الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 276
- بتاريخ: 17 - 10 - 1938
الصقر نحن به أولى
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتبنا في (الرسالة) قبل عام كامل على التقريب مقالاً عن الحكيم الحاكم (مازاريك) رئيس الجمهورية في بلاد التشك والسلواق ختمناه بما يأتي:
(سيرة الرجل عبرة لا تنقضي ودروس لا تنفذ. أولها: أن الفيلسوف لن يسلم من لوثة الحكم والسياسة ولو أضمر الخير وأسلف الجهاد الطويل في قضايا المظالم والشكايا. وثانيهما: أن الديمقراطية لا تسلم في وطن تختلف أجناسه ولغاته وأديانه وطبقات الحضارة فيه إلا على أساس الولايات المتحدة التي يستقل فيها كل فريق بالحكم والتشريع. وثالثها: أن أوربا الوسطى لا تزال كما كانت قبل الحرب العظمى غيلا تصطرع فيه ضواري الأحقاد ويوشك أن يندفع بالعالم مرة أخرى إلى حرب لا تؤمن لها عاقبة. وإننا على ما انتاب الديمقراطية من خيبة، وما تعاورها من نقص وتقويض لا تزال على إيمان وثيق بأنها هي كهف السلام ومعقل بني الإنسان، ومآل الحكم في المستقبل البعيد إن لم يعجل لها النصر في مستقبل قريب
(فالدول الديمقراطية لا تبغي الحرب كما تبغيها الدول الدكتاتورية؛ وبريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة، لا يخشى منها على سلام العالم كما يخشى من إيطاليا، وألمانيا، واليابان والجمهوريات الروسية)
كتبنا هذا المقال على أثر وفاة مازاريك، ودار العام والحوادث تثبت لنا أن كثيراً من المسائل الأوربية خليق أن ننظر إليه كأنها مسائل (محلية) نكترث لها في أوانها وقبل أوانها لنصبح على أهبة دائمة للقائها، ثم نثبت لنا الحوادث أن الجمهورية التشكية لو بادرت إلى تعميم نظام الولايات المتحدة بين شعوبها الصغيرة لكان ذلك خيراً لها، وإن كنا لا نظن أن أسباب الأزمة الدولية الأخيرة تنحصر في هذه الوجهة، لتعدد وجهات المسائل الدولية عامة
ولا أدري لم نشعر بالعطف على بلاد الفيلسوف مازاريك ونود لها الحياة والسلامة؟ فلعل السبب الأول أنها هي بلاد الفيلسوف مازاريك وأنها (تشخصت) في مثال إنساني رفيع محمود العمل والأثر معروف في عالم الأدب والحكمة معرفة الناس به في عالم السياسة
والإدارة والكفاح
ولعل أسباباً أخرى ترفد ذلك السبب الوجيه الراجح، ونعني بها الأسباب التي توجب العطف على كل شعب صغير مجاهد صبور يحمل من الأعباء فوق ما يطيق، ولكنه لا يرزح بتلك الأعباء ولا يعالجها بالحول والحيلة حتى يروضها ويمشي بها إلى غايته القصوى وهي أشرف الغايات، لأنها غاية الحرية والثقافة والجمال
شعب مازاريك مثل جميل من أمثلة الجهاد الحسن في سبيل الحرية والقوة والجمال، سلبته الدولة النمساوية سلطانه فلم يستسلم ولم يركن إلى الخنوع والمهانة، وصنع ما هو أنبل وأكرم من ذلك لأنه جاهد في رفع الضيم فلم يقصر جهاده على المؤامرات والمشاغبات وحوادث الغيلة والانتقام، بل عمد إلى التعليم فأشاعه بين أبنائه حتى محا الأمية محوا قبل أن تفلح الشعوب القوية في محوها من بلادها. ثم لم يكفه ذلك حتى أدرك أن الكتابة والقراءة لا تكفلان وحدهما الغلبة والحرية للشعوب الضعيفة، فأضاف إلى سعيه في نشر التعليم سعياً آخر في نشر الفتوة بمعناها الأصيل، ومعناها الأصيل في عرفنا أن يكون الإنسان شهم النفس شهم الجسم شهم الذوق سريعاً إلى ما يجمل ويحسن بأدب الإنسان وذوقه واستجابته لدواعي الحياة
تلك هي حركة (الصقر) التي شاعت في أوربا باسم (الصكل) وقلنا في عنوان هذا المقال إننا نحن أولى بها من غيرنا، لأننا نرجح أن أصل الكلمة عربي أخذته أمم السلاف من جيرتها الأسيوية إذ تعلموا الصيد والفروسية قديما من سادات العرب يوم غلبة سلطانهم على أواسط آسيا وتخوم بلاد المغول، فأصبح اسم الصقر مصحفا عندهم باسم (الصكل) وهو عنوان الحركة الرياضية الكبرى في أمتي التشك والسلواق
رأس هذه الحركة المباركة هو (تيرش) العظيم أوحاها إليه أنه زار بلاد الإغريق في أواسط القرن الماضي فراعته المثل العليا التي أقامها الإغريق الغابرون لجمال الفتوة وصحة التكوين، وعلم أن نهضة الكتابة والقراءة لا تغني أمته عن نهضة النفس من طريق رياضة البدن وثقافة الذوق ونشاط الشعور، فأجمع النية الصادقة على إنهاض قومه في هذا الطريق، وأعد عدته لتنظيم الفرق الصغيرة فالفرق الكبيرة لتدريب الرجال والنساء من سن الطفولة إلى سن السبعين وما بعد السبعين، وما يعني بذلك التدريب إلا أن يجعل الجسم
على أصح وأصلح مثال يستطاع، فلا يترك لعضو من الأعضاء بقية من كمال يستطيع بلوغها إلا استوفاها على نمط جامع بين الصحة والقوة والنسق والجمال. وأوجز ما نلخص به فلسفته الرياضية أنها رياضة جسدية موسيقية، لا تقصر على سهولة الحركة الجثمانية بل تقرن بها الرشاقة والوزن والتنغيم
وكان (غاريبالدي) الإيطالي يومئذ قدوة المجاهدين في سبيل الأوطان، فلما عبر (تيرش) بالبلاد الإيطالية راقه أن يستعير (القميص الأحمر) للفرق الجديدة وجعل لها قبعة عليها ريشة صقر فمن هنا اسم أو الصكل الذي عرفت به هذه الحركة الرياضية الكبرى، وهو لفظ (الصقر) بلغة التشك والسلواق
قال روبرت يونج في كتابه (شاب ينظر إلى الديار الأوربية) رواية عن رجل في الستين يصف الحركة وهو يشاهدها في ميدانها ببراغ:
(معظم الأعضاء يتصرفون لمعاشهم نهارا ويتلقون تدريبهم الرياضي أثناء الليل. . . ولا حاجة بنا إلى الرياضيين المحترفين لأننا نؤمن بأن الديمقراطية ينبغي أن يكون لهم من العقيدة الديمقراطية أن يبذلوا اختيارا وطواعية جزءا من وقتهم لتجميل أحوالهم الجسدية)
واستطرد الكاتب إلى بيان موارد الإنفاق على الحركة فإذا هي قائمة على جيوب أعضائها والقسط اليسير الذي يؤديه كل منتم إليها، أما معونة الحكومة فهي شيء طارئ وهي مع ذلك تنقص عاما بعد عام تبعا لتفاقم الأزمة المالية واشتدادها على كاهل الحكومة والأمة
وقال ويكهام ستيد الكاتب المشهور يصف عرض (الصكل) في شهر يوليه الماضي، خلاصته:(أي جندي لا يأخذه منظر ثمانية وعشرين ألفاً من الشبان الأصحاء الأشداء يمشون في ميدان مازاريك الذي تبلغ مساحته خمسة وأربعين فداناً فيتفرقون إلى أماكنهم جميعاً لابتداء التدريب الإيقاعي في خلال ربع ساعة، ثم ينتهي التدريب فينصرفون كرة أخرى ثمانين صفاً كل ستين في صف واحد خلال اثنتي عشرة دقيقة. وإنني لأشك في استطاعة جيش منظم أن يعبر خمسة وأربعين فداناً جيئة وذهوباً وتدريباً في سبع وعشرين دقيقة دون أن يقع فيه شيء من الارتباك والعجلة. أما النساء وقد أدين تدريبهن قبل الرجال وبلغن ستة عشر ألفاً عداً فقد ضارعن الرجال في النشاط والنظام)
حركة الصقر هذه نحن أولى بها وأحوج إليها، وقد رأينا نموذجاً منها في (إصلاحية
الأحداث) التي تشرف عليها مصلحة السجون، فرأينا كيف يراض المئات من الأطفال والصبية على الحركة الإيقاعية في وقت واحد بغير قيادة معلم أثناء الأداء، وعلمنا أن تعميم هذه الحركة مستطاع كل الاستطاعة لن يبذل الجهد الذي بذلته مصلحة السجون في تدريب أطفال نسميهم مجرمين
وما حاجتنا إلى حركة الصقر؟ إنها دفاع جنود يحمون الأوطان، بل هي كذلك وهي فوق ذلك عدة حياة لدفاع آفات كثيرة هي أشد خطراً من غارات الأعداء
عباس محمود العقاد
التعليم والعاطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
الأستاذ عبد الحميد فهمي مطر أحد رجال التربية المثاليين
الذين يسيرون إلى غايتهم من التعليم مستقلين على ضوء
الفكرة والخبرة والاطلاع، فهو لا ينفك منذ 24 عاماً معنياً
بمسائل التربية في مصر باحثاً في عللها ناقداً لنظمها في
صراحة وجرأة. وقد توفر أخيراً لدرس هذا الموضوع
الخطير، وهو معضلة الساعة؛ ثم تفصل فوعد بنشره تباعاً في
الرسالة.
المحرر
نشأت في قرى الريف بين حقول الطبيعة وإحراجها مغرما بها، في أحضان الحرية وبين ضلوعها هائما بها، ثم دفعت بي الأقدار بعد الدراسة في الكتاب إلى المدرسة الابتدائية التي جذبتني إليها جذباً بطربوشها وملابسها الإفرنجية. ذلك الطربوش الملون بلون الورود، الذي كان لا يزال يتعشقه أبناء الريف منذ ظهر في الوجود، والذي بمجرد أن لبسته أنا وإخواني تأكدنا من المستقبل السعيد، في ساحة الدواوين، بين الموظفين.
فكان ذلك الغرض الذي يملأ نفوسنا حافزاً لكل منا إلى الاجتهاد والجد. وبالرغم مما صدمتنا به المدرسة من ضغطها وشدتها وعصبها وجبروتها وحدتها، مما بغض الجميع فيها فقد كان الغرض السامي يدفعنا أبداً إلى الأمام، إلى العمل المتواصل، إلى المدارس الثانوية من غير أن يتخلف منا إلا القليل. أما من تخلف فقد وجد السبيل إلى العمل أو إلى مدارس أخرى سهلا ميسورا، ثم كان النجاح في البكالوريا فكان الفرح الشامل
وألحقناه بين الحفاوة والتبجيل، وعظيم الدعاء والتهليل، بالمدارس العليا يحدونا الأمل الكبير إلى المستقبل الحافل الذي لا يحلم به أحد من موطنينا الريفيين. فلما حصلنا على
الشهادة العليا تخطفتنا الأيدي إلى العمل الحكومي، فولجناه نشيطين جادين. فكان منا المعلمون والأطباء والمهندسون ورجال القضاء، الذين ملئوا دواوين الحكومة بأعمالهم ولم يجد العمل الحر سبيلاً إليهم، وبالرغم مما لقيناه من تكريم فقد بقيت في نفوسنا للمدرسة مرارتها، ودامت فيها ذكريات ضغطها وشدتها. ولكن ذلك كله هان بجانب ما أوصلتنا إليه من نتيجة طيبة. فتلخص في سهولة الحصول على وظيفة حكومية
عملت بين جدران المدارس بعد ذلك زمناً طويلا كنت أحس فيه أن المدارس التي عملت فيها تلميذاً والتي عملت فيها مدرساً والتي عملت فيها ناظراً لم ينلها شيء محسوس من التغير ولم يتطرق إلى روحها شيء من التجديد أو التبديل، فهي لازالت تسير على نفس الوتيرة القديمة، مليئة بنفس الروح القديمة، يحس تلميذها إذا ما دخلها بانقطاعه عن العالم وما فيه إلى شبه سجن غير محبوب إن لم يوصف بأنه مكروه، ولكن الجميع ظلوا يكبتون عواطفهم إزاءها لما تجلبه من خير الوظيفة إلى طلابها بعد نيل شهادتها، وظلت المغريات القديمة تدفع الناس دفعاً للسعي إليها
وبدأت بعد ذلك تظهر مشكلة المتعطلين من المتعلمين بعد أن امتلأت الدواوين بالموظفين وكنت قد تبينت بالبحث حالة المدارس في البلاد الأخرى، وما تسير عليه من أنماط وأساليب، تغاير ما نسير عليه في مدارسنا فرفعت بعض التقارير إلى وزراء المعارف في نقدها مبيناً عيوبها، واستمر ضغط حملة الشهادات على الدواوين حتى اكتظت بهم، وأصبحت المدرسة لا تجد سبيلاً لتصريف الخريجين من أبنائها، مما اضطربت له أفئدة المسئولين. وأخذ ألم المتعطلين يحز في نفوسهم ونفوس أهلهم، ويثبط من همم الناشئين المتعطلين، ويضغط في الوقت نفسه على الحكومة ورجالها ضغطاً شديداً. ثم أخذ الحال يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. أما المدرسة التي كنا نتحمل قديماً شدتها، ونخضع لما فيها من ضغط وإكراه، في سبيل غرضها الأسمى، فقد أصبحت اليوم لا غرض لها إليه إذ أحس كل من فيها بزوال غرضها القديم الذي كانت تتجه بكليتها إليه، هذا فوق شذوذها عن الطريق السوي لبعدها عن الحياة وما يجري فيها. وهكذا ساءت الحالة إلى مدى بعيد بين جدران المدارس نفسها، فأنحط مستوى التعليم كما انحطت الأخلاق فيها؛ ذلك إلى العطل الذي ضرب إطنابه بين خريجيها مما أصبح خطره يهدد المجتمع في نظامه وحياته، ذلك
المجتمع الذي لم يضمن بأنفاق الملايين من الجنيهات على مدارسه في سبيل الانتفاع بمجهودات أبنائها
إزاء كل ذلك لم أجد بداً من هذا البحث الذي أنشره في الرسالة تباعاً واضعاً فيه نتائج بحثي وعصارة تجارب حياتي تلميذاً ومدرساً وناظراً بعد جهاد طال أكثر من خمسة عشر عاماً بيني وبين أنصار القديم كنت فيه هدفاً لسهامهم نظراً لما كنت أتمتع به في كتاباتي وأقوالي من حرية الرأي التي نشأت عليها. وهأنذا اليوم أتقدم بالصراحة التي عرفت بها إلى أمتي العزيزة وعلى رأسها عنوان الشباب وقوة العزيمة مليكها المحبوب المتفاني في حبها المتحمس لنفعها وخيرها - بخطط جديدة للإصلاح متمشية مع الروح الجديدة في عالم التربية متضمنة لأحسن الآراء والمذاهب من غير أن أتعرضللتفصيل، ليمحص تلكم الآراء ذوو العقول والأفكار الناضجة في سبيل تنفيذ الصالح منها. ولست أدعي أن الخطط الجديدة التي تضمنها هذا البحث كلها سليمة لا غبار عليها، لأني أعتقد أني لست معصوماً من الزلل، ولكني أقرر أنني بحثتها ومحصتها وأعتقد أن الأخذ بها ينقل عالم التعليم والتربية عندنا من حال إلى حال، لأنه يمنح المدرسة الحياة الحرة المستمدة من حياة مصر الحرة، كما يضع أمامها هدفاً تسعى إليه عن طريق العمل المفيد المثمر. إذ أنها بحالتها الحاضرة تنبو عن أصول التربية والتعليم، كما تتجافى مع الآراء الحديثة فيهما. ولا تتنافى فقط مع ما يجري في مثلها من البلاد الأخرى، بل تتنافى أيضاً مع ما يقع في بلادنا بين سمعنا وبصرنا في المدارس الأجنبية. فلا يليق باستقلالنا ونهضتنا وحريتنا أن تبقى المدرسة أسيرة لروح التمسك بالقديم. تلك الروح التي قد اضطررت للتنديد بها لما رأيته من وقوفها حجر عثرة في طريق الإصلاح حباً في الراحة والاطمئنان، أو احتفاظاً بالنفوذ والسلطان. ولو أن المسألة وقفت عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنها تعدت إلى الأضرار بمصالح الملايين من فتيان هذه البلاد وفتياتها، بل إلى المساس بمصالح أمة يخشى على نظامها الاجتماعي من الانهيار. من أجل ذلك تقدمت راضياً بتحمل كل تضحية، راضيا ببذل كل مرتخص وغال في سبيل مصلحة بلادي وإخلاصي لمليكي، بالعمل على إنقاذ هذا الوطن من خطر العطل المحدق به والذي شعر به الجميع، وخشيه الجميع، وأشفق على مصر منه الجميع، راجياً ألا تذهب صرختي هذه أدراج الرياح كما ذهبت صيحاتي السابقة. آملا أن
يقرأ المسئولون عن مستقبل هذا البلد هذا البحث برؤية وإخلاص وأن يبحثوه ويمحصوه. فإذا اقتنعوا بكل ما فيه أو ببعضه عملوا على تنفيذه وإلا فأني أكون قد أرضيت ضميري وأديت واجبي. هذا وان كنت قد اضطرني البحث إلى ذكر بعض مساوئنا وأخطائنا، قائما فعلت ذلك ليكون في حاضرنا عبرة لمستقبلنا. وإذا كنت كذلك قد اضطررت إلى التنديد بروح الاحتفاظ بالقديم في ديوان المعارف وفي معاهد التعليم، فأني أرجو ألا يفهم من ذلك إني أوجه النقد إلى أشخاص معينين، لأن البحث العلمي فوق الأشخاص. وما كان نقدي إلا في سبيل الصالح العام وهو موجه إلى سياسة عامة أنتجت نتائج سيئة هامة؛ خصوصاً أننا نعلم أن الأشخاص يذهبون ويزولون، أما السياسة العامة فبقاؤها أدوم وأثرها أعظم في الأبناء والأحفاد، بل وفي مرافق البلاد.
ويكفيني أن يشاركني في ذلك مندوبو مصر في مؤتمر الاتحاد العالمي لجمعيات التربية في جنيف سنة 1929 في تقريرهم عن هذا المؤتمر الذي طبعته وزارة المعارف سنة 1936 وقد جاء فيه (ص35) في سياق الكلام عن المعرض الذي أقيم في هذا المؤتمر ما يأتي: (وأني أقول آسفاً إننا لم نعان في الحياة أشد من مرارة المقارنة بين ما نحن عليه من تأخير وجمود وما وصلت إليه تلك الأمم المتمدنة الناهضة. وأمر من ذلك أن نعد أجيالا طوالا لابد من أن نمضي قبل أن نلحق بهم ما لم يهم أولياء الأمور فينا بثورة على القديم، ونهضه تحطم الأغلال العتيقة، وتقلب نظام التربية الحديثة عندنا من أساسه فندب الروح الجديدة في التعليم من كل نواحيه)
(يتبع)
عبد الحميد فهمي مطر
كما يرانا غيرنا
رجولة باكرة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
كان السائح الأمريكي (بايارد تيلور) شاعراً كاتباً ذا ولع
بالأسفار وقد ولد في (بسيلفيانيا) عام 1825. وألف كتبا كثيرة
في وصف رحلاته منها كتاب يصف فيه رحلة إلى السودان
ومصر ومنه نقتطف هذه القطعة
وقد عين سفيراً للولايات المتحدة في برلين وعاش مدة طويلة هناك وتوفي عام 1878 وهو يشغل هذا المنصب الرفيع
قال:
من بين الموظفين المصريين الذين عرفتهم في الخرطوم سيد كان قد نفاه إليها والي مصر. وهذا السيد المنفي هو رفاعة رافع الطهطاوي، وهو من ذوي الثقافة العالية والذكاء المتوقد، وقد أحزنه كل الحزن إبعاده عن وطنه وعن أهله إلى هذا البلد السيئ الجو الذي عانى فيه ألما شديداً بسبب الحمى المنتشرة فيه
وكان لا يعرف إلى أي مدى تطول مدة نفيه. وقد قضى إلى الوقت الذي لقيته فيه عامين في المنفى خاضعاً لرقابة شديدة تَفْرض عليه ألاَّ يتسلم خطاباً إلا عن طريق الحكومة التي تفض رسائله لتعرف ما بها. وقد امتنعتْ عليه بهذه الوسيلة صلته بأصدقائه في مصر ممن يخشون عواقب تلك الرقابة. ولم يكن في وسعي أن أعرف السبب الذي نفي من أجله، وقد يكون هو نفسه غير عالم بسبب هذا النفي
وليس في البلاد الشرقية انتخابات عامة ولا للشعوب الشرقية رأي في اختيار حكامها، فكل من بها من الحكام يعينهم الولاة وفق أهوائهم ولا يستطيعون الاحتفاظ بمناصبهم إلا كما يريد الولاة. وقد يدفع التنافس أو الحسد واحداً من الباشوات إلى إهلاك خصم له بريء غافل عن سبب الكيد. وربما كان سبب الكيد لا يعدو أن يكون أحدهم طامعاً في منصب
الآخر فيوغر عليه صدر الوالي حتى ينفيه
وقد اكتسب هذا السيد محبتي وعطفي العميقين في الليالي التي كان يقضي فيها السهرة معي ومع القنصل الأمريكي. وكان يطمئن إلى مجلسنا فيشكو لنا ما يعانيه من الظلم. أما حين نلتقي به في منزل أي موظف مصري فقد كان يحرص على عدم الخوض في هذا الموضوع خشية أن تُنقل عنه أحاديثه إلى الحكومة
ولما كنت أجنبياً غريباً فإنه لم يخطر ببالي قط أن في وسعي أداء أية خدمة لرفاعه باشا. وكنت مزمعاً العودة إلى بلادي عن طريق مصر. ولكن معرفتي بالغة العربية محدودة وإلمامي قليل بعاداتها ونظمها. وفضلا عن ذلك فقد كنت أرجو ألاً أطيل بها المكث إلا ريثما أعبر إلى الشاطئ
على أنني كنت أسير وإياه في الطريق في ليلة من لياليَّ الأخيرة في السودان فقال لي همساً إن لديه حديثاً يريد أن يسره إليَّ
ومع أن الليلة كانت مقمرة فقد كان معنا خادم وطني يحمل المشعال، فأمره الباشا بأن ينصرف، فاختفى عن ناظرنا بعد قليل في منعطف ضيق من منعطفات الطريق، وكان الصمت مخيماً لولا أصوات الرياح إذ تتخلل أطراف النخيل البارزة رؤوسها فوق أسوار الحدائق
وقال الباشا وهو يمسك بيدي: (لنا أن نتحدث الآن بضع دقائق دون أن يسمع أحد حديثنا ولي رجاء لديك)
قلت: (على الرحب إن كان في وسعي)
فقال: (إنك لن تتكلف مشقة ما، ولكنك ستؤدي لي مع ذلك خدمة جليلة. أرجو أن تحمل عني خطابين إلى مصر، أحدهما إلى نجلي في طهطا، والآخر إلى المستر موري القنصل الإنكليزي في القاهرة، ولا أستطيع ائتمان التجار المصريين على هاتين الرسالتين، فلو فضتا وقرأتا لطال أمد نفي في هذه البلاد سنين عدة. أما إذا تفضلت بإيصالهما فإن أصدقائي بمصر سيعرفون السبيل إلى معاونتي وربما تمكنوا من إعادتي إلى وطني
فوعدته بأن أسلم الخطابين إلى صاحبيهما يداً بيد. فبدا الانشراح على وجه الباشا وودعني عند باب القنصل الأمريكي
وبعد أيام قليلة استأنفت رحلتي، وكان من أيسر الأمور أن أتصل برفاعة باشا وأن يسلمني الخطابين دون أن يتنبه أحد إلى ذلك، ووضعتهما في حافظتي مع سائر أوراقي ولم أتحدث في هذا الشأن مع أي إنسان في الخرطوم
وكانت رحلتي إلى مصر طويلة شاقة يستغرق مني وصفها أياماً لو حاولت ذلك، فقد قضيت في السفر شهرين قبل أن أتمكن من تسليم رسالة الباشا إلى أبنه المقيم في طهطا بصعيد مصر على بعد بضعة أميال من مجرى النيل. ويحيط بها سهل جميل يغمره ماء النيل مرة في كل عام
وبعد تحريات قليلة وصلت إلى منزل رفاعة باشا ولكن لم يؤذن لي بالدخول لأن السيدات المصريات لا يسمح لهن باستقبال الأجانب. وكان بالمنزل قاعة واسعة مفتوح بابها على الطريق، فأجلست فيها ريثما تذهب جارية سوداء لتأتي بابن الباشا من المكتب؛ وجلس معي في تلك القاعة خادمي الأمين. وقد تسامع أهل البلد أثناء وجودي في الانتظار أني آت من الخرطوم وأني أعرف الباشا فأتوا من كل حدب ليسألوني عنه، وكانوا جميعاً في نهاية الأدب والود، واغتبطوا لما طمأنتهم عليه كما لو كانوا جميعاً من أفراد أسرته
وبعد ربع ساعة عادت الجارية يتبعها ابن الباشا ومعلمه في المكتب، وكان هذا المعلم قد صرف جميع الطلبة وأغلق المكتب وجاء ليسمع أخبار الباشا.
كان عمر هذا الصبي أحد عشر عاماً ولكنه أطول قامة ممن هم في مثل عمره. وقد ابتسم حين رآني ابتسامة عذبة، ولولا إلمامي بعض الإلمام بعادات هذا الشعب لمددت إليه يدي وأجلسته على ركبتي وطوقت خصره بذراعي وتحدثت إليه بغير تكلف، ولكني رأيت أن أصبر حتى أرى كيف يكون مسلكه نحوي.
حياني في وقار وجلال كما لو كان رجلا له سمت وأبهة؛ ثم تناول يدي فأدناها من قلبه ثم من شفتيه ثم من جبينه؛ ثم اتخذ مجلسه فوق ديوان عال بجانبي.
وأعاد تحيتي وهو في مجلسه وصفق ثلاثاً، فجاءت جارية أمرها بأن تعد لي القهوة ثم قال:(كيف صحتك يا صاحب السعادة؟) فأجبته: (بخير والحمد لله)
قال: (هل لديكم أوامر لي؟ مروا تطاعوا!)
فقلت: (أشكر لطفك، وليس لي إلا تحيات أحملها إليك من أبيك الباشا، وخطاب منه وعدته
بأن أسلمه إليك يداً بيد)
ثم دفعت إليه بالكتاب فوضعه على قلبه ثم قبله وفض غلافه. وبعد قرأته التفت إليَّ وقد توردت وجنتاه وسطعت عيناه وقال: (أتأذنون لي يا صاحب السعادة بأن أسألكم هل معكم كتاب آخر؟)
قلت: (نعم ولكن سأسلمه لصاحبه كذلك يداً بيد)
قال: (أصبت. ومتى تصلون إلى القاهرة؟) فقلت: (الأمر يتوقف على حالة الرياح ولكني أظن أن المدة لا تتجاوز سبعة أيام)
وأسر الصبي بكلمات إلى معلمه، وبدا على وجهيهما الاغتباط. . ولم يعد كلانا إلى التحدث في هذا الموضوع.
وجيء بشراب لا شيء فيه سوى عصير الليمون المحلى وماء الورد. ثم جيء بالرمان وسألني الصبي أن أشرفه بالبقاء لديه سائر اليوم
ولولا أنني كنت أرى وجهه وهو يحادثني لظننت أني أحادث رجلا، فقد كان هذا الصغير من الجلال وقوة الأسر كعظماء الرجال
وكان الناس حولنا كأنهم معتادون مشاهدة هذا النضوج السابق لأوانه في الأطفال. وكنت مضطراً إلى أن أتخذ حياله من الاحتشام والكلفة كما لو كان هو حاكم المدينة. على أن ذلك لم ينقص من محبتي؛ إياه وودت لو عرفت موضوع حديثه مع معلمه. ولست أشك في أنهما كانا يحاولان تدبيراً لإعادة الباشا من منفاه
وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات عدت إلى السفينة التي جرت بي في بطء إلى الشمال.
نهض الصبي عند نهوضي ومشى بجانبي إلى آخر حدود المدينة والناس على أثرنا في نظام وعند وصولي إلى السفينة حياني مودعاً مثل تحيته إياي مسلماً وقال: (اسأل الله أن يجعل رحلتكم سعيدة يا صاحب السعادة)
وقد بدا لي أن منظر استقباله ووداعه والوقت الذي قضيته وإياه - لقد بدا لي أن كل ذلك كان قطعة من ألف ليلة، فإني إن نسيت شيئاً فلا أنسى تلك الذكرى الجميلة البارزة. أما بالنسبة لهذا الشعب فما من شك أن هذه الحالة هي حالتهم العادية التي تتكرر كل يوم
عبد اللطيف النشار
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 13 -
(تنزل (جورجياس) من آثاره (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكيس: الأثيني: (ك)
ط - (مجيبا بولوس الذي اعترف بأن الطاغي ظالم) وما دام الأمر كذلك فلن يكون أحدهما أسعد من الآخر، لا هذا الذي نجح بظلم وصار طاغياً، ولا ذلك الذي أسلم نفسه للعقاب، لأنه لا يستطيع أحد الشقين أن يكون أسعد من أخيه!! ولكن أشقاهما - مع ذلك - هو من فر من العقاب وصار طاغياً، فترى أي معنى لذلك يا بولوس؟ أتضحك؟ أمن الأساليب الجديدة في المناقضة أن تهزأ وتسخر مما يقال دون أن تقدم أي سبب لهزئك وسخريتك؟
ب - ألا تعتقد أنك تكون قد نُوقِضتَ إطلاقاً يا سقراط عند ما تقول بأشياء لا يقرها إنسان؟ سائل بالأحرى أي مساعد تشاء!
ط - لست من عداد السياسيين يا بولوس، وقد شاء القدر أن أكون في العام الماضي عضواً بمجلس الشيوخ عند ما سادت قبيلتي بدورها في الجمعية العمومية، فلما وجب عليّ أن
أتكلم عن السؤال المعروض ضحكتُ ولم أدر ماذا أفعل، فلا تطلب مني اليوم إذاً أن أعرف رأي المساعدين! وإذا لم يكن لديك شهادة أفضل من شهادتهم فدعني آخذ مكانك كما اقترحت عليك منذ لحظة، ودعني أسائلك كما أفهم المسألة! ذلك أني لا أستطيع أن أدعم تأكيداتي إلا بشاهد واحد هو نفس من أتناقش معه دون أن أعني بالعدد الكبير من الناس! وبعبارة أخرى إنني أعرف أن أحمل شاهدا واحد على الكلام ولا أعني بمناقشة العدد الكبير في شيء!! فلتر إذاً إذا كنت توافق على أن أسألك فتجيب!. لقد أقنعت نفسي بأنك وبأني والجميع نرى ارتكاب الظلم أكثر شراً من احتماله، وأن احتمال العقاب أقل شرا من الفرار منه!
ب - وأرى أني لست في جانب هذا الرأي ولا أي إنسان آخر!. فهل تفضل أنت احتمال الظلم على ارتكابه؟؟
ط - أنا وأنت والجميع يفضلون ذلك!
ب - هيهات، فلا أنا ولا أنت ولا أي إنسان يفضل هذا!
ط - ألا تريد أن تجيب؟
ب - نعم بالتأكيد لأني مشوق جدا إلى ما تستطيع أن تقول!
ط - إذا كنت تريد أن تعرف ما أستطيع قوله فأجبني كما لو كنتُ بدأت في مسألتك: ما هو أفدح الشرور في رأيك يا بولوس؟ أهو ارتكاب الظلم أم هو احتماله؟
ب - إنه احتماله - فيما أرى -!
ط - ولكن أجبني: أيهما (أقبح) ارتكابه أم احتماله؟
ب - ارتكابه
ط - وإذا فالارتكاب أفدح الشرور مادام هو (الأقبح؟)
ب - كلا - على الإطلاق!
ط - ألا تعتقد أني أفهم - فيما أرى - أنه لا خلاف بين الحسن والجميل من ناحية، والرديء والقبيح من ناحية أخرى؟
ب - كلا بالتأكيد!
ط - ولكن ماذا عساك قائل في ذلك؟ أتطلق الجمال على كل الأشياء الجميلة من أجسام
وألوان وأشكال وأصوات وأعمال من غير موجب؟ ولنبدأ مثلا بالأجسام، ألا تقول إنها جميلة، بسبب استعمالها نظرا لما نستمده منها من نفع، أو بسبب لذة خاصة يثيرها منظرها في نفوس المشاهدين؟ أم هل لديك أسباب غير هذه تحملك على إطلاق (الجمال) على الأجسام؟
ب - كلا - ليس لدي!
ط - أو ليس الأمر بالمثل في كل الأشياء الجميلة من أشكال وألوان؟ ألسنا نسميها جميلة بسبب لذة خاصة تثيرها، أو بسبب نفع تقدمه، أو بسبب الاثنين معا؟
ب - بلى.
ط - أو ليس الأمر بالمثل في الأصوات وفي كل ما يختص بالموسيقى؟
ب - بلى.
ط - وهو بالمثل أيضاً في القوانين والأعمال، إذ الجميل منها ليس بجميل قط إلا بسبب لذته، أو نفعه، أو هما معا؟
ب - ذلك صحيح فيما يلوح.
ط - أو ليس الأمر بالمثل في جمال العلوم؟
ب - بلى بغير ما تناقض. وإنك لتعرف (الجميل) تعريفا فذا بقولك إنه الحسن واللذيذ.
ط - وإذا فستعرف (القبيح) تعريفاً حسنا بالضدين (الرداءة) و (الألم)؟
ب - حتما.
ط - وإذا فيكون أحد الشيئين الجميلين (أجمل) من الآخر بسبب تفوقه عليه في إحدى الصفتين أو فيهما معا؛: وأعني بهما اللذة، أو المنفعة، أو هما معا!
ب - بالتأكيد.
ط - ويكون أحد الشيئين القبيحين (أقبح) من الآخر بسبب ما يجلبه من ألم أكثر أو شر أفدح. أليست هذه نتيجة محتومة؟
ب - بلى.
ط - فلنر الآن ماذا قلنا توا عن الظلم المرتكب أو المتحمل، ألم تقل أنت أن (الأردأ) هو (احتمال) الظلم، وأن (الأقبح) هو ارتكابه؟
ب - قلت ذلك حقا!
ط - وإذا كان ارتكاب الظلم (أقبح) من احتماله، فأنه لا يكون كذلك إلا لأن أحدهما يزيد على الآخر - أي الارتكاب على الاحتمال - بالألم أو الشر المسببين، أو بهما معاً. أليس ذلك ضرورياً بالمثل؟
ب - بلى، دون تناقض.
ط - وإذاً فلنر أولا إذا كان الظلم المرتكب يسبب من الألم أكثر مما يسبب الظلم المتحمل، وإذا كان من يرتكبونه يتألمون أكثر مما تتألم فرائسهم!
ب - ذلك ما لا أراه يا سقراط
ط - وإذاً فليس الظلم المرتكب يزيد على الظلم المتحمل بالألم؟
ب - كلا بالتأكيد!
ط - وإذا كان لا يزيد عليه (بالألم)، فلن يزيد عليه أيضاً (بالشر والألم) معا؟
ب - واضح أن لا.
ط - فيبقى إذا أنه يزيد عليه بالآخر وحده؟.
ب - نعم!
ط - أعني بالشر!؟
ب - كما يلوح!
ط - وما دام ارتكاب الظلم يزيد على احتماله (بالشر)؛ فإذاً يكون الارتكاب (أردأ) من (الاحتمال).
ب - ذلك واضح.
ط - أو ليس مسلماً به من أغلب الناس، أولم تعترف لي بنفسك سابقاً، أن ارتكاب الظلم (أقبح) من احتماله؟
ب - بلى.
ط - وقد رأينا أيضاً أن الارتكاب هو (الأردأ)؟؟
ب - يلوح ذلك.
ط - والآن أتفضل ما هو أكثر رداءة وقبحاً على ما هو أقل منهما في ذلك أم لا تفضله؟؟
أجب من غير تردد يا بولوس فلن يصيبك أدنى سوء، وأسلم نفسك للحوار بشجاعة كما تسلمها للطبيب، وأجبني بنعم أو لا.!
ب - كلا يا سقراط فأنا لا أفضله
ط - وهل هنالك إنسان يفضله؟
ب - يلوح أن لا، وعلى الأقل بعد ذلك التدليل!
ط - وإذاً فقد كنت محقاً في قولي إنه لا أنا ولا أنت ولا أي إنسان آخر، يفضل ارتكاب الظلم على احتماله، مادام أن ذلك شيء أكثر (رداءة)!
ب - ذلك واضح.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
من مشاكل التاريخ
مكتبة الإسكندرية
تأسيسها ورواية إحراقها
للأستاذ خليل جمعة الطوال
(بقية المنشور في العدد الماضي)
قال الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار: ولكن متى علمنا أن عبد اللطيف البغدادي الذي كان قبل أبي الفرج بزمن قليل قد ذكر أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية كانت التبعة عليه دون أبي الفرج لاحتمال أن يكون أبو الفرج قد أخذ هذه المقالة عن عبد اللطيف البغدادي الذي رمى بهذه الجملة بغير سلطان أتاه. ولم يقل لنا من أي تاريخ أخذ ولا من أي مصدر استقى. والظاهر أنه حين علم بأنه كان في هذا الكان مكتبة عفى الزمان على أثرها، افترض أن الذي دمرها إنما هو عمرو بن العاص، وربما شجعه على ذلك أقوال العامة أو نحو ذلك فظن الأمر حقيقة واقعة. . .
وقال الدكتور (غوستاف ليبون) نقلا عن (لودفيك لالان) الذي ناقش مسألة إحراق مكتبة الإسكندرية مناقشة علمية مختصرة: إن أول مؤلف ذكر حريق العرب لهذه المكتبة هو عبد اللطيف الطبيب العربي البغدادي الذي توفي سنة1231 م أي بعد 591 سنة من وقوع تلك الحادثة. أما من خصوص حريق مكتبة الإسكندرية المزعوم فإنه همجية وعداوة للمدنية، منافية لأخلاق العرب على خط مستقيم، حتى إنه يمكن أن يسأل الإنسان نفسه كيف أن قصة كهذه قبلها منذ زمن طويل كثيرون ممن يعتد بعلمهم؟ وقد كذب العلماء هذه القصة في زمننا مرات كثيرة فلا نرى حاجة في العودة إلى تكذيبها، ولا أسهل من الاستشهاد على ذلك بإيراد أقوال كثيرة جلية تثبت أن المسيحيين كانوا أعدموا الكتب الوثنية التي بالإسكندرية، قبل العرب بزمن طويل وكسروا كل التماثيل أيضاً. ويفهم من ذلك أنه لم يكن بالإسكندرية بعد ما يحرق.
وأما أبو الفرج الملطي فقد نقل روايته عن جمال الدين القفطي وكان قد توفى قبله بنحو أربعين سنة تقريباً في حلب أي عام 646 هـ وقد ذكرها هذا في نسخة خطية في دار
الكتب المصرية مكتوبة سنة 1197 م من كتاب له أسمه تاريخ الحكماء وإليك نص روايته:
(وعاش (يحيى النحوي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى فأكرمه عمرو ورأى له موضعاً وسمع كلامه في أبطال التتليث فأعجبه، وسمع كلامه أيضاً في انقضاء الدهر ففتن به وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن العرب بها أنسة ما هاله. وكان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكاد لا يفارقه، ثم قال له يحيى يوما (إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها، فأما مالك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وأما ما لا ينفع لكم منه فنحن أولى به، فأمر بالإفراج عنه) فقال عمرو: (وما الذي تحتاج إليه؟) قال: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية، وقد أوقعت الحوطة عليها، ونحن محتاجون إليها، ولا نفع لكم بها. فقال له:(ومن جميع هذه الكتب وما قصتها؟) فقال له يحي: (إن بطلوماوس فيلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها وأفرد لها خزائن فجمعت وولي أمرها رجلا يدعى بابن مرة (زميرة) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل واجتمع له من ذلك في مدة خمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتاباً
(ولما علم الملك باجتماعهما وتحقق عدتها قال لزميرة، أترى بقي في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا؟ فقال له زميرة (قد بقي في الدنيا شيء في السند والهند وفارس وجرجان، والأرمان وبابل والموصل وعند الروم. فعجب الملك من ذلك وقال له: دم على التحصيل. فلم يزل على ذلك إلى أن مات، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلبي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا). فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وعجب منه وقال له (لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب). وكتب إلى عمر وعرفه بقول يحيى الذي ذكر واستأذنه ما الذي يصنعه فيها فورد عليه كتاب عمر يقول فيه (وأما الكتب التي ذكرتها فأن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله تعالى فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامها) فشرع عمرو
بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وأحرقها في مواقدها وذكرت عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفدت في مدة ستة أشهر فاسمع ما جرى واعجب)
هذه هي الرواية التي نقلها أبو الفرج عن القفطي فيما بعد فتداولتها الألسن على علاتها، وروج لها الشعوبيون على أنها حقيقة لا غبار للشك عليها. وقد دحضها كل من جبون، ولوبون، وبطلر، وسيدُّيو، وشبلي النعمان
ولقد أعجبنا في دحض هذه الفرية دفاع الدكتور حسن إبراهيم حسن إذ يقول: (ومما يدل على اختلاق رواية أبي الفرج ومن تقدمه ما ذكره بطلر، إذ حلل هذه الرواية تحليلا لا يسع القارئ إلا أن يحكم ببراءة عمرو بن العاص مما نسب إليه، والاعتراف بأن مكتبة الإسكندرية لا بد أن تكون قد فنيت قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة؛ فذكر نقلا عن (اميانوس مارسينوس) أن السبعمائة الألف مجلد التي كانت تحتوي عليها مكتبة الإسكندرية قد أتلفت إتلافا تاماً حين حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية كما تقدم، وممن أيَّد هذا الرأي أورازيوس حيث أعتقد أيضاً أن هذه المكتبة قد دمرت في حريق يوليوس المذكور
وأضاف (بطلر): (ومن سوء الحظ أن مثل جواب عمر قد ورد أيضاً بخصوص إحراق الكتب في فارس). وقد علق الأستاذ (بري) بقوله: (إن شعور المسلمين نحو كتب الوثنين الفرس يختلف اختلافاً تاماً عن شعورهم نحو كتب النصارى إذ كانوا يكرهون أن يتعرضوا لما فيه اسم الله)
وإذا سلمنا جدلا بأن احتراق مكتبة الإسكندرية قد حصل فعلا كما رواه أبو الفرج الذي ذكر أن الكتب قد وضعت في سلات وزعت على الأربعة آلاف حمام، وأنها ظلت تسخن مياهها ستة شهور، فإن هذا الخبر على ما يظهر لنا عبارة عن أكاذيب وأضاليل لا حقيقة لها أصلا، إذ لو قصد تدمير هذه الكتب حقيقة لأمر بإحراقها في الحال، ولم يكن عمرو بالرجل الساذج الذي يضع هذه الكتب تحت رحمة أصحاب الحمامات، فلا يصعب بذلك على (يوحنا) أو أي إنسان سواه أن يستولي على قدر عظيم منها بثمن بخس، ولدى يوحنا وغيره من عشاق الكتب ما يكفي لتحقيق هذه الأمنية وهي انتشال عدد كبير منها من مخالب النيران. على أن ما جاء برواية أبي الفرج من أن هذه الكتب كفت الحمامات ستة
أشهر مما يثير الدهشة والاستغراب في نفوسنا لأنه لو قدر لكل حمام مائة مجلد في اليوم على الأقل (وعددها أربعة آلاف حمام) لبلغ هذا العدد الذي أحرق في ذلك الوقت (72 ، 000 ، 000) مجلد وهو ضعف عدد مجلدات المكتبة الحقيقي بنحو 103 مرة تقريباً. ويستدل مما ذكر أن السبعمائة الألف مجلد لم تكن لتكفي الأربعة الآلاف حمام ساعة واحدة لا ستة شهور
وزاد على ذلك أستاذنا إسماعيل رأفت بك مؤيداً استبعاد وقوع هذا الأمر بقوله: (إن الكاغد بقطع النظر عن الرق وإن كان يصلح لا يقاد النار، إلا أنه لا يصلح لبقائها متقدة أصلاً)
وقد برهن بطلر على أن يوحنا النحوي الذي ذكره أبو الفرج في روايته لم يكن حياً يرزق وقت فتح الإسكندرية، سنة642 م لأن يوحنا هذا كان قد اشترك مع (ديوسفوروس) و (جايوس) و (ساويرس أسقف إنطاكية) في الكتابة ضد مجمع خلقدونية، ويكون قد عاش في أوائل القرن السابع الميلادي: أي قبل سنة 642 م. ولا بد أن يكون قد مات قبل دخول عمرو الإسكندرية بثلاثين أو أربعين سنة. . . الخ. وختم بطلر كلامه قائلا: لا أزال أقول إن إحراق العرب لتلك المكتبة غير محتمل جداً، لأن العرب لم تدخل الإسكندرية إلا بعد استيلائهم عليها بأحد عشر شهراً. وقد ذكر في عهد الصلح (مادة 4 ، 6) أنه يجوز للروم أن يحملوا إلى بلادهم كل أمتعتهم، وفي غضون هذه المدة كان البحر مفتوحاً ولم تكن أمامهم أية صعوبة لحملها إلى بلادهم، وما كان يصعب على يوحنا (بفرض وجوده) وأمثاله أن يقتنوا هذه الكتب قبل أن تقع الإسكندرية نهائياً في أيدي العرب. انتهى كلام الدكتور حسن إبراهيم حسن
هذه هي المصادر والروايات الهامة التي يتعلق بها الشعوبيون في الحط من كرامة الفاروق العاص، وفيما سلف أن فصلناه الكفاية للدلالة على ضعفها وفسادها، وأما بقية الروايات فإنها قد أخذت عنها وتنطوي تحت حكمها
وأما عبارة حاجي خليفة وهي: (ويروي أنهم أحرقوا ما وجدوه من اكتب في فتوحات البلاد) فلا يصح أن تؤخذ حجة على العرب لأنه لم يذكر فيها اسم هذه المكتبة، ولا أشار إليها، ولكنه أراد أن يقول أن المسلمين في أول فتوحهم لم يعتنوا بالعلم لتعلقهم بالوحي وخوفهم من تسلط العلوم الأجنبية عليهم وعلى عقولهم
ولقد اعتاد الناس إذ ذاك أن يقاوموا الأديان الجديدة المخالفة لعقائدهم، فلما جاءت المسيحية قاومتها الوثنية مقاومة عنيفة، وأوقعت بأتباعها مرَّ العذاب، وشديد التنكيل، فلما ظهرت هذه عليها كالت لها الصاع صاعين، وبادلتها الشر بمثله، وكان المسيحيون يعتقدون إذ ذاك أن هدم المعابد والهياكل الوطنية شرط لازم لتأييد المسيحية، ولذلك فإن أباطرة الروم عندما تنصروا كان أول ما أمروا به هدم هياكل الأوثان في مصر وإحراقها بما فيها من الكتب. ولما كانت مكتبة الإسكندرية من آثار الوثنيين ومؤلفاتهم، فليس هنالك ما يبرر حرقهم إياها.
ولم يقتصر هذا الأمر على الكتب الوثنية فقط بل تعداه إلى جميع الكتب غير المسيحية، فقد أحرق الكردينال كسيمنس جميع كتب المسلمين في غرناطة وكانت ثمانين ألف مجلد، وأحرق الأسبانيون غيرها عشرات المكاتب الهامة في القرن السادس عشر كرهاً للعرب، وفي القرن الثاني عشر أتلف الصليبيون معظم مكتبة طرابلس، وكذلك يوم أمر ضجيل بإحراق كتب دار العلم فيها وكانت تقدر بأكثر من مائة ألف مجلد.
ونحسب بعد هذا أن قد وفينا الموضوع حقه من البحث، في دحض هذه الفرية الشائنة التي لفقها بعض الشعوبيون على العرب تلفيقاً، وأننا قد بلغنا بالقارئ محجة الإقناع. وسنتقدم في مقال آت لدحض فرية أخرى عن الإسلام لا تقل عن هذه شناعة. وسنواصل نشر هذه البحوث في الرسالة العزيزة حتى يتم طبع كتابنا في الدفاع عن الإسلام، وبذلك نكون قد وضعنا تحت متناول القارئ ما يساعده على مجابهة الخصوم، ونكون قد أدبنا لهذه الأمة العزيزة بعض ما أخذنا على عاتقنا عبئه، وأنجزنا بعض ما سجلته علينا الرسالة العزيزة من الوعود القاطعة.
خليل جمعة الطوال
على ذكر مؤتمر القاهرة
فلسطين العربية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
إن أبرز ما يتسم به الإسلام هو التسامح إزاء من يعيشون معه أو في كنفه، وتلك جِبِلّة في العربيّ أنّى كان؛ غير أن خصومه لك يقدروا فيه ذلك التسامح حق قدره، ولم يحملوا للعرب هذه المكرمة التي يظهرونها في كل حين مهما اشتدت بهم الأمور، وحاقت بهم الخطوب
واليهود في ادعائهم فلسطين وطناً قومياً لهم إنما يتنكّبون السبيل السويّ والصراط المستقيم، فما كان لهم في عصر من العصور وطن قومي حتى يجوز لهم اليوم التشبَّث به. وخير لهم أن ينضووا تحت ظلال الشعوب التي هم بينها. وأنى لهم أن يعرفوا (الوطن القومي) وهم لا يعرفون الشعور القومي، ولكنهم قوم غرقوا في العصبية الجنسية تقليداً فحسب، فلا جرم إذا هم سعوا وراء مصالحهم قبل أن يفكروا في مُعَاونة من هم بينهم، ولا غرابة - حين يبدو هذا منهم - أن تقف منهم جميع الدول الغربية موقف المضطهد المستنكر لأعمالهم، ذلك لأنها أحست بوطأتهم وضررهم، ورأت أنهم يتعصَّبون لجنسهم لا لقومية فيهم، فاليهودية اسم للدين لا للوطن، على حين أننا إذا قلنا (العروبة) شخصت الأبصار والأذهان إلى الجزيرة العربية وأطراف العراق وبلاد الشام موطن الغساسنة
لقد كتب الله على اليهود التشتت والتفرقة (ضربت عليهم الذْلة والمسكنة وباؤا بغضبٍ من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وكيف يريدون أن تكون فلسطين وطناً لهم وفي بلاد العروبة أنفس أبيَّات لا ترضى الذّل وتأبى الصبر على الهوان؟ وكيف يريدون فلسطين وطناً لهم وهي مهبط المسيحية الغراء، والأرض التي درج عليها عيسى عليه السلام، وفيها مناسك النصرانية؛ وهي الأرض المقدسة بعد الحجاز عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ قل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). ولو
رجعنا إلى التاريخ نستوحيه الخبر عنهم، لرأيناهم لا يستقيم لهم أمر إذا التأموا، فلقد كانوا حرباً عوناً على المسيح وأنصاره، مؤيدين للظلم ولو عرفوا الحق
أما في الإسلام فقد حاربوه وناجزوه العداء وهو دين الوحدانية، ولم يتورّعوا عن اتخاذ أية وسيلة لمحاربته، وكانوا كثيرين في الجزيرة، ولكن نصر الله نبيّه وأيَّده بروحه، وأمدّه بكل ما حقق به الإسلام والعروبة الفوز المبين والنصر الباهر
نشب النضال بين اليهود والمسلمين منذ رحل النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنوّرة، واتخذها مركزاً لبث دعوته، ورأوا في محمد (صلوات الله عليه) وفي دينه منافساً جديداً يوشك أن يقضي على نفوذ كل دينٍ غيره، فأبوا إلاَّ محاربته، مع أنهم كانوا يستنصرون به على العرب في الجاهلية ويقولون (اللهم انصرنا بنبيّ آخر الزمان) فإذا سألهم العرب قالوا (أن نبينا قد قرب زمانه، وسيكون لمن اتّبعه العز والنصر إلى يوم القيامة) ويتوعدون العرب باتباعه والاستنصار به عليهم، ولكن ما كاد محمد عليه السلام يذيع رسالته حتى ناصبوه العداء، بعد أن كانوا يستفتحون به عليهم
وكان اليهود يكرهون محمدا والعرب والمسلمين، وينظرون إليهم والى دعوته بعين الخوف والفزع من أول يوم طلع عليهم في أفق يثرب، ثم زاد خوفهم منه وظهر حسدهم له عندما رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فأخذوا يكيدون للإسلام والمسلمين بالدّس والإرجاف، ثم بالمراء والجدل فيما يعلمون ومالا يعلمون؛ وإذا سئلوا عن شيء مما في كتبهم حرَّفوا الكلم عن مواضعه وألبسوا الحق بالباطل، ليكسِبوا ولاء المشركين.
وقد نعى الله عليهم ذلك فقال (بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزلَ الله بغياً أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده) وكانوا يسعون في دين الله معاجزين لكي يفتنوا المسلمين عن دينهم، ويوهنوا عقائدهم بالشّبه والأباطيل، فقال تعالى (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق)، كل هذا والنبيّ يصابرهم ويصبر عليهم، ويسوّي بينهم وبين المسلمين في المصالح ويحترم شعائرهم. ولو تركنا ما قاساه النبي والمسلمون من كيد اليهود لهم بكافّة الطرق، بل وانتهازهم الفرص لقتل الرسول وتأليب العرب عليه وتحزيب الأحزاب ضده، ونقضهم عهود المسلمين في أحرج الأوقات، لو تركن ذلك كله، ورجعنا إلى عهد إبراهيم عليه
السلام لوجدنا أنه لم تكن فلسطين وطنه الأصلي، ومن هنا تنهار إحدى الدعائم التي يستمسك بها اليهود في أحقيتهم لها؛ فقد ولد عليه السلام بالعراق، ثم أمره الله تعالى بالدعوة إلى التوحيد، ثم سار إبراهيم وزوجته سارة وغيرها ممن آمن بدعوته إلى حران، ثم أتى مصر حيث لحق بهم حنق فرعون الذي أطلقه هو وزوجته بعد أن ظهرت على يد إبراهيم آيات النبوة، ووهب سارة هاجر جارية لها، وسار ثلاثتهم إلى الشام، ثم شخص إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى بلاد الحجاز، فأية دعوة لليهود بملكية فلسطين؟ ولو أجيبوا إلى دعوتهم لحق لأهل بريتاني الفرنسية المطالبة بملكية إنجلترا دون الإنجليز، لأنهم غزوا إنجلترا وسكنوها، حتى نسبت البلاد إليهم كما غزاها الرومان إلى سنة 54ق. م والإنجليز والسكسون والدنيمركيون، وغزاها كذلك وليم الفاتح النرميدي (من مقاطعة نرمنديا بفرنسا) وانتصر سنة 1066م في موقعة هستنجس، فهل يحق لفرنسا وإيطاليا والدانمرك أن يطالبوا بإنجلترا اليوم لأنهم غزوها واستولوا عليها بحد السيف في يوم من الأيام؟ هذا على الرغم من أن اليهود لم يغزوا فلسطين ولم يفتحوها عنوة أو بحد السيف وإنما لجئوا إليها كما لجئوا إلى غيرها من بلاد العالم.
ولقد غلا اليهود في زمن موسى عليه السلام واشتطوا، ورأى فرعون مصر ذلك منهم فطردهم من بلاده، فلاذوا بفلسطين وظلوا بها حتى أخرجهم الإمبراطور الروماني تراجان سنة 105م وكانوا شرذمة عديمة النفع، كبيرة الضر، عاكفة على الشر، مؤيدة للباطل. وإن التاريخ ليأبى إلا أن يعيد نفسه، فقد نكل بهم الروم في مصر فخلصهم العرب المسلمون من نيرهم، واستعملوا سياسة التسامح التي عرف بها الإسلام، كما نكل بهم القوط في الأندلس، وكانت نجاتهم على يد العرب، فظهر منهم الأطباء والفلاسفة ورجال الأعمال وأسندت إليهم مناصب الدولة.
وبعد سبعة عشر قرنا نرى هتلر وموسليني يمثلان معهم نفس هذا الدور الذي مثله معهم من قبل فرعون مصر والروم والقوط وغيرهم. وكأن الصهيونيين لم يشعروا بضرورة وطن قومي لهم إلا بعد عشرات القرون، ولكنهم قابلوا جميل العرب بالخيانة والعدوان عليهم، لقد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله (اتق شر من أحسنت إليه) فأية جريرة ارتكبها العرب والإسلام حتى يكيد لهم اليهود وينتقموا منهم في عرب فلسطين وهم
السواد الأعظم من الآهلين؟
إن فلسطين عربية منذ الجاهلية السحيقة، سكنها الغساسنة وهم عرب، حتى إذا كان الإسلام فتحها المسلمون بحد السيف، فقد أنفذ أبو بكر الجيوش العربية نحو الشمال، وعقد لأبي عبيده (ووجهته حمص) وعمرو بن العاص (ووجهته فلسطين)، ويزيد بن أبي سفيان (ووجهته دمشق) وشرحبيل بن حسنة (ووجهته وادي الأردن).
ثم فتحت هذه البلاد في عهد عمر بن الخطاب، وأبى البطريق سفرونيوس تسليم بيت المقدس إلاّ لعمر نفسه، فأتى الخليفة، وتسلم منه مفاتيحها وأعطى لأهلها الأمان المعروف. وصفوة القول أن العرب فتحوا فلسطين، وأن القتال قام بينهم وبين الروم المسيحيين أصحاب هذه البلاد دون اليهود الذين لم يكن لهم أي أثر في هذه الفتوح.
وفي عهد آخر نرى في فلسطين تلك الحروب الطاحنة، وهي الحروب الصليبية التي قامت بين المسلمين والمسيحيين، وأريقت فيها دماء كثيرة، وأبلى فيها البلاء الحسن أمثال صلاح الدين والظاهر بيبرس والأشرف خليل، فأين كان اليهود في ذلك الزمن المفعم بالخطوب والويلات؟ لعلهم كانوا في غفلة، أو لعلهم لم يكونوا في هذه البلاد، أو لعلهم لم يكونوا قد تعلموا بعد أساليب القومية والوطنية. ولو فكر الصهيونيون لرأوا أن من الخير لهم أن يعقدوا أواصر المودة وحسن التفاهم مع العرب، وفلسطين اليوم تعتبر بحق حلقة من حلقات الاتصال في الثقافة بين الشعوب العربية، هذا إلى أن استقلال الصهيونيين بجزء من فلسطين يهدد مصر نفسها، والعرب رأوا أن لا سبيل لتأمين الشام وفلسطين جنوباً إلا بفتح مصر، كما اتبع هذه السياسة قبلهم الكلدانيون والآشوريون والفرس والروم، كذلك سيهددون مصر إذا هاجر إلى فلسطين يهود ألمانيا وبولندة وغيرهما. ومن ثم نرى أن الواجب يقضي على مصر حكومة وشعباً أن تنظر إلى مغبة الحركة الصهيونية بعين الحذر، وأن تقف منها موقف الصراحة في القول، وأن يعمل الجميع متكاتفين متساندين مع إخوانهم عرب فلسطين وسائر أهالي البلاد العربية. ولا مشاحة في أن وقوف مصر هذا الموقف الحازم سيكون له أثره في موقف العرب إزاء الحركة الصهيونية، وسيعزز مركز مصر عند سائر البلاد العربية خاصة والشرقية عامة.
حسن إبراهيم حسن
متى يوجد منقذ العرب
للآنسة فلك طرزي
يحلو لي أحياناً استجلاء بعض أمور الحياة ومحاولة تحليل بواعثها وأسبابها ساعة أخلو بنفسي في وحدة صامتة لا يكون رفيقي فيها إلاَّ قلبي وضميري، لأن الساعة التي يجالس المرء فيها ضميره وينفرد في ظلال التفكير والتأمل بعد ساعات يقضيها بين الناس تعد من أعظم ساعات الحياة نفعاً وأرفعها شأناً، وأكثرها فائدة. فكم من ضال مخطئ كانت الوحدة سبيل هدايته إلى الحق والصواب! وكم من نفائس علمية وفنية وأدبية لم يتحفنا بها رجال العلم والفن والأدب إلاَّ بعد ساعات بل أيام انفردوا خلالها بأنفسهم وضمائرهم، فإذا ما اطمأنوا إلى صمت هذه الوحدة وسكونها، أرسلوا أنفسهم على سجيتها فانطلقت من عقالها مجتازة الحدود، مخترقة بنفاذ بصيرتها صميم الحياة، تكشف الحجب عن حقائقها وترشدهم إلى كل موضع ومعنى من مواضعها ومعانيها، فيستجلون بدقة خيالهم صورها، ويدركون بقوة عبقريتهم دقائقها، فإذا ما انتهوا إلى الإدراك، عرضوا صور الحياة على اختلاف ألوانها ومعانيها، أمام أبصارنا واضحة صافية، فيها دقة الفن وفيها دقة الأداء، لأنهم حين استخرجوها من مكمنها وأخذوا في توضيحها، مزجوا ألوانها بألوان نفوسهم، وأضافوا إلى معانيها من معاني قلوبهم، وأفرغوا فيها الكثير من إحساسهم وشعورهم
وليس النضال الذي تخرج منه العبقرية إلى النصر بعد عراك طويل مستميت مع مختلف عوامل الحيرة والضعف التي تعتري نفس الفنان أحياناً بأصغر شأناً وأقل خطراً من نضال القائد الجبار الذي يقوم بتدريب فرقة من فرق الجيش في ساحات الحرب.
أجل يحلو لي اللجوء إلى الوحدة في ساعة من الساعات تحن نفسي فيها إلى الصمت وتشتهيه، لكي يتسنى لي عصر قلبي، فأستنزف منه قطرات من دم الصدق والإخلاص
لقد حدثتني نفسي أن تأخر الأمة العربية عامة والسورية خاصة ناتج عن سبب خلوها من النهضة الفكرية أو بالأصح من التفكير الصحيح المستقيم الذي هو بمثابة مشعل ينفذ بحامله إلى خفايا حياة أمته ويتغلغل به في جوانبها وزواياه، ليطلعه على مختلف شؤونها ونقائضها، ثم ليقوده بعد النفاذ والتغلغل إلى تشخيص الداء الأساسي الذي تشكو بسببه علتها ومرضها
خذ دليل ذلك أيها القارئ، وبرهانه الساطع من تاريخ النهضة العربية في غابر العصور، وتأمل ضخامة الدرس الذي ألفته الأمة العربية على الإنسانية جمعاء، ثم تأمل في سرعة الانقلاب الذي حدث في تلك الجزيرة المحاطة بالجدب والقحط من كل نواحيها، فإذا بها تصبح في مدة من الزمن لم تبلغ نصف قرن ينبوعاً صافياً يؤمه كل ظامئ إلى معرفة الحق، ليرتشف من مناهله ماء الثقة والأيمان
أنظر كيف أن قريشاً لم تنهض من الجهل الذي كانت واقعة فيه ولم ترتفع من الدرك الذي انحطت إليه، إلا حين خرج النبي المفكر البصير، فبدد جهلها بآيات الكتاب المبين الذي حملته يمينه، وأيقظ في قلوبها الحق والأيمان مشعل الحقيقة الذي كان نوره ينبعث من بين جوانحه فإذا به يجري عجباً، وإذا به يغير حالاً بحال، ويبدل أموراً بأمور، فتمسي قريش التي كانت من قبل تغط في غياهب الجهل والشرك، كعبة المدينة والحق، والمنارة التي ترشد الإنسانية إلى سبيلهما
ثم انظر إلينا كيف نسير متلكئين في طريق نهضتنا الفتية ونحن بعد بين هجعة ويقظة. . . بين ظلام الليل ونور النهار، نحاول في سبيل إيجاد الحل الموافق لقضيتنا المعقدة نتبع خطوات الأمم التي أحدثت الحرب العظمى تغيراً في نظمها ومناهجها الدولي، ناسين أو متناسين أن للعوامل الإقليمية والتاريخية والنفسية شأناً كبيراً وأثراً بعيداً في اختيار نوع من أنواع الأنظمة الدولية المختلفة الذي يلائم أمة ولا يلائم غيرها، إذ هي الدعائم الأولى، بل القاعدة الأساسية التي يشيد عليها مؤسسو النهضات القومية بناء هذه القومية.
فلا النظام الشيوعي ولا النازي ولا النظام الفاشستي يلائم الأمة العربية: هي بحاجة إلى نظام خاص يكون مقتبساً من تاريخها، ومستمداً من قوة الحاضر وواقعه.
القضية العربية تشكو خلوها من عالم مدقق حصيف يدرسها على ضوء المنطق، درساً عميقاً مستفيضاً، كما درس موسليني القضية الإيطالية، وهتلر الألمانية، وكما درس من قبلهما الفيلسوف الاجتماعي مونتسكيو القضية الفرنسية فكان كتاب (روح الشرائع) الذي أخرجه بعد درس النظام الدولي الأنكليزي، درساً مشبعاً بروح البحث والتمحيص، ومشعلاً استنار به الفرنسيون واسترشدوا بقوانينه وشرائعه، فجاء مطابقاً لأهوائهم، ملائماً لرغبائهم، محاكياً ميولهم محققاً آمالهم وأمانيهم.
الأمة التي في عبقريتها وجوهر، تخلق ذاتها، وتوجد نهضتها بهذه الذات، وتختار بفضل تفكيرها وجهودها نوع الأنظمة الذي يوافق طبيعة إقليمها ويلائم مستوى شعبها الفكري والعقلي والأخلاقي. فهي إذن في غنى عن تقليد هذا النظام وذاك المنهاج، وهي في غنى - إذا كانت شروط العبقرية متوفرة لديها - عن اتباع النظم الدكتاتورية التي خلقت الحرب الكبرى وجودها في بعض أمم الغرب.
ولست أعتقد أن سمة التقليد هي سمة الأمة العربية التي برهنت وتبرهن الآن في أجل وأقدس بقعة من بقاعها على أنها أمة فيها نبوغ وفيها عبقرية.
أمتنا شبيهة بتلك النفس المضطربة الحيرى التي تحس في أعماقها بحاجتها إلى الصديق العالم المخلص العطوف الذي يحنو عليها برفق ليسير بعقله حقيقتها، ويملك بقوة (سيكولوجيته) كل ناحية من نواحي خلقها ونفسيتها، ويحبها بقلبه وجوارحه حباً عميقاً صادقاً لا يخالطه زيف يحوجه إلى سلوك طرق النفاق والتدجيل.
ويوم يعلن لها ضحاه وجود هذا الصديق تستطيع هذه الأمة التعسة أن تنام قريرة العين، لأنها سوف تستودع آمالها وأمانيها في قلب وفي أمين، تعلو به مشاعره النبيلة عن الخيانة والكذب، ويرتفع عن استعمال أحط الطرق والوسائل في سبيل خدعها والسخر منها
فلك طرزي
بين الشرق والغرب
لباحث فاضل
قرأنا كما قرأ كثيرون غيرنا ما كتب في الرسالة في موضوع الغرب والشرق؛ تتبعنا مناظرات كثيرة لفئة من الكتاب منهم العرب وغير العرب. وهذا الموضوع ليس حديث العهد بالجدل والمناظرة، فلطالما قام التفاضلُ بين الشرق والغرب على أن التفاضل فيما مضى قد قام على أساس جغرافي في تقسيم العالم لأن لكلٍ مِن العالمين عادات وطبائع تباين الآخر ولقد اتسع مدى هذا التباين حتى ألبس العقلية في كل منهما مظهراً خاصاً تميزت به عن الآخر، فليس غريباً بعد هذا أن نجدَ مثل هذا الاختلاف ممثلاً في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. وما مظاهر الحياة وطقوسها في جميع بلدان العالم إلا صورة لشخصيات الشعوب التي نشأت فيها والتي اشتركت البيئة والتراث في تكوينها
على أن هذا الاختلاف وإن شمل مناحي الحياة المتعددة وألبس العقلية مظهراً خاصَّا بها فلا نعتقد بأنه اختلاف أساسي في العقلية؟ إذ من الواضح أن طبيعة العقلية قد استوت في قدرتها وقابليتها في أصل جميع الشعوب. وذلك الاختلاف الذي نرى أثرَه في منازع التفكير المتعددة يجب أن يرجع إلى بيئات تلك الشعوب والى المؤثرات التي قدِّر لكل شعب أن يتأثر بها. فمن سكن اليمن من العرب غير من سكن الأندلسَ منهم؛ فأوجه الحياة قد اختلفت فيما بينهما من أصلٍ واحد. فمن رجع إلى تراث الأندلسيين ثم نظر إلى تراث اليمنيين تبين له الفرق الشاسع في كلِّ شيء، أفيكون هذا الاختلاف داعيا إلى شطر العقلية إلى شطرين منها للأندلسي والناقصُ لليمني؟ ثم هل يعجز ساكنُ البادية عن مجاراة أعظم الأمم حضارة في كل شيء؟ إن هذا ليحملنا على تقرير الحقيقة وهي أنه ليس فرق أساسي بين طبيعة العقليات جميعاً. وعلى هذا فإن الصور الذهنية لكل شعب يغلب أن تكون مرآة للشكل المتكون من تفاعل خصائص ذلك الشعب التاريخية مع البيئة
أما القابلية العقلية والقدرة الفكرية فلا يحكم على مدى كل منها بمجرد النظر إلى طبيعتها في زمن واحدٍ وعصر منفرد. ذلك لأن العقلية تخضع كغيرها إلى مؤثرات تختلف قوة وضعفاً. ونصيب العقلية من كل ذلك أن تنزع في كثير من الظروف منازع شتى تباين
الأصل والطبيعة، فتراها تتلون بلون المؤثر إن ضعفت بالنسبة له، أو تراها تلون المؤثرَ إن قويت عليه، أو تراها تمتزج معه إن تعادلا منزعاً وقصداً وغاية. وهذه هي الحقيقة الواضحة التي نلمحها في ثقافات الشعوب المتعدَّدة
أتيتُ بهذه المقدمة لا لأبحث في نشوء العقليات وتطوِّرها فهذا أمرٌ لا قدرة عليه إلا لمن أوتي القدرة على تفهم ثقافات الأمم جميعاً وإرجاعها كلها إلى الصور العقلية والذهنية التي صدرت عنها وهذا بعيد على مَن يحاوله. ولكننا رغبنا أن نظهر ببساطة أن منازع التفكير لا تدعو إلى تفاصيل في العقلية، ثم هي بعد هذا لا تبيح للكاتب أن يفاضل بين الشرق والغرب فيقرّر حدوداً قاطعة بينهما لأن العقل لا يعرف الحدود القاطعة الحاسمة
وقد درَج الكتاب على تقرير عقلية للشرق وأخرى للغرب؛ وذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فقرروا طبيعة كل من هاتين العقليتين وأن الواحدة منهما لا تقبل إلا المظهر الفلاني ولا تتلون إلا بلون خاص. وهم بقياس المظاهر الفكرية لهذه العقليات قد طبقوا هذا القياس نفسه على الشعوب فتفاضلت بسبب ذلك
هذه ملاحظة أساسية استخلصتها من بحث للدكتور إسماعيل أدهم في موضوع الشرق والغرب المنشور في الرسالة (259، 260) ولست أقصد في هذه الكلمة أن أناظِرَ الكاتب في هذا المبحث فإن الوصول إلى حد حاسم في هذا الشأن بعيد الوقوع. ولكن بعض الحقائق التي تضمنها بحثه المذكور تفتقر إلى تدقيق؛ ثم هو بعد هذا لم يشأ أن يستند في النتيجة التي توصل إليها إلى الحقائق التاريخية فأورد بعضها ونسى أو تناسى الآخر. ولقد أحسن الدكتور صنعاً في أن دعا إلى مناقشة ما أتى به. ولا زلنا نرغب معه في أن تجلو الأقلام كثيراً من الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع فننصف الشرقي والغربي وننصف معهما الفكر العربي من كثير مما أصابه وهذا مما لا يرتكز على حقيقة
(أولاً) تحديد لفظي الشرق والغرب، فقد حرنا حقيقة في جلاء ما قصده الكاتب في هذين اللفظين. فهو تارة لا يرجعه إلى أساس جغرافي في تقسيم العالم إلى بلدان في قوله (إن ما نعنيه بإصلاح الشرق والغرب لا يقوم على تقسيم العالم من شرق وغرب في تقويم البلدان) ثم نراه مرة أخرى يقف عند هذا الحد فلا يظهر لنا ما عناه بهذا المصطلح فيقول (إنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق) وبعد هذا
تبقى كلمتا الشرق والغرب مجهولتي المعنى والتحديد. على أننا مع هذا نستطيع أن نبين ما رمى إليه الكاتب من وراء هذا المصطلح وإن جاء ذلك متداخلاً مضطرباً.
فعلى فرض أن (الغرب) مصطلح علمي يدل على شيء أو أشياء معينة فقد أراد أن يثبت بأن ما يدل عليه هذا اللفظ إن هو إلا العقل الحر الذي لا يتقيد بالروحانيات وما إليها، في قوله:(إن في الشرق استسلاماً محضاً للغيب وفي الغرب نضالاً محضاً مع قوى الغيب)
ثم إن الغرب يعني العقل المتفلسف لأنه (يبدأ من عالم الغيب وينتهي للعالم المنظور. والغرب بعد هذا يعني العقلية العلمية التي (تأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر) والغرب يعني أيضاً (تحكم العقل في محاولة تنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري)
وأخيراً فإن الإنسان في نظر الغربي) قادر على تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المحكمة في وجوده)
وأما الخالق (الذي خلق هذا الإنسان) فهو مقيد بهذه السنن والنواميس، وإرادته (أي الخالق) مقيدة بنظام هذا الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار)
في مطلع الشرق قد أدرج ما يعكس مدلول الغرب؛ فله العقل المقيد بالعقيدة، وله الجمود الفكري (في أن تكون العصور الوسطى صورة من الصور الشرقية). والعصور الوسطى هي عصور مظلمة عمت فيها الفوضى في مهامه الجهل
إلى هنا أحسن الكاتب صنعاً. ولو أنه لم يتعد مدلول هاتين اللفظين كما (تصورناه) لكان بحثه (بحق) أوفي ما يكتب في بحث مظاهر العقليات. ولكنه رغب في قرارة نفسه أن يتعدى هذا المدلول وأن يكشف عن نياته الصادقات عن الشرق والغرب فتراه أكسب العقليات الصفة الشعبية. فاليونان من الغرب؛ وكذا أهل أوربا في عصور النهضة والنشاط الفكري. أما أوربا في غير تلك العصور فليست من الغرب. فهي في عصر النور غربية وفي عصر الظلام شرقية مع أن الشعوب التي سكنتها في كل من العصرين لم تختلف في عنصرها ولا في جنسها.
والعرب كذلك (في رأيه) عقليتهم العلمية ترجع للغرب لأنهم أخذوا أصولها عن فلاسفة اليونان، أما روحانيتهم فهي للشرق لأن الشرق منبع الأديان وكل ما فيها روحاني الطبيعة
والمظهر. وسبب هذا التباين الذي اعتبره أساسياً أن العقلية الشرقية ابتدأت بالاعتقاد إلى خالق ثم انتهت بالطبيعة. والعقلية الغربية بدأت بالطبيعة وانتهت في الخالق، ثم هو لا يوضح متى بدأت كل من العقليتين الأولى في اعتقادها بالخالق، والثانية في بحثها عنه عن طريق الطبيعة. ونحن لا نطالبه بهذا الإيضاح، فالثابت الذي لاشك فيه أن الغرب قد سبق الشرق في كلتا الناحيتين وما كان الغرب إلا مقلداً لها ومتأثراً بسببها.
ولنعد الآن إلى ما جاء في البحث المذكور الذي أوردناه أهم النقط التي تضمنها فيما مضى من السطور لتسهل مناقشتها.
(ثانياً) إذا كان الأساس العلمي هو المقياس لتفاضل العقليتين، وإذا كان البحث في نواميس الطبيعة والكون من المظاهر العلمية للعقل، فهل للفاضل الكاتب أن يقرر لنا متى بدأ يتحسن الخالق في سر مخلوقاته. أهو الشرقي مصرياً كان أو آشورياً أو كلدانياً أو عربياً أم بدأ به اليونانيون والرومان والسكسون؟
إن العقلية اليونانية التي ادعى الكاتب أنها أصل البحث العلمي الذي أخذ عنه فلاسفة الإسلام، هذه العقلية هل انفردت عن غيرها من العقليات المعاصرة أو السابقة في نهج الأسلوب العلمي؟ وهل يعتقد أحد بأن من قيمة العقل العلمي المتفلسف أن يقف عند حد المنطق في وضع أصول الشك ولا يتعدى تطبيق هذه الأصول على حقيقة الوجود كي ينتهي إلى الخالق؟ ثم نواميس الكون وسنن الوجود التي توصل إليها اليونانيون بأي خالق ربطت وعلقت؟ هل الجانب العلمي الذي أخذه العرب عن اليونان انتهى إلى الحد الذي انتهى إليه اليونانيون في تقريرهم بأن عشرات الآلهة تحكم عالمهم، وأن هذه الآلهة تموت وتحيا وتقتل؟ أم أن ذلك الجانب العلمي هو أن تكون الأسطورة ديناً لهم كما كانت إلياذة هوميروس دينا لليونان قروناً طويلة؟
إذا كان الشرقي قد أدخل العنصر الروحي في تقرير المعاملات بين الناس فهل يتنافى هذا مع العقل السليم؟ وهل يتهم بعد ذلك بأنه قاصر ونحن نعلم علم اليقين بأن الشرقي في اعتقاده الروحاني قد اتسع أفق تفكيره فشمل عالمين بينما قصر غيره عن ذلك فانتهوا عند حدود عالم واحد أخطئوا حتى في تحديده؟
لقد نظر إخناتون في مصر إلى العالم الذي أحاط به فرأى أن لا بد لنواميس الكون من
مدبر فنادى بالتوحيد، وكان إيماناً جميلاً أن يبدأ ملك (كان ينتظر أن تسيطر أبهة الملك المادية على قوى تفكيره) بالطبيعة وينتهي للخالق
ونظر إبراهيم إلى الكواكب وكان قومه يعبدونها فرآها تأفل فشك في أن تكون رباً له، وكان شكه داعياً لإيمانه فقال في ذلك تعالى:(فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)
ونظر الأعرابي في الصحراء إلى ما أحاط به من شمس وقمر ونجوم فداخله الشك (وهو الساذج) في أن تكون معبوده وإلهه، أو تكون مطلقة التصرف في شئون نفسها. وهذه الشمس، وهذه النجوم تغرب، وها قوم يموتون فلا يعودون. فمن يطلع الشمس ويغربها، ومن يسطع النجوم ويعزبها، ومن يذهب بأولئك فلا يعيدهم؟ أذلك الصنم في معبد الأعرابي؟ أم تلك الأسطورة عن زفس وأبلون في مخيلة اليونان؟
هذا الشك بدأ في الشرق وانتهى أهلوه إلى الخالق عن هذا الطريق. فأصول الشك وجدت في الشرق قبل أن يعلمها الغرب بآلاف السنين. وهذا الشك كان أهم الأسس التي قامت عليها النهضة الأوربية الحديثة. وبعد هذا فما الشرق وما الغرب؟ ومن صاحب الخالق الواحد، ومن صاحب الآلهة التي تقتتل؟ وأين العقلية العلمية بينهما؟
(البقية في العدد القادم)
(* * *)
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 1 -
(ما من مفكر أشد إخلاصا من نيتشه، إذ لم يبلغ أحد قبله ما
وصل إليه وهو يسير الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي
بما يعترض سبيله من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من
اصطدامه بالفجائع في قرارتها أو من الانتهاء إلى لا شيء)
(أميل فاكيه)
هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض فلسفته. وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوربا؛ فإنك لو استعرضت المؤلفات التي كتبها العباقرة العديدون، ومنهم من يعتقد بتخبطه على غير هدى، ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة لا تنجلي معانيها إلا للعقل النافذ والحس المرهف، لرأيتهم قد أجمعوا على وصفه بالمفكر الجبار المتجه إلى الحقيقة يطلبها وراء كل شيء حتى وراء المبادئ التي يقول بها
وما أجمع هؤلاء المفكرون إلا على الصواب في هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه لنفسه إذ قال:
(لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه، لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان في ذلك مخالفاً لعقيدته؛ فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها
إياك أن تقف حائلاً بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين
عليك أن تصلى نفسك كل يوم حرباً، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني
عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك)
قال نيتشه بهذا المبدأ، وعمل به وبالرغم مما يتجلَّى في تعاليمه من غرور وصَلَف، فإنه كان يسير في أبحاثه ولا هَّم له سوى استكشاف الآفاق فيورد اليوم فكرة يكذِّبها غداً، فكأنه بإنكاره الخير والشر لم يجد بداً من إنكار كل عقيدة ثابتة. فإذا أنت أردت أن تسير وراء هذا الفيلسوف طلباً للعقيدة فلا تتعب نفسك باللحاق به في مراحل يقطعها بخطواته الجبَّارة لأنه هو نفسه قد أَصابه الخبل وبصيرته تائهة في استلهام الحقيقة واستقرائها
مَنْ قال لك:
(إنه لا مكتشفَ لحقيقة ذاته إلاَّ من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شرّي فيُخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخيرَ خيرٌ للكل والشرَ شرٌّ للجميع)
من قال لك هذا، لا تتوقع منه أن يأتيك بشِرعةٍ تقوم مقام الشرائع التي يثور عليها
إن نيتشه المفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد آفاقاً وسيمة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل، تائقاً إلى إيجاد إنسان يتفوَّق على إنسانيته بالمجاهدة والتغلُّب على العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم، يقف وقفة الحائر المتردد عند ما يحاول إقامة مجتمعٍ لأفراده المتفوِّقين، بل هو يضطر إلى نقض أوليَّاته القائمة على احتقار الرحمة والرُّحَماء حتى ينتهي إلى قوله:
(إن العالم الذي يتفوَّق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأَصاغر والمتضعين)
وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها والى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر يعود مفتشاً بين أنقاض الألواح التي حطَّمها على كلمات قديمة يجعلها دستوراً لإنسانيته المتفوِّقة
إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدى في تفحُص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حلِّ المعضلات الاجتماعية، لأنه إذا أمكن للفرد المنعزل أن يختطَّ لنفسه منهجاً يوافق هواها باعتقاده أنه هو المُبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضواً حياً في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع إخوانه بأنه ليس مصدراً لذاته ولا مآباً لها
إن مَنْ يطمح إلى مثل ما طمح إيه نيتشه من تكوين مجتمعٍ منظم يسود فيه المتفوِّقون ولكلٍ منهم شرُّه الخاص وخيره الخاص، وخيره لا يوجِدُ في النهاية إلا مجتمعاً يتفاوت التفوُّق فيه بين أفراده فيقضى الأقوى منهم على الأقل قوةً منه حتى يقف آخرُ الظافرين منتحراً بقوته وعنفه كما انتحر إلهُ نيتشه برحمته
غير أنَّ المبدع لزرادشت لم تفته هذه الحقيقة، فعاد إلى الشريعة الأولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصيةً لدنياه فقال:
(حذارِ من الطُّفْرة في مسلك الفضيلة فعلى كل فردٍ أن يسير في طريقه وإن جنح عن مسلك الآخرين، فلا يطمحنَّ إلى بلوغ الذروة وحدَهُ إذ على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين)
أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت في مفكراته نفسها إذ قال:
(على أهل السيادة في الإنسانية المتفوِّقة أن يمهِّدوا سُبُلَ السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذَّاتهم وراحتهم، وعليهم أيضاً أن ينقذوا مَنْ لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال)
بل كيف يتفق القسم الأول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟ ومن له أن يضع مقياساً يقضي به على مَنْ لا يصلحون لها إذا اتبع القاضي شرعة زرادشت القائل بأن على اتباعه أن تتجلى القوة فيهم من الرأس حتى أخمص القدم
ولو أن مذهب نيتشه هذا طُبَّقَ قبل ميلاده لكانت السلطة التي يراها مثلاً أعلى قضت على أبيه وأمه دون إمهال فما كان له هو أن يظهر في الوجود بدماغه الجبار وبسُم الدعاء الذي جال من دمهما الملَّوث في دمه. . .
ثم، أليس هنالك غير هذه الأدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها، ما يقضي على الإنسان بالرضوخ له من حالة في جسمه لا قبل له بتبديلها أو تعديلها؟ أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحباً معه إليها من سلالته الضعف الذي سيقضي عليه؟ أفليس في كل دارج على هذه الغبراء علة أو علل كامنة في تكوين أعضائه ستورثه الردى حين تدنو ساعته؟
أي جسم مهما ظهر لك صحيحاً ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات في سلسلة أعضائه وفي فراغ مناعته المحدودة انفصام العرى وبداية انحلال العناصر في الهيكل الفاني؟
أين هو الجسم المنيع الذي يتوق نيتشه إلى إيجاده مربعاً من قمة الرأس إلى أخمص القدم؟
لقد عمل العالم المتمدن على إيجاده الرياضة فأوجد الرقاب الغليظة والعضلات المتضخمة مسبباً منها تضخم القلب وجفاء الطبع وبلادة التفكير وانحطام أجنحة الخيال
يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق جباراً كشمشون وشاعراً كداود وحكيماً كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان (التافه) القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره
إن المجتمع لا يقوم من الوجهة العلمية على أفراد يحاولون الإحاطة بكل شيء فلا ينالون منها شيئاً
وليس الحال إلا على هذا المنوال من الوجهة الروحية أيضاً، فإن مَنْ تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لا بد له أن يسلم أخيراً بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها، ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج
إن في الحياة مسالك خطتها الإرادة الكلية وليس للإرادة الجزئية أن تتناولها بتحوير، ومصاعد الرقي للأرواح منتصبة من كل مسلك في عالم الظاهر نحو العالم الخفي، وما خصت العناية أقوياء الجسوم بالارتقاء
ولربَّ صعلوك في نظر نيتشه لا يصلح للحياة ويجب أن يُقضى عليه دون إمهال تتفجر منه قوة لا تراها إلا البصائر النيِّرة
من لنا بسبر الأغوار البعيدة القرار لندرك سرَّ التكامل في الذات والحكمة في حد الأشواط لكل روح لتقوم بقسطها من المقدور؟
ومن لنا بادراك سرَّ الضعف والقوة وقد يكون الضعف في الجسم السليم والقوة في العليل من الأجسام؟
إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أُعطى من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة، لأن للصحة محنتها كما للمرض محنته، والأنفسُ الطامحة إلى مُثُلها العليا سواء أكانت هذه المُثُلُ في
هذه الحياة أم ما وراء الحياة، إنما تتغذَّى من الجسد ناحلاً عليلاً كما تتغذَّى منه مليئاً بالنضارة والصحة والبهاء
إن للحكمة العليا مقياسها في تقدير الجهاد الأكبر على كل نفس، ومن يدري في أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخطُّ الروحُ الأسيرة آخر سطر من كتابها؟. . .
إنَّ محور الدائرة في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوّق على الإنسانية. لذلك تراه يهزأ بكل من عدّه التاريخ عظيماً بين الناس قائلاً: إن الجبل الذي يلد العظماء لم يولد بعد، وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوّق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثل الأعلى هو أن يتشوّقوا إليه ليخرج من سلاتهم في مستقبل الأزمان
وسوف يرى القارئ في الفصول الأخيرة، ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقَّع نشوءه، وغير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي ويرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفاً منتثرة لا معنى لها لا يقول لنا بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدوداً لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعود بصيرته على مجاراة نيتشه في الرؤى التي يهيم فيها يستوقفه قوله:
(إن ما فُطرنا عليه هو أن نخلق كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل)
ثم يستوقفه في موضع آخر قوله:
(إنني لم أجد امرأة تصلح أُماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها)
فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله
وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر
ولولا أننا درسنا ملياً مسألة اعتلاء الأمم وانحطاطها ببحث صحة النسل واعتلاله في فصل (منابت الأطفال) من كتابنا (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) لكنا نثبت هنا أن إيجاد الإنسان الكامل في إنسانيته، لا الإنسان المتفوق على نوعه كما يريد نيتشه، إنما يقوم على مجاراة حوافز الاختيار الطبيعي في الزواج باعتبار كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت
هاتف الاختيار سواء في الرجل أو المرأة جناية على الإنسانية
هذا وإننا لا نجد بداً من نقل بعض فقرات من فصل منابت الأطفال تأييداً لهذه الحقيقة
(إن الإنسان لا يريد الانقياد للانتخاب الطبيعي فهو يطمح إلى تحكيم اختياره في حوافز لا يعلم منشأها، فيعمد الرجل إلى استيلاد المرأة أطفالاً تتجلى فيهم كوامن علله وعلل المرأة التي يرغمها إرغاماً بدلاً من أن ينقاد إلى الانتخاب الطبيعي الذي تتذرع به الطبيعة للغلبة على العاهات والأمراض وللقضاء على حوافز الخبل والإجرام
إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنساء الطامعات المظللات
(ومما لا ريب فيه أيضاً أن الطبيعة في حرصها على طابع الأبوين في الأبناء تطمح دائماً إلى الجمع بين رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة في الآخر، ولا يقف طموح الطبيعة عند حد إصلاح الأعضاء بل هو يتجه خاصة في الإنسان إلى إصلاح ما تطرق من عيوب إلى صفاته الأدبية العليا، ولعل في هذا بعض التفسير لسيادة الإيقاع بين رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاعُ أعضائهما ومظاهر قواهما الأدبية والعقلية، فقد لا تجد مصارعاً قوي العضلات يعشق مصارعة مثله، ولا فيلسوفاً يتوله بفيلسوفة. ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متلاعب محتال، أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل قبيح. إن بعض العشق ينشأ من حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء. . .)
(إن المفكرين يثورون على الشبان الذين يقدمون على الزواج وفي دمائهم سموم، وفي مجاري نطفة الحياة منهم صديد، ومن الأمم من سنت القوانين الصارمة لمنع زواج المبتلى بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة على صحة النسل، ولكنني لم أقرأ لمفكر رأياً في الحيلولة دون الزواج الآلي المجرد عن كل عاطفة، ويتراءى لي أن طفلاً يجني أبواه عليه بايراثه دماً أفسدته الأمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إضراراً بالمجتمع يرث من أبويه عهر العاطفة وضلال الفطرة.
لقد تشفى العقاقير أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش الرجل المفترس في أحشاء المرأة المنكسرة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون إلا وحشاً كأبيه أو
عبداً ذليلاً كأمه)
(يتبع)
فليكس فارس
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 20 -
كل ما استعرضه حتى الآن من خصائص غزل العقاد، جائز أن يشركه فيه سواه، في الفكرة الخاصة أو في الاتجاه العام؛ وهي على ندرتها في عالم الشعراء الكبار، وتفرد العقاد بكثير منها في الشعر العربي كله كما بينت ذلك بوضوح، ليست ملكا خاصا له بمقدار اختصاصه فيما أفرد له اليوم هذا المقال من (خصوصيات)!
الغزل غرض مباح لجميع الشعراء، ومذاهب الحس والتعبير فيه ملك كذلك للجميع، إلا أن العقاد وحده هو الذي يقول ما سأعرضه في هذا المقال الأخير، ولن يشركه أحد في اتجاهه هذا، ولا في فكراته أو تعبيره، لأنه فيه هو (العقاد) بشخصه ولحمه ودمه، لا سواه من الأناسي - قبل الشعراء - وهو هنا في تقاطيعه وتقاسيمه وسحنته التي يلوح فيها، ويتميز بها:
غني عنده ما يعطيه
في قصيدة (تبسم) بالجزء الثاني من الديوان صفحة 172 يقول لحبيبه
فلا تبتعد عني فإنك راجع
…
متى تبتعد عني بصفقة خاسر
ومن لك بالقلب الذي أنت مبصر
…
به كل إعجاز لحسنك باهر
تراه عصيا - إن نأيت - على الرضا
…
ولا قلب أرضى منه إن كنت زائري
وفي الناس مطوي الضلوع على الشجا
…
ولا مثل شجوى بين باد وحاضر
إذا شاركوني في هواك فما لهم
…
سروري بما أصفيتهم وتباشري
وفي هذه الأبيات يشخص العقاد الشاعر بأن عنده ما يعطيه وأن حبيبه سيسخر حين يفقده؛ الشاعر بتفرده في سروره وشجوه على السواء، وكأنما هو من عنصر غير عنصر البشر الذين يعج بهم الكون، وتهفو قلوبهم إلى هذا الحبيب، ولو شاركوه في هواه، فمن لهم بقلبه في شجوه ورضاه؟
وغير العقاد يقولون لأحبائهم: إنكم لن تجدوا إخلاصاً كإخلاصنا، ولا تضحية في سبيلكم
كتضحيتنا. . . الخ مذاهب القول في هذا الباب، ولكن العقاد لا يعني شيئاً من هذا، إنما يعني أن قلبه فريد في نوعه لا في مظاهر إحساسه كالحب والإخلاص والتضحية وما إليها، وأنه ممتاز حتى في (شجوة) وأن شجوه الممتاز هذا يُغلبه ويرتفع به، كالسرور الممتاز على السواء!
رجولة صارمة
يرضى المحبون ويغضبون، ويقولون في الرضا ما يقولون، ويبقى للعقاد غضبه ورضاه، متميزاً بطابعه الذي لا ينساه. وفيما مضى رأى القارئ كيف يرضى العقاد في كثير من الأمثلة مثل (سنة جديدة) و (عامنا) و (قبلة بغير تقبيل) وسواها. فمن أراد أن يعرف كيف يغضب العقاد وكيف يكون صارماً باتا في هذا الغضب، فليقرأ:(الهجر الصادق):
تجشم فيك القلب ما ليس بعذب
…
أما آن لي منك النجاء المحبب؟
فهجرا فهذا القيد قد طال عهده
…
أليس لقلبي غير حبك مذهب؟
هجرتك هجر المرء أسود سالخا
…
يمج حماما كيفما يتقلب
هوى الموت أحلى من هواك لأنه
…
هوى صادق الميعاد لا يتذبذب
وما كنت فتانا ولكن فتنتني
…
بما قد صنعت عيني من الحسن أعجب
فلا تغترر مني بما قد عهدته
…
لدن كنت أعفو إذ تسيء وتذنب
فما كل حين يغلب الحبُّ ربَّه
…
ولا الصبر في كل المواطن يغلب
لتظمأ ليال كان دمعي شرابَها
…
فحسب الليالي دمع من لم يجربوا
أنا اليوم في هجري على الكره صادق
…
وقد كنت في هجري على الكره أكذب
هكذا في نفس واحد، وفي نفثة واحدة، صرامة قاسية، هي طابع العقاد حين يكره، وحين تسأم نفسه طول الإساءة، وجفاف الصلات، وحين يجنح إلى اختيار الهجر بعد اليقين والاعتزام
وليس هو هكذا في الغزل وحده، فهو بعينه في الصداقة وفي السياسة وفي الآراء والمعتقدات في شتى مناحي الحياة: ضربة قاصمة، لا رجعة بعدها ولا اتصال
اليقظة والوعي الفني والتأمل الفلسفي
ولقد كنت أفردت مقالا للحديث عن هذا العنوان، وضربت من الأمثلة ما فيه الكفاية. ولكنني هنا ماض على نهجي للغرض الذي صدرت به هذه المقالة من استعراض (الخصوصية) المعبرة عن شخص العقاد، لا عن مناحي تفكيره واتجاهاته
فمن اليقضة التي هي جزء من شخصه قوله تحت عنوان (الهزيمة المرغوبة)
أريد التي ألقي سلاحي وجنتي
…
إليها وألقاها من البأس أعزلا
وأطرح أعباء الجهاد وهمه
…
لدى قدميها مغمض العين مرسلا
وأنت إذا أقبلت جحفلا
…
وجردت أسيافا وشيدت معقلا
فإن تهزميني فاهزمي عن بصيرة
…
مريداً لأسباب الهزيمة مقبلا
فها هنا رجل يعرف إحساسه، ويدرك قواه وقوى حبيبته، ولكنه يجنح إلى الفطرة، ويريد المرأة ليلقي إليها سلاحه وجنته ويلقاها أعزل من كل قوة، لتحضنه كالأم الرءوم، بعد ما ضاق ذرعاً بالجلاد والكفاح، فآوى إلى الهزيمة المرغوبة وهو قوي عالم بقواه!
ومن التأمل الفلسفي أن ينظر إلى حبيبه الغرير، الذي لا يدرك فتنة سحره فكأنما هو منها محروم، بينما العقاد قد فطن إلى هذه الفتنة وقطف من ثمارها وعرف الدنيا على ضوئها، وتملى الحياة على نورها، فعاد مالكا لها، وصاحبها محروم منها!
يا ساحراً فاتته فتنة سحره
…
وتنقبت عن لحظه العسّاف
نجني الثمار من القفار بفنه
…
ونَصيبُه منها التراب السافي
نرثي لسحرك أم نجل فعاله؟
…
ما أجدر المحروم بالتعاطف!
سحر خصصت به وأنت حُرمته
…
حرمان لا حرج ولا متلاف
لا يقول هذا إلا العقاد، المتأمل في كل لفته ولمحه، الواعي للظواهر والبواطن، المعنيّ بالموافقات والمفارقات في عالم المعاني والإحساس
صوت الفطرة
وصوت الفطرة السليمة مسموع في كل ما يكتب العقاد، ولكنه في الأبيات التي نعنيها هنا مكشوف ناصع، لا يحتاج إلى الكشف والبيان، ولا ينسرب في الرموز والألوان، وهو - مع هذا - صوت فطرة العقاد الخاصة به، وإن كانت قبساً من الفطرة الخالدة
يقول بعنوان (عيوب المحب):
لا تعدّي على عيباً فإني
…
لك كلي محاسني وعيوبي
وعيوب المحب أولى بعطف
…
من كمال فيه وحسن وطيب
هي كالطفلة الشقية تلقي
…
من حنان الآباء أوفى نصيب
فليس التأمل وليست الدراسة النفسية وحدهما يوحيان بهذا المقال، إنما هو الشعور الفطري الصادق قبلهما يوجه النفس هذا التوجيه. يعرف ذلك الآباء المشغوفون من لدن الحياة بالأبناء، والبنات الأشقياء والشواذ، لأن هؤلاء أحوج للرعاية في منطق الحياة! ويعرفه كذلك المحبون الذين يزيد شغفهم بحبيباتهم ما ينفر سواهم الخليين من أقوال وتصرفات. ويعرف العقاد هذا فيطل بوجهه من خلاله وكأنه وشاحه الخاص، الذي لم يفطن إليه سواء
الملك بالمعرفة
وبعد فهذا فن وحده، واتجاه في الإحساس غريب: محب ينقضي ما بينه وبين حبيبته من حب ومن لقاء واتصال وأخذ وعطاء، ويفصل بينهما فاصل من هجر مرير بعد شك دامٍ ويقين أليم حدثناك عنهما في كلمة سابقة، ثم يحس في خلال هذا كله أنه ما يزال مالكا لهذه الفتاة، مالكا لها إلى الأبد، لا يملكها سواه أبداً، ولا تفلت من بيده أبداً. . . لماذا؟ لأنه يعرفها بكل ما فيها، ولأن غيره لن يعرفها مثله، ولن يطلع منها على ما اطلع هو، وهي له وحده، لأن صفحتها مفتوحة أمامه يقرؤها بلا مفسر وبلا منظار، ولأن أحداً لن يحبها حبه أو يكرهها كرهه، بل لأن أحداً لا يزدريها ازدراءه!
ألقاءٌ أم لات حين لقاء
…
وسلام أم تلك حرب عداءِ!
وفراق تُجدد العتبَ فيه
…
يوم تخلو على مهاد الصفاء!
أم فراق على الحياة طويل
…
كفراق الردى بغير انتهاء!
أنا ما بين هاتف ونذير
…
ذاهب السمع إثر كل دعاء
هاتف في الضمير أن ليس هذا
…
آخر العهد فاعتصم بالرجاء
ونذير بأنها غضبة العمر
…
وعقبى مودة الأصفياء
ليت عاماً من الحياة تَقضّى
…
لأرى في غد بعيد القضاء
وأرى الخير لا يطول انتظاري
…
وأرى الشر لا يطول عنائي
لا لعمري بل يكذب الخير وال
…
شر وتعفو معالم الأنبياء
ويقول الزمان قولا فإني
…
مرسل قوله مع الأصداء:
أنت لي أنذر الزمان بِشرِّ
…
أم مضى هاتفاً مع البشراء!
أنت لي أضمرت نَياتُك حباً
…
أم طوت سرها على البغضاء!
إن لي فيك يا بنية حقاً
…
فوق حق الهوى وحق الدماء
مزجت في قرارة الحب نف
…
ساناً وسيطت أيامنا في وعاء
وترائيت لي بقلب ولب
…
من وراء الحياء والكبرياء
من مِن الناس قد تذوق منك الع
…
يش صفواً والعيش جم الشقاء؟
من مِن الناس قد توسم فيك ال
…
حسن نوراً والحسن من ظلماء؟
من مِن الناس قد أحبك حبيب
…
ك ومن منهم ازدراك ازدرائي
من مِن الناس قد رأى خير ما في
…
ك وأخفى ما فيك من أدواء؟
من جمال ومن ذكاء ومن غد
…
رٍ ومن صدق شيمة ورياء؟
هذه أنت لا تزالين لي وحد
…
ي - جميعاً - لا تظهرين لراء
يعرف العارفون منك لماماً
…
بعض ما قد عرفت من سيماء
فلهم منك صورة وأحا
…
ديث ولي منك لب ذاك الطلاء
هذه أنت لا فؤادك خاف
…
عن عيناي ولا ودادك ناء
إن يطل بيننا النوى فالتلاقي
…
من ندائي بموقع الإصغاء
ولنا في صحيفة الدهر غيب
…
سيعيد انتهاءنا لابتداء
وكنت أود أن أعقب بشيء على هذه القطعة، ولكنها ليست بحاجة إلى الشرح، وإن كانت بحاجة إلى حس غني مرهف يتلهمها بمجرد قراءتها. فمن كان له هذا الحس فما هو بحاجة إلى بيان، ومن لم يكن له، فما أنا ببالغ شيئاً في إفهامه
وإنني لمفتون بهذه القصيدة، أكاد لفتنتي بها، ولمسي لقلب الشاعر فيها، أفضلها على كل غزل العقاد!
والآن أختم حديثي عن (غزل العقاد) وقد طالت عنايتي بهذا الضرب من شعره لأسباب سأشرحها في الكلمة الختامية بعد الحديث عن (أسلوب العقاد) في مقال تال
(حلوان)
سيد قطب
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
9 -
قارئ
كنت عند صديق لي يبيع الصحف والمجلات أجوز به كل يوم، فجاءه رجل محترم، عليه سيما الوقار ومعه نسخة من مجلة الرسالة فقال له:
- لقد أخذت هذه المجلة أمس من عندك، وقد بدا لي فيها، أفلا تحب أن تأخذ قرشاً وتعطيني بها الرواية؟ فنظر فيها البائع فإذا هي جديدة سالمة، ولم ير في طلب الرجل شيئاً فقبل وأعطاه الرواية فأخذها شاكراً. فلما كان من الغد عاد والرواية معه فقال:
- هذه هي مجلة الرواية التي أخذتها منك أمس، أفتأخذ قرشاً وتعطيني (الدنيا)؟
- قال: نعم، وأخذ القرش والرواية وأعطاه الدنيا، فمضى شاكراً. فلما كان من الغد عاد فقال له:
- أتحب أن تأخذ هذه المجلة وتعطيني بها (الحرب العظمى) وعدداً من جريدة يومية؟
- قال: نعم وأعطاه. . . فلما كان غد عاد فقال:
- أتشتري مني (الحرب العظمى) بنصف ثمنها؟
- قال: نعم، وأعطاه (نصف فرنك) فأخذه ومضى شاكراً فقلت لصديقي البائع:
- لقد شهدت من صبرك على هذا الرجل عجباً؟ أفلا طردته أو أنبته واسترحت منه؟
- قال: ومن أبيع إذا طردت مثل هذا؟ إن أمثال هذا هم (القراء) في هذا البلد، أفتعجب بعدُ أن كان يباع من مجلة (كذا) مثلا خمسون عدداً في دمشق كلها؟
10 -
أمام
رأيت في سينما روكسي، رجلاً بلحية وقفطان، ولكنه حاسر الرأس، غير مرتد رداء، ولا متخذ جبة، فعجبت منه وجعلت ألحظه، وأنكر مكانه من السينما، حتى إذا انقضى التمثيل وخرجنا رأيته يدخل غرفة (المدير) فيلبث فيها دقائق ثم يخرج منها شيخاً بعمة وجبة. . . فسألت رجلاً كان معي:
- ماذا يكون هذا الشيخ؟
فضحك وقال:
- ألا تعرفه؟
- قلت: لا
- قال: هذا من خطيئات النظام الحزبي. . . كان تاجراً، فاشتغل بالسياسة وأقبل عليها حتى أدبرت عنه الدنيا، وخسر رأس ماله كله فابتغوا له عملا يعيش منه، فكان عمله مراقب (الأفلام السينمائية) ولكن وظيفة هذا العمل قليلة، ففتشوا عن وظيفة أخرى ترفدها، فجعلوه إماماً في مسجد (كذا) وعزلوا إمامه الشيخ الصالح، فمن أجل ذلك كان بعمة وجبة وكان في السينما. . .
- قلت: عاش النظام الحزبي. . .
11 -
مشعبذ
سمعت الكثير من أحاديثه - وأخبار (علمه اللدني) - وقدرته على استحضار الجنّ، وكشف السرقات واستحضار المغيبات، وبراعته في (عالم الحرف) وأسرار العدد، فأحبت أن أراه. . . كما يحب المرء أن يرى حيواناً عجيباً، أو تحفه نادرة. . . وسألت صديقاً لي أن يجمعني به، فأخذني إلى داره في (برج أبي حيدر) فدخل بي دهليزاً مستطيلاً يفضي إلى غرفة في داخلها غرفة - مفروشة بالطنافس. . . في جوانبها مئات من الكتب الصوفية والروحانية - وفي وسطها مجمرة يحرق فيها البخور فتمتلئ به الدار، والشيخ جالس أمامها وقد وضع في عنقه سبحة طويلة أخبرني صديقي الذي جاء بي، أن فيها ألف حبَّة، في كل حبة منها حرف يدعي به ملك من ملوك الجان فلا يلبث أن يحضر ملبياً طائعاً، وعلى رأس الشيخ عمة ضخمة أحسبها تزن خمسة أرطال. . . فلم يقم لنا حين دخلنا وإنما مدَّ يده لنقبلها، فعجبت من فعله وتلكأت، فهمس صاحبي في أذني، أن قبلها وإلا رأيت من القوم ما تكره. . . فنظرت في وجوه القوم فإذا هي قد اربدَّت، وإذا عيونهم محمرَّة، فآثرت السلامة وقبلت يده الطاهرة وجلست. . .
وشرع القوم يعرضون على الشيخ قصصهم - كما كانت تعرض القصص والحاجات على الملوك والأمراء، وهو يعد ويؤمل. . . والقصص شتى والحاجات متباينات، فهذا الرجل له قريب أصابته آفة في بطنه أجمع الأطباء على أن شفاءها (عملية) جراحية، فخاف
المريض منها وبعثه يرجو الشيخ الخلاص من هذه (العملية) فوعده أنه سيجريها له وهو نائم فلا يفيق من منامه إلا وقد صرف الله عنه ما يحس به، فدعا له الرجل ودس في يده ما تيسر. . . وهذا رجل له امرأة عاقر فهو يسأل الشيخ أن يجعلها ولوداً. . . وهذا آخر سرق ماله كله وعجز الشرط عن معرفة السارق، فهو يطلب من الشيخ كشف السارقين. . . وأمثال ذلك، وهم ينصرفون واحداً إثر واحد، حتى لم يبق أحد. . . فمال علينا يحدثنا. . فكان من حديثه إلينا أنه وقع على النسخة الفريدة من كتاب (أسرار الحرف) تلك التي فتش عنها (العلماء) القرون الطوال فلم يسقطوا لها على أثر. . . فكانت له مفتاحاً لكل باب، فإذا أراد أن يأتي بأموال (بنك فرنسا) مثلا لم يحتج إلا إلى حروف يكتبها في ورقة ويلقيها في البحر، ظهر يوم الاثنين، أو فجر يوم الأربعاء، وإذا شاء أن يصطاد سمكا، كتب حروفاً على الشبكة فأقبلت إليها الأسماك والحيتان حتى لا يبقى في البحر حوت
قلت: فلم يا سيدي لا تأتون بأموال فرنسا وإنكلترا وهم أعداء الله وأعداء رسوله؟
قال: لم يؤذن لنا في ذلك، ولكني سأكون مفتياً للجيش الفرنسي فأجعله كله من جنود الله!
ومرت على هذه المقابلة الطريفة سنون، لقيت بعدها ذلك الصديق، فقلت:
- ما فعل الله بصاحبنا الشيخ؟
- قال: ذهب المسكين يصطاف، فمنوا عليه بدار في (دمر) منفردة. فلم يبت فيها إلا ليالي حتى نزل عليه اللصوص فلم يدعوا له شيئاً. . . وبقى هو وأسرته بلا فراش!
- قلت: أولم يستطع أن يعرفهم؟ أما كان يكشف السرقات ويظهر المخبئات؟
- قال: مسكين، إنه يرتزق. . . أفتريد له الموت جوعاً؟
دمشق
علي الطنطاوي
من أشهر المحاكمات الجنائية
محاكمة فرنسوا داميان
الذي حاول قتل الملك لويس الخامس عشر
للكاتب كريجيل -
بقلم الآنسة مفيدة إسماعيل اللبابيدي
ولد (روبرت فرنسوا داميان) في تيوللوي (شمال فرنسا) سنة 1715 من أسرة خاملة كانت تمتهن التزام المزارع، وقد أراد أن يحمل لويس الخامس عشر على عزل وزرائه لغرض لم يكشفه التحقيق، فذهب يوم 5 يناير 1757 إلى فرساي وطعن الملك في خاصرته اليمنى طعنة غير مميتة ولم يستطع الهرب فقبض عليه وحوكم وعذب ثم أعدم على صورة بشعة جداً
والمهم في هذه المحاكمة أنها تكشف لنا عن طريق التعذيب في القرون الوسطى توصلاً لاستلال الاعتراف بالجريمة من المجرم وما يصاحبها من إجراءات عدت زماناً إحدى طرق التحقيق القانونية فصبغت وجه الإنسانية بحمرة من الخجل لا تمحى
في الخامس من شهر يناير سنة 1757 وفي الساعة الخامسة من مسائه، روع باريس خبر ذعر له أبناء الشعب والأشراف على السواء: ألا وهو جرح الملك المحبوب لويس الخامس عشر في فرساي من يد رجل يدعى داميان حسن الحظ أن قبض عليه في الحال
وعندما انتشر خبر الجريمة توجه الأمراء والضباط والسفراء برغم البرد القارس نحو فرساي، وفي بضع ساعات كان طريق فرساي مغطى بالكراسي والمركبات وجميع أصناف العجلات على ما يروى أحد مؤرخي هذا العصر
ولفائدة التحقيق أوقفت امرأة داميان وابنته اللتان زجتا في الحال في (الباستيل) لأنه لابد أن تكونا مطلعتين على نية القاتل السيئة
وفي الثامن عشر من ذلك الشهر وحوالي الساعة الثانية صباحاً اقتيد فرنسوا داميان من فرساي إلى باريس مخفوراً بعدد وافر من الجنود
وكان السجين في داخل عربة لا ضوء لها، فأدخلوه من حاجز السيفر ليمنعوا المتفرجين
عنه ثم أودعوه القصر في برج (مونتكوميري) تحت رقابة من الحرس الفرنسي يجري تبديلهم كل أربع وعشرين ساعة
ثم في الصباح ذهب مفوضا الشرطة (سه فرت وباسكيه) والرئيس الأول والرئيس (موله) ليحققوا معه، وقد دام هذا التحقيق من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الساعة الخامسة بعد الظهر، وكان أحد طهاة الملك مكلفاً بإعداد طعام داميان وكان هذا لا يخرج من البرج مطلقاً
وكان فوبير من كبار الجراحين في ذلك العصر، لا يترك السجين الذي كان يقاسي الآلام الممضة من ساقيه اللتين كويتا فوراً بعد توقيفه بسيخ أحمى حتى احمر
أما الملك الذي شفي سريعاً من جرحه فقد أرسل 300000 ليرة إلى قس باريس لتوزيعها على فقراء رعيتهم فداء عن نفسه
كان سجين داميان مستديراً وقطره لا يزيد على اثنتي عشرة قدما، وكان الهواء لا يدخله إلا من فتحه ضيقة ذات صفين من القضبان الحديدية مفتوحة في حائط سمكه خمس عشرة قدما، وكان الضوء يمر من خلال الأوراق المزيتة
وكان السجين محصوراً في نوع من الصداري التي لا تترك له الحرية في أقل حركة
بلغ هذا التضييق الملك فوجده مفرطاً لأنه في الحقيقة لم يؤخذ تدبير ضد متهم أكثر تضييقا وأقل رأفة مما أخذ ضد داميان، فبعث الملك طبيبه الأول الدكتور (سه ناك) فزار داميان ثم أمر أن يترك للسجين بعض الحرية وأن يعامل بشيء من الإنسانية
وكانت الدعوى تسير ولكن ببطء، فقد زج في الباستيل ستون أو ثمانون شخصاً اتهموا بأنهم كانوا على علن بنية داميان المجرمة، ثم أطلق سراحهم من السجن تدريجياً. ولما حضر داميان أمام محكمة تورنل في 17 آذار، دافع بأنه ما كان يرغب إلا في إنذار الملك وحمله على عزل وزرائه
وفي الحادي والعشرين من ذلك الشهر أرسل إليه الكاهن (كه رمت) خوري كنيسة القديس بولص ليعظه حتى يحمله على قول الحقيقة
وفي السادس والعشرين من الشهر المذكور اجتمعت المحكمة الكبرى المؤلفة من أمراء البيت المالك والدوقات والرؤساء والقضاة والمستشارين. وكان المحامون جلوساً في
أمكنتهم، وجيء بالمجرم فأجلسوه في قفص الاتهام ولم يكن يظهر عليه أنه (محروم) ولا ظهر عليه أمام هذا المجلس أقل اضطراب بل كان يتظاهر، بالهدوء وعظمة النفس ثم استعجلوه بتسمية شركائه في الجريمة، فأجاب: إنك تتكلم جيداً يا سيدي باسكيه ولكن هأنذا أمام الصليب ليس لديَّ ما أعترف به
وحينئذ فتحت الجلسة فقرئ تقرير النائب العام الذي يتلخص في طلب إدانة داميان بجريمة محاولة قتل الملك فأحيل للعذاب طبق ما هو مقرر
وفي الساعة السابعة مساء أصدرت المحكمة الحكم الآتي على روبرت فرنسوا داميان:
إن المحكمة بحضور عدد وافر من الأمراء والقضاة نظرت في التهمة الموجهة ضد روبرت فرنسوا داميان، وهي تعلن إليه بناء على اعترافه بأنه مجرم بالاعتداء على صاحب الجلالة الملك بصفته الإلهية البشرية وكونه الرئيس الأول، تلك الجناية الفظيعة الشنعاء الموجهة ضد شخص الملك، وللتكفير عن فعلته يحكم عليه:
1 -
بأن يقاد عارياً إلا من قميص، ممسكاً بمشعل من الشمع الملتهب يوزن ليبرتين إلى أمام الباب الرسمي لكنيسة باريس، وهناك يركع ويعترف جهاراً بأنه اقدم على ارتكاب جريمة قتل الملك، تلك الفعلة الشنعاء الممقوتة، وأنه جرح الملك بضربة سكين في خاصرته اليمنى، وأنه قد تاب وأناب فيطلب العفو من الله ومن الملك ومن العدالة
2 -
بأن يساق إلى محل الإعدام ويرفع على صقالة ثم يسحب ثدياه ولحم ذراعيه وفخذيه ورجليه بكلاليب، أما يده اليمنى فيمسك بها السكين التي حاول بها قتل الملك وتحرق بالنار والكبريت، وأما الأقسام التي جز لحمها فيصب عليها الرصاص الذائب والزيت الحامي وصمغ البطم الحار والشمع والكبريت ممزوجة جميعها معاً
3 -
بأن يشد بدنه أربعة أحصنة وتقطع أطرافه ثم تحرق بالنار حتى تصير رماد تذرى في الهواء
4 -
بأن تصادر جميع أرزاق المحكوم عليه وأملاكه في أي مكان كانت لحساب الملك
5 -
تأمر المحكمة بأنه قبل هذه الإجراءات يحال المجرم داميان إلى التحقيق العادي وغير العادي (التعذيب) ليقر بشركائه في الجريمة
6 -
وتأمر أيضاً بتدمير البيت الذي ولد فيه المجرم داميان، أما الذي يملك هذا البيت
فيعوض عنه، على ألا يحق له في المستقبل أن يقيم مكانه بناء آخر
وبينما كانت المحكمة تقرأ الحكم كانت الاستعدادات لتنفيذ الحكم قائمة في محل الإعدام
وفي الثامن والعشرين من الشهر صباحاً أخرج داميان من سجنه وسيق إلى غرفة في الطبقة السفلى من (الاوتيل ده فيل) محمولا على أيدي الشرطة في نوع من الحقائب اللينة التي تصنع من جلد بعض الحيوانات والتي لا تسمح لغير الرأس بالظهور، ثم أخرج منها وأركع وتلى عليه الحكم، وقد لوحظ أنه كان مصغياً بانتباه إليه، ثم انفرد به خوري كنيسة القديس بولس في وسط المكان بضع دقائق انسحب بعدها الخوري وشرب داميان جرعة من الخمر وضع بعدها في الحقيبة المذكورة مرة أخرى ونقل إلى غرفة التعذيب حيث هناك المحققون مفوضا الشرطة، والرئيسان موله وموبو، والمستشارون رولان وباسكيه وسه فهر، فجرى استنطاقه من جديد.
وحينئذ أحاط به منفذو الحكم وألبسه الجلاد الخف وحين ضغط على الزاوية الأولى أجبرته على الصراخ الشديد، فأقر بأن الموسيو (غوتيه) وكيل عضو في البرلمان والمسيو (له متر) الذي كان يسكن في شارع الماسونيين هما اللذان دفعاه إلى الجريمة. فصدر الأمر في التو بتوقيف هذين الشخصين.
وعندما ضغط على الزاويتين الثانية والثالثة صاح من جديد صيحة ألم، وفي الرابعة طلب العفو. ولما وصل المتهمان الجديدان (غوتيه) و (له متر) واجهوهما بداميان فرجع عن إقراره عنهما. فأعيد إلى العذاب ثانية وضغطوا على الزاوية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة من الخف، وهنا أعلن الأطباء الجراحون بأن المجرم لم يعد في طاقته تحمل تجربة جديدة، وقد دام التعذيب ساعتين وربع الساعة.
ولما دقت ساعة القصر الرابعة تقدم (جيرائيل سانسون) من المسيو (غه ره) والمسيو (مارسيللي) وقال لهما إن ساعة التنفيذ قد حانت. ومع أنه تكلم بصوت خافت فقد سمعه (داميان) الذي دمدم بصوت مخنوق (نعم بعد قليل يخيم الليل) وبعد فترة قال: (أواه، غداً يكون نهاراً لهم).
وحينما وصل (داميان) إلى أسفل الصقالة طلب أن يكلم مفوضي الشرطة فحمل إلى (الأوتيل ده فيل) حيث استدرك من جديد الاتهام ضد (غوتيه) ثم أوصى المسيو (باسكيه)
بزوجته وابنته.
وفي الساعة الخامسة أنزلوه إلى الميدان ورفعوه فوق الصقالة ثم نزلوا وربطوا كل طرف من أطرافه بمجر حصان، وكان لكل حصان مساعد يمسك بلجامه، وآخر وراءه يمسك سوطاً، ووقف الجلاد وأعطى الإشارة، وعندها وثبت الأحصنة الأربعة بقوة شديدة وفي اتجاه مختلف فسقط أحدها، ولكن جسم الشقي لم يتقطع، فأعادت الأحصنة الكرة ثلاث مرات وفي المرات الثلاث كانت تتقهقر أمام صلابة الجسم.
ولهول المنظر أغمي على الخوري، وكان المتفرجين في ذهول وذعر عميقين، ثم تعالت الأصوات من كل جانب بصورة مرعبة.
وعندها صعد الجراح (بوير) إلى (الأوتيل ده فيل) وطلب إلى مفوضي الشرطة أن يضربوا المحكوم عليه بالساطور على مفاصله فصدعوا بالأمر.
وأخيراً فصلت الأطراف وخرجت من جميع الصدور تنهدات عميقة وتنفسات حارة.
ولكن الواقعة لم تنته، فجمعت الأطراف الأربعة والجذع وجمعوا كومة من الحطب، ثم ارتفع اللهيب فيها.
حلب
مفيدة إسماعيل اللبابيدي
رسالة الفن
شيء من فلسفة الموسيقى
للدكتور أحمد موسى
إذا انحصرت فلسفة الموسيقى في تفسير جمالها وإيضاح التأثر بسماعها أمكننا أن نعتبر التمتع النفسي بهذا السماع أهم عنصر مكون لجمالها الذي هو بدون شك جزء من الجمال العام
وإذا كان جمال الفن المكاني منحصراً فيما يمكن رؤيته، أو ما يمكن لمسه، كان جمال الفن الزماني منحصراً فيما يمكن سماعه
وعلى ذلك يكون التأثر بهذا المسموع وقياس القدر الفعال في نفسية المستمع هو موضوع فلسفة الموسيقى
ومعنى هذا أن نقد وتحليل ما نسمعه منها على قاعدة الأسمى والأجمل والأروع هو الغرض الأول من التفلسف الموسيقي
وإذا كان أثر الجمال هو دخول السرور المطلق على النفس نتيجة المشاهدة، كان أثر الموسيقى السامية الجميلة الرائعة نفس السرور المطلق نتيجة هذا السماع
ولا يخرج السرور هنا عن معنى الارتياح والرغبة في الاستزادة دون رد فعل يُشعر بالخيبة أو الضجر، حتى ولو كانت القطعة الموسيقية تمثل الحزن والألم؛ لأن هذا ما تصادفه أحياناً في المشاهد الطبيعية التي تكون ثورة بركانية، أو اصطدام غيوم نشأ عنه برق ورعد، أو مطر غزير لا يبعدها عن الجمال الذي يمكن للفنان أن يتأمله ويتأثر به دون رد فعل
فالألحان الموسيقية تكون تارة ممثلة لحلاوة اللقاء، وأخرى لمرارة الفراق، وغيرها للذة الانتصار، أو لقساوة الانهزام، وما إلى ذلك من مختلف النواحي التي يتصيدها الفنان بفنه
وعلى هذا القياس يمكن اعتبار كل ما يلفت الإرادة الشخصية إلى السماع دون إرغام موضوعاً من موضوعات الموسيقى - على أني لا أقصد بالسماع مجرد الإنصات، بل السماع المشفوع بالتفكير والفهم والتقدير والتأثر؛ إذ عندئذ نجد العقل مفكراً لتكوين حكم معين على ما يسمعه، بعد قياس درجة تناسب الأصوات وانسجام أجزائها المكونة للقطعة،
وأخيراً لاتحاد الهارموني فيها
والموسيقي الفنان الذي يعبر عما يجول بنفسه الثائرة هو ذلك الذي يدرس الطبيعة في مختلف مظاهرها ويتأملها فلا يقنع بما فيها فيشقى؛ ثم يجدُّ في الوصول إلى غايته راغباً التعبير عما يتغلغل في نفسه من جمال كمالي يعتقد بوجوب ظهوره فيعجز، ثم يقنع بتقليد ما فيها إلى حد ما، في أصوات يخرجها للناس، متوخياً الوصول إلى ذلك المثل الأعلى الذي لا يخرج عن كونه الظمأ نحو الخلود.
والمثل الأعلى مما لا يمكن وجوده أو رؤيته أو سماعه، ولهذا فهو غاية نسمو إليها بالخيال الذي يعبر عنه الفنان الموهوب بما نسميه الوحي أو الإلهام وما يسميه الجميع الخلق الفني
والفن روح خفية تسكن نفس الفنان فتبعث فيه عينين قادرتين على النظر لا كما يرى الجميع، بل على ذلك النظر التقديري الذي يتعرف به الجمال أينما كان، وأذنين قادرتين على السمع لا كما يسمع الناس، بل على السمع الدقيق الفائق الذي به يستطيع التفرقة بين ما هو سام وما هو غير سام. لذا وجب أن يكون الموسيقي رجلا تمثلت كل قواه في عينيه وأذنيه، فبالعينين يتلمس الجمال المشاهد، وبالأذنين يتلمس الجمال المسموع، فيخرج للناس ما لا غنى لهم عنه، ألا وهو الخلق الموسيقي السامي
والأصل في الخلق الموسيقي السامي هو حاسة النظر بلا شك لأن بها يتأثر الفنان - موهوباً كان أو ملهماً - بما في الحياة، وتكون نتيجة هذا التأثر القدرة على الخلق الفني، وعلى ذلك نرى الفنان دائم التأمل الذي يعود عليه بالبؤس - غالباً - فهو أشبه بالفيلسوف الذي لا يقنع بما يراه أو يسمعه؛ فيقضي حياته عاملا مكملا قدر استطاعته، ولكنه يفنى دون أن يصل إلى ما تصبو إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت على نفوس المجموع بصفاء النظر ودقة التأمل والدرس والتغلغل في كنه المرئيات والمسموعات وأخيراً بالهيام والمقدرة الهائلة على تفهم الجمال المطلق. كل هذا متجمعاً يكون لك تلك النفسية البريئة الهادئة الوديعة، نفسية الفنان.
يقول أرسطو إنه لا ينبغي أن يقف الغرض من الموسيقى عند حد التلهية والتسلية، لأنها من أهم وسائل التهذيب الأخلاقي ومن خير طرق العلاج الفعال البطيء لتنقية النفس من عيوبها المتأصلة
وقد التفت إلى هذا رجال التعليم في العصر الحاضر فأخذوا ينشرون الموسيقى في دور التهذيب، أما فيما يتعلق بعلاج الأمراض فقد دلت آخر الأبحاث على فائدة الموسيقى إلى حد أدهش العلماء.
وثبت أن الألحان ذات أثر مختلف في مستمعها الفاهم لها، فمنها ما يؤثر تأثيراً هادئاً يعقبه نوم عميق، ومنها ما يوقظ ويبعث نشاطاً عجيباً. ولا أدل على ذلك من تأثير قطعة أيرل كوينج ليبتهوفن على مرضى الميلانخلولي، أو قطعة تانهويزر لفاجنر، أو قطعة الافتتاحية لميستر زنجرن اللتين تلائمان مرضى الغضب السريع
ودلت تجارب عدة على أن الدورة الدموية تتأثر أيضاً بالموسيقى إلى حد أنها تنتظم وتصل إلى المستوى الطبيعي
وجد الدكتور تراخانوف أن الموسيقى السهلة تساعد على تنشيط العضلات الضعيفة، على حين لاحظ أن الموسيقى المدرسية (كلاسيك) لا تؤثر هذا الأثر؛ بل على النقيض تكسب العضلات شيئا من التراخي
والعناية بأمر الموسيقى في علاج الأمراض قائمة على أشدها في ألمانيا - بلاد العلم والفن والمدنية - حتى لنرى أن أعظم جامعة فيها وهي جامعة برلين قد منحت دكتوراه الشرف للموسيقي المغني ماكس ريجر الذي أثبت أن المعالجة بالموسيقى ذات أثر قيم قائم بالدليل في معالجة الأمراض النفسية
من كل هذا نرى أن الموسيقى هي إحدى نعم الله التي منحها خلقه العاقل المعذب، والتي بها يستطيع أن يبعد عمل الشيطان من نفسه، ويلتفت إلى ما في الوجود من جمال يدل على قدرة الخالق وعظمته
ولعل الشاعر شكسبير لن يبالغ بقوله في رواية روميو وجوليا (1593) أن الموسيقى بلسم القلوب الجريحة ونعيم العقول المتعبة، إذ بصوتها الفضي يكتسب القلب بهجته والعقل راحته
وإذا رجعنا إلى كتاب شوبنهاور (الدنيا كإرادة وتصور) نجد فيه الفيلسوف يقول إن أحسن موسيقى وأسماها هي تلك التي لا نستطيع وصف أثرها في نفوسنا عند الاستمتاع بها، حيث تذهب بنا إلى جنة الخيال البعيد عن مرارة الحقيقة الراهنة
أما جوته (1827) فقد وجد أن الموسيقى تعاصر الإنسان منذ خلقه، قديمة بقدمه، تناسبت مع نفسه وروحه وشاعريته ووجدانه، فتطورت بتطوره. ويؤمن بأن الإنسان قد يستمع لموسيقى جديدة فلا يطرب لها لأول وهلة وذلك لعدم تفهمه إياها (قصد موسيقى فاجنر)، أما بعد أن يألفها فإنه يجد استمتاعه بها متناسباً مع تفهمه لها، حتى يحين الوقت الذي يجدها فيه خير معَّبر عن مثله الأعلى في ناحية من نواحي وجدانه، ألا وهي ناحية العاطفة السامية والحس الدقيق
وهذا تفلسف اتفق مع الواقع، ولا سيما أنه اشترط في الموسيقى أن تكون متناسبة مع عقلية الإنسان وتفكيره ودرجة فهمه وتمدنه، فقد ترى السذج يطربون لموسيقى لا انسجام فيها ولا طرب؛ على حين تجد أولئك الذين أنعم الله عليهم بنعمة العقل وسمو المشاعر لا يطربون إلا لما أخرجه الفنان الموهوب الذي أمكنه التعبير عن حب دفين لا نهائي للخالق جلت قدرته في أصوات منسجمة متوفرة الارتباط، تسمو بالمستمع إلى ملكوت مقدس بعيد كل البعد عن الطرب المصطلح عليه في الشرق
أحمد موسى
رسالة الشعر
التمثال الحي
للأستاذ إبراهيم العريض
سكنتْ في الطابقِ المُظ
…
لمِ من دارٍ سويَّه
غادةٌ لا تملكُ القُو
…
تَ. . . وبالحُسنِ غنيه
هيَ في الأسمالِ لكنَّ
…
لها رُوحًا ذكية
سلبتْها كلَّ شيءٍ
…
ثَورةٌ إلا التقيه
تَتلوّى كلّما أب
…
صرَتِ الدارَ خليه
أينَ عنها أبَواها
…
في ظلامِ الأبدية
وأخُوها جَدّلتهُ
…
في الوغى كفُّ شقيه
فثوى والعَلَمُ الخا
…
فِقُ يَلوى بالتحيه
كيفَ لا تَبكِي وهل أب
…
قَى لها الدهرُ بقيه
خرجتْ تعثر في الذَّيْ
…
لِ إلى جار قريبِ
عاشَ بينَ الناسِ في عُز
…
لتِه مِثلَ الغريب
وخطَ الشيبُ عَلى جبْ
…
هِته شِبهَ النُدوب
أينَ في الدهرِ فؤادٌ
…
لم يُرّوع بالخُطوب
وأتتهُ وهْوَ في مع
…
مَلِه جِدٌ دَؤوب
ينحتُ الجِسمَ من الصَخْ
…
رِ فَيأتي بالعجيب
ورآها وهي في الأسْ
…
مالِ تمشي كالمُريب
ومِن الجُوعِ على الخدّ
…
يْنِ آثارُ شُحوب
فاثني يرمِقُ ذاكَ ال
…
حُسنَ في صمتٍ رهيب
ودَنا من جسمِها المحْ
…
مُومِ لكن بفُتُوَّه
ما لَها لم تضطرِبْ مِن
…
هُ ولا خافت دنُوه
إنَّ في عينيهِ. . لا غض
…
هُما. . . نورَ النُبوّه
مِن هُواةِ الْحُسنِ للفَنّ
…
وإن غاَلى غُلوه
وأحسَّتْ كفَّهُ تن
…
تزِعُ الثَوبَ بقُوه
فأرادتْ سِترَ نهْدَي
…
نِ حياءً ومُروه
(إنّني أُنثى. . . ألا تش
…
عُر أنّى فَوقَ هُوّه)
قالَ (كُفِّي - أنتِ من شَيْ
…
بىَ في ظِلِّ الأبوة
لَو تَجَرّدْتِ سَما الفَنُّ
…
بِعطَفْيكِ سُمُوّه)
فَرَمتْ ما كانَ لا يَسْ
…
ترها إلا قليلا
ثمَّ قالت (ومَتى تُط
…
عِمُني). . . قالَ (أصِيلا)
وجثَتْ بينَ يديْهِ
…
في تَعريِّها طويلا
وهْوَ لا يُنكرُ مِن قا
…
مَتِها إلا النحُولا
فانحَنى يمتحِنُ الجِسْ
…
مَ فُروعاً وأصُولا
إنّ في إطراقِها مُغمِضةً شَيْئاً مَهُولا
ثمَّ لّما سَمِعتْهُ
…
فاهَ بالحُكم جميلا
نهضَتْ تبْسمُ في الدَمْ
…
عِ وقدْ سَالَ مسيلا
(هلْ لِهَذا الحُسْنِ أن يخ
…
لدَ بي جِيْلا فجِيلا)
وقفت عارِيةً بَيْ
…
نَ التماثِيلِ كَدُرَّه
تحمِلُ الثَغْرَ على الضِحْ
…
كِ وفي العينَيْنِ عَبره
ومضَى يقدِرُ بالازْ
…
مِيلِ في المَرمر قَدرَه
لَمْ تُحاوِل قَطّ أنْ تَثْ
…
نِيَ جِيداً فتَضُرَّه
لبَثتْ في وَضعِها ذَ
…
لِكَ يَوْمًا مُستمِرّه
إنَّهُ يعملُ للفَنِّ
…
. . . وهَل فِيهِ معَرّه
هِيَ لوْلا الجُوع لمْ تَر
…
ضَ بأن تَصبِرَ صَبرَه
وهْوَ في عالَمِه. . . لَو
…
يُدْرِكُ العالَمُ سِرَّه
نظرةً يُلقِي عَليْها
…
وعَلَى المرمَرِ نَظْره
ماَلتِ الشمسُ إلى الغَر
…
بِ ومَا زالَ مُجِدّا
واستَحَالَ المرْمرُ المس
…
نُونُ حتى صارَ قَدَاً
فانحَنتْ مِن كفَّها أن
…
مُلةٌ تُسْنِدُ خدا
فانجَلى الصَدرُ وفَوْقَ ال
…
صَدرِ شيءٌ يتحَدى
واستدارَ البَطنُ في طَيَّ
…
تِه أحسَنَ جِدا
قالَ (لولا الجُوْع لم يَبْ
…
لُغْ مِن الغَادةِ حدا)
ثمَّ مَدَّ الراحةَ اليُم
…
نَى عَلَى الفَخْذَينِ مدا
فأطالَ الساقَ حتى
…
شارفَت في الكَعبِ ضِدا
وبَرَاها قدَماً يَحْ
…
لُو لها أن تَسْتَبِدا
ودَجَا الليلُ. . . فلم يُلْ
…
قِ إلى الغادَةِ بالا
غايَةُ الفَنَّانِ أن يَب
…
لُغَ بالفَنّ كمالا
فطَوَي الشَعْرَ على الرأ
…
سِ كمَوْج يتوالى
فجَلا الجَبْهةَ غَرا
…
َء كمِرآةٍ تَلالا
فأرَى لمحَةَ عينَي
…
نِ تُطِيلَانِ السُؤالا
فلوى في جانِب الأُذْ
…
نِ مِنَ الصُّدغ هِلالا
وَأقامَ الأنفَ كالإبْ
…
رَةِ حُسناً واعتِدالا
ثمَّ لما جاَء للثَغْ
…
رِ رَأى فيهِ احتِمالا
قالَ (لو يَفترُّ هَ
…
ذَا الثَغرُ لازدادَ جمالا)
وإذا بالصوتِ. صوت ال
…
دِيكِ صُبحاً يَتَعَالى
تمَّت الدُمْيةُ لا يَن
…
قُصها غَيرُ الحِوارِ
فانثَنى يضْحَكُ للغا
…
دةِ في شِبْهِ اعتِذار
(أُنظُري صُنعَ يَدي فَهْ
…
وَجدِيرٌ باعِتبار)
(إنّها مُعجِزةٌ خا
…
لِدَةٌ مِثلَ النهار)
ورآها لم تُحَرِّك
…
شفَةً. . . والجِسم عار
فدَنا منها وفي أَض
…
لُعِهِ جَمْرةُ نار
وإذا بالَخْودِ في مَو
…
ضِعِها مِثلَ السَوَاري
جسَدُ مِن غَير رُوحٍ
…
مُستمِر في انتِظار
إنّمَا الثَغرُ كما يَهْ
…
واهُ في حالِ افتِرَار
وانحَنى بَيْنَ يديَهْا
…
باكياً سُوَء مآلِهْ
وطَوَى حاشيةَ الثَوْ
…
بِ علَيها في اعتِلاله
(أنا أدعُوكِ. وهل يَسْ
…
معُ مَيتٌ صَوتَ واله)
(أنا أفديكِ. وهل يُجْ
…
دِيكِ شَيْبي في ابتهاله)
ثمَّ ألقى نظْرَة حا
…
ئِرَةً نحْوَ مِثاله
فرآهُ يُحدقُ الطرْ
…
فَ ولا يَرثى لحاله
فأتى في اليأسِ أَمْراً
…
لم يكُنْ قَطّ بباله
إذ رَمي قِطعَةَ صَلْدٍ
…
شَوَّهَتْ بَعضَ جماله
ومضَى يَعثِرُ بالشي
…
ءِ ويَهذي في اختِباله
وقفَ العاِلمُ ما بَيَ
…
نَ الجَماهيرِ خطيبا
قالَ (ترَوِى بعثةُ الشَرْ
…
قِ لنا أمراً عجيبا
بينَما كانوا يجوبو
…
ن الصَحاريَّ جَنُوبا
عثَرُوا فيها بتمثا
…
ل سَأَجْلوه قريبا
يَعلمُ اللهُ لئِن أُلْ
…
فِىَ في الزَنْدِ مَعيبا
فهْوَ ما زالَ على العَيْ
…
بَةِ يستدمِي القلوبا
إنَّهُ أجملُ تمثَا
…
ل لحسناَء أُصيبا
وأزاحَ الِسترَ عنهُ
…
فاستهلَّ الكلُّ طُوبى
خَلّدَتْ في المْرمَرَ الص
…
دِ يدُ الفَنِّ حَبِيباً
(البحرين)
إبراهيم العريض
بمناسبة المؤتمر البرلماني الشرقي
يا لله لفلسطين!
للأستاذ احمد فتحي
مَرْحباً بالنشيدِ بعدَ النَّشيدِ
…
يهبطُ الأرضَ مِن سَمَاءِ الْخُلودِ!
مَرْحباً بالبيانِ أسْوانَ جَهْماً
…
يبعثُ العَزْمَ في الأباة الصِّيدِ!
مَرْحباً بالرَّوائع الغُرِّ، تحكي
…
وامِضَ البَرْقِ في الليالي السَّودِ!
فَتْيَةَ العُرْبِ قد دَعَوْتُمْ فلبَّا
…
كُمْ على قَدْرِ ما استطاعَ قصِيدي
غيرَ هذا البيانِ أَخطأَ جَدِّي
…
وكذا الشعرُ، خصْم تُلكَ الجُدودِ
نحنُ نَشْقَى به وتَسْعَدُ دُنيا
…
تَنْتَشِي بالنشيد بعدَ النَّشِيد!
إنَّ لِلْفَنِّ نَشْوَةً لا تُسَامَى
…
أَزْهَدَتْ في عُصَارَةِ الْعُنْقُودِ!
كم غَفلْنا بها عن الزَّمَنِ العا
…
بثِ بالخَلْقِ في فُتُونِ الوَليدِ!
وصَحَوْنا على الأغاريدِ نَشْوَى
…
والوَرَى في مناحَةِ التَّنكيدِ
ما انتفاعي بِقَافِياتٍ وِضَاءِ
…
تُشْبِهُ الدُّرَّ في نِظامِ العُقودِ؟
ليتَ هذا القَريضَ يجري جُيوشاً
…
من كِرَامٍ أَصائِلٍ وجُنودِ!!
يَنْصُرُ الواهِنَ الضَّعيف ويُوهِي
…
عَزْمَةَ الباطِش الغَشُومِ العنيدِ
لَهْفَ نَفْسِي عليكِ يا حَوْزَةَ الَمقْ
…
دِسِ ضُيِّعْتِ في البلاءِ الشَّديدِ
ما لأَِضْيَافِكِ الَّلئامِ يَلُوذُو
…
نَ بِفَرْطِ اْلأَذَى، وفَرْطِ الجُحُود
رَوَّعَ الشَّرْقَ أَن دَهَاكِ اقْتِسامٌ
…
هل يُبَاعُ السَّادَاتُ بَيْعَ الْعَبِيِدِ
لا رعاكَ الزَّمَانُ يا (وَعْدَ بَلْفُو
…
ر) ولا فُزْتَ مِنْهُ بِالتَّخْلِيدِ!
طُرَدَاءُ الشُّعُوبِ غَالوا بلاداً
…
كانَ تاريخُها شبابَ الوُجُودِ
(أُرْشَلِيمُ) العُلَى تَرَامَى بها الخَطْ
…
بُ ودَوَّى في كُلِّ مَرْمًى بَعِيدِ
لَهْفَ نَفْسِي، وشَدَّ مَا حَزَّ في النَّفْ
…
سِ اقْتِحَامُ الكلابِ غابَ الأسُودِ
لَهْفَ نَفْسِي على الصِّغَارِ تَرَامَى
…
بهِم الْيُتْم في زَمَانِ الكُنُودِ
لَهْفَ نفسي على نُوَاحِي البَوَاكِي
…
والخَلِيُّونَ دُونَهُمْ في هُجُودِ!
لَهْفَ نفسي على الشُّيوخِ ضِعَافاً
…
بين نارٍ مشبوبةٍ وحَديدِ!
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى الملاحِ وَكَمْ فِي
…
هِنَّ مِنْ حُلْوَةِ المفاتين رُودِ!
لَهْفَ نَفْسِي لِفَاجعِ الخَطْبِ يَمْتَدْ
…
دُ ذُبُولاً إلى وُرُودِ الخُدُودِ
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى المْدَامعِ تَجْرِي
…
فَتُرَوَّى بها ظِماءُ البِيدِ!!
مَرْحَبَاً بِالْوُفُودِ بعدَ الْوُفُودِ
…
والْحَشِيدِ النَّبِيلِ بَعْدَ الحشيدِ
مَرْحَبَاً بالْكِرَامِ مِنْ آلِ عَدْنا
…
نَ اطْمَأَنَّتْ جُمُوعُهُمْ في صَعِيدِ
مَرْحَباً بالْخِفافِ نحو المعالي
…
والبهاليلِ في سَخَاءٍ وَجُودِ
دونكم مصر فانزلوا من رُباها
…
كلَّ رَوْضٍ، وكلَّ ظِلٍ مَديد
وارشفُوا السَّلسَبِيلَ مِنْ نيلها السَّمْ
…
حِ خصيب الضِّفاف عَذْبَ الورودِ
وانْعَمُوا بالنَّسيم في ضفَّتَيْهِ
…
إذ يُحَيِّيكمو بِثَغْرٍ بَرُودِ!
شاوِرُوا فتيةً بمصرَ تَسَامَوْا
…
لذُرَى المجد، في كفاحِ مَجيدِ
عاونوُهْم على بَقَاءِ فلسطي
…
نَ، بِمَنْجىً مِن فاجع التَّهويدِ
مَهْبِطُ الْوَحْي والنُّبُوَّاتِ أَوْلَى
…
مِنْ حُمَاةِ التُّرَاثِ بالتأييدِ
أجمعِوا أمْرَكم عَلَى نصرَةِ الح
…
ق تُعيدوا جَلالَهُ مِنْ جديد!
آهِ يا أورشليمُ لو كنتُ أسْطي
…
عُ لحطَّمْتُ ما أَرَى مِن قُيودِ
عَلِمَ اللهُ كم أَرِقْتُ الليالي
…
لَكِ، بينَ الدُّمُوع والتَّسْهِيدِ
مُستطارَ الْجَنَانِ أَدْعُو لَكِ الله
…
بِقُرْبِ الْخَلَاص والتَّسْدِيد
وأصوغُ القريضَ فيكِ عقوداً
…
مِن بَيانٍ نَدٍ ودُرٍ نَضِيدِ!!
(القاهرة)
احمد فتحي
البَريدُ الأدَبّي
الدكتور زكي مبارك والشريف الرضي
روى الأديب المشهور الدكتور زكي مبارك في مصنفه (عبقرية الشريف الرضي) هذا البيت للرضي:
والحظوظ البلهاء من ذي الليالي
…
أنكحت بنت عامر من ثقيف
ثم قال معلقا: (لما ظهر ديوان زكي مبارك اعترض بعض أدباء العراق على هذا البيت:
لم تنسني فتنة الدنيا وزينتها
…
ما في شمائلك الغراء من فتن
وقالوا لا توصف الشمائل بأنها غراء، وإنما توصف بأنها غر، وأطالوا الجدل في مجلة أبوللو، واشترك الأب أنستاس في الجدل، وعارضنا معارضة شديدة في منزل الدكتور بشر فارس، والآن نرى الشريف يصف الحظوظ بأنها بلهاء لأبله، فلينقل العراقيون المعركة إلى شاعر العراق)
قلت: ألا يرى الدكتور أن في البيت خطأ ناسخ أو طابع وأن الرواية الحق هي:
وحظوظ البلهاء من ذي الليالي
…
أنكحت بنت عامر من ثقيفِ
فإذا ثبتت هذه الرواية - وهي عندي ثابتة - فقول حضرة البحاثة (الأب أنستاس ماري الكرملي) في (فعلاء أفعل) صفة لجمع - هو القول. وظهير القسيس الفاضل في مذهبه هذا - كتاب الله وحديث نبيه (صلوات الله وسلامه عليه) والأقوال العربية الموثوق بها قاطبة
والأب أنستاس هو أول من نبه على هذه النكتة اللغوية المهمة في هذا العصر
في القصيدة التي منها ذلك البيت هذان البيتان المحكمان:
أمهِل الناقصون واستعجل الده
…
ر بسَوقٍ للفاضلين عنيفِ
من يكن فاضلا يعش بين ذا النا
…
س بقلب جَوٍ، وبالٍ كسيف
القارئ
مكتبة التلميذ
أخي الأستاذ الزيات
أقدم إليك والى قراء الرسالة ما يأتي:
قد يتفق لبعض مفتشي اللغة العربية أن يلاحظوا أن مكتبات المدارس الابتدائية والثانوية لا يوجد فيها من الكتب العربية غير المراجع أو ما لا ينتفع به في الأغلب غير الأساتذة وكبار الطلاب
وقد فكرت مرات فيما ينتفع به التلاميذ والطلاب من أطايب الأدب الحديث، ولكني خشيت ألا أشير بغير الاعتماد على مؤلفاتي ومؤلفات أصدقائي، فما رأيك إذا استشرنا أفاضل الأدباء من قراء الرسالة في اختيار خمسين كتاباً من الأدب الحديث تزود بها مكتبة التلميذ في المدارس الابتدائية والثانوية؟
أرجو أن يتسع المجال لقراء الرسالة ليجيبوا في نزاهة وإخلاص، فقد يكون في أجوبتهم ما ينتفع به المدرسون في تكوين مكتبة التلميذ
زكي مبارك
حول كلمة اللقاء
صديقي الأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة:
تحية واحتراماً. وبعد فإني أحسبك لم تنس بعد كما لم ينس الأستاذ الفاضل باحث الفالوذج في الرسالة أنه سألني بحضرتك من شهر مضى تقريباً عن كلمة (الُّلقاء) التي جاء بها أبو العلاء في كلام له في كتابه (الفصول والغايات) ثم فسرها بالفالوذج وأنه متشكك فيها، فذكرت له أنها وردت هكذا في نسخة الأصل وهي نسخة جيدة وأني طلبتها في كل مظانها فلم أجدها. وقلت له إن أبا العلاء ربما وجدها فيما وقع له من الكتب التي لم تصل إلينا، ورجحت أنت صحتها للمجانسة اللفظية بين كلمتي (يُلقى) و (لقاء) التي كان أبو العلاء يحرص على أمثالها
هذا ما عندي، وقد كنت أنتظر منه أن يقول (فلست بمنكره في يوم من الأيام) ثم يعقب عليه بما يشاء
محمود حسن زناتي
حول تيسير قواعد الإعراب
حضرة الفاضل الأستاذ (أزهري)
نعم يا سيدي الفاضل، إن من مميزات عصرنا الحاضر هو كما تقول:(التهم التي تكال جزافاً) دون دوية ولا إمعان.
وهذه أيضاً من تأثير السرعة التي اقتبسناها ولم نحسن استعمالها. فإن النفوس التي تتهمها (بالجهل والجمود والجحود) تفهم السرعة في المواصلات والسرعة في الإدراك - وسرعة الخاطر -
ولكنها قاصرة عن فهم السرعة في الحكم والدرس والإصلاح خصوصاً إذا تعلق هذا الإصلاح بمستقبل قواعد لغة عدة شعوب وملايين من الناس.
إن (نفسي الجاهلة) لتأخذ على أستاذها الفاضل سرعة الحكم؛ فقد كان من السهل عليه لو تأمل قليلاً أن يدرك أن ليس في ردي عليه استفزاز ولا خلط. ولكني نسبت ما في القواعد من تعقيد وصعوبة إلى المدرسين القائمين بتلقينها للنشء لا إلى نقص في القواعد نفسها. ثم أخذت عليه تغيير الإعراب وبقاء القواعد كما هي، وفي هذا من الخلط والتعقيد ما هو بريء من التيسير. فإذا قلنا مثلاً إن حرف الجر مجزوم وجب أن نحذف من كتاب القواعد أن الحروف مبنية. وإذا سلمنا أن الفعل الماضي منصوب وجب حذف باب (بناء الأفعال). وهكذا يجب تغيير وحذف كل القواعد التي لا تتمشى والأعراب الجديد. وإن كان ذكر النون في جمع المذكر السالم (حشواً لا داعي إليه) فلا أرى ما يمنع حذفها. والمعقول أن ما يعتبر حشواً يمكن الاستغناء عنه. وكما قلت سابقاً إن عملية التيسير أخطر من أن تتم بهذه السرعة، وإننا مسئولون عما نأتيه من تغيير في قواعد اللغة التي ثبتت أجيالا مضت ولم نثبت بعد خطأها ولم نأت بأحسن منها.
لقد طالعت أبحاث أستاذنا المحترم بكل تؤدة وإمعان، ثم بينت لكل اعتراض سبباً منطقياً يقره العقل والفهم. فأين إذن الخلط والسهو من كلامي هذا؟؟ ولو تفضل الأستاذ المحترم وراجع مقالي السابق لوجد أنه مختص بالبحث في عملية التيسير من ناحية صلتها بالنشء. ولا يخفى على الأستاذ الفاضل أن فكرة التيسير لم تنشأ إلا لتسهيل درس قواعد اللغة للطلبة بعد أن لوحظ شدة ضعف المتخرجين في الدراسة الثانوية والجامعية.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أشكركم لما نسبتموه إليَّ من جهل. فإنه لفخر لي أن يتهمني عالم جليل بالجهل.
أمينة شاكر فهمي
من المرحوم زكي باشا إلى المرحوم الرافعي
كنت رأيت على مكتب المرحوم الرافعي في سنة 1933 طائفة
من أوراق مخطوطة حدثني هو عنها أنها معجم يؤلفه زكي
باشا وبعث به إليه يستعينه عليه؛ وقد وقعت لي الرسالة الآتية
بين ما خلف الرافعي من رسائل أصدقائه، بخط المرحوم أحمد
زكي باشا، فرأيت أن أنشرها على قراء الرسالة. وهذه الرسالة
مكتوبة على ورقة مستعملة ممزقة الأطراف، يظهر أنها كانت
غلاف رسالة إليه عليها خاتم (حلب)، والمعروف عن المرحوم
أحمد زكي باشا أنه كان يكتب ما يريد أن يكتب على ما تيسر
له من الورق ولو كان ورقة ممزقة من سلة القمامة!
سعيد العريان
عزيزي الأستاذ الرافعي:
كنت كتبت خلاصة وافية عن حرف الألف لوضعها في أول باب الهمزة، ثم عنَّ لي أن أرسلها لرجل في حلب عرفت تعمقه في النحو، وإذا به أعادها إلي مع مقالة أخرى تدل على شدة تقعره، وفاته أن الغرض هو الإلمام بكل أحوال الألف بلا شرح إلماماً قاموسياً
أرجوك نظر المقالين واختار أحدهما مع التنقيح أو التصحيح أو الحذف والزيادة كما تراه، وإبقائه عندك إلى حين رجعتي من الإسكندرية وسلام الله عليك من المخلص
أحمد زكي
تدريس اللغة العربية في فرنسا
جاء في بلاغ من وزارة التربية الوطنية أنه أنشئ فرع لتعليم اللغة العربية في مدرسة (سان لوي لي جران) في باريس ومدرسة (بيريه) في مرسيليا
وجاء في هذا البلاغ: أن اللغة العربية سبق أن قبلت على قدم المساواة مع اللغات الأجنبية لا في امتحانات البكالوريا والليسانس فقط بل في امتحانات المدارس العسكرية كمدرسة سان سير وغيرها
والأهمية المتزايدة لأفريقيا الشمالية في الاقتصاد والدفاع الوطني وحاجة فرنسا لأن تنشئ معها علاقات تزداد وثوقا مع الزمن، كل ذلك يعد من الأسباب التي تبرر التدابير التي اتخذتها وزارة التربية
الكتب
عرض وتحليل
هكذا أغني
للشاعر محمود حسن إسماعيل
بقلم الأستاذ إسماعيل كامل
عندما أخرج الشاعر الأديب محمود حسن إسماعيل ديوانه (أغاني الكوخ) وكان لي حظ الاشتراك في حفلة تكريمه كان أهم ما دارت حوله كلمتي التكريمية أن الشاعر صادق الحس مشبوب العاطفة قوي الإيمان ينتزع الأخيلة من أطواء وجدانه في غير افتعال أو تعمل، وأنه يمثل الريفي المؤمن الصادق الأحاسيس الذي يقبس من جلال المناظر الطبيعية خير ما تختلج به نفسه الجياشة بحب كل ما هو طبيعي لا أثر للصنعة الزائفة فيه
وأخيراً جاء ديوانه الثاني (هكذا أغني) صورة صادقة تؤيد ما ذهبت إليه في كلمتي الأولى وتعزز تلك النظرة الصائبة التي لم تخب فيما خرجت به من دراسة شاعر الشباب النابغة
وأنا في هذا البحث العاجل أحب أن أنتزع من الديوان الأخير صوراً فاتنة تؤيد ما ذهبت إليه يوم قام الأدباء من الشباب يحتفلون بذلك القبس الباهر الذي كشف عن درر الشاعر الفذ
ميزة تفرد بها الشاعر محمود ولم يجر فيها على منوال كثير من شعراء كل مناسبة يأتي من ورائها الغنم والفائدة! تلك ميزة الوفاء لنفسه والإخلاص لمشاعره والاعتداد بشعره؛ فلم يكن يوماً بوقاً للظروف أو أداة للملابسات، بل ظل الشاعر الرفيع الإحساس المترفع بشعره أن يتلمس جوانب النفع ووجوه الاستغلال أينما ساقتهما الأقدار أو دفعت بهما الرياح وفي ذلك يقول الشاعر لمليكه:
للشاعرين بلاغة فضفاضة
…
حشدت بلفظ في الحلوق مجلجل
وأنا الذي شعري نفاثة مهجتي
…
سكبت جداولها بهمس السنبل
يوم الفخار سنلتقي. . . أنت العلا
…
وأنا الصدى في ظل عرشك! فأصغ لي
أنظر إلى محمود الشاعر الريفي الذي يلوذ بأذيال الخمائل يقتطف منها شذا الزهور،
ولحون الطير، ونور الصباح، وعبير الضحى، لتعينه على الهتاف للمليك إن عاونته تلك العوامل كلها على أن ينتمي لبلابل الخلد السواجع
وانظر إلى ذلك الشادي من أين يقبس قريضه. . من الطبيعة الوارفة ومن الأيمان الصادق:
شاديك من قصب الفرادس غايهُ
…
ومن السنا والطيب عُل عناؤه
ومن الصَّبا نهلتْ حلالَ أراكةٍ
…
سجواَء، نافجها غفت أنداؤه
ومن الطفاوة في أصيل خاشع
…
سجدت على زهر الربا أضواؤه
ومن المساجد هينمت تحت الدجى
…
صوفيُّها سجدت على زهر الربا أضواءه
ومن الشعاع المستهام بقبلة
…
في النيل طهرها هوَاه وماؤه
ومن السنا الرقراق في قدح الضحى
…
أغرى النديم فولولت صهباؤه
وشاعرنا كثير التبرم بالقلوب الغوادر وما جبل عليه الناس من فضول وتهاتر، ولكنه يرتد ساخراً هازئاً لاعتداده بنفسه، وعرفانه بقيمته وبفيض من حنانه على (الغراب) قسيمه في الحظوظ وصاحبه في الجدود وقرينه في تحامل الناس الظالم دون إثم يبرره:
وأنت - كمثلي - هارب من فضولهم
…
جوابك للأكوان: إني ساخر!
فدعهم يلوكون الحديث، وأصغ لي
…
فما منهم للسمع إلا التهاتر
سلاماً قسيمي في الحظوظ. . وصاحبي
…
وقد أرخصت عهدي القلوب النوادر
عشقتك منذ النخل مد ظلاله
…
عليَّ تغاديني وبه وتباكر
ويكاد يتفرد الشاعر محمود بقوته الهادرة وفتوته الفائزة في كل ما يقرض من النظم حتى حين يتحدث إلى موسيقى النقوش
ابعثي اللحن يدَّوي
…
كيفما شئت وشاء
لن ترىْ في الأرض سمعاً
…
يشتهي هذا الفناء
غير سجعي فهو من دن
…
ياه في دنيا فناء
لكنه كغيره من الشباب إذا أحب وعف واعترضت العقبات سبيله راح يتفجع ويتوجع وإن كان لا يسف إلى درك التوسل والاستعطاف، بل يهدد وبتوعد. . يهدد بالجنون والانتحار والفناء
وانظري جذوة الهوى في خيالي
…
وشحوب الفناء في نظراتي
وتهاويل من بقايا جنون
…
خلفتها الأحزان فوق سماتي
وبريقاً من الشباب المولى
…
كهشيم الريحان فوق الرفات
منية أزهقت وأخرى تعايا
…
والبقايا في الصدر منتحرات
أسرعي قبلما تغيب الأماني
…
في دخان الهموم والحسرات
وتصيرين في الهوى قصة الغد
…
ر وأسطورة على نغماتي
أسرعي قبل أن تموت الأغاني
…
فتناجيك، بعدها مرثياتي!
وما أحسب الشاعر ينتوي ما يهدد به ولكنه يتوعد حبيبه بشر ما ترتاع له النفوس حتى ينطلق من محبسه ويثور على أغلاله وإلا ما قال بعدئذ:
حجبوك عن نظري وخلوا مهجة
…
حيرى يجرعها الهوى أتراحه
وأنا الذي سأظل باسمك هاتفاً
…
حتى يمد الموت نحويّ راحه!
حجبوك هل حجبوا نفاثة عاشق
…
أضرى الغرام جلاده وكفاحه؟
متولع بهواك ما أغرى به
…
بينٌ ولا فلَّ الفراق سلاحه
وهو ليس دائم الشكوى والنواح بل طالما ركن إلى الصمت القاتل وكبت مشاعره حتى لا يستذله الضعف وبعد أن صدف الناس عن الشكوى وتغافلوا عن الشاكين:
والناس. . لا ناس إذا خلجت
…
عيني. . كأني في الحياة عَمِ
صدفوا عن الشكوى فلا أذن
…
تصغي لما رتلت من نغم
حسبوا أنين القلب فلسفة
…
عبثت بها أنشودة القلم
فتغالوا عني ولو علموا
…
شربوا صباب الدمع من ألمي
أنت عاتبت على الصمت. . . فاسمع
…
نغمات الجراح تحت الجنوب
أنا همس يموت في قلب ناي
…
نبذته الرياح خلف الكثيب
أنا صمت الكهوف يهتز للوحي
…
إذا هل في السكون الرهيب
وقصارى ما يقال في شاعرنا الفذ أنه ينتزع مادته في جميع الاتجاهات والأوضاع من الطبيعة الساحرة في صمتها وشجوها وتغريدها لا من التأثر الدراسي أو الاطلاع الفردي وحدهما، بل إنني كنت مع بعض الواهمين قبل أن أعرفه في أنه قد قبس كثيراً من معانيه البكر من شعراء الفرنجة الطبيعيين أمثال وردثورت وشيلي وبيرون.
وشاعرنا قد جمع في وثبته بين القديم والجديد: فهو يمثل جزالة الشعر العربي الرصين وقوة أسلوبه ومتانة بنائه، كما يمثل الجديد في سلاسة معانيه، وطرافة موضوعاته وحداثة مراميه، فكان وسطاً حبيباً بين العهدين، وروحاً فياضة بين الجيلين وعلماً فرداً في توسط الاتجاهين.
وهو نسيج وحده في أغلب الموضوعات التي يطرقها لا يشبه فيها شاعر اللهم إلا في الموضوعات الاجتماعية التي يظهر فيها تأثير البيئة الواحدة في جميع الأقلام، وفي هذا يمثل الشاعر بيته وما يعتمل في أطوائها وما يشيع في أجوائها خير تمثيل.
وقبل أن أختتم كلمتي العاجلة أود أن ألمس المدى الذي بلغه الشاعر في ديوانه الأخير والخطوة الواسعة التي خطاها في أغانيه الأخيرة بعد أن انقضت أعوام ثلاثة على ديوانه الأول (أغاني الكوخ)
إن من قرأ للشاعر في ديوانه الأول حديثه الفطري عن (حاملة الجرة) ثم يقرأ قصيدة الرائعة عن (الغراب) في ديوانه الأخير يلمس عمق التأمل وغور الاستيعاب الوافدين على شعره الجديد وقد أضفيا على قريضه القوة والمضاء. كذلك يلمس القارئ في ديوان الشاعر الأخير مدى توسعه في الموضوعات الاجتماعية وشبوب عاطفته في الناحية الغزلية، وذلك الطهر الذي يهيمن على مشاعره
وليس ثمة ما أعيبه على الشاعر غير تلك الرهبنة وذلك المذهب الكنسي الذي يصبغ أكثر قصائده، ولكن العارف المشرف على حياة الشاعر والدارس لبيئة لا يعجب لتلك القوة المسيطرة عليه فقد أخذت على الشاعر الصديق في حديث لي معه هذا المنحى الغالب على تأملاته؛ ولكنني عرفت أن في بلدته (النخيلة) تنهض الكنيسة على كثب من المسجد ويبعثان في النفس الطاهرة رهبة الإيمان والتقديس
فإذا أضفنا إلى ذلك نشأة الشاعر الريفية الساذجة أدركنا عمق التأثير الشخصي إلى جانب التأثير العام فيما يصدر من القريض
وليس للشاعر محمود نوع خاص من الفلسفة، فهو يرى الفلسفة في ذلك التأمل العميق في أسرار الحياة أينما وقعت عليها العين الفاحصة والشعور الملهم
بقي أن أقول صراحة إن ديوانه الأول (أغاني الكوخ) كان يمثل الفن الرفيع وحده، فلم
يقحم فيه الشاعر تلك المراثي التي حشدها في ديوانه الأخير، أو تلك السياسات التي اندفع فيها نتيجة لشعوره مهما كان صدق هذا الشعور، فما هي بالموضوعات التي تجمع بين دفتي ديوان لتبقى مدى الأحقاب والأيام
إسماعيل كامل
المسرح والسينما
شيء من لا شيء
باكورة الموسم المصري لأستوديو مصر
عرضت سينما أستوديو مصر في الأسبوع الماضي أول أفلامها المصرية للموسم الحالي وهو (شيء من لا شيء) الذي حدثنا عنه قراء الرسالة في مناسبات كثيرة بما جعلهم يوقنون قبل رؤيتهم إياه من أنه سيكون فلماً من الأفلام الممتازة دون ريب. . .
وفي الأسبوع الماضي عرض الفلم فكان ممتازاً رائعاً حلواً فكرة جديدة. . . إخراج جديد. . . ملابس فخمة. . . غناء عذب. ولعمرك ماذا يريد الإنسان في فلم واحد أكثر من اجتماع ذلك كله بعضه ببعض؟ إنه فلم يستحق الأستوديو من أجله تهنئة من أعمق الأعماق
واحمد بدرخان بهذا الفلم - حتى مع انعدام غيره أو انعدام المؤهلات - يدخل في زمرة كبار مخرجينا بحق ما دام قد تسنى له أن يخرج هذا الفلم، وما دام قد تسنى له أن يخرجه بهذه الطريقة الناجحة
خلاصة قصة الفلم
جيشان يلتحمان في عراك، كلاهما من جند المسلمين، يبدأ الفلم بفلول الجيش المنهزم وأحدهما يندب كتفه الكسير وكرشه المبقور وأمعائه الممدودة أمتار على الرمال. . .
ويفتح المنظر التالي على ملك الجيش الغالب وهو يستقبل قواده الظافرين، ويسألهم - بين ما يسألهم - عن الغنائم والأسلاب والأسرى، ويفهم في النهاية أن هنالك أسيرة واحدة، أما الرجال فكثيرون. وبتحدث الملك إلى قادته: ماذا يفعل بهم؟ فبقى الرأي في النهاية على (ترحيلهم) إلى جزيرة المنفى. وفي هذه اللحظة يرى الجمهور المطربة المحبوبة نجاة علي لأول مرة، ويرى بعدها الأستاذ عبد الغني السيد، وهو مضمد الرأس من الجراحات يغني ويغني معه زملائه الأسرى وهم يدخلون المركب التي أقلتهم إلى حيث أريد لهم. . . ويحار الملك في الأسيرة ماذا يفعل بها، والى من يقدمها؟
وإذ ذاك تحدث منافرات ومقارعات بين الحاضرين كلها فكاهات لطيفة، وأسمار لذيذة، وينتهي الأمر بأن يقرر الملك تزويج الأمير عنتر منها، وعنتر هذا هو القائد الجديد للجند،
وشخصية عنتر هذه من أهم الشخصيات الفكاهية في الفلم
وينادي الملك الأسيرة وهي ابنة أخيه ويزف لها خبر تقريره تزويجها من الأمير عنتر، فترفض وتثور وتعود إلى منامها والأمير يهدر ويزمجر، ويهدد ويتوعد. . . ويقول لها بأنه إزاء ذلك لا يسعه إلا أن يزوجها من أحقر شخص في المملكة وهو ذلك الأسير الشاب. . .
وتنساق حوادث الرواية أمام المتفرج بعد ذلك وتتعرف الأسيرة إلى الأسير الشاب ذي الصوت الجميل. . وبعد صد وطول عدم اكتراث، تقع في حبه، أو بالأحرى في حب صوته.
ويغتاظ الأمير عنتر، فيقوم بمحاولة أخرى ويهبط على الأسيرة في منامها ويكاد يعتدي عليها هو ومن معه من الجند، لولا أن الأسير الذي هو زوجها يحضر في الوقت المناسب ويعمل في الأمير ورجاله سيفه، فيقتل أحد رجاله ويجرحه هو جراحاً بالغة. . .
ويقدم الأسير للمحاكمة، وهي محكمة من أغرب المحاكم التي سمع بها الناس من قبل. . .
ويرفض المتهم الدفاع عن نفسه ويسكت كل من يحاول الكلام في صالحه، فلا يسع هذه المحكمة إلا إصدار الحكم عليه بما يقتضيه القانون. . .
والجمعية السرية. . لا ننس الجمعية السرية. . ولغتها (المختلطة) ورئاستها البارعة في الخوف والوجل. . فإنها من ألطف وأندر ما ملئت به القصة. .
وعندما تنتهي حوادث تلك القصة التي لم تراع فيها وحدة زمان أو مكان أو نظام ملابس أو لهجة كلام أو خلافه. . .
لما تنتهي هذه الحوادث يشاهد المتفرج رجلا بلدياً يسقط من فوق الفراش هو وزوجته وهي تناديه ليستيقظ ويكون في حلم قد وصل إلى حد قوله (ليسقط. . .)
الناحية الفنية
وبعد هذا هو ملخص القصة. وقد سبق أن قلنا أن الفلم من وجهه العام ناجح ومشرف لأستوديو مصر ولمخرجه الأستاذ بدرخان، ولكن لنا ملاحظات عليه. . على رغم أنه حلم ليلة صيف. . وبرغم أن المفروض فيه هو أنه (تخريف وهلوسه)
من هذه الملاحظات أن دوري نجاة علي وعبد الغني السيد لم يكونا ظاهرين ولا مفهومين في بادئ الأمر. . وكان كلام مقطوعاتهما الغنائية ضعيفاً كما كان التلحين أضعف وأكثر
ارتباكا. . . ولسنا ندري هل كان ذلك من الملحن أم من الممثلين. .
ومن هذه الملاحظات أن القصة كلها كانت مسجوعة. . . والسجع عادة كالشعر - يستولي من المشاهد - على جانب كبير من انتباهه. . ومن هنا يخسر الفيلم هذا الجزء من انتباه القارئ دون مبرر. . هذا إلى أن أغلب السجعات كان بارداً وسخيفاً. .
ويدافع بعضهم عن هذا بأن المقصود من هذه السجعات السخيفة هو الإضحاك. . ولكن هذا لا يعد دفاعاً قدر ما يعد اتهاماً. . فإن الفلم لا يصح أن يكون مصدر سرور الناس منه احتواءه على سخافة وحسب. .
ولا تحضرنا الآن بقية الملاحظات فموعدنا بها عدد تال، ونكرر في نهاية هذه الكلمة ما سبق أن ذكرنا أكثر من مرة من أن هذا الفلم - على رغم الأخطاء التي به - يعتبر فتحاً جديداً في عالم الأفلام المصرية، ويستحق أستوديو مصر عليه كل تهنئة
سالم ينتهي من أجنحة الصحراء
انتهى الأستاذ أحمد سالم في الأسبوع الماضي من تصوير آخر (ديكورين) في فلمه الجديد (أجنحة الصحراء) وقد كان أحدهما كبيراً وفخماً بدرجة لم تعرف من قبل في الأستيديوات المصرية. ورآه مخرجون مصريون كثيرون فهنئوا الأستاذ سالم بتوفيقه في بناء هذا المنظر. والصحفيون يعترفون بأن القراء سوف يشاهدون عجباً في فلم سالم هذا عندما يعرض في منتصف الشهر القادم
جلال يعمل. .
أبلغنا زميل أن الأستاذ احمد جلال قد انتهى من كتابة السيناريو الجديد للفيلم الثاني لشركة لوتس في هذا الموسم والحيرة الآن، أو المفاوضات، دائرة بين آسيا وبين الزميل حول اختيار الاسم الصالح. . وقد رددت زميلات أسماء غريبة، نفتها لنا السيدة آسيا بكل شدة.: والمعروف أن تصوير هذا الفيلم الجديد يبدأ في أوائل الشهر القادم. . .