المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 275 - بتاريخ: 10 - 10 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٧٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 275

- بتاريخ: 10 - 10 - 1938

ص: -1

‌في سبيل فلسطين

المؤتمر البرلماني للأمم العربية الإسلامية

لأول مرة في تاريخ العروبة والحنفية يجتمع وفود الأمم الإسلامية

الشرقية والغربية في مكان واحد على شعور متفق وغرض مشترك

وسياسة عامة. ولهذا الحادث الفريد المجيد معان من الدعوة النبوية

التي قامت على جلجلة الوحي ويقظةالضمير، وانتصرت بقوة الإيمان

وعبقرية الجنس، وانتشرت بوحدة العقيدة والفكرة والهوى والألم. فأن

السبب الأول في نجاح الدعوة الكبرى إنما يرجع إلى يقظة الحس

العربي واستعداده للكمال الروحي والاجتماعي في زمن البعثة، كما

تتيقظ الأرض وتستعد للتجدد والأثمار في زمن الربيع. ومحنة فلسطين

على فداحتها لو حدثت في غير هذا الوقت لمرت على مشاعر العالم

الإسلامي كما تمر الريح العَصوف بالصخور الصم في الجبل، أو

بالجذور الميتة في الغابة. وهل مأساة فلسطين إلا فصل من مأساة

الأندلس؟ ومع ذلك حدثت تلك على مسمع الدول العربية والإسلامية فلم

تثر لمحنتها أمة، ولم تتفق على نصرتها كلمة؛ وانقطع أنين الأندلس

الشهيدة على فنون شتَّى من عذاب الجسم والروح، والمسلمون والعرب

غافون من خدَر الذل والاستكانة لا يحفلون بالوجود ولا يشعرون

بالزمن. فلو كان الألم وحده مغنياً في أيقاظ الشعور وتأليف القلوب

وجمع الأيدي، لكانت هذه النكبة وحدها حرية بتوحيد الأشتات وبعث

الأموات وتناصر الأخوة

أريد أن أقول أن هبَّة العرب والمسلمين لنجدة فلسطين إنما انبعثت عن حياة جديدة، كانت

ص: 1

فلسطين مظهراً لها لا سبباً فيها؛ وهذا هو الأمر الخطير الذي ينبغي لخصومنا أن يحسبوا حسابه ويتدبروا عواقبه. فأن فلسطين نفسها ما كانت تستطيع بفقرها وقلتها أن تنازل اليهود وهم أغنى الشعوب، وتصاول الإنجليز وهم أقوى الدول، لولا هذه الحياة الجديدة. وصحوة العرب ليست كصحوة غيرهم من الأجناس، فقد صحوا صحوتهم الأولى فملكوا الأرض والسماء، وخلَفوا الرسل والأنبياء، وقادوا العقول والأهواء، ولا يدري إلا الله ماذا يفعلون في هذه الصحوة الأخرى

في الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة الماضي اجتمع في مؤتمر القاهرة البرلماني المغرب ومصر وفلسطين وسورية ولبنان واليمن والعراق وإيران والهند والصين ويوغسلافيا وعرب الهجر للدفاع عن فلسطين، فكان هذا الحشد الحاشد في لغة الحرب تعبئة عامة لقوَى العروبة والإسلام ذياداً عن جزء عزيز من أجزاء وطنهما الأكبر، دهمه المستعمر بالقوة، واقتحمه المستثمر بالحيلة، فوقف يدافعهما عن قُوتِه وعن سكنه، ولا وزَر إلا الحق، ولا عُدة إلا الصبر، ولا سبيل إلا التضحية. أجل عبأت العروبة قواها بعد أن سألت إنجلترا الحق فلم تعط، وناشدتها العدل فلم تجب، وأهابت بضمير الإنسانية في قاعة العصبة، ودار البرلمان، وإدارات الصحف، فلم تجد إلا طمعاً ختم على الأسماع، وهوى غشُّى على الأفئدة، وسياسة قامت على المقايضة والمقارضة بين القوى والقوى على حساب المخدوع والضعيف

لقد بلغت القضية الفلسطينية اليوم الحد الفصل، فهيهات يغني الجدال والمطال والخديعة. كانت فلسطين قبل هذا المؤتمر تجاهد العدو وحدها بالاستبسال والمصابرة، وأخواتها في الشرق والغرب لا يمدونها إلا بأسلحة العجز من كلام ودموع. فلما رأوا أن حقهم يميته القول، وباطل غيرهم يحيه الفعل، جمعوا أمرهم على الجد، وطووا قلوبهم على العمل، وقالت مصر على لسان نائبها وخطيبها الأستاذ علوبة باشا:(إن الحلال بيَّن والحرام بيَّن، ومن الخير أن تعمل الوزارة الإنجليزية على البت في مأساة طال أمده وتنوعت كوارثها، فإما اعتراف بحق المظلومين، وإما جنوح إلى باطل الصهيونيين). وقالت العراق بلسان نائبها مولود باشا مخلص: (إن السلام لا يمكن استقراره إلا بحل عادل لمشكلة فلسطين، وإن العراق مستعدة لأي عمل لإنقاذ فلسطين). وقالت سورية بلسان ممثلها وخطيبها الأستاذ

ص: 2

فارس الخوري بك: (إن قيام دولة أجنبية بين نحر الأمة العربية وقلبها لا يوافق عليه العرب بحال من الأحوال. وفلسطين قلب العروبة حقاً، لأنها تتصل بمصر وشرق الأردن والعراق وشطرها الآخر: سورية). وطلبت الهند إلى إنجلترا بلسان رئيس وفدها الأستاذ عبد الرحمن الصديقي أن تختار إما المسلمين وإما أعداء المسلمين. وقال: (إ ن ثمانين مليوناً من الهند على استعداد لأن يلبوا أول صوت يصدر عن القاهرة). وقالت سائر الأمم على ألسنة وفودها مثل هذا، فلم يبق لإنجلترا حليفةِ العربة والإسلام إلا أن توازن بين ذهب الصهيونيين، وصداقة العرب والمسلمين، وتنظر إليهما في كفة الميزان فتعلم أيهما أرجح وزناً في الحرب العالمية المقبلة، وأغلى قيمة في السوق الاقتصادية العامة، وأقوى أثراً في إقرار السلم في الشرق القريب والبعيد

إن حياة إنجلترا في السلم، وشرفها في العدل، وسلطانها في الديمقراطية؛ وفلسطين كانت منذ أنشأها الله بلاءً على المعتدي وشؤماً على الظالم. وقد التقى عندها الغرب والشرق مرة في عهد عمر، ومرة في عهد صلاح الدين، فكانت العاقبة في كلتا المرتين غروب الغرب وشروق الشرق، فهل يريد تشمبرلن رسول السلام ونصير الإنسانية أن يجمعهما على ثراها مرة ثالثه!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌فلسطين لا تقهر

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كنا في حديث فلسطين يوماً، فأخذ بعضنا يصف ما يبدي الثوار من الجرأة، والذكاء، وسعة الحيلة، وحسن التدبير والحكمة، وروي في هذا المعرض قصصاً عجيبة، فهم بالقليل الموجود من السلاح القديم، يقاومون أمضى الأسلحة الحديثة، من طيارات، ودبابات، ومدافع جبلية، ومدافع رشاشة، وليس لهم سيارة واحدة يتنقلون بها، ولكنهم في كل مكان، ويصنعون القنابل بأيدهم، ويتخذون من أنابيب الماء فوهات مدافع، ويتخذون خطة الهجوم في كل حال، ويتولون الحكم بين الناس، ويقضون بالعدل، ويفضون المنازعات، ويطوون صفحات الخلافات والعداوات القديمة، ويدخلون المحاكم، وينحون قضاة الحكومة ويقضون هم فيما هناك، فينفذ أمرهم، ولا ينفذ أمر الحكومة، ويشيرون باتخاذ (العقال) بدلاً من الطربوش أو غيره من ألبسة الرأس، فإذا هو على رأس كل عربي من أبناء البلاد، ولو كان يصطاف في مصر أوسورية. وقد زالت هيبة الحكومة؛ وكفت (محاكم الصلح) عن العمل إلا في مدن أربع ليس إلا، وصارت الحكومة الحقيقة هي حكومة الثوار.

وقال أحد اللذين كانوا في المجلس: (إن هذا العجيب! ولا شك أن بين الثوار كثيرين من المثقفين والمتعلمين؛ ولكن السواد الأعظم أقرب إلى السذاجة والفطرة، فكيف تيسر كل هذا لهم؟)

فلم يسعني إلا أن أقول: (إنهم يعملون بوحي الفطرة المستقيمة. وليس عجيباً أن يحسنوا التدبير، ويحكموا الخطط، ويضبطوا الأمر، ويظهروا ذكاء واقتداراً. وهل كان عمر بن الخطاب، وخالد بين الوليد، وعمر بن العاص، ومعاوية وإضرابهم من خريجي كمبرج، وسان سير، ومن حملة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ أريد أن أقول إننا لا نتعجب لما ظهر من مواهب العرب بعد ظهور الإسلام، وما كان من تغلبهم على دولتين كبيرتين في ذلك العهد، وفي آن معاً، فلا محل إذن للتعجب لما قدرت عليه ثورة العرب في فلسطين حيال دولة كبرى شاكية مستعدة)

والواقع أن فلسطين لم يعد في الإمكان قهرها وإرغامها على قبول ما لا تقبل. ولقد أستفزها إلى هذه الثورة المجيدة ظلم أريد بها ولا مثيل له في التاريخ، على الأقل فيما أعرف أنا.

ص: 4

ويجب أن نذكر أن العرب كانوا حلفاء لبريطانيا وزميلاتها في الحرب العظمى، وقد خرجوا على دولة الخلافة يومئذ، وهي دولتهم، وأكثرهم مسلمون، بل كان الثائرون على السلطة العثمانية، الملتحقون بجيش الثورة العربية، من المسلمين.

فعلوا ذلك لأنهم طلبوا الحرية، ونزعوا إلى الاستقلال. وقد عرفت بريطانيا هذا، ورضيت به، وشجعتهم عليه، ووعدتهم بتحقيقه؛ ولو كانوا يعلمون أنهم سيصيبهم ما أصابهم لما ثاروا، إذ لا خير ولا معنى لاستبدال نير بنير

وهذا الجيش العربي هو الذي أعان على فتح فلسطين وسورية، وسلخ البلاد العربية كلها من السلطة العثمانية. وكان جيش بريطانيا يدخل بلداً بعد بلد، فيجد الأمور ممهدة، ويقابل بالترحيب والحفاوة، لأنه حليف العرب. فماذا كان جزاء العرب؟

مزقت بلادهم كل ممزق، وأخلفت الوعود كلها، فلم ينجز الحلفاء للعرب منا واحداً. وما استقلت العراق إلا بثورة، ولا عقدت المحالفة السورية إلا بثورة بل ثورات، ومع ذلك لا تزال معلقة لا يعرف مآلها أحد. أما فلسطين فكان خطبها أدهى، فما أكتف بريطانيا بالأنتداب، بل رمتها بشعب غريب فتحت له الثغور وقالت له أدخل، واستول على البلاد، وأقم لك فيها دولة، واتخذ منها وطناً. وما كانت البلاد بغير أهل حتى تفعل بريطانيا ذلك، ولا هي بالأرض الواسعة الرقعة، العظيمة الخصب، حتى تتحمل هذا السيل من المهاجرين إليها. وإن اليهود لمضطهدون في أنحاء شتى من الأرض، ولكن ما ذنب فلسطين؟ ومن تهكم الحوادث وسخر الأقدار أن ترمي بالهجرة اليهودية والوطن القومي الصهيوني البلاد العربية التي نعم اليهود في ظل دولتها بالعدل والعطف والحرية كما لم ينعموا في ظل دولة أخرى، فقد كنوا في الأمم الأخرى مضطهدين محقرين، وكان البريطانيون أنفسهم في القرون الوسطى يعدونهم أنجاساً منبوذين. ونحسب أن اليهود يقرءون روايات وولتر سكوت!.

فإذا كان الشعب الفلسطيني قد ثار، فله العذر؛ وإذا كان على قلة عدده وانقطاع المدد عنه، قد راع الدنيا بثورته الجليلة فلا عجب، فأنه يدافع عن حقله وبيته بأدق المعاني العرفية للفظ الدفاع عن الحوزة، فإن بيته ينسف بالديناميت فيتشرد هو وأبناؤه ونسائه في الجبال الجرداء، والسهول الخصبة التي يملكها تقتطع وتوهب للدولة الصهيونية، فماذا يصنع هذا

ص: 5

الشعب غير أن يثور؟ وماذا يسعه، وقد ثار، إلا أن يستبسل ويستميت؟ إنه موت بموت، فالموت مع الشرف وبعد الدفاع الكريم إلى الرمق الأخير، أولى من الموت جوعاً في جبال عارية لا ماء فيها ولا شجر، هي التي يراد طرد العرب إليها لإنشاء الدولة الصهيونية

يضاف إلى هذا أن الغدر الفظيع الذي تنطوي عليه هذه السياسة، بشعب كان من أقوى الأعوان لبريطانيا في الحرب العظمى، وأخلصهم لها، يضاعف عزم الثوار، ويجعلهم أقوى وأجرأ

ومن الجلي أن سياسة الوطن القومي على حساب العرب قد أخفقت، وأن إنشاء دولة صهيونية في فلسطين قد أرتد إلى عالم الخيال الذي لا محل له في عالم الحقائق. ومن الواضح الآن أن على بريطانيا إذا أرادت إمضاء العزم على تقسيم البلاد وإقامة دولة للصهيونية فيها، أن تجيش الجيوش وتسير الأساطيل لتفتح فلسطين عنوة، فما يكفي كل مالها هناك الآن من قوة وعتاد. وأوضح من ذلك كله وأجلى حقيقتان أخريان، فأما الأولى فتلك أن ثورة فلسطين - وهي أعدل ثورة قامت في الدنيا وأروع ما شهد العالم من مثيلاتها - قد جمعت قلوب العرب في الأقطار جميعاً وألفت بينها، فهم الآن أمة واحدة وإن كانت دولهم كثرا، وعلى بريطانيا أن تختار صداقة هذه الأمة أو عداوتها، وعليها أن تقيس قدرة العرب جميعاً إلى قدرة فلسطين وحدها ونعتقد أنها تؤثر صداقة العرب ولا تجازف بعداوتهم ولا سيما أنه ليس لها باعث من مصالحها الخاصة الحيوية على اختيار خطة العداء. والعرب يقولون الآن لبريطانيا كما قال أبن الرومي

أمامك فأنظر، أي نهجيك تنهج

طريقان شتى، مستقيم، وأعوج

والمستقيم أولى، وهو الذي سيكون إذا كان علمنا بالإنجليز ليس كله خطأ.

والحقيقة الأخرى أن بريطانيا لا تخدم اليهود بهذه السياسة، وإنما تثير عليهم نقمة العالم العربي والعالم والإسلامي، وهم أمة لا ينقصها أن يزيد كارهوها. ونحسب أن اليهود قد بدءوا يدركون هذا، ويفطنون إلى أن السياسة الصهيونية تورثهم عداء هم في أشد الغنى عنه.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 6

‌أشرق الأمل يا فلسطين!

للأستاذ علي حيدر الركابي

لقد قضيت عمري تائهاً في صحراء الحياة، أرى العواصف الهوجاء تهب حولي حتى تكاد تطمرني فأسير وأنا واقف في أرضي، وأرنو إلى الأفق البعيد أنشد فيه خيال واحة أستظل بظلالها وأرتوي بمياهها، فإذا بالأمل قد خاب، وإذا بالسراب قد تلاشى وانكشف عن فقار تمتد إلى اللانهاية لا أدري إلى أين المصير

وقد قضيت عمري غريقاً في بحر الحياة اللجب، تقاذفتني أمواجه الملتجة حتى كادت، تغرقني فكنت لا أتقدم خطوة نحو شاطئ النجاة إلا أبعدتني عنه خطوات؛ وكانت الأمواج ترفعني تارة فيخيل إلي أني قد بلغت مثلي الأسمى؛ ثم تسخر بي وتضحك ملء شدقيها وتفتح فاها المخيف وتجذبني إلى أعماق جوفها وكأنها تريد ابتلاعي، فأشعر أن قد دنا أجلي وأصيح وأستغيث ولكن لا ملبي لندائي ولا مغيث

وقد قضيت عمري هائماً في ليل الحياة المظلم وقد خيم سواده على كل مخلوق فحجب عني الحقيقة، وضللت الطريق ورحت أخترق حجب الظلام ببصري عله يقع على قبس من نور ولو ضئيلاً أهتدي به. ولكن الجهد كاد يفقد عيني بصرها فسرت وأنا كالأعمى أتخبط في دياجير الظلام بلا هدف ولا أمل

وقد صعدت قمة الهرم الكبير، وأجلت الطرف حولي، ثم انحدرت إلى الوادي السعيد فلم أعثر على منقذي، بل عثرت على نفوس فقيرة حقيرة أضعفتها الجيوب المنتفخة، وضربت حولها أسواراً من الذهب الوهاج، وأقامت لها داخل هذه الأسوار عروشاً من الماس فاستوت عليها قانعة شاكرة، وعثرت إلى جانب هذه النفوس الفقيرة الحقيرة على نفوس غنية كبيرة قد نمتها يد البؤس والشقاء حصرتها في أسوار من الإملاق، فلما عجزت من تحطيمها أو اجتيازها خضعت للأمر الواقع واستسلمت للأوهام تستمد منها حرية تستعيض بها عن حرية الحقيقة. فيئست من النفوس الفقيرة وبكيت على النفوس الغنية وغادرت الوادي السعيد وهرمه العظيم بقلب مفجوع وأمل خائب

وقد تبعت طريق بني إسرائيل لما خرجوا من مصر فقطعت صحراء التيه ثم وقفت على جبل الطور وتوجهت بناظري إلى الشرق فنفذ بي من أعماق الغور الأعظم إلى أفق أسود

ص: 7

قاتم تتدلى في سمائه الغيوم الباكية، ولاح لي شعاع من ذلك الأفق الممتد وراء الأردن فرقصت طرباً وخلت أنه النور الذي سيهديني، ولكني ما لبثت أن أدرك أنه برق بدأ لحظة ثم أختفي وتلته رعود قاصفة تنذر بدنو العاصفة، فحولت بصري عن الشرق وأخذت أجيله في الجهات الأخرى عساي أحظى بضالتي المنشودة. إلا أني ما رأيت سوى القتلى في كل مكان قد صُرع كل واحد منهم بسهام ثلاثة خرجت من أقواس لثلاثة صيادين: أولهم صوبها بنفسه معتمداً على مهارته معتزاً؛ بقوته والثاني ضعيف لم يقو على شد القوس فأستأجر بدراهمه الكثيرة من يقوم مقامه من الرماة الماهرين؛ أما الثالث فقد كان يسعى ويجد حتى لا يخطئ قلب أخيه المغدور، يفعل ذلك طمعاً في اكتساب رضاء الأول والحصول على دراهم الثاني، فعريت صدري للسهام المتناثرة كي يصيبني أحدها فيضع حداً لحياة قد فقدت معناها وضلت هدفها إلا أن السهام أخطأتني ولم تفرج كربتي فغادرت الطور شقياً هائماً على وجهي

وقد انتقلت إلى جنة الله على الأرض وأطلقت روحي في الهواء فصاحت الطير وحلقت معه في الفضاء الواسع بين الجبل الأشم والسهل الخصيب، تغرد معه على الأغصان، وتصغي معه إلى قيثارة الغدير. ولما عادت هذه الروح إلى جسدي أنبأتني بما فهمته من الطير والغصن والغدير؛ فقالت: إن الطير تبكي ولا تغرد، وإن الغصن قد قوسته الأحزان، وأن الغدير يرسل زفرة الكليم، وذلك لأن هذه المخلوقات قد أرسلها خالقها هدية إلى قوم لم يقدروا قيمتها ولم يفهموا معناها، إذ أنهم استعاضوا عن المهدي وهديته بأصنام من صنعهم شيدوا لها الهياكل والمعابد وراحوا يحرقون أمامها البخور ويقدمون لها الضحايا؛ فلو عاد محمد صلى الله عليه وسلم نفسه لتحطيمها للاقى منهم ما لاقاه من قريش. فقلت: يا للمصيبة، وغادرت الديار غير آسف وتوجهت نحو الصحراء الشرقية يدفعني الألم مما خلفت ورائي والأمل بما استقبلت أمامي.

وقد جلست في قارب صغير وهمست في أذن النهر العظيم قائلاً: (أنك تحمل في طياتك تجارب آلاف السنين، وأخبار مئات الأقوام، وقد مَرْ فرعاك بأقصى البلاد وأدناها فبالله حدثني) فلم أحظ منه بجواب لأنه كان نائماً فرفعت صوتي وكررت الطلب ففتح إحدى عينيه ثم الأخرى ثم تثاءب وأعقب ذلك ضحكة أهتز لها صدره حتى كاد قاربي ينقلب ثم

ص: 8

قال: (إني لمرتاح، وإني لمسرور كما ترى. فقد مرت عشرات السنين وأنا أشقُ طريقي إلى البحر بكل حرية فلا يعترضني أحد ولا يُنقص من مادتي شيئاً) فثرت على هذا الكسل وصحت: (ولكن هذه الحرية المزعومة إن أرضتك فقد أشقت التربة الصالحة وقلبتها صحراء قاحلة حتى مدَّ الجوع يده إلى ألف ألف بيت). فضحك مرة أخرى وقال: (رويدك يا صاح! وما شأني أنا؟ ولِمَ تلومني؟ نعم أنا مرتاح إلى هذه النتيجة إلا أني لم أكن سبباً في وقوعها. . .) ثم أغمض عينيه وعاد إلى سباته العميق وتركني وحيداً وسط الخضم أنادي فلا أجد من يلبي وأصيح فلا أسمع سوى صدى صيحتي الضائعة.

ولما خاب كل أمل لي في النجاة وأيقنت أني سأبقى تائهاً في الصحراء بلا دليل، وغارقاً في اللجة بلا منقذ، وضالاً في الظلام بلا نور هادي، ولما تسرب اليأس إلى قلبي فإذا بي أرى العاصفة قد سكنت، وإذا بيد بيضاء تمتد لانتشالي، وإذا بالشمس الضاحكة تضيء ما حولي، وإذا بحياتي قد ملئ فراغها بالأمل لأن نفسي قد اهتدت أخيراً إلى الطريق الذي يوصلها إلى الغاية. فمن هو هذا المحسن العظيم الذي فعل ما عجز عنه غيره؟ من هو هذا الإنسان الذي استطاع أن ينفخ في قلبي القانط روح الأمل ببني الإنسان؟ وما الذي قام به هذا الشخص حتى أعاد لنفسي شيئاً من ثقتها بالبشر؟

إنه طالب عراقي فقير أصغر مني سناً وأقل علماً، ولكنه مع ذلك قد لقنني - وهو التلميذ وأنا الأستاذ - درساً بليغاً في الخلق السامي والتضحية النادرة.

تعاقب خطباء المدرسة على المنبر فهزوه هزاً وبُحَّت حناجرهم وكلهم ينادي (فلسطين! فلسطين!) واحمرت الأكف من التصفيق وهي تقول بلغتها العجيبة (لبيك! لبيك!) ثم انقضى دور الدعاية والكلام وحل محله دور العمل والإغاثة الفعلية فاشتد الحماس وجاء الطلاب الريفيون الفقراء بالمال إعانة لمنكوبي فلسطين وبذلوا بذلاً وقف دونه من هو أوفر منهم مالاً. وفي وسط هذا الحشد الثائر جلس الطالب حكمة عبد العزيز يفكر؛ فإن قلبه مملوء أيماناً بالله ونبيه أولاً، ثم بلزوم إعانة فلسطين وهو لا يملك فلساً فما العمل؟ ولكنه تردُّدُ لحظة لا أكثر اندفع على أثرها إلى المنبر وأخذ ينزع ملابسه حتى عرى جسده إلا مما يستر عورته وهو يعلن بصوت خرج من أعماق قلبه أنه لا يملك ما يتبرع به غير هذه الملابس (وأنا أعلم - والله يشهد - أنه معوز) فلتبع على قِدَمِها وليخصص ثمنها لإغاثة

ص: 9

سكان الأراضي المقدسة. وما كاد يتم كلامه حتى دوى المكان بالتصفيق واهتزت الجدران بالهتاف العالي المتواصل. وعرضت ملابسة للبيع فتنافس الجميع في شرائها كل يريد أن ينفرد بشرف الحصول عليها حتى بلغت قيمتها حداً عظيماً. وأراد الشاري أن يعيد الملابس إلى صاحبها بعد أن تم المقصد من تقديمها ولكن هذا أبى ذلك بشدة واعتبر هذا العمل إهانة له. وبعد ملابس حكمة أمطر الطلاب المنبر بوابل من أشيائهم الخاصة طالبين بيعها فهذا قدم قلمه السيال وذاك محفظته وثالث ساعته ورابع نظارته وهلم جرا.

هذا ما قام به طالب عراقي فقير من الأرياف، وهو عمل قد يعتبره بعض الناس عادياً، ولكن المتعمق لا يسعه إلا أن يعجب به ويمجده ويبني عليه الآمال العظام لأننا نعيش الآن في عصر شمل فيه الانحلال كل شيء حتى بات العمل الصالح نادراً يجب التمسك به وإعلانه إلى الملأ عند العثور عليه.

فاهنأ بعيشك يا حكمة فأن أمة فيها شاب مثلك لن يكتب لها أن تموت، وإن شعباً فيه روح مثل روحك هو شعب حي سيسود رغم كيد العدوين: الأجنبي المستعمر والوطني الخائن. سر في طريقك على بركات الله ولا تجزع، فأن كنت قليل المال أو معدومة فإنك غني النفس، وقد استطعت بهذا الغنى أن تقدم لفلسطين مساعدة مادية، وأن تضرب للشباب مثلاً سامياً في التضحية، كما أعدت إلى اليائسين أمثالي ثقتهم بشباب هذا الجيل - وكل ذلك وقف دون تحقيقه من هم أغنى منك مالاً لأنهم أصغر منك قلباً وأحقر نفساً، نم مرتاح الفؤاد يا حكمة فأن قصتك ستبقى خالدة على الدهر يستنير بها الشباب ويتخذونها شعاراً حياً يرمز إلى كل ما في كلمة (جهاد) من معنى.

وأنت يا فلسطين، ماذا أقول وكل حرف من أسمك المطهر يفجر قلبي نبعاً جديداً من الأسى؟ أأرثي لحظك المنكود أم أرثي أرضك التي لم تراعَ حرمه لقدسيتها؟ أم أنوح على مئات الضحايا تقدمينها كل فجر على مذبح الشرف والحرية؟ أم هل أشق الفضاء بصيحات أندب فيها قراك الخربة ومنازلك المتهدمة وحقك المسلوب؟ كلا والله ليس البكاء والعويل بمنقذك.

أي أندلسنا الجيدة: إن أبناء الأندلس القديمة لم يبخلوا بالندب والنواح والاستغاثة والصياح، ولكنهم مع ذلك خسروا بلادهم واخرجوا عن دينهم لأنهم اكتفوا بأنات الألم واستسلموا

ص: 10

لليأس وسلموا قيادهم من يجهل معنى الإخلاص. أما أنت فقد خرجت الآن من دور البكاء والاستسلام والتسليم، وما عادت تجوز عليك خدع المتزعمين من أبنائك طلاب السلطة والمال، وقد دخلت أخيراً في دور الجهاد المبارك الذي أعلنه المخلصون من أبنائك البررة - أبناء الشعب السذج ذوي الأيمان القوي والعقيدة الراسخة والأرض المسلوبة.

فجاهدي وناضلي يا فلسطين واعلمي أنك قطعة ثمينة من الوطن الأكبر الذي لا يزال فيه بقية من الخلق الذي كان يتحلى به فتيان محمد (ص) الأولين. وهذه البقية الباقية إن كانت ضئيلة اليوم فلن تبقى ضئيلة إلى الأبد فإنها والله لكالجمرة التي خلفتها النيران في الرماد وظن الناس أنها منطفئة، حتى إذا ما هبت العاصفة أطارت الرماد وعرّت الجمرة ونفخت فيها الحياة فاحمرت ثم اندلعت منها ألسنة اللهيب واتصلت بما حولها وتوسعت دائرة الاشتعال حتى أصبح إخمادها في حكم المستحيل. وهاهي ذي عواصف الاضطهاد والإرهاق تكتنفنا من كل جانب وهي كفيلة بإذكاء نار الحمية فينا وإعادة ذلك العهد الذي دُكت فيه عروش الأكاسرة والقياصرة على يد فئة قليلة يقوها بدوي أمي خرج من قلب الصحراء المقفرة.

وهذا الأمل الجديد الذي أبشرك به يا فلسطين لقد ولده في قلبي عمل حكمة أحد فتيان محمد (ص). فأرسلي ناظريك إلى ما وراء الصحراء وترقبي - مثلي - خروج القائد المنتظر في بلاد (حكمة) ومن جيل حكمة.

(بغداد - دار المعلمين الريفية)

علي حيدر الركابي

ص: 11

‌في مصر الإسلامية

تنازع البقاء بين العلوية والعثمانية

للدكتور حسن إبراهيم حسن

الأستاذ بكلية الآداب

كان من العوامل الخارجية التي نازعت سلطان العلويين في مصر وجود حزب الأمويين في الشام، وعلى رأسه معاوية أبن أبي سفيان الذي أخذ يعمل على سلخ مصر من علي بن أبي طالب. وسار معاوية إلى هذه البلاد ونزل بسلْمنْت من كورة عين شمس (في شوال 36 هـ)، فخرج إليه أبن أبي حذيفة وأنصاره ليمنعوه، فبعث إليه معاوية يخبره أنه لا يريد قتالاً وإنما يريد أن يدفع إليه رؤوس قتلة عثمان، فأبى ذلك عليه، فبعث معاوية يطلب إليه تبادل الرهائن والودائع، كي يضمنوا جميعاً أن يكف الفريقان عن الحرب، فقبل ذلك أبن أبي حذيفة.

ولعل أبن أبي حذيفة لم يفطن إلى ما كان يرمي إليه معاوية، وأن هذا الطلب لم يكن في حقيقة الأمر إلا مكيدة حاك شراكها دهاؤه، فاستخلف على مصر رجلا من أنصاره، وهو الحكم بن الصلت، وخرج في الرهن هو وغيره من قتلة عثمان، ثم سجنهم معاوية في (لدّ) من أرض فلسطين، وسار إلى دمشق، فهربوا من سجنهم، إلا واحداً أبى الفرار، فتعقبهم عامل معاوية وقتلهم، وكان من بين القتلى محمد بن أبي حذيفة. (ذو الحجة 36 هـ) وذلك بعد مقتل عثمان بسنة كاملة

ولسنا ندري كيف يعلل خروج أبي حذيفة، وهو رأس شيعة عليّ في مصر وغيره من أنصار العلويين وزجه بنفسه في مغامر هذا الرهن. بيد أن المصدر التاريخي الذي نعوّل عليه في هذه المسألة وهو كتاب (الولاة) للكندي (350 هـ) أقدم مؤرخي مصر بعد أبن عبد الحكم (وعنه أخذ غيره من المؤرخين المتأخرين، وأهمهم أبن دقماق والمقريزي وأبو المحاسن والسيوطي) لم يذكر لنا السبب الذي حدا بابن أبي حذيفة وأنصاره إلى الذهاب في الرهن، بل ولم تذكر المراجع كلمة واحدة عن رجال معاوية الذين دخلوا في هذا الرهن، الذي لم يكن في حقيقة الأمر - إن كان قد وجد فعلاً - على قدم المساواة بين الفريقين

ص: 12

المتخاصمين.

وقد يكون معاوية رأى أنه مع استطاعته فتح مصر أن الوقت لم يحن بعد لهذا الأمر، إذ لا بد له من الاحتفاظ بقوة كبيرة لمنع مناوأة العلويين، لأن جميع أهل مصر بايعوا أبن أبي حذيفة إلا نفراً يسيراً انتصروا لعثمان، فعول معاوية على استئصال شافة رءوس قتلة عثمان ليتمكن من حرب علي ثم يستولي على مصر متى تهيأت له الفرصة بعد أن يوقع بجيش علي.

وبعيد جداً أن يكون أبن أبي حذيفة قد اضطر إلى قبول طلب معاوية، لأن الرجل لم يبال بخصمه. يدلل على ذلك أن معاوية لماّ بعث إلى ابن أبي حذيفة يطلب منه أن يدفع إليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر وهما رأس قتلة عثمان امتنع أبن أبي حذيفة وقال: لو طلبت منا جدياً رطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك) وهذا يحملنا على الظن بأن معاوية لجأ إلى هذه الحيلة حين لم تجد جهوده الحربية مع أبن أبي حذيفة نفعاً.

ولما بلغ علياً قتلُ أبن أبي حذيفة ولى مصر قيس أبن عبادة الأنصاري، فدخلها في ربيع الأول 37 هـ، وكان من أهل الرأي والبأس، واستمال إليه العثمانية المقيمين بخُرْبتا (شرقي الدلتا) وأحسن إليهم، وكان أهل مصر إلا هؤلاء (وعددهم زهاء عشرة آلاف) مع عليّ بن أبي طالب.

وقد حاول معاوية وعمرو بن العاص التغلب على مصر، فأمتنع قيس هذا على معاوية، فلم يكن بدٌ إذاً من إعمال الحيلة لإخراجه، فأذاع معاوية أن قيساًُ من شيعة عثمان وأن كتبه تأتيه. فلما سمع عليّ بذلك، أمر قيساً بمحاربة العثمانيين بخربنا، فأجابه بأنه أمّنَهم على أنفسهم ليأمن جانبهم، لأن فيهم كثيرين من وجوه أهل مصر وأشرافهم، فعزله عليّ ووليّ مكانه الأشتر بن مالك لأنه ثقل عليه، فأبعده عنه.

على أن والي مصر الجديد لم يكد يصل الفلزم (وهي السويس الحالية) حتى شرب شربة من العسل لا يبعد أن يكون قد دُس له فيها السمْ فمات، فولى مصر بعده محمد بن أبي بكر، فأظهر الخيلاء وأساء إلى العثمانية، وبعث إلى رأسهم معاوية بن حُدَيْج يدعوه إلى بيعة عليّ، فلم يجبه إلى طلبه، فهدم دورهم، ونهب أموالهم، وآذى أولادهم، وحبسهم؛ فعوّلوا على حربه، ولكن أبن أبي بكر رأى أن يتلافى ما قد يجرّه الاشتباك في حرب معهم

ص: 13

فصالحهم، ثم سيرهم إلى معاوية فبقوا هناك إلى أن انتهت موقعة صفين وعقدة التحكيم.

ولم يكن معاوية بالذي يَفْتُر عن استخلاص مصر وانتزاعها من علي. وزحف عمرو بن العاص على رأس جيش من أهل الشام، وحَميَ القتال بين الفريقين، فوقعت الهزيمة على أهل مصر، ودخل عمرو الفسطاط واختفى محمد بن أبي بكر، فبعث معاويةُ بنُ حديج عدوُّه القديم العيون والأرصاد، حتى اهتدوا إلى مكانه، فقتله أبنُ حديج ثم جعله في جيفة حمار، واحرقه بالنار وكان ذلك في صفر سنة 38 هـ.

وبذلك خلصت مصر لمعاوية، فولاها عمرو بن العاص ولاية مطلقة، وجعلها له طعمة بعد النفقة على جندها، وما تحتاج إليه من ضروب الإصلاح. ولما قتل عليّ بن أبي طالب سنة 40 هـ، وتحولت الخلافة إلى بني أمية، أصبحت الأجناد وأهل الشوكة في مصر شيعة عثمان، بيد أن بقية المصريين ظلّوا يشايعون على بن أبي طالب وأهل بيته، فظل العداء قائماً بين الحزبين في هذه البلاد (وفي غيرها) طوال عهد الأمويين، وفي الصدر الأول من أيام العباسيين.

حسن إبراهيم حسن

ص: 14

‌من مشاكل التاريخ

مكتبة الإسكندرية

تأسيسها ورواية إحراقها

للأستاذ خليل جمعة الطوال

تنزع بعض الأقلام عن جادة الصواب إلى هوة التغرض والتشيع، وتساق إليها بتهور عاطفة أصحابها، وانحيازهم معها إذا يكتبون مائلين إلى الناحية التي تكمن فيها أغراضهم الذاتية، وأهوائهم القومية والعنصرية. والعلم متى اصطبغ بالتشيع، وتلون بالتغرض، ومال حيث تميل العاطفة، فسد وصار باطلاً مفتعلاً، وهراء مبتذلاً. ومن نكبة العلم أن تقوم فئة من المؤرخين المتشيعين، فتعلن عدائها للعرب، وتروح بدافع هذه العداوة تشوه وجه تاريخهم المشرق بشتى الوسائل والسبل؛ آناً بالوضع والاختلاق، وحيناً بسوء التفسير والتأويل، حتى نفثت فيه من سمومها كل ما ينتقص جليل قدرهم، وينال جميل سمعتهم، ويضع من عالي مكانتهم، وذلك شفاء لغيظ نفوسها، وإطفاء لحزازات صدورها. ومن هذه السموم والأباطيل ما يروج له بعضهم من أن الفاروق هو الذي أمر بإحراق خزانة الإسكندرية على حين قد أثبت المنصفون إنها قد أحرقت قبل الفتح الإسلامي

تأسيس هذه المكتبة

لم يكد الإسكندر المقدوني يعبر البحر إلى أسيا، ويمعن في أقطارها فتحاً واستعماراً، ويستولي فيها على إرث ملوك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس، حتى أخذ يستفيد من حضارات ومدنيات وعلوم وآداب هذه الأمم المغلوبة على أمرها، فسعى في نقل ما في خزائنها إلى اللسان اليوناني والقبطي وأرسله إلى مصر. فقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست ص 329 ما نصه:(أن الإسكندر لما فتح عاصمة الفرس (أصطخر) نسخ جميع ما في خزائنها من الكتب إلى اللسان اليوناني والقبطي، وبعث بها وبسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى مصر)

وفي عام 323 ق. م. توفي الإسكندر فكأنما كان موته ريحاً زعزعاً، بدد شمل تلك الإمبراطورية التي أقام بنيانها، وأسس دعائمها، إذ اقتسمها قواده من بعده، فأختل النظام،

ص: 15

واضطرب حبل الأمور، وعمت الفوضى وكثرت المظالم، فرحل معظم علماء اليونان عن بلادهم إلى مصر والشام والعراق، حاملين معهم نتائج قرائحم، وخصب عقولهم، فأنشئوا المدارس في الإسكندرية وإنطاكية وبيروت، وكانت الإسكندرية إذ ذاك تحت حكم البطالسة، وكان سوتر أول ملوكهم عادلاً محباً للعلم والعلماء، فتوجهت إليها الأنظار، وتوافدت عليها العلماء والأدباء والفلاسفة، أفواجاً أفواجاً، حتى غصت بهم مدارسها ودورها وأنديتها. فتقرب إليهم سوتر، وأدناهم من بلاطه، وأغدق عليهم منحه عطاياه، فكان ذلك مشجعاً لهم على مواصلة البحث والدرس والتأليف، فأصبحت الإسكندرية بفضل سياسته قبلة المتأدبين، ومثابة العلماء يحجون إليها من مختلف الأقطار، ويجدون فيها من أسباب اليسر والرخاء ما ينصرفون معه إلى مواصلة دروسهم والانقطاع إليها

ويروي لنا التاريخ أن خطيباً أثينياً أسمه ديمتريوس فاليروس كان قد أشار على سوتر بإنشاء مكتبة يجمع إليها الكتب من مختلف أنحاء الدنيا، فقبل مشورته، وعهد إليه بذلك، فأخذ فاليروس يجمع الكتب ويبتاعها من تجار بغالي الأثمان، فجمع منها في مدة وجيزة (54 ألف كتاب)، فكون منها مكتبة الإسكندرية الشهيرة التي عبثت بها الأيام فيما عبثت، وقد كانت تحتوي على الكتب التي بعث بها الإسكندر من اصطخر وغيرها إلى مصر، ثم أنشأ سوتر المتحف أو النادي على شكل مدارس أوربا، ويعرف في التاريخ باسم مدرسة الإسكندرية الشهيرة

وفي عام 285 ق. م. تولى عرش البطالسة بطلوماوس فيلاذلفوس، وكان كسلفه محباً للعلم مشجعاً له، فعمل على توسيع هذه المكتبة، وأضاف لها من كتب علوم اليونان وغيرهم ما لم يكن موجوداً فيها، وابتاع لها الكتب التي كانت موجودة عند أرسطو، وكثيراً من مؤلفات اليهود والمصريين القدماء

ومن المؤرخين من ينسب فكرة تأسيس هذه المكتبة إلى بطلوماوس لا إلى سوتر، فقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست ص 239 رواية عن إنشاء هذه المكتبة لرجل يدعى اسحق الراهب وإليك نصها: (إن بطلوماوس فيلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك فحص عن كتب العلم وولى أمرها رجلاً يدعى بذميرة فجمع من ذلك على ما حكي أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتاباً، وقال له: أيها الملك قد بقي في الدنيا شيء كثير في السند

ص: 16

والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم)

وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من كتاب تراجم الحكماء لوزير حلب المعروف بالقفطي، وتحتوي على نفس عبارة الفهرست عن تاريخ هذه المكتبة ومؤسسها. على أن الثابت من إجماع آراء المؤرخين والمستشرقين هو أن المؤسس لهذه المكتبة هو سوتر لا بطلوماوس، فقد جاء هذا فعمل على توسيعها، ثم خلفه بطليموس أورجينوس عام 247 ق. م. فأضاف إليها كثيراً من كتب الأدب والشعر والتمثيل مما وجده في خزائن أثينا. ويروى أنه فرض على كل من يقيم في الإسكندرية أو يمر بها من رجال العلم أن يقدم للمكتبة نسخة من كل كتاب يملكه، فزهت الإسكندرية بذلك ونبغ فيها من العلماء عدد كبير

وما زال أمر هذه المكتبة في تقدم مطرد وازدياد عظيم، فقد ذكر بطلر نقلاً عن أميانوس مارسلينوس أنها بلغت سبعمائة ألف مجلد. وذكر العالم أكبر سيم أنها قد قسمت إلى شطرين ووضع الشطر الثاني منها في معبد سيرابيس

وفي عام 47 ق. م. حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية فأحرقت جنوده قسماً من هذه المكتبة عن غير قصد

ولما تولى الإمبراطور تودوسيوس أصدر أمراً بتحريض جماعة من المتعصبين للمسيحية بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها فنال هذه المكتبة العظيمة من جراء ذلك ضرر جسيم

وفي عهد الإمبراطور طيودوس منعت الآداب والفلسفة اليونانية منعاً تاماً بأمر الأسقف تيوفيل، وبأمره أيضاً دمرت السيرابيوم عام 391 م. وبنى على أنقاضها كنيسة أو جملة كنائس ولم يبق من هذه الدار إلا بعض الجدران، كما ذكر سيديو (ج 1 ص 155)، وذكر أيضاً أن الكتب الوثنية التي كانت بالسيرابيوم قد أحرقت كلها، وأما الكتب العلمية فإنها حملت إلى القسطنطينية ثم تطاولت الأيدي إلى هيكل (سرابيس) فدمرته وأحرقته في الحال هو وجميع محتوياته والكتب التي كانت فيه.

وهكذا تكون هذه المكتبة قد دمرت وأحرقت غير مرة بأمر قياصرة وبطارقة الروم. وقد تلاشت قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة. ومن المؤرخين من يزعم أنها أحرقت دفعة واحدة، فقد ذكر بطلر نقلاً عن (مبالوس مارسلينوس) أن السبعمائة ألف مجلد التي كانت تحتوي

ص: 17

عليها مكتبة الإسكندرية قد أتلفت إتلافاً تاماً حين حوصر يوليوس بالإسكندرية.

ومهما يكن من أمر الخلاف حول عدد مرات حريق هذه المكتبة العظيمة فأن الآراء جميعها متفقة على أنها قد تلاشت قبل الفتح الإسلامي بقرنين، وإنه لم يكن في الإسكندرية حين الفتح العربي ما يحرق من الكتب.

وحوالي عام 414 م. زار أورازيوس الإسكندرية وذكر إنه وجد رفوف هذه المكتبة خالية من الكتب، وفي ذلك أكبر دليل على تبرئة العرب من هذه التهمة الشنيعة التي حملت عليهم زوراً.

شهادات المستشرقين

ونود بعد الذي فصلناه في هذه الكلمة العجلى أن ندلي بشهادات بعض المحققين المستشرقين في الموضوع:

قال مسبرك في كتابه (الادعاءات الكاذبة): (إن الإفرنج هم الذين أحرقوا خزانة الإسكندرية). وقال بونه موري في كتابه الإسلام والنصرانية نقلاً عن فوت واهلويلر في كتابهما (جنايات الأوربيين) إن تيوفيل هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية لا المسلمين، لأن الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب.

وقال غريفيني من علماء المشرقيات في إيطاليا: بعد أن فتح عمرو بن العاص الإسكندرية مرت ستة قرون كاملة لم يسمع خلالها قول لمؤرخ مسلم أو غير مسلم يتعرض لاتهام عمرو بن العاص بإحراق خزانة الإسكندرية. وينقض هذه التهمة ما اشتهر به عمرو من سياسة اللين والتساهل التي جرى عليها وشهد له بها أشهر المؤرخين النصارى الذين كانوا في عهده، كيوحنا النيقيوسي في كتابه تاريخ مصر الذي وضعه باللغة الحبشية القديمة.

وقال بونه موري أيضاً: يجب أن نصحح خطأ شاع طول القرون الوسطى، وهو أن العرب أحرقوا خزانة الإسكندر بأمر الخليفة عمر، والحال أن العرب في ذلك العصر كانوا أشد إعجاباً بعلوم اليونان وفنونهم من أن يقدموا على عمل كهذا، كما أنه معلوم أن قسماً من تلك الخزانة كان قد احترق في أثناء ثورة الإسكندريين التي باد فيها أسطول قيصر، وأن قسماً آخر أحرقه النصارى في القرن السادس، واختط العرب الفسطاط وتركوا للقبط ممفيس ولم يتعرضوا لهم في دينهم وعاداتهم، وأطلقوا لهم الحرية في انتخاب البطريرك وبناء

ص: 18

الكنائس. وغاية ما أبطل عمرو من العادات القديمة، هو ما كانوا جارين عليه من زمان الوثنيين من رمي فتاة في النيل كل سنة التماسا لفيضانه

وقال أرنست رينان في خطاب له في المجمع العلمي الفرنسي:

. . . لست أعتقد أن عمراً هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية لأنها أحرقت قبله بزمن طويل

وذكر أكبرسيم في كتابه لم تحرق مكتبة الإسكندرية التي قال بعضهم إنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد الأمام عمر ولا بأمره كما جاء في بعض المصادر. فإن هذه الدعوة من الأغلاط التاريخية العظيمة، إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة عندما فتح العرب مدينة الإسكندرية

ومع كل هذه الشهادات، وظهور الحق الجلي في هذه الغلطة التاريخية الكبرى، فهناك من لا يزالون متمسكين بهذه الأكذوبة المختلقة على العرب، ويستندون في تأييدها إلي أقوال هي في قوتها أوهى من خيوط العنكبوت، وسنورد فيما يلي بعض هذه الأقوال والروايات وندلل على فسادها

يزعم بعض المؤرخين أن من لفق هذه الرواية على العرب هو أبو الفرج بن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول) وروي ذلك العالم الإنجليزي جبون في تاريخ سقوط دولة الرومان قال: إن هذه الفرية على المسلمين قد لفقها أبو الفرج العبري في تاريخه مختصر الدول، وذلك بعد الإسلام بنحو ستة قرون، ولم يتعرض قبله أحد لذكرها من المؤرخين) وذكر أرفنج أن هذه الفرية لم يكن لها ذكر قبل ترجمة مختصر الدول إلى اللاتينية. على أننا لسنا نعتقد بصحة هذا الزعم، إذ تبين لنا أن أول من نسب هذه التهمة إلى عمرو بن العاص والفاروق هو عبد اللطيف البغدادي إذ ذكرها في كتابه (الإفادة والاعتبار ص 28) وكان قد ألفه قبل ولادة أبي الفرج عام 1266 م.

رواية عبد اللطيف:

ففي أواخر القرن السادس للهجرة زار عبد اللطيف مصر وكتب عن مشاهدها وآثارها وذكر إحراق العرب لهذه المكتبة قبل أن يولد أبو الفرج ببضع وعشرين سنة وإليك نص عبارته: (ورأيت أيضاً حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة بعضها صحيح

ص: 19

وبعضها مكسور، ويظهر من حالها أنها كانت مسقوفة، والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها. وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطو طاليس وشيعته من بعده وأنه دار المعلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بأذن عمر رضي الله عنه

والظاهر أن هذه العبارة قد جاءت في كلام البغدادي عرضاً عن غير قصد، ومما يطعن فيها أن يذكرها بعد ستة قرون ولا يدل على المصدر الذي نقلها عنه، والأغرب ألا يذكرها مؤرخان مسيحيان معاصران من مصر، فقد كتب أفتيكيوس بطريرسك الإسكندرية كلاماً مستفيضاً عن استيلاء المسلمين على ثغر مصر ولم يشر إلى هذه الحادثة قط، وكذلك أوتينموس، فإنه لم يشر إليها أيضاً، ومثله المؤرخ (يوحنا أسقف نيقوس) وتاريخه مصدر يركن إليه.

(البقية في العدد القادم)

خليل جمعه الطوال

ص: 20

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صاق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 40 -

(طال بي الحديث إلى قراء الرسالة عن الأسباب التي كانت تملى على الرافعي موضوعاته التي كتبها لقراء الرسالة، فسأرجئ ما بقي من هذا الباب إلى موضعه من كتاب (حياة الرافعي) الذي يصدر قريباً؛ ليتسنى لي أن أنشر على القراء ما يتيسر نشره من فصول هذا التاريخ قبل الفراغ من طبع الكتاب)

سعيد العريان

رسائل القراء إليه:

لم يكن بين الرافعي وقرائه صلةٌ ما قبل أن يبدأ عمله في الرسالة، ولم تكن أصوات القراء تصل إليه من قريب أو من بعيد، إلا طائفة تربطه بهم صلات خاصة كان يكتب إليهم ويكتبون إليه؛ فلما اتصلت أسبابه بالرسالة، أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة، حتى بلغ ما يصل إليه في اليوم ثلاثين رسالة أو تزيد. وأستطيع أن أقول غير مبالغ: إن الرافعي قد عرف من هذه الرسائل عالماً لم يكن به عهد، وانتقل بها نقلة اجتماعية كان لها أثر بليغ في حياته وتفكيره وأدبه. وإذا كان مؤرخو الأدب قد اصطلحوا على وجوب دراسة البيئة التي يعيش فيها الأديب والتطورات الاجتماعية التي أثّرت فيه، فأن مما لا شك فيه أن الحقبة التي كان الرافعي يكتب فيها للرسالة - كانت تطوُّراً جديداً في حياته الاجتماعية نقله إلى عالم فيه جديد من الصور وألوان من الفن تبعث على التأمل وتوقظ الفكر وتجدّد الحياة. وقد عاش الرافعي حياته بعيداً عن الناس لا يعرف عنهم ولا يعرفون عنه إلا ما ينشر عليهم من رسائله ومؤلفاته، فكان منهم كالذي يتكلم في (الراديو) يسمعون عنه ولا يسمع منهم، وليس له مما يستمد منه الوحي والإلهام إلا ما تجيش به نفسه، ويختلج في وجدانه، غير متأثر في عواطفه الإنسانية بمؤثر خارج عن هذه الدائرة المغلقة عليه

ص: 21

وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علّته سبب يباعد بينه وبينهم؛ فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويُحصِّل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم. . .

ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفتْه طائفة لم تكن تعرفه، وتذوْق أدبه من لم يكن يسيغه؛ وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئاً يعبر عن شيء في نفوسهم؛ فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فأنفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطلع على خفيات من شئون الناس كان له منها علٌم جديد. . . فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فأنتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة. . .

هي نقلة اجتماعية لا سبيل إلى إنكار أثرها في الرافعي وأدبه، وإن لم يفارق بيئته ومنزله وأهله

والآن وقد وصلت إلى جلاء هذا المعنى كما شاهدته وعاينت أثره، فأني أتحدث عن ضرب من هذه الرسائل التي كانت ترد إلى الرافعي من قرائه، ليعرف الباحث إلى أي حد تأثر الرافعي بها، وأيَّ المعاني ألهمته وقدحت زناد فكره؛ وإذا كانت بعض (الظروف الخاصة) قد حالت بيني وبين الاطلاع على كل هذه الرسائل التي خلّفها لتتم لي بها دراسة التاريخ، فحسبي ما أقرأني الرافعي منها في أيام صحبته، وما اطلعت عليه بنفسي من بعد. . .

نستطيع أن نردّ الرسائل التي كانت ترد على الرافعي إلى أنواع ثلاثة:

1 -

رسائل الإعجاب والثناء

1 -

رسائل النقد والملاحظة

3 -

رسائل الاقتراح والاستفتاء والشكوى

أما النوعان الأولان فليس يعنينا منهما شيء كثير، وحسبي الإشارة إليهما؛ على أنه ليس يفوتني هنا أن أشير إلى أن أكثر ما ورد إلى الرافعي من رسائل الإعجاب، كان عن مقالاته في الزواج وكان أكثر هذه الرسائل من الشبان والفتيات، وقلما كانت تخلو رسالة من هؤلاء أو هؤلاء، من شكوى صاحبها أو صاحبتها وتفصيل حاله. وأطرف هذه الرسائل

ص: 22

هي رسالة من آنسة أديبة في أسيوط كتبت إلى الرافعي تسأله أن يكتب رسالة خاصة إلى أبيها - وقد سمْته في رسالتها - يعيب عليه أن يعضل ابنته ويردّ الخطَّاب عن بابه حرصاً على التقاليد. . .

. . . ثم رسالة من (مأذون شرعي) يحصي فيها للرافعي بعض ما مر عليه من أسباب الطلاق في الأسر المصرية، ويردها كلها إلى سوء فهم الناس لمعنى الزواج وحرصهم على تقاليد بالية ليست من الدين ولا من المدنية، وفي هذه (الإحصائية) الطريفة قصص خلقية بأن تنشر لو وجدت من يحكيها على أسلوب فني يكسبها معنى القصة

واعجب ما قرأت من رسائل النوع الثاني، رسالة جاءته بعقب نشره مقالة (الأجنبية) عليها خاتم بريد (شطانوف) فلما فض غلافها لم يجد فيها إلا صفحات ممزقة من الرسالة التي نشرت فيها القصة ومعها ورقة فيها هذه الأسطر:

سيدي الأستاذ إن كان لا بد من رد فهذا هو خير رد، وإن كان لا بد من كلمة فكلمتنا إليك هي تلك الكلمة التي ختمت بها هذا الكلام المردود إليك

(مصري)

ومن النوع الثالث من هذه الرسائل، كان استمداد الرافعي ووحيه ودنياه الجديدة، وإلى القراء نماذج مختلفة من هذه الرسائل

1 -

هذه رسالة فتى في العشرين، يكتب إلى الرافعي من الإسكندرية يقول:

(أستاذي الكبير

(ليس لي الآن إلا ربي وأنت يا أستاذي، وإن من حقك عليَّ أن أسألك حقي عليك وقد هداني الله إليك

(. . . قرأت وتدارست ما كتبته عن الانتحار، فماذا تقول في امريء علم عمن الجنة تحت أقدامها أنها فسقت وزلْت. . فهو يتحين الفرصة ليقتلها. إني أبكي يا أستاذي إذ أعيد هذا القول.

أبكي دماً. لي أخوة وأنا أكبرهم، ولا أخاف إلا أن لي أختاً.

وأبي - غفر الله له - ليس له ما يكون للرجل من معاني الرجولة ليضمن ألا يكون في بيته شيء مما قد كان. . .

ص: 23

(الشك يساورني منذ أكثر من عامين. واليوم فار التنور، إذ سمعت إنها حبلى. ووقع في يدي ما ملأني يقيناً بتصديق إثمها؛ ولقد همت أن أفعل ما لا يُفعل، وأنا أخشى ألا يتداركني حكمك.

(. . . ماذا تقول يا أستاذي؟ أنا الصابر أبداً كاد الصبر يتلاشى من نفسي، أنا المطمئن أبداً كاد أمري يضيع من يدي. أنا كالمجنون لا يبقني شبه عاقل إلا أنت، فماذا تقول يا أستاذي وبماذا تحكم؟ يكتبها الله لك فتداركني برأيك. . .

(ولك مني شكر من يسأل الله ويسعى إلى أن يكون بنفسه وحياته من حسنات تربيتك، وأن يكون في اليوم الآخر كلمة من سطر من كتابك القيم. . .

(ومعذرة لي من لدنك إن أغفلت الآن اسمي)

في 1451935

2 -

وهذه معلمة في إحدى مدارس الحكومة، حامت حولها ريبة فوقفتها وزارة المعارف حتى تحقق أمرها، فكتبت إلى الرافعي تسأله أن يعينها بجاهه حتى تعود إلى عملها الذي تعول منه أبويها؛ فيشفق عليها الرافعي ويسعى سعيه لبراءتها. . . وعادت إلى عملها؛ وحفظت الجميل للرافعي، فكانت تكتب إليه كل أسبوع رسالة تبثه خواطرها، وتصف له من أحوالها وما تعمل؛ وتكثر رسائلها إلى الرافعي حتى يزول الحجاب بينهما، فتصرح له بما لا تصرح فتاة، ويؤول أمرها في النهاية أن تكتب للرافعي بأنها عاشقة. . . وأن معشوقها الصغير - التلميذ في إحدى المدارس الصناعية بالقاهرة - لا يعلم ما تكن له. هي تلقاه، وتماشيه، وتخلو به خلوات (بريئة) ولكنها لم تكشف له عن ذات نفسها، وتأكلها النار في صمت. . .! وتقول في رسالتها إلى الرافعي:

(. . . فدبرني يا سيدي في أمري؛ قلبي يحس أنه يحبني، لقد قالتها لي عيناه، ولكنه لم يتحدث إلي، ولست أجد في نفسي القدرة على التصريح له. . .)

وتتوالى رسائلها إلى الرافعي تصف له ما تلاقي من الوجد بحبيبها الذي تكبره بسنوات، ويقرأ الرافعي رسائلها فيبتسم، ويتناول قلمه الأزرق فيثوِّر فيها علامات يشير بها إلى مواضع وفِقَر تلهمه معاني جديدة وفكراً جديداً؛ ويشتط الحب بالمعلمة العاشقة حتى تنظم الشعر، فتبعث إلى الرافعي بقصائدها ليرى رأيه فيها. . .

ص: 24

بين يديّ الساعة آخر رسالة من رسائلها إلى الرافعي. بعثت بها إليه قبل منعاه بقليل. ليت شعري كيف انتهت قصة هذا الحب؟

3 -

وهذه رسالة من (حلب) يدهش كاتبها أن يرى صورة (الشيخ) مصطفى صادق الرافعي مطربشاً حليق اللحية أنيق الثياب، فيكتب إليه:

(. . . لقد رأيت رسمك يا مولاي فتأملته. . فوجدته من أناقة الجلباب ومظهر الشباب على حظ. فهل لك يا مولاي في مجاراة المدنية ومماشاة الحضارة رأى دعاك إلي هذا المظهر الأنيق؟. . .)

4 -

وتلك رسالة من (دمشق) وقع كاتبها في هوى مغنية مشهورة، يحسن الظن بها إحساناً يمثلها لعينيه مَلَكا أنثى؛ لا يترك مجلساً من مجالس غنائها، ولا يفكر في خلوته إلا فيها. .

ثم يأتيه النبأ أنها قد سُمِّيتْ على رجل من ذوي اليسار والنعمة، وأنها موشكة أن تصير له زوجة، فيطير به هذا النبأ ويؤلمه أيَّما أيلام؛ فيكتب إلى الرافعي يقول:

(. . . إن خطيبها على غناه رجل فاسد الخلق، متقلب القلب، دنس الذيل؛ وأنا على يقين أنها ستشقى به وقد خفيت عنها حقيقته. وأنا أحبها وأشفق عليها وأتمنى لها السعادة. . .

(هل يجب عليُّ أن أقف وقفة المحذر بإقناعها بالعدول عن هذا الزواج الذي لا أتوقع له إلا نهاية واحدة قريبة، أو ألزم الصمت وأدع الأمور تجري في مجاريها وأقطع علائقي معها فأرد لها صورها ورسائلها احتراماً لهذا الزواج من الناحية الشرعية وأدفن ذلك الحب لها في ركن من أركان قلبي؟)

5 -

وذلك طالب في الجامعة، له دين وخلق ومروءة، بلغ مبلغ الرجال وفار دم الشباب في عروقه فتسلّطت عليه غرائزه، تغالبه شهواته فلا يكاد يغلبها، ولا يجد له سلطاناً على نفسه أو وسيلة لقمع شهواته إلا أن يحبس نفسه أياماً في غرفته الموحشة، ومع ذلك لا تزال (المرأة) تتخايل له بزينتها في خلوته وفي جماعته، فليس له فكر إلا في المرأة، وأنه ليخشى الله، وما به قدرة على الزواج، ولقد جرب الصوم فما أجدى عليه، وقد أوشك أن يفقد نفسه بين شهوات تتجاذبه ودين يأبى عليه. . . فماذا يفعل؟

6 -

وهذه فتاة متعلمة، تعيش بين أبيها وزوج أبيها في هم لا يطاق، كل سلوتها في حياتها أن تقرأ، وهي لا تحسن عملاً ولا تجد لذة في عمل غير القراءة، ولكنها تنكر موضعها بين

ص: 25

أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعتها عبث ولهو وسوء خلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعد، ولو أنه طرق بابها لأشاحت عنه معرضة في وجل، لأنها تسيء الظن بكل الرجال. فماذا تعمل؟

7 -

وهذا فتى مثاليٌّ يحسن الظن بالأيام ولكن الأيام تخلفه موعده: أحب فتاة من أهله وأحبته وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوجوها من غيره

والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكن وجدها غُلاًّ في عنقه وكمامة على فمه

وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدراً بوفاء

وكلما غرس زهرة هبت عليها أعاصير الحياة فاقتلعتها وألقتها في مواطئ النعال

وبرم الحياة وضاقت به الدنيا وما يزال في باكر الشباب. . . فماذا يصنع؟

8 -

وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين يخاف الله ويخشى عذابه: أحب فتاة من جيرته حباً (عُذرياً) وأحبْته، وبرّح بهما الحب حتى ما يطيقا أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيته ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة، ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما. . . ووقعت الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له. . .

. . . ولما فاءت إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقاً في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تُطق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث ولم تطق أن تراه بعد؛ وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتت محترقة. . .

وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعاً كيف ماتت. . . ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته؛ ومضت سنتان منذ وقعت الفاجعة ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته:

ص: 26

(. . . إنني أنا الذي قتلتها، إن دمها على رأسي؛ لقد ماتت ولم يعلم بسرها أحد غيري وهذا أشد ما يؤلمني، ولقد احتملت بصبر وثبات كل ما نالني في هاتين السنتين من تأنيب الضمير وعذاب القلب، ولكني اليوم أحس بأن صبري قد انتهي ولم يبق فيّ قوة على الاحتمال أكثر مما احتملت. . . فماذا أفعل، ماذا أفعل. . .؟)

ألوان وصور، وملائكة وشياطين، ونفوس تتعذب، وقلوب تحترق، وأنات وابتسامات، ودنيا لم يكن للرافعي بها عهد، ولم تكن تخطر له على بال.

وفي الأسبوع الآتي بقية الحديث عن رسائل القراء.

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 27

‌جورجياس أو البيان

لأفلاطون

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 12 -

(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها

أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلاً)

للفلسفة!)

(رينوفييه)

(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر

من جميع الهادمين!)

(جورجياس: أفلاطون)

الأشخاص

1 -

سقراط: بطل المحاورة: (ط)

2 -

جورجياس: الفسفسطائي: (ج)

3 -

شيريفين: صديق سقراط: (س)

4 -

بولس: تلميذ جورجياس: (ب)

5 -

كاليكليس: الأثيني: (ك)

ب - (متابعاً حديثه عن أرشليوس) والواقع أنهُ بُعِثَ أولاً ليبحث فيما يقال عن (الكتِاس) عمه وسيده كيما يرد إليه العرش الذي سلبه منه أخوه (بردكاس) ولكنه ما أن عثر عليه حتى أسكره وأثمله هو وولده (الكسندر) الذي كان يقاربه في السن، ثم وضعهما في عربة وخرج بهما ليلاً إلى العراء حيث ذبحهما وأخفاهما دون أن يتصور أنه قد أصبح بعد جريمته هذه أشقى الناس وأتعسهم، ودون أن يشعر حيالها بأي ندم أو تأنيب!!؛؛ وبعد فترة

ص: 28

قصيرة مضى إلى أخيه ذي الحق الشرعي في العرش - وكان طفلاً لم يبلغ السابعة بعد، وبدلاً من أن يسعد نفسه بالأشراف على تربيته وتعليمه كما كان يجب عليه، وبدلاً من أن يمنحه السلطة المشروعة: رمى به في بئر وقال لأمه (كليوباترا) إنه وقع فيها ومات بينما كان يجري خلف إوزة!!؛؛ وعلى هذا يجب أن يكون أشنع أهل (ماقدونيا) إجراماً، وأكثرهم تعاسة وشقاء بدلاً من أن يكون أوفرهم سعادة وهناء! ولكن ربما يوجد أكثر من أثيني - إذا بدأنا بك - يفضل مركز أي مقدوني آخر على مركز (أرشليوس)!!

ط - لقد هنأتك منذ بدأ الحديث على ما لاح لي من تدفق خطابك. ولكني قلت لك حينذاك إنك أهملت فن الحوار إهمالاً! والآن هل هذا هو التدليل المشهور الذي يستطيع حتى الطفل أن يناقضني به؟ وهل أستطيع أن أقتنع بك وبقولك إني كنت مخطئاً عندما قلتُ إن الرجل الظالم لا يكون سعيداً؟ وكيف أقتنع وأرضى يا عزيزي وأنا لست على وفاق مع أي تأكيد من تأكيداتك؟

ب - ذلك من سوء إرادتك لأنك في صميمك ترى رأيي!!

ط - حسن جداً يا بولوس فأنت تحاول أن تناقضني بأسلوب المحاماة كما يدعي من يفعل ذلك في المحاكم!، إذ هناك يعتقد المحامون أنهم يناقضون خصمهم إذا هم دعموا دفاعهم بشهود عديدين محترمين في الوقت الذي لا يستطيع الخصم فيه إلا أن يحضر شاهداً واحداً أو لا شاهد على الإطلاق!.، ولكن هذه الطريقة عديمة الجدوى لأن الفرد الواحد قد يتعرض لشهادات خاطئة من شهود عديدين ومعروفين بالنزاهة والاستقامة!! وإذا شئت في حالتنا الراهنة، وفيما يتعلق بما تقول، أن تقدم شهوداً يشهدون على خطأي، فسترى أن جميع اليونانيين والأجانب تقريباً يرون رأيك الخاص! وأنت تستطيع إذا شئت أن تجعل (نكياس) ابن (نيسراتوس) يشهد في جانبك ومعه أخوته الذين نرى مواقدهم مصفوفة في محراب (ديونيسس)، كما تستطيع أن تجعل (اريستوقراط) ابن (سكيليوس) صاحب القربان الجميل في (بيثو) أن يشهد بالمثل، لا بل أمامك إذا رغبت كل عائلة (بركليس) أو أية عائلة أثينية يسرك بعد ذلك أن تختارها!!، ولكن سيظل رأيي - ولو أني وحيد - مخالفا لهؤلاء جميعا لأنك لم تقنعني بعد! ذلك أنك لم تفعل سوى التقدم بذلك الجمع من الشهود الزائفين لكيما تنزع مني الحقيقة والخير!، ولكن - على النقيض - إذا لم أظفر بك أنت نفسك، وأنت

ص: 29

وحدك كشاهد، وإذا لم أجعلك توافق على قولي، فأني أعد نفسي كأني لم أقدم ما يجرؤ على حل السؤال الذي يشغلنا، كما أعدك لم تفعل شيئاً بالمثل إذا لم أشهد لك وحدي وبشخصي. وإذا لم ترفض عداي كل الشهود الآخرين! فهناك إذا طريقة للمناقضة هي تلك التي تعرفها ويعرفها معك الكثيرون، ولكن هناك طريقة أخرى أتخيلها من ناحيتي. فلنقارن إذا هاتين الطريقتين، ولنر إذا كانتا تختلفان فيما بينهما، لأن الأشياء التي نتنازع فيها ليست باليسيرة في نتائجها، بل أنه لا يوجد ما هو أجمل في معرفته ولا أشنع في الجهل به منها، لأنها تتعلق إجمالا بمعرفة ما هو جميل وما هو قبيح.!!. .

ومن حيث النقطة التي تشغلنا: أترى إن الإنسان يستطيع أن يكون سعيداً عندما يظلم ويرتكب الشر، لأنك تعتقد أن ذلك هو تدليلك؟

ب - نعم، انه هو إطلاقا!

ط - وأنا أزعم إن ذلك محال!. وتلك هي النقطة الأولى التي نختلف فيها فلنمض إلى الثانية. أيكون الظلم سعيداً إذا تقدم للعقاب؟

ب - كلا على الإطلاق!. إنه يكون تعيساً جدا في هذه الحالة!!

ط - وإذا فأنت تراه سعيداً إذا لم يعاقب؟

ب - بالتأكيد!

ط - وأنا أزعم يا بولوس أن ذلك الذي يرتكب الظلم ويحمله في قلبه يظل شقياً في جميع الأحوال، وأنه يكون أكثر شقاوة إذا لم يعاقب على ظلمه، أما إذا عوقب ولقي جزاءه من الآلهة والناس فانه يكون أقل شقاء!

ب - إنك تروج يا سقراط لمتناقضات عجيبة!!

ط - سأحاول يا رفيقي أن أشركك في عاطفتي لأني أعدك صديقاً. هاك هي النقط التي نختلف عليها فلترها بنفسك. لقد قلتُ من قبل إن ارتكاب الظلم أفدح من احتماله؟

ب - نعم!

ط - وقلتَ أنت إن احتماله أفدح من ارتكابه؟

ب - نعم

ط - وقلتُ أيضاً أن مرتكبي الظلم أشقياء فناقضتني؟!

ص: 30

ب - نعم وحق زيوس!

ط - أذلك هو ما تعتقد - على الأقل - فيه يابولوس؟

ب - ولي الحق في الإيمان به!

ط - ذلك جد ممكن. ولكن أترى من ناحيتك أن أولئك الذين يظلمون يكونون سعداء إذا فروا من العقاب؟

ب - تماما

ط - وأنا أرى أنهم أشقى الأشقياء وأن أولئك الذين يلقون جزاء ظلمهم يكونون أقل منهم شقاء!. أتريد مناقضتي أيضاً في هذه النقطة؟

ب - أواه يا سقراط إنها لأصعب في المناقضة من سابقتها!

ط - لا تقل (أصعب) يا بولوس بل قل (مستحيل) لأنك لن تناقض (الحق أبداً)

ب - أي شيء تقول؟ ذاك هو شقي باغتناه وهو يحاول أن يكون ظالماً طاغياً فأوقفناه، وعذبناه، فسلمنا عينيه وقطعناه بقسوة بمختلف وسائل التعذيب، ثم أنزلنا بامرأته وأولاده نفس العذاب، ثم صلبناه أخيراً وطلينا جسده بالقار وحرقناه حياً!، أترى لا يكون هذا الشخص أسعد لو قد فَرَّ وصار طاغياً فحكم مدينته، واشبع شهواته، وأصبح موضوعاً للإعجاب والحسد من الأجانب والمواطنين؟؟ ذلك ما ترى أن مناقضته مستحيلة يا سقراط!!

ط - إنه لخيال مزعج ذلك الذي تقدمه أيها الشجاع بولوس! ولكنك مع هذا لم تناقضني في شيء لأنك لم تفعل إلا مثلما فعلت عندما كنت تقدم شهودك!! لذلك أرجو أن تذكرني بشيء يسير!. لقد فرضت أن ذلك الشخص كان يطمح (بظلم) إلى الطغيان؟؟

ب - نعم!

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

ص: 31

‌العاطفة

وأثرها في التقدير الأدبي

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

لما وضع أرسطو مذهبه في النقد الأدبي، أقامه على المنطق والفكر، واعتبر العقل وحده كلَّ شيء في أدراك الحقيقة الفنَّية النافعة، يكشف ويوضح، ويقيس ويضبط، ويتلمس ويعلل، وينتهي من وراء ذلك كله إلى جملة من الضوابط والقوانين، يراها صالحة في كل زمان ومكان لقياس الفن، وتقدير الأدب، وفهم الجمال. فكأن النقد عند هذا الفيلسوف الخالد، باب من الفلسفة؛ وبحث في العلم، فهو يعالجه بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر، والشاهد البينّ، فأما الحس فلا اعتبار له عنده، ولكنه - كما يقول المعري - زجر طير هي خليقة بالكذب، فأن صدقت فباتفاق!!

هذا المذهب الذي وضعه أرسطو كان مثار خلاف بين النقاد من بعده، وخصوصاً النقاد الفرنسيين الذي نهلوا من مراشف الثقافة الغاليَّة، فجماعة من ورائه يقولون العقل فحسب! وجماعة يذهبون إلى أكثر من ذلك فيقولون: العقل والعاطفة. والذين قرءوا تاريخ الآداب الفرنسية يعرفون إلى أي حد كان النقاد في الطور الأول يمجدون العقل ويذعنون لمنطقه، حتى لقد حاول (ماليرب) أن يخضع له قرائح الشعراء وعواطفهم، ثم أتى من بعده (بوالوّ) الذكي الفطن فمنح العقل المرتبة الأولى في عداد الصفات البشرية، واعتبره مصدر كل أثر ذي شأن في النقد والأدب. ولكن لما جاء (شاتوبريان) انتهج في النقد نهجاً أحفل بالفن فقال: إن العقل وحده لا ينتج أعمالاً عظيمة، وإن الناقد الحقيقي من حكّم عقله وقلبه، واستغلَّ منطقه وعواطفه معاً في فهم ما يقرأ. فلما كان العهد الأخير قامت المناظرة حادة عنيفة بين فردينان برونتيير وأناتول فرانس حول الملكات المعتبرة في النقد فقال برونتيير: العقل. . . ثم العقل. . . ثم العقل. وقال فرانس: كلا!! لا يمكن أن يكون فن الأدب غير عاطفي، وكذلك نقده. لأن الفن ذاته عاطفة، وكاذبون هم أولئك النقاد الذين يزعمون أنهم قادرون على انتقاد الأدب وتقديره دون عواطفهم! وعندي أنه ليس أسخف من ناقد يتخذ مقاييس الألفاظ والأوزان في نقد قطعة فنية نفخ فيها صاحبها من عواطفه، واعتصرها من روحه وإحساسه، فأن المشاكل الخفية في الأدب والنقد لا يحلها علم النحو

ص: 32

والصرف، ولا تشرحها المعاجم وأوضاع اللغة، ولكنها في حاجة إلى تلك العاطفة العلوية الفياضة التي لا تقيدها فواصل وحدود، ولا تحدها أبعاد وتخوم!!

والواقع أننا نستبد بعواطفنا كثيراً ونجحد الحق وما هو ثابت من نواميس الحياة إذ نندفع في تيار أولئك الواقعيين فنعتبر العقل كل شيء في تعليل كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا؛ فأن هناك القلب يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أرهف وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة. ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيماً لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر بعض الناس في هذه الأيام بالموت والانتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة النافعة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يمجدها أولئك الواقعيون الماديون أنفسهم. وأنت - أبقاك الله - تأمل في نفسك، وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية، والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة، والأب، والأم، والزوجة، والوطن، والدين، والتقاليد، وفكرات الشرف والعرض، وكل ما إلى ذلك، ثم استسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في فهم تلك الأمور عامتها، تجده يجيبك جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر فلإنسان - كما يقول العقاد - لا يحيا بالعقل وحده، ولا يفهم بالعقل وحده، ولكنه يحيا بالحياة التي هي مجموعة من الحس والغريزة والعطف والبداهة والخيال والتفكير. فأنت إذا أردت أن (تفهم) إنساناً فليست كل وسائلك إلى فهمه أن تسلط عليه ملكة التحليل والتعليل، بل أنت مشترك في فهمه بخيالك وحسك وغريزتك وتفكيرك وعطفك وجميع أجزاء حياتك، وشأنك في فهم الكون كشأنك في فهم الإنسان أو فهم أي شيء من الأشياء وخاطرة من الخواطر. فقولك (تفهمها) مرادف لقولك تحسها وتتخيلها وتشملها بعطفك وبديهتك وتفكيرك. ولأن تحس ما ينبغي لك عمله دون أن تقوى على تعليل ذلك خير لك وألف خير من أن

ص: 33

تعلل وتحلل وأنت عاجز عن العمل والإحساس

وإذن فليس من الصواب أن نتخذ العقل وحده طريق إدراك وفهم، وأداة تقدير وحكم، وإنما الواجب أن نستخدم في ذلك جميع حواسنا وعواطفنا وكل ما لدينا من المواهب والملكات.

وإذا كان هذا من اللازم بالنسبة لاعتبارات الحياة ومسائل العلم، فأنه لا شك ألزم بالنسبة لتقدير الأدب الذي هو فيض العواطف، وذوب المشاعر، ورسالة الروح، ومن ثم تعلم سر الفشل الذي يحيق بأناس يحملون أنفسهم على معالجة الأدب، ويبيحون لضمائرهم القضاء في مسائله وهم أجلاف غلاظ قد سلبوا كل إحساس وكل عاطفة. ولقد حكى العقاد فقال: كنا منذ أيام نتطارح قصيدة أبن الرومي في رثاء ولده (محمد) وهي القصيدة التي يقول فيها:

طواه الردى عني فأضحى مزاره

بعيداً على قرب قريباً على بعد

لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها

وأخلفت الآمال ما كان من وعد

ألح عليه النزْف حتى أحاله

إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد

وظل على الأيدي تساقط نفسه

ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

إلى أن يقول:

وأولادنا مثل الجوارح أيها

فقد كان الفاجع البيّن الفقد

لكل مكان لا يسد اختلاله

مكان أخيه من جزوع ولا جلد

هل العين بعد السمع تكفي مكانه

أو السمع بعد العين تهدي كما يهدي

ثكلت سروري كله إذ ثكلته

وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد

إلى أن يقول:

محمد! ما شيء توهم سلوه

لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد

أرى أخويك الباقيين كليهما

يكونان للأحزان أورى من الزند

إذا لعبا في ملعب لك لذّعا

فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد

فما فيهما لي سلوه بل حزازة

يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد، إلا رجلاً لا بأس باطلاعه كان يقول: ولكن أحسن من هذا قول أبن نباته في رثاء ابنه:

قالوا فلان قد جفت أفكاره

نظم القريض فما يكاد يجيبه

ص: 34

هيهات نظم الشعر منه بعدما

سكن التراب وليده وحبيبه

وقوله فيه:

يا راحلاً من بعد ما أقبلت

مخايل للخير مرجوة!

لم تكتمل حولاً وأورثتني

ضعفا (فلا حول ولا قوة)

وجعل يعجب من (وليده وحبيبه) التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف قوله (فلا حول ولا قوة) ويقول: إن في هذا المعنى لحسناً! وقد استغرب العقاد ذلك الاستحسان من ذلك الرجل الذي (لا بأس باطلاعه) وعجب له كيف يرفع أبن نباته في شعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه؛ وعندي أنه لا وجه للعجب والاستغراب، لأن ذلك الرجل وإن كان (لا بأس باطلاعه) إلا أنه - على ما هو واضح من شأنه - لم يرزق الإحساس الفني، والعاطفة الفياضة التي تفتح له آفاقاً من الفهم، وتهيئ له الإدراك والنظر في الأدب وما هو بسبيل الأدب من مظاهر الفن والجمال، فليس من الغرابة أن يخطئ ذلك الرجل في التقدير الأدبي، وأن يسف هذا الإسفاف البين في الحكم على الشعر، ولكن من الغرابة أن يباح له النظر في الأدب، والحكم على أقدار الأدباء، ووضعهم فيما هو جدير بهم من المكانة الفنية، وما هو من أهل ذلك ولا عنده أداته من الطبع والحس والعاطفة وبشاشة الروح. وكأن الجاحظ كان يقرر هذا المعنى إذ يقول: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيده فرأيته لا ينتقد إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتّاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. وصدق أبو عثمان، لأن أدباء الكتاب أدق إحساساً، وأوفى شعوراً، وأرهف عاطفة، فهم أقدر على اختراق معالم الوجدان والإحساس بجمال الآثار الفنية، والصور الذهنية المرسومة، فيكون بين الناقد والقائل تجاوب روحي، وامتزاج في الأحاسيس، وهذا هو طريق الإدراك الصحيح، والتقدير الحق، وكأني به الطريق الذي ينشده الفنانون أنفسهم، فقد طلب (بودلير) في الناقد أن يكون مرهف العاطفة، دقيق الإحساس، ينتقد بانفعال، لأن الانفعال يقرب بين الأمزجة ويسمو بالمدارك وكذلك اشترط البحتري في نقد الشعر أن يكون من شاعر مارس الفن، إذ سأله عبيد الله بن طاهر فقال: يا أبا عبادة! مسلم أشعر أم

ص: 35

أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس لأنه يتصرف في كل طريق، ويتنوَّع في كل مذهب، أن شاء جد، وأن شاء هزل! ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا! فقال: أيها الأمير! ليس هذا من علم ثعلب وإضرابه. . . وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه!!

وإنها لنظرة بصيرة اتفق فيها الشاعران الفرنسي والعربي، لأن الناقد فنَّان قبل كل شيء، وإن التقدير الأدبي موهبة لا تتأتى ولا تستقيم كما يظن بعض الناس بدراسة النحو والصرف، واللغة والغريب، والتوفر على البحث في بطون الكتب، فأن هذا كله لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية، وعاطفة فياضة فنّانة، وإن العلم مهما بلغ مقداره لا يخدم في الفطن الحمأة، ولا يقوّم المشاعر المعوجة. ويا ضيعة الأدب، ويا خسارة الفن إذا ما جمدنا في تقديرهما على أوضاع أهل اللغة، واعتبارات علماء البلاغة. ولعمرك إلى أي حد تفيد هذه الأشياء في التقدير الفني لقول الطغرائي مثلاً يصف شجو حمامة سمعها تنوح وهو غريب بالعراق:

أيكّيه صدحت شجواً على فننٍ

فأشعلت ما خبا من نار أشجاني

ناحت وما فقدت إلفاً ولا فجعت

فذكرتني أوطاري وأوطاني

طليقة من إسار الهم ناعمة

أضحت تجدد وجد الموثوق العاني

تشبهت بي في وجدي وفي طربي

هيهات ما نحن في الحالين سيان

ما في حشاها ولا في جفنها أثر

من نار قلبي ولا من ماء أجفاني

يا ربّة البانةِ الغناءِ تحضنها

خضراء تلفت أغصانها بأغصان

إن كان نوحك إسعاداً لمغترب

ناءٍ عن الأهل ممنوع بهجران

فقارضيني إذا ما اعتادني طرب

وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوان

أولا فقصرَك حتى أستعين بمن

يعنيه شأني ويأسو كلم أحزاني

ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت

مني الهموم ولا تدرين ما شأني

كلي إلى الغيم إسعادي فان له

دمعاً كدمعي وإرناناً كأرناني

أو كقول أبن الجهم:

وا رحمتا لغريب بالبلد الن

ازح ماذا بنفسه صنعا؟

ص: 36

فارق أحبابه فما انتفعوا

بالعيش من بعده ولا انتفعا

يقول في نأيه وفي غربته:

عدل من الله كل ما صنعا!

أو لهذه القطعة التي نفث بها حافظ وقد عبر بدار كانت مدرجة لهوه، وملعب شبابه، فلما رآها قد غيَّرت معالمها الأيام حتى خفيت عليه جاشت نفسه بالشعر فقال:

كم مر بي فيك عيش لست أذكره

ومرّ بي فيك عيش لست أنساه

ودّعت فيك بقايا ما علقت به

من الشباب وما ودعت ذكراه!

أهفو إليك على ما أقرحت كبدي

من التباريح أولاه وأخراه

لبسته ودموع العين طيعة

والنفس جياشة والقلب أواه

فكان عوني على وجد أكابده

ومر عيش على العلات ألقاه

إن خان ودي صديق كنت أصحبه

أو خان عهدي حبيب كنت أهواه

قد أرخص الدمع ينبوع الفناء يه

والهفتي ونضوب العيش أغلاه

كم روح الدمع عن قلبي وكم غسلت

منه السوابق حزناً في حناياه

لم يدر ما يده حتى ترشفه

فم المشيب على رغم فأفناه

قالوا: تحررت من قيد الملاح فعش

حراً ففي الأسر ذل كنت تأباه

فقلت: يا ليته دامت صرامته

ما كان أرفقه عندي وأحناه

بدلت منه بقيد لست أفلته

وكيف أفلت قيداً صاغه الله؟

أسرى الصبابة أحياء وإن جهدوا

أما المشيب ففي الأموات أسراه!

فهذا شعر حي نابض، يتفجر بالعواطف، ويفيض بالأحاسيس حتى لتلمس فيه من ذلك أجساماً حية. . . وإنه لنمط أعلى من الفن الخالد على الأيام، الباقي على الدهر، ولكن ترى ماذا تكون قيمة هذا الشعر إذا ما وقف ناقد في تقديره عند قواعد اللغة والنحو، وتناوله بمقاييس (التورية والجناس) والمقابلة والطباق؟ إنه لا شك ينحط به سافلاً سافلاً حتى الحضيض، وإنه لا شك سيرتفع عليه عالياً عالياً بسفاسف الطبقة النازلة من أمثال أبن النبيه والشاب الظريف كما رفع صاحب العقاد (أبن نباته بشعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه) ومن هنا تنقلب الأوضاع، ويغدو النقد وهو أداة جمود الأدب، وخذلان للقرائح العبقرية، وعامل تقهقر يرجع بالفن إلى الوراء أضعاف ما يجب أن يندفع

ص: 37

به إلى الأمام!

فالناقد الحقيقي هو من حكم عقله وقلبه كما يقول شاتوبريان واستغل منطقه وعواطفه في تقدير ما يقرأ، حتى يستطيع أن يقدر التقدير الصحيح، وأن يخدم الحقيقة الفنية والجمال البياني وإلا فهو فاشل في مهمته، يجني على الفن، ويبخس النبوغ، ويكشف نفسه ويعرضها للسخرية، وكأن العلماء قد أدركوا تلك الحقيقة إذ أنكروا على (المعلمين) والرواة أن يكون لهم في نقد الشعر والحكم عليه، فكثيراً ما تنادر الجاحظ عليهم من جراء ذلك حتى أتخذهم مادة لعبثه ومضاحيكه؛ وكثيراً أيضاً ما نالهم الشعراء أنفسهم بقوارص الكلم، وأليم الهجاء. ولعل من أفكه ما لهم في ذلك قول عبيد الله بن عبد الرحمن الأهوازي في معلم أزري على شعره:

يعبب الأحمق الممرور شعري

وهجوي في بلادته يسير!

ويزعم أنه نقاد شعري

هو الحادي وليس له بعير

وفي هذا النمط ما روي من أن أبا جعفر الخزاز عاب شعراً للبحتري، فكانت كبيرة على نفس البحتري حتى عدها إحدى نوائب الدهر إذ يقول:

الحمد لله على ما أرى

من قدر الله الذي يجري

ما كان ذا العالم من عالمي

يوماً ولا ذا الدهر من دهري

يعترض الحرمان في مطلبي

ويحكم الخزاز في شعري

وقد كان الخزاز كما وصفه ياقوت راوية مكثراً موصوفاً بالثقة أخذ عن أبي الحسن المدائني والعتابي، فما نحسب البحتري أنكر عليه النظر في الأدب والحكم على شعره من جهة اطلاعه وعلمه، ولكنه لا شك أنكره عليه من جهة استعداده الفني، ورحابة عواطفه، وسماحة طبعه. ولست ادري ماذا كان يقول أبو عبادة لو أمتد به الأجل ورأى الأدب يحتمل الرهق كل الرهق من (خزازين) كثيرين يتولون دراسة الأدب في مدارسنا المصرية وهم كجماعة المعلمين في قرطبة الذين تحدث عنهم أبن شهيد في قصة التوابع والزوابع ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران إلى فطن حمأة، وأذهان صدئة، لا منفذ لها من الرقة ولا مدب لها في شعاع البيان، وكل بضاعتهم من الأدب كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف وعلوم البلاغة لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني من الرقص

ص: 38

على الإيقاع، والزمر على الإلحان. فهم يتنكبون النواحي العاطفية في الأدب، ويقفون في تقديرهم عند الصور الجافة من الفن البياني يقدمونها لتلاميذهم فيجد التلاميذ في تناولها غضاضة دونها غضاضة المريض من تناول الدواء، الأمر الذي ألقى في روع أولئك المساكين أن الأدب العربي كله نمط واحد من الكزازة والجفوة والتشوفة والغثاثة والثقل، فانصرفوا عنه يطلبون متاعهم العقلي ولذتهم العاطفية في رياض الآداب الغربية، فإذا ما جلست إلى الواحد منهم وجدته من العلم بتلك الآداب بمكان، على حين لا تجده من الأدب العربي على بال، وتلك حال لو دامت فستكون الشر المستطير، والخطر الكبير

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 39

‌إلى مؤتمر نواب العرب

لبيك! لبيك! فلسطين

للأديب السيد ماجد الأتاسي

إذا كانوا يزعمون أن هذا العصر عصر الديمقراطيات والحريات والمساواة في الحقوق والواجبات، فهو إذن عصر المؤتمرات للأفراد والجماعات والهيئات. ومن الناس يأتمرون من مختلف الأمم، ويريقون على هذه المؤتمرات عواطفهم وميولهم، وينفضون عليها آمالهم ومثلهم، ويحيطونها بالضجيج وفنون الدعاوى، فإذا الناس يتحدثون عنها إذا أمسوا وإذا اصبحوا، حين يكتبون، وحين يخطبون، وحين يسمرون، وحين يهذون. وقد تصبح هذه المؤتمرات ملء الدنيا وشغل الناس، وقد يكون لها نصيب من حق، وحظ من جمال، ونَسَم من مثل عليا، ولكنها - على هذا كله - تبقى مؤتمرات تضم طائفة من أهل الأرض!

ولكنها - على هذا كله - تبقى أرضية، أرضية!. . .

أما مؤتمر العرب اليوم، دفاعاً عن فلسطين، فهو نوع آخر من المؤتمرات فذ طريف؛ من طراز لا عهد لأبناء الأمم الأخرى به ولا قبل لهم بمثله. . .

هو مؤتمر برئ كرقصة العجوز، صادق كصلاة الطفل، رائع كحلم الحسناء، شريف كأغنية البطل في جوف الليل.

هو، يا أهل المشارق والمغارب، مؤتمر اشتركت فيه الأرض والسماء! وهل اشتركت الأرض والسماء في مؤتمر قبل اليوم؟!.

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل الأرض لم تتصل مرة بالسماء، اتصالهما بالقاعة التي ضمتكم، تلك القاعة التي هيأتها الأقدار لتكون اليوم مهبط الوحي، ولتكونوا أنتم اليوم رسل هذا الوحي إلى العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها!. .

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل مواكب العرائس من الحور العين كانت تمتد على حفافي طريقكم إلى قاعة المؤتمر مزغردات، هازجات، فأثارت على رؤوسكم الفل والياسمين والريحان، نافحاتٍ مواكبكم بأطياب العطور!. .

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل أجنحة الملائكة كانت تخفق في جو القاعة المباركة، فتنفض عليه النور والقوة، والهناء والثقة؛ ولعل أرواح الأنبياء كانت - إذ وطأت أقدامكم

ص: 40

عتبتها - تفوح حمداً ودعاءً، احتفالاً برسل الأخوة، وقيام الدعوة مرة أخرى إلى (حِطِّين) ثانية!. . آيات من وحي السماء كانت

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل آيات من وحي السماء كانت تتنزل على شفاهكم حين تكلمت قلوبكم من على المنابر الخاشعة، فخنس - إذا تكلمت - الشيطان، وارتعد الأرعن العجلان، وكبَّرت وهللت - إذا تعاهدتم - الأرض والسماء وملائكة الرحمن!. .

اليوم تأتمرون، وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين. .

واليوم تتلفت فلسطين المفجوعة، ترسل النظر الحائر الدامع إلى قبلة الهرم، ترتقب من قاعة المؤتمر ومضة النور، ونفحة القوة، ودعوة الجهاد؛ وجبل النار، جبل النار الذي صهرته الشدائد، وهدته النوازل، وطهرته الدماء، واجتاحته النار ليكون روضة من رياض الجنان، يرتقب اليوم من مؤتمركم قطرات الندى لزهره الذي ذوي، وانبعاث الربيع لربعه الذي أقوى، وانتعاش الحياة في هيكله الذي يضوي.

اليوم، تأتمرون، وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين!. .

واليوم، ترنو إليكم - في إسارها ومحنتها - بضراعة المهان، وانكسار الذليل، واستغاثة المصاب، ابنة عم قيدوها عند صخرة المسجد الأقصى، ومهد المسيح

اليوم تمد يديها إليكم، وقد بهرتها الشدائد، وفدحتها المصائب، وأجهدها اللغوب؛ وأبناؤها المدافعون بالأيدي عنها، يتساقطون - والهف نفسي عليهم - بالقرب منها عزلاً واحداً بعد واحد، وزمرة بعد زمرة، مشردين في مجاهل المفاوز، وخوادع السبل، بين شاب كزهر الصبح معفر الوجه - واحسرتاه - بالرمال، وشيخ يلفظ النفس في شعاف الجبال، وطفل يتضور جوعاً في الحصار، وفتاة كالبدر تبكي مروعة في الأسحار، وفارس يصبح ويمسي كل يوم في ميدان، لحافة السماء ومهاده صهوة الخيل، وقوته الأعشاب، يذب عن ثاني القبلتين وأيكة الأنبياء والأقطاب، وخميلة الوحي والإيمان، وعروس الأديان في كل زمان، يذب عن عذارى العرب المروعات، يذب عن الأعراض والحرمات، يذب عن الشرف العربي خشية أن يهان، يذب واهباً لله نفسه، والوطن روحه، والعروبة ماله، فاتحاً ذراعيه للقاء العرائس الملوحات له من وراء النظر وقد فتحن له باسمات مزغردات أبواب الجنان، ففاحت عطورها، وتضوعت زهورها، وهبت نسائمها، وصدحت طيورها، وكبرت وهللت

ص: 41

سدنتها يباركون (العريس) الجديد، يباركون الزائر القادم، يباركون هذا الجندي الفارس الملثم من جنود صلاح الدين. . .!

اليوم تأتمرون وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين!

واليوم أنتم اليد الملائكية الناعمة، تمتد في هدأة الليل، لتكفكف دموع ذلك اليتيم العربي الهائم على وجهه في فيافي بئر السبع؟ يفتش عن جثة الأب الشهيد!

أنتم اليوم قطرات الندى يتساقط في غلس الفجر على قبور الشهداء فترف على زهرات هذه القبور؛ تلك الزهرات التي رويت من دم قلوبهم فتفتقت - في رواءها ونضرتها - رمزاً حياً لأمانينا ومثلنا، رمزاً لأماني العروبة المجاهدة في فلسطين!

أنتم اليوم زمجرة الثأر تعصف فتهتز لها طرباً عظام الشهداء الهاجعين في سفوح الجبال، وترقص عليها النسوة المروعات في الأسحار!

أنتم اليوم لمعة النور تومض في معامي الأفق الغائم، فتهفو لها قلوب المؤمنين الآمنين المحاصرين في أجواف الدور، وشعاف الجبال، في فلسطين!

أنتم اليوم بسمة الأمل لمن خلف المجاهدون في فلسطين وراءهم من شيوخ وأطفال ونساء!

أنتم اليوم، لحن العزاء لهؤلاء الشيوخ المكابدين لواعج الأحزان على حرمات تنتهك، ونفوس تزهق، ووطن يستباح، وشعب يموت، وحق يهضم، لسواد عيون شعب (مدلل) جميل، لسواد عيون الحسان من بنات صهيون!

أنتم اليوم شبح القصاص يطارد، بعد موهن الليل. بنات صهيون المجررات عند الأقصى أذيال الخطايا والآثام!

أنتم اليوم حلم الخلاص الجميل يداعب جفون العذراء العربية عند مهد المسيح الغارقة في غفوة الأحلام؟

أنتم. . . أنتم. . . وإن لم يكن بيدكم هذا السوط الذي يهزه اليوم هتلر وموسوليني في وجههم. . . فإذا هم كالأنعام. . .

أنتم. . . أنتم. . . وفيكم اليوم ما يخيف: فيكم تاريخ يثور، وماض يبعث، وحاضر يتوثب، ومستقبل يتوعد، وعلى لسانكم - فوق هذا وذاك - حق يتكلم

والمجرم، المجرم، يا قوم؛ هو أجبن خلق الله وإن كان أقوى الأقوياء! هو يحمل اللعنة في

ص: 42

ثيابه، وإهابه، ويرن أبداً بين أذنيه صوت القصاص. . .

أنتم. . . أنتم. . . وفيكم اليوم ما يخيف: اليوم يعلمون حق العلم أن هؤلاء الذين أمامهم هم هم الذين عرفوهم، منذ قرون تحت أسوار أورشليم. واليوم يعلمون حق العلم أن أولئك الفرسان الذين يسابقون الريح في خطوط النار، هم هم الفرسان الذي كان يرتفع غبارهم وراء رايات صلاح الدين في حطين. . .

وكل عربي اليوم صلاح الدين. وكل بلد عربي اليوم حطين

أيها المؤتمرون:

أتقولون اليوم: إن فلسطين لأهل فلسطين، وأن ما يقترف في فلسطين اليوم دونه مآسي تيمورلنك، ونيرون، وجنكيز؟ أم تقولون أن العرب لن يرضوا بعد اليوم بعَظْمة يهودي صهيوني واحد ترمى في فلسطين؟! هذه العظمة المنتنة التي عافتها أنوف العالمين، أتقولون هذا؟ حذار! حذار! فالسلم العزيز الرهيف النحيف إذن (يتوعَّك والتوازن الدولي الجليل الحسَّاس يختل ويغضب، والدنيا تصبح في خطر، وأصحاب الضمائر والعهود الصادقة لن يرضوا في حال من الأحوال أن ينكثوا بعهد قطعوه، ووعد منحوه على حساب شعب برئ آمن مطمئن!

السلم، والمدنية، وحق تقرير مصير الشعوب؛ كل هذا هو الحسان اللواتي لسواد عيونهن قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، يوم حطم موسوليني تحت سنابك خيله أعرق تاج في ربوع الحبشة

واليوم لسواد عيون هذه الحسان نفسها، يجلون في فلسطين شعباً كاملاً عن وطن آبائه وأجداده ليحلوا محله حثالات الشعوب فهم يخربون المدن، ويقطعون السبل، ويحاصرون الآمنين، ويروِّعون النساء، ويقتِّلون الأطفال. كل هذا لأجل السلام! ووفاء بالعهود والوعود!

أفتدرون، يا قوم، ما الفرق؟

الفرق هو أن يد موسوليني يد قاسية تؤلم إذ تضرب وتوجع. . وأما يدهم فناعمة رهفة، فهي - إذ تضرب - كأنها تربت وتلاعب وتغازل. . .

إذن اضربونا، اضربونا ما أجمل هذه الأيادي وما أشد نعومتها!. . وما أحلى ضرباتها، يا

ص: 43

منصفون!

أيها السلم، أيها التوازن الدولي، أيتها المعاهدات والوعود! أيتها الحسان الزرق العيون، يا معبودات تشمبرلن وديلاديه خذوني، وضموني بين ذراعيكم إلى صدركم الجميل!. .

يا لله، ما أعجب شأنكن! أنتن في أحلام الشعراء، وعلى ألسنة الساسة، وفي كتب القانون، تلك (المروحة) أمام وجه الإنسانية الثائرة المحمومة، تخفف عنها وطأة الحر والحمى!. . أنتن عند هؤلاء رسل الحب والقبل بين الناس. . . وأنتن - في الواقع الملموس - ذئاب تعوي، وأرانب تفر، وثعالب تمكر؛ بل أنتن هذا الثوب الفضاض الجميل الذي يحيكونه في لندن وباريس ليحجبوا به عن الأعين الدم القاطر من أيديهم! أنتن - كما قيل - (القفاز الأبيض في اليد الحمراء)، (أنتن النقاب الخادع يستر الوجه الكاشر، والطرف الغادر)، (أنتن حجة ذئب (لافونتين) يفرضها على الحمل الضعيف)، (أنتن معاني الظلم والعنف واللصوصية والاغتصاب تختبئ في مصطلحات القوانين!. . أنتن. . أنتن كل ما بلغت الإنسانية، بعد جهاد قرونٍ، من قدرة على الكذب والتمويه!

سمعنا، يا حسان؛ أن أباكن ويلسن، هذا السياسي الطيب القلب سياسي الكتب والأحلام، قد أقام لكن هناك على ضفاف بحيرة (جنيف) الساحرة مقراً منيفاً ترسلون منه إلى العالم أجمع قبلات الحب والأخوة، ورسائل السلام والوئام، وتبعثون منه، وإلى السماء صلوات المثل العليا!. .

أيها الطيب القلب، الغافي في هدوء الضمير،

اسمعنا من هنا، أسمع أنات عانينا، ونشجات باكينا، وضجات جناحنا المهيض.

اسمعنا: أن هذا القصر الذي شدته بيديك الطاهرتين المشبوبتين ليكون هيكلاً مقدساً لصلوات نسَّاك الحب والمساواة والسلام، أصبح اليوم حانة من حانات الليل، تدار فيها خمور الشهوات، وتدفع بالثملين معربدين في أجواء العالم، وبقاع الأرض، عائثين فيها كاشرة أنيابهم، محمارة عيونهم، مفتحة خياشيمهم، معكرين على الإنسانية صفوها، منغصِّين عليها أحلامها!. .

أصبح اليوم داراً من دور الميسر تلهو به الأمم الكبيرة لا الأفراد، و (الروليت) هناك تدور وتدور، و (القبيش) يرتفع ويهبط، وهي في هذا الدوران والارتفاع والهبوط تدور معهما

ص: 44

وترتفع وتهبط لا أموال الأفراد، ولكن - واحر قلباه - مصائر الشعوب، ومقدرات الأمم والضعفاء!. .

أصبح اليوم: سوقاً يأوي إليها تجار الرقيق (بالجملة)(ليتساوموا) فيه، ويتبادلوا، ويتهادوا!. .

أصبح اليوم مأوى للذئاب الخائفين من شرور أنفسهم! والآن، أيها المؤتمرون، إن فلسطين تناديكم.

تنادي المتربعين على عروش الذين كانت تصهل خيولهم، وتلمع أسنتهم، ويرتفع غبارهم، تحت أسوار أورشليم!. .

فمن يكون اليوم منهم صلاح الدين؟

من يكون اليوم منهم (المعتصم) لينقذ اليوم ألف عربية بين أيدي الجنود تنادي من وراء قضبان الحديد، في غلس الليل (وا معتصماه!)؟

أيها المؤتمرون، أيها الملوك، أيها الأطفال، أيها الشيوخ، أيتها العجائز، أيها العرب، أيها المسلمون: صلوا حين تأوون إلى فراشكم وحين تصبحون، لأجل فلسطين!

صلوا حين تجلسون إلى موائدكم لأجل المتضورين جوعاً في فلسطين!

صلوا حين تجلسون إلى أولادكم لأجل اليتامى المشردين في فلسطين!

صلوا حين تجلسون إلى نسائكم لأجل الأرامل المروَّعات في فلسطين!

صلوا: لأجل الشهيد العربي المجهول الهاجع بين وكور النسور في جبل النار.

صلوا لأجله: فهناك من تراب النبي حفنة، ومن البقيع الأطهر قطعة، ومن الفراديس روضة، ومن رضى الله بسمة ومن البركان نفحة.

صلوا، صلُّوا لأجل الشهيد العربي في فلسطين.

(حمص - سوريا)

ماجد الأتاسي

ص: 45

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . .

- 24 -

وأنى للرئيس أن يستمرئ الراحة أو يهفو إليها حتى يفرغ من رسالته؟ لذلك فهو يجعل للعمل وقته جميعاً لا يكاد يدعه لحظة وكان له في هذا الجهاد الأكبر خير عون من عافيته وقوة بدنه، فلقد بنته الغابة كما تبني دوحاتها العظيمة، كأنما كانت تهيئه لهذه العظائم. . .

ولم تكن الحرب وحدها هي كل ما يحمل الرئيس من عبء، فلقد كان له ممن يعمل معهم من الرجال، كما كان له من اختلاف الأحزاب وتبلبل الرأي العام أثقال فوق أثقاله.

وهناك عدا ذلك موقف الولايات الوسطى التي عرفت باسم المحايدة فكان يخشى الرئيس أن تنظم إلى الاتحاد الجنوبي فتزيدهم قوة وعزماً ولن تكون تلك القوة في الوقت نفسه إلا خسراناً لأهل الشمال. . .

ثم هناك موقف أوربا من هذا النزاع. . . وهو أمر له خطره يحسب الرئيس له ألف حساب، وإن كان سيوارد لا يرى له أول الأمر ما يراه الرئيس من خطر.

ولم يترك الناس رئيسهم يعمل لقضيتهم الكبرى فحسب، بل راح الكثيرون يطرقون بابه يرجونه ويسألونه إلحافاً، فهذا ممن ساعدوا الحزب الجمهوري يطلب من طريق خفي أن يكافأ على خدماته. . . وذاك يطلب وظيفة يأكل من راتبه فيها. . . والموظفون في البيت الأبيض يعجبون من هذا الرئيس الذي لا يجعل فرقاً كبيراً بين قاعة الحكم هناك وبين حجرة مكتبه في سبرنجفيلد. .

لقد جعل للناس يومين كل أسبوع يلقاهم فيهما جميعاً لا يوصد بابه في وجهه أحد، وإنه

ص: 46

ليستمع إلى كل ذي حاجة، فأن استطاع أن يمد إليه يد المساعدة دون أن يجوز بذلك على القانون لم يتردد أو يتأخر. وكثيراً ما كان يجعل الرحمة فوق العدل، إذا رأى نفسه بين أن يعدل فيقسو أو يرحم فيميل بعض الميل. . . ولكنه في ذلك لا يسئ إلى الخلق أو يتهاون في قاعدة جوهرية وحاشاه أن يفعل هذا أو ما هو دونه. . .

ولن يضيق صدره بذوي الحاجات لديه، مع أنهم كانوا يلقونه على السلم، ويقفون أمام غرفته صفوفاً خلف صفوف، بل كثيراً ما كانوا يستوقفونه على الطريق ويزحمونه. . . ولكنه من الكاظمين الغيظ. . ولن يستطيع قلبه الكبير أن ينهر السائل فيزيده بؤساً على بؤسه، وهو الذي عرف اليتم منذ حداثته وذاق الشقاء ألواناً. . .

على أنه مهما بلغ من رحمته وبره بالمساكين، يعرف أساليب الماكرين، فلا ينخدع بما يراه من ادعاءاتهم فيصرفهم بالحسنى وإلا فبشيء من الشدة يشبه التأنيب ويراد به الزجر. . . دخل عليه رجل كسرت ساقه يسأله عملاً إذ فقد رجله في الحرب، فسأله الرئيس أيحمل أية شهادة أو دليلاً على صدق دعواه، ولكن الرجل لا يحمل شيئاً، فصاح به الرئيس قائلاً:(ماذا؟ ليس لديك أي أوراق أو أي شهادات أو أي شيء يرينا كيف فقدت رجلك. . . فليت شعري كيف أتبين أنك لم تفدها في فخ وقعت فيه وقد سطوت على بستان غيرك. . .)

ويعجب القائمون على الحكومة كيف يطيق الرئيس وقد ملأت وقته الأحداث الجسام أن يلقى هؤلاء الناس ويستمع إلى مثل هذه الأمور الصغيرة وكان جديراً به أن يكلها إلى غيره. . . ولكن أليس هو من الناس؟ أليس هو خادم الجميع قبل أن يكون رئيس الجميع؟ وهل يغير المنصب ما فطرت عليه الأنفس الكريمة من كريم الخصال؟. . .

هاهو ذا ابراهام النجار تراه في البيت الأبيض ولم يزل هو هو، وداعة في قوة، وتواضع في عزة، ورقة في وقار. . . ومن وراء ذلك قلب تسع رحمته شكوى الناس جميعاً، قلب لا يتهنأ ولا يفرح إلا إذا صنع المعروف وأدلى الجميل فأفرح القلوب وأدخل عليها الهناءة.

وما كان أعظم الرئيس وأجمل خلقه حين يلقى في الطريق إلى غرفته أحد معارفه ممن لاقاهم قبلُ في مضطرب الحياة، فيقف يضحك وإياه ويده على كتفه ويسأل عن أمره وأمر أسرته. . .

ولقد يأخذه معه إلى قاعة الرياسة فيذكر له الأيام الماضية حتى ما يشعر الرجل أنه بين

ص: 47

يدي رئيس الولايات المتحدة

ثم ما كان أعظم الرئيس حين كان الفقراء يستوقفونه في الطريق فيقف ليستمع إليهم وليكلمهم كأنه أحدهم، فلا ترفع ولا كبرياء. ولن يستنكف الرئيس أن يطيل الحديث أحياناً عله يستطيع أن يكفكف بكلامه شيئاً من دموعهم ويخفف بالعطف عليهم بعض آلامهم. . . ولئن كانت هل حيلة إلى أجابتهم إلى ما سألوا فما هو عن ذلك بضنين

ولقد كان ينكر عليه مسلكه هذا بعض موظفي البيت الأبيض. . ولكنهم حين كانوا يزعمون أنه لا يليق ذلك بمن كان في مثل مركزه كان يغيب عنهم أنه لا مسلك غيره لمن كان له مثل قلبه. على أنهم لم يلبثوا أن أكبروا الرئيس وأعجبوا بخلاله، وأصبحوا لا يرون أي مأخذ عليه، وأصبح من المناظر المألوفة عندهم أن يدخل أحدهم ببطاقة للرئيس فيراه ينهض بنفسه إلى خارج الحجرة يلقي مرسلها مرحباً ضاحكاً. . . أو أن يروه يأتي بنفسه إلى الحاجب فينهره حين يسمعه يمنع طالبي الدخول عليه. . .

أما الوزراء وكبار الموظفين وقواد الجيش فقد اعتادوا أن يروا الرئيس يسعى إليهم أحياناً بدل أن يدعوهم إليه. . وكثيراً ما كان يلتفت الواحد منهم فإذا حاجبه مقبل يعلن إليه أن الرئيس على السلم أو في طريقه إليه

ويدخل الرئيس فيجلس إلى مرؤوسه يستفهمه عما يريد وينصت إليه؛ فان كلمه مرؤوسه في أمر فني كلام الأخصائي، لا يستنكف الرئيس أن يستوضحه وكأنه منه التلميذ حيال أستاذه؛ ويعجب المرؤوسون من هذا الرجل الذي لا يدعي أبداً العلم في أمر يجهله، والذي يفهم ما يُبَيَّنُ له في فطنة وسرعة

ماجت واشنجطون بالمتطوعين حتى أصبحت المدينة معسكراً عظيماً، ولكن الرئيس يعوزه القواد. . . وإنه ليطيل التفكير فيمن عساهم أن يصلحوا للقيادة في هذا النضال الهائل. . إن على رأس القوات الآن القائد سكوت ولكنه شيخ كبير ناهز الخامسة والسبعين، والموقف يتطلب قائداً فتياً يبث من روحه في قلوب جنده ويمشي بهم إلى النصر. . . ألا ليت القائد لي لم يرفض ما عرض عليه، ولكن بئس ما فعل لي فلقد أنضم إلى الثائرين وأصبح ن أكبر قوادهم

فكر الرئيس وتدبر. وأخذ يقلب الأمر على وجوهه والرأي العام من حوله يزيد موقفه

ص: 48

صعوبة، فلكل حزب رأي، ولكل جماعة فكرة، ولحكام الولايات آراؤهم وإلا توقفوا عن إرسال الجنود. . . والرئيس يهيئ له الناس بسكوتهم الجو ليختار قواده على أساس الكفاية ولكنهم لا يفعلون، وهو لا يستطيع أن يغضب تلك الجهات في هذه الظروف القاسية، بينما هو فيالوقت نفسه لا يستطيع أن يرضيهم جميعاً

ويستعرض الرئيس الموقف الحربي، فيجد القائد ماكليلان قد وفق في أعماله في فرجينيا الغريبة، ويسمع الثناء عليه من جهات كثيرة حتى لقد سماه نابليون الجديد. . . ولذلك يدعوه الرئيس ويعينه قائداً عاماً للقوات في فرجينيا

وتتجه الأنظار كلها إلى القائد ماكليلان فهو شاب في الرابعة والثلاثين؛ وفيه كثير من الصفات التي تحمل الناس على محبته؛ فله حسن السمت وهيبة الطلعة وروح الشباب؛ وله من صغر جرمه ما يشبه به نابليون، وكذلك له من صفات نابليون بريق عينيه ومضاء عزيمته وتوقد حماسته

وسرعان ما تعظم شهرته حتى يجري اسمه على الألسن جميعاً؛ وكم له في الحياة من أشباه ممن قامت شهرتهم على أوهام الجماعات ولكن لعل الأيام تثبت جدارته، فإن الأعين والقلوب متفقة على الإعجاب به

على أن للشباب نزاعاته ونزواته، فهذا القائد يدل بجاهه من أول الأمر، حتى ليعد نفسه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مما هي فيه. . . ولقد شايعه في هذا الزعم كثير من الناس. . . حتى رجال مجلس الوزراء قد عظمت ثقتهم فيه إلى حد إنهم كانوا يميلون إلى جانبه أحياناً إذا هو رأى ما لا يرى الرئيس والرئيس يتذرع بالصبر ويتغاضى عن ذلك في سبيل ما يعقده من الآمال على ما عساه أن يأتي به ذلك الشاب

وأخذ القائد الشاب يدرب مائتي ألف رجل على حدود فرجينيا، وقام بذلك العمل على خير ما يرجى، ولكنه أطال التدريب وأطاله حتى تسرب الملل إلى الرأي العام فضاق بما يفعل فإن الناس كانوا يستعملون الزحف؛ وكذلك ضاق الرئيس ذرعاً، ولكن ماكليلان يعد الناس أنه ستعد لحركة عظمى سوف تطفئ نار الثورة

وشاع في الناس أسم قائد أخر هو القائد فريمونت، ولقد كانت له مواقف محمودة في الجهات الغربية يومئذ، وكان هذا الرجل من قبل أول مرشحي الحزب الجمهوري للرياسة

ص: 49

فله بذلك في الناس منزلته وخطره، وله في قلوب الساسة وأولي الرأي نفوذ كبير

ولن يقل فريمونت عن ماكليلان اعتزازاً وترفعاً، فهو يحيط نفسه بفرقة من الحرس، ويرقي بعض الجند دون أن يرجع إلى الرئيس وهو بحكم مركزه القائد الأعلى لقوات الدولة. . . وكذلك يتباطأ فريمونت في الرد على البريد القادم من العاصمة. . . ولن يقف الأمر عند ذلك، بل تأتى الأنباء أن فريمونت ينوي إقامة اتحاد ثالث في الجهات الشمالية الغربية

ولكن الرئيس لا يصدق هذه الأنباء فهو واثق قبل كل شيء من إخلاص الرجلين لقضية الاتحاد، وإلا فما كان ليضعهما حيث وضع مهما يكن من الأمر

وأحاط فريمونت نفسه أول الأمر بجو من السكوت، ولكنه ما لبث أن أذاع قرارا خطيرا اهتز له الرئيس وتبرم منه وضاق به، وذلك أن القائد أنذر أهل مسوري في أخر شهر أغسطس عام 1861، أي بعد قيام الحرب بنحو أربعة أشهر أنه ينفذ قوانين الحرب في الولاية، ولذلك فهو يحدد منطقة يجعلها محرمة، يعدم كل من يحمل السلاح فيها ضد حكومة الاتحاد وكذلك يعلن القائد أن كل من تحدثه نفسه بالثورة من أهل الولاية جميعاً يكون جزائه مصادرة أملاكه وتحرير عبيده إن كان له عبيد. . .

ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفذ صبره، وكان يلاحظ من يرونه غداة هذا القرار علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم كانوا كذلك يلمحون إمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم والثبات

انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة، فلقد جعل مبدأ الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد سبيلها إلى القلوب وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة ولا تدع سبيلاً لأحد أن يتهم أهل الشمال بأنهم أوقدوا النار ما أجل أغراضهم وعواطفهم في مسألة العبيد. . . وكذلك كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنظم إلى أهل الجنوب، ويفقد الرئيس كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها فقد كان فيها كثير ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطراً كانت ولاية كنتولي التي ينتمي إليها الرئيس منذ نشأته، فلقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى

ص: 50

جانبه أو لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في الحرب شأن أي شأن

ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار الطائش؛ فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون بنظام العبيد من أهل الولايات الشمالية

وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. . . ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء عاصفة شديدة من الرأي العام، فأن دعاة التحرير وأعداء نظام العبيد ما لبثوا أن هتفوا بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما يعيبون على الرئيس تردده وخوره

وانطلقت الصحف تدعوا الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه فيعلن قراراً عاماً ينطبق على الولايات الثائرة جميعاً. ولما وجدوا منه الأعراض والغضب، عصفت برؤوسهم النزوات وراح بعضهم يدعوا إلى إرغام الرئيس على الاعتزال ووضع فريمونت في مكانه

ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، إذا العاصفة تشتد وتشتد؛ ولكنه الرجل الذي لم يخلق له الفزع؛ وهل يذكر أنه خاف العاصفة يوماً ما حينما كانت تنطلق عاتية مدوية فتهتز لها أرجاء الغابة، وهو واقف منها موقف المتفرج؛ ذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني الأحراج الذين ألفوا ملاقاة العواصف؟ ٍ. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 51

‌خاطر

رفائيل

الدنيا ذات الطهر والسحر

(مهداة إلى لجنة إنهاض اللغة العربية)

للآنسة الفاضلة ف. ن

كنت أود لو أن الصديقة التي قضيت معها ساعات القيلولة من كل يوم طيلة أيام الربيع الماضي، تحكي هذا الذي أريد أن أحكيه عنها وعني، فلقد كانت حافلة بموضوع الحديث، مشوقة للبحث فيه، هيَّابة لذكراه، إذا ما أقدمت على طرقه فكأنها تقدم على طرق حديث من عند الله. . . وما كانت لتنساه، ولم يكن لها مجال لتنساه وأنا معها ليلَ نهار!

- رفائيل أيضاً؟.

- أيضاً رفائيل!.

هكذا كانت تبتدرني كلما لقيتني في فناء المدرسة أو في ناحية من نواحيها، متأبطة كتاب رفائيل، وهكذا كنت أرد عليها وأردف بابتسامة تفهم معناها الذي في قلبي. . ثم أسير عنها، فإذا بها تتبعني. كأني أحمل قوة من السحر تجذبها من غير أن تدري! وأدرك ناحية هادئة اعتدتها فأحتل مكاناً لي فيها كفلته خالياً كثرة جلوسي هناك، فإذا بها قربي. . وأتجاهل ما تريد فأصمت عنها وهي ترتقب حركة مني، حتى إذا وثقت من إصراري على الصمت صاحت بي وقد نفد صبرها (افتحي!) فأبتسم. . وأفتح. . . ونقرأ الكتاب الذي أعجز عن عدّ المرات التي قرأناه فيها وكأننا نقرأ لأول مرة. وتستوقفنا المعاني الرائعة فتفلت من صدرينا آهات خافتة هي التأثر، وهى الإعجاب، وهي صدى الروعة في النفس وفعلها في الشعور! ونغرق في السحر الذي يفيض من قلبينا حتى يغمرنا، ونذهب في سكرة لذيذة لا نصحو منها إلا على صوت الجرس، معلناً انتهاء ساعات الفراغ، فينال من لعناتنا ما ينال ونحن في حنق عليه!

هكذا بدأت أيام إعجابها الأولى بالكتاب، ثم سارت - هذه الأيام - في طليعة أيام بعدها، حفرت لها في قلبينا أثراً بعيداً لن تمحوه الحوادث مهما جارت!. . تلك كانت ساعات

ص: 52

القيلولة في الربيع الماضي، عندما تجد أثر النعاس اللذيذ في كل جفن، على الرغم من توسط الشمس قبة السماء بهيجة ساطعة؛ وعندما تلمس روح الهدوء في كل حي، كأن الكل شعراء يحلمون!

هكذا كان حَفَلها بالكتاب عظيماً وأنا أطلعها عليه للمرات الأول. على أنها لا تفهم العربية الفصحى جيداً، فكنت أتناول عميق المعاني بالإفصاح والطلوع بها إلى سطح معرفتها باللغة - وفي هذا ما فيه من تشويه - فلا تتمالك نفسها من أن تقول والدهشة تملأ فاها (أهذا السحر في العربية؟) فأجيب (بل وفي قلم الزيات أيضاً!)

ما كانت تدري أن في العربية سحراً، وقد شبت جاهلة بها. وهي وإن كانت عربية فيها دم فارسي إلا أنها تجيد الفرنسية قبل كل لغة (هكذا شاءت إدارة المدارس الفرنسية، وهكذا خضعت حكومات البلاد العربية لهذه الإرادة القاسية!)

لقد عرفتها قبل أن أعرفها (برفائيل) بثلاثة اعوام، أطلعتها فيها على كثير مما جادت به القرائح والأقلام العربية فأعجبت بالكل وذهلت برفائيل! ولم يكن هذا الإعجاب الطاغي، أو هذا (الذهول) ليغمط حق سائر الكتب التي اطلعت عليها. فلكل طريقته وأسلوبه ورائع معانيه، إنما في (رفائيل) روح لا توجد في سواه، روح عالية سماوية ليس فيها من نزعات الأرض واحدة!

- ماذا؟ أصديق جديد؟

قالت عندما رأت (رفائيل) في يدي لأول مرة. . كلمتان اعتادت أن تقولهما كلما رأت في يدي كتاباً جديداً. .

قلت: لا، بل معلم مجيد، بل عالم سماوي ليس فيه خبث ولا دنس. أنه (رفائيل) روح من السماء كما كانت في السماء. .

كنت أود لو أن الصديقة التي قضيت معها الساعات الغارقة في الإعجاب، المتسامية بروحينا عن عالم وضيع إلى دنيا ليس فيها حياة إلاَّ الطهر والسحر. . كنت أود لو أنها تحكي هذا الذي حكيته، إلاَّ أنها بعيدة. . وإلاَّ أنَّ هذا الخاطر هاج فيّ ولا أظنه هاج فيها، وذلك لنظري إلى الكتاب لا كنظرتها فقط إنما هناك عوامل أخرى، تخلق فيّّ نظرةً أخرى، تقيم الخشوع في نفسي كلما ذكرت شيئاً من الكتاب أو قرأت فيه شيئاً. .

ص: 53

أنا عندما أقرأ مأساة رائعة أبكي ويعتصر الألم قلبي فألازمه أياماً. . وعندما أقرأ صفحة في البطولة، تهيج في نفسي عوامل الشعور بالقوة في الروح وفي الجسم وفي الأماني، وفي كياني كله. ولكني عندما أقرأ (رفائيل) أحسُّ عالماً جديداً في داخلي، وعالماً جديداً حوالي!

سواء علي أوثق القراء بما أقول أم لم يثقوا، فحسبي أني أصف خاطراً في نفسي أهاجته خواطر في نفوس الغير. . سواء علي أوثق القراء من أني لم ألقَ تهذيباً في البيت أو في المدرسة من أمي أو من مدرَّساتي، أو من أية ناحية من نواحي الحياة بقدر ما ألقي في صفحة. . بل في بضع جمل من رفائيل!. سواء أوثق القراء أم أبوا فأني أقول هذا للحقيقة لا للدعاية - وهل يحتاج مثل رفائيل للدعائية؟

كل ما في نفسي من غرائزها البشرية الرديئة، كل ما فيّ من أثرة وحسد وبغضاء ونزوات دنيئة، كلها تموت وتتلاشى إذا ما قرأت في رفائيل صفحة. . وأعود لا أرى في الدنيا وفي قلبي إلا المعاني الجميلة، الدنيا الطاهرة التي في رفائيل. . وأعود لا أرى الحبَّ إلا عذرياً نقياً كحب رفائيل. . ولا أرى الصداقة إلا بريئة من كل شائبة كصداقته. ولا أرى العفة في كل عاطفة إلا عفته، ولا الدنيا الصادقة إلا دنياه؛ ولا الحياة الزاخرة بوجدان حي إلا حياته. ولا أرى المثل الصادق للتهذيب الذي يدخل النفس من حيث لا تشعر فينقيها ويجلو محاسن ربها فيها، ويهيئها لعالم كل مادته ومعناه وجدان طاهر وعاطفة بلا شائبة، ذلك التهذيب اللين الجارف في غير قسوة ولا تشديد، إلا في كلمات يلقيها رفائيل في الحس فتمهد الدرب، في غير صعوبة، إلى أعماقه. . وفي جمل رائعة يصف فيها حبه وحياته وآلام قلبه فتحس جلده على تحمل آلام اليأس الذي ما كان ليراه يأساً. . وصبره على حرمانه الذي يجد فيه كل المتع، ويلقى فيه من السعادة ما يحمله على الهزء بأسباب لذاذات الناس أجمعين، لذاذات فانية تشمئز من أصحابها. .

كذا يجب أن يكتب الكاتب، وكذا يجب أن يقولوا للناس كباراً وناشئة. . إذ ذاك يكونون قد عرفوا عظم مسؤولياتهم تجاه الجمهور القارئ. وإذ ذاك يكف النقاد عن صيحتهم:(اتقوا الله فيما تكتبون فان عليكم تبعة الأثر الذي تتركونه في النفوس. .) كذلك فليكتب الكتاب، وإذ ذاك يقال عنهم إنهم مخلصون جد مخلصين، وإذ ذاك يكونون أصحاب رسالات في الإصلاح والتهذيب لكل جيل وكل جنس وكل روح:

ص: 54

هذا كتاب للتهذيب!. لعل صاحبه يوم كتبه لم يقصد به إلى هذا، إنما كذلك كانت نفسه، وقد أراد به التعبير عنها ووصف ما خالجها فجاءت هذه الصفحات الرائعة من حياة الوجدان والقلب. وإنما قصد به إلى هذا مترجم تلك الصفحات وناقلها إلى أمته أصدق نقل في أروع أسلوب وأعف حديث. . وأي بلاغة في القول المهذب أعظم من قول رفائيل في معنى (كان حبنا ينمو كل يوم دون أن تمسسه يد النقصان أو الفناء، لأننا كنا لا نقطف ثماره بل ندعها حية يانعة تنمو وتنمو!.) وأي معنى أروع في تهذيب العاطفة من غضبة الشاعر على حبيبته يوم أظهرت له تحسرها على شبابه وأيامه تنطوي بهذا الحرمان في حبها، تلك الغضبة التي تشتد وتحتد، حتى يترك القارئ وفي نفسه أنه لا يذوق لذة فانية من حب مهما تيسر له ذلك، لأن الحب هو لك الذي في قلب رفائيل وحبيبته ليس إلا.

هذا خاطر في النفس أهاجته خواطر في نفوس الناس. . وأن النفس من رفائيل لعوالم، وأن أثر الصفحة منه في الروح كتب. . وأثر الجملة أحلام، وأثر الكتاب تهذيب وصقل وبلاغة قول، وسلامة منطق!. ولا يفكر في ترجمة رفائيل إلا ذو نفس كنفس رفائيل! فهل يشكرها الجمهور على هذه الخدمة الصادقة، أم يشكر ربها الذي براها؟!

وبعد فأن في صدر الساعات الدافئة من الربيع الذي مات، أثراً من آهات خافتة كانت صدى الروعة في النفس، وعمل (رفائيل) في الحس؛ حملتها نفس (الربيع الذي مات) إلى جنة الخلد. . إلى رفائيل!. .

(البصرة)

الآنسة

ف. ن

ص: 55

‌بين اللغة والأدب والتاريخ

الفالوذج

للأستاذ محمد شوقي أمين

- 4 -

توجيه الاشتقاق، الصفات فيه، سبيل العرب في الوضع

، إني سائق لآن هذه الألفاظ بمرة، فمعيدها لفظاً بعد لفظ لبيان وجه الاشتقاق، وعلة الوضع، وتقدير العلاقة بين اللفظ الموضوع وبين مدلول الاسم الأعجمي

والألفاظ هي: السرطراط، السريط، المرطراط، اللمص، اللواص، الملوَّص، الرعديد. المزعزع، الزليل، اللقاء، المزعفر، الصفرَّق

- 7 -

ا - مادة سرط تصف الابتلاع وسهولته، تقول: سرطه وتسرطه واسترطه: ابتلعه. وانسرط في حلقه سار سيراً سهلاً ثم اشتق منها: المسرَط: للبلعوم، والسرواط: للأكول، والسرطة: السريع الاستراط

وقد صيغ من هذه المادة: اسمان للون من الأطعمة، الأول السريطاء، والآخر السرَّيطي، لنوع من الحساء

فلما تعورف الفالوذج، اشتق العرب من هذه المادة: اسمين له، الأول: السرطراط، بكسر السين والراء، ويفتحان، قال السيد مرتضى:(كررت الراء والطاء تبليغاً في وصفه، واستلذاذ آكله إياه إذا سرطه وأساغه في حلقه) وقد جمعه الإسكافي على سرارط. وثاني الاسمين: السريط، قال الفيروزابادي والشيرازي: هو كزُبَيْر، وقال صاحب التاج: الصواب بتشديد الراء المفتوحة

والاشتقاق كما ترى ملحوظة فيه انسياغ الفالوذج، وسرعة ابتلاعه!

ب - مادة مرط تصف الإسقاط والإسراع والأخذ الخاطف تقول: مرط: أسرع، وأمرطت النخلة: سقطت بسرها، وأمرطت الناقة: أسرعت وتقدمت. وتمرط الشعر: تساقط، وامترطه: اختلسه

ص: 56

وقد اشتق من هذه المادة اسم اللهاة، وهو المريطا، لأن الطعام يسرع فيها، ويتساقط إليها. ثم صاغوا من المادة أسماً للفالوذج وهو: المرطراط بكسر الراء والميم على زنة السرطراط، فوجه الاشتقاق هو: ليان الفالوذج وطواعيته لامتراطه والإسراع فيه

ج - تصف مادة اللمص مما تصف: التناول بالإصبع. تقول لمص الشيء: إذا أخذه بطرف إصبعه. قال أبن دريد: لمصت الشيء: إذا لطعته بإصبعك ولحسته

وقد صيغ من هذه المادة اسم العسل، واسم لشيء كان يأكله الصبيان، ذلك الاسم المشترك هو: اللمص؛ بفتح فاسكان فأخذت هذه الصيغة للفالوذج. وعلة الأخذ واضحة، وهي أن الفالوذج كان يتناول بالأصابع، ففي هذا الوضع روعيت طريقة التناول لهذه الحلواء

د - تدل مادة لوص على الحيدان والحركة، تقول: لاص حاد. ولاوص: نظر نظرة الخانل يمنه ويسرة، وأليص: أرعش وما به لويص، أي قوة وحركة. وتلوص: تلّوى وتقلب

وقد وضع العرب من هذه المادة اسماً للعسل. فقالوا: اللواص. ثم قالوا لوصّ الرجل: أكل العسل. ثم كان منهم بعد ذلك أن أشركوا في هذا الاسم: الفالوذج. فسموه: اللواص وأضافوا إليه أسماً ثانياً من المادة نفسها، هو الملوص، وهو اسم مفعول من الفعل: لوصّ الذي كان مستعملاً في معنى تناول العسل، فالتلويص في الفالوذج كالتلويص في الشهد

والوضع في هذه المادة ملحوظ فيه هيئة الفالوذج، فهو يتلوى في الصحاف ويتقلب، ويظل في إرعاش وحَيَدان وهذه الصفة أوضح ما يرى من هذه الحلواء، وأبدأ ما يبدهك من سماتها وصفاتها

هـ - مادتا: رعد وزعزع ظاهرتان في دلالتهما على الهيجان والتذبذب تقول من الأولى: ارتعد: أضطرب، وسمى الجبان: رعديداً، لأنه يشتد به الفرق، فتهتز نفسه حذر المخاوف، وتقول من الثانية: تزعزع الشيء، تحرك تحركاً شديداً

وكان بديهياً أن يلحظ العرب في الفلوذج أنه دائب الارتجاف سريع التحرك، يتزعزع ويتمايل، فيرتضوا له الكلمتين: الرعديد والمزعزع. وقد سبق في طلائع هذا البحث ذكر جواب أعرابي سئل في الفالوذج، فوصفه بالارتعاد، وكذلك مضى وصف الخوارزمي له بالترجرج

ويتحير في صيغ مادة زلل معنى الخفة والسرعة والانزلاق، تقول: استزله: زلَّقة، وزلَّ

ص: 57

هو: زلَق وسقط.

والرجل الأزل: السريع. ويوصف الماء بأنه زُلال إذا كان عذباً صافيا يمرً سريعاً في الحلق

فاجتلب العرب من هذه المادة لفظاً للفالوذج. هو الزليل، إذ كان خفيفاً على اليد حمله، سريعاً في الفم انزلاقه. وفي مبادئ اللغة أنه يجمع على: أزلة. ويستفاد من إثبات صاحب المبادئ لهذا الجمع أنه مسموع فوق أنه مقيس

ز - جاءت نوبة كلمة: الُّلقاء، وتلك لم اعثر عليها في معجم ولا أسفرَت لي في أوراق فقه اللغة. وإنما جرت في كلام لأبي العلاء المعري، قال:(العاجلة، كلبيد الراجلة، يُلقي لتقيها لقاء، ويطعم فاجرها مُرّ المقرات. . .) ثم شرح ذلك فقال: (اللبيد: جوالق صغير، أو خرج. والراجلة: الكبش الذي يحمل عليه الراعي خُرجه. واللقاء: الفالوذج) ولقد فتشت عن هذا اللفظ كل مفتش، فيما بين يدي من المراجع، حتى ضاق به الصدر، فكأن أبا العلاء استخرجه من ملاعب الجن. وما أظن الظنون بشيخ المعرة، فأني لأعلمه: صاحب الغريب، وهدهد الشوارد. فليس لي إلا أن أستريب بحروف هذا اللفظ، وأن أُقدِّر أن تحريفاً عدل به عن كنهه. وكان بودي أن أجلو هنا ما دار به الخاطر فيما عساه يكون الأصل، ولكنني أوثر أن أحجم حتى أسمع كلمة الأستاذ الفاضل الذي بعث الفصول والغايات من مرقدها، فلا بد أن يكون عنده من هذا اللفظ علم، ولعله متفضل فمجيب. وسيتبع إحجامي عن الكلام في الأصل، تأخيري النظر في الاشتقاق. إذ كان هذا متعلقاً بذلك تعلق النتائج بالمقدمات

ح - الزعفران نبات أصفر الزهر، أحمر الصبغ، وزعفره: صبغه بالزعفران. ولا أُحق: أسموا الفالوذج مزعفراً لأنه مصبوغ به، أم لأنه مجعول فيه، أم لأنه على لونه، فالأمر على التشبيه؛ أم لكل هاته الأشياء؟؟ وإن من سنة العرب في التسمية أن يوصف الشيء بالشيء لشبه اللون، فقد وضعوا للأسد أسم الورد، لأنه ورد اللون. بل إنهم سموه: المزعفر، فقالوا: المزعفر: الأسد الورد لأنه أحمر. وقد أنهينا فيما سبق قول بعضهم (فالوذجة مزعفرة) ورجحنا ثمة أن تكون الزعفرة فيه الصبغ والتطييب، وليس الكلام على التشبيه والمشاكهة

ط - أجمع فقهاء الألفاظ على أن الصُّفرُّق اسم للفالوذج، ومثل به سيبويه في الكتاب ونقله

ص: 58

الصاغاني عن كتاب الأبنية، وقال في اللسان: هو الصُّفروق. ولم يثبت بناء الصفرُّق. وقد انتقب وجه الاشتقاق لهذه الكلمة، فيما لدى من المظان. فالكلمة في مادتها يتيمة، إن شئت قلت: درة لها من استئحادها عضمة وزهو، وان شئت قلت: شريدة لا يؤاخيها شيء، ولا تجد لها منتمى. وأنا حابس القلم الساعةَ عن اقتحام الكتابة في زائد حروفها، ومرجعها إلى الصفرة في اشتقاقها، والوجه في ذلك كله، فلذلك مجاله أخرى

(للبحث صلة)

محمد شوقي أمين

ص: 59

‌رسالة الشعر

في سبيل الله والعروبة والوطن

المجاهد

للأديب السيد جورج سلستي

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)

اَلحبُّ والأمَلُ الوضيءُ كلاهما

صَبَوَا إليه معاً فأَعرضَ عنهما

وهَفَتْ لَهُ الدنيا الطروبُ فعافَها

وتَعَلَّقَتْهُ فَصدَّها متبرّما

وَسَعى الثراءُ إليه يخطبُ ودَّهُ

فأبى وآثَرَ أَنْ يظلَّ المُعْدِمَا

واُلْحرُّ يَهْزَأُ بالنُضَارِ ويزدري

متَعَ الحياةِ إذا دعا داعي الحمى!

هَجرَ الأحبّةَ والمنى مُتَحَدِّياً

جُهْمَ النَوَائبِ ضاحكاً مبتسّماً

بَطَلٌ بدا فيه الوفاءُ ممثّلاً

وبدا الإباءُ بشخصه متجسّما

بَطَلٌ يَمُورُ العَزْمُ في قَسَماتهِ

أبدأً يُرَى ثَبْتَ اَلْجنانِ غَشَمْشَما

تَتَساََءلُ الآجَامُ إِمَّا يجتمعْ

بالليثِ أَيُّهما الغَضَنْفَرُ منهما

بَطَلٌ مَشى مُستَبْسِلاً ليَذودَ عن

وَطَنّ يَعزُّ عليه أَنْ يَتَقَسَّما

إِنّي أَرَاهُ وقد ذكا لَهَبُ الوغى

وتَسَعَّرَتْ نيرانُهَا متحدّما

مُتَوَثّباً أَبداً على أَعدائه

شَأْنَ الأتيّ تَدَفّعاً وَتَهَجُّمَا

يُصْلي فوارسَهُمْ وهم يُصْلونَهُ

ناراً أَشَدَّ من اَلْجحيمِ تَضَرُّمَا

فإذا هُمُ أنهزموا فذاكَ، وإن قَضى

صلّى الإلهُ على ثَرَاهُ وَسلّمَا

يا سائلي عَمَّن قضى مُسْتَشْهِداً

روحي فداؤك عارفاً مُسْتَعْلِما

أَتقولُ مَنْ آلُ الشهيد وكلنا

عَرَبٌ نَمانا للمعالي مَنْ نَما؟

للعُرْبِ نُنسَبُ حينَ ينتسبُ الورى

ولسانُنَا العَرَبيُّ أَشْرَفُ منتمى

والعُرْبُ مهما تَخْتَلِفْ أَهواؤهم

أَهْلٌ يؤاخي العيسويُّ المُسْلِما

إِنَّا تُوَحّدْنا العَرُوبةُ أَينما

كنّا وتجمعنا المكارمُ حيثما

والفَذُّ بين القوم ملْكُ بلاده

إِنْ عالماً أو فارساً أو مُلْهَمَا

ص: 60

والرُزْءُ فيه فجيعةٌ وطنيّةٌ

عظمى تئنُّ لها البلادُ تأَلُّمَا

يا مَنْ ينامُ الليلَ مِلَء جفونه

ويعيشُ مَوْفُورَ الرخاءِ مَنعَّما

أَهْلوكَ في مسرى النبيّ تجشّموا

ما لا يطيقُ الصَخْرُ أَنْ يتجشّما

وتحمَّلُوا ما لو حَمَلْتَ أَقَلّهُ

لَغَدَوْتَ أَشْبَهَ بالَخيالِ أو الوما

والنومُ أَبعدُ ما يكونُ عَنِ العُيُو

نِ وقلّما تلقى هنالك نُوّما

فكأَنما نسى الكرى أَجْفَانَهم

مِنْ طوْلِ ما سَهِرُوا الليالي قُوَّما

وَسَلَتْ مضاجعَها الجوانبُ بعد ما

أَمسى الهناءُ على النفوسِ مُحرَّما

والْحَربُ من حولينِ ما زالتْ مُؤَجْ

جَجَةً وما زالَ المنايا حُوَّما

فامددْ يداً بيضاَء تُسْعِفْ عاجزاً

أو تَأْسُ مَكْلوماً وتُنْجِدْ أَيِّما

ولقد عرفتُك باذلاً متكرّماً

فَأَعِنْ بمالكَ مَوْطِناً متردّماً

هو مَوْطنٌ غَمَرَ الأَسى باحاتِه

وغدا الشقاءُ على بَنيهِ مُهَيْنِما

قد كانَ مثل العُرْسِ بَّسامَ الرؤى

طَلْقاً فحوَّله الأجانبُ مَأْتما

قَدْ باتَ يَنْطُفُ عَنْدَما بالأوصيا

ءِ وكانَ حتى الأَمْس يَنْضَحُ بلسما

قد كانَ مِنْ أَفْضَالِ رَبّكَ جنَّةَ ال

دنيا فَصَيَّرَهُ الدخيلُ جَهَنَّما

إِن الدخيلَ، وإِنْ تَأَلَّهَ، مُجْرِمُ

مُتَنكِّرٌ فاحْذَر - فُدِيتَ - المجرما

قالوا التمدُّنُ عَنْ يَدَيْهَ فقلتُ لا

كانَ التمدُّنُ عَنْ يَدَيْهِ مُتَمَّما

أَين التمدُّنُ عند مَنْ يَنْز وهوىً

ويروغُ ثعلبةً ويسعى أَرقما

أَمن التمدُّنِ أَنْ يُبَاعَ الدينُ بال

دنيا وتُغتَصَبُ الحقوقُ وَتُهْضَما

وَيُحَلَّ قَتْلُ الأبرياءِ وهَدْمُ دو

رِ المُبْعَدِينَ وَنَفْيُ أَحرار الحمى؟

أمُعَيَّري بالبَرْبَريَّةِ إِنني

متأخّرٌ فاهنأْ وكُنْ متقدّما

إِني لأَهوى البربريةَ إِنْ يَكُ الت

مدينُ هَضْمَ الحقِّ أو سَفْكَ الدما

ولقد تركتُ لكَ الرقيَّ فَخَلِّنِي

متسكّعاً بين الجهالة والعمى

فأنا امرؤٌ نزَّهِّتُ عن حَمَاءِ الخنا

نَفْسي وآبى أَنْ أُقارفَ مَأْثما

يا حارسَ الحرمَ الشريفَ وحامياً

مَهْدَ المسيحِ وأنتَ أَشْأَمُ من حَمَى

المهدُ واَلْحَرمُ الشريف تملمَلا

ولو استطاعا من أَسىً لتكلَّما!

ص: 61

للبُطْلِ صولةُ ساعةٍ فإذا انقضتْ

وتصرَّمتْ ولّى الطغى وتصرَّما

لا بدَّ إِمّا عاجلاً أو آجلاً

للحقَّ أَنْ يعلو وَأَنْ يتسنمَّا

والظُّلْمُ أَوْخَمُ مَرْتَعٍ فاحذرْ إذا

كنتَ الحكيمَ المرتع المتوخما

أَأَخي الشهيد لقد قَضَيْتَ مجاهدا

ليعيشَ مَوْطِنُك الحبيبُ مُكَرَّما

يهنيكَ أَنْ وَفَّيْتَ قسْطَك للعلي

وَرُزِقْتَ حَيّاً عند ربّك في السما

(بيروت)

جورج سلستي

ص: 62

‌في السماء

للأستاذ سيد قطب

أيقنت أنبل ما يُجِنُّ ضميري

وبعثت جوهر عنصري المطمور

فإِذا أنا الروح التي تسمو بها

دنيا الحياة لأوجها المنظور

وإذا أنا النور الذي تجلو به

تلك الحياة غياهب الديجور

وإذا أنا الشوق الذي يحدو لها

فتَغِذُّ بين مسالك وصخور

وإذا أنا الشعر الذي تشدو به

في نشوة وتجيش بالتعبير

وإذا أنا الخير الممحض والهدى

والحب والنجوى خلال ضمير

فبأي معجزة كشفت ضمائري

وجلوت كل محجب مستور؟

وغذوت فيَّ فضائلي ورويتها

حتى أطلت بالجني المذخور؟

وجعلت من زاد الخلود مطامحي

وجعلت أشواقي صلاة طهور؟

بالحب والحسن الوديع ونظرة

بيضاء صافية تريح شعوري

وتُحيل أشواقي رضاء مخلّد

راض بخلد لم يُشَبْ بقصور

وتحيلني روحاً تَرِفّ على الورى

كالعطف، أو كالحب، أو كالنور

فإِليك تسبيحي وهمس سرائري

وإِليك غاية غبطتي وسروري

حلوان

سيد قطب

ص: 63

‌البريد الأدبي

رأي الأستاذ مارجليوث في تيسير القواعد العربية

أذاع راديو لندن في الأسبوع الماضي الحلقة الثانية من سلسلة محاضرات كبار المستشرقين البريطانيين في موضوع (ما الذي تعلمته من الناطقين بالضاد) وهي محاضرة الأستاذ مارجليوث

وقبل أن يتلو المذيع المحاضرة حيا الأستاذ مارجليوث المستمعين بكلمة قصيرة ألقاها بلغة عربية فصيحة

وقسم الأستاذ مارجليوث محاضرته إلى قسمين الأول ما الذي تعلمه هو شخصيا من الناطقين بالضاد والثاني ما الذي تعلمه غيره من الأوربيين

ثم ذكر ألفاظاً كثيرة من المصطلحات المستعملة في اللغات الأوربية والمشتقة من أصل عربي أو جاءت إلى أوربا عن طريق العرب، وقال إن أوربا مدينة للحضارة العربية بالشيء الكثير

وبحث في أحوال اللغة العربية وقواعدها واتساعها وغناها وأشار إلى اقتراح بعضهم تسهيل قواعدها وانحنى باللائمة عليهم وقال إن ما يقترحونه لا يكون تيسيراً بل تعقيداً ويثقل حافظة الطالب بمجموعة جديدة من القواعد هو في غنى عنها

وخطأ القائلين بأن الألفاظ العربية الشفهية أصح وأوضح من المكتوبة، ثم قال إنه لا تأثير للتعصب الجنسي والديني عند العرب، وأن في عصور الإسلام الزاهرة كثيرين من الحكام والقواد والعلماء وقادة الرأي من غير العرب أو المسلمين. وذكر أن صلاح الدين الأيوبي كان كردياً، وإمام المحدثين البخاري والطبري وأبن رشد وأبن خلدون لم يكونوا عرباً أصليين

واختتم محاضرته قائلاً:

(وقبل أن أختتم كلمتي يجب أن أوفي المصريين حقهم من الثناء لما أدوا من الأعمال في خدمة اللغة العربية، وقد عرفت من هؤلاء كثيرين وتشرفت بصداقتهم في سنة 1904 عندما حللت القاهرة لأمر يتعلق بالجامعة، وكان لي شرف الاتصال بالإمام الكبير المرحوم الشيخ محمد عبده، وعرفت كذلك المرحوم السيد رشيد رضا الذي كتب سيرة الشيخ محمد

ص: 64

عبده وكان صاحب مجلة المنار ذات الفائدة الكبيرة لكل من تصدى لدرس الإسلام، والعالم السيد توفيق البكري صاحب المؤلفات النفيسة، والصحافي الكبير الدكتور يعقوب فارس نمر، وزميله العالم المرحوم الدكتور يعقوب صروف والمرحوم جورج زيدان، وشاعر مصر المرحوم حافظ إبراهيم، وأمير الشعراء أحمد شوقي وقد أسمعني قصيدته عن أثينا، والمرحوم سليمان البستاني مترجم إلياذة هوميروس إلى العربية، وكذلك اتصلت بالشيخ طنطاوي جوهري صاحب تفسير القرآن والذي جاهد كثيراً في التوفيق بين العلم والدين، وعرفت أخيراً البحاثة المرحوم أحمد زكي باشا الذي شغف بجمع الكتب القديمة والمخطوطات، وكان لي شرف الاتصال عن طريق المراسلة بالمرحوم تيمور باشا. ويرجع الفضل في نهضة مصر إلى هؤلاء العلماء الإجلاء الذين نهض كل منهم بنصيبه في خدمة اللغة والعلم)

مصر المستقلة

تعمل جماعة (الدراسات الإسلامية) بمعهد دراسات السياسة الخارجية في باريس على وضع مجموعة من المؤلفات عن العالم الإسلامي، ولا شك في أن المكانة التي يحتلها وادي النيل في هذا العالم جعلت القائمين بأمر الجماعة المذكورة يوجهون إليه اهتمامهم ويضعون المؤلف الأول من مجموعتهم عن (مصر المستقلة).

وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام: الأول خاص بالتطور السياسي والاجتماعي في مصر وهو يتناول تكوين الدولة المصرية (1805 - 1918) وحالة الأمة المصرية غداة الحرب وتطورها من 1918 إلى 1936، والأزمة الإنجليزية المصرية السياسية بعد الحرب، وفترة الانتظار من 1925 إلى 1934، وتطور الشبيبة المصرية وتحرير مصر بمعاهدة 26 أغسطس سنة 1936

والقسم الثاني خاص بالأجانب ونظامهم في مصر وهو يبحث نظام الامتيازات قبل مؤتمر مونترو ومصالح الأجانب في مصر، ومؤتمر مونترو ونتائج هذا المؤتمر.

والقسم الثالث خاص بالحالة الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية في مصر.

والقسم الرابع والأخير يتضمن دراسة خاصة عن تاريخ الصحافة المصرية وتطورها، وفي ختامه كشف بجميع الصحف والمجلات من عربية وإفرنجية التي تصدر في مصر.

ص: 65

ومن يتصفح كتاب (مصر المستقلة) يجد أن هناك مجهوداً كبيراً قد بذل في وضعه لا سيما وأنه يتضمن معلومات وافيه عن التطورات السياسية التي مرت بوادي النيل في الأشهر الأخيرة.

مجمع علمي أدبي في حيدر أباد

جاء من مراسل الشرق العربي في بمباي أن لفيفاً من رجال العلم والأدب في حيدر أباد أسسوا مجمعاً علمياً باسم (مجمع حيدر أباد) لتشجيع التأليف والأدب. وسيعمل هذا المجمع برعاية شخصيات كبيرة بينها أمير بيرار وسراكبر حيدري رئيس مجلس وزراء حيدر أباد والمهراجا كيشن برشاد بهادور. ونواب سالا رجونغ بهادور وغيرهم. وسيصدر المجمع مجلة باللغة الإنجليزية ولغة الأوردو ينشر فيها أبحاث أعضائه ومقتطفات من مؤلفاتهم وترجمة بلغة الأوردو لدائرة المعارف الإسلامية. وستنشر المجلة أيضاً أبحاثاً عن المؤلفات المعروفة في اللغات السنسكريتية والفارسية والعربية والهندية المختلفة، وقد انتخب نواب مهدي ياربهادور مدير جامعة (عثمانية) وعضو مجلس حيدر أباد التنفيذي التهذيب والسياسة رئيساً للمجمع.

كتاب عن فلسطين في ثورتها

لم ير العالم ثورة صادقة الإيمان كتلك التي شب أوارها في فلسطين، والتي يجود فيها العرب بأرواحهم وما ملكت أيمانهم في سبيل الذب عن وطن يحاول اليهود أن يجعلوا منه أرض المعاد، ويتخذوه وطناً قومياً لهم، بعد أن شردوا طول الزمن.

فلا عجب أن لفتت هذه الحركة العربية أنظار الكتاب والسياسيين على السواء فصدرت عنها المؤلفات بأقلام من تعنيهم دراسة هذه الناحية ومن ذلك ألمت فيه مؤلفته بالثورة في فلسطين، وما قدمه العرب من تضحيات عجيبة، ورفضهم أن تكون فلسطين وطنا لليهود تنفيذاً لوعد بلفور، وأبوا أن يجعلوا هذه الأرض المقدسة (عند المسلمين والنصارى على السواء أرضاً للفئة التي لقيت المسيحية منها أشد عدوان في مستهل ظهورها، وناهضت المسيح ما وسعتها الحيل وأسعفتها القوة) وقد زارت السيدة اليزابث مؤلفة هذا السفر فلسطين، وجالت في نواحيها، واتصلت بكثير من رجال العرب والثورة هناك فلم تر

ص: 66

فيهم إلا (توطيد النفس على عدم تقسيم فلسطين العربية) وهي تصف في دقة الشهامة العربية التي مهدت السبيل للعرب في أمسهم الدابر لأن يكونوا سادة أهل العصور الوسطى.

وتقول المؤلفة (أن عجلة الزمن تسير في وناء في هذه البلاد (فلسطين) التي يرجع تاريخها لا إلى عدة قرون فحسب، بل إلى آلاف السنين الغابرة. وإن التلال الخالدة، والصخور الباقية منذ القدم التي شهدت مجيء إبراهيم بعائلته، وأطلت على قطعانه وقومه، لتشهد اليوم أرضاً قد ألقيت البغضاء بين أهلها. وإن العرب واليهود ليقفون اليوم وجهاً إلى وجه متخاصمين متنابذين. لقد كان أحد الخصمين يرتكن من قبل على ماله وثرائه في نيل مطالبه، أما اليوم فتؤيده القوات، ويشد أزره أعضاء منه في مختلف الحكومات، وأما الخصم الأخر فلا يملك غير إيمانه بحقه، وإنه ليستشهد مقبلاً غير مدبر، باسماً غير عابس، راضياً غير مكره، حتى ينال مطلبه أو يموت دونه شهيداً)

وهكذا نري المسألة الفلسطينية اليوم لم تعد شغل الساسة فحسب، بل كان من آثارها هذه الكتب التي تتناول فلسطين من نواحيها المختلفة، كما استطاع العرب بفضل ثباتهم أن يجتذبوا إلى جانبهم العطف الأدبي عند كثير من رجال الحكومات المختلفة.

من الأستاذ الكرملي إلى المرحوم الرافعي

(لما أصدر المرحوم الرافعي كتابه (وحي القلم) في يناير سنة 1937 أهدى نسخة منه إلى صديقه العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي عضو المجمع اللغوي؛ فبعث إليه بالرسالة التالية وفيها مسائل لغوية يطلب حلها، وقد وقعت لي هذه الرسالة بين ما خلف الرافعي من أوراق، ولم أعلم ماذا كان رد الرافعي عليها، فآثرت نقلها إلى قراء الرسالة ليروا رأيهم في هذه المسائل اللغوية التي تناولتها رسالة العلامة الكرملي. وهذه هي الرسالة:

إلى حضرة فخر بلغاء المصريين الأستاذ الجليل مصطفى صادق الرافعي، رفعه الله إلى أعلى مقام

أبدأ كلمتي هذه بتأدية عبارات الشكر الصادق للهدية التي أطرفتني بها وأنت نابغة بلغاء مصر على ما أعتقده في صميم القلب.

وأحسن دليل لذلك أني اقتنيت جميع مؤلفاتك وزينت بها خزانتي فأرجع إلى مطالعتها الفينة

ص: 67

بعد الفينة كلما أردت أن أنزه نفسي وأطربها وأربحها من متاعب الحياة. إذن حل عندي (وحي القلم) محلاً رفيعاً لما حوى من مختلف الموضوعات التي جاءت بأفصح عبارة وأبلغها، بل تتحدى كل كاتب أن يأتي بضرعها؛ ولا سيما لأن أغلبها لم تمر على خاطر من سبقنا في الكلام؛ ولهذا اعتبرت دائماً الأستاذ الرافعي جاحظ العصر، أو أبن مقفعه، أو بديع زمانه. وقد نصحت لكثيرين من أبناء العراق أن يطالعوا ما كتبه أو يكتبه إذا أرادوا الجري فالسبق في ميدان الفصاحة والبلاغة ورفيع الإنشاء، فأخذوا بكلامي

بقي الآن أن أسألك عن أشياء لم أستطع أن أهتدي إليها، فالرجاء منك أن تعينني على تفهمها:

1 -

جاء في الجزء الأول في ص6 ذكر (الكهربائية) والذي اعلمه أن الكهرباء قصور لا ممدود. وقد صرح بذلك صاحب تاج العروس؛ وجاء بالقصر أيضاً في جميع أسفار الأقدمين من العصر العباسي، فأن صحت هذه الرواية أفننسب إليها بالهمز أم بحذف الألف فيقال كهربي وكهربية كما يقال مصطفىّ ومصطفية على ما صرح به سيبويه، وإلا فأي فصيح قال كهربائي؟

2 -

في ص8 ورد ذكر (المصنع) والعرب لم تنطق به. على أن القياس لا يمنعه، وقد ورد في الصحف والكتب العصرية ولا يزال يرد بهذه الصورة، ولكن ألا يتخذ الكاتب البليغ الكلمة التي جرت على أسلات السلف وهي (الطِراز) فقد قال في القاموس:(الطراز. . . الموضع الذي تنسج فيه الثياب الجديدة)؟

3 -

وفي ص10 ذكر (الديناميت) فلو قيل البارود الناسف أو أن نكتفي بقولنا (الناسف) أو (النسَّاف) كما يقول العراقيون، عامتهم وخاصتهم، أما يكون أحسن؟

4 -

وفي ص34 جاء ذكر (ملك الزمن الربيعي)، وأنا لم أجد إلى الآن فصيحاً نسب إلى الربيع بإثبات يائه بل قال (الرَّبّعي) فهل عثرت على مثل كلامك في (كتاب بليغ صحيح قديم)؟

5 -

وفي تلك الصفحة قيل (يضحك ويستحي) وقد تكررت استحى يستحي وزان افتعل يفتعل مراراً كثيرة وقد أنكرها بعض الفصحاء وقالوا في مكانها استحيا يستحي

6 -

وفي تلك الصفحة (تراها - أي الطاقات - عطرة بيضاء) وأنا لم أجد إلى الآن في

ص: 68

شعر أو نثر من وصف جمعاً مؤنثاً سالماً لعاقل أو لغير عاقل بوصف مفرد مؤنث وهي من باب أفعل فعلاء الدال على لون أو عيب أو حلية. فهل مرت تحت عينيك هذه الصيغة في كلام قديم بليغ من أهل الجاهلية أو صدر الإسلام؟

7 -

وفي ص35 ورد: (تعطي لكل شيء تماماً) وهو تعبير جائز؛ لكن ألا يكون أبلغ لو قيل: تعطي كل شيء؟

8 -

وضبطت (البلُّور) في ص44 وزان تنُّور، كما في القاموس؛ ولكن اللغويين البصراء الحُذَّاق الأئمة أنكروها وفضلوا عليها البِلّوْر وزان سِنَّوْر، كما في اللسان ولم يعرفوا سواها. فما الجواب؟

9 -

في ص45 (تحتاجه الحياة) وهذا من باب الحذف والوصل، وهو كثير في كلامهم؛ لكن أليس الأبلغ أن يقال (تحتاج إليه الحياة)؟

10 -

كنت أظن أن (البركان) الوارد في ص101 وسواها لفظة لا نعرفها العرب الأقدمون، بل كانوا يعرفون (الأطمة)، أفليس الأحسن لنا أن نقر ألفاظ السلف على ألفاظ الخلف التي لم يعرفها الأوائل وفيها خلف ظاهر؟

11 -

ضبطت في تلك الصفحة (وغلظته) بضم الميم وأنا لم أجدها في معجم.

12 -

وكثيراً ما جاءت (النواميس) ومفردها (الناموس) في وحي القلم ففي ص102 (إن النواميس الطبيعية) وفي ص9 من الجزء الثاني: (في تحقيق ناموس)؛ وقد تكررت الكلمة مفردة ومجموعة. وكنت أتوهم أن العرب لم تعرف هذه الكلمة بمعنى (السنة) وإنما جاءت بمعان أخر مذكورة في دواوين اللغويين. أما الناموس بهذا المعنى (أي بمعنى السنة) فقد أدخلها (النصارى) المعربون منذ صدر الإسلام لوجودها في التوراة والإنجيل بهذا المعنى. وكذلك تراها مبثوثة في كتب المنطق والفلسفة والطبيعة والطب واللاهوت وما وراء الطبية؛ لكن فصحاء المسلمين لم يحقوها ولم يقروها في أسفارهم ولا في معاجمهم، فهل وجدتها بهذا المعنى في الدواوين القديمة في غير ما أشرت إليه من التصانيف؟

. . . هذه بعض أسئلة - وليس فيها شيء من النقد، معاذ الله - وقد خطرت ببالي وأنا أتلذذ بتصفح هذا السفر الفذ، وأتوقع الجواب عنها. فعسى ألا أحرم أنوارك المبددة للظلمات، وأختم كلمتي هذه بالشكر ثانية لأياديك البيض كما بدأتها به.

ص: 69

(الأب أنستاس ماري الكرملي)

. . . فإلى اللغوي العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، أن يتفضل على قراء الرسالة بنشر ما قد يكون وصله من جواب الرافعي على هذه المسائل

وإلى اللغويين من قراء الرسالة أن ينشروا على القراء رأيهم في جواب هذه الأسئلة، وإلى النقدة من كتَّاب العربية أن يقرءوا هذه الرسالة لعلهم يجدون فيها مثلاً في أدب النقد

وفي صفحات الرسالة متسع إن أذن الأستاذ الزيات.

محمد سعيد العريان

ص: 70

‌الكتب

الحيوان للجاحظ

تحقيق وشرح الأستاذ عبد السلام محمد هارون

للأستاذ عبد المنعم خلاف

أقدم عملاً عظيماً في لون من ألوان الأدب العصري لم يوجد إلا بعد أن وجدت المطبعة، ووجدت بحوث المستشرقين وفن إخراج الكتب

وهو عمل يتصل بالعلم بما فيه من التحقيق وتحرير النصوص، ويتصل بالأدب بما فيه من ملكة التذوق والترجيح واستفتاء الثقافة الأدبية والاعتماد على المحفوظ المذكور من نصوصها، ويتصل بالفن بما فيه من تنسيق وتبويب وإخراج جميل يروع ويجذب العين واليد إلى الكتاب

وكاد هذه العمل يكون خاصة موقوفة لأقلام علماء المشرقيات الأجانب لولا نفر قليل من المشارقة أنفسهم ساهموا بأقلامهم في هذا العمل النافع القيم الذي هو في الحق ميلاد جديد للكتب القديمة تهتز له عظام مؤلفيها القدامى غبطة بتسهيل الانتفاع بما تركوا من آثار جليلة قد يذهب بما فيها من الفائدة عند شباب هذا الزمان أنها ألفت على غير ما ألفوا من الكتب الحديثة المبوبة التي يعلن فيها كل مبحث عن نفسه في سهولة واقتراب إلى الأذهان التي لم تتعود الصبر والجلد على التعرف إلى الآثار القديمة لانقطاع الأسباب وبعد الزمن وتغير الأساليب وكثرة الملاهي وحب السرعة، ومرض الهمة وكلال العزيمة

وإذ أقدم هذا العمل العظيم أشعر في نفسي بغبطتين: الأولى غبطتي ببعث مكتبة الجاحظ أديب العربية العباسية الأكبر، ووارث علوم علمائها وأدب أدبائها وخفة ظرفائها، وسجل دنياها الزاخرة، ومصور حياتها المتشبعة، بعث فيه من الجدة والفن والطرافة ما يخيل إلينا أنها انحسرت عنها قريحة معاصرة

والثانية غبطتي بأن هذا البعث كان على يد صديقي الثبت الضليع الأستاذ عبد السلام محمد هارون الذي أعرفه كما اعرف نفسي إذ كان صديقي الأول وصنوي في عهد الدراسة العزيز

ص: 71

وأخشى أن يحسب حاسب أنه قد طغى وثوقي بهذه الشخصية وحبي لها على تقدير عملها في (الحيوان) تقديراً بعيداً عن الغلو، كما أخشى أن يظن ظان أن الأمر في هذا التقديم مرجعه إلى (توريط) الصداقة وتقريظ الأصدقاء بعضهم بعضاً. وحسب ذاك الحاسب وهذا الطغيان أن يرجعا إلى الجزء الذي طبع من الحيوان ليريا المجهود فيعرفا الشخص الذي بذله كما عرفته أنا منذ خمس عشرة سنة أدبياً متصلاً بصميم الأدب العربي مقلباً يده وعينه في مراجعه القريبة والبعيدة ممتلئاً من حُر نصوصه.

وإذا كانت الأمور تقاس وتقدر بما يبذل فيها من مجهود له نتيجته النافعة فأظن أن ما في المطبوعة الحديثة من الحيوان من التحقيقات وتحرير النصوص وفهارس المعارف وأجناس الحيوان وأعلامه وأعلام الناس والقبائل والطواف والبلدان والأماكن والأمثال والشعر والأرجاز واللغة والكتب وأيام العرب، أظن هذا كله عملاً أشق وأنفع من كثير من الكتب التي يرسلها مؤلفوها إرسالاً سهلاً. وأظن أنه يستتبع تقدير صاحبه تقديراً ترضى به نفسه. وقد صار العلم الآن بما في الكتب القديمة سهل المورد بأمثال هذه الفهارس التي تنفض ما في الكتب نفضاً، وتعلن عن كل كلمة فيها إعلاناً عريضاً يأخذ بعيون الباحثين إلى ما يلقون من الأشباه والنظائر والمختلفات، مما يوفر عليهم الجهد والوقت والاستذكار، حتى لقد شاعت هذه الكلمة (أن العلم الآن معرفة ما في الفهارس)

وقد ابتدع الأستاذ هارون فهرساً قيماً لما في الحيوان من المعارف التي وضع لها هو أيضاً عنوانات فصلت أثناء الكتاب، وهو لون طريف في التعريف بما ورد في الكتاب حشوا في غيره، مما قد يمر عليه القارئ عفواً بدون ترقب ولا تعقب؛ وهو عمل عظيم في كتب شأن مؤلفيها الاستطراد وإلقاء ما في الذاكرة متى حضر ولو بدون مناسبة قريبة، وإنما هو جود الذاكرة.

والأوائل كانوا على رأي في الأدب هو انه الإلمام من كل شيء بطرف، ولذلك كانوا يخرجون كتبهم الأدبية إخراجاً يرضي هذا التعريف. فكانت كتبهم الغالبة أشبه شيء بحديث المجالس وأماليها. غير أن هذا اللون من التأليف نبأ عنه الذوق العصري الذي لا يرضي من المعارف إلا ما كان فصائل وأجناساً مضموماً بعضها إلى بعض مميزة بعنوانات تضم الشتيت كما يضم اللقب الأسرة، ولا يرضي أن يذهب فكر القارئ شعاعاً

ص: 72

وبدداً هنا وهناك وقت القراءة.

وعلى ذلك كل عمل يرشد القارئ الجديد إلى ما يبحث عنه في بطون الأسفار القديمة رأساً بدون اضطراره إلى الخوض في بحر لا ساحل له، وفي مباحث لا حاجة له إليها، فهو عمل من أعظم ما يربط أسباب الجديد بالقديم ويجلو الدرر المدفونة بين طيات الكتب التي فيها كثير من الحصا والتراب.

وقد قدم الأستاذ هارون (مكتبة الجاحظ) التي (سيعمل جهده على إخراج ما يمكن منها بعون الله ما مد له في الحياة) تقديماً بديعاً تحدث فيه عن بيان الجاحظ وعصره والتأليف في عصره ومؤلفات الجاحظ ومنحاه في التأليف وقيمة كتبه في نوادي الأدب وذيوعها ووراقيها. وقد أتى في هذا الحديث بفوائد ممتعة.

وقد قدم كذلك كتاب الحيوان تقديماً خاصاً عرض فيه لمنشأ التأليف في الحيوان عند العرب ولمراجع الجاحظ في تأليف كتابه من القرآن والحديث والشعر العربي وكتاب الحيوان لأرسطو ومحاولات المعتزلة وجدالهم فيما بين أيديهم من ألوان المعارف جليلها ودقيقها؛ ثم المجهود الشخصي للجاحظ وولوعه بمباحث الحيوان ولوعاً حمله على أن يجالس الملاحين وصائدي العصافير والحوائين وغيرهم من القائمين على شؤون الحيوان. وهو لعمر الحق مبحث في غاية النفاسة وفي صميم الأدب الأصيل اهتدى إليه الأستاذ هارون ابتداء، لم يسبقه إليه سابق فيما أعلم. ومن المباحث القيمة أيضاً في هذا التقديم تحقيق زمن تأليف الجاحظ للحيوان وتبيين قيمة كتاب الحيوان بما فيه من المعارف الطبيعية والمسائل الفلسفية وسياسة الأقوام والأفراد ونزاع الطوائف، والمسائل الجغرافية وخصائص الأجناس وقضايا التاريخ وأحاديث الطب والأمراض والمفردات الطبية، وأحوال العرب وعلومهم ومزاعمهم، ومسائل كثيرة في الفقه والدين، مضافاً إلى ذلك كله فكاهة الجاحظ الساخر، أو فلتير الشرق - كما لقبه الأستاذ الزيات - واختياره للصفوة المختارة من حر الشعر العربي ونادره. . . إلى أخر ما تمتاز به مؤلفات أبي عثمان البحر. . .

(وبعد) فنظرة واحدة إلى صفحة من صفحات الكتاب بصلبها وهامشها تقف القارئ مباشرة على مقدار الجهد العنيف الذي بذله الأستاذ الصبور محقق الكتاب، في ضبط الألفاظ وشرحها وفي مقابلة النسخ القديمة التي اعتراها كثير من التصحيف والتحريف، وفي أمانته

ص: 73

وحرصه على استئذان القارئ فيما أثبت أو نفى من أوضاع الكتاب وكلماته وتوجيهاته. مع تواضع جميل يعرف في طبعه كما يعرف في قوله من تقديم الكتاب: (وأما أنا فلست بمكان من يدعي العصمة أو يخال السلامة، فليس يكون ذلك إلا لمن ذهب عن نفسه وتعلق بالباطل

(ولكنني يعجبني أني بذلت فيه غاية الجهد وأني التزمت جانب الأمانة فلم أسقط حرفاً ولم أزد حرفاً إلا استأذنت القارئ)

ثم نظر أخرى إلى ثبت مراجع تقديم الكتاب وتحقيقه وشرحه ترى القارئ مقدار سعة اطلاع الأستاذ واهتدائه إلى مواطن القوى فيما يشتبه عليه من خبر أو نص أو توجيه وإلى ما يعتمد عليه في إخراج هذا السفر الجليل وما وراءه من مكتبة الجاحظ

فجزاه الله الكريم وأمتع به أصدقائه ونفع بجهوده الموفقة اللغة العربية

والشكر الجزيل لحضرات ناشري الكتاب في ثوبه الأنيق وورقه الفاخر وحروفه الواضحة

عبد المنعم خلاف

ص: 74

‌المسرح والسينما

أخبار الأسبوع

شيء من لا شيء

يبتدأ اليوم 10 أكتوبر في عرض فلم (شيء من لا شيء) على ستار سينما أستوديو مصر وهو من أفلام أستوديو مصر لهذا الموسم. وبطلاه هما عبد الغني السيد (هلال) ونجاة علي (نجمة) والفلم غنائي كوميدي اشترك فيه جمجوم وشفيق والقصري من كبار ممثلي الكوميدي في عالم المسرح المصري. وهو من إخراج الأستاذ (بدر خان). والمنتظر أن يمتد عرضه بضعة أسابيع، لأنه يعتبر تحفة الموسم الغنائية بغير منازع

مارجريت لوكووود

اختيرت (مارجريت لوكووود) بين ثلاثة وعشرين نجمة، نموذجاً للفتاة الإنجليزية وذلك للقيام بتمثيل الدور النسائي الأول في فلم (أود بوب) الذي يخرجه الكسندر كودرا. كما اختير النجم الإنكليزي (جون لودر) لتمثيل الدور الأول بعد أن كان ترتيبه الأول في نفس المباراة للرجال ويرى القارئ صورتهما مع هذا الكلام

الدكتور

المنتظر أن يكون الأستاذ نيازي مصطفى في نهاية هذا الأسبوع قد انتهى من تصوير الديكورات المعارة في فلم الدكتور وبذلك لا يبقى غير أجراء المونتاج النهائي وذلك تمهيداً لعرضه قريباً. ومما هو جدير بالذكر أن السيدة دولت أبيض تقوم في هذا الفيلم بدور هام كبير يتفق مع سنها وأدوارها المسرحية. وقد سبق أن ذكرنا أن بطليه هما الأستاذ سليمان نجيب والآنسة أمينة رزق وبهذا الفلم تكون المفاجأة الثانية للأستوديو لهذا الموسم

يوسف وهبي على مسرح ماجستيك

يستعد الأستاذ يوسف وهبي استعداداً كبيراً لافتتاح موسمه الأول لهذا العام على مسرح الماجستيك بشارع عماد الدين، وهو المسرح الذي كان يعمل به على الدوام الأستاذ علي أفندي الكسار. . والمعروف حتى الآن أن الأستاذ وهبي يبدأ بروايات قوية جديدة وأن

ص: 75

الروايات السابق تمثيلها لن تمثل إلا في أيام العيد. ونحن نرجو أن يصادف الأستاذ وهبي في موسمه الشتوي، وخاصة في شهر رمضان المبارك الذي يبدأ فيه عمله، ما صادفه في موسمه الصيفي على مسرح الليدو بالجيزة، فقد ضرب الأستاذ يوسف في هذا الموسم كافة أرقام الدرام القياسية السابقة

في سبيل الحقيقة

قامت جماعة أنصار التمثيل والسينما يوم الخميس الماضي بتمثيل رواية (في سبيل الحقيقة) مسرح الحمراء بالإسكندرية في الحفل السنوي الذي تقيمه جمعية المواساة ويشرفه حضرة صاحب الجلالة الملك. ومن الأقوال المعادة أن نقول إن أفراد الفرقة جميعاً، والممثلات اللوائي استعين بهن من الخارج، قد أجدن أدوارهن إجادة تامة واستحققن من أجلها تهنئة المليك وعطفه السامي، وهو جد غال ولا يكون إلا في موضعه. . وقد ضحك الجمهور كثيراً لدى سماعه شخصية الدكتور الذي كان صورة طبق الأصل من الدكتور محجوب ثابت، بقافاته وشخطاته ونطراته. .؟

لوتس فلم

من الله على السيدة آسيا مديرة شركة فنار فلم بالشفاء، وقد بدأت الشركة في تصوير فلمها الثاني لهذا العام، ونحن نهنئها بالشفاء ونتمنى لها توفيقاً كبيراً

ميرنا لوي

- تظهر (ميرنا لوي) في فيلم (جابل) الجديد واسمه (ساخن ولا يمكن لمسه). . . وهو من إنتاج المترو جولدوين ماير وسيعرض في الرويال بالقاهرة

بيتي ديفيس

- تظهر (بيتي ديفيس) في فيلم (جزبيل) مع النجمين الشهيرين (هنري فوندا) و (جورج برنت) وهو من أقوى أفلام الموسم الحالي للبرامونت

ص: 76