعية تحدث تغيراً في الحياة الأدبية والتصورات الأخلاقية، إذ يحدث تطور من صور حياة أدبية لشعب زراعي إلى حياة تكافئ جماعة أخذت بالصناعة، وعلى هذا الوجه يستبين مفهوم كلامنا ولقد ضربنا مثلاً بمصر وبطبقات الأرض التي شاء مناظرنا أن يسخر اعتماداً عليها من قولنا بانبثاق الثقافة من العلم في مدينتنا الراهنة لتظهر حقيقة غائبة عن العقول في مصر الحديثة في منحى الأخذ بها نحو الحياة الأوربية الصحيحة بإقامة مجتمع صناعي فيها
أما محاولة المناظر التلاعب بكلامنا بإظهاره في صورة يخترمها تناقض، فهذا ما نأخذه ونحاسبه عليه، فلقد قلنا أن الثقافة تنبثق من العلم ومعنى هذا أن الثقافة شيء والعلم وشيء، وأخذنا على اليابان أنها أخذت بنتائج العلم الأوربي ولم تأخذ بالعلم الأوربي نفسه فكان نتيجة ذلك أنها عاشت عالة على أوربا في علمها وحضارتها؛ وأنها احتفظت بثقافتها
التقليدية مع الأخذ بنتائج العلم الأوربي، بمعنى أنها لم تأخذ بعلم أوربا وتقيم لنفسها ثقافة تقليدية جديدة تتكافأ مع العلم الأوربي ومنطقه وتنبثق من أسسه. فأين التناقض في قولنا هذا؟
لا يا صديقي، لا يكون الكلام بإسقاط بعض القول. قلنا أن اليابان أخذت بنتائج العلم الوضعي، فجعلتها يا صديقي أنها أخذت بالعلم الوضعي، وشتان بين الاثنين!
لسنا جوادي رهان نتسابق. ولسنا في مجال نريد أن ننتصر لرأينا حقاً أو باطلاً. إن في أعناقنا مصير قضية ملايين من حيث تعلق مصيرها بقضية الغرب والشرق فيجب أن تكون وجهتنا الحقيقية وعدم تزييف الكلام. . .
9 -
يشكرنا المناظر على قولنا بأن المنطق شيء مشاع بين الأمم، ظاناً أننا كنا أنكرنا مشاعيته من قبل، وهذا ظن عريق في الوهم. فنحن لم نغير من موقفنا شيئاً. . . (المنطق مشاع ولكن يجب أن تمرن الأمم عليه قبل أن تصبح متغلفة في تفكيرها، إذ ليس المنطق أسلوباً في التفكير يتبع وأقيسة يجري عليها، إنما هي قبل كل شيء ميل عقلي واتجاه ذهني يمكن أن يكتسب!
هذا ما قلناه في مقالنا الأول، فنحن عند رأينا بأن للمحيط أثره في المنطق والتفكير المنطقي. للمحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي أو بتعبير أدق لنتوج الصلات والفواعل المتخالطة من المحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي أثر في المنطق من حيث هو ميل عقلي واتجاه ذهني، وفي هذا سر قعود الشرقيين عن مجاراة الغربيين، لأن منطقهم حينما يتكافأ ومجتمعهم ذا الطابع الغبي، وحين يتغلب الطابع اليقيني على هذا الشرق فهذا المنطق الغبي سيقف عقبة كؤودا في طريق رقي العالم الشرقي.
سيأتي ذلك اليوم قريباً وذلك الزمان وشيكاً، وستقوم العقلية اليقينية في الشرق والمنطق الاثباتي في العالم العربي نتيجة لتغلب الاتجاه الغربي على هذا الشرق بحكم كون الغرب مركز الجذب الاجتماعي في عصرنا. إذا فلسنا نحن في حاجة إلى الانتقال إلى الغرب لاكتساب عقلية يقينية كما يقول المناظر، إنما كل ما نحن في حاجة إليه أن يتقوى الاتجاه نحو الغرب فتقوم العقلية اليقينية بين ظهرانينا. ومع هذا فالدلائل قائمة على أن العقلية اليقينية أخذت طريقها إلى هذا الشرق، وهي أوضح ما تكون في المفكر المصر البحاثة
إسماعيل مظهر وفي جماعة يحتذون حذوه اليوم.
أما ما يثيره من اعتراض لتعبيري بالفلسفة الإسلامية عن فلسفة أبن سينا والفارابي وأبن رشد بأن فلسفة المفكرين في الإسلام لم تكن تمت إلى الدين بصلة، وليست إسلامية ولا مسيحية فمرد ذلك التباس في فهم مفهوم عبارتي، فاصطلاح الفلسفة الإسلامية يعني فلسفة الفلاسفة الذين ظهروا في الإسلام، أو بتعبير أدق يعني الجانب الفلسفي من المدنية الإسلامية. وإذاً يكون كل ما يبغيه على اعتراض ساقط بسقوط الاعتراض نفسه
10 -
يتعجب المناظر الفاضل من تحليلنا الفلسفة الإسلامية إلا أنها تقيد إرادة الله بنظام هذا الكون وسننه. واعتبارنا أنها نتيجة للأثر الإغريقي التي توارثته عن مدارس النساطرة والاسكندريين، والواقع أني حائر صدد هذا التعجب الذي لا أفهم له معنى. ولولا حسن ظني بثقافة مناظري وعلمه لقلت إن مرّده عدم الوقوف كلياً على فلسفة فلاسفة الإسلام خاصة والفلسفة عامة، وإلا فما معنى التعجب من تقييد إرادة الله بنظام هذا الكون وسننه؟
ولولا خشية الإطالة لكنت سمحت لنفسي أن أنقل نتفاً من كتب الفلاسفة أشرح لمناظري الفاضل هذه المسألة، وأظن أن في إمكانه أن يغنيني مشقة هذا النقل بأن يراجع كتب الفلسفة وخصوصاً المطولات منها فيما يتعلق بإرادة الله والخلق والإبداع. .
وهناك أشياء لو ذهبت أعلق عليها وأبين زيفها في ردّ المناظر علينا، لانتهت إلى مقالين آخرين، غير أني اكتفي بما اجتزأته في هذا المقال والمقال الذي سبق ففيه الكفاية لإظهار زيف ما ذهب إليه مناظرنا الفاضل، وإني لأرجو مناظري إن شاء أن يعاود الرد ألا يترك لشاعريته المجال فيصول ويجول ويتدفق على غير أساس علمي أو منهج بيّن، وإلاّ لتعذر النقاش. فها هو لم يخرج في كل رده بما يؤيد وجهة نظره أو يرد على وجهة نظري من الاجتماع والتاريخ
لقد كان المناظر كالشلال الهدّار المتدفق في رده، ولكن كان مردّ هذا طبيعته النفسية، ولهذا كانت تتكسر أمواجه على حقائق الاجتماع والتاريخ فما يفيق من الاصطدام بالواقع الملموس وما تقيمه من حواجز أمامه حتى يعود فيرتد ليتدفق من جديد في اندفاع مردّه كما قلنا طبيعته القوية، ولكن ليصطدم بحقائق الواقع فيرتد لينسبط ويتعرج لآفاق وأودية جديدة، وهكذا. . . ولكن إلى متى أيها الصديق؟
إني أعوذ الصديق من وضعه منطقه الخطابي وأسلوبه الفياض في نصرة قضية زائفة إلى الحد التي لا تجد لنفسها ما يسندها وتقوم. . . وإني وإن كنت قد شددت القول على صديقي المناظر فما بي الحاجة أن أقول له إن مردّ هذا ما يمليه الموقف علي، وصديقي يعرف ماله من الاعتبار عندي، فلعل فيما قدمت ما يعتذر عني عند الصديق الكريم وحسبي في كل ما كتبته الحقيقة، والحقيقة ضالة الإنسان في هذه الحياة، لا يرتاح إلا بأن ينتهي إلى وجه منها.
(أبو قير)
إسماعيل أحمد أدهم
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 19 -
الحب دنيا خاصة طليقة
في الاستعراض السريع الذي قمت به في أوائل الحديث عن (غزل العقاد) عرضت رأيه في (الحب) بالعدد 266 من الرسالة؛ وقلت: إنه يراه (رفعة للنفس ونقلة إلى عالم النجوم، وأنه قدرة قادرة تهب أصحابها مشابه من الألوهة ومقابس من النبوة)
فمن كمال هذا الرأي أن أذكر اليوم أن من خصائص غزل العقاد، شعوره بأن الحب يطلقه من قيود الزمان والمكان وضرورات الفناء، ويمنحه دنيا خاصة طليقة من كل قيد معهود.
ولا يكون الشعور بالحب هكذا، حتى يكون صاحبه ذا نفس محقة، وذا طبيعة ناضجة، وذا إحساس مترف. فأما النفس المحقة فهي لازمة له ليتخلص من قيود الزمان والمكان والضرورات عامة؛ وأما الطبيعة الناضجة، فهي ضرورية له ليخلص من اللهفة والوله إلى التأمل والترفع، وأما الإحساس المترف، فليغني به عن المتع الرخيصة إلى الانتقاء والاختيار
وفي هذا المجال أذكر مقطوعتين: الأولى بعنوان (عهد بين عامين) يقول منها:
(سعاد) ويا حسن هذا النداء
…
إذا ما وجدتك لي صاغية
نسيت التواريخ إلا التي
…
تعود بذكرك لي رواية
فأنت الزمان وأنت المكان
…
وأنت غنى النفس يا غانية
ولست أعد حساب السنين
…
بالشمس طالعة غافية
ولكن بوجهك لي مقبلاً
…
ونظرتك الحلوة الساجية
فيوم الرضا عالم حافل
…
من الحب والذكرة الباقية
ويوم النوى عالم مظلم
…
تضل الشموس به هاوية
والثانية بعنوان (سنة جديدة) وفيها يقول:
أدركنا موكب السنين
…
في موكب الحب سائرين
والحب من يغش ركبه
…
يساير النجم كل حين
راجع حساب السنين يا
…
نجم، فما نحن حاسبين
أبا لألوف احتسبتها؟
…
أم لم تزل تجمع المئين؟
يا سنة أقبلت لنا
…
أقبلت ميمونة الجبين
وداعنا فليكن غداً
…
كما التقينا. . . أتسمعين
في موكب الحب نلتقي
…
وفيه نمضي مودعين
وفي هذه القطعة يتضح المعنى الذي نحن بصدده، فهو يفرض أن الدنيا كلها تسير في موكب السنين العادية، وهما يسيران في موكب وحدهما، وقد تقابل الموكبان صدفة، ثم يدع للنجم أن يعدّ سنيه ويراجع حسابه لنفسه، فما هما بحاجة لهذا الحساب، ولكنه يطلب فقط من هذه السنة التي صادفتهما سائرين في موكب الحب أن تودعهما وهما في هذا الموكب نفسه، وهي كناية طريفة عن الرغبة في دوام الحب واستمراره
وغير هاتين القطعتين كثير متفرق مما يطرق هذا المعنى ويعبر عن هذا الإحساس الذي هو إحدى خصائص غزل العقاد
الحب مطلوب لشوكه كزهره
والحب عند الكثيرين متعة ولذة أو جوى وحرقة، أما هو عند العقاد فقوة من قوى الطبيعة، والشوك فيه كالزهر، والشر كالخير، كلاهما مطلوب لذاته، والألم فيه مقبول لأنه كاللذة عنصر فيه أصيل
ولن ينظر إنسان إلى الحب هذه النظرة حتى يخلص به إلى مرتبة (التجريد) بعد أن يسمو به عن الإحساس القريب المحدود ففي قصيدة (القربان الضائع) يقول:
إله عرش الجمال ما بي
…
يقصر عن وصفه خطابي
ما لضحاياي لا أراها
…
لديك بالموضع المجاب
ألوم؟ أم لا يلام رب
…
يكافئ الحب بالعذاب؟
وكم تجافي إله قوم
…
عن سنة العدل في الحساب
يأبى القرابين غاليات
…
ويرفع البخس غير آب
فانبذ كثيري فكل حب
…
فيه عطاء بلا ثواب
وكن كما كان كل رب
…
جلَّ عن الصغو والجواب
إني أشبَّ الهيامَ عمري
…
في قبلة القلب كالشهاب
فارمقه أو غض عنه لكن
…
دعه على الدهر في التهاب
ولا تخل برده سلاماً
…
فالنار خير من التراب
حبك أن أخلو منه يوماً
…
خلوت في عالم الخراب
فهنا محب لا تقبل ضحاياه، ولكنه يريد هذا الحب مشبوباً، ولا يريده برداً ولا سلاماً إذا كان هذا السلام يطفئ شعلته ويخبئ أواره فيتركه في عالم الخراب
وهو في قطعة عنوانها (في البعد والقرب) يبدأ بالتشكي من اختلاف حال البعد والقرب من حبيبه، فيريد ألا يكون في البعد ناراً. ثم يستدرك فيطلب إليه أن يكون عذاباً كما كان نعيماً لأن الحب لا يكمل إلا حين يكون هذا وذاك:
لن يطيب البعد يوماً لن يطيبا
…
هن عليٌّ اليوم إن كنت حبيباً
لا تكن ناراً من الشوق ولا
…
دمعة حري ولا قلباً كئيبا
لا تكن صحراء في البعد وقد
…
كنت لي في القرب بستاناً رطيبا
إن تغب شمسنا فأوص النوم بي
…
قبل أن تعرض عني أو تغيبا
يا حبيبي بل فكن ما كنت لي
…
صانك الله بعيداً وقريبا
وأجعل الأنس نصيبي فإذا
…
غبت عني فاجعل السهد نصيبا
كن نعيماً وعذاباً، ومنى
…
تملا النفس، وحرماناً مذيبا
هكذا الحب دواليك فمن
…
لم يكنه لم يكن قط حبيبا
ولن يقول الإنسان هكذا إلا وهو مؤمن بالحب أشد الإيمان متقبل منه كل ما يأتي به كما يتقبل المؤمن الصوفي كل ما يأتي به الإله في خشوع ورضا واطمئنان
ولا يقف هذا الإحساس في العقاد عند هذا الحد، فقد يكون بعض الشعراء جاش في نفسه مثله، فإنما هو في قطعة ثالثة يتلهف على شوك الحب لهفته على زهره، لأن هذا الشوك دليل عنده على قوة الحب ونمائه وفورته، فحبذا هذا الشوك إذن في دلالته، ولا حبذا العشب المريع من عتيد الحب، ولو استنام له الآخرون واستروحوه واستلانوه؛ وذلك في قصيدة فريدة بعنوان (يومنا) وفيها يقول:
سنة كانت ربيعا كلها
…
بين روض يتغنى ويضوع
زهر ناهيك من زهر فأن
…
أنبت شوكاً يكن شوك ربيع
حبذا الشوك من الحب ولا
…
حبذا من غير العشب المريع
فإذا وجدنا من المحبين من يقول: سأقبل الشوك من الحب تضحية واحتمالاً، فلن تجد فيهم من يجد في طلبه ويمدحه لأنه شوك ربيع، فهو دليل حياة ونماء في هذا الحب المطلوب المرقوب وهذه - كتلك - إحدى خصائص غزل العقاد
التمتع الفني بالحب في كل حالة
وإذا كانت هذه نظرة العقاد إلى الحب، فكل حالة من حالاته إذن مقبولة ما دامت حية نامية، وهو إنما يرتقي به عن المتاع الحسي إلى المتاع الفني، في رفاهية وترف وطرافة. . . اسمعه يحدثك عن (شوق إلى ظمأٌ) والعنوان نفسه يوحي بما وراءه:
ضِني بيومك إن بدا لك، واتركي
…
لي من رضاك غدا علالة طامع
ليس ابتعادك عن هواي بمبعد
…
عني هواك، وليس منعك مانعي
إني لألتذ الصدى وأطيله
…
شوقاً إلى برد الشراب الناقع
وقد نعرف شاعراً يصبر على البعد، ويستعيض بالذكرى والحنين، عن اللقاء والاجتماع؛ أما أن يطلب الشاعر أن تضن عليه حبيبته بيومها حين يبدو لها، لأنه يلتذ الصدى ويطيله ليلتذ برد الشراب، فهذا هو الطريف، وهو وليد الطلاقة الفنية، والثقة الهانئة!
وكذلك هو في قطعة (سحر السراب):
هذا سرابك جنة تغري
…
يا فاتني بالقرب والذكر
صحراء بعدك ما خلت أبدا
…
من كوثر في أفقها يجري
لكنه يغري وليس به
…
ري، وعندك لجة النهر
وإذا الشراب خلت كواثره
…
من مائها لم تخل من سحر
فافتن بذاك وذاك يصف لنا
…
أمن المقيم ولهفة السفر
فهو مستمتع بكل حالة، وإذا فاته ري النهر، فلن يفوته سحر السراب، وهذا إنما هو فتنة الشاعر، إذا كان ذلك فتنة الإنسان، والعقاد إنسان وشاعر وكلاهما فيه متفتح يقظ ممتاز و (قبلة بغير تقبيل) ومن يستطيعها حتى يكون من دقة الحس وقوة التشخيص ما كان العقاد،
وهو يقول:
بعد شهر: أنلتقي بعد شهر
…
بين جيش من النواظر مَجْر!
لم يحولوا - وحقهم - بين روحينا
…
وأن ألزموهما طول صبر
تمت القبلة التي تشتهيها
…
كلها غير ضم ثغر لثغر
ثم منها شوق، ورفُّ شفاه
…
وهوى نية، وخفقة صدر
وهكذا يحلل القبلة الواحدة إلى عناصر وأحاسيس، كل منها وحدة تكون جزءاً، ثم ينظر ما تحقق من (وحدات) القبلة، فإذا هو كل عنصر روحي فيها، فلم يبق إلا مظهرها الحسي وهو (ضم ثغر لثغر) وهذا غير ذي غناء لدى محب فنان!
ومن آثر ما يروى في هذا المجال، أبياته في (عابر سبيل) بعنوان متاع جديد، وهي فن وحدها، ولكنه ذو علاقة بمبحثنا هذا. وإنما هي امرأة في الأربعين في محياها ثنايا وغضون كما يكون في بنت الأربعين، ولكن بث الغرام أحيا قلبها، ففاض بالجمال على وجهها، وسوى غضونه وثناياه، فكانت بذلك خريفاً أحاله الغرام ربيعاً، وكانت بذلك متاعاً طريفاً لما فيه من معنى عودة الماضي، وهو المستحيل في دورة الأيام:
من جديد المتاع خريف
…
تحت وهج السماء عاد ربيعا
ومحيَّا في الأربعين وديع
…
تحت بث الغرام شب سريعا
نضح القلبُ بالجمال فسوَّي
…
من ثنايا الغضون وجهاً بديعا
ذاك أحلى من الشباب شبابا
…
ومن النفس ما يعز رجوعا
يعجبني في هذه الأبيات - أولاً - صدق ملاحظة الواقع، فالمرأة في هذه السن أشد ما تكون استجابة لوهج الغرام، وهذا أسرع ما يكون في إفاضة الحيوية عليها، حتى لتصنع المعجزات في سيماها، وكأنما تخلق خلقاً جديداً. و - ثانياً - تعبيره:(نضح القلب بالجمال) فالقلب هنا هو الذي نضح بهذه الحيوية، فتسوي ما شوهته الأيام. و - ثالثاً - استطرافه لهذا الجمال العائد المفلت من قيود الزمان بقدرة الحب الفنان. و - رابعاً - حسن استمتاعه بهذه الحالة، وهو ما سقنا لأجله هنا هذا المثال وهذه الثالثة من خصائص غزل العقاد
نضوج وفهم للأنوثة
ولقد كنت تحدثت عن مظاهر النضوج النفسي والفني في غزل العقاد، وفي (سارة) بوجه
خاص. فالآن أكمل هذا الحديث، حينما يطلع الناقد على فهم العقاد الكامل للمرأة، وخبرته بمسارب الأنوثة فيها ومطالبها لديها. وهذه لا تكون إلا حيث يكون نضوج الشخصية، وكمال التجربة، ووفرة الملاحظة
فيبدو لمن يقنعون بظواهر الأشياء أن المرأة حينما تحب تريد أن (تأخذ) من حبيبها، وتنتظر هداياه ومواهبه ومنحه، وإنما هي في الواقع - حينذاك - تتأهب لأن (تعطي) كل شيء، بل هي تتأهب لأن (تؤخذ) أخذ المشتهي المنتهب، فتحس حينذاك أنها ذات قيمة تستحق من أجلها الأخذ والحيازة!
(قال الشاعر الفرنسي (دوجيرل) لحبيبته: (لو كنت إلها لأعطيتك الأرض والهواء، وما على الأرض من بحار، ولأعطيتك الملائكة والشياطين الحانية بين يدي قدرتي وقضائي، ولأعطيتك الهيولي وما في أحشائها من رحم خصيب، بل لأعطيتك الأبد والفضاء والسماوات والعالمين - ابتغاء قبلة - واحدة)
وسئل العقاد: (وماذا تعطيني أنت لو كنت إلها؟) فقال:
أعطيك؟! كيف وما العطاء بخير ما
…
تبدي القلوب من الغرام الصادق!
بل لو غدوت كما اشتهيت وأشتهي
…
ربَّا وأخذتك أنت أخذ الواثق
فترين أنك حين فزت بحظوتي
…
أحلى وأكمل من جميع خلائقي
وتسيطرين على الصروف وفوقها
…
نبضات قلبي المستهام الوامق
إن كان رب الكون عندك قلبه
…
أهون لديك بأنجم وصواعق!
وبكل شمس في السماء وضيئة
…
وبكل بحر في البسيطة دافق!
ويبدو هذا الفهم في كل غزل العقاد، ولكن هذه القطعة أوضح مثال على هذا المذهب فيما بين الرجال والنساء، في الحب الناضج الطبيعي الصحيح
عنيت أن اطرق هذه النواحي في غزل العقاد، وأختار هذه الأمثلة بالذات، لأوسع الأفق أمام من يهمهم مذاهب الإحساس والتعبير، ولا سيما في الغزل الذي هو أرحب مجال للأدب النفسي الإنساني، وما من شك أن هذه آفاق جديدة لم يطرقها الشعر العربي إلا لماما، فهي ثروة تضيفها المدرسة الحديثة، لا للأدب العربي وحده، ولكن للأدب الإنساني كله. وما بقليل أن يكون لنا شاعر مصري يضيف إلى آداب الإنسانية نماذج في الذروة من هذه
الآداب
وقد بقيت لي كلمة أخيرة في (غزل العقاد)
فإلى اللقاء
سيد قطب
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 11 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ج)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
ب - (رداً على سقراط) وإذاً فكل من يقتل (يعدل) يبدو لك شقياً وجديراً بالرحمة والرثاء؟؟
ط - كلا. وإنما هو لا يبدو على الأقل جديراً بأن يُحسد!
ب - ألم تقل تواً إنه شقي وتعس؟؟
ط - لقد قلت ذلك يا رفيقي عمن يقتل ظلماً وعدواناً، وأضفت إليه أنه جدير بالرحمة والرثاء. أما ذلك الذي يقتل بعدل فأقول عنه أنه لا يجب أن يثير حسداً ما!
ب - لا شك أن من يستحق الرحمة والرثاء هو ذلك الشقي الذي يموت ظلماً وعدوناً!
ط - ولكنه - مع ذلك - أقل في شقائه وفي جدارته بالرحمة والرثاء من ذلك الذي قتله ومن ذلك الذي مات موتاً عادلاً
ب - وكيف ذلك يا سقراط؟
ط - ذلك لأن أفدح الشرور هو ارتكاب الظلم!
ب - أيكون ارتكاب الظلم أفدح الشرور ولا يكون تحمله أفدح من ارتكابه وأنكى؟؟
ط - كلا يا بولوس!
ب - وإذاً فأنت تفضل احتمال الظلم على ارتكابه؟!
ط - لست ارغب في هذا ولا ذاك. ولكن إذا وجب عليّ إطلاقاً أن اختار بينهما فأني أفضل احتمال الظلم بدلاً من ارتكابه!
ب - وإذاً فسوف لا تقبل أن تكون طاغياً؟
ط - كلا. إذا كنت تفهم الطغيان كما أفهمه!
ب - إني لأعيد عليك فكرتي عنه وهي أن يفعل المرء ما يشاء في الدولة من قتل ونفي إشباعاً للذاته!
ط - حسن جداً يا بولوس، فاسمح لي إذاً أن أتكلم وأنقدني عندما يحل دورك. هب أني أخفيت خنجراً تحت إبطي ثم جئتك في الوقت الذي يزدحم فيه الميدان العام بالجمهور وقلت لك:
(إني لأرى نفسي حائزاً لقوة هائلة تعدل قوة الطاغية، فإذا قررت أن الأصلح هو أن يموت أحد هؤلاء الذين تراهم فإنه يموت في الحال، وإذا قررتُ أنه يجب أن تتحطم رأس أحدهم فإنها تتحطم فوراً، وإذا قررت أنه يجب تمزيق ثيابه فإن ثيابه تتمزق ما دامت قدرتي عظيمة في المدينة). . . فإذا رأيت بعد ذلك أنك لم تصدقني أبرزت لك خنجري! ولكنك قد تقول لي حينئذ: (وإذاً يستطيع كل الناس على هذا الأساس أن يكونوا أقوياء لأنهم يستطيعون بنفس الطريقة أن يحرقوا المنازل التي يريدونها، ومخازن أسلحة الأثينيين وسجونهم، بل وكل السفن التجارية الحكومية والأهلية!). . . فترى هل تعتقد أن عظمة القوة قائمة في أن نعمل ما يسرنا أن نفعله؟؟
ب - إذا كان الأمر في مثل هذه الظروف فكلا بالتأكيد!
ط - أتستطيع أن تذكر لي ما تأخذه على قوة كهذه القوة؟
ب - بلى!
ط - وما هو إذاً؟؟ تكلم!
ب - إذا فعل الإنسان هكذا فإنه يعاقب بالضرورة!
ط - أو ليس العقاب شرا!
ب - من غير شك!
ط - وإذاً فقد حكمت أيها الشاب العجيب بأن الإنسان يكون (ذا قوة عظيمة) عندما يرى في إشباع رغباته مصلحة له وخيراً، وقلت أن هذا ما يبدو أنه قوة كبيرة، وأن كل ما عداه شر وضعف! ولكن لنختبر ذلك أيضاً: ألا توافق على أنه قد يكون الأفضل أحياناً أن ننفذ ما نتحدث عنه في الحال كقتل المواطنين ونفيهم وسلبهم، وقد يكون الأفضل ألا ننفذه؟
ط - وإذا يبدو أنك متفق معي على هذه النقطة؟
ب - بلى
ط - وإذا ففي أي الأحوال ترى أن الأفضل تنفيذ تلك الأفعال؟ أرجو لو تحدد لي الموضوع!
ب - الأفضل أن تجيب أنت نفسك على سؤالك يا سقراط
ط - حسن يا بولوس.! وما دمت تفضل أن تسمع مني فأني أقول أن الأمر يكون أفضل عندما ننفذ فعلاً منها بعدل، ولا يكون كذلك عندما ننفذه بظلم!.
ب - لعمري إن مناقضتك لصعوبة جميلة يا سقراط! فالطفل نفسه يستطيع أن يبرهن لك على خطئك!
ط - لأكونن مديناً لهذا الطفل ولك بكثير من الشكر إذا ما نقضتماني وتخلصتما من بساطتي وجهلي!، وإذا فلا يضجرك الإحسان إلى من يحبك يا بولوس، وأمض في مناقضتي!
ب - لن احتاج في مناقضتك إلى الرجوع بك إلى الماضي وأمثلته لأن حوادث البارحة واليوم كافية لأن تثبت خطأك، ولأن تريك أن الظلمة من الناس غالباً ما يكونون (سعداء)!
ط - أية حوادث تقصد؟
ب - ألست ترى - من غير شك - (أرشليوس) ابن (بردكاس) الذي يحكم اليوم (ماسيدوينا)
ط - إذا كنت لا أراه فأني سمعت عنه كثيراً.
ب - حسن فهل تراه سعيداً أم شقياً؟
ط - إني لا أعرف عنه شيئاً يا بولوس لأني لم التقي به بعد!
ب - لتدركن سعادته إذا ما التقيت به! والواقع أنك لن تعرف في هذه الناحية غير سعادته فحسب
ط - كلا وحق زيوس يا بولوس!
ب - وإذا فنستطيع أن نؤكد أنك تجهل أيضاً إذا كان أكبر الملوك وأعظمهم، سعيداً أم شقياً؟
ط - ولن أكون مخالفاً للحقيقة في ذلك ما دمت أجهل ما عسى أن تكون عليه نفسه من (عدالة وعلم)!
ب - كيف؟ وهل تقوم (السعادة) في العدالة والعلم وحدهما؟
ط - نعم، حسبما أرى يا بولوس. فأنا أدعي أن كل أمين عادل - رجلاً كان أو امرأة - يكون سعيداً، وكل شرير ظالم يكون شقياً!
ب - وإذاً فهذا (الأرشليوس) شقي تبعاً لقولك يا سقراط؟!
ط - حقاً يا صديقي إذا كان ظالماً!
ب - وكيف كان يستطيع أن يكون عادلاً؟، إنه لم يكن له أدنى حق في العرش الذي يتربع عليه اليوم لأن أمه كانت جارية (لألكيتيس) شقيق (بردكاس)، وكان هو - تبعاً للعدالة - عبداً لسيد أمه. فلو أراد العمل بالعدالة لخدم سيده وسعد بذلك حسبما تدعي، ولما عرض نفسه للشقاء الهائل بارتكابه أفظع الجرائم وأشنعها. . .
محمد حسن ظاظا
لبنان الشرقي
مصطاف الزبداني
للأستاذ عز الدين التنوخي
أنا اليوم مصطاف من لبنان الشرقي في وادي الزبداني الذي لو نزله من قبل لامرتين لوصفه بما لم يصف به وادي حمانا في لبنان الغربي، ولا سيما بجفاف الهواء، وصحة الماء، واعتلال النسيم، واعتدال الإقليم
أجل، إن لبنان الشرقي ليمتاز بجفاف الهواء لبعده عن رطوبة البحر ولقربه من البيداء، ولذلك وصفه مشاهير الأطباء للمصابين بأمراض الرطوبة كالرثية - الرومتيزم - والسل وعرق النسا، ووصفوه لعين (بُقَّين) التي تكاد تكون منقطعة النظير بين عيون بلاد الشام كلها في صفائها وخفة مائها، وما اشتملت عليه من عناصر تذيب الرمل والحصاة، وتزيد في الهضم ما تشاء فتتعب الطهاة. ولقد أشرت إلى عجيب تأثيرها في السنة الماضية حينما وصفت في هذه الرسالة عين الصحة المنبجسة من جبال حمانا في لبنان الغربي
ليس مجال القول ذا سعة فأسهب في وصف وادي الزبداني الجميل، ولذلك اقتضبت الكلام في تحليته اقتضاباً: بذكر ما فيه من الطرق المعبدة والمغاني والمباني، وبيان ما استوفاه من منافع وروائع تبر المصطافين وتسر الناظرين. . .
يمتد وادي الزبداني الجميل من الجنوب إلى الشمال بين طودين أو سلسلتين من الجبال الشرقية والغربية، وعلى سفوح الطود الشرقي تضطجع قريتا مضايا وبُقَّين وقصر الجرجانية الأندلسي، وقرية بلودان أعلى قرى الوادي وفيها الفندق الفخم الذي يعد من أجمل قصور الفنادق الشامية، وفي الجانب الشمالي من بطن الوادي قامت قرية الزبداني أم القرى، ومهوى قلوب الورى
إن شرايين الحياة في هذا الوادي هي طرقه الكثيرة المعبدة المزفتة، والزفت شاع أنه نعت سوء في كل شيء إلا في الطرق، فإنه وصف خير ونعت يمن فيها يلبد غبارها ويقي السالك عثارها، منها الطريق السلطانية التي تصل دمشق بالزبداني، وطريق مزفتة تصعد من الزبداني إلى بلودان، وأخرى مثلها تربط الزبداني بالجرجانية وبقين ومضايا، وطريق مخضرة أخرى تصل قريتي بقين ومضايا بطريق دمشق على مقربة من مفرق طريق منبع
نهر بردى: نهر دمشق الذي وصفه حسان بأنه (يصفق بالرحيق السلسل) وذكره شوقينا محيياً دمشق بقوله:
سلام من صَبا بردى أرقُّ
…
ودمع لا ينهنه يا دمشقُ
أمام أم قرى هذا الوادي البهيج فهي الزبداني مركز القضاء وعامله القائم بشؤونه رجل من أفاضل الرجال غيور على عمرانه، وتوفير أسباب الهناء والبلهنية على نازليه وسكانه؛ وفي الزبداني محكمة يرأسها قاض ماض في أحكامها، ومستوصف طبي للحكومة تام الأدوات يديره طبيب نشيط يداوي الأغنياء من المصطافين والفقراء على السواء. ولا يتقاعس عن تلبية نداء المرضى في مساكنهم، يعودهم ليضعف من الداء الآلام، وليقوي في الشفاء الآمال، ثم هو يعطي الأدوية مجاناً للبائس والمعتر حتى الغني المضطر إن لم يجد علاجه في صيدلية الزبداني العامة.
وفي قرية بلودان صيدلية كبيرة، وفي مضايا أخرى صغيرة، وبذلك يجد المصطاف الصحيح في وادي الزبداني نعيمه المقيم وهناءه؛ والمريض لا يعدم في مغانيه طبيبه الحاذق وشفاءه
ومما تمتاز به الزبداني على سائر قرى الوادي أنها مركز السيارات، وإن فيها محطة القطارات، فهي ملتقى الحاضر والبادي، ومنتدى الرائح والغادي، كما تمتاز برخص أسعار الثمار وكثرتها، وتنوع الخضراوات الغضة ووفرتها، وبسوقها الكبيرة المشتملة على جميع ما يحتاج إليه الاصطياف والانتجاع، وبمنتزهاتها المستوفية لشرائط الإبداع والإمتاع
بعض مناظرها الساحرة: كل ما في وادي الزبداني بهيج جميل: بهيج لعمري مقهى أبي زاد ومنظره الساحر الجميل، ومقهى بقين وعينها التي يحق أن تسمى السلسبيل، وجميل كل الجمال قصر الجرجانية الأندلسي بشلالاته وفواراته، وفخم كل الفخامة فندق بلودان بمقصوراته وحماماته، ورائعة - شهد الله - قرية مضايا بصفاء سمائها. وصحة هوائها، وماذا عسى أن يقول قائل في محاسن الزبداني ومفاتنها؟ فلعل اصدق ما يقال في جنتها قول الشاعر في وصف دمشق وغوطها:
هذه الغوطة ما أبهجها
…
وهي في نيسان قيد المتجلي
قال سبحان الذي دبجها
…
من رآها فتنة للمُقّل
إنه قد شاء أن يخرجها
…
جنة في الأرض للمستعجل
إن بطن هذا الوادي المبارك ينقسم إلى قسمين شمالي وجنوبي:
أما الشمالي منه فعامر يبدو بلون أشجاره أخضر نظراً؛ وأما الجنوبي منه فجله غير مغروس ومختلف ألوانه: هذه بقعة منه محصورة تبدو صفراء فاقعة، وهذه بقعة محروثة تبدو حمراء قانية، وتلك رقعة بائرة لم تحرث ولم تزرع فهي نارنجية غير قرمزية؛ وهنالك رقعة مزروعة يضرب لون خضرتها القاتمة إلى السواد فتجتلي عين الناظر من هذه البقعة وهاتيك الرقاع مجموعة من الطنافس المحروثة والزرابي المبثوثة تستهوي الأفئدة وتقيد النواظر
إن من ينكر السحر من أهل هذا العصر يؤمن به مثلي بعد أن يرى ما رأيت من جمال إشراق الشمس على سلسلة الجبال الغربية، ثم يزداد استيلاء الضياء حتى يغمر ما تحت الشناخيب والذرى فتزداد بهجة النفس، فإذا ما بلغت الشمس أشجار الروابي المغروسة راعك مشهد سواد الأشجار مع بياض الأنوار فتخيلت النقاء الليل بالنهار عندما يتنفس الصبح في الأسحار.
وإن أنس لا أنس تلك العشية التي ذهبت فيها إلى مغارة (النابوع) تلك العين التي لا يكاد يرتوي واردها لشدة برد مائها وفرط عذوبته، وكان رفيقي الوفيق في ارتياد هذه العين العجيبة الشيخ حسن بو عياد المغربي من زعماء الإصلاح في المغرب الأقصى، وهو على رأيي في إصلاح المرأة بإصلاح تربيتها وبيئتها، ثم خرجنا من المغارة والشمس في صفرة وجه العاشق الوامق فانتقلنا من لذة إلى لذة: من نشوة الارتواء إلى نشوة الإصغاء. ماذا رأينا من مشهد فخم، وماذا وجدنا من نعيم روح، وماذا سمعنا من حسن لحن؟ مشهد لعمر الحق رائع، ونعيم روح غامر، ولحن مزمار ساحر. شهدنا فوق مغارة النابوع على سفح الجبل قطيعاً من المعزي يثير من ورائه عجاجه منتشرة، ومن أمامه هاديه وراعيه يطرب قطيعه بألحان مزماره الجبلية، كما يطرب الجيش بألحان موسيقاه الحربية، وقد امتزج أنين المزمار برنين الأجراس، وكأنما كان الداعي يهنئ بسلامة الوصول قطيعه الطروب، ويودع بلسان المزمار ملكة النهار الجانحة إلى الغروب، ولا يزال القطيع الزاحف في هبوطه حتى يبلغ قرارة الوادي فينقع ببرد الماد غليل الأحشاء، ثم يتابع سيره الهادئ إلى
حظيرته ونحن نتابعه بأبصارنا، ونشيعه وأجراسه وراعيه وأنفاسه، ولا نزال من خلفه مسحورين حتى يتوارى عن العيون بحجاب الليل. . .
وهل أحدث أخي القارئ عن القمر، وكلنا يهوى القمر، وهيهات أن أنسى لياليه القمراء على شاطئ البحر صغيراً، أو لياليه السواحر والفلك يجري بنا في بحر النيل الجميل. لا، ولا أنسى تلك الليالي البهيجة، والقمر يفضض الطبيعة من حولنا ونحن مضطجعون على هضاب المزه الفيحاء. وما لي ولحديث القمر في الدهر الغابر، وأنا أستطيع التحدث عنه في هذا الشهر الحاضر، ذاكراً للقارئ أن أهل دمشق من أعشق خلق الله للقمر، ولو أن الدمشقي كان نباتاً لكان (عَبَّاد القمر) فلقد أخبرني عامل الزبداني عشية أمس بأن عدد المصطافين في الزبداني وحدها قد بلغ في هذا العام نحو ألف نفس يؤلفون مائتي أسرة، ولكن هذا العدد يبلغ في الليالي القمراء أضعافاً مضاعفة فيعج وادي الزبداني بالمصطافين عجيج الحجيج، ولكنهم من حجيج القمر. وتمتلئ الطريق السلطانية بين دمشق والزبداني بالسيارات الممتلئة بعشاق القمر، وتغص بهم مقصورات القطار، في الليل والنهار، وأقمار النساء تشارك الرجال في عشق قمر السماء، وكأنه لا غنى للجنسين اللطيف والعنيف عن المشاركة التي ازدادت في هذا العصر تشابكاً ووشوجاً. فهنالك التربية المشتركة والسباحة المشتركة، والسباقات المشتركة، وهنا في الوادي النزه المشتركة ليالي القمر على طريق الجرجانية وبقين ومضايا.
إن تطور المرأة من الحجاب إلى السفور فالحسور كان سريعاً جداً في مصر، ولكنه بطئ في ديار الشام، ولا تزال الدمشقية مع تعلمها وولعها بالنهضة الاجتماعية تؤثر التدين الصادق على التمدن الكاذب، والكمال والعفاف، على الابتذال والإسفاف وبعبارة أوجز إنها تفضل السفور الشرعي على الحسور البدعيّ، فلا تخلو المرأة المسلمة ولا تسافر إلا بمحرم يحافظ على عرضها وشرفها ويحول دون ما يؤذيها ويرديها
ويزداد السفور الشرعي في دمشق يوماً بعد يوم، ولا يلبث أن يسود على الحجاب أخيراً. ومن الناس من يقاوم هذا التطور الحيوي الذي لا مناص منه بالسفاه والشتائم لا بالحجة والبرهان، بيد أن من عقلاء رجال الدين من يحب للغانيات سفور الراهبات الذي لا حسور معه، ويسعى لإعادة الحاسرات إلى سفور الشرع المحتشم الذي يكفل للمرأة تعلمها وتقدمها،
والتربية الإسلامية في المنزل إذا كانت صحيحة تعد البنات للسفور الشرعي الشريف الذي تصان به الكرامة، وتوقى به الحسرة والندامة. وليت رجال الدين يتعاونون تعاوناً معقولاً يتمكنون به من المحافظة على اعتدال المرأة المسلمة، ويبرهنون به على إمكان تعلم المرأة وتقدمها مع ذلك الاعتدال، وإلا فإنا لا نأمن جانب الفوضى في السفور الحاضر كما نشاهد من نماذجه المشوهة الفاسدة في وادي الزبداني من برانيط البنات وقمطات الأمهات، وارتياد السينما والقهوات، وغدا البالات والحانات، ومما أوحى إلى بالأبيات التاليات:
يا صبايا
يا صبايا الزبداني رأفة
…
بهواة الحسن منا يا صبايا
قنّعوا عّمن يراكم أوجهاً
…
صُقِلت حتى حسبناها مَرايا
واستروا عنا عيوناً خُلِقت
…
لقلوب المستهامين بلايا
فَوَّقت ألحاظهن أسهماً
…
مُصمياتٍ نحن قد كنا الرمايا
لست أدري ما الذي قد فعلت
…
أسهاماً رشقتنا أم منايا
قد سرى يغزو الورى من فِتن ال
…
عين - ما أكثر صرعاها - سَرايا
يا سقي الله المناديل التي
…
صنتمُ الأعراضَ فيها والملاياَ!
ولحي الله البرانيط التي
…
أخذت الأحسابَ منكم والسجايا!
كم عرقنا خجلاً من شربكم
…
عَرقاً يعرقكم ديناً ورايا
في محار الصَّون كنتم دُرراً
…
كن للأزواج لا غير هَدايا
لم نكن نأمن منكم فِتناً
…
في الزوايا، كيف من بعد الزوايا؟
والفؤادُ الحيُ منا هدَفٌ
…
لعيون وخدودٍ وثنايا
مسرح الألالم قد هجت لنا
…
من رسيس الوجد والحب بقايا
أنا إن لم أكُ أنسى زمنا
…
من حياتي فهو هاتيك العشايا
يا رعاكَ الله لولا سربة
…
كنَّ ينثرن على الناس الخطايا
رائحات غاديات ضَلَّةً
…
بين (بُقَّين) مساءً و (مضايا)
سافراتٍ حاسراتٍ وغداً
…
هنَّ أنصاف عرايا فعَرايا!
الزبداني
عز الدين التنوخي
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 23 -
وإنه ليحق للمرء أن يتسأل: ألم يكن في طاقة القائمين بالأمر يومئذ تجنب تلك الحرب الضروس؛ تلك الفتنة التي لم تصب أوزارها فريقاً دون فريق؟
إن هناك من يعتقدون أنهم قادرين على تجنب ذلك الصراع العنيف، وهؤلاء ومن يرى رأيهم من المؤرخين يأخذون الساسة باللوم الشديد، لا يعفون منهم أحداً؛ ويجعلون نصيب كل من اللوم على قدر ما تواتي له من الجاه والنفوذ؛ ولذلك فقد كان لنكولن عندهم أول الملومين وكبير المسؤولين عن ويلات تلك الحرب وبلى لنكولن في ذلك جفرسون زعيم الاتحاد الجنوبي
ولكن الذين يتوخون الأنصاف يرون أن الحرب كانت أمراً لا محيص عنه؛ كان مردها إلى حركة ولدتها الأيام فما زالت تنمو حتى اتخذت آخر الأمر سبيلاً لم يكن في الإمكان أن تسلك غيرها، لم تكن تلك السبيل لتؤدي إلى غير ما أدت إليه من نهاية دامية؛ ومن ذا الذي يستطيع أن يلوي الأيام عن وجهها؛ أو أن يتصرف في الحادثات ليجعلها تفضي إلى نتيجة بعينها؟
لقد كان للزمن وللبيئة حكمها الذي لا ينقض وفعلها الذي لا يقف وسنتها التي لا تبديل لها؛ فهؤلاء أهل الشمال كانوا كما ذكرنا أهل صناعة وأهل ثقافة بينما كان إخوانهم في الجنوب أهل زراعة، ولم يك يتوفر لهؤلاء من العلم مثل ما كان يتوفر منه لأولئك الشماليين
وكانت أعمال الزراعة في الجنوب تتطلب الأيدي الكثيرة، وبخاصة حينما بدأت النهضة
الصناعية وتزايد طلب القطن، وكانت زراعة القطن أمراً مرهقاً، لم ير الجنوبيون خيراً من إلقائه على كاهل العبيد؛ ولذلك كان نظام العبيد عندهم أمراً يتعلق بكيانهم ومن ثم كانت سياستهم تدور على هذا المحور الاقتصادي، فكانت بذلك مسألة حياة أو موت. . .
أما أهل الشمال فلم تكن بهم حاجة إلى الزنوج، وما كانوا يستخدمون عندهم في أغلب الأحيان إلا خداماً في المنازل؛ وأملت عليهم ثقافتهم فلسفة إنسانية فكرهوا نظام العبيد واشمأزت منه نفوسهم ودارت سياستهم أول الأمر على هذا المحور الإنساني فكانت بذلك في نشأتها مسألة عاطفية
على أنه كان للمسألة وجه أخر فقد اعتبر عدد العبيد من عدد سكان الولايات عند تقدير عددها للتمثيل النيابي في المجلس التشريعي الأدنى كما نص الدستور، وعلى ذلك فقد أشفق أهل الشمال من تزايد عدد العبيد في الولايات، الأمر الذي يتهدد نفوذهم
وتطورت بعد ذلك مسألة العبيد على النحو الذي أسلفناه، فتزايدت كراهية الكثيرين من الشماليين لذلك النظام حتى تحولت إلى مقت، وظهر من بينهم دعاة إلى التحرير؛ وما زال يعظم خطر تلك المسألة حتى باتت كبرى المسائل
وولد الحزب الجمهوري فكانت مبادئه وسطاً بين مبدأ الجامدين ومبدأ أنصار التحرير، فهو يرى ألا تزداد ولايات العبيد حتى ينقرض ذلك النظام على مر الأيام. ولقد كان إبراهام من زعماء ذلك الحزب الوليد، وهو وإن كان من أشد الناس سخطاً على نظام العبيد إلا أنه آثر الحكمة خوفاً على بنيان الاتحاد؛ فبقاء الاتحاد عنده في المحل الأول من اهتمامه
ولكن مسألة الاتحاد ومسألة العبيد ما لبثتا أن تداخلتا حتى أصبحتا في الواقع مسألة واحدة؛ فلقد فكر أهل الجنوب في الانسحاب من الاتحاد حينما اختير إبراهام للرياسة وحينما أيقنوا أن الحوادث مفضية إلى القضاء على العبودية، وما كانوا يريدون من الانسحاب إلا أن يزيدوا عدد العبيد كما يشاءون. . .
وأنكر إبراهام عليهم حقهم في الانسحاب؛ فهو لن يبخل بشيء في سبيل المحافظة على الوحدة؛ ولكنهم مضوا في سبيلهم لا يلوون على شيء ولا يستمعون إلى رأي؛ حتى نفذوا ما اعتزموه ثم عولوا على أن يجمعوا أنفسهم بالقوة إذا أدت الحوادث إلى ذلك
وكان جيفرسون زعيمهم يقرر حق الولايات في الانسحاب متى أرادت، بينما كان لنكولن
يقول: إن مثل الولاية من الاتحاد كمثل قسم من الولاية من هيكلها، فإذا جاز لهذا القسم أن ينفصل عن جسم الولاية، جاز للولاية أن تنفصل عن الاتحاد
وجاءت بعد ذلك مسألة حصن سمتر فكانت بمثابة الشرارة التي أوقدت نار الحرب. . . ولقد عدت تلك الحرب من المآسي البشرية، ذلك لأنها كلفت الفريقين كثيراً من الأموال والأنفس؛ فلقد استحرَّت جذوتها لأن الفئتين كانتا كلتاهما ترى الحق في جانبها. . . وكانت الدماء التي تجري دماء شعب واحد فكل قاتل ومقتول إنما هما صورة جديدة لقابيل وأخيه هابيل
وقفت أمة واحة فئتين تقتتلان؛ فهنا الوحدة والحرية، وهناك الفرقة والعبودية، وهنا وهناك الكثير من مواقف الحماسة والتضحية، يضيع في حميتها وضجيجها صوت الحق ويتبدد دعاء الإنسانية. . .
وكانت أولى المعارك الكبيرة معركة نشبت في فرجينيا بعد ثلاثة أشهر من سقوط سمتر عرفت باسم بول رن. . . وبيان خبرها أن جنود الاتحاد التقوا بجموع الثائرين، وكانت الحماسة والاستبسال هي كل ما لدى هؤلاء المتطوعين من عدة، وكان لأهل الجنوب وإن كان معظمهم من المتطوعين أيضاً، قواد مدربون كانوا قبل في الجيش النظامي للبلاد وتسللوا منه إلى الجنوب حين تفرقت الكلمة!
وتبين أول الأمر أن النصر في جانب الشماليين، ولكن ما لبثت موجتهم أن انحسرت، ثم ولوا بعدها هاربين على صورة منكرة، تبعث على الرثاء حتى لقد قيل إن بعض الفارين لم يقفوا عن العدو حتى دخلوا منازلهم في وشنجطن
ودخلت فلول المنهزمين المدينة في حال شديدة من الذعر والهلع وطافت بالناس الشائعات أن المدينة واقعة في أيدي الجنوبيين، فألقي الرعب في قلوب السكان وبخاصة حينما وقعت أعينهم على أكثر من ألف من الجرحى؛ وحينما علموا أنه قد قتل في هذا اللقاء الأول أربعمائة وخمسون. . .
ولو أن أهل الجنوب تقدموا غداة انتصارهم لأخذوا المدينة ما في ذلك شك، ولكنهم نكصوا ورضوا من الغنيمة بفرار خصومهم على هذا النحو، وحسبوا أنهم بعد ذلك أحرار فيما يفعلون فلا خوف عليهم من أهل الشمال؛ ثم أنهم منذ خيل إليهم أن عدد أعدائهم يبلغ
خمسين ألفاً أو يزيدون مع أنهم لم يتجاوزوا ثمانية عشر ألفاً
وكثيراً ما يكون التاريخ في تطوره رهيناً بحادث بسيط، ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوف أهل الجنوب عن الزحف على وشنجطون؛ ولو أنهم فعلوا لكان للولايات المتحدة وجود غير هذا الوجود وتاريخ غير هذا التاريخ
وكذلك كان يتغير وجه التاريخ لو أن القنوط يومئذ تمكن من نفوس الناس؛ ولولا أن كان على رأسهم إبراهام لذهبت ريحهم وخارت عزائمهم وتفرقت كلمتهم. فلقد صمد ذلك الصنديد للنبأ شأنه في كل ما مر به من الحادثات، ولئن ابتأس للهزيمة وتحسر على الفشل في أول لقاء علق عليه الكثير من آماله، لقد صبر وصمم ألا غنى عن الجهاد مهما يبلغ من هول الجهاد. . .
وسرعان ما سرت روح أبن الغابة في الناس، فعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وازدادوا حماسة على حماسة حتى ما يقر لهم قرار بعد اليوم حتى يغسلوا عن أنفسهم هذه الإهانة الجديدة وينصرون حقهم على باطل أعدائهم
ولقد استطاعت قوة الشماليين البحرية بعد ذلك أن تستولي على حصنين على الساحل في موانئ أهل الجنوب، كما استطاع القائد ماكليلان أن يفصل بقوته البرية الجزء الغربي من فرجينيا عن جزئها الشرقي ويضمه إلى الاتحاد، وكان أكثر أهله ممن يرفضون الانسحاب فكان ذلك رداً على الهزيمة في معركة بول زن
وكان لنكولن قد دعا المؤتمر ليشاور ممثلي الأمة في الأمر وليطلعهم على الموقف من جميع نواحيه، ولقد بعث لنكولن إلى المؤتمر برسالة كانت من خير ما كتب من الرسائل، تناول فيها كل ما يهم الناس يومئذ معرفته
بدأ لنكولن يسرد الحوادث حتى انتهى إلى موقف أهل الجنوب فذكر أنهم وضعوا البلاد بين أمرين فإما الحرب وإما تفكك الاتحاد. . . ثم قال إن الأمر لا يقف عند هذه الولايات المتحدة، بل إنه ليتعداه إلى مبدأ عام هو مبلغ نجاح الحكومات الديمقراطية القائمة على إرادة الشعب
ولقد كان لنكولن جد موفق في إشارته هذه إلى ذلك المبدأ العام، كما كان يصدر في ذلك عن طبع، فهو من أنصار الحرية ومن كبار العاملين على سيادة الشعب
وتكلم الرئيس عن الولايات الوسطى التي تظاهرت بالحياد فقال: (إنها تقيم سداً لا يجوز اختراقه على الحد الفاصل بيننا، ومع ذلك فليس هو بالسد الذي لا يخترق فإنها تحت ستار الحياد تغل أيدي رجال الاتحاد بينما هي تبيح الطريق في غير تحرج للإمداد ترسل من بينهم إلى الثوار، الأمر الذي كانت تستطيع فعله أمام عدو صريح)
ورد الرئيس على دعوى جفرسون دافيز زعيم الولايات الجنوبية الذي يقول إن مبدأ انسحاب الولايات حق يبيح القانون الحرب من أجله. ولقد اعتبر الرئيس هذه الدعوى من لغو الكلام قال: (إن الستار الذي يتسترون وراءه وهو أن ذلك الحق المزعوم لا يستعمل إلا مع وجود مبرر عادل، بلغ من الرقة حداً لا يستحق معه أية ملاحظة، وهم سيكونون الحكم في عدالة ذلك المبرر أو عدم عدالته)
وكان رد الرئيس على جيفرسون من الخطوات التي ارتاح لها أهل الشمال فلقد أشفقوا أن تجد مزاعم جيفرسون سبيلها إلى قلوب الأغرار والإغفال
ثم أهاب الرئيس بالمؤتمر أن يمده بالمال والرجال فهو في حاجة إلى أربعمائة مليون من الدولارات. وأربعمائة ألف من الرجال؛ وسرعان ما أجابه المؤتمر إلى ما طلب في حماسة جعلته يزيد العدد في المال والرجال عما حدده الرئيس. . .
وأيقن الناس في طول البلاد وعرضها، وقد رأوا من صلابة الرئيس وعزمه ما رأوا، أن الحرب سيطول أمدها، فتألفت في البلاد كلها جماعات للنجدة حتى لكأنما نسى الناس أموالهم الخاصة فليس ما يشغل أذهانهم ويستدعي جدهم ونشاطهم إلا هذه الحرب
ولقد تغلغلت تلك الروح في جميع الطبقات: الكوخ والقصر في ذلك سواء، والقرية الحقيرة لا تفترق فيه عن المدينة العظيمة، وأصبح النشيد الذي يتردد على كل لسان ذلك الذي جُعل مطلعه (نحن قادمون إليك يا أبانا إبراهام ستة آلاف من الأشداء. . . نحن قادمون. . .)
والرئيس لا يعرف الراحة ولا يذوق طعمها. يصل إلى مكتبه في الصباح الباكر قبل أن يطرق البيت الأبيض أحد، ويظل هناك حتى يهبط الليل فيقضي طرفاً منه بين أوراقه. . . وامرأته تضيق بذلك وتعلن إليه غضبها، ولكنه في شغل عنها بما هو فيه من عظيمات الأمور، وأنى له في مثل ذلك الموقف بلحظة من هدوء البال. . .
(يتبع)
الخفيف
إلى لجنة إنهاض اللغة العربية
الأخلاق والأدب الوجداني الرفيع
للأديب السيد ماجد الأتاسي
منذ أسابيع خلت، عثرت في بريد (الرسالة) الأدبي على كتاب أرسله الأستاذ أحمد أمين إلى صديقه الأستاذ الزيات جواباً عما سأل سائل لجنة إنهاض اللغة العربية عن إغفالها كتب أستاذنا الزيات فيما اصطنعت للطلاب من كتب أعلام الأدب وأمراء البيان
ولقد كنت أوثر ألا أكون بين من يتحدثون عن هذا الموضوع المصري المحلي البحت؛ وإن كنت أومن أم وادي الكنانة وسائر ربوع العروبة الزهراء وطن كل عربي الوجه واليد واللسان
ولكن ما جاء في قرار أعضاء اللجنة وفي كتاب الأستاذ أمين من نعيهم جميعاً على (رفائيل وفرتر) انتهاكهما حرمات المثل الأخلاقية العليا، وذهابهم إلى أن من الخير أن يبعد هذان الكتابان العالميان عن أيدي الطلاب وأعينهم، وما يفهم من حكمهم هذا من مذاهب في العلاقة بين الأخلاق وهذا اللون من الأدب الوجداني الرفيع، كل هذا يغريني بأن أكتب غيرة على الأدب ودفاعاً عن الحق
ولست آخذ اليوم نفسي بالدفاع عن الزيات؛ فتحت أجنحة هذا النسر الجبار يستظل الألوف ممن هم أشد مني بأساً وأقوى مراساً. . ولن يضير الزيات أن تزل في تقدير أدبه مقاييس الحكم أو تطيش فيه نزعات الهوى - إن كان هناك هوى - بل ليفخر الزيات بأن يظلم مع (غوته ولامرتين)
ولئن بغي على النبوغ (قوة السلطان وحكم الأثرة فشهد فيه بالزور وحكم عليه بالباطل) ففي الأجيال القادمة - حين لا أهواء ولا مآرب - سيكون للعبقرية الموتورة نصفة، وللحق المبين رفعة
يقول الأستاذ أحمد أمين: (إن آلام فرتر موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فظيع، وإن روفائيل رسائل غرام بين شاب وامرأة متزوجة. ولم نر من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا ناحيتها البلاغية؛ ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلاب بحق)
ويقول هذا العاجز - في هدوء وبعد تفكير وتقدير -: إن من الخير كل الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية، ولو لم نفعل لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا الذين يفهمون من أولياء الطلبة بحق
ففي فرتر ورفائيل مثال من الفضيلة تحس كل نفس الميل إليه وتود لو بلغته أو دنت منه، وفيهما أسوة حسنة للناشئة يتعظون بهما في تثقيف عقولهم، وصقل عواطفهم، وارتفاعهم عن الغرائز الدنيا. ولو كنت أستاذاً أو أباً لأغريت تلاميذي وأبنائي بأن يعرفوهما ويحبوهما، ويكلفوا بهما، ويحاولون أن يتدبروا معانيهما ويتفهموا مراميهما
يعيب الأستاذ أحمد أمين رفائيل لأنها رسائل غرام بين شاب وامرأة متزوجة قضت شرائع المجتمع أن تكون - قلبها وجسدها - لزوجها، ولزوجها وحده
ونحن من الحق علينا لنحكم لهذا الغرام أو عليه أن نتناول بالتحليل عوامله، ومثله، وآفاقه
هناك في فندق من فنادق السافوا عرف رفائيل جوليا، فكان بينهما تآلف وتعاطف، وإن امتدت بينهما أسباب هذه الصلات التي فصلت آياتها في القصة
تعارفا. فأما رفائيل فتعلق بها، وأما هي فعطفت عليه ورقت له، ولمحت فيه مواهب النبوغ والعبقرية تومض وميض الفتنة في الزهرة الأرجة في فتوة مشبوبة القلب، بعيدة الأفق، طاهرة الذيل، جذابة الطوابع، فأعجبت به، واطمأنت إليه واستعانت به على الوحدة، والمرض، وآلام النفس
من هنا كان بينهما هذا اللون المعقد من الصلات العاطفية:
لا هو بالحب وحده، ولا هو بالصداقة وحدها، وإنما هو مزيج من هذا وذاك، فيه من الصداقة أكثر مما فيه من الحب، ومن الإعجاب فوق ما فيه من الرغبة
ولم تذهب هذه الصلات النقية بما لزوج جوليا في قلبها من مكان وحرمة. فلقد كانت تحفظ في أعماق نفسها وأحرج مواقفها العرفان الخالص لجميل هذا الزوج الذي يحبها، ويعطف عليها، ويأسى لها
لقد أخطأت في خطوتها الأولى، ولكن أي زهر فوَّح هذا الذي كان يتفتق على آثار الخطوات التالية؟
وأي حب كان حب رفائيل؟ إنه تذوق الذوق الفني الجميل للجمال الفني يتجلى - في أبرع
آياته وروائعه - في قطعة فنية تسمى (المرأة). . . إنه تسبيحة القلوب العلوية الموهوبة ترتفع في هدوء الليل. وابتسام الصبح صلاة حارة ظامئة في الأيمان بالحياة، والشعور بخفقانها
أحب امرأة ممتنعة عليه، وقد هدها السل، فذوت زهرتها ونضب معينها، وتقطعت أسباب رجائها، فهي تنتظر مع الليل هذا الطارق المخيف الذي يروح ويغدو على بابها. . .
الجمال المريض، والأنوثة الوديعة، والشعور الجريح، والقلب الذكي، والأفق البعيد، كل هذا حببها إليه، وأخذ عليه هواه. ولقد دلهه إذ دلهه جاذبية هذا الذبول الذي يبعث فينا العطف والحنان فوق الافتتان حين يمتد إلى زنبقة من زنابق الربيع فإذا الحر يلفحها، وإذا هي تذوي هشيماً وقد كانت من قبل ملء العين نوراً وملء الجو عطراً، وإذا هي في ذبولها أشد ما تكون فتنة وسحراً
ألا فليحلِّل الأستاذ أحمد أمين هذه القبلات الملتهبة التي لم يكن ليطبعها رفائيل إلا على يدي جوليا، وعلى يدها فحسب
أفلا يجد أن فيها - على أنها ذوب القلب، وعصارة الروح - من الإعجاب أكثر ما فيها من الحب، ومن التحفظ فوق ما فيها من الرغبة، ومن معاني الكبت للنزعات الملحة ما يعد مثلاً أعلى يضرب في الأخلاق لأبناء الأرض؟ إنها انتصار الخلق في شفتين ألهبهما الغرام، وأرمضهما الظمأ والسغب. . ليحلل الأستاذ هذه القبلات؛ وليذكر أن هذا الحب - على عنفه - لم يجر إلى معصيته، وأن هذا المحب - على فتوته - عف ولم يسف.
وأما فرتر. . .
يأخذ الأستاذ أحمد أمين على فرتر أنها تنتهي بانتحار فظيع. ذلك هو - عنده - موضع الضعف في القصة لناحيتها الأخلاقية.
وإنني لأربأ بفهم الأستاذ وعلمه أن يجد في موضع القوة ضعفاً وفي محاسن القصة شر المساوئ
لقد هام فرتر هياماً عنيفاً، ولا نزاع في أن هذا الهيام خطر شديد الخطر - بالقياس إلى الكثيرين من الشباب العاديين في نفوسهم وأعصابهم وعقليتهم - فهو إذن إسراف وخطيئة على رغم طهره وصدقه. إذن على هذا النحو يكون الانتحار ثمرة الخطيئة؛ وإذن تكون
الخطيئة في القصة قد عوقبت
وهذا هو يا أستاذي كل ما يريده الأخلاقيون
هناك من يقول: إن القصة تحمل الشباب على الانتحار وترغبهم فيه. ودليلهم على ذلك أن عدداً وافراً من الشباب انتحروا في الغرب عند قراءته
والواقع أن الذنب ذنب العصر والمكان، وبرهاني على هذا أنه لم نر الآن في الشرق والغرب من انتحر من الشباب بعد قراءة فرتر، ولقد ترجم إلى العربية كما يقول الزيات منذ ثمانية عشر عاماً وأعيد طبعه سبع مرات، وقرأه كل مثقف في بلاد العروبة، ولم نسمع أن حادثة من حوادث الانتحار قد وقعت بسببه
وهاهو ذا اليوم (يقرأ ويدرس ويمثل في الملاعب ويغني في دور الموسيقى دون أن يحدث من سوء الأثر وقبح العاقبة ما أحدثه في ذلك العصر يوم ظهوره)
يقول الدكتور طه حسين: (لقد أساء بعض الشبان ذوي النفوس المريضة فهمه والاستفادة منه، لأن ظروف الحياة الاجتماعية كانت من الشدة والضيق في أوربا بحيث تجعل نفوس كثير من الناس ضعيفة رخوة، وخانعة مستسلمة، لا تستطيع مقاومة ولا احتمالاً. وأما اليوم فالظروف الاجتماعية التي ملأت نفوس الأوربيين سأماً ومللاً في أوائل القرن التاسع عشر قد انقضت واستحالت وأصبح الناس وقد ملاهم الأمل، وملكتهم الرغبة في الحياة وما فيها من لذة ونعيم، لهذا لم بيق من هذا الكتاب إلا أثره النافع، وهو عظيم جليل الخطر)
ولنفرض أن في رفائيل وفرتر بعض ما لا يرضي الناس، فهل من الأصوب في هذه الحال أن نبعدهما عن أيدي الناشئة أم نقربهما؟ إن الأستاذ أحمد أمين - كما يفهم من قوله - يرى أن خير سبيل إلى حفظ الناشئة من الرذيلة أن يخفي عنهم خطيئات الآخرين، وأن نلقي في روعهم أن ليس في هذا العالم خطايا ولا مخطئون
ليسمح لي الأستاذ أن أقول إنه ليس هناك أخطر على الشباب من هذا الأسلوب من أساليب التربية
إن الطبيعة هي التي تلقننا أبجدية الخطيئة تلقيناً، والطلاب أخذوا عن الطبيعة تلك الدروس، درساً درساً، بل فقرة فقرة؛ وهم تدبروها وتفهموها فامتلأت بها نفوسهم، وصبت إليها قلوبهم، وكلفوا بها كلفاً لا قبل لهم برده. فما الذنب ذنب غوته ولامارتين وغيرهما من
أعلام الفن الوجداني الرفيع، وإنما هو ذنب الطبيعة نفسها
فإذا كنت تريد لناشئنا فضيلة وتقوى فأطلعهم على خطيئات لامرتين. افتح لهم أبواب الحياة الواقعية، ولا تخش عليهم بعد هذا بأساً ولا عثاراً؛ فالطبيعة التي أوجدت الخطيئة، جعلت لكل خطيئة في الحياة الواقعية قصاصها، وحاطتها بالعفن والنتن فهي مكروهة حتى من الملوثين بها! وهذا وحده كاف لأن يعرفوا الشر ويتجنبوه. قيل لعمر رضي الله عنه ما معناه:(يا أمير المؤمنين، إن هذا الرجل يقوم ليله، ويتعبد نهاره، ويتقي الله حق تقاته. حتى لكأنه لا يدري ما هو الشر ولا كيف يكون!. .) فأبتسم العبقري العليم بحقائق الحياة، وطبائع النفوس وقال:(إذن هو أحرى أن يقع في الشر لأنه لا يعرفه!)
ورحم الله شاعرنا أبا فراس فقد قال:
عرفت الشر لا للشر
…
لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر
…
من الناس يقعْ فيه
فالخير كل الخير يا أستاذ أن تأخذ بأيدي شبابك لتريهم - تحت رقابة ذكية فطنة - بؤر الخطايا حيث ينتشر النتن، ويمتد العفن ببهرجها الزائف، وتهاويلها المغرية، وسيتعلمون - على الأقل - كيف يتقون الأشواك حين يمدون يدهم لقطف وردها.
والمناعة ضد الخطيئة، هي في اطلاعهم على عواقبها وعقابها، كما أن المناعة ضد البرد لا تكون في التدفئة - بل إن التدفئة تهيئ للإصابة به - وإنما هي في التعود على التعرض له
أليس من الخير أن يعلموا كيف يرتفع الشباب عن السفاسف والميول الأرضية، وكيف يطهر نفساً وينبل قلباً
أليس من الخير أن نحمل إليهم بأيدينا هذه الكتب الفنية الرفيعة بدل أن تدفعهم وساوس الشيطان إلى ملء ساعات فراغهم ودرسهم بقراءة المجلات الساقطة والروايات الخليعة التي تتملق الذوق العام، فتوغر الميول، وتثير الأهواء، وتوجهها إلى سبيل محفوف بالمكاره والأخطار؟
إن في رفائيل وفرتر وغيرهما من كتب الأدب العاطفي الرقيق الرفيع ترفيهاً عن نفوسهم وتنفيساً لها؛ ولهم فيها - فوق هذا وذاك - مثل في الأخلاق تحس كل نفس الإعجاب بها،
وهم يجدون في هذا الترفيه وهذا التنفيس متعة القلب وراحة النفس
يقولون إن في الانتحار في الأمم الكاثوليكية هو أقل منه في الأمم الأخرى. وتعليل هذه الظاهرة عند علماء النفس والاجتماع أن في اعتراف الآثم لكاهنه، ترفيهاً عن نفسه، وتنفيساً عنها. وهذا الاعتراف هو أشبه شيء بمفتاح البخار يفتحه سائق القطار إذا ثقل تكاثف البخار ليخفف الضغط، ورفائيل وفرتر وغيرهما اعتراف نابغين إلى القارئ، وقراءتهما هي اعتراف القارئ إلى نابغين ملهمين
أذكر أنني قرأت رفائيل في الخامسة عشرة، وفي السادسة عشرة قرأت فرتر
وإنها لسانحة سعيدة تسنح لي الآن. أعترف فيها بكثير من الغبطة ورضى الضمير، أنني مدين بفضيلتي - إن كان فيَّ فضيلة وتقوى - إلى غوته ولامارتين والزيات. نعم يا أستاذ احمد أمين إلى غوته ولامارتين والزيات. أعترف فوق هذا أنها كانت ساعة من ساعات حياتي المشهودة المذكورة لها خطرها في حسن توجيه ميولي ونظري وفكري، تلك التي عثرت فيها - في هذه السن الخطرة - على رفائيل وفرتر
(حمص، سورية)
ماجد الأتاسي
قسطاكي الحمصي
اسلوبه في الكتابة النثرية
للأستاذ أسعد الكوراني
ليس الكلام في أدب الأستاذ فسطاكي بك الحمصي بالأمر السهل ولا هو بالمطلب اليسير، فالخطباء كثيرون والوقت محدود وأدب المحتفى به، أطال الله بقائه، متشعب النواحي فليس في طوق خطيب أن يلم به في دقائق معدودة. لذلك سأقصر كلمتي على أسلوب الأستاذ في الكتابة النثرية.
يقولون أن أسلوب الرجل صورة عن نفسه. وليس أصدق من هذا القول في التعبير عن الأدب الصحيح. فالأدب مظهر لما تختلج به النفس وتشعر به وتدركه عن طريق العاطفة والعقل. والأديب يؤدي رسالته وقد أذاب ما رآه وأحس به في بوتقة نفسه، فلا بد من أن يجئ أسلوبه قطعة من ذاته.
كل من قرأ للأستاذ قسطاكي بك الحمصي ما خطه يراعه منذ ستين عاماً إلى هذا اليوم يرى في كتابته النثرية قوة في اللغة وصحة باللغة في التركيب والتعبير. وهذه صفات تكفي وحدها لتخليد صاحبها، وقلّ أن اجتمعت في فجر نهضتنا الأدبية الحديثة إلا لأفراد معدودين. ولكنه يجد إلى جانب هذه الصفات صفة أخرى ينفرد بها الأستاذ بين أقرانه، ويندر من يشايعه فيها من أترابه وأنداده، وهي التأنق في الأسلوب. فكأني بالأستاذ لا يرضى من قلمه أن يأتيه بالناصع المشرق من صحيح الكلام وبليغه، بل يريد إلى جانب ذلك أن يكون بيانه عنواناً للروعة والجمال. فهو كالنحات الماهر يستخرج من الصخر الجامد ما يهز الشعور بحسنه وجماله.
ولقد قرأت ما كتبه الأستاذ في شبابه وكهولته وشيخوخته فما شذ أسلوبه عن هذه الصفة في أي دور من أدوار حياته.
نعم قد يختلف أسلوبه قوة وجمالاً في بعض ما كتب عن بعض؛ ولكن طبيعة التأنق كانت بادية على كل آثاره.
ولقد تشرفت يوماً بزيارته ومعي صديقي الأديب جورج اسطنبولية فسمعت من حديثه العذب الفياض، ورأيت من ملبسه وهندامه، وشاهدت في حجرته وعلى منضدته من الأثاث
والكتب ما زادني يقيناً بأن أسلوب الأستاذ كحياته صورة صادقة لسلامة الذوق ورائع الفن.
ولعلي لا أطيل عليكم إذا تلوت على مسامعكم قطعة من بيانه لم أخترها اختياراً بل اطلعت عليها اتفاقاً عندما فتحت كتابه الذي وضعه عن (أدباء حلب ذوي الأثر في القرن التاسع عشر) وهي من محاضرة له في وصف قصور الخليفة المأمون وهذه هي:
(وكان يشرف عليها الراكب في دجلة من بعد شاسع، ولا سيما قبابها، فمن مجصص بالجص الأبيض الناصع كالفضة البارقة، ومن مطلي نصفه السفلي بالأخضر الناظر والنصف العلوي بالذهب النضار، وفوقها جامات الذهب تتلامع كالشهب المتقدة، ثم تبدو للعيون تلك الحدائق الممتدة إلى أقصى مدى البصر، تنسرب فيها جداول الماء من برك عظيمة الأتساع مختلفة الأوضاع، ينصب فيها الماء كالفضة الذائبة من أفواه حيتان أو سباع أو ثيران أو نسور، من مرمر مختلف الألوان بالغ من الصناعة نهاية الإتقان بين جنات قد ازدحمت غياضها واشتبكت أشجارها وتعانقت أغصانها وامتد ظلالها، يسير فيها الداخل تحت أقبية وأطواق من فسيفساء الأوراق، في مماش كأنما أرضها خمائل سندسية، وعلى جانبيها درابزينات لا يدرك الطرف منتهاها، قد اعترش عليها الياسمين، وتعلق بها الورد والنسرين)
فهذه قطعة كتبها الأستاذ منذ عهد بعيد، وهي مشرقة الديباجة ناصعة البيان صحيحة اللغة سليمة التركيب لا تقع كثيراً على أشباها في متخير كلام العرب في الوصف الجميل.
غير أن هذه القطعة لا تمتاز بالكلام البليغ والأسلوب الصحيح فحسب، بل تمتاز أيضاً بما فيها من التأنق والعمل الفني الخالص.
فما هي العوامل التي اجتمعت فأشرق منها هذا الأسلوب الوضاح؟ عندي لهذه العوامل أصلان: الموهبة والمحيط.
فالموهبة هي القدرة الطبيعية التي تتجلى في ذوي الكفايات الممتازة.
والميحط هو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان فيتأثر به.
والموهبة لا تثمر ثمرها إذا لم تتعهدها يد التهذيب بالإصلاح. وهي تتكيف بالمحيط ومؤثراته.
ولا خلاف في أن العلامة الحمصي من ذوي المواهب الممتازة النادرة؛ فما هو الوسط الذي
عاش فيه فأخذ عنه وأنطبع بطابعه فصدر عنه هذا الأسلوب المشرق؟
ينتسب الأستاذ إلى أسرتين عريقتين في الوجاهة والحسب والنسب، فأبوه من آل الحمصي وأمه من آل الدلال. والأسرتان مشهورتان بالحياة الرفيعة والعيش الرغيد الوارف. وأسرة الدلال معروفة بالأدب، وقد ظهر منها نوابغ لا تزال آثارهم الأدبية ناطقة بفضلهم ومكانتهم. ولقد كان لأم الأستاذ وقوف على الأدب وخاصة على الشعر. فنشأ في هذا المحيط العالي تتعهده أمه - بعد أن فقد أباه وهو في الخامسة من عمره - بخير أنواع التربية والتهذيب.
ومن صفات الأسر العريقة في الوجاهة المحافظة على التقاليد والعادات. فمن الطبيعي إذن أن تبدو مظاهر هذه الحياة العالية بنعيمها وأخلاقها وتقاليدها على أدب الأستاذ؛ وهذا في اعتقادي هو السبب المهم في أتسام أسلوبه بسمة التأنق وروعة البيان.
على أنه يجب ألا تفوتنا ونحن نتكلم عن نثر الأستاذ ظاهرة لها قيمتها في تقدير مكانته الأدبية. وهي أننا لو أخذنا أية قطعة من نثره كتبها قبل أربعين أو خمسين عاماً، ولا سيما ما كان منها دائراً حول الموضوعات الاجتماعية والتاريخية، ثم قارناها بما يكتب اليوم بعد أن أثمرت النهضة الأدبية الحديثة ثمارها لما رأينا بينهما كبير فرق. فكأننا نقرأ بلغة اليوم ما كتبه الأستاذ قبل نصف قرن يوم، كانت أساليب الكتابة ترسف في قيود الركاكة والتقليد والصناعة اللفظية
واسمحوا لي - وإن أطلت الكلام قليلاً - أن أتلو على مسامعكم أسطراً من مقال نشره الأستاذ بعنوان (أهل التقادير وأرباب السعي والتدبير) في الجزء الثالث عشر من مجلة البيان الصادر في أول أيلول سنة 1897 أي قبل إحدى وأربعين سنة وهذه هي:
(قد ألف بعض الناس الاتكال على التقادير أي على ما تولده الليالي من الحوادث التي لم تكن في الحسبان. وخالفهم في ذلك أقوام زعموا أن ذلك مدرجة إلى الكسل، وأنه مما يقف في سبيل التقدم وبلوغ الكمالات الإنسانية. ولكل من الفريقين حجج وبينات يؤيدون بها مدعاهم)
(قال الفريق الأول: لو لم تكن التقادير هي الحاكمة في أنصبة البشر، اللاعبة بحظوظهم، الفاعلة في تغيير أحوالهم وأخلاقهم، لبلغ كل امرئ ما يتمنى على قدر همته وسعيه، وكم
من ساع وراء أمر يرومه والتقادير تعانده فلا يبلغ متمناه)
فهذا كلام لو قورن بأسلوب الكتابة في هذه الأيام لما تخلف عنه في كثير ولا قليل، بل ربما فاق أسلوب الكثير من مشهوري الكتاب بصحة اللغة وحسن السبك ومتانة التركيب
وهذه الظاهرة من خير الشواهد على نبوغ الأستاذ، لأن النابغة يتخطى حدود زمانه ويدرك ما لا يدركه معاصروه إلا بعد أمد طويل.
هذه كلمتي في أسلوب أستاذنا قسطاكي بك الحمصي في الكتابة النثرية، وأنا أعلم ما فيها من عجز وقصور عن أدراك شأوه وبلوغ مداه، وإيفاء البحث حقه من الدرس والتمحيص، ولكن أنى لمثلي أن يسابق في هذه الحلبة ويجري في هذا المضمار وقد اجتمع فيه عيون الأدب ومصطفى رجاله لتكريم إمام من أئمة البيان. غير أن لي من حسن نيتي شفيعاً لقصوري، فليتفضل الأستاذ بقبول هذه الكلمات من بهدية مقرونة بالإعجاب بأدبه والدعاء له بطول البقاء
تيسير قواعد الأعراب
لأستاذ فاضل
- 5 -
قرأت ما كتبته الآنسة الفاضلة (أمينة شاكر فهمي) وظنته رداً علي، وهو في الحقيقة تأييد لي. وسأثبت لها ذلك بعد أن آخذ عليها هذا الاستفزاز الذي يحرك النفوس الجاهلة إلى الثورة على كل جديد ولو كان نافعاً، ويجعلها تقف في سبيل الإصلاح ولو كان حقاً
تقول الآنسة الفاضلة: (لقد تتبعت بشغف واهتمام مقالات الأستاذ الفاضل (أزهري) عن تيسير قواعد الأعراب إلى أن تم بحثه في عملية التيسير والتغيير، فدهشت جداً لما جاء في مقاله الأخير من تطبيق، وما كنت أظن أن موجة التبديل والتحوير تطفو يوماً على اللغة وتمسخها بهذا الشكل الذي ينكره كل مخلص للعربية. نعم إننا نعيش في عصر السرعة التي وفدت إلينا من أمريكا، ولكن غريب أن تطغي السرعة على قواعد اللغة والأعراب فتختصره بهذه الصورة المدهشة التي يقدمها الأستاذ (أزهري) في بحثه الأخير، فقد اختصر وحذف منه حتى كدت لا أتعرفه، وخيل إلي أنني أقرأ لغة أجنبية. وغريب أن يتأثر الأزهريون بحياة السرعة الأجنبية فيستعملوها حتى في اللغة وهم حماتها من كل اعتداء!)
فما هذا الاستفزاز من آنستنا الفاضلة وهي لم تنقض حرفاً واحداً مما قلت؟ بل أنها تشهد بأني جئت بدراسة في تيسير قواعد الأعراب تكاد تكون قيمة لو لم أناقض نفسي بنفسي وأزد في تعقيد الأعراب، وكان من السهل عليها لو تأملت قليلاً أن تدرك أنه لا تناقض فيما جئت به من ذلك ولا تعقيد
وستجد الآنسة الفاضلة في عدد الرسالة الذي نشر فيه مقالها رداً قيماً للأستاذ الجليل (ساطع الحصري) على خلطها بين اللغة العربية وقواعد إعرابها، وظنها أن في الاعتداء على قواعد الأعراب اعتداء على اللغة نفسها، فاللغة العربية شيء وقواعد اللغة العربية (الأعراب) شيء أخر، لأن اللغة بوجه عام تتكون تحت تأثير الحياة الاجتماعية.
أما قواعد اللغة فتتولد من البحوث التي يقوم بها العلماء، وتتبدل بتبديل النظريات التي يضعونها، فهي من الأمور الاجتهادية التي يجب أن تبقى خاضعة لحكم العقل والمنطق
على الدوام، ولا يجوز لنا أن نتقبلها بدون مناقشة وتفكير، بل يجب علينا أن نعيد النظر فيها، ونطيل التفكير حولها، لنكشف فيها مواطن الخطأ والصواب، ونسعى في إصلاحها وفقاً للطرق المنطقية المتبعة في البحوث العلمية بوجه عام
ومن الواجب على الأزهر أن تكون هذه مهمته في هذا العصر، وأن يتأثر بهذه السرعة التي تقول الآنسة الفاضلة إنها وفدت إلينا من أمريكا مع أنها من أصول ديننا، ومن السنن الصالحة التي سنها أسلافنا، وقد رأت الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها فتياناً يقصدون في المشي، ويتكلمون رويداً، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نساك. قالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو والله ناسك حقاً
وما فعلت بما جئت به من مذاهب جديدة في الأعراب إلا أني قضيت بها على ما فيه من حشو لا داعي إليه، وهذا كما في مسألة الأعراب والبناء، فأن تقسيم الكلام إلى معرب ومبني ومبني حشو في النحو لا يدعو إليه ألا ما ذهبوا إليه في الأعراب من تأثره بالعوامل. ولو جعلنا العمل في ذلك للمتكلم لا لهذه العوامل لم يكن هناك فرق فيه بين ما سموه معرباً وما سموه مبنياً، ولأمكننا أن نجعل كلمات العربية كلها معربة، واستغنينا بذلك عن حشو كثير في الكلام على الأعراب والبناء، وفي تطبيقات الأعراب التي نجريها في الأمثلة والشواهد، وليس في هذا أي اعتداء على اللغة العربية، فقد ذهب القراء إلى القول بأعراب الحروف إعراباً محلياً، ومعنى هذا أنها تتأثر عنده بالعوامل كما يتأثر غيرها، وهذا مذهب غريب جداً في الأعراب، لم أصل فيما ذهبت إليه من إعراب الحروف إلي أنها تتأثر في ذلك بالعوامل كما يتأثر غيرها، فهل تعدى القراء بذلك على اللغة العربية؟ وهل اتهمه أحد بهذه التهمة التي تكال جزافاً في عصرنا؟ اللهم لا
وكذلك مسألة الأعراب المحلي والتقديري، فإنه لا يوجد هناك ما يدعو إلى الفرق بينهما، ولا ما يمنع من إدماج الأعراب المحلي في الأعراب التقديري على النحو الذي ذكرته في مقالاتي السابقة، وقد ذهبوا إلى تقدير بعض الحركات من أجل حركة البناء في مثل (يا سيبويه) فلم أفعل إلا أن طردت ذلك في هذا الباب كله، وجعلت الأعراب المحلي إعراباً تقديرياً، لأن الفرق بينهما من الحشو لا يصح وجوده في هذا العالم، بل لا يصح وجوده في العلوم كلها
والحق أن كل ما ذهبت إليه في إصلاح الأعراب من القوة بحيث لا يكن معارضته، ولولا تعنت هذا العصر وجموده وجحوده لكان له شأن عندنا غير هذا الشأن، ولوجد من أنصاف العلماء ما يؤثره على مذهب القدماء في الأعراب. وإنه لا يهمنا هذا الجحود والجمود، لأنا بما نكتب في الإصلاح إنما نرضي به أنفسنا قبل كل شيء ونقوم بما نعتقده واجباً علينا، ولا يجني هذا الجمود والجحود إلا على الأمة التي ترضى به، ولا تحاول التخلص منه بعد أن صار بها إلى ما صارت إليه
وهاهي ذي آنستنا الفاضلة تشهد بقيمة هذا الإصلاح الذي أتينا به، ولكنها تقع بعد هذا في سهو ظاهر تنقص بهما هذه الشهادة، والذنب في ذلك عليها لا علينا، لأن ما ظنته تناقضاً في كلامنا لا حقيقة له
فقد بنت هذا التناقض على أنا قلنا في مقالنا الرابع إن الحرف لا حظ له من الأعراب أصلاً، ولو رجعت الآنسة الفاضلة إلى هذا المقال لوجدت أن هذا ليس من قولنا، وإنما هو من قول الجمهور في الرد على القراء، إذ يذهب إلى إعراب الحرف إعراباً محلياً، ويتفق مذهبنا مع مذهبه في ذلك إلى حد ما. ولسنا من الغفلة إلى حد أن نذهب في أول مقال لنا إلى أعراب الحروف إعراباً ظاهراً، ثم نعود فنقول في المقال الرابع إن الحروف لا حظ لها من الأعراب أصلاً
وكذلك لم توفق آنستنا الفاضلة حين أنكرت علينا مخالفتنا فيما أتينا به من تطبيقات للأعراب المعروف في مذهب الجمهور، لأنه لا حرج علينا في ذلك أصلاً، ونحن لم نأت بهذه التطبيقات إلا لنبين للناس مقدار هذه المخالفة، وليس من المعقول أن نخالف الجمهور في قواعد الأعراب ثم نجري تطبيقاتنا على مذهبهم لا على مذهبنا
فلا تناقض إذن في كلامنا، ولا شيء يمنع آنستنا الفاضلة من أن تجعل شهادتها لدراستنا خالصة مطلقة
(أزهري)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
8 -
سائل
في ميدان (المرجة) أكبر ميادين دمشق وأهمها، وفي محطة (الترام) أظهر بقعة في ذلك الميدان وأحفلها على ضيقها بالناس، سائل طويل بائن الطول، أعمى قبيح العمى، يقوم حيال عمود الكهرباء وكأنما هو لطوله عمود ثانٍ، لا يريم مكانه ولا يتزحزح عنه، ولا يفارقه لحظة من ليل أو نهار، فهو أبداً يزحم الناس بمنكبه الضخم العريض، وثوبه الدنس القذر، ويؤذيهم بصوته الأجش الخشن ونغمته القبيحة المملة، وكلماته التي لا تتبدل ولا تتغير:(من مال الله يا أهل الخير، والله جوعان! الله لا يجوعكم والله كاس العمى صعب. . .) لا يكف لسانه عن ترديدها، كما أن لسان صبيه الذي يحمله دائماً لا يكف عن البكاء والعويل. .
وكنت أمر بالميدان نهاراً، وآتيه نصف الليل، وأجئ تارة عند طلوع الشمس، فأجد ذلك السائل قائماً في الحالات كلها بجانب العمود، وكفه مبسوطة كأنها طبق. . . ولسانه ولسان صبيه عاكفان على السؤال والبكاء، كأنما هما أسطوانة تدور دائماً وأبداً لا كلل ولا ملال. . . فكنت أتألم منه حيناً وأنقم من الشرطة أنها لا تباليه ولا تحفل مكانه، وأشفق عليه حيناً فأعطيه من بعض ما أجد حتى رآني رفيقي فلان، فقال لي:
- ماذا؟ أتعطي مثل هذا؟
- قلت: ولم لا أعطيه وهو أعمى مسكين، يسأل الليل والنهار لا يفتر؟ فلو كان سؤاله تسبيحاً لكان من الملائكة. . .
ويقسم أبداً أنه جائع، وولده على كتفه يبكي من الجوع. . .
أفأضنَّ عليه بقرش واحد يقيم صلبه؟
فضحك رفيقي وقال:
- لا هو بالجائع، ولا الولد ولده، وإنه لأغنى مني ومنك. .
- قلت: هذا لا يكون
- قال: فتعال معي. . .
ودنا من السائل، فهمس في أذنه. . .
- يا أبا فلان؟ ألا تؤجرنا دارك التي في (الشاغور)؟
ففتح الأعمى عينيه. . . فنظر في وجهه. فلما عرفه قال:
- بلى، ولكني لا أنزل بها عن عشرين ليرة ذهبية. . .
- قال رفيقي: ألم تؤجر الدار الأخرى بثماني عشرة؟ فهذه مثلها. . .
- فقال: هو ما قلت لك. . .
وعاد يصيح بنغمته القبيحة المملة، وصوته الأجش الخشن:
(من مال الله يا أهل الخير، والله جوعان، الله لا يجوعكم! والله كاس العمى صعب. . .)!!
علي الطنطاوي
وحي الشاعرية
ثورة الخيال
(صحيفة اجتماعية مطوية لم تنشر إلا اليوم. جلوة لعهد بعيد،
غير عتيد)
للأستاذ حسن القاياتي
أدلت بي النجوى فأكثرتها رغماً
…
وخفت بي الدعوة فأوسعتها عجما
بغيري أبياً يلعب البرق خلبا
…
أيقتلني يأساً وقد مدني علما؟
طويت على الشكوى جوانح لم يزل
…
يحزُّ الأسى فيها وتكتمه كتما
شجى النفس من ليل الشبيبة أليل
…
تألق هذا الشيب في جنحه نجما
أحيدُ بأنفاسي عن الليل رهبة
…
كأنيَ أخشى أن تحرِّقه فحما
بنفسي محيا الراح لو أن كأسها
…
أطاحت لنا همَّا فلم تولنا هَّما
كريهٌ مذاق الموت في الكوب وحده
…
فما بال مفتون تجَّرعَ واشتما؟
يزهدني في مرشف الكأس أنها
…
أديرت فما جازت حصيفاً ولا فدما
بكم نالها المتلاف والكأس مغرم
…
ليشربها خمراً وقد باعها كرما؟
كأن حميا الكأس أعيت بفاتك
…
فصبت على أخلاقه الأفن والوصما
هي الراح ذوب الحسن لا بل ظلاله
…
إذا حلَّ في نادٍ فقد طلعت ثمَّا
إلى كم تقاضي المصبيات مكانها
…
لديَّ وقد عفت المناغاة والرئما؟
أبيٌ لو أن الماء يسقي بوصمة
…
تبدلتُ منه خوفَ وصمته السما
أصد وقد هم الجمالُ ولو قني
…
أخي يوسفٌ صبري لصدَّ فما هما
هواناً لغي يهصرَ الحسن وردة
…
فهلا يشمون الحياة به شما؟
رويداً بخد الورد شما وزينة
…
ورفقاً بورد الخد نذبله لثما
فوا كبدي كم يمنع الحسن شركة
…
وما خص بالشجو القلوب كما عما؟
أكل بديع ليس يعدوه حاجب
…
يصدُّ قناعاً أو يحيط به كما؟
لثامٌ نهى شطر الجمال فصانه
…
فوا لهفتا للبدر لو أنه تما؟
جمال الغواني قاسَم الله خلقه
…
فصبَّ عليه من تحجبه رغما
كأنك غضبي حين أبدأك برقع
…
لقد رقَّ يا أختي فحلاكِ إذ نما
بعينيك من ردَّ العيون فصاغها
…
قسياً ومن أصمي بنظرتها سهما؟
جوانحنا من شبَّ فيهن جذوة
…
ومن سهدت فيه العيون ومن أدمى
دعونا نرفِّه عن حشانا بآهةٍ
…
تبلُّ الحشى برداً ويندى بها نسما
دموع الأسى تشفي وليست مبينة
…
تلهيك بالأطيار إذ هتفت عُجما
بني مصر لولا أعينُ الغيد فتنة
…
لما مُلئت حسناً ولا مُلئت ظلما
يذمون من (بنت الهوى) طاعة الهوى
…
وهم نظموها في شقيَّاته نَظما
شفاء الفتى من سكرة المال والصبا
…
ضمين به الإتلاف يلحقه العدما
لمن شرفٌ ريعت به كلُّ حرَّةٍ
…
فلم يبكه جانٍ رأى جرحه يدَمى
ولدتم كهاتيك القلوب نوابضاً
…
فخافوا عليهن الجريمة والاثما
لقد طُبعت طبع الحديدة فيتةٌ
…
تجافت فلا داءً شفته ولا كلما
أجداً يظن الشحُّ ألا أبوةٌ
…
عليهم لمن ذاق الخصاصة واليتما
ألا مصنعٌ مجدٍ ألا ملجأ ندٍ
…
يفيض لهم علماً ويندى لهم طُعما
مدارسنا لا النبل فيهن حلية
…
ولا العلم خصم الجهل يصرعه خصما
مدارس تجار إذا هي أربحتْ
…
خسرنا بها الآداب أجمع والعلما
لقد ساد زيغ الرأي فليشك محسن
…
كبارَ المساعي يوم تكسبه ذمَّا
كفى الناس تضليلاً بخدٍ مموَّهٍ
…
وبالنابه المكذوب يبنونه ضخما
إذا وصفوا بالعلم والفهم نابهاً
…
زهْوهُ ولم يفتنك علماً ولا فَهما
كأن بعيد الصيت يعتزُّ باسمه
…
تساقط حتى ما يروعك إلا اسما
كأني بسحَّار النباهة كلما
…
تقلب في زعم أجدُّوا له زعما
توحَّدَ مغمورُ القوافي بيانهُ
…
كخط الأغاني يبعث الطرب الجما
قل الزور يستاق الجماهير فتنةً
…
ورحْ شيخها نُبلاً ولح بدرها تما!
صدى الناس من يحكي وكم فيهم صدىً
…
ولكنَّ جزْلَ الرأي من يحسن الحكما
سما النيلُ يستعدي على الجور قومه
…
فياربُّ سدِّده لأربحهم سهما
يمينا لقد أزرى بمصر مفاوضٌ
…
رقيق كما ناغيتَ إحسان أو نعما
لمن يؤمن الشرقي في الغرب بعدما
…
تداولهُ نهباً وفاز قَسما؟
سواءٌ على الشرقي في الكأس شهدة
…
أم الموت فيها يلتذها طعما؟
متى يخلُ غرٌ بالقوى وكأسه
…
تكسب لبَّ الغرِّ بل شعبه ضما
إن أعتزَّ باغٍ لم نرَ العدل عنده
…
سوى فتكتٍ بالكون تدهمه دهما
كثير التمني أطول القوم غِرَّةً
…
وإن كثير النوم أكثرهم حلما
كأنك إذ تفنيِ لياليك عاملاً
…
ركضت لما تبقى صوافنك الدُّهما
بنى الشرق من قواده كل سادر
…
فهل أصبح البناء لا يحسن الهدما؟
يقولون للخوان: تاب ومادهت
…
معتقة إلا بما فتكت قِدْماه
يظن فريقٌ يُسلم الحق أنه
…
بحيث يرى الغوغاء والحاشد الفخما
إذا ضلَّ فردٌ أو بق الفرد أمةً
…
أدلت به نجلاً فقتَّلها أمَّا!!
يريدوننا في موكب الفرد أمة
…
عزيزٌ عليهم أن آنفنا أحمى
أرى الجور قتال الشعوب فما لهم
…
يريدونه شعباً ويرعونه بهْمَا
أكل الزعيم عندهم عزّ مثله
…
كأن بأرض الشرق ويحهم عُقما
إذا ما استقل الشعب ألفى غوَّيه
…
ومن هجر الأوثان أوسعها حطماً
تغضّب لا للدين بعض رواته
…
تغضب للأجلال أو طلب النعمى
لقد عُبدت في الشرق حيناً عمائم
…
لو أن (أبيساً) قد رآهن لا عتما
كأن الأيادي فوقها ثغر لائم
…
صحيفة زور كان توقيعها ختما
مضى كل واه ينحل الدين وهنه
…
بروح بلا قسم كأن به السُّقما
هو الدين إن شاءوا يكن ضنك حكمه
…
فلاة وإن شاءوا يكن رحبه سَمَّا
فتَاوى كزورات البغي مباحةٌ
…
تزيد بها غراماً فتأخذها غنمْا
إذا كانت الأديان حرباً على الحجا
…
وخاصمها علم فأهْون بها خصما
إلى الصيت يسمو كل من قيل ملحدٌ
…
وما قتل الإلحاد علماً ولا وهما
لأية جدوى يغمز الدين مارق
…
أباح فلا حِلاُّ يراعي ولا حِرمْا
أقيما على الآداب والنبل مأتماً
…
فقد ذهب عيناً وقد محيا رسما
تنكرت الأخلاق حتى لقلما
…
صنعت جميلاً لا تجازى به شتما
تهدّ إلى السوءات لا تدعه الهدى
…
وغض عن المخزاة لا تدعه الحلما
كفى بتبارينا إلى الشر ضيعة
…
وحسبك من تمزيق وحدتنا جرما
عذيري من باك بأجفان عاهر
…
على أمة يسعى ليقسمها قَسما
وفاق وأني بالوفاق ودونه
…
حسائك صرعى بالتنابذ أو كلمى
تنصح لمن يعصي ودعه فدهره
…
سيحسم باللوعات خلفكما حسما
تنزه حب الدار عن صدر جارم
…
يضرمها حرباً وقد طبعت سلما
حموا كل حر أن يفدى شعبه
…
إلا كذبوا إن العواطف لا تُحمى
هي الدار ليست للمربين طُعمة
…
ولكن لنهاضٍ بحجتها شهما
يدسون للمجدي وفي الدوح مثمر
…
نعد له فُتْل السواعد والرجما
ألا ليت من يجني لأهليه سوءة
…
يبوء بها ذلاً على الأنف أو رغما
نصيبك من حمد فان كنت زاهداً
…
فصبرك لا يذهب بصبرك من ذمَّا
غريرٌ لعمري أيها النيلُ ناشئ
…
فلا تأمن من الكيد السياسي واللؤما
إذا الشعب أعطى كل غرّ قياده
…
فقد حذر الفوضى بما قتل الحزما
بربك سائل مستقلاًّ قيودُهُ
…
مجرّرةٌ هلاَّ أطاق لها فصما؟
سلا نائبينا عن سجين مصفد
…
ضعيف متى أهدى لنائبه عزمْا؟
عقيد العلى شعبٌ إذا ما أثرته
…
تفَّزع لا يرضى هواناً ولا هضما
كفا أنفاً للحر أن حُقوقهُ
…
تردُّ له عدلاً فيأخذها غشما
سموك لا تحسب من الحتم ذلةً
…
وأنت مُلاق ما سموت له حَتما
أُحبُّ حياة النشء كالنشء جدة
…
ولا يزدهيني محدث يشبه القدما
توثب هذا الشرق يبغي ديونه
…
فيارب جنبه الدسائس والشؤما
(السكرية: دار القاياتي)
حسن القاياتي
البريد الأدبي
القصص في الأدب العربي الحديث
لقد سبق لي أن حدثت قراء (الرسالة) عن المستشرق الفرنسي (هنري
بيريس) يوم وصفت كتابه (أسبانية في أعين الرحالين المسلمين).
واليوم أخرج هذا المستشرق المشتغل بالأدب العربي الحديث رسالة
إضافية في القصص عندنا، وقد نشرها في مجلة معهد الدراسات
الشرقية لكلية الآداب في جامعة الجزائر (الجزء الثالث، سنة 1937
ص1 - ص72)
وللرسالة مقدمة حسنة على قصرها عرض فيها المؤلف نشأة القصة في أدبنا الحديث وارتقائها. فقال فيما قال: إن فن القصة انحدر إلى الشرق العربي من جانب الغرب وإن فارس الشدياق صاحب (الساق على الساق) كان أول من نبذ (المقامة) متأثراً بما وقع إليه من قصص الفرنسيين ولإنجليز. وهنا أشار المؤلف إلى ما صنعه اللبنانيون والسوريون النازحون إلى مصر في سبيل القصة أول أمرها، فذكر سليم الشلفون وأديب اسحق وجرجي زيدان، ولم يفته أن يذكر رفاعة الطهطاوي الذي نقل رواية (تليماك) من الفرنسية إلى العربية فطبعت في بيروت عشرين سنة بعد كتابتها. ثم انتقل إلى عهد المويلحي والمنفلوطي فتكلم على انعطاف القصة نحو الروح المصرية. ثم انتهى عند عهدنا هذا فنوه بخروج القصة من حيز الترجمة والنقل والتقليد إلى حيز الإنشاء والإبداع. ثم أخذ يعدد مجلاتنا الأدبية التي تنشر فيها القصص. ثم رتب أنواع القصص فذكر النوع الابتداعي والواقعي والطبيعي والرمزي والتاريخي والنفساني و (البوليسي)
ومما غاب عن المؤلف فيما أظن أنه أغفل تراثنا القصصي فلم يحاول أن يرد إليه بعض ما يجري في قصصنا (من ذلك (على هامش السيرة) لطه حسين و (شهرزاد) لتوفيق الحكيم فضلاً عن روايات زيدان ومسرحيات شوقي) وأنه أهمل قصصنا الشعبي ففاته أن يتلمسه في طائفة من القصص (من ذلك أقاصيص لجبران خليل حبران وأخرى لميخائيل نعيمة و (يحكى أن) لطاهر لاشين)
ويلي المقدمة ثبت أسماء المؤلفين وعناوين القصص على طريقة علمية قوية. والثبت على أربعة أبواب:
الباب الأول: ما ألف في الأدب العربي الحديث عامة، في العربية واللغات الإفرنجية
الباب الثاني: ما ألف في فن القصة، في العربية واللغات الإفرنجية
الباب الثالث: القصص والأقاصيص المنقولة من اللغة الفرنسية إلى العربية
الباب الرابع: القصص والأقاصيص المؤلفة باللغة العربية في القرن التاسع عشر والعشرين
وجل ما يؤخذ على هذا التثبت الدقيق الجامع أن صاحبه لم يرتب الأسماء حسب حروف المعجم
هذا ولعل الأستاذ (هنري بيرس) يواصل عمله النفيس إذ في نيته أن يثبت المقدمات التي يصنعا القصصيون لقصصهم مع النظر فيها وأن يتعقب ألوان الكتب وأنواع التأليف التي سارت في الشرق العربي سنة 1930
(باريس)
بشر فارس
الحركة النسوية في ألمانيا
تعمد ألمانيا الهتلرية إلى توفير أسباب الحياة والراحة للألمان فكان من أثر ذلك حركتها ضد اليهود، ثم نزعتها الأخيرة إلى إقحام مسائل الجنس في الوطنية، وما تدعيه من تفوق الجنس الآري وتقدمه على بقية الأجناس الأخرى في نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، ولما كانت مسألة العطلة من أكبر المسائل التي تواجه الأمم الحديثة، فقد رأت ألمانيا أن تأخذ في الإقلال - جهد الإمكان - من النساء في الصناعات والأعمال التجارية حتى لا يكنّ مزاحماً خطراً للرجال، غير أن الواقع هو أن عددهن يزداد يوماً بعد يوم في دائرة الأعمال، وقد ذكرت ذلك جريدة سويسرية فقالت (إن أهم ما تعنى به ألمانيا الحديثة في تربية نسائها تربية سياسية هو طبع الفتيات بروح الحركة الاشتراكية الوطنية، وعدتها في ذلك الرياضة الذهنية والجسمية، تلك هي أسس جمعية البنات الألمانية ? وتقوم
تربيتهن في هذه المؤسسة على أساسين، إحداهما يجعل منها امرأة اشتراكية، تعرف كيف تسوس أمور الدولة إن دعت الحال إلى ذلك، والثاني يعدها لأن تكون أُما قوية البنيان، عبلة القوى، لتنتج (الإنسان الكامل) للوطن؛ ويبدأ انخراط الفتيات في هذه الجمعية منذ بلوغهن السادسة عشرة من عمرهن، فمن أظهرت مقدرة وكفاءة في تشرب مبادئ الجمعية منحت شارة فضية، وهي دليل التفوق الفكري والسياسي، ويعقد لهن كل أسبوع اجتماع ليلي يشرح لهن فيه تطور السياسة في الداخل والخارج، ونصيب ألمانيا من ذلك كله. ولقد أعلن أخيراً (الهرفون شبراخ) زعيم شباب الريخ وجوب اشتراك كل فتاة يتراوح سنها بين 17، 21 سنة في جماعة القوة والجمال) والغرض المنشود منه هو تربيتهن تربية جثمانيه قوامها الرياضة والرقص، وتعليمهن أصول الصحة، وقصارى القول إن مرماه إيجاد جيل نسوي جديد، قوي البنيان، جميل المنظر معتد بنفسه واثق بها.
وفي خلال هذه المدة تتلقى الفتاة نوعاً من التعليم الإجباري في المعسكرات التي أوجدت ألمانيا منها أكثر من ستمائة معسكر في ثلاثة عشرة بلدة، يعشن فيها عيشة خشنة، ويمارسن أشق الألعاب.
وعلى الرغم من أن ألمانيا النازية ترى أن مكان المرأة الأول هو البيت، إلا أنهنَّ ينافسن الرجال في كثير من الأعمال، حتى لقد بلغ عددهن اليوم قرابة 25. 5 % فيما يختص بالفتيات الناشئات، أما الأمهات وسيدات الجيل الماضي، فقد أوجدت لهن ألمانيا (اتحاد وهو بجانب تحبيب النازية إليهنَّ، يقوم بتعليمهن الحياكة والحضانة وشؤون المنزل ورعاية الطفل
نور الدين وصلاح الدين في فلسطين
نشرت جريدة (النهار) في بيروت مقالة بعنوان (إلى الأستاذ إسعاف النشاشيبي) أشارت فيها إلى ما نشرته (الرسالة) في عنوان (من أمين الريحاني إلى محمد إسعاف النشاشيبي) وذكرت - مطنبة - تحية الأستاذ الريحاني، وبكاء الأستاذ النشاشيبي واستنجاده بسيد المرسلين، وبكت متأثرة معه، ومما جاء في تلك المقالة:(إنني كل يوم أرى المجاهدين يخطون بدمائهم حطيناً جديدة، وكل ساعة أرى بينهم نور الدين، وصلاح الدين وعماد الدين)
الفلسفة الشرقية
قرأت في العدد 271 من مجلة (الرسالة) الغراء ذلك المقال القيم الذي كتبه حضرة الأديب السيد أحمد صقر عن كتابنا (الفلسفة الشرقية) فسررت من قراءة هذا المقال سروراً عظيماً ولكن، لا لما قد يتبادر إلى ذهن القارئ للوهلة الأولى من أن مبعث هذا السرور هو ثناء مستفيض على الكتاب ومؤلفه وإنما مبعثه هو ما ظهر لي من خلال المقال من أن كاتبه لم يكتبه إلا بعد أن طالع الكتاب في دقة وتمعن
غير أن لنا بعد هذا ملاحظة وجيزة على ذلك المقال نحب أن نسجلها هنا وصفاً للحقيقة العلمية في نصابها
قال كاتب المقال: إني ذهبت إلى أني كنت أول من أثبت بالأدلة القاطعة سذاجة (أرسطو) وأذنابه في دعواهم أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في إيونيا في القرن السادس قبل المسيح، وأن أول فيلسوف في الدنيا هو تاليس المليتي ثم علق على هذا بقوله:(والحق أن هذا الإثبات قديم الميلاد وليس أدل على ذلك مما قال الدكتور عن (ديوجين لاإرس) في كتابه (حياة الفلاسفة) وأن الشرق قد سبق الغرب في النظر العقلي، وأنه كان أستاذه وملهمه. .
ويظهر أن حضرة الأديب خيل إليه أن بين العبارتين ومعارضة إذ تدل الأولى على أن مؤلف كتاب (الفلسفة الشرقية) هو الذي أثبت تأثر الفلسفة الإغريقية بالفلسفة الشرقية، بينما تنص الثانية على أن (ديوجين لاإرس) قد سبقه إلى هذا الثبات.
والحق في هذا الموضوع هو غير ذلك تماماً، إذ أن (ديوجين لاإرس) لم يزد في كتابه (حياة الفلاسفة) على أن حدثنا (حديثاً يثبت أن الشرق قد سبق الغرب إلى النظر العقلي وأنه كان أستاذه وملهمه كما هو النص حرفياً. أما نحن فقد أثبتنا هذه الدعوى بالطريقة العلمية الحديثة وهي استعراض نظريات الإغريق ومذاهبهم وإبانة مواضع تأثرها بالفلسفة الشرقية بالأدلة الناصعة التي لم تكن قد وجدت بعد في عصر (ديوجين لاإرس) وفوق ذلك فقد أتينا من نتائج البحث الحديث بطائفة من الأدلة العلمية التي تؤيد هذه الدعوى تأييداً قاطعاً، وذلك مثل اكتشافات الأستاذة المستمصرين (ماسبرو) و (لوريه) و (موريه) و (بريستيد) التي استغللتها في إثبات دعواي استغلالاً لم يتح مثله لديوجين لاإرس، ومثل نتيجة بحوث العلماء الطبعيين الذين أوضحوا الفرق الطبيعي بين الجماجم الشرقية
والجماجم الإغريقية، وأتاحوا لنا الفرصة لاستنباط أن كثيراً من النظريات الإغريقية مبنية على أسس شرقية، ومثل اكتشافاتي الخاصة التي وصلت إليها بعد الموازنة الدقيقة بين كل هذه الفلسفات، إلى غير ذلك مما نستطيع أن نجزم في صراحة أن (ديوجين لاإرس) لم يوفق منه إلى شيء يذكر
وأحسب أن حديث ديوجين لاإرس الذي يستنتج منه استنتاجاً تأثر الفلسفة الإغريقية بالفلسفة الشرقية لا يساوي في نظر العلم إثباتنا هذه الدعوى بالحجج القاطعة التي لا تحتمل الجدل والتي لو وفق (ديوجين) إلى مثلها لما جرؤ (سانت - هلير) على جحود هذه الفكرة بمثل ذلك التثبت الذي ورد في مقدمة ترجمته للكون والفساد
ولهذا الفرق الذي يوجد بين طريقتنا في الإثبات وطريقة (ديوجين لاإرس) عبرنا في جانب طريقته بقولنا: (إنه حدثنا حديثاً يثبت إلى آخره) وعبرنا في جانب طريقتنا بقولنا: (إننا أثبتنا بالأدلة القاطعة إلى آخره). ولا شك أن هذا كاف في وجود الفرق بين الطريقتين.
على أن (ديوجين لاإرس) كتب ما كتب في الغرب وقد ظل المتفيهقون في الشرق يدعون عكس ما قرره. أما بعد هذه البراهين التي أدلينا بها، فلا يجادل في هذه الفكرة إلا مكابر أو جحود.
بهذه الإشارة الوجيزة يتبين أن ادعاءنا أننا أول من أثبت هذه الفكرة لا يتنافى مع نصنا على أن (ديوجين لاإرس) حدثنا هذا الحديث منذ زمن بعيد.
وأخيراً أكرر تهنئتي للأديب صقر على روح النقد الحر الذي نحن في أشد الحاجة إليه في نهضتنا الحاضرة.
الدكتور محمد غلاب
الأمالي
قال الأديب الفقيه الأستاذ داود حمدان: ما مفرد الأمالي؟
قلت: الإملاء. وقد رأيت أن أروي في (الرسالة) الغراء كلمة في أمالي السلف الصالح لملا كاتب جلبي وقولاً للشيخ إبراهيم اليازجي في هذه اللفظة ومفردها، فيه فائدة
قال الأول: (هو جمع الإملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس فيتكلم
العالم بما فتح الله سبحانه وتعالى عليه من العلم، ويكتبه التلامذة فيصير كتاباً، ويسمونه الإملاء والأمالي، وكذلك كان السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية وغيرها في علومهم فاندرست لذهاب العلم والعلماء؛ وإلى الله المصير، وعلماء الشافعية يسمون مثله التعليق) ثم ذكر في مصنفه (كشف الظنون)(66) كتاباً مسمى بالأمالي، منها:(أمالي ابن الحاجب في النحو وغيره، أمالي أبن دريد في العربية لخصها السيوطي وسماها (قطف الوُرٌيد)، أمالي أبن الشجري، أمالي أبي العلاء المعري، أمالي أبي يوسف (صاحب أبي حنيفة)، أمالي بديع الزمان، أمالي جار الله الزمخشري من كل فن، أمالي الشافعي في الفقه، أمالي القالي في اللغة، أمالي الصفوة من أشعار العرب لأبي القاسم فضل بن محمد البصري، أمالي نظام الملك (الوزير العظيم العالم) في الحديث، أمالي المطلقة للسيوطي)
قال الثاني: (هناك ألفاظ لا ندري بم ننعتها. . . وذلك كقول القائل: (آمال فلكية) فجاء أول هذه الكلمة أشبه بوزن أفعال نحو آبال وآرام، وآخرها أشبه بوزن فعال المنقوص كجوارٍ وليالٍ، وهذان الضبطان لا يجتمعان في صيغة عربية. وكأن الكاتب رأى هذه اللفظة في بعض الكتب لكنه لم يعلم ما هي، فمد أولها لأنه وجد هجاءها يشبه هجاء آمال جمع أمل، ورأى آخرها منوناً تنوين الكسر فحكاه فيها، فجاءت على هذه الصورة المنكرة. وإنما هي الأمالي جمع إملاء مصدر أملي، وأصلها أماليُّ بالتشديد بعد قلب همزتها ياء، ثم حذفت إحدى الياءين جوازاً كما هو القياس في مثلها من الجموع فصارت أمالي بتخفيف الياء، وإذ ذاك عوملت معاملة جوارٍ ونحوه)
القارئ
الكتُب
اعترافات فتى العصر
لألفريد دي موسيه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
درة من آداب الغرب جلاها ببيانه العربي الرائع الأستاذ فليكس فارس وقدمها بتمهيد بليغ قال فيه (ليقرأ فتيان عصرنا الحائرون هذه الاعترافات الخالدة التي كتبها دي موسيه بدماء قلبه عبراً لا بد أن يجد فيها كل فتى صورة لحادث من حوادث حياته إن لم يجد فيها صوراً لمعظم حياته)
والأستاذ فليكس فارس شخصيته عميقة الأثر في نهضة الشرق العربي، فلا بدع إذا رأينا يلبس الاعترافات ثوباً قشيباً طرزته يد فنان شاب بارع
لقد انتظرت هذا الكتاب منذ أعلن عن ظهوره، ولو أني قرأته في مجلة الرواية القصصية الراقية شقيقة الرسالة الأدبية العالية؛ غير أنني أردت أن تضم مكتبتي المتواضعة هذه التحفة الأدبية الرفيعة، ولما تفضل وأهداني إياه أقبلت عليه فالتهمته، ولشد ما رغبت صادقاً لو طال حديث الاعترافات ليطول بذلك استمتاعي بتلك اللذة الساحرة التي لا يظفر بها المرء إلا في أمثال هذه الآثار الفنية. . .
وللاعترافات ميزة كبيرة ترتفع بها إلى مصاف القصص الخالدة التي لم تنشأ لمجرد اللهو والتمتع بالجمال الفني، فإنها جمعت إلى روعة الفن فلسفة الحياة ونظرات في إصلاح المجتمع قلما تراها في سواها
ففي ترجمة هذه الاعترافات معنى يرمي إليه المترجم الفاضل، إذ لم يترجمها لمجرد أنها قصة يلهو بها القراء، بل نشرها بين الشبيبة كطبيب اجتماعي عرف مواطن الأدواء في بلاده، وقد وجد أن شبيبة الشرق يراود فكرها وعواطفها الجحود بالأيمان والعبث بالحب، فلم يجد أروع من اعترافات فتى العصر يقدمها صرخة داويه تهيب بالشبيبة التي ترود مزالق الغواية والإلحاد. . .
وإن ما عجبت له حقاً هو التوافق الغريب بين أدواء عصر الفريدي دي موسيه وأدواء
عصرنا الحاضر. ولقد كان الأستاذ فليكس فارس موفقاً كل التوفيق في اختيار هذه الاعترافات ليعالج أدواء الشرق بما تحتويه من صور صادقة لحياة الشبيبة فيه
ولقد ختم الأستاذ فليكس تمهيده الموجز البليغ بآيتين لخص فيهما الاعترافات فقال:
إن من جحد إيمانه جحدته حياته
ومن أتخذ الحب ألعوبة طرده الحب من جناته
أما الترجمة فحسبك ما قاله فيها فقيد الأدب العربي مصطفى صادق الرافعي: (أما الاعترافات فهي جيدة جداً؛ ولو كان مؤلفها هو المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع الشيخ فليكس فارس)
عطيه محمد السيد
المسرَح والسينما
بوادر الموسم السينمائي الجديد
لا نغالي إذا قلنا إن الموسم الذي بتنا على أبوابه، سيكون موسماً هائلاً
تعرض فيه بضعة أفلام من ذات الطول الكامل تحوي كل خطى التقدم
التي خطتها صناعة السينما في مصر في العام الماضي، وحتى أفلام
الدرجة الثانية أو الشركات الأقل استعداداً، ستكون أقوى من أفلام العام
الماضي بكثير
أستوديو مصر
وفي مقدمة الشركات المصرية التي خطت بالأفلام المصرية خطوات كثيرة موفقة، شركة مصر للتمثيل والسينما التي يتبعها (أستوديو مصر)، إذ يقدم لنا هذا الأستوديو ثلاثة أفلام كبرى في هذا الموسم هي (لاشين) و (الدكتور) من إخراج نيازي مصطفى و (شيء من لا شيء) من إخراج الأستاذ بدر خان وهو الذي تقرر أن تبدأ به سينما ستوديو مصر (تريومف سابقاً) برنامجها المصري لهذا العام. وقد أعلن عنه في الصحف والمجلات المتصلة بإدارة الأستوديو. . . ويقوم بتمثيل الدورين الأولين في هذا الفلم المطرب المحبوب الأستاذ عبد الغني السيد والمطربة المبدعة الآنسة نجاة علي كما اشترك في تمثيله نفر من خيرة ممثلي المسرح المحترفين نذكرهم ونذكر شيئاً عن الفلم عندما يتحدد موعد عرضه
شركة أفلام أحمد سالم
ومن الشركات القوية الجديدة شركة الأستاذ أحمد سالم مدير أستوديو مصر السابق، وقد انتهت هذه الشركة من إخراج فلمها الأول (أجنحة الصحراء) وهو ذو موضوع وحوادث حربية جوية ولم يسبق إخراج مثله في مصر، من حيث جودة التصوير وإتقان الديكور واختيار الأرتست وتقطيع السيناريو. وستقدم الشركة في هذا الموسم كذلك أول فلم بوليسي يخرج في مصر، هذا علاوة على أعداد (جريدة سالم السينمائية) التي ظهر منها عددان
حتى الآن، أحدهما خاص برفع الستار عن تمثال سعد والآخر خاص برحلة صاحب الجلالة الملك في الصحراء الغربية.
أخبار مسرحية وسينمائية
أفلام الثلاثي السينمائي
وتقدم لنا شركة (لوتس فلم) فلمين في هذا الموسم أتم الثلاثي الفني إحداهما قبل سفره إلى تركيا ولبنان، وانتهى الزميل احمد جلال من كتابة السيناريو للفلم الثاني وقد أسماه (نساء بلا رجال) وقد شرعت الشركة في التقاط مناظره في استديو ناسبيان. وأفلام هذه الشركة معروفة بموضوعاتها المبتكرة وسنيارياتها المحبوكة ونجومها اللامعة وبخاصة النجمة المحبوبة السيدة آسيا، والنجمة الرشيقة ماري كويني، والممثل الصحفي القصصي أحمد جلال. وإذا كان النقاد والجمهور بصفة عامة قد شهد لفلم (بنت الباشا المدير) بأنه أحد أفلام الدرجة الأولى الثلاثة في الموسم فلا شك في أنه سوف يحكم لفلمي لوتس الجديدين بأنهما جديران بمشاهدة كل هواة السينما
أفلام فنار فلم
وتخرج شركة فنار فلم طبعة عربية جديدة لفيلمها السابق (ليلى بنت الصحراء) وطبعة فرنسية من نفس الفلم يعرضها في باريس والبلاد التي تسودد فيها اللغة الفرنسية. أما باقي أعمال الشركة التي سوف تستغرق جهودها هذا العام فهو عرض الأفلام الفرنسية الكبيرة التي نالت احتكارها وإخراج أفلام لحساب الغير في أستوديو ناسيبيان التي استأجرته الشركة بعقد لمدة طويلة، كما أن فلم السيدة عزيزة أمير القادم سوف تقوم بإخراجه هذه الشركة التي انضمت السيدة عزيزة إلى المساهمين فيها
المسرح الخصوصي للفرقة القومية
قام حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية بزيارة لإدارة الفرقة القومية ومخازنها وخطب في الممثلين والممثلات خطبة حماسية مستفيضة لفت أنظارهم فيها برقة ودعابة إلى أن من الواجب مضاعفة الجهد وبذل العناية في الموسم القادم حتى لا يقول البرلمان والنقاد في الفرقة ما قالوه عنها في الموسم الماضي. وتحدث الوزير كذلك عن رغبة
الوزارة في الإسراع بإنشاء مسرح خاص للفرقة تعمل عليه طوال الموسم، وأكد أن (رسومات نموذجية) عن أشهر المسارح العالمية قد أحضرها سعادة حافظ عفيفي باشا معه من أوربا وقدمها للوزارة لدرسها واختيار الشكل الملائم لمصر، وقد شكره الممثلون على عطف معاليه عليهم وتقديره لجهودهم ووعدوه بأن يكونوا عند حسن ظنه!
فرقة الأستاذ علي الكسار
بدأت فرقة الأستاذ علي الكسار موسمها على مسرح برنتانيا برواية جديدة استعراضية تدعى (من أول وجديد) من تأليف الأستاذ أحمد شكري وبرواية قصيرة اسمها (الكابتن هول) من اقتباس الأستاذ علي الكسار، وقد اشترك مع الأستاذ الكسار في تمثيل هاتين الروايتين السيدة عقيلة راتب (بريمادونة) الفرقة المحبوبة والأستاذ حامد مرسي مطربها المعروف، والثنائي الفني (حسين ونعمات المليجي) وسيظل الأستاذ الكسار عاملاً بهذا المسرح حتى أول رمضان.
يقوم (تيرون باور) بالدور الأول في رواية (ماري انتوانيت) أمام نورما شيرر، ويشترك في تمثيل هذا الفلم (جون باريمور) و (أنيتا لويس) ويعرض هذا الفلم في سينما رويال