الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 277
- بتاريخ: 24 - 10 - 1938
العامية والفصحى
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أنا متهم بعدائي للغة العامية، وياما أكثر من في الحبس من مظلومين - كما يقول عامتنا في أمثالهم - ولست أريد الآن أن أدافع عن نفسي وأبرئها من شيء، فان لي الحق في المعاداة والمصافاة كغيري من الناس تبعاً لرائي وهواي، ولكنما أريد الآن أن أضع أموراً في مواضعها على قدر ما يتيسر لي ذلك.
الأمر في اللغة العامية أن نطاق الأداء بها محدود. وهي في هذا النطاق وافية بالحاجة وكافية جداً للأغراض التي تطلب بها ولكنها تخذلك إذا أردت أن تتجاوز هذا النطاق. أي أنها تصلح للحديث العادي والحوار في المسائل اليومية، وللعبارة بها عن الأَغراض المألوفة بين الناس عامة، فإذا أردت أن ترتقي بها عن هذه الطبقة وأن تتناول بها حديث العلم أو الأدب أو الفلسفة أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى قصرت بك وعجزت عن الوفاء بهذه المطالب فتحتاج إلى لغة أخرى تستطيع أن تواتيك وتساعفك - لغة أخرى تكون أوفى وأزخر وأوفر مادة وأكثر عناصر، ولا لغة هناك لنا غير اللغة العربية الفصحى التي لا تعد العامية إلا لهجة مشتقة منها. وهذا شأن كل لغة عامية في الدنيا. وكل عامية تعجز عن أداء ما هو أكثر من المطالب العادية. وحدود كل لغة عامية هي حدود العامة أنفسهم، ونطاقها هو نطاقهم، فإذا احتجت إلى ما يجاوز نطاق العامة ويرتفع عن طبقتهم فانه لا يسعك إلا أن تلجأ إلى لغة أوسع من لغتهم وأغنى وأقدر. قد يقال ولكن في الدنيا عاميات ارتقت إلى مصاف اللغات الفصيحة كالإيطالية واليونانية الحديثتين. وهذا صحيح غير منكور. وفي وسع كل عامية أن تصبح هي لغة الكتابة والأدب والعلم والفلسفة وما إلى ذلك إذا وسعتها وضبطتها وأجريت الأمر فيها مجرى اللغات الصحيحة ذات الأحكام والضوابط، وأنجيتها من الفوضى التي تلازم العاميات في العادة. وهذا هو الذي حدث في اللغة الإيطالية الحديثة واللغة اليونانية الحديثة اللتين حلتا محل اللاتينية والإغريقية القديمتين. ومؤدي هذا أن العامية عندنا في صورها الحالية لا تصلح للأداء ولا لأن تتخذ لغة كتابة وأدب وعلم وفلسفة وغير ذلك لأنها فوضى وتحتاج إلى ضبط وإصلاح وتوسيع وإغناء. وقد قلت (في صورها الحالية) ولم أقل (في صورتها الحالية) وأنا أعني ما أقول،
فان عامية مصر غير عامية الحجاز أو العراق أو الشام أو تونس والمغرب على العموم أو السودان، ولكل بلد من هذه البلدان عاميته الخاصة، بل نحن في مصر لنا أكثر من عامية واحدة، فعامية القاهرة غير عامية الصعيد وغير عامية الإسكندرية أو الأقاليم الشمالية، فأي هذه العاميات كلها تريد أن تكون لغتك؟ ولكل منها خصائصها وعناصرها التي اقتضت طبيعة الحياة الخاصة بها أن تتألف منها. فعامية مصر أو عاميات مصر - فأنها كثر - فيها عناصر من العربية والفرعونية وعناصر من اللغات الأوربية بحكم موقع البلاد الجغرافي، وعامية العراق فيها عناصر من العربية والتركية والفارسية والهندية وغير ذلك، وهكذا
والعامية لا ثبات لها ولا استقرار. والملاحظ - والطبيعي أيضاً - أنها ترقى مع انتشار التعليم وتقترب شيئا ًفشيئا ًمن اللغة العربية. يدل على ذلك - إن كان الأمر يحتاج إلى دليل - أن حوار المتعلمين لا يكاد ينقصه من اللغة الفصحى إلا ضبط أواخر الكلمات أي بناء الكلام على معاني النحو؛ والعربية على عكس العامية أداة ثابتة على كثرة ما يطرأ عليها من التطور، وهي تتسع وتلين وتزداد صقلا على الأيام على خلاف العامية التي لا تثبت ولا تستقر بل تندمج في العربية بعد أن اشتقت منها وانفصلت عنها.
وهنا أنتقل إلى نقطة أخرى أود أن تتقرر في الأذهان؛ وتلك أن العامية ليست لغة أجنبية وإنما هي لغة عربية محرفة، فهي بنت العربية وصلتها بها وثيقة كما هو الحال في كل عامية بالقياس إلى اللغة الصحيحة. وكثيرون منا ينظرون إليها غير هذه النظرة، فإذا كتبوا أو خطبوا اتقوها جداً وخافوا منها وتحاموها ونفروا من كل لفظ مستعمل فيها، وبهذا يباعدون مباعدة شديدة غير نافعة بين الكاتب والقارىء، وهذا خطأ فان العامية كما قلت بنت العربية وفرع منها، وإذا ما نظر الإنسان إلى العامية هذه النظرة ألقى فيها كنوزاً ونفائس لا تقوم، وأغناه ما يجد فيها عن كثير مما يلتمسه ولا يهتدي إليه، أو يهتدي إليه ولكنه لا يكون في الأكثر والأعم إلا نابياً ثقيلا مستكرها ًفي السماع أو منفراً من العربية نفسها. وقد كنت كغيري أتقي كل لفظ مما يجري على ألسنة العامة لتوهمي أن ما يجري على ألسنتهم لا يمكن أن يكون عربياً صحيحاً، ولكن مطالب التعبير والأداء أحوجتني إلى البحث عن مفردات كثيرة فالتمستها في كتب الأدب ومعاجم اللغة، فأما المعاجم فقليلة الغناء
في هذا الباب وهي تجمع الحي والميت من الألفاظ ولا تفرق بين هذا وذاك. وأما كتب الأدب فإن اللفظ المستعمل فيها يكون لفظاً حياً استطاع أن يبقى ويدور على الألسنة والأقلام، والألفاظ كالناس وككل مخلوق، تحيا وتموت، والصالح منها هو وحده الذي يبقى، أما غير الصالح فينتهي به الأمر إلى أن يهجره الناس ويتركوه مدفوناً. ولا خير في محاولة إحياء لفظ مات ونشره بعد أن طواه الزمن، وإنما الخير أن تتركه حيث هو وأن تلتمس سواه من الألفاظ التي قدرت على البقاء والمكافحة والنضال.
نظرت هذه النظرة إلى لغتنا العامية فعثرت بلا جهد أو مشقة في بحث على مئات من الألفاظ العامية التي نتوهم أنها غير عربية أو لم يستعملها العرب، ونتحاماها لذلك، ولو استعملناها لجاء الكلام أوضح وأبين، ولكان فهمه أسهل ومطلبه أيسر. وبعض هذه الألفاظ عربي أصيل، والبعض مولد أو دخيل ولكنه مما استعمله العرب وأجروه مجرى ألفاظهم الأصلية. وكل هذه الألفاظ تمتاز بأنها استطاعت أن تعيش وان تجري على ألسنة الأمم والشعوب، آلافاً من السنيين الطويلة، فمادة الحياة فيها قوية ولا معنى لهجرها وإهمالها لا لسبب سوى أن العامة يستعملونها كأن كل ما يستعمله العامة يجب أن يحتقر ويرمى ويطلب غيره، وهي سخافة ظاهرة.
وقد علمت أن الدكتور احمد بك عيسى قدم إلى المجمع اللغوي رسالة في الألفاظ العامية وأصولها تشتمل على ما قيل على ألفي كلمة، ولا اعتقد أن هذا الرقم أدنى مبالغة فأني أنا وحدي بلا بحث يستحق الذكر وبمجرد تقييد ما يعرض لي من ذلك في مناسباته العارضة وقعت على اكثر من ألف كلمة، وقد نشرت في الرسالة طائفة منها، فأحر بالباحث الذي يعنى بدرس الموضوع وتعقب الألفاظ أن يهتدي إلي أضعاف أضعاف ذلك. والذي أرجوه أحد أمرين، أن يطبع المجمع هذه الرسالة النفيسة: أو إذا كان ثم مانع معقول - ولست أرى أي مانع - فليطبعها الدكتور عيسى بك ولينشرها فإن الفائدة منها جزيلة، إذا كانت هذه الألفاظ السهلة المعروفة التي يفهمها كل إنسان متعلماً أو غير متعلم تغنينا عن ألفاظ مهجورة ميتة نضطر إلى الالتجاء إليها والاستعانة بها على التعبير فلا يفهمها أحد إلا بالشرح والتفسير أو الرجوع إلى المعاجم، وهذا كله عناء باطل لا يجوز تكلفه مع وجود الألفاظ المأنوسة.
أن اللغة - كل لغة - ليست أكثر من أداة للإفهام أي لنقل المعنى أو الصورة أو الإحساس أو الخالجة على العموم من ذهن إلى ذهن ونفس إلى نفس. واللغة - كل لغة - بطبيعتها أداة ناقصة ووسيلة غير وافية، وهي في الحقيقة أشبه بإشارات الخرس التي تشير إلى المراد ولا تبين عنه. وكل من عانى الكتابة بأية لغة يعرف ذلك ويحسه ويستطيع أن يشهد به. وما أكثر ما نعجز عن التعبير عنه فنتركه إلى سواه مما يؤاتينا عليه البيان، ومتى كان هذا كذلك فإن من الشطط أن نزيد الأمر صعوبة بالأغراب والحذلقة بترك السهل إلى المهجور، والمأنوس إلى الحوشى، أي بجعل مهمة الإفهام أشق على الكاتب والقارئ معا، وما دامت اللغة العامية مشتقة من العربية وفرعا من أصلها فإن من الحمق أن نترك ما فيها من الصحيح وأن نروح نبحث عن غيره لنعبر به.
وفي العامية فضلا عن ذلك تعابير لا سبيل إليها في اللغة العربية على ما نعلم، مثال ذلك هذا البيت العامي:
(يا بت أنا بدي أبوسك
…
بس أبوسك
واطرب وأحظى بكؤوسك
…
رقي شوية)
هذان البيتان العاميان كل ألفاظهما عربية صحيحة - البت هي البنت ولو نطقناها بنت لما تغير الوزن. وبدي من قولك لا بد لي أو من قولهم بودي، وأبوسك كلمة عربية صحيحة لا تحريف فيها ولا تصحيف ولا شيء غير ذلك والفعل باس يبوس بوساً وهو عندي خير من قبل يقبل. وأطرب وأضحى والكؤوس ورقي كلها أيضاً صحيحة. بقيت شوية وبس، فأما شوية فتصغير شيء، وأما بس فلا مثيل لها ولا غناء عنها بغيرها في اللغة العربية. وقول الشاعر العامي أو الشعبي (بس أبوسك) تعبير لا يقابله مثله في العربية، وقد حاولت مراراً أن أجد بديلا منه فلم أوفق. فإذا كان غيري يستطيع أن يهتدي إلى بديل منه في اللغة الفصحى فليفعل وليحتقب شكرنا. أمثال هذا التركيب لا أرى أي مانع في إدخاله في لغتنا العربية الفصيحة والانتفاع به فيها وإغنائها بذلك فإنه تعبير ينقصنا فعلاً وإن كنا لا نعدم منه بديلاً غير سائغ أو مقبول. ومن هذا القبيل كلمة (بقي) وكثيرون يظنونها من الفعل العربي (بقي يبقى) والحقيقة أنها فرعونية الأصل ولا معنى لها، وإنما هي كلمة يستعان بها على التمهل للتفكير مثل كلمة (ألور) في الفرنسية.
وألخص موقفي من اللغة العامية ورأيي فيها فأقول إنها فرع من هذه الشجرة العظيمة التي نمت على الأيام وأصابها الركود الشديد عصوراً غير قصيرة وأعنى بها اللغة العربية. ولكنها - أي العامية بحالتها الراهنة لا تصلح أن تكون أداة لأكثر من التخاطب في الشئون العادية فلا يجوز اتخاذها أداة للكتابة وما يطلب بها من الأغراض، وهي فضلاً عن قصورها تختلف باختلاف الأقطار بل الأقاليم المتقاربة، فلهذا لا تصلح أن تكون لغة عامة، ومن السخافة أن نتخذ لغة قاصرة غير وأفيه لا يفهمها إلا عدد محدود وأن نهجر لغة عامة يفهمها كل أحد في كل بلد. ومن السخافة أن نقتل لغتنا العربية التي خلف لنا أصحابها كل هذه الكنوز في الأدب والعلوم والفلسفة والتاريخ وغير ذلك من أجل لغة لا ماضي لها ولا حاضر أيضاً، لأنها غير ثابتة وتحولها دائم مع ارتقاء التعليم وانتشارة، ولا مستقبل لها كذلك إلا الاندماج في اللغة العربية الفصحى بفضل تقدم التعليم وانتشاره كذلك. ولكن هذه العامية التي لا تصلح أن تتخذ أداة الكتابة عربية الأصل وإن كان فيها كثير من الدخيل من لغات أخرى بحكم اتصال الشعوب بعضها ببعض وأخذ بعضها عن بعض، ولهذا يحسن الانتفاع بما فيها من العربي الصحيح وإن كان محرفاً قليلاً. ويجب لهذا الغرض أن نعنى بإحصاء الألفاظ العربية في العامية وأن نردها إلى أصلها إذا احتاج الأمر إلى ذلك وأن نستعملها ونستغني بذلك عن البحث العقيم عن ألفاظ أخرى بدلاً منها في ما مات من ألفاظ اللغة العربية وعجز عن البقاء. وفي العامية فضلاً عن ذلك تعابير مثلها غير موجود في العربية، أو موجود ولكنه غير سائغ لا يقبله الذوق العام، فهذا يحسن اتخاذها أيضاً وإغناء العربية بها فإنها بذلك تتسع وتلين وتكتسب المرونة اللازمة. فيحس ابن اللغة وهو يستعملها أنها أداة حية نابضة لا جامدة ناشفة.
وأظن أني بعد هذا لا أحتاج أن أقول أني لست عدواً للعامية أو سواها؛ وقد يساعد على نفي هذا الوهم أن أذكر أني استعنت بها في الحوار في بعض ما كتبت من الروايات أو القصص بالقدر اللازم ليس إلا - استعملتها في هذا النطاق المحدود في روايتين على الخصوص رواية إبراهيم الكاتب ورواية تمثلية اسمها (غريزة المرأة أو حكم الطاعة) ولكنى التزمت حدوداً معينة لم أتجاوزها. ولا يحسب أحد أني أريد الإعلان عن هاتين الروايتين فقد نقدتا من زمان طويل.
إبراهيم عبد القادر المازني
في سبيل الإصلاح
المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ علي الطنطاوي
(أعد الأستاذ هذا البحث ليحاضر به الناس في ناد من أندية دمشق الأدبية، ولكن مرض الكاتب ولبثه أربعين يوماً في المستشفى، ثم اضطراره إلى السفر العاجل ليتسلم عمله في مدرسة بعقوبة (العراق) حال دون إلقائه).
صورة المشكلة
آلاف مؤلفة من الشبان يبتون مسهدين ينتظرون أزواجهم اللائى خلقهن الّله لهم. وآلاف مؤلفة من الشابات يبتن الليل مؤرقات ينتظرن أزواجهن الذين يراهم الله لهن والذراري تطل من شرفة الغيب ترقب تعارف أبويها، لتأخذ بأذن الله، طريقها إلى عالم الوجود، فيكون منها عباد الله صالحون، وجنود للوطن مخلصون، وأنصار للحق ثابتون.
ثم إذا قدر الله وكان زواج، كان الزواج (أكثر ما يكون) همَّا ونكداً، وخلافاً مستمراً، وآض البيت من بعده جحيماً محرقاً، وسجناً مظلماً، ونشأ الأولاد على غير تهذيب، ومن غير دين ولا أخلاق. . . هذه هي صورة المشكلة: انتظار أليم يسلم إلى الجنون أو إلى الفسوق أو إلى اليأس، ونقص في الأولاد، وضعف في الأمة، وخراب للبيوت، وضياع للأسر، وفقد للسعادة. . .
سبيل العلاج
هذه هي صورة المشكلة، فما هي أسبابها؟ وما نتائجها؟ وما علاجها؟ بل وما نفع الكتابة فيها؟
لقد كُتب فيها وكُتب (حتى لو أن محصياً أحصى المكتوب فيها لجاء معه كتاب ضخم) فلم يُغن المكتوب شيئاً، ذلك أن المشكلة تحتاج إلى حل عملي يقوم به الآباء، لا إلى نظريات وفلسفات يدلي بها الكاتب والأدباء، من اجل ذلك نحوت في هذا البحث نحو العمل فلم أتعمق ولم أتفلسف! ومن اجل ذلك ضربت من الواقع أمثلة، وأخذت من الحياة شواهد وصوراً. . . على أنها لا تغنى المباحث، ولا تجدي الشواهد ولا الصور، ولا المقترحات
ولا الآراء، ما لم يحققها عقلاء الآباء، أو من لهم في الأمة أمر أو نهي، ومن أرباب الحكم وأصحاب السلطان!
موانع الزواج
لو سئلت أكثر العزاب من الشبان: (ما منعكم من الزواج؟) لكان جواب الأكثرين إن لم أقل جوابهم أجمعين: (المهر، وما يتصل بالمهر من تكاليف وبلايا)، ولست اذهب بالقارئ إلى بعيد، بل أضرب له المثل من نفسي. . .
أنا أريد الزواج، وأنا امرؤ في رأسه أشياء وليس في كيسه شيء. . . أما الذي في رأسي، فقد أفنيت في تحصيله شبابي، وبيضت في طلبه ليالي وسوّدت نُهُرى، وخدعني عن حقيقته معلمي فحسبته أثمن شيء في الوجود، وصدقت أن العلم خير من المال. . . فرأيت من بعد أن المال خير من كل شيء. . . وأما كيسي فما فيه وفر، ولكن فيه مرتباً يكفيني ويكفي بحمد الله أربع زوجات معي، لو أن الزوجة بقيت إلى اليوم شريكة الحياة وربة البيت، وتطلب حياة هنيئة وزوجاً صالحاً، بيد أن هذا كله قد ذهب. . . وصارت الزوجة (يا أسفي!) متاعاً يشرى، ولابد للمتاع من ثمن، فإذا أخذ الأب الثمن لم يبال بعده شيئاً، ومتى كان يبالي التاجر إذا استوفى الثمن بأخلاق الشاري أو سيرته في أهله؟ وثمن الزوجة (أقل ما يكون) خمسون أو مائة (ليرة) ذهبية، فتصور يا صديقي القارئ متى تجتمع لرجل مثلي مكساب متلاف لا يستطيع أن يمسك شيئاً، أو لا يفضل عن نفقته شيء؟ وليست هذه المصيبة كلها. إن بعدها نفقات العقد (الكتاب) وقبل العقد خاتم الخطبة، وما يكون إلا من الذهب، و (الشبكة) وما يصلح لها إلا حلية لها قيمة. . . وبعد العقد الهدايا والّلُطف بحملها إلى دار (الزوجة العتيدة) كلما زارها، ولابد له من أن يزورها؛ ثم تأتي بلايا العرس، وما أدراك ما بلايا العرس: كسوة أهله وأقربائه ممن تجب عليه نفقتهم (وكسوة النساء أقبح التبذير، لأنهن يشرين قماشاً لا يدفئ ولا يستر، ويدفعن ثمنه غالياً، ثم إذا مرت شهور بطل طرازه (مودته) فأصبح لا يصلح لشيء. . . وبعد الكسوة نفقات حفلة الزفاف. ثم إذا دخل على زوجته، وانفرد بها، لا تكلمه حتى يدفع إليها (ثمن شعرها) وهي جملة من المال ولا تقل عن (بعض ليرات ذهبية) ولا حد لزيادتها، وما أدري والله كيف تنزل الفتاة للحلاق عن شعرها يقصه ويلقيه على الأرض، ثم تطلب (ثمنه) من زوجها؟ ثم إذا أصبح أعطاها
(وجوباً) عطية أكبر من (ثمن الشعر) هي (الصّبْحة) فإذا زال النهار أهدى إليها هدية، لابدّ أن يكون فيها إزار للحمام ثمين وقد يكون منسوجاً بخيوط الفضة، ومناديل (مناشف) الخ. . . ثم تأتي نفقات (السبعة الأيام) يقيم فيها الأقارب والأهلون في داره، تولم لهم كل يوم الولائم، وُيطرفون بأنواع الطرف، فإذا انتهت دعوا جميعاً إلى الحمام، وقد قلّ ذلك في هذه الأيام منذ كثرت الحمامات في الدور، وأهملت الحمامات العامة أو كادت، ثم يدعو أهلها (أي أهل الزوجة) جميعاً وأهله إلى وليمة كبيرة تسمى (التعريفة) يعرَّف فيها بعضهم ببعض - وقد يبلغ المدعون إليها المئات في بعض الأسر الكبيرة. . .
فأنى لمثلى الطاقة على هذه المصروفات التي تخرب بيوت الأغنياء؟ وإني لأعرف قاضياً شرعياً زوج ابنه، فتكاثرت عليه النفقات، فلم يقدر عليها حتى باع بيته - لينفق ثمنه في ليالي العرس! هذا أول موانع الزواج وأظهرها. . .
الحجاب
وهب أني قد وقعت على كنز، أو أصبحت إرثاً فأصبحت غنياً توفر لي ما أبتغي من المال فكيف أختار زوجتي؟ أما الحاسرات المتبرجات اللائى يعرف الرجال كلهن: صدورهن ونحورهن وأيديهن وسوقهنَّ، فأنا (بحمد الله) أعقل من أن أتخذ منهن زوجة، ولو كانت ابنة ماء السماء، وأعلم العلماء، وما أحسب ذا دين ومروءة، يرضى أن يتزوج بمن رضيت لنفسها إهمال الدين، وإسقاط المروءة، بتعرّضها في زينتها وفتنتها للرجال، تستهويهم وتأخذ بأيديهم إلى النار. . . بقى علىَّ المتحجبة من بنات الأسر، وهي التي لا سبيل إلى رؤيتها إلا ليلة الزفاف، وبعد أن يكون الغلَّ قد استدار حول عنقي، والقيد قد أحكم أقفاله على يدي ورجلي، ولم يبقى لي إلا أن أقبل بها ولو كانت لها وجه قرد وأخلاق شيطان!
أفهذا من المعقول؟
يريد المرء سفراً، فيتحرى عن أخلاق رفيقه أياماً، ليعلم أيوافقه أم يخالفه؛ ويبتغي أجيراً فيراه ويبحث عن أصله وفصله، ويجرَّبه أياماً؛ ويعزم على أن يتزوج، فلا يرى رفيقة حياته ومهوى قلبه، وموضوع حبه، إلا بعد أن يتم كل شيء؟
مع أن الشرع أباح له أن يراها ويجالسها. . . ومع أنها تخرج إلى السوق فيراها (على
خلاف الشرع) البائع ومن كان عنده، ويقدم إليها القهوة ويحادثها، ويراها عمال السينما، ويراها ويراها، فما الذي حاق بالآباء حتى هان عليهم كل محرّم، وصعب عليهم ما أحلَّ الله؟
هذا هو المانع الثاني من موانع الزواج، بل إن هذا الوضع هو الذي سبب ما نرى من تبرج النساء وحسورهن، وعريهن على السواحل. . . ولا علاج له إلا بحجاب شامل (وذلك ما لا يستطاع) أو بسفور شرعي، كالذي سماه صديقي الأستاذ عز الدين التنوخي بسفور الراهبات، وذكر أن الحشويين الجامدين، يقابلون من يدعو إليه بالسباب والشتائم، وذلك هو الواقع، فإن هؤلاء قائمون بالمرصاد لكل من يعرض رأيا في إصلاح حال المرأة الذي كاد يصل إلى حد العرى المطلق بل لقد بلغه فعلاً. .
ولكنهم لا يأنون بأي رأي من عند أنفسهم، ولا يهتمون بما يرون، فهم هادمون ولا يبنون، وهم مفسدون لعمل كل مصلح ولا يصلحون. . . ولله الحمد على أن ضعفت مُنَّتهم، وخفتت أصواتهم، وبادت جماعتهم، ونسأل الله أن يبدلنا بهم علماء يفهمون روح الإسلام ويعرفون حقائقه، ويفهمون روح العصر ويعرفون حاجات أهله
الخلاف العائلي
فإذا يسر الله لامرئ سبيل الزواج، وأنجاه من هذه الموانع، عرضت له مشاكل، ورأى من المتاعب ما يندم معه على ما أتى، ولو ذهبت تتقصى أحوال المتزوجين ودخائلهم في بيوتهم لوجدت أكثرهم متألماً شقياً، ولهذا الألم أسباب يمكن تلافيها لو فكر فيها الزوج، وعزم على التلافي.
أول أسباب الخلاف
أعرف أخوين: أما أحدهما فشيخ محافظ توفى رحمه الله من سنين طويلة، أما الثاني فأديب موسيقي على الطراز الجديد. تزوج الأول، ولبث مع زوجه ستة عشر عاماً حتى توفي عنها ولم يكلمها على مسمع أهله كلمة، وإنما كان يوجه الكلام إلى أخته سائل حاجته، أو يأمر أخته أن تقول لها ما يريد، وألفت ذلك منه ورضيت به أو صبرت عليه. وكانت تخشاه كخشيتها لله أو هي أشر خشية. . وأما الثاني. . لا. بل إن أكثر من عرفنا من
الأزواج (المجددين) تتحكم بهم نساؤهم، فيأمرونهم وينهينهم، ويشتمنهم و. . ويضربنهم! وهم يخافونهن ولا يجرءون عليهن. .
أي أن الأزواج بين رجلين، رجل أعمل سلطته، وأسقط عاطفته فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم الحب، ولا عرف السعادة الزوجية، ورجل تبع عاطفته فأرضاها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً. .، وتفصيل ذلك أن الزوج هو الذي يحكم على نفسه، ويختار طريقه. فإذا دلل زوجه في الأيام الأولى، ومثل لها (دور العاشق في الروايات الخيالية، ومنحها قياده، وأراها أنها حياته، وأنها الآمرة الناهية عليه، وتذلل لها وخضع، (ولذة الحب في التذلل والخضوع) ألفت ذلك منه، تعوده. . فإذا طارت من رأسه سكرة الحب، وأحب أن يحكم في الدار، كما يحكم رب الدار، وجد الأمر قد أفلت من يده، فيبدأ الخلاف، ثم لا ينتهي أبداً. وإذا هو ضبط نفسه في الأيام الأولى، ولم يعط إلا بمقدار واستعمل عقله وسلطانه، ألفت منه الزوجة ذلك، فوجدت كل عطف منه بعد ذلك غماً كبيراً. .
فالزوج العاقل الحازم من لم تلهه حلاوة العسل التي تدوم له شهراً، عن مرارة العلقم التي ستبقى دهراً طويلاً. ومن لم تشغله اللذة الجسمية العاجلة، عن السعادة الزوجية الآجلة، فلينتبه لهذا الأزواج، فمن هنا منشأ الخطر. .
حقوق الزوجين
ومن أسباب النكد البيتي، والشقاء الدائم، الخلاف على حقوق كل واحد من الزوجين، فمن الرجال من يأخذ أكثر من حقه، ومن النساء من تقيم نفسها مقام الرجل، تفرض عليه سلطانها، حتى إن الرعناء لتسأله: أين كنت؟ ومن كلمت؟ بل إن من النساء الحمقاوات المتحذلقات ممن يحسبن أنهن متعلمات، من تحاسب زوجها على زيارته أهله، وصلته رحمه، وتغار عليه إذا كلم عمته أو زارها. . حتى أصبح الأمر فوضى لا نظام له وظلمة لا نور فيها: مع أن الشرع الإسلامي (الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا بين وجه الحق فيها) قد حدد حقوق الزوجين، فجعل من حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه فيما لا معصية فيه، وأن تصون عفافها، وألا تخرج إلا بأذن منه أو لضرورة، وأن تحرص على إدخال السرور عليه، وألا تكلفه ما لا يطيق ولا تطالبه بالزائد من حاجة نفسها، وأن تبذل
جهدها في أداء واجباتها الدينية، وأن تعطيه زمام الرياسة المنزلية. ومن حقها عليه أداء مهرها كاملاً إليها - الاتفاق عليها بالمعروف - أن يجتهد في تعليمها واجبائها الدينية - أن يكتم سرها ولا يتحدث به - حسن خلقه معها - احتمال بعض الأذى منها - ممازحتها ومداعبتها - أي أن للرجل على الجملة رياسة المنزل (حين لم يكن بد لكل شركة أو جماعة من رئيس) وله السيادة فيه، وحفظ كرامته، وإدارة شؤونه الخارجية والأشراف على أموره كلها، وله الحكم في كسوة المرأة وخروجها، وله تأديبها بالعدل، ومن غير أن يخرج على ما أحل الله وذكر في كتابه، وللمرأة حق التصرف بأموالها، وإدارة شئون المنزل الداخلية، والنفقة عليها وضمان حاجاتها اللازمة؛ ولها عليه أن يحرص على سعادتها وسرورها، ويعاملها بالخلق الحسن، والقول اللين، ويتغاضى عن خطيئاتها ما أمكن التغاضي، ويعلم أنها شريكة حياته، وأدنى الناس إليه فلا يستأثر دونها بطعام أو شراب، ولا يدعها في المنزل وحيدة متألمة، ويسهر في المقاهي والملاهى، ولا يقدم نفسه عليها في كسوة أو متعة من متع العيش.
المشاكلة بين الزوجين
وإن من أظهر الخلاف بين الزوجين، ألا يكون بينهما مشاكلة ومماثلة، كأن يكون فقيراً وتكون هي غنية، فتعيره بفقره، وتترفع عليه بمالها، أو أن يكون من رجال الأعمال، وتكون متعلمة، على أن المتعلمة العالمة حقاً لا ينتظر منها إلا كل خير، ولكن البلاء في هؤلاء اللائى يحسبن أنفسهن متعلمات، لأنهن كن قبل الزواج معلمات في مدرسة أو مديرات، وإن كن لا يفتحن في السنة كتاباً، ولا يفهمن شيئاً، ولا يعرفن إلا تنكيد حياة الزوج، وإضاعة ماله في الولائم والاستقبالات، والكسوة والزينة، هؤلاء هن البلاء الأزرق، وخير منهن الأمية الجاهلة.
ومن أشنع أشكال الاختلاف بين الزوجين، حال من يتزوجون بالأجنبيات، فيرون منهن (على الغالب) ما يتمنون معه الموت الأحمر. وإني لأعرف من الناس رجلاً درس في فرنسا وجاء معه بفتاة زعم أنها من أكرم الأسر الفرنسية وأعرقها، وتزوج بها، فكان من أيسر ما تصنع أنها تذهب إلى السينما فترى الضباط الفرنسيين فتحن إليهم بصلة الدم، فتكلمهم وتصادقهم ثم تدعوهم إلى دارها فلا يروع صاحبنا إلا الضباط قد ملئوا بيته ثم
انتهى أمرها بالفرار مع واحد منهم!
ومن العجب أن دماغين كبيرين تواردت خواطرهما على مسألة وأحدة، وبينهما الدهرالأطول، وبينهما ما بين المشرق والمغرب فوقعا فيها على الصواب الذي نعرفه ولا نريد أن نتبعه: ولما كانت القادسية، ولم يجد الناس نساء مسلمات، تزوجوا نساء أهل الكتاب، فلما كثر المسلمات بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بن اليمان بعد ما ولاه المدائن:(بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها) فكتب إليه: (لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟) فكتب إليه عمر: (لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، وإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم) فقال حذيفة: الآن! وطلقها.
هذا حكم الرجال العظيم، عمر، وقد حكم به في المدينة منذ ألف وثلاثمائة سنة. وأما الثاني فحكم الرجل العظيم موسوليني، حكم به المؤتمر الفاشي في روما، في هذا الأسبوع، حين كان من مقرراته منع الإيطاليين من الزواج بالأجنبيات فمن لم يعظه قول عمر، فليعظه حكم موسوليني!
(البقية في العدد القادم)
دمشق
علي الطنطاوي
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
الشيخ إبراهيم اليازجي
لأستاذ جليل
- 4 -
عمل (المظللون) بالقول الأوربي المشهور الملعون: (المأرب يبرئ الذريعة) فأشاعوا مشاعهم، وطبعوا في (كتابهم) مكذوبهم:(هاشم العربي الشيخ اليازجي) مسيئين إلى صاحب (الضياء) في حياته ومماته. وقد صدَّق الناس من بعد ما رأوا الكلام فربتهم. وهأنذا أصدع اليوم بالحق معلناً في (رسالة الإسلام والعربية) براءة اليازجي مما قذف به. ومعي برهانان دامغان؛ فقل للضالين المضلين أصحاب الكتاب المزور وذوي الكذب السخت (قل: هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين).
البرهان الأول
كانت تلكم الإشاعة، ونشر المضللون قطعة من (مكتوبهم) في مجلتهم التضليلية. فكتب حجة الإسلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في (مناره) عجلان غير مستأن ولا متثبت - هذه الجملة:(نشرت مجلة البروتستنت المصرية نبذة في الطعن في القرآن نقلها عن كتاب لهم يقال: أن للشيخ إبراهيم اليازجي يداً في تصحيحه أو تأليفه أو ترجمته والزيادة فيه) وقد حدا الإمام على التسرع بما كتب غضبه الغضوب للدين، ومزاج كريم يشتعل بأدنى قدح. . .
فلما أطلع صاحب (الضياء) على الذي في (المنار) هاج أيما هيج بل كاد يجن؛ إذ فحواه عنده أنه عسيف من العسفاء عند (المبشرين) و (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) وأنه يجهل العربية - وما يعرف منها هو رأس ماله في الحياة - وأنه عدو للمسلمين - وهنا الخطب المهم - فسارع إلى إذاعة كلمة في (ضيائه) قال فيها: (وقفنا نقلب الطرف في هذا الكلام ونحن نستحضر ما كر علينا من سوالف الأيام، ونتمثل ما مر بنا من غرائب الأحلام، لعلنا نتذكر في أي عهد كنا من المناقشين في العقائد الدينية، وفي أي زمن كنا نؤلف الكتب في الطعن على الأسفار السماوية. ومتى كنا نتعاطى حرفة التبشير بالأديان، وأي ثمرة لنا في
صرف بعض القوم عما اعتقدوه من الأيمان. أمور يعلم كل من له أدنى معرفة بنا أننا من أبعد الناس عنها) (نحقق لحضرة الرصيف الفاضل أننا براء مما أتهمنا به أو اتهمنا به لديه، وأننا من أبعد خلق الله عن هذه السخافات التي يتاجر بها قوم لاستدرار الرزق من أخبث موارده. وإن لم يكن له بد من ملازمة هذا الموقف والنضال بهذا السلاح فعنده من قسوس الإنكليز والأمريكان ومن ينتمي إليهم من المنقسسين - وكلهم معروفون لديه اسماً وجسماً - ومن يكفيه استنزالنا إلى هذا المجال، وتكليفنا أن نعمل بضد ما طبعنا عليه)
هذا كلام اليازجي، وهو قول جاد لا الهازل، والصادق لا الكاذب، وقد كان الرجل صادقاً، وكان ذا إباء وكبرياء، يعرف ذلك في خلائقه من يعرفه، فلم يخدم المبشرين في حال، ولم يسف إلى تلك (السخافات التي يتاجر بها قوم لاستدرار الرزق من أخبث موارده) ثم إن اليازجي من طائفة (الروم الكاثوليك) والمضللون من البروتستنت، والكاثوليكي حرب البروتستنتي، والبروتستنتي لابن الكنيسة الكاثوليكية عدو مبين فقل لي:(عمرك الله كيف يلتقيان؟)
البرهان الثاني
أغلاط اليازجي في إنشائه وفي تغليطة غيره، فيها البركة. . . لكنه لن يخطئ فيما أثخنه معرفة وفيما خطأ فيه الأدباء. وفي (كتاب التضليل) أغلاط نبه عيها هو نفسه. وكان إعلانه إياها وتلفيق ذاك الكتاب في برهة واحدة، ومستحيل أن يحرم الخطأ عاماً ويحلله عاماً تلبيساً وتدليساً كدأب مضلل أو شعوذي وهذه أقوال (المضللين) وهذه أقوال (الضياء):
1 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين، الصفحة (69): (يتردد إليها جماعة القسس)
قال الشيخ اليازجي (الضياء، السنة (1) الصفحة (357): (ويقولون جماعة القسس بضمتين، يريدون القسوس فيحذفون الواو، لأن فعْلا الساكن العين لا يجمع على فُعُل)
(قلت): في (المصباح): القس جمعه القسوس، وفي (التاج): جمع القس قسوس بالضم. وفي (اللسان): القُسُ العقلاء، والقسس: الساقة الحذاق. . .
2 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (84): (إنه كان كسائر بني جلدته)(يعني سيد الوجود صلوات الله وسلامه عليه)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (1) الصفحة (449): (ويقولون: فعل هذا لمصلحة أهل جلدته يريدون قومه وأهل جيله - الجيل الصنف من الناس كالعرب والترك والروس - وقد أولع بهذا العبارة، وتناقلها بعضهم عن بعض من غير بحث ولا تنقيب عن أصل مغزاها ومراد قائلها)
(قلت): تجادل الأستاذ قسطاكي الحمصي والأستاذ سليم الجندي في هذه اللفظة فوافق الأول اليازجي على نقده وخالفه الثاني فيه قائلاً: (قال في اللسان وفي الحديث قوم من جلدتنا أي من أنفسنا وعشيرتنا) ولكل مقام مقال، ولكل حال ألفاظ، والقصد من إيرادنا قول المبشر وقول (الضياء) الأعلام بأن اليازجي لا يستعمل شيئاً أنكره هو.
3 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (321): (ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وإنما نحن مكلفون بالاعتقاد بأن الله لا شريك له ولا شبيه ومن هؤلاء مالك بن أنس)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (7) الصفحة (323): (ويقولون: كلفته بالأمر فيعدون هذا الفعل إلى المفعول الثاني بالباء، والصواب تعديته إليه بنفسه، تقول: كلفته الأمر)
(قلت): الأقوال العربية والمعجمات كلها تساند اليازجي، ولم يعد هذا الفعل بالباء إلا في كلام المتأخرين من المولودين. وفي (الجمهرة): تكلفت الشيء تكلفاً إذا تجشمته، والكلفة من التكلف، والتكلفة تكلفتك الشيء وتحملك إياه.
4 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (392): (فشرع (أي بحيرا الراهب) يفكر في ما يفعله لردّ أهلها عن الشرك ويتطلب رجلاً منهم يستعين به على غرضه حتى عثر بمحمد)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (5) الصفحة (620) في نقده (البؤساء) لحافظ: (وربما وقع له غير ذلك كقوله: (ألم تعثر في طريقك أيها الراهب بغلام) والمنصوص عليه في هذا المعنى عثر عليه لا به)
(قلت): رويت في الجزء (266) من (الرسالة) - الصفحة (1288) ما قاله اللسان والصحاح والأساس في هذا الفعل، ولا ريب في خطأ المبشرين
5 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (327): (وأنت إذا أمعنت
فيه النظر وجدته)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (1) الصفحة (354): (ويقولون أمعن في الأمر وتمعن فيه أي تدبره وتقصى النظر فيه، وربما قالوا تمنعه، وأمعن فيه النظر. وكل ذلك غلط لأن الإمعان بمعنى الإبعاد في المذهب، وهولا يستعمل إلا لازما.
يقال: أمعنت السفينة في البحر، وأمعن الطائر في الطيران إذا تباعد، وقد يستعمل بمعنى المبالغة في الأمر مجازاً، يقال: أمعن في الطعام والشراب، وأمعن في الضحك. وأما تمعن فلم يثبت وروده في شيء من كلام العرب)
(قلت) يقال: أنعم النظر في شيء لا أمعن النظر فيه. قالت (النهاية) ومنه الحديث: أمعنتم في كذا أي بالغتم، وأمعنوا في بلد العدو وفي الطلب، أي جدوا وأبعدوا. وقالت:(وفي حديث صلاة الظهر: فأيرد بالظهر وأنعم أي أطال ألا براد وأخر الصلاة، ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء أي أطال التفكير فيه) وفي اللغة (التمعن) غير أن معناه التصاغر والتذلل انقيادا ًكما في النهاية واللسان والتاج
6 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (73): (ولذا كان محمد في بادئ أمره يداريهم)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (7) الصفحة 354): (ويقولون فعل كذا في بادئ الأمر أي في أوله وبدئه لا معنى للبادئ هنا لأنه اسم فاعل والمقام يقتضي المصدر أو الظرف) قلت: قالوا: (وافعل هذا بدءاً وبادئ بدء وبادئ بدئ) وفي (التاج) جل الصور لهذا التركيب. وفي (اللسان): (وبادئ الرأي أوله وابتداؤه، وعند أهل التحقيق من الأوائل ما أدرك قبل إنعام النظر، يقال: فعله في بادئ الرأي. وفي التنزيل العزيز: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) قرأ أبو عمرو وحده بادئ الرأي ومعنى قراءته أي أول الرأي أي اتبعوك ابتداء الرأي حين ابتدءوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك) قال العبكري: (بادئ هنا ظرف وجاء على فاعل كما جاء على فعيل نحو قريب وبعيد وهو مصدر مثل العافية والعاقبة والعامل فيه أربعة أوجه)
7 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي: (كتاب المبشرين 89): (ويشفع فيمن يعترف من أهلها الأشقياء التعساء بعدل قضاء الله عليه)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (1) الصفحة (324): (ويقولون رجل تعيس وقوم تعساء وهو من أهل التعاسة، وكل ذلك خلاف المنقول عن العرب. والمسموع عنهم رجل تاعس وتعس بوزن كتف وقد تعس بفتح العين وكسرها، والمصدر التعس بالفتح والتعس بالتحريك، ويعدى الأول بالهمزة والثاني بالحركة نقول: تعسه بالفتح، وهو متعس ومتعوس لم يحك فيه غير ذلك)
(قلت): كتب اللغة المعروفة المطبوعة - ماعدا الجمهرة - لم تذكر التعيس. ولم أجد هذه اللفظة إلا في كتاب ابن دريد وفي رسالة الغفران في بيت لأحد الجن. . قالت الجمهرة: (ورجل تاعس وتعس وتعيس) وقال الجني (أي أبو العلاء. .)
حتى إذا صارت إلى غيره
…
عاد من الوجد بجد تعيسْ
وإذا صحت اللفظة فاليازجي ينكرها لا يقولها ولا يقول جمعها، لا يقول: التعساء.
8 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (445): (وغير ذلك من معائب الكلام)
قال الشيخ اليازجي (الضياء، السنة (1) الصفحة (452)(ويقولون في جمع المغارة مغائر، وصوابه مغاور بالواو كما يقال في جمع مفازة مفاوز لأن حرف المد إذا كان أصلا لا يهمز ومثله قولهم معائب ومشائخ ومكائد بالهمز أيضاً وصوابهن بالياء)
قلت: قال ابن يعيش: (ألا تري أنك لا تهمز ياء معيشة بل تتركها ياء على حالها في الجمع نحو قولك معايش لكون الياء فيها أصلا، متحركة في الأصل) وقد استعمل كتاب المبشرين في الصفحة (148) لفظة معايش صحيحة لأن مغلط القرآن في العربية وجدها وهو يطالع (الكتاب) ليظهر أغلاطه - كذلك فاستبقاها كما رآها ولما جاء إلى شبيهتها في قاعدتها همز، ويل له ما أجهله!
9 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (215): (إذا حانت صلاة من هذه الصلوات دعاهم إليها المؤذنون من مآذن مساجدهم إذ لا يجوز عندهم قرع النواقيس كما تفعل النصارى)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (7) الصفحة 515): (إنما النواقيس جمع ناقوس وهو كما فسره صاحب القاموس خشبة كبيرة طويلة تقرع بخشبة قصيرة يقال لها الوبيل إيذانا
بوقت الصلاة، وكل أحد يعلم أن هذا النوع هو لا يعرف له وجود في جميع أوربة)
(قلت): لو كان مترجم (مقلة في الإسلام) وذو الذيل هو اليازجي ما قال (النواقيس) لأن اللفظة في الأعجية هو وسأل منشئ (المقالة) يجهل الناقوس في الشرق، ولا يغنى إلا الذي عرفه في بلاده. فلن يستعمل اليازجي ما نقده، ورأى أنه وضع في غير مكانه.
10 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (30): (فكم من قائد جيش زحف عليهم فعاد عنهم بالفشل)
قال الشيخ اليازجي (الضياء) السنة (5) الصفحة (564): (ومثل هذا لا يتصور من الفشل لأن معناه الجبن والفزع والضعف)
(قلت): يقصد كتاب المبشرين أنه رجع بالخيبة، والفشل في الأقوال العربية والمعجمات كلها: الجبن والضعف والفزع وما أشبه ذلك، وهو الفشل - بكسر السين وسكونها للتخفيف - والجمع إفشال. وفي (الأساس): دعي إلى القتال ففشل أي جبن وذهبت قوته، وعزم على كذا ثم فشل عنه أي نكل عنه ولم يمضه
11 -
قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة 320): (أفتدري بكم من سنة قبل أن أخلق قد كتب التوراة)
قال الشيخ اليازجي في مختصر (كتاب نار القرى في شرح جوف الفرا): (إن كم تخص بجواز جرماً يرمى بعدها بإضمار من وذلك إذا دخل عليها حرف جر نحو بكم درهم تصدقت قاصداً للمشاكلة بينهما. غير أن النصب هو المختار ولا يجوز عند الجمهور إظهار من لأن الحرف الداخل على كم عوض عن التلفظ بها)
قلت: لن يقول اليازجي (ولا يجوز) ثم يجيز، وقد قال سيبويه:(وسألته (يعني الخليل) عن (على كم جذع بيتك مبني) فقال القياس النصب، وهو قوله قول عامة الناس، فما الذين جروا فانهم أرادوا معنى (من) ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفاً على اللسان، وصارت (على) عوضاً منها. ومثل ذلك: الله - بكسر الهاء وفتحها - لا أفعل، وإذا قلت لاها اللهِ لا أفعل لم يكن إلا الجر، وذلك أنه يريد لا والله ولكنه صار (ها) عوضاً من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه ومثل ذلك آلله لتفعلن إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجر وحذفوا تخفيفاً على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلاً منه في اللفظ معاقباً) وروى ابن يعيش في شرح
(المفصل) قول (الكتاب) مؤيداً.
وقال شارح (الكافية): فكأن الجار الداخل على كم داخل على مميزه فالجر عند الزجاج بسبب إضافة كم إلى مميزه كما في الخبرية، والمجوَّز قصدُ تطابق كم ومميزه جراً، وعند النحاة هو مجرور بمن مقدرة) وقال محمد بن مالك:
وأجِزَ أن تجره (من) مضمراً
…
إن وليت (كم) حرفَ جر مظهراً
وقد جاء مثل (الصبان) في آخر الزمان يقول: (وقيل يجوز نحوبكم من درهم اشتريت) وقد قال قبل ذلك: (ظاهره منعُ ظهور من عند دخول حرف الجر على كم وهو المشهور لأن حرف الجر الداخل على كم عوض من اللفظ بمن المضمرة)
الإسكندرية
(* * *)
تسهيل الدراسة الدينية
للأستاذ داود حمدان
بمناسبة ما أثير من جدل حول تيسير قواعد اللغة العربية يصح للإنسان أن يبحث في تسهيل الدراسات الدينية أيضا، فأنها في حالها الحاضر من الصعوبة والعقم بحيث تستدعي البحث وكثرة التفكير، ولعل هذه الكلمة تفتح الباب للباحثين. والله الموفق.
لاشك أن الدراسة الدينية في حالها صعبة، وغير مؤدية إلى فائدة، لاسيما في تعليمها العالي، وبالموازنة بين الماضي والحاضر يظهر الفرق العجيب.
لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بتبليغ الدين، عملا ًبقوله تعالى:(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) كان الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على دين مما يعرف الجاهليون إذ ذاك فيمكث عنده ساعة من زمان يتلو عليه النبي فيها بعض آي القرآن الحكيم، فيقوم الرجل من عنده وهو مسلم حسن الإسلام، مؤمن كامل الأيمان، عالم بما أوجبه الله وما حرمه عليه.
واليوم يذهب المسلم المولود من أبوين مسلمين إلى أعلى معاهد العلم الديني فيشتغل بضع عشرة سنة، ثم يرجع إلى قومه وقد زادت الفوارق بينه وبين الدين كما زادت بينه وبين الناس.
وكان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فيتلقفون القرآن ويتدارسونه، فيملئون الأرض علماً وحكمة، كما يملئونها طهراً وعدلاً وصلاحاً.
واليوم يتخصص أوفرهم ذكاء، وأكثرهم اجتهاداً، وأصبرهم على الدرس، سنوات عديدة وقصاراه أن يحصل بعض ما علموه، وبتحلي بحفظ بعض ما قالوه. واليوم يدرس الدارس بضع عشرة سنة ويظل العامي أكثر منه ورعاً وتقوى.
بهذه الموازنة يظهر بكل وضوح أن تعليم الدين في الماضي كان مؤدياً أجل النفع، وأعظم الفائدة، وأنه في الحاضر قليل النفع والفائدة، بل ضار أعظم الضرر.
فالامَ يرجع السبب هذا الاختلاف بين الماضي والحاضر؟ هذا سؤال لم يكن أحد ليعيا بالجواب عنه إذا علم من أين كان يؤخذ الدين بالأمس، ومن أين يؤخذ اليوم.
إن المسلمين كانوا يأخذونه من القرآن، ثم صاروا يأخذونه من غير القرآن، وما القرآن
عندهم - والحالة هذه - إلا مادة كمالية. ومهما أنكروا هذا بألسنتهم فهم ملزمون به من عملهم.
ألا ترون أن طالب العلم الديني يدرس كتب الفقه ويعرف أحكام الدين - في زعمهم - ويدرس كتب التوحيد والعقائد قبل أن يدرس القرآن وتفسير القرآن؟ بل ربما لا يحضر دروس التفسير أصلاً، وإن هو حضرها فلا يستطيع أن يأخذ منها حكما واحداً لأن طريقتها لا تعود الاستقلال في الفهم ولأنه نشأ على ذلك.
في صدر الإسلام كان النبي عليه السلام لا مادة عنده للدين غير القرآن، فمنه كان يعلم الناس، وبتلاوته عليهم كانوا يسلمون لما يأخذهم من روعة وبلاغته، وصدق لهجته، والشعور بإعجازه. وبالقرآن كان الصحابة ومن بعدهم يبلغون الدين. وفي تلك الأوقات كان النابغون في علم الدين أكثر من أن يحصوا، بل تستطيع أن تقول إنه لم يكن أحد حينئذ يقلد أحداً فيه، وإذا جهل أحد شيئاً فإنما كان يرشده به للدليل ولا يلقنه الحكم تلقينا.
ولما فشا التأليف، وأكثر المتعلمون من قراءة الكتب التي ألفها أصحابها فيما استنبطوه من الأحكام الفقهية، والمجادلات الذهبية، نقص معدل النبوغ، ثم صار يزداد نقصاً كلما كثرت المؤلفات الفقهية وأقبل الناس على دراستها. فلما كان العصر الخامس بدت تلك القولة المجرمة الأثيمة، ألا وهي سد باب الاجتهاد، وصرح بعض الفقهاء أن الاجتهاد بعد الأربعمائة منقطع، وذلك لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس. فضعفت الهمم، ومازالت الأمة إلى الوراء حتى عصرنا هذا. فالمسلمون من العصر الخامس حتى اليوم، بل من العصر الثالث لا يأخذون الدين إلا من كتب الفقه والكلام طبقة عن طبقة؛ فكل طبقة تنظر في كلام سابقتها وتشرح أو تعلق أو تؤول، حتى وصلنا الدين بحالته الحاضرة وبعبارة صريحة: وصلنا وهو بعيد عن القرآن ألفا وأربعمائة سنة. إي والله ألفاً وأربعمائة سنة نحن بعيدون عن القرآن، وإن كنا نتلوه للتبرك، وذلك بسبب الالتواء في الدراسة. وقد وصدق علينا المثل العامي: تمسك من الدين بذيله: نترك رأس النبع وهو القرآن، ونأخذ من ذلك الرشاش المتطاير منه إلى إفهام الناس. أفلا ينظر المسلمون إلى أي هوة وصلوا من جراء هذا؟! كانوا عند ما لحق الرسول بالرفيق الأعلى أمة واحدة، لا يعرفون لهم إماما إلا القرآن. وأصبحوا لا تحصى فرقهم ومذاهبهم وشيعهم. ولكل فرقة أو شيعة إمام غير
القرآن.
لا يقولن قائل إن السبب في بعض الاختلافات كان سياسياً. فإن الاختلافات السياسية كان ينبغي أن تموت بموت سببها، ولكن بقاء الكتب وداستها فيما بعد، دون دراسة القرآن الكريم بعقل مجرد عن تأثير تلك الاختلافات، هو الذي أبقاها
وكان المسلمون لا يتركون القرآن إلى سواه، ولا يبحثون عن حديث الرسول في قضية ما إلا إذا لم يجدوا لها نصاً في كتاب الله، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة. فإذا اضطروا إلى حديث أخذوه بكامل التحري. واصبحوا اليوم (ولديهم مئات الألوف من الأحاديث) يجعلونها في مرتبة القرآن ويختلفون: هل ينسخ الحديث القرآن أو يقيد مطلقه ويفصل إجماله؟! وصاروا يؤولون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليوافق كلاماً رووه، ولو حققوا لما رووه. وذهبوا إلى أبعد من هذا فأولوا القرآن ليوافق مذاهبهم ونحلهم، وأقربهم اعتدالاً أول آية التيمم لتوافق المذاهب المعروفة وعدها من المشكلات، ولم يجز لنفسه أن يؤول تلك المذاهب لتوافق القرآن. ولعل أصحاب المذاهب لو انتبهوا لمخالفة القرآن لرجعوا إليه.
وكان الدين سمحاً سهلاً قليل التكاليف، يستوي في فهمه البدو والحضر، والأذكياء والبلداء، والمتعلمون والعوام، لكونه دينا عاماً لا يختص بطبقة دون طبقة، ولا يقبل دون قبيل.
فمن المعقول ألا يختلف في إدراك عقيدته، ومعرفة تكاليفه أقل الناس إدراكاً عن أعلاهم ذكا، ولكن الاختلاف إنما يكون في طرق الاستدلال. فالفيلسوف يستدل على وجود الله بفلسفته، والطبيب بما يرى من دقائق تركيب الجسم، والحراث مثلاً يستدل عليه بما يقع تحت حسه من نبات وحيوان وكيفية نشأته ونظام حياته - أقول كان الدين سهلاً ولكن كتب العقائد هي التي جعلته صعباً عسير الفهم، لأنها من الكبر والاتساع بحيث تحتاج إلى سنين لدراستها، ومن الدقة والعمق بحيث يعيي فهمها الأذكياء والعباقرة. وكذلك الفقهاء الذين فرعوا الفروع، وفرعوا من الفروع فروعاً (وولدوا البنات من الأمهات، كما يقول ضاربو الرمل) حتى فضوا المستحيلات، فهؤلاء قد طمسوا على سماحة الدين، وجعلوه كثير التكاليف، كثير الحشو. وأذكر مما يحضرني الآن مسألتين: قالوا: بعد أن يتوضأ المتوضئ أينشف أعضاءه أم لا؟ وجعلوها مسألة خلافية. ومن العبث والغفلة أن يقال إن هذه المسألة
تدخل في حساب الدين، فالمقصد الطهارة وقد حصلت بالوضوء، ولا ينظر الدين إلى ما وراء هذا. والمسألة الثانية أنهم أدخلوا في الدين ما ليس منه كمسألة الأزياء والملابس، فألف بعضهم كتاباً في سنية العمامة. وما لبس النبي العمامة إلا لأن بيئته كانت هكذا تقتضي، ولو نشأ في بيئة أخرى تلبس غير العمامة كما يلبسون، لأنه عليه السلام ما جاء لتغيير الأزياء، ولكن لتغيير العقائد.
بهذا الحشو وأمثاله امتلأت كتب الفقهاء، وبهذا وأمثاله يضيع الذين يتعلمون العلوم الدينية زهرة شبابهم، وصفوة عمرهم وقوة تفكيرهم، حتى إذا انتهوا منه كانوا بعيدين عن الدين مراحل عديدة، مقدارها ألف وأربعمائة سنة.
لقد جرى إصلاح في منهج دراسة الدين في بعض المعاهد الدينية، وينبغي أن يجري الإصلاح أيضاً في مادة الدراسة الدينية، وذلك يكون بأمرين: الأول: دراسة اللغة العربية بطريقة سهلة غير طريقة الكتب التي تدرس الآن. والثاني: دراسة القران نفسه، وأخذ الأحكام والأخلاق والمعارف الدينية منه بقطع النظر عن المذاهب، وطريقة ذلك كما يلي:
1 -
في دور التعليم الابتدائي
من اللغة يعطي التلاميذ جملاً وقطعاً من منثور الكلام البليغ بقدر ما تتسع طاقتهم لحفظه، ومن الغلط أن يختار لهم من أقوال العصور المتأخرة، فإن القصد أن يقروا من لغة القرآن، وتتجنب ألفاظ الغربية. وكل ما شاكل ألفاظ القرآن فهو مأنوس وليس بغريب. وكلما ارتقى التلاميذ يزداد لهم في المقدار الذي يحفظونه. وعند شرحه بكلمة أو كلمتين؛ ويستطيع المعلم الحاذق أن يبين للتلاميذ موقعاً لكلمة من رفع أو نصب الخ باختلاف الجمل، وبالتكرار تنطبع في ذاكرتهم، فيتعودون النطق الصحيح بسهولة، وبممارستهم الكلام البليغ يتربى فيهم الذوق العربي. وبعد الثالث الابتدائي تشرح لهم الجمل شرحاً نحوياً بسيطاً ويزداد كلما ارتقوا. ومن الرابع فصاعداً تكون اللغة الفصحى لغة الدراسة في جميع المواد ولغة التخاطب، ويستعملون ما حفظوا من الكلام البليغ. وليس هذا غريباً بين العرب، حتى ولا بين غيرهم، فإن الإنكليزية لغة الدراسة والتعليم في جميع مدارس الهند، وليست أسهل من اللغة العربية. هذا من اللغة.
ومن القرآن يحفظ التلاميذ أكبر قسط يمكنهم على الترتيب: من سورة الناس فصاعداً.
وتختار لهم الآيات التي فيها أحكام التكاليف وتشرح لهم بإيجاز. وتختار لهم آيات أخلاقية وتشرح بإيجاز.
2 -
في دور التعليم الثانوي
من اللغة يعطى التلاميذ الشيء الكثير من منثور القول ومنظومه على أن يكون من أقوال العصر الأول والثاني، ويشرح لهم شرحاً يشمل النحو والمعاني بتحليل تتحمله عقولهم، ويزداد كلما ارتقوا. ومن القرآن يحفظون قدراً كافياً مرتباً أو مختاراً ويدرسون آيات الأحكام بتوسع، ويقدم الإلزام فالإلزام، وتؤخر مثل أحكام الطلاق واللعان إلى السن المناسبة، ويعودون الاستنباط بأنفسهم، ويدرسون قسطاً وافراً من آيات الآداب والأخلاق والعبر، والآيات الكونية والاجتماعية، ويحفظون شيئاً من الأحاديث المختارة في الأدب والاجتماع، وتكون لغة الدراسة والتخاطب اللغة كما سبق.
3 -
في دور التعليم العالي
(وهذا لا يكون إلا في معاهد العلم الديني، لأن غيرها لا تدرس الدين مادة في الصفوف العالية) في هذا الدور تدرس آداب اللغة العربية بتوسيع، وأعنى الآداب نفسها، لا تاريخها، فإن دراسة تاريخ الآداب شيء قليل الفائدة، وتشمل دراسة الآداب دراسة الحديث الشريف على أنه نمط من أنماط الكلام البليغ. ويدرس القرآن كله بلا استثناء دراسة وافية تؤخذ منها العلوم والمعارف الإسلامية، والبدائع اللغوية؛ ويراعى في هذا الدور أن يكون التدريس مجرد إرشاد لطريق الاستنباط وتطبيق القواعد. ويطالب الطلبة بالاستنباط بأنفسهم، وبمعرفة الخطأ والصواب بعرضه على مقاييس العلم والأدب. ويدرس الحديث على أنه مادة من مواد الدين تؤخذ منها الأحكام والحكم والمواعظ، ولكن ينبغي أن تكون شروط صحة الحديث غير الشروط الحاضرة فيحذف أولا كل ما نشأ أو يظن أنه نشأ عن أسباب سياسية، أو لتأييد فرقة، أو بقصد الهدم كالأسرائيليات، ثم يجعل للمعنى حظ من الاعتبار كما للرواية، أي ليس كل ما استكمل شروط الرواية كان صحيحاً حتى يستكمل شروط صحة المعنى أيضاً. وفي هذا الدور يدرس النحو في بعض الكتب المعتبرة المؤلفة قديماً تثبيتاً لما تلقنوه من القواعد أثناء الشرح، وزيادة في البحث، وفي نهاية هذا الدور أو
في دور التخصص تدرس بعض كتب الفقه والأصول والتوحيد للاطلاع والبحث. لا لتأثر خطواتها وتقليدها.
بهذا تسهل دراسة الدين وتؤتى أكلها بأذن ربها، ويلاحظ هنا أن الكلام في دراسة الدين وأنه ليس المقصود أن تقتصر الدراسة في المدارس على مادتي اللغة والقرآن فان مواد العلوم الأخرى لها مكانها من برامج الدراسة.
ليس المجال متسعاً للتفصيل والشرح فهذه اقتراحات يمكن نقدها وتحسينها والزيادة عليها، ولكن لا يمكن قط أن يقال: إن دراسة كتب الفقه أجدى في الدين من دراسة القرآن وأحب أن ألفت النظر إلي أنه ليس بيننا وبين النابغين الأولين في علوم القرآن إلا إتقان اللغة العربية، وأنها ليست صعبة كما يتصورون، وأن ثلاث سنين تكفي لإتقان علومها إذا هذبت طرق تعليمها كما قال الأستاذ الإمام محمد عبده
ولا أحدثكم بعد عن الفوائد التي نجنيها من إتقان اللغة العربية ودراسة القرآن، فإن الهداية والتقوى تكون ملازمة للعلم بأحكام الدين لملازمة ذكرهما في آية واحدة أو آيتين متجاورتين، ولما يغمرنا من الشعور ببلاغة القرآن وسلطانه على النفوس، ثمرة ذوقنا اللغوي الذي نكتسبه من ممارسة اللغة. أما الفوارق المذهبية والشيع المختلفة فإنه يقضي عليها بأذن الله، ويصبح المسلمون - كما كانوا - أمة واحدة يتعاونون على البر والتقوى. والله الموفق
(فلسطين)
داود حمدان
البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 5 -
الفجر في سوريا
المجاهد
إن للسياسة أثراً بليغاً في تفكير السوريين لا يجاريها فيه شيء، فإن سورية كلها تشكو من مرض واحد هو شدة الحيوية السياسية. وهي الحيوية التي مازالت في الشرق الأدنى مطلقة لا تقيدها عوامل ضبط النفس أو الشعور بالمسئولية المدنية إنه لمن الصعب جداً معرفة الفروق الرئيسية التي تفصل الحزب الحاكم عن المعارضين الذين لا يسمح لهم بأن يمثلوا في مجلس النواب. ومع ذلك فإن الطموح الشخصي وميل البعض إلى الشعوذة حملا كلا الفريقين على الاعتقاد بأن الفوارق بينهما عظيمة كما أن كل جهة راحت تتهم الأخرى بسوء الائتمان وتزعم أنها هي الممثلة الوحيدة للوطنية الحقة - وبهذا تقيم الأحزاب البرهان على أنها تحافظ على التقاليد الشرقية تمام المحافظة.
ومن أعظم ما أدهشني في سورية الرغبة الشديدة عند رجال السياسة في الإعلان عن آرائهم. ومع أن البعض نبهني إلى أني لن أحظى من السوريين إلا بتصريحات عامة وغامضة فقد وجدت السياسيين يندفعون في الحديث بعد مضي خمس دقائق أو عشرة على بدء اجتماعي بهم ويصرحون بما يزيد على مطلوبي، فكان علمهم بأني رجل محايد لا أهتم بالسياسة كثيراً يدفعهم إلى الاعتراف أو الشرح أو الاتهام. وعلى كل حال فقد كان لهذه الاعترافات عندي أهمية كبرى من الناحية النفسية إذ أنها أطلعتني على بعض الأمور التي سيكون لها أثر فعال في حياة العرب السياسية في المستقبل وإن كانت هذه الأمور نفسها غير واضحة تماماً الآن.
وقد وصلت الصراحة ببعض السياسيين إلى حد أنهم بينوا لي الوسائل التي يودون تسخيرها للنيل من سمعة الحزب المستولي على الحكم. وبالرغم من أن تهديداتهم كانت
فارغة وأنها ربما لن تتجاوز حد الكلام إلا أنها كانت دليلاً قاطعاً على فقدان روح المسئولية في الأسلوب السياسي المتبع. فالمعارضون يعتبرون القابضين على زمام الحكم في عداد الخونة، وهؤلاء يعتقدون أن الواجب يدعوهم إلى اتخاذ أي تدبير كان ماداموا يعتقدون فيه الصلاح. وعلى هذا فإن كلا الفريقين يسير على غير بصيرة في طريق ينهى عنه العقل السليم ويجعل ادعاء كل منهما الإخلاص في العمل على نفع الأمة وزعمه أنه مستعد للموت في سبيلها كلاماً بلا معنى.
لقد ظهر لي أثر العاطفة المتطرفة في السياسة بجلاء لما زرت أحد أعداء الحكومة وكان من قواد الثورة على الفرنسيين عام 1925. ولم يؤكد لي أشخاص مختلفون بأنه كان يقود الحملة تلو الأخرى ضد الفرنسيين لما صدقت قط أن هذا الرجل كان في يوم من الأيام مصدراً عظيماً لقلق القيادة العسكرية الفرنسية فقد استقبلني عندما زرته في ساعة متأخرة من الليل بجلباب من الحرير الأبيض الفاخر الموشي بخيوط حمراء وذهبية وكان يقطن (شقة) حديثة فخمة. وهو خريج جامعة ألمانية مشهورة ولكنه يتكلم الإنكليزية بسهولة وعذوبة تتناسب مع سكناه في منزل جميل وارتدائه الحرير الأبيض لاستقبال الضيوف الأجانب.
ذكرت لمضيفي بعض رجال الحكومة فانفجر واتهمهم بالخيانة وسوء الائتمان، وعندما سألته عن الوسيلة الناجمة لإزالة الفساد المالي من حياة سورية السياسية أجاب على الفور وبلا تردد:
- (يحب أن نقتل هذه الفئة المسيئة أولا)
فأخذتني الدهشة وسألته:
- (ومن تقصد بذلك)؟
- (الذين بيدهم الحكم فهم لا يعلمون إلا لتحقيق مصالحهم الخاصة)
- (ولكن، لي من المعقول أن ترغب في قتلهم لمجرد اعتقادك انهم غير نزيهين)
- (القتل هو الطريقة الوحيدة لتعليمهم النزاهة في الحكم. يجب أن نقتلهم، وسنقتلهم عندما يحل الميعاد)
- (وهل تعتقد حقاً أن القتل مازال في هذا العصر الحديث أحسن وسيلة للتهذيب
السياسي)؟
- (نعم، ففي الشرق الأدنى لو يزل القتل أحسن واسطة. إنه ليس من المؤكد أن ننفذ القتل في هذه السنة أو التي تليها ولكنك عند ما تعود إلى سورية بعد بضعة أعوام ستشهد بعض التبدلات الخطيرة، وربما وجدت بعض الأشخاص الذين تعرفت إليهم هذه المرة قد انتقلوا إلى غير هذا العالم)
لقد تفوه بهذه العبارات القاسية بكل هدوء، مثله في ذلك مثل البط البري الذي لا تؤثر المياه في أجنحته عندما يغطس في البحيرة. وقد اتضح لي أنه لا يعترف بأية صلة بين الدعوة التي أخذ يبشر بها وبين ما يترتب على تطبيق وسائلها من عواقب مخيفة، فهما في نظره أمران لا ارتباط بينهما.
مما لاشك فيه أن لشخصية هذا الرجل جاذبية قوية يعترف بها أعداؤه أنفسهم. وكانت حقيقته تخفى عن الناس بفضل الجاذبية ولفضل طريقته في الكلام عن أهم معتقداته بلهجة عادية كأنه يشرح أمراً بسيطاً. لقد وخط المشيب رأسه، ومع ذلك فقد كانت حركاته كحركة الفتيان تدل على قوة العضل ومرونته.
أني صدقت القصص التي رواها لي عن عمله مع لورنس إذ كانا يشتركان في نسف القُطرُ العثمانية والتمتع بنشوة الحرب والقتل يتحلى هذا الرجل بكل الصفات الخيالية التي تجعل في الثائر العربي فتنة للزائر الأجنبي، وخصوصاً إذا كان هذا الزائر جاهلاً بما هو مخبوء وراء ذلك السحر الخارجي. إني لأذكر في هذه المناسبة العبارات التي قالها رجل بريطاني عقب زيارته لمفتى فلسطين:(يالها من عيون بريئة! ياله من وجه صبوح جميل!) لم تكن عيون مضيفي في دمشق بريئة ولكنه كان يتغنى بالآداب الاجتماعية التي لقنته إياها المدينة الغربية، ومع ذلك فان تمدينه الظاهر الذي يتنافى مع ما يخيفه من غرائز أولية ربما كان عائقاً يؤخر إصلاح الشرق أكثر من الوطنية المتطرفة المصحوبة بالنية الحسنة التي يتصف بها فخري البارودي. ومع أن هذا المضيف قد استنشق الهواء في جامعات أوربية مختلفة وكان ينتقل بين أثاثه الضخم بكل ثقة واطمئنان فهو لم يتعلم بعد أن القتل لم يعد الوسيلة الوحيدة لتعليم السياسيين الأخلاق. إن أمثال هذا الرجال ليعرقلون المساعي المخلصة التي يبذلها المستنيرون من العرب
لقد أدركت عند ختام زيارتي دمشق السبب الذي جعل سورية تخرج هذا العدد الكبير قادة السياسة في البلاد العربية، كما أدركت الداعي لاعتبارها ركناً من أركان الحركة العربية الحديثة: إن في العقل السوري لفطنة، وإن في أكثر رجال السياسة في سورية لمضاء في العزيمة لم ألحظه في مصر؛ وخيل إلي في فلسطين أنه موقت يزول بزوال الظروف الحاضرة. إن جميع الصفات التي تميز الخلق العربي بارزة في شخصية السوريين بكل وضوح وجلاء، مما لاشك فيه أنهم سيلعبون دوراً رئيسياً في حياة الشرق الأدنى المستقبلة.
إن طبيعة السوريين والظروف التي أحاطت بهم جعلت منهم شعباً ثائراً، ولهذا كان منتظراً أن يعجز الفرنسيون عن إدارة سورية في جو هادئ. غير انه لا يمكن اعتبار فرنسا وحدها مسؤولة عن تمرد السوريين وما أنتجه من حركات منذ عام 1920، كما أنه ليس من المؤكد أن تنتهي المنازعات الداخلية بعد نيل سورية استقلاها التام عام 1939 إذ أن السوريين في أشد الحاجة إلى كثير من التهذيب السياسي والاعتياد على ضبط النفس ليصونوا البلاد من التفكك الداخلي. إن أمثال الدكتور الكيالي يجب أن يجدوا ويجتهدوا لكي يجعلوا الصداقة الأبدية مع فرنسا التي يدعو إليها المسيو إده في لبنان بأعلى صوته ضرورية لسورية.
علي حيدر الركابي
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 41 -
رسائل القراء إليه:
المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم. . . شاب له خلق ودين، وفيه اعتزاز بالعربية والإسلام؛ فهو من ذلك يحب الرافعي وينتصر له، ويتبع بشوق وشغف كل ما ينشر من كتب ومقالات. ولكنه مع ذلك يحب العقاد وينتصر له، ويراه صاحب مذهب في الشعر ورأي في الأدب، جديراً بأن يتأثر خطاء ويسير على نهجه. وليس عجيبا - فيما أظن - أن يجتمع الرأي لأديب من الأدباء على محبة الرافعي والعقاد في وقت معاً، كما أنه ليس عجيباً أن يتعادى الرافعي والعقاد أو يتصافيا ما دام لكل منهما في الأدب طريق ومذهب؛ ولن يمنع ما بينهما من العداوة أو من الصفاء، أن يكون لكل منهما قراؤه المعجبون به، أو يكون لهما قراء مشتركون يعجبون بما ينشئ كل منهما في فنون الأدب؛ وإنما العجيب أن يبلغ إعجاب القارئ بالكاتب الذي يؤثره إلى درجة التعصب؛ فلا يعتبر سواه، ولا يعترف لغيره أن يكون له مكان بين أهل الأدب. . . على أن شأن صاحبنا المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم مع الرافعي والعقاد يبعث على أشد العجب وأبلغ الدهشة. . . إنه يحب الرافعي ويؤثره، ويعجب به إعجابا يبلغ درجة التعصب؛ وإنه يحب العقاد كذلك ويعجب به ويتعصب له. . . لكل منهما مكانه من نفسه، مكان لا يتسع إلا له، ولا يزاحمه فيه خصمه؛ ولكنه يحبهما معاً، ويعجب بهما معاً، ويتعصب لهما معاً!
رأيان يتواثبان، وشخصيتان تتناحران، وإسراف في التعصب لكل منهما على صاحبه؛ فأين يجد نفسه بن صاحبَيْه اللذين يؤثر كلاَّ منهما بالحب والإعجاب والأستاذية؟
صورة طريفة وقعتُ عليها فيما وقعت بين رسائل الرافع!
هذه رسالة من الأستاذ إبراهيم إلى الرافعي يقول فيها: (سيدي، إنني أحبك، وأعجب بك،
وأتعصب لك؛ ولكن موقفك من العقاد يا سيدي. . . ليت شعري لماذا تتخاصمان؟. . . لقد كنت على حق. . . ولكن العقاد على حق. . . هل تأذن لي أن أكون رسول السلام بينكما؟)
ثم لا تمضي أيام حتى يعود فيكتب إلى الرافعي رسالته الثانية: (معذرة. . . أنك لتتجنى على العقائد تجنيا ظالماً، فما لك وجه من الحق في عدائه والحملة عليه. لقد عقمت العربية فلم تنجب غير العقاد. . . وإنك أنت. . . إنك كبير في نفسي، كبير جداً، وإني لأقلب تاريخ العربية بين يدي فلا أجد غير الرافعي. . . أنت. . . والعقاد. . . أين ترى يكون اللقاء؟)
وعلى هذا المثال قرأت لصاحبنا المحامي الشاعر بضع رسائل بينما خلف الرافعي من أوراق، تملأ النفس عجباً ودهشة. وآخر مما وصل إلى الرافعي من رسائله، رسالتان، كتب إحداهما في المساء، وكتب الثانية في صباح اليوم التالي؛ ولولا خط الكاتب، ونوع الورق، وخاتم البريد، لما حسبتهما إلا رسالتين من شخصين لو أنهما التقيا في الطريق لتضاربا بالأكف. . .!
على أن الرافعي مع ذلك كان يرد على رسائله! ووددت لو ينشر صاحبنا بعض رسائل الرافعي إليه!
والآنسة الأدبية ف. ز. معلمة في إحدى مدارس الحكومة كان أبوها زميلاً للرافعي في محكمة طنطا، وكان بينهما صلة من الود، فلما مات لم تنس أبنته صديق أبيها، فكانت تستعينه في بعض شؤونها، ومن ثمة نشأت بينهما مودة، فكانت تراسله ويراسلها، ومن رسائلها إليه كان له علم جديد في شئون وشئون.
صحبته إلى زيارتها مرة في ليلة من ليالي الشتاء، مع الصديقين كامل حبيب وسعيد الرافعي؛ فلقيناها مع بعض صديقاتها، وكانت جلسة طالت ساعات، اعتقد أن الرافعي قد أفاد منها بعض معانيه في قصة (القلب المسكين!). . . وقد أنشأت هذه الرسائل بين بعض قرائه وبينه صلات عجيبة من الود؛ فهو منهم أب وصديق ومعلم ومشير؛ وجلس على (كرسي الاعتراف) فترة غير قصيرة من حياته، تفتحت فيها عيناه على كثير من حقائق الحياة لا يبلغ أن يصل إليها من رحل وطوف. وكان له في كل دار أذن وعلى كل باب
رقيب عتيد! ولست بمستطيع أن أفسر سّر هذه الثقة العجيبة التي ظفر بها الرافعي من قرائه؛ ولكني أستطيع أن أجزم بأنه كان أهلاً لهذه الثقة؛ فما أعرف أنه باح بسرَّ أحد فسماه أو عرَّف به، وما أطلع على رسائل قرائه أحداً غيري إلا قليلاً من الرسائل كان لا يرى بأساً من إطلاع نفر قليل من أصحابه عليها لغرض مما يستجرَّه إليه بعض الحديث في موضوعها؛ بل إن كثيراً من هذه الرسائل قد أخفاه عني - وما كان بيني وبينه حجاب أو سر - فما عرفت خبرها إلا بعد موته. ويستطيع أصحاب هذه الرسائل أن يطمئنوا إليَّ؛ فستظل أسرارهم - في يدي - مصونة عن عيون الفضولين، فلم أتناول الحديث عنها إلا من حيث يدعوني الواجب لجلاء بعض الحقائق في هذا التاريخ.
وكان له مراسلون دائمون. . يجدون الكتابة إليه جزءاً من نظام حياتهم، فلا تنقطع رسائلهم عنه، ولا يخفي عليه شيء من تطورات حياتهم وقد أكسبهم طول العهد بالكتابة إليه شيء من الأنس والاطمئنان إليه كما يطمئنون إلى صديق عرفوه وجربوه وعايشوه طائفةً من حياتهم؛ وأن القارئ ليلمح في هذا النوع من الرسائل الدورية التي يبعث بها إليه هؤلاء الأصدقاء الغرباء، مقدار ما اثر الرافعي في حياتهم منذ بدأت صلتهم به، فتطورت بهم الحياة تطورات عجيبة؛ وأدى الرافعي إليهم دَينه وأثر فيهم بمقدار ما كان لهم من الأثر في أدبه وفي حياته الاجتماعية. وإني لأضرب مثلا لواحدة من هؤلاء الأصدقاء: فتاة من أسرة كريمة في دمشق، نشأت في بيت عز وغنى وجاه، وهي كبري ثلاث نشأن نشأة يفاخرن بها الأتراب؛ ثم تقلبت بهن الحياة فإذا هن بعد الغني والجاه ناسٌ من ناس. . واضطرت الكبرى أن تخرج إلى الميدان عاملة ناصبة لتعول أسرتها، وكان لها من ثقافتها وتربيتها معين ساعدها دون أختيها في ميدان الجهاد؛ وعلى أنها كانت أجمل الثلاث وأولاهن بالاستقرار في بيت الزوج الكريم فقد سبقتها أختاها إلى الرفاء والبنين والبنات وضلت هي. . وما كان ذلك لعيب فيها ولكنة سرَّ لم يلبث أن أنكشف لعينيها: لقد كانت هي وحدها ومن دون أختيها التي تستطيع أن تعول أسرتها لأنها عاملة. . .
وتألمت حين عرفت السَّر ولكنها كتمت آلامها وظلت (صابرة) ومضت الأيام متتابعة والأماني تخلف موعدها؛ وتحركت فيها غريزة الأمومة ولكنها قمعتها بإرادة وعنف ومضت تصارع الطبيعة وتتحدى القدر بعزيمة لا تلين؛ ولكنها لم تلبث أن أحسَّت بوادر الهزيمة
بعد طول الكفاح فشرعت قلمها العذب وكتبت رسالتها الأولى إلى الرافعي بإمضاء (الصابرة) وقرأ الرافعي رسالتها ثم قص على خبرها وتندت عيناه بالدموع: يالها من فتاة باسلة!
وأجابها الرافعي على رسالتها بتذييل صغير في حاشية إحدى مقالاته في الرسالة. . وعادت تكتب إليه وعاد يجيبها وتوالت رسائلها ورسائله وقد كتم اسمها وعنوانها عن كل أحد - وكانت كتبته إليه في ورقة منفصلة في إحدى رسائلها ليمزقه وحده إن عناه أن يحتفظ برسائلها - وكان لها الرافعي كما أرادت: أباً وصديقاً ومرشدا ًومشيراً؛ ولم يأبَ عليها في بعض رسائله أن يتبسط في الحديث إليها عن قصة (القلب المسكين) لعلها تجد فيما يكتب إليها من شئونه عزاء وتسلية. . وتعزت المسكينة عن شيء بشيء، وثاب إليها الاطمئنان والشعور بالرضا. وبدا في رسائلها لون جديد لم يكن في رسالتها الأولى. وأخذت تكتب إليه عن كل شيء تحس به أو تراه حولها، وتستشيره فيما جلَّ وما هان من شئونها، في سفرها، وفي إقامتها، وفي رياضتها، وفي عملها، وفي يقظتها، وفي أحلامها. . في كل شيء كانت تكتب إليه، سائلة ومجيبة، ومخبرة ومستشيرة، حتى في صلاتها مع صديقاتها وأصدقائها، وفي الخطاب الذين يطرقون بابها يطلبون يدها. . ولم يكن يضن عليها بشيء من الرأي أو المشورة. .
وكان للصابرة جزاء ما صبرت، وتحققت أمانيها على أكمل ما تتحقق أماني إنسان، وجاءها العروس الذي لم تكن أحلامها تتطاول إليه في منامها، وبرق في إصبعها خاتم الخطبة فانيهرت منه عيون! لا أريد أن أذكر من صفات خطيبها حتى لا أعرف بها وبه، وليس من حقي أن أكشف ما تريد هي أن يظل مستوراً. . . لو قلت أن خطيبها كان وزيراً لما بعدت! واستمرت تكتب للرافعي والرافعي يجيبها. . . حتى رسائل خطيبها إليها كانت تبعث بها إلى الرافعي ليشير عليها كيف تجيب، وحتى برنامجها قبل الزفاف وبعده كان بمشورة الرافعي ورأيه. . .
وجاءته آخر رسالة منها مؤرخة في 341937 (نعى الرافعي
في 1051937) تقول فيها:
(الصديق الكريم. . .
(ما أحلى دعوتك يا صديقي وما كان أشدها تأثيراً على نفسي! لقد شعرت وأنا أقروها بسرور عميق، وتركز في ذهني أن هذه الدعوة مقبولة. . . ما أسعدني إذا صرت في المستقبل أما (أعتقد أنك تعرف تماماً أن حنيني للزواج في فيما مضى وتمردي وثورتي على هذه الحياة، لم تكن إلا لأني رأيته وسيلة للحصول على الطفل؛ فقد تنبهت في غريزة الأمومة بشكل هائل؛ تصور يا أستاذي، صرت أكره الأطفال لأني ليس لي بينهم ولد؛ وكنت إذ أرى أمَّا تعانق طفلها وتضمه إلى صدرها أحس بألم مرير ويحز بقلبي وكاد يقطعه. وكثيراً ما كنت أتشاغل وأشيح بوجهي حتى لا تقع عيني على هذا المنظر. لست حسودة والله، ولكن شدة إحساسي كانت تجعلني بهذا الوضع. . . أما الآن فأنا مسرورة لأقصى حدود السرور، وأتمنى لو أنثر الخير والسعادة على الجميع. . . . . .
(. . . والله يعلم أن ليس لي أي غاية مادية من وراء هذا الزواج، وليس قصدي منه إلا الحماية والستر، لأني مللت ومرض قلبي من فضول الناس. . .)
وكانت على نية زيارة مصر لتزور الرافعي مع زوجها، اعترافاً بحقه عليها، ولكن القدر لم يمهله حتى يحين الموعد، وحان أجله قبل أن ينظر بعينيه الفتاة التي تبناها على بعد الدار وشغلته أحزانها بضع سنين، فلما ابتسم لها القدر وتحققت أحلامها ناداه أجله وما شاركها ابتسامة الفرح وتهاني المسرة. . .!
تقول له في رسالتها المؤرخة 1511937: (الصديق الكريم. ..
(. . . ولماذا أخشى هذه المقابلة يا أستاذ؟ وهل أنت مخيف لهذه الدرجة. . . على كل حال إذا وجدت ما يرعبني فسأختبئ وراء (زوجي) ولا بد أنه يحسن الدفاع عني. لا، لا، سألبس درعاً متينة تقيني (شرّ) هذه المغناطيسية القوية، ولكني أخاف يا أستاذي أن يكون الحديد أكثر انجذاباً، وأكون حينئذ أسأت من حيث أردت الإحسان. . . صحيح أنني معجبة، ولا أزال، وسأبقى دائماً، ولكن ألا ترى أن الإعجاب و. . . قد يتفقان أحياناً وقد يختلفان؟ ثم أليس. . . معان كثيرة وأساليب عديدة. . .؟
(تريد رأيي في صاحب القلب المسكين؟ أنت تعرفه جيداً فلماذا تريد إحراجي. . .؟
(الجمال ليس مدار بحثنا، وليس له أهمية قل أو كثر، ومع ذلك فصاحب القلب المسكين يتمتع بقسط وافر منه. اسمع، سأبدي رأيي. لا لا، ما بدَّي أقول، أستحي. . .!)
وكانت تعرف من أمره مع (فلانة) ما قص عليها في رسائله وفي رسائلها حديث كثير عنها، وقد زارتها مرة عن أمره لتنبئه بخبرها. . .
وأعتقد أن في رسائله إليها ما يكشف بعض الغموض في قصة الرافعي و (فلانة) ويكون فيه برهان إلى براهين لدينا؛ فحبذا أن تتفضل السيدة الكريمة بالنزول عن حقها في هذه الرسائل فتهديها إلينا لتتم لنا بهذه الحلقة المفقودة سلسة التاريخ!
إنها أديبة وعالمة، وإنها بذلك لتعرف حق التاريخ وحق الأدب عليها في هذه الرسائل، ولها علينا ما تشترط فنوفيه، فلعل صوتي أن يبلغ إليها في مأمنها. ضمن الله لها سعادتها وحقق لها ما بقى!
هذه قصة فتاة يجد فيها القارئ بين أولها وآخرها أشتاتاً من تاريخ الرافعي؛ وفيها مثال يبين معنى ما سميته (النقلة الاجتماعية) في حياة الرافعي بما كان بينه وبين قرائه من صلة الرسائل. على أن هذه القصة بخصوصها كان لها من عناية الرافعي حظ أيّ حظ. وقد كان على أن يكتب - بما اجتمع له من فصول هذه القصة - مقالة بعنوان (الصابرة) جمع لها فيما مع من نثار الأفكار قدراً غير قليل، وما أخره عن كتابتها إلى أن وافاه الأجل إلا انتظار الخاتمة فيما أظن، وإلا شدة احتفاله بهذا الموضوع. وهكذا نجد أن شدة احتفال الرافعي بموضوع مّا يكون سبباً في تعويقه عن كتابته أو عن تمامه: كان يحتفل بكتابة (أسرار الإعجاز) فلم يتمه، وبمقالتي (الزبال الفيلسوف) و (الصابرة) فلم يكتبهما؛ ولكن التاريخ لم ينس له.
شبرا
محمد سعد العريان
ظن بعض أصدقاء الآنسة الأديبة أمينة. ش أننا نعنيها بقولنا في الجزء السابق من هذه المقالات: (إن فتاة أدبية من أسيوط كتبت إلى الرافعي تشكو إليه أن أباها يعضلها ويذود
الخطاب عن بابه حرصاً على بعض التقاليد) فتعذر للآنسة الأديبة من سوء ظن أصدقائها بما كتبنا، ونؤكد لهؤلاء الأصدقاء أنها غير المعنية منا بهذا القول.
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة السير (هيو والبول)
للأستاذ أحمد فتحي
- 1 -
ننقل إلى القراء في هذا المقال وما يعقبه سلسلة فصول تنشرها إحدى الصحف الأدبية الكبرى في لندن، على أسابيع، متضمنة جواب استفتاء وجهته إلى تسعة من كبار القصصيين الإنجليز، راجين أن ينتفع شبابناً من عشاق القصة وكتابها بهذه الفصول المترجمة بكل أمانة وإتقان.
في أوائل السنة القادمة: أي بعد بضعة أسابيع، أرجو أن يتاح لي الاحتفال بانقضاء ثلاثين سنة على ظهور قصتي الأولى وإن يكن قد مضى على هذا الحادث الهامّ في تاريخ حياتي كل هذا الزمن الطويل الذي يجعل من العسير أن أستدعي كل ذكرياته على وجه التحقيق، فإنني أستطيع أن أذكر كل شيء بغاية الوضوح!
وحين يسألني الشبان، كما يفعلون كثيراً، عن طريقة لفت الجمهور إلى قصصهم الأولى، وعما صنعت أنا نفسي في مثل ذلك، يعود بي خيلي طائراً إلي الوراء، حتى ليخَيَّلُ إلى أنه الأمس القريب، حين عدت إلي بيتي في (شلسي) ووجدت ما سيجده القراء مفصلاً في هذا المقال. . .
من المحقق أن القصة الأولى التي أخرجتها لي المطبعة لم تكن أول أعمالي القصصية. فلقد بدأت أعالج كتابة القصة منذ طفولتي المبكرة. ولكنني لم أضع قصتي الناضجة الأولى إلا حين كنتُ في (ليفربول)، وبعد أن فرغتُ من دراستي في (كيمبردج)
ولقد كان سفري إلى (ليفربول) بسبب أن أبي كان يحب لي أن أكون قسيساً! وأن أتنكر (لادّعائي) الكتابة! ولهذا التحقتُ بإحدى البعثات الدينية لرجال البحرية، وامتطيتُ ظهر السفن لأداء واجبي كرجل من رجال الدين. واتصلت بكثير من النوتَّية المرحين أمامي الآحاد السعيدة. غير أنني لم أصادف نجاحاً يذكر! وبسبب ما كنت أحسَّ ُ من اندماجي مع
مشاعر فتيان البحار، وبسبب أنني لم أكن سعيداً أبداً لإيماني بأني سأكون (قسّيساً) فاشلاً، مما بعث في نفسي مضاضة وحزناً! ولقد عاونتني الأمسية التي كنت أقضيها في بيتي على كتابة سبعة فصول من قصتي الأولي، وكان اسمها (الدير)، وقد ثبت عندي أنها كانت بشيراً بأخرى كتبتها بعد ذلك بأمد أسمها (الكاتدرائية)، وبعد هذه الفصول السبعة ازدحمت في ذهني شخصيات كثيرة من أبطال قصة (الدير) وأخذت تختلط وتختلط حتى فقدت قيمتها ومميزاتها. ولقد عّلمني ذلك شيئاً. والحق أن الفصل الأول من هذه القصة قد احتفظ به ذهني حتى جعلت منه (الفصل الأول) في قصة أخرى كتبتها بعد ذلك باسم (الفضولي)!
ولما أدرك أبي أنني لا يمكن أن أكون قسيساً، ظن أنني قد أصلح لأكون مدرساً! ومِنْ ثمَ وجهني إلى ألمانيا وفرنسا لأتعلم لغة كِلّ من البلدين العظيمين. ولكنني لم أتعلم لغة هذه ولا تلك، وإنما كتبت قصة طويلة كاملة أسمها (تروىْ هانتون)! ليس في وسع ألفاظ أن تعبر عن كيفية انكبابي على الكتابة. . . وبعد أن فرغت منه هذه القصة كنت شديد الإيمان بأنها من روائع الفن القصصي! وهذا ما لا أعتقد الآن في شيء من كتبي! فأرسلت بها إلى دار (آرثر بنسون) للنشر، فقد كان أحد أصحابها معي في (كيمبردج) ولقد تلقيت منه في (كيمبرلند) كتباً عدة عن هذه القصة، يقول في أحدها:(إني لأخشى أن تكون قصتك رديئة! ولكن هنالك شيء واحداً أعتقده تماماً: ذلك إن ليست لك أية مقدرة على الابتكار. وقد تصبح ناقداً يوماً من الأيام؛ ولكن النقد الأدبي لن يكفل لك أكثر من حياة بئيسة!)
ولقد بلغ من ثقتي بالرجل أنني أحرقت قصتي هذه. على أنني انتفعت كثيراً من صورها - فيما بعد - في قصة أخرى سميتها (الصبر). . .
والتحقق بعمل جديد، مدرساً في كلية مدينة (ابسم) ولقد توجهت إليها وحيداً، فقد كانت على مقربة من (لندن) وفيها كنت أرجو أن أبدا حياتي الأدبية والحق أني إلى تلك اللحظة لم أتلق كلمة تشجيع واحدة لأعمالي الأدبية من أي إنسان!. وفي (ابسم) كتبت قصتي الأولى التي أخرجتها المطبعة للناس بأسمى. وقد اخترت لها أسم (الحصان الخشبي) وكنت قد أظهرت على نصفها أستاذاً كانت تلوح عليه إمارات الذكاء؛ ولكنه ردَّ علىَّ أوراقها مع قوله:(لست يا (والبول) قصصيأ على أي حال. . .!)
وبالرغم من هذا فمهما بلغ من قلة ثقة الناس بي؛ فلقد كنت وطيد الثقة بنفسي! ولقد بدا لي
عجيباً جدَّا أن يكونوا جميعاً بهذا العمى! ولقد أصبحت الآن، بعد هذه السنين الطويلة، أعجب لما كان لي من ثقة بالنفس لم يكن يشجع عليها شيء! واعترض طريق حياتي رجل بادن يقال له (ماَّسي) أبَجَلّ الآن وأحيَّي روحه المرح لأنه كان أول من تفضل عليّ بالتقدير. ومع أن تقديره ذاك بدا لي في ذلك الحين طبيعياً، بل حقا من حقوقي، فإني الآن لأعجب لهذا التقدير من الرجل؛ في أي تربة نبَت؟!
كان (ماَّسي) ضخم الجسم شاحباً غائض دم الوجه. وكان يشرك (كرتسي براون) في وكالة أعمال أدبية. وقد أبدى لي رغبته في استخدامي لعمل خاص بتلك الوكالة الأدبية على أن يوظف لي جنيهات قليلة كلَّ أسبوع. وبهذا الروح المرح قذفت بعمل التدريس الذي كنت أمقته. وا كتريت حجرة أرضية صغيرة في (شلسي) أجرها الأسبوعي ريال واحد! وهكذا بدأت حياتي الأدبية. .
كانت فكرة (ماَّسي) أن أضع كتاباً يبحث قي طرق توجيه الناشئة. غير أنه لم يكن عنده، ولا عندي، رأى ما في الموضوع!. غير أن الرجل ظلَّ يدفع لي المال الذي وعد به عاماً كاملاً. وهو شديد يحقق تلك الثقة بي؛ وأخشى ألا أكون قد صنعت شيئاً يحقق الثقة العمياء!!
أكملت قصة (الحصان الخشبي) وكان على بعد ذلك أن أبحث عن ناشر. . وإني لأذكر كيف كتبت أسماء كافة الناشرين في (بريطانيا العظمى) على رقعة طويلة من الورق. وكنت أظن حينذاك أنني سأبعث بالكتاب إلى كل هؤلاء الناشرين تباعاً، بعد أن أنتزع عنه اسمي واضع مكانه اسماً مستعاراً هو (م. س) لأنني كنت قد قرأت الكثير عن العبقريات المبتدئة، وعلمت أن العبقري الناشئ لابد أن تردَّ عليه قصته التي تحمل اسمه المستعار - بدلا من اسمه المجهول - مرات كثيرة، قبل أن يحين يوم حظه السعيد! وكان قد أول نشر وقع عليه اختياري هو (سميث إلدر). . لأنه كان قد نشر أعمالاً ناجحة كثيرة. وكان يخيل إلي أن كتابي يجيب أن تظل آمالي فيه معلقة بهذا الناشر بضعة أسابيع. .!
ولقد كنت في تلك الأيام سعيداً إلى غير حد، إذ كان يسيراً جداً أن أعيش بمائة وخمسين جنيهاً في العام. كنت طليقاً، وكان لي أصدقاء في لندن؛ وإن لم يكونوا بكثرة أصدقاء واحد من رجال الأدب بعد. وإني لأذكر كيف كان يروقني أن أتروض بالسير في (طريق الملك
في شلسي) وكيف كنت أقول لنفسي حين أبصر السابلة: (سيأتي يوم يقف فيه هؤلاء للناس وسط طريقهم ويشيرون إلى وهم يقولون (هذا هو والبول يمشي هناك!)
وكان إلى جانب النهر مطعم كنت استمرئ فيه وجبات طعامي، وكان الفنانون يجيئون فيحتلون منضدة متوسطة، وهم يضجون في مرح. ولقد كنت أشعر بأن جوهم يحتضنني أيضاً. وكثيراً ما كنت أغشى مرقص أو داراً للتمثيل، كلما كان ذلك في طاقة نقودي. ولم يكن لي من الرغبات ولا المخاوف شيء في الحياة!!
وعدت إلى غرفتي يوماً ووجدت خطاباً من الناشر، يقول في بلغة بالغةٍ حَّد العظمة والكبرياء (إنهم سيطبعون كتابي) ولقد قرأت هذا الخطاب مرات ومرات. ثم أصابتني حمى الفرح!. ويستطيع المؤلفون أن يقولوا لك إن سعادة في الدنيا لا يمكن أن تقاس إلى سعادة المؤلف بقبول الناشر إخراج كتابه الأول! وفي الحق، لقد مرت بي إلى ذلك الحين لحظات كثيرة من السعادة، ولكنها جميعاً لم تكن تعدل سعادتي بذلك الخطاب.
ووثبت إلى الطريق والخطاب في يدي، وهرعت إلى المطعم العتيد واندسست بين الفنانين الجالسين؛ وبرغم أنى لم أكن أعرف أحداً منهم فقد حدثهم بما صادفني من حسن الحظ. فشربوا نخبي، وبعد الغداء اصطحبوني إلى (استديو) أحدهم، ومن هذه اللحظة؛ أحسست أن حياتي قد بدأت!
بعد ذلك توجهت لزيارة دار (سميث إلدار) للنشر والتقيت بالمستر (ريجنالد إلدر). وإني لا أتصور الآن أن في دار من دور النشر مثل ما كان في غرقته من الفخامة والعظمة والأبهة! وقد كان رجلاً طويلاً له سالفتان من شعر كثٍ تتدليان إلى جانب صدغيه، كما كانت تبدو عليه الهيبة التي كانت تلازم رجال النشر في تلك الأيام!
ودعا لي الرجل بالتوفيق، وبعد ذلك عرَّج على حديث سوقيّ! قال إن الوقت عصيب بالنسبة للناشرين، ولهذا لم يكن في وسعه أن يدفع لي شيئاً من المال عن النسخ الثمانمائة الأولى من كتابي. وبعد بيع هذا العدد من النسخ يكون لي حق النشر في ثمن ما يباع. ولم يسترع قوله اهتمامي، إذ لم يكن يعنيني شيء سوي أنني لن أدفع شيئاً!.
ولقد كان (ريجنالد سميث) رجلاً طيباً، كما يبدو من اسمه. فأخرج (الحصان الخشبي) في غلاف رائع بالألوان. وبعد شهرين فقط رأيت في محل أحد باعة الكتب النسخة الأولى من
كتابي. وبعد أسبوع من ظهور الكتاب كنت أجلس مع (المستر تشارلس ماريوت) في (الكورنول) وهو مؤلف كثير من أحسن القصص التي كتبت عن (الكورنول) قدمت إليه واحدة من النسخ الست الأصلية من (الحصان الخشبي).
وبعد ستة أشهر أخبرني الناشر بأن ثمانمائة نسخة من كتابي - بالضبط - قد نفذت. وكنت قد اتفقت ثلاثة جنيهات في كتابة النسخ الأصلية على الآلة الكاتبة. ولهذا كنت إلى ذلك الحين محتملاً خسارة هذه الجنيهات الثلاثة. ولكن لو لم يكن من الغرور والفخر لذكرت أن الكتاب كان يباع دائماً. وأنني تلقيتُ بعد وقت قصير حصتي في ثمن النسخ التي بيعت ذلك العام وهنالك شيء أظنه على غير قليل من الطرافة، هو كيف أنني انقلبت من قصصي هاوٍ فاشل إلى مؤلف محترف بكل معنى الاحتراف، وهذا ما لم أفهمه أبدا.
وبالرغم من أن قصتي (ترُوىْ هانتون) لم تكن قصة مؤلف محترف متمكن على ما أذكر، وأني ارتكبت فيها كل الأخطاء الممكنة من حيث الفكرة والأسلوب والبناء، فإن قصتي (الحصان الخشبي) التي كتبتها بعدها مباشرة؛ كانت أحسن ما كتبتُ من قصص مُجَوَّدة. وقد لا تكون مكتوبة بيدٍ مرنة طويلة الخبرة بدقائق الفن؛ ولهذا السبب فإن قيمتها الأدبية التافهة لم تكن شيئاً يذكر؛ ولكن. . . بعد أن تعلمت هذه الدقائق الفنية لم تعد لي هذه التفاهة في التفكير!
وعلى أي حال فقد مضت سنون سعيدة جداً قبل الحرب، لم يكن التزاحم بين القصصيين قد بلغ من العنف ما بلغه اليوم ولم تكن الصحف الكبرى تعنى بنشر روائع الفن القصصي. ولهذا لم يبرز من القصصيين العباقرة سوى أفراد قلائل جداً، مثل (مردث) و (هاردي) و (هنري جيمس)، في حين كان معظم كتاب القصة مشغولين بقصّ حكايات يستمدون أبطالها من شخصيات الحياة العملية بقدر الإمكان. ولم تكن هنالك اتجاهات نظرية معينة في الفن القصصي إلا بقدر محدود، كما أنه لم يكن هنالك من يعني بشيء من وسائل الدعوة الخاصة على وجه الإطلاق!
ولقد كان للحياة في هذه السنين منظر ساحر خلاب بصفة عامة. فإذا أنت كتبت عن شخصية سعيدة ثم اختتمت قصتك ختاماً سعيداً أيضاً، فأنك تكون بذلك فناناً أميناً على الحق في فنك. وإذا حملت على بعض مظاهر السلوك الخلقي أو السياسي، فانك بذلك لم تكن قد
تطورت في موضوع رديء!
تركت (الدر سميث) بعد أن نشرت لي كتابي الثاني، لأني كرهت أن أحرم ثمن النسخ الثمانمائة الأولى من كل كتاب من كتبي: وصادقت (مارتن يكر) ذلك الناشر النبيل الذي كان في ذلك الوقت يدعى (د. هـ. بورنس وكومبتون ماكنزي وفرانك سونيرتوس وفرانسيس برت يونج وجلبرت كانان) وليس في وسع بياني أن يعبر عما ندين به للصديق (مارتن سيكر) فلقد كان صديقاً وفياً. يتولى مهمة الناشر في إخاء ومودَّة، وإنه ليسعدني أن أذكر أنه حينما غامر بنشر قصتي (الصبر)؛ لم يأسف على هذه المغامرة!!
القاهرة
احمد فتحي
بين الشرق والغرب
لباحث فاضل
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(ثالثاً): (كذلك لا يعترض علينا بالجانب العلمي من الثقافة الإسلامية لأنها نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني)
انتهى الكاتب إلى أن الجانب العلمي من الثقافة الإسلامية نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني. ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟
1 -
(الذين يتفكرون في خلق السماوات ولأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا. . .)
2 -
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت. . .)
3 -
(وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون)
4 -
(فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخلق من بين الصلب والترائب)
هذه آيات بينات اعتقدها المسلم لا بالسيف ولا بغيره، ولم تدخل في معتقده عن طريق العاطفة والمسايرة بل دخلت عن طريق العقل فقط. ألا تري أن في كل حرف فيها دعوة صريحة إلى التفكير في مخلوقات الله؟ ولماذا دعاهم إلى هذا التفكير؟ ليعتقدوا بعظمة الله أم يهتدوا بوجوده؟ لاشك بأن للاهتداء إلى الوجود لأن التعظيم يكون لشيء يعتقد بوجوده وهم لم يعتقدوا بعد ذلك.
سمح لهم بالشك في كل شيء والتفكير في كل شيء ودعاهم إلى تحرير عقولهم من قيود العبودية الزمنية. وبعد ألا تعتبر هذه الدعوة أساساً عملياً، لأن استمال العقل في التفكير في مخلوقات الله وهو الأسلوب العلمي بعينه. أفيكون اليونان أصحاب الفضل في ذلك فيأخذ عنهم فلاسفة المسلمين هذا الجانب العلمي أم يكون الدين الإسلامي هو الأصل الأول؟ لهم لا يكون اليونان وفلاسفتهم أصحاب هذا الفضل إلى إذا أخذ القرآن بأساليب الفكر اليونان أو إلا إذا اعتبر متكلمة المسلمين وفلاسفتهم فلسفة اليونانيين مصدر أوليا في معتقدهم وكان القرآن مصدراً ثانوياً، والحقيقة تكذب هذا وذاك. وهم ما استعانوا بالفلسفة اليونانية إلا بعد أن تشربت قلوبهم معتقدهم الديني، وما كانت لهم الفلسفة إلا أداة منطقية لا علمية، والمنطق
غير العلم إلا إذا امتزجا (قبل أيام)
(رابعاً): (انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وانتهى الغربي إلى أنه قديم)، وهذا ما قاله. والمقصود من هذا واضح، وتقرير هذا القول يحمل الناس على تقرير التفاصيل بين العقلية العلمية للغرب وبينهما لمتكلمة المسلمين. هذا صحيح لو كان الكلام صحيحاً، ولو عنى متكلمة المسلمين بكلمة حادث ما عناه حضرة الفاضل. فأنا نعلم وغيرنا يعلم بأن كلمة (حادث) هنا لا تعني ولا تدل على تاريخ زمن معين كأن يقال كذا آلافاً من السنين، وإنما عني متكلمة المسلمين بهذه الكلمة أن العالم حادث بالنسبة للخالق، أي أن الخالق قديم بالنسبة لمخلوقاته، فقرروا القدم الذي لا حد له إلى الله وقرروا الحدثية إلى مخلوقاته
(خامساً): وبعد ذلك فمتكلمة المسلمين (انتهوا إلى أن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكلَّ ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وسيكون). هذا ما قاله حضرة الفاضل، فهل نفي بهذا القول طبيعة العقل العلمي لهؤلاء المتكلمة؟ أليس الدين الإسلامي المرجع الأول لهؤلاء المتكلمة؟ فلماذا نأخذ الناحية السلبية من هذا القول ولا نقرر بأن الدين الذي اعتمدوا عليه كأساس أولى في مذاهبهم الكلامية قد دعاهم إلى أن يسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه وهو الذي دعاهم إلى ألا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة؟ فإذا كانوا قد اعتقدوا تلك الناحية السلبية فقط من قوله تعالى:(والله خلقكم وما تعملون)، فهل يتناسب هذا الاعتقاد مع حقيقة الواقع وهم إنهم جعلوا للعقل حقه في تقرير مصير صاحبه ثم هل يتفق هذا القول مع كثير من أقوال متكلمة المسلمين كالنظّام والجاحظ وغيرهما في الشك وفي تقدير العقل إلى أبعد حدود التقدير؟
ثم نراه منح العقلية الغربية منحة تأباها وقرر لها مذهباً تنفر منه لأن العقل لا يقره فقال: (انتهى الغربي إلى أن إرادة الله مقيدة بنظام الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار).
أي كلام هذا؟ وكلام من هو؟ ومن قال بأن الغربي يعتقد هذا إلا إذا فقد الجانب العلمي من قوى تفكيره؟ للكون سنن ولنظامه نواميس فمن أقرها ومن وضعها؟ أليس هو الله؟ ومن يفكر بأن إرادة الله هي التي تسيطر على هذا الكون؟ أفيكون خالق الشيء مقيداً به وتكون إرادته متعلقة به؟
فإذا كان بقاء النظام الكوني دليلاً على شيء فهو أن إرادة الله لم تتغير وأنه أراد الكون على حاله. فإذا تغير هذا النظام الذي أراده الله اعتقدتم بأن هذا النظام مقَّيدُ بإرادة الله إذا فلتنتظروا.
(سادساً): في نظر الغربي (أن في قدرة الإنسان تغيير القدر له عن طريق معرفة النواميس المحَكمة في وجوده) أهذا كلام يقال؟ فلا هو منطق ولا هو علم، ولا هو حقيقة ولا هو خيال. رجل لا يعلم ما قُدَّر له فكيف يكون قادراً على تغييره؟ ثم هب بأنه علم ما قدر له كأن أوحى الله له بذلك أفيكون قادراً على تغيير ما أراد الله وتكون إرادة الله؟ نحن لا نفهم من هذا القول إلا أنه كفر من ناحية دينية وكفر آخر من ناحية عقلية؟ وكفر ُواحد عظم في حد َّذاته فكيف بالكفرين؟
إذا كانت علوم الغرب دليلاً على عقليتهم فإلى أي حد انتهوا في علومهم؟ كان يقال قديماً بأن مَن بحث في العلوم الطبيعية ابتعد عن الخالق، واليوم يقال بأن كل من امتهن هذه الصنعة وسلك هذا الطريق فلا شك بأنه يسير بخطى واسعة نحو الخالق إن كان كافراً به.
فهؤلاء علماء مادة الحياة كلما عجزوا عن تفهم سر شيء ازدادوا إيماناً بأن قدرة عليا فوق قدرتهم واتفقوا على غير موعد بأن إرادة الخالق قد أخضعت كل النواميس لها، ونحن ما علمنا ليومنا هذا إلا ما أراد الله لنا أن نعلم. أفيذهب بنا الغرور إلى حد تقييد الله بشيء خلقه؟
(سابعاً): (ثم المسيحية هي التي سادت أوربا في العصور الوسطى فنزعت بها منزع التفكير المعروف) الواقع يقرر عكس هذا، إذ ليس في الدين المسيحي ما يقرر ذلك الجمود في القوى الفكرية كالذي ساد في العصور الوسطى.
نحن نعلم بأن المسيحية وجدت في الشرق فكانت سبباً إلى حد كبير في توجيه منازع التفكير المختلفة من روحية واجتماعية وخلقية فقامت بنصيبها من الإصلاح، وسارت المسيحية بتعاليمها إلى الغرب ذاته وكانت حاله أسوأ حال فهذبت من نفوس أقوامه ما ساعدتها طبيعتهم الخشنة وعقليتهم السميكة. وخنقت المسيحية في الدير والكنيسة تراث اليونان والرومان وغيرهم فقدمت للتاريخ العلمي خدمة لا تقدر بقيمة. وبعد هذا لم تكن المسيحية ولم تكن روح النسك الشرقية التي جاءت معها سبباً فيما ساد العصور الوسطى
من فوضى واضطراب وقصور في النواحي الثقافية والعلمية. أيتهم الشرق بأنه سبب ذلك ولا يتهم الغرب وأقوامه هم الذين وجهوا تعاليم الديانة المسيحية وجهة مادية؟
ثم ما هي العقلية التي جاءت بصكوك الغفران وما هي الطبيعة التي تقبلت الشرائع القوطية؟ أجاءت مع المسيحية من الشرق أم نبتت في الغرب ومن بنات أفكار أقوامه، وهذا هو الواقع.
(ثامناً): (فإن شارل مارتل أنقذ العقلية الغربية من العقلية الشرقية حين كانت تغزو أوروبا على يد العرب) لو جاء بهذا الكلام أحدُ من الغرب لعذرناه، وطبيعة الإنسان كثيراً ما تغالط نفسها فتنكر الفضل على مستحقه. ولكن أن يأتي هذا الكلام من شرقي عربي فهذا ما لا يصدق.
حقيقة صد شارك مارتن تيار العرب، فترى ماذا صد مارتل وماذا منع عن أوروبا؟ أمنع روح النسك؟ والعرب لم يعرفوا بذلك لا في الشرق ولا في الغرب؟ أم أنه صد عن أوربا سبعة قرون من ينابيع الفكر والعلم والثقافة؟ وهذا ما أقر به علماء الغرب ومؤرخوهم قبل أن ينكره أحد من الشرق والعرب. سلوا مؤرخي النهضة الأوربية واستفتوا كتبهم عن أثر الأندلس في تلك النهضة، ألم تكن جامعاتها وحلقاتها قبلة للطلاب من كل ركن في أوربا؟ فلماذا تأثروا بالعلم ولم يتأثروا بالنسك؟ ألان العلم أسهل اقتباسا من النسك أو لأن العلم كان لديهم ولم يكن النسك؟
أفيكون مارتل بعد هذا قد أنقذ العقلية الجرمانية وهي كما يعلمها طلبة التاريخ من العقلية الشرقية يأتي بها العرب، أم يكون مارتل قد أنقذ الجهل من العلم قروناً؟
(تاسعاً) وأخيراً، وهذا أبعد ما استبعدنا أن يأتي به الدكتور العالم وهو أن العلم يتلون بروح الأمة، فكتب الرياضيات والطبيعيات وحقائقها في فرنسا هي غيرها في ألمانية، لأن لكل لوناً خاصاً في الحياة. فالنظرية الآرية تختلف في كل قطر على هذا الأساس الذي أتى به لأن روح الأمتين مختلفة. ولربما كانت نظرية الحمار في بلاد الإنكليز نظرية الدب في روسيا لأن روحيهما مختلفان.
هذا بعض ما لاحظناه على المقال المذكور ولو كان مجرد رأي لما حاولنا الجدل فيه، ولكن الكثير منه يتصل بالأمة العربية والأمم الإسلامية وبعضه يتصل بالحقائق التاريخية.
أما الرأي من حيث هو فيما لا يتصل بهذا أو ذاك فميدان المناظرة فيه واسع فسيح وهذا ما لم أقصده في هذا المقام والسلام.
(* * *)
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 2 -
(إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحة متقلبة كالحياة نفسها، وفي النسا كما في الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون على أية مائدة ويرتوون من أي ينبوع. وماذا عساه يفهم من الحب من يرى المحبوب مائدة وينبوعاً؟ قلّ من الناس من يدرك أن من أنكر على المحبوب شخصيته التي لا تستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها)
(لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ مائلة لعيان من يريد أن يرى أفما كانت كل الأمم التي اندثرت واستبعدت تمر أولا في مرحلة تدني الأخلاق وانطلاق الشهوات عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان؟)
(سوف يأتي يوم، وهو غير بعيد، تتنبه المدينة فيه إلى أن الرجل المتفوق الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ولا من فحص خلايا المتزوجين بالمجهر حتى ولا من تلقيحهم بالمواد الكيماوية أو تطعيمهم بغدد القرود
إن الرجل الكامل أو الأقرب إلى الكمال إنما هو ابن الحب الكامل، فالمحبة وحدها هي السبيل المؤدي إلى إدراك الحق والقوة والجمال لندع العالم المتمدن يفتش في علومه ونهضة مفكريه عن هذا الحب الذي تخيله ماركس متجلياً في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع هذا الفيلسوف في نظرياته، ليفتشوا أنهم لن يتصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.
أما نحن أبناء هذا الشرق الذي انبثق الحق فيه انصباباً من الداخل بالإلهام لا تلمّساً من الخارج، فلنا المسلك المفتوح منفرجاً أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.
لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنة ثراءً وتنظيماً تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.
إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلاً حراً قوياً
يفهم حقيقة الحياة ويتمتّع بالعظمة الكامنة فيها إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لأعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلاً وتتحطم كل محاولة للنفوذ إلى علته المستقرّة فيه منذ تكوينه)
(ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمَّشى بلا سند إلى قبره. ليست المرأة المستعبدة بلقمة ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير، ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم آباؤهم وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود ويرهقوهم بالقطعية والإهمال بعد أن يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة المتعثرة. . . الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة، والمرأة التي تتقصف متهتكة ماسخة هيكل نسمات الله مركعاً لنفايات البشر من عبّاد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودَين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة َّوالآلام المحتّمة، ومن يدري أن حديث معصية الأبوين ليس رمزاً لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم. . . ويلُ للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه، وويل للمرأة التي تدنس منبت أطفالها)
ليس في تمهيد موجز كهذا مجالُ لبحث فلسفة نيتشه التي شغلت كبار كتاب القرن التاسع عشر ولم يزل الفلاسفة يكتبون عنها إلى اليوم، غير أن ما تناولناه إلماماً من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص من قدر هذا العبقري لأنه اقتحم أسرار الكون معتمداً ذاته فعاد عن هذه الأسرار مدحوراً. وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها عند عقيدة صريحة تستغني عن الإيمان بالقوة الخفية المتعالية عن التعليل والتحليل؟ حَسْبُ نيتشه في موقف حيرته، وما هي بالدرجة الوضعية على سلم التفكير، أن يهتك سريرته أمامك دون أن يلجأ إلى إعمال السفسطة لإيجاد وحدة ظاهرية وتناسب ٍمزّيف في صرح تفكيره، حسب أن أندفع وراء المثل الأعلى الكامن في (إرادة القوة) تبعاً لتعبيره وفي نفس الإنسان الخالدة تبعاً لعقيدة المؤمنين، فبسط أمام المفكرين من مشاهد المجتمع ومن مسالك الأرواح على معابر الأرض ما لم يلمحه سواه من المنشئين.
إن ما ترانا بحاجة إلى الوقوف عنده من فلسفة نيتشه في كتاب زرادشت الذي لم تفته
قضية اجتماعية لم يقل فيها كلمة كان لها دويها في العالم الغربي، إنما هو هذه المبادئ التي تجتث ما غرست قرون العبودية في أوطاننا من استكانة حولت إيمانها إلى استسلام في حين أن روح شرعتها يهيب بالنفس إلى الجهادين في سبيل الوطن والإنسانية جمعاء.
إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب، وما علَّم هذا الدين أن الحياة معبر على المؤمن اجتيازه وهو مُعرِضَ عن كل ما حوله معلق أبصاره على باب قبره. بل علم أن الحياة مرحلة من أشواط الآزال والآباد وما تطهر أنفسَ لم تحترق أجسادَها ولم تَعد صلاحاً لباقياتها بإصلاح زائلاتها.
ليس نيتشه إذا مبدع فكرة التكامل للإنسان على الأرض فإن التكامل مبدأ جعلته الأديان السماوية أساساً لكل وصية تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، غير أن الدين قد أراد للإنسان تكاملا ًروحياً يهيئه إلى أدراك بارئه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر مالا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على الأرض فيجعلها جنةَ خلدٍ يستوي عليها بجبروته إلهاً. . .
وقد عزب عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرَّت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان، ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية.
لذلك الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيواناً أو استبدال الحيوان إنساناً. لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقبٍ كرَّت ما ورراه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبداً ضمن حلقة إنسانيته.
لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية: (لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى. على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته)
ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله، فكيف زين له خياله أن في هذا النوع إنساناً فائقاً لا يزال كامناً منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا
على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضاً في عاصفات الأحقاب؟. .
إن بدعة الإنسان المتفوق إنما هي تقديرنا تشوق نفس شعرت بأنها كانت وستكون، وقد ضرب الإلحاد حولها نطاقا ًفتوهمت أنها ستبلغ في هذه الحياة ما ليس من هذه الحياة.
إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة ويباهي بكفره؛ غير أننا لا نكتم القارئ الكريم ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى ويستجلي كل رمز، يحفزنا إلى القول بأننا لم نر كفراً أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادى بموت الله ثم يراه متجلياً أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة، فإن هذا الملحد، بالرغم من اعتقاده بأن الجسد هو اصل الذات وان الروح عرض لها وبأن كلا الروح والجسد فانيان، لا يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل شيء واستمرار كل شيء فيقول:
- أواه كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداءَ. إني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأنني أحبك أيتها الأبدية!
إنني أحبك، أيتها الأبدية
أين هذه الهتفة الرائعة تصدو في أعماق روح تتطَّير من الزوال من ابتسامة الملحد الصفراء وهو لا يرى وراءه وأمامه إلا العدم والزوال، بل يكاد يرى وجوده خدعة وخيالاً كاذباً.
إن فلسفةّ لا تستنيم لفكرة الفناء ولا ترى في النهاية إلا عودة إلى بداية ليست بالفلسفة الجاحدة، فالمفكر المؤمن بإنسانية عليا تتدرج إلى الكمال حتى ولو قال بألوهية الإنسان على الأرض لا يمكنه أن يؤمن في قرارة نفسه بكمال مطلق تتشوق روحه إلية ما وراء هذا العالم.
ولابد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة الفيلسوف، وليس في حياته القصيرة وهي مليئة بالآلام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها. وهل نيتشه إلاَّ فكرة وهل حياته إلاَّ وقائع ميادينها السطور والصفحات؟
ولد هذا العبقري الثائر سنة 1844 في بلدة روكن من أعمال ألمانيا وكان أبوه واعظاً
بروتستانياً من أسرة بولونية هجرت بلادها في القرن التاسع عشر على أثر اضطهاد شرد منها أشياع كنيسة الإصلاح.
وما بلغ فردريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه فكلفت أمه تربيته وتربية أخته فأرسلته إلى مدرسة نومبورغ ثم انتقل منها سنة 1864 إلى كلتيّ بون وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره سنة 1869 تجلَّى نبوغه فعين أستاذاً للفلسفة في كلية بال.
بعد سبع سنوات أي سنة 1876 ظهرت عليه أعراض (الزهري الوراثي) فحكمه صداع شديد أضعف بصره فبقي يلقي الدروس حتى سنة 1879 إذ اضطر إلى الاستعفاء ليذهب متنقلاً بين روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو يعمل الفكر ويكتب مصارعاً علته عشر سنوات، فلا هو يبرأ منها فيحيا، ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت إلى أن جاءته سنة1889 بالفالج مقدمة للجنون فتوارى سنة 1900 بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة وإرادته الوَّثابة الجبارة
(يتبع)
فليكس فارس
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
لم يتردد في العمل على إبطال قرار فريمونت على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي العام له ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا؛ ولقد كان من أبرز خلال أبرا هام أنه كان لا يعرف التردد أو النكول إذا هو عقد النية على أمر اقتنع بصوابه واطمأن إلى نفعه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به؛ وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأى ثم انصرف عنه، ولذلك كانوا إذا عزم أذعنوا طوعاً أو كرهاً فما لهم من ذلك بد. . .
وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يسأله أن يعدل قراره وأن يظهر للناس كأنما يفعل ذلك من تلقاء نفسه؛ ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن يتراجع؛ فلم ير الرئيس بدَّا من أن يعلن قراراً عدل به قرار فريمونت غير عابئ بما كان من مخالفة الرأي العام له ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير. . . وبذلك العمل الحازم الحكيم قضى الرئيس على نذير من نذر الفرقة والتنابذ، وكسب بذلك وقوف ولاية كنتولي إلى جانبه. . . ولا تتحسبن الرئيس كما تقول عليه خصومه ومخالفوه في الرأي من أنصاره، قد اتخذ بذلك سبيلاً رجعية؛ كلا، إنما هي السياسة الحكيمة تقضى عليه ألا يتنكب الطريق التي رسمها منذ شبت الحرب، ألا وهي جعل المحافظة على الوحدة أساس هذا الصراع القومي؛ أما مسألة العبيد فما هو بغافل عنها وإنما هو يؤثر الأناة حتى تتهيأ الفرصة. . .
هذا ما كان من أمر فربمونت؛ أما ما كليلان فلقد ظل يدرب جيشه على حدود فرجينيا وهو لا يفتأ يرسل إلى الرئيس يطلب فرقاً جديدة، ولا يفتأ يتبرم بأي استفهام يأتيه من قبل الرئيس عما هو عسىُّ أن يفعله؛ ولقد كان هذا القائد الشاب يكره من الحكومة تدخلها في
شؤونه؛ بل لقد كان يزدري أعضاء مجلس الوزراء ويرميهم بالغبا، أو كما يقول إنه شاهد أكبر نوع من الإوز في ذلك المجلس.
وبلغ به الذهاب بنفسه حدَّا جعل الناس يظنون به الظنون حتى ليحسبونه يتطلع إلى الرياسة، فهو ينتظر لا يعمل عملاً حتى تواتيه الفرصة إلى انقلاب يأتي به على غرة. . . ولكن الرئيس على الرغم من مسلك ما كليلان يعينه قائداً عامَّا للقوات بعد أن يترك سكوت العمل لكبر سنه.
ولا يقف صلف ماكليلان عند حد، فلقد ذهب الرئيس مرة إليه يستنبئه عن أمر، فتركه القائد لحظة ينتظر قبل أن يلقاه؛ وشاع ذلك في الناس، وأشارت إليه الصحف، وانعقدت الآراء على استنكاره، ولكن الرئيس لم يعبأ بما حدث، فما كان هوبالذي تلهيه المسائل الشخصية عما هو فيه، ولقد رد على ذلك بقوله (إني لأمسك لما كليلان زمام جواده إذا هو جاء لنا بانتصارات).
ولكن حدت بعد ذلك أن ذهب الرئيس ومعه كبير وزرائه إلى مكان القائد فلم يجداه، فجلسا ينتظران حتى رجع؛ وأنبأه بعض الجند بانتظارهما إياه؛ فصعد إلى غرفته وأرسل إليهما رسالة يأسف فيها لعدم استطاعته أن يراهما لأنه متعب! واستشاط سيوارد من ذلك غضباً، ولكن الرئيس راح يهون الأمر عليه. .
على أنه كف بعدها عن زيارة ذلك القائد المدل بنفسه. .
وقدر الرئيس فضلاً عن ذلك أن يلاقي العنت من الرأي العام كما يلاقيه من أكابر قواده، ومن أمثلة ذلك ما كان من موقف الناس إزاء قرار فريمونت فلقد بالغوا يومئذ في إعنات الرئيس وإحراجه. . حتى كان موقف آخر فعادوا إلى غيهم يأخذون على الرئيس مسالك القول والعمل، وكان ذلك الموقف نتيجة لما أدت إليه الحوادث بين حكومة الاتحاد الشمالي وبين الحكومة الإنجليزية. .
كان لنكولن يخشى أن تسوء العلاقات بين حكومته وبين إنجلترا، إذ كانت الأنباء تنذر بذلك؛ فكثير من رجال الحكومة الإنجليزية كانوا يرون أن تعترف حكومتهم بالاتحاد الجنوبي كحكومة مستقلة حتى يتسنى لإنجلترا أن تدخل سفنها الموانئ الجنوبية وعلى الأخص موانئ القطن، دون أن يكون في ذلك تصادم مع الحصار المضروب عليها من
الشماليين. . وأخذت الصحف الإنجليزية تدعو إلى ذلك وتلح في الدعوة غير عابئة بما ينطوي عليه ذلك من التحدي لأهل الشمال. واشتد غضب حكومة الاتحاد الشمالي بقدر ما عظم فرح الجنوبيين، إذ كان كل فريق ينظر باهتمام شديد إلى ما عساه أن يحدث من جانب إنجلترا. . وبلغ من استياء سيوارد أنه كتب احتجاجاً إلى الحكومة الإنجليزية، لم يخفف من حدته ما أدخله عليه الرئيس من تعديل، فلقد كان يحرص أشد الحرص أن يفوت على الجنوبيين ما يأملونه من انضمام إنجلترا إليهم.
وفي هذا المأزق الحرج يأتي أحد القواد البحريين عملاً تزداد به الأمور تحرجاً حتى ليحسب الناس أن الحرب واقعة بين إنجلترا والولايات المتحدة ما من ذلك بد. . .
وبيان ذلك أن القائد البحري ولكس داهم سفينة إنجليزية كانت تحمل رسولين من قبل الولايات الثائرة أحدهما إلى إنجلترا والآخر إلى فرنسا أبحرا ليسعيا لدى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية أن تأخذا بيد الاتحاد الجنوبي. . . وأرغم ولكس الرسولين على النزول فأسرهما على الرغم من احتجاج قائد السفينة الإنجليزية.
ووصلت الأنباء إلى وشنجطون فراح الناس يعلنون إعجابهم بالقائد ولكس ويثنون على عمله، وما لبث أن انهالت عليه رسائل الإعجاب والثناء؛ ولقد أثنى عليه فيمن اثنوا المجلس التشريعي نفسه، وكثير من الزعماء ورجال الصحافة؛ وهكذا انحاز الرأي العام إلى جانب ولكس كما انحاز إلى جانب فريمونت من قبل لتزداد بذلك الأمور تعقداً وخطراً. . .
أما عن موقع النبأ في إنجلترا فلك أن تتصور مبلغ ما أثار من سخط واستنكار، في ظروف كتلك التي نتحدث عنها، وكذلك كان للنبأ في فرنسا موقعه الشديد وأثره السيئ.
اعتبرت إنجلترا هذا العمل من جانب القائد ولكس إهانة موجهة إلى العلم البريطاني الذي كان يخفق في سارية تلك الجارية التي كانت تحمل الرسولين وقدمت لندن وشنجيوط احتجاجها وأنذرتها أن تقابل العدوان بمثله إلا أن تسرع بتقديم الترضية الكافية، ولن تقنع إنجلترا بأقل من إطلاق الرسولين وعدم التعرض لهما ثم الاعتزاز عما حدث. . .
عندئذ اشتد هياج الولايات ورأت في إنذار إنجلترا إياها معاني الإذلال وسوء النية وقبح استغلال الحوادث؛ وأصر الناس على المقاومة مهما يكن ثمنها. وأمدت إنجلترا حامية كنده
وأخذت الولايات تزيد في قوة ثغورها الشمالية، وفي الجملة لم يبق إلا إعلان الحرب. على أن بعض العقلاء استطاعوا أن يطيلوا الوقت المحدود للإنذار بضعة أيام عل أهل الولايات وخصومهم في إنجلترا يرون حل تحقن به الدماء.
وأخذ الوقت يتصرم ولكن أهل الولايات مصرون على موقفهم لا يثنيهم عنه شيء! ورئيسهم ووزراؤه يفكرون في هذا الخطر الداهم، وكان سيوارد يميل إلى خوض غمار الحرب ضد هؤلاء الإنجليز الذين تنطوي قلوبهم على الحقد والحنق منذ خلعت الولايات الأمريكية نير إنجلترا في عز ة وإباء.
وهكذا يجد لنكولن نفسه في شدة ما مثلها شدة. . . فهو بين أن يجاري الرأي العام وبذلك يجر على البلاد حرباً خارجية طاحنة تأتي مع الحرب الداخلية القائمة في وقت واحد، أو يطلق الرسولين ويقضي على أسباب الخلاف بينه وبين إنجلترا وبذلك يجنب بلاده خطراً محدقاً، وإن تعرض بعدها للوم اللأمين وسخط الساخطين واتهامات المبطلين. . .
ولكنه لنكولن الذي لا يعرف الخور والذي لا يطيش في الملمات صوابه. . . إنه الرجل الذي تزداد عزيمته مضاء بقدر ما تزداد الحادثات عنفاً وخطراً، والذي تزداد قناته صلابة كلما ازدادت الخطوب فداحة والأعباء ثقلاً واستفحالاً. . .
عقد أبرا هام مجلس وزرائه وأخذ يناقش الأعضاء ويناقشونه وهو من أول الأمر لا يؤمن بعدالة ما فعله ولكس؛ وبعد جهد استطاع أن يحمل المجلس على قبول رأيه ثم أعلن بعدها في شجاعة وحزم إطلاق الرسولين، وأجاب على إنذار الحكومة الإنجليزية برسالة متينة جاءت دليل قوياً على حكمته وبعد نظره، رسالة احتفظ فيها بكرامة بلاده وعزة قومه، وجنبها بها في الوقت نفسه خطراً ما كان أغناها عنه يومئذ.
وارتاحت إنجلترا لما فعل الرئيس وأثنى رجالها على حنكته وشجاعته! ولكنه لاقى في بلاده من السخط والاستياء ما لا يقوي على مواجهته غيره، وأوشكت مكانته في القلوب أن تزعزع، وراح يرتاب فيه المتحمسون ويصفون عمله بالجبن والخور. . . ولكنه فيما بينه وبين نفسه يعتقد أنه أسدى صنيعاً إلى قومه لا يدركه إلا العقلاء، الذين لا يجعلون في كل وقت للعواطف سلطانا على أعمالهم. . . . قال مرة يرد على الساخطين (لقد حاربنا بريطانيا العظمى مرة لأنها فعلت عين ما فعله الكابتن ولكس؛ فإذا ما رأينا إنجلترا تحتج
على هذا الفعل وتطلب إخلاء سبيل الرسولين فواجبنا هو ألا نخرج على مبادئنا التي ترجع إلى عام 1812. . . . يجب أن نطلق هذين السجينين وحسبنا حرباً واحدة في وقت. . . .)
ومضى العملاق بعدها في سبيله يؤدي للإنسانية رسالته؛ وإننا لنرى هذا الجبار الذي درج من بين الإحراج والأدغال يحمل العبء وحده في الواقع. . . بل إنه كما ذكرنا ليلاقي مما يفعل كثير من أكابر رجاله أعباء تضاف إلى أعبائه ولكنه معود حمل الأعباء ومواجهة الأنواء.
وإنه ليسأل نفسه: ألم بأن لهؤلاء الرجال أن يعملوا كما تطلب الظروف؛ وماذا على فريمونت لو كان رجع إلى الرئيس، ثم ماذا على ما كليلان لو أنه خفض جناحه وألان جانبه واخذ الأمور بالشورى. .؟ ولكن ها هو ذا قائد آخر يفعل مثل ما فعل فريمونت، وذلك هو هنتر الذي كانت له القيادة في كارولينا الجنوبية؛ وكان هنتر أكثر جرأة من فريونت أو على الأصح أكثر نزقاً فلقد أعلن أن سكان فرجينيا وفلوريدا وكارولينا الجنوبية من العبيد أحرار بعد اليوم إلى الأبد. . . .
ولم يسع الرئيس إلا أن يجعل ينقض هذا القرار في غير مجاملة أو هوادة، فلقد كان هنتر خليقا أن يعتبر بما كان من أمر صاحبه فريمونت مما أعلنه الرئيس قوله:(إن حكومة الولايات المتحدة لم تخول للقائد هنتر ولا لأي قائد أو شخص سواه من السلطان ما يعلن معه تحرير العبيد في أية ولاية من الولايات، وإن هذا الإعلان المزعوم، سواء كان حقيقياً أو زائفاً، هو إعلان باطل)
ولا يكاد الرئيس ينتهي من نزق إلا ليواجه نزقاً غيره، فهاهو ذا وزير الحربية كامرون يرسل رسالة إلى بعض الضباط شبيهة بما أعلنه فريمونت وصاحبه. . ولولا أن تدارك الرئيس الأمر لأحدثت من سوء الأثر ما يصعب بعد علاج؛ ولقد أبرق الرئيس إلى مكاتب البريد لترد نسخ تلك الرسالة المطبوعة وحال بذلك دون وصولها إلى وجهاتها. .
ولما أن يئس الرئيس من ما كليلان وقد مضى عليه أكثر من عام وهو لا يعمل اكثر من تدريب جنده ولا ينفك يطلب فرقاً جديدة؛ رأى أن الموقف، يقضي عليه أن يدرس فنون الحرب والتعبئة! أليس هو بحكم مركزه القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية؟ وإذاً فعليه
أن يتعلم فن الحرب اليوم كما تعلم مسح الأرض من قبل وتخطيطها وكما تعلم القانون حتى حذقه، بل وكما تعلم القراءة والكتابة قبل ذلك جميعاً وهو بين مطارح الغابة.
شمر الرئيس عن ساعده وراح يدرس ويتعلم لايني ولا يكل ساعات طويلة من النهار وساعات من الليل؛ الخريطة مبسوطة أمامه، ومعلموه من الحربيين يتناوبون العمل معه واحداً بعد الآخر حتى فهم بعض الفهم وأصبح له شيء من الرأي! يا الله من هذا العبقري الجبار الذي يحمل على كتفيه ما كان ينوء بحمله أطلس أو أخيل!
واستطاع الرئيس بعد مدة أن يدلي للقواد برأي في فهم، ولكنه كان حذراً يعرض الفكرة ويترك القطع بصحتها للقائد المرسلة إليه. ولقد كتب مرة إلى أحدهم برأيه ثم شدد عليه ألا يتقيد به قائلا إنه يلومه أكبر اللوم إن هو تحيز له أو تردد عن العمل تمليه عليه خبرته إذا كان ذلك الرأي لا يتفق وهذه الخبرة. . .
على أنه يكتب إلى ما كليلان نفسه ذات مرة مشيراً عليه بما يجب أن يعمل، في خطة مرسومة على أساس فني، ولما رد ما كليلان عليه يرفض تلك الخطة لم يقره الرئيس، وعاد فكتب إليه يسأله أسئلة تدل على فهم دقيق وإلمام شامل، ويدع له أن يجيب على تلك الأسئلة الفنية إجابة صريحة ونزيهة والرئيس مستعد بعدها أن يقره. . ثم تحاكما إلى أخصائيين، فما زال الرئيس يدلى لهم بحججه ويريهم أن خطته أضمن وأسلم من خطة القائد ما كليلان، ولكنهم، آخر الأمر أقروا خطة ما كليلان، فلم يسع الرئيس إلا أن يذعن وإن كان لا يزال يرى وجاهة آرائه. .
(يتبع)
الخفيف
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 7 -
منزلة الشعرية
كان الكميت شاعرا عالماً جمع من الثقافة العلمية ما لم يجتمع لشاعر في عصره، حتى قال بعضهم: كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلياً، وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وكان رامياً لم يكن في بني أسد أرمى منه، وكان فارساً، وكان شجاعاً، وكان سخيا دينا
وقال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني عمي، قال حدثني محمد بن سعد الكراني، قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط، قال: اجتمع الكميت بن زيد وحماد الرواية في مسجد الكوفة، فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك اعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: وما هو إلا الظن، هذا والله هو اليقين، فغضب الكميت ثم قال له: لكم شاعر بصير يقال له عمرو بن فلان تروي؟ ولكم شاعر أعور أم أعمى اسمه فلان بن عمرو تروي؟ فقال حماد قولاً لم يحفظه، فجعل الكميت يذكر رجلاً رجلاً من صنف صنف ويسأل حماداً هل يعرفه؟ فإذا قال لا، أنشده من شعره جزءاً جزءاً حتى ضجرنا، ثم قال له الكميت: فأني سائلك عن شيء من الشعر، فسأله عن قول الشاعر:
طرحوا أصحابهم في ورطة
…
قَذْفَكَ المقلةَ شطر المعترك
فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:
تدريننا بالقول حتى كأنما
…
يدرين ولداناً تصيد الرهادنا
فأفحم حماد، فقال له: قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمون
بها الماء، والشطر النصيب، والمعترك الموضع الذي يختصمون فيه الماء، فيلقونها هناك عند الشرب، وقوله (يدريننا) يعني النساء، أي ختلتنا فرميننا، والرهادن طير بمكة كالعصافير.
وذكر ياقوت أن ابن عبدة النساب قال: ما عرف النُّسَّابُ أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها.
وأخرج ابن عساكر أنه كان يقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت، فمن صحح الكميت نسبه صح، ومن طعن فيه وهن.
وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان، ولا للبيان لسان.
وقد عنى ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت، ولم يكن يعنى إلا بالشعراء الفحول الذين يعرفون النساب، أو يمتون بعرق إلى الأساليب الجاهلية؛ ولم يعن ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت فحسب، بل كان يذكر به من يغفلون عنه حين يعرضون عليه ما عرفوا من معاني الشعراء.
وأخرج أبو عكرمة الضبي عن أبيه قال: أدركت الناس بالكوفة يقولون: من لم يرو:
(طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ)
فليس بهاشمي، ومن لم يرو:
(ذكر القلبُ إلْفَهُ المهجورَا)
فليس بأموي، ومن لم يرو:
(هلاَّ عرفتَ منازلاً بالأبرقِ)
فليس بمهلبي، ومن لم يرو:
(طَرِبْتَ وهاجَكَ الشوقُ الحْثِيثُ)
فليس بثقفي.
فهذا كله إلى ما نقلناه عن معاذ الهراء يظهر لنا كيف كانت طائفة كبيرة من العلماء والأدباء تتعصب للكميت وشعره إلى هذا الحد من التعصب، وما نظن أن نظرهم في هذا كان يجاوز جانب اللفظ والمعنى في شعر الكميت، فلا ينظرون إلى شيء آخر بعدهما يسمو به
الشعر أكثر مما يسمو بهما، ويمتاز به الكميت ابن زيد على شعراء عصره جميعاً.
وكان يوجد إلى جانب هذه الطائفة المتعصبة للكميت طائفة أخرى من الأدباء والشعراء تتعصب عليه وتقدح في شعره، ومن هؤلاء المتعصبين عليه بشار بن برد، وكان يقول: ما كان الكميت شاعراً، فقيل له كيف وهو يقول:
أنصفُ امرئٍ منْ نصف حيٍ يسبني
…
لعمري لقد لاقيتُ خطباً من الخطبِ
هنيئاً لكلبٍ أن كلباً تسبني
…
وأني لم أرددْ جواباً على كلبِ
لقد بلغتْ كلبٌ بسبيَ حظوةً
…
كفتها قديماتِ الفضائح والوصبِ
فقال بشار: لا بَلَّ شانئك، أتري رجلاً لو. . . ثلاثين سنة لم يستملح منه شيء؟
وقد كان مذهب بشار من الشعر إيثار اللفظ السهل على العويص، وكان في هذا قدوة من أتى بعده من الشعراء المولودين، والكميت يخالفه في هذا المذهب مخالفة تامة. قال محمد بن أنس الأسدي، حدثني محمد بن سهل راوية الكميت، قال سمعت الكميت يقول: إذا قلت الشعر فجاءني أمر مستو سهل لم أعبأ به حتى يجئ شيء فيه عويص فأستعمله.
ومن هنا يجئ تحامل بشار على الكميت. وعندي أنه لا يصح أن يقدح في الشعر أن تكون ألفاظه سهلة أو عويصة، فلكل من ذلك مقامة في طباع الشعراء وتمكنهم من اللغة وغريبها، وكذلك ما يحيط بالشاعر من ظروف الزمان والمكان وغيرهما.
وممن كان يتعصب على الكميت أيضاً رؤية بن العجاج، وقد ذكر المبرد عن رؤية أنه قال: قدمت فارس على أبان بن الوليد البجلي منتجعاً له، فأناني رجلان لا اعرفهما فسألاني عن شيء ليس من لغتي فلم أعرفه، فتغامزا بي، فتقبعت عليهما فهمدا. ثم كانا بعد ذلك يختلفان فيسمعان مني الشيء فيكتبانه ويدخلانه في أشعارهما، فعلمت انهما ظريفان، وسألت عنهما فقيل لي: هما الكميت والطرماح
وكان ذو الرمة يرى في الكميت ما يراه فيه رؤية بن العجاج، وقد أتى الكوفة فلقيه الكميت فقال له: إني قد عارضتك بقصيدتك، قال أي القصائد؟ قال: قولك:
ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ
…
كأنه من كلى مفريةٍ سَربُ
قال: فأي شيء قلت؟ قال قلت:
هل أنتَ عن طلب الأيفاعِ منقلبُ
…
أم كيف يحسن من ذي الشَّبية اللَّعِب
حتى أتى عليها، فقال له: ما أحسن ما قلت، إلا أنك إذ شبهت الشيء ليس تجئ به جيداً كما ينبغي، ولكنك تقع قريباً، فلا يقدر إنسان أن يقول أخطأت ولا أصبت، تقع بين ذلك ولم تصف كما وصفت أنا ولا كما شبهت. قال: وتدري لم ذاك؟ قال: لا، قال: لأنك تشبه شيئاً قد رأيته بعينك، وأنا أشبه ما وصف لي ولم أره بعيني، قال: صدقت هو ذاك
وليس هذا من رؤية وذي الرمة إلا تعصباً على الكميت من اجل أنه حضرياً، وأنهما كانا بدويين يذهبان في الشعر مذهب أهل البدو. وقد ذكرنا أن الكميت كان يجمع في شعره بين أدب الحاضرة والبادية، فكان من جهة اللفظ والأسلوب كسائر شعراء البادية في الإسلام والجاهلية، وكان من جهة الغرض الذي يرمي إليه في شعره حضرياً يذهب في ذلك مذهباً جديداً يليق بشاعر مثقف بمثل ثقافته، وهو في هذا يخالف شعراء عصره إذ كانوا يذهبون في أغراض الشعر مذهباً بدوياً جاهلياً لا أثر فيه للثقافة الإسلامية، ولا تتفق غايته مع الغاية التي كان يجب أن تكون غاية الشعر في هذا العصر.
والشعر عندنا كما يوزن بألفاظه ومعانيه يوزن بأغراضه ومقاصده، فلا يصح أن يكون الشعر الذي له غاية سامية في الحياة كالشعر الذي لا يراد منه إلا اللهو والعبث، وليس جد الحياة كهزلها، ولا حقها كباطلها، فليكن جد الشعر فوق هزله، وليكن حقه فوق باطله، وليكن الكميت في هاشمياته فوق شعراء عصره جميعاً.
عبد المتعال الصعيدي
من أجل فلسطين
وطن يعذب في الجحيم
للأستاذ أحمد محرم
خُلُقُ (العروبِة) أن تجدَّ وتدأبا
…
وسجيَّةُ (الإسلام) أن يتغلْبا
لا تلكَ تخفض من جَناحَيها، ولا
…
هذا يرُيدُ سوى التفوق مطلبا
رَفعَ النّفوسَ عن الصَّغارِ، وصانها
…
عن أن تَخافَ عدوَّه أو تَرهبا
دينُ الفتّوةِ والمروءةِ، ما طغت
…
لُجَجُ المنايا حّوْلَه فتَهيَّبا
المؤمنونَ على الحوادثِ أخوةٌ
…
لا يعرفون سوى (الكتاب) لهم أبا
سَلهْمُْ عَلَى شَرفِ الأُبُوَّةِ هَل رَعوا
…
ما سنَّ من أدب الحياة وأوجبا؟
بَيتٌ تَفّرق في البلادِ، وَأُسرةٌ
…
صَدعَ الزمانُ كيانَها فتشعَّبا
وَهَنَ البناءُ، فَعَاث في فَجَواتِه
…
عادِى الفساد مُدَمَّراً ومُخرّبا
لَبَّيْكَ يَا (وَطنَ الجهاد) ومرحبا
…
لَبَّيْكَ من داعٍ أهابَ وَثَوَّبا
لَبَّيْكَ إذ بلَغَ البلَاء، وإذْ أبَى
…
جدُّ الزَّمانِ وَصَرِفه أن نلعبا
مَنْ ذا يَرى دَمَهُ أعزَّ مكانةً
…
من أن يُخضَّبَ من (فلسطين) الرُّبى؟
كَبَّرْتُ حِينَ عَفا الوفاءُ. ومَا عَفا
…
في أرضها أثرُ (البُراق) وَلا خَبا
إني أرى (المعراجَ) عند جلالهِ
…
وأرى (النبيّ) وصحبَه والموكبا
وَطَنٌ يُعَذَّبُ في الجحيم وَأمَّةٌ
…
أعزِزْ علينا أن تُصابَ وتَنُكبا
بقُلوبناَ اَلْحرَّى، وفي أحشائنا
…
ما شَبَّ مِنْ أَشجَانها وَتَلهَّباَ
وِبنَا مِنَ الألمِ المبَرّح ما بها
…
وأرى الذِّي نَلْقَى أشدَّ وأصعبا
نَتَجَرَّعُ البلوَى، ونَدَّرِعُ الأسى
…
نَرْعَى لاخوتنا الذّمامَ الأقربا
إنّا لَنعلمُ أنَّ آكلَ لَحْمهمْ
…
سَيَخُوضُ مِنّا فيِ الدّماء ليشربا
جَعلوا الكفاحَ عن العروبةِ حَرثُهُمْ
…
وَتَعَهَّدُوهُ، فَكَان حَرْثاً طَيَبّا
يَسْقُونَ مَا زَرَعُوا دماً في مخْصبٍ
…
لولا الَّدمُ الجاري لأصبحَ مُجْديا
(البيتُ) يَطْرَبُ من أنين جريحهم
…
أرأيتَ فيِ الدُّ ُنْيَا أنيناً مطربا؟
إِنّ الّذِي زَعَمَ السَّلَامَ مُرَادهُ
…
جَعَلَ الدّماَء سَبيلهُّ والمركبا
إن كان قدَ غَمَرَ الزمانَ وأَهْلَهُ
…
كَذباً، فَمِنْ عاداته أن يَكذبا
رَكِبَ الرياحَ إلى القويّ، يَرُوضُهُ
…
شَرساً، يُقَلّبُ ناَبهُ وَالمخْلَباَ
طَارَت بِهِ، وَفؤُاَدُه في روعةٍ
…
يَتَلمَّسُ الْمَهْوَى ويبغي المهربا
أرأيت إذ سَكَبَ الدُّمُوعَ غَزِيرةً
…
يَأبَى الحياءُ لمثلها أن يُسكبا؟
مُتصنَّع، باسم الضَّعيفِ يرُيقهُاَ
…
وهو الذي ترَكَ الضَّعيفَ مُعَذبا
مَا كانَ أَصدقَ نُسْكهُ لو أنه
…
رَحِمَ البرىَء، ولم يُجابِ المذنبا
يَهذي بذكرِ العدلِ في صَلَوَاته
…
أرأيتَ عَدْلاً بالدماءِ مُخضَّبا؟
(رُسُلَ العروبِة) هَلْ سَأَلتم جُرحَهاَ
…
مَا بالُهُ اسْتَعْصَى؟ ومَاذا أعقبا؟
جُرْحُ تَقَادَم عَهْدُهُ، وتَفتَحَّتْ
…
أَفْوَاهُه ُتَدْعُو الأسَاةَ الغُيَّبَا
أنتم أُساةُ الجرخِ، فاتخذوا له
…
من طِبّ (شيخ أُساتكم) مَا جَرَّبا
وَصَفَ الدّوَاَء لكم، وخَلَّف عِلْمَهُ
…
فيكم، فأَين يُريدُ منكم من أبى؟
يَا قَوْم لَسْتُم بالضّعافِ فغَاِمروا
…
وَخُذُوا مَطَاِلَبكم سِراعاً وثُبّا؟
أفما كفاكم قُوّةً من دِينكم
…
ما جَمَّعّ الإيمانُ فيهِ وألَّبا؟
يَا (آلَ يَعْرُبَ) مَنْ يُرِيني (خالداُ)
…
يُزجى الخميسَ، وَيَسْتَحِثّ المِقنَا؟
مَنْ شاَء منكم فَلَيُكنْهُ، وَلَا يَقُل
…
ذَهَبَ القديُم، فإِنهُ لَنْ يَذهبا
السَّر باقٍ والزَّمَان مُجدَّدٌ
…
وَالسيفُ مَا فّقّدّ المَضاَء وَلا نَبا
رُدُّوا المظالِمَ عن مَحارم أمَّةٍ
…
رَدَّتْ ظُنُونَ ذَوي الجهالة خُيَّبا
لَمْ يُعُطِْ أوطانَ حَقَّهَا
…
مَنْ كانَ يَطْمَعُ أَن تُباَعُ وتوهبا
أحمد محرم
جحيم
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
أتخافين في اقترابك مني
…
واقترابي مصارع العشاق؟
أم تخافين أن ترانا عيون ال
…
ناس في خلوة وطيب عناق؟
أم تخافين ألسن الناس تمشي
…
في هوانا بالسوء عند التلاقي؟
أم تخافين لوم من ليس يرضي
…
هـ لقائي واللوم مر المذاق؟
لو سما غيرنا إلى أفق الحب
…
ولاقوا في حبهم ما نلاقي
لاستراحوا من التهامز والغمز
…
فقرّتْ قلوبهم والمآقي
ضللتهم شكوكهم فاستباحوا
…
ما استباحوا من الدم المهراق
وبقينا كما ترانا صديعين
…
على الدهر في جحيم باق
لَم مَنَّيْتنِي إذا كنت تخشين
…
لقائي وتنكرين اشتياقي؟
لِمَ جددت باللقاء الأماني
…
ثم عذبتني بهذا الفراق
لِم أوريت باللقاء حنيني
…
ثم أسلمتني إلى أشواقي؟
لم عجَّلت اللقاء بتوْد
…
يعي فودعتني بهذا التلاقي؟
أتسرين بالضرام إذا ما
…
شب في أضلعي وفي أحداقي
أتسرين بالمدامع تجري
…
إن دمعي دم الفؤاد المراق!
عبثاً أرتجي لقاءك ما دم
…
تِ تخافين خلوة المشتاق
عبثاً أرتجي لقاءك ما دم
…
تُ على القرب والنوى في احتراق
أين عيناك
للأديب محمد هاشم الموصلي
يا حبيبي تطاول البعد واربدّ
…
تْ سمائي بحالكٍ من غمام
أين عيناك تقرأان بعينيّ
…
سطور الشقاء والآلام
وأرى فيهما بريق أمانيّ
…
فيغفو قلبي على الأحلام
أبداً تعتري فؤاديَ ذكرا
…
كَ فاهتزّ من أسى وهيام
كلما أوشكتْ تحور إلي البر
…
ء جراحي تجددت بابتسام
يا نجىَّ في وحدتي وسميري
…
ورُؤى مقلتي وطيف منامي
طف بقلبي كما تطوف ألامانيّ
…
وهدهد جرح الغرام الدامي
ثم كفكف مدامعي فعيوني
…
ليس ترقا من لوعة وغرام
وارْو من مورد الحنان بقايا
…
مهجة لم تُرَعْ من الأسقام
(حمص)
محمد هاشم الموصلي
كيف يعيشون.
. .؟
للأستاذ رفيق فاخوري
من لي بقلب كالصفاة مُفْلق
…
غفلان من سجن الهموم مغلق
خال - كجوف العير - مما ينفع
…
ليس له وليس فيه مطمع
من العلوم والفنون أصفى
…
فما يحير الدهر منه حرفا
لا يعرف الكْتب ولا الدروسا
…
أفرغ من فؤاد أم موسى
إِمَّا يطف به الغباء يعلق
…
وإن يلامسه الذكاء يزلق
من لي بمال تالد ما تعبت
…
يدٌ بجمعه ولا رجلٌ سعت
أنفقه في طاعة النفس متى
…
شئت ولا أعرف من أين أتى
يسحرني في الكيس حسن شكله
…
يعجبني في السوق صدق فعله
أحمد آبائي عليه ألفاً
…
أغرف باليدين منه غرفا
ببأسه أطول من يطاول
…
بسيفه أصرع من يصاول
أشري به جاهاً وعزاً أغلبا
…
وسؤدداً فوق الُّسها مطنَّبا
ونسباً متصلاً بيعرب
…
ما خالطته لوثة من أجنبِي
لو أن لي هذا الذي وَصَفتُ
…
لعشتُ في قومي كما أردت
سبحان من قد سوَّد البهائما
…
وخصَّ بالمكرمة السوائما
رفيق فاخوري
البريد الأدبي
والله لا يستحي من الحق
قرأ ابن كثير في رواية شبل: (لا يستحي) بياء واحدة، وهذه تميمية، كما قال الأخفش، واستحيا حجازية، (ووزنه على هذا (يستفع) إلا أن الياء نقلت حركتها إلى العين وسكنت؟ وقيل المحذوف هي العين وهو بعيد) كما قال العكبري، وفي (الأساس):(واستحييت منه، واستحيت، وأنا أستحي منه) وفي (الصحاح): (يقال: استحيت بياء واحدة، أعلوا الياء الأولى والقوا حركتها على الحاء) قال سيبويه: (وإنما فعلوا ذلك حيث كثر في كلامهم) وفي (القاموس): (واستحى منه) وفي (التاج) كلام مستفيض في هذه الفظة، وفي (اللسان):(واستحيا واستحى حذفوا الأخيرة كراهية التقاء الياءين. الأزهري: للعرب في هذا الحرف (يعنى الكلمة) لغتان) واستحيا هي الفصحى، واستحى فصيحة
(* * *)
جائزة واصف غالي باشا
أرسل واصف بطرس غالي باشا إلى المسيو فرنسوا بياتري رئيس جمعية (فرنسا ومصر) كتاباً قال فيه: - (بمناسبة الذكرى الثالثة لإنشاء هذه الجمعية رأيت تنويها بما تبديه فرنسا من الاهتمام الخاص نحو مصر أن أرسل إليكم تحويلاً بألف جنيه عسى أن يكون في وسع الجمعية أن تنشئ من إيراد هذا المال جائزة لمكافأة الأعمال الفنية والعلمية والأدبية التي تزيد في إنماء العلاقات والروابط العلمية والأدبية والاقتصادية بين البلدين، أو تنشئ نوعا من المباراة بين الطلبة الفرنسيين والمصريين في موضوعات تتناول عمل فرنسا واشتراكها في أي فرع من فروع الحياة المصرية. وما أوسع مجال هذا العمل منذ الحروب الصليبية إلى الآن. وإني أعرض عليكم هذا الرأي كعضو في الجمعية تاركاً لكم حرية العمل كما تشاءون)
ومن العلوم أن واصف بطرس غالي باشا انتخب منذ حين قريب عضوا في اللجنة الفخرية في هذا الجمعية.
مكتبة الأزهر
تحتوي مكتبة الأزهر على أعظم مجموعة من المؤلفات العلمية القيمة بعد مجموعة دار الكتب المصرية. إذ أن فيها الآن نحو 160 ألف مجلد في مختلف العلوم والفنون قديمها وحديثها، وأكثر هذه المجلدات من تأليف فحول العلماء في مصر والبلاد الإسلامية الأخرى في العصرين القديم والحديث.
ويكاد يزيد المخطوط من المؤلفات في هذه المجموعة النادرة من الكتب على نصفها. فهو لا يقل بحال عن ثمانين ألف مجلد ويستطيع من يرى تلك المخطوطات في المكتبة الأزهرية أن يلمس مالها من قيمة، فهي تعطي صورة كاملة للخطوط في مختلف الأمم والعصور الماضية. فهذا أندلسي، وذاك كوفي، وذلك فارسي، وهذه كتابة على رق غزال، وتلك سطور في رقاع يرجع تاريخها إلى ما قبل قرون وأجيال.
وبين الكتب المخطوطة في مكتبة الأزهر كتاب (غريب الحديث) للأمام أبى عبد الله القاسم بن سلام المتوفى سنة 223 هـ وهو مكتوب بخط أبي الخطاب الحسيني بن عمر ألعابدي؛ وقد فرغ من كتابته سنة 311 هـ أي قبل بناء الجامع الأزهر بثمانية وأربعين عاماً.
وقد تشرف جلالة الملك فأبدي اهتماما خاصاً بهذا الكتاب الذي يكاد يكون أقدم مؤلف مخطوط في بابه، وتكاد النسخة الموجودة منه في الأزهر تكون مقطوعة النظير حتى أن جلالته أوصى بالمحافظة عليه ويلي هذا الكتاب في قدم العهد بكتابته مؤلف مخطوط آخر هو (رسالة في الحاسد والمحسود) ألفها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وكتبها بخطه على بن هلال المتوفى سنة 412 هـ. أي أن هذه الرسالة قد مات كاتبها منذ 944 سنة.
وفي المكتبة مجموعة من المصاحف المخطوطة مختلفة الأحجام والخطوط، ومنها مصحف يرجع تاريخ كتابته إلى أوائل القرن الرابع الهجري، وهو مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال من القطع الكبير.
ومنها مصحف كتبه علي بن أمير حاجب بخطه سنة 722 هـ وأتم كتابته في ستين يوماً، وهو في مجلدين كبيري الحجم، في كل منهما نصف القرآن. ويمتاز هذا المصحف الخطي النادر بما في أوله من إحصاء دقيق بعدد حروف القرآن، وآياته، وسوره ورموز القراءة، والسجدات والسور التي تشمل على الناسخ والمنسوخ، وكيفية نزول القرآن، وجمعه وبيان بعض القراءات.
حول تيسير قواعد الإعراب
لقد شاءت الآنسة الفاضلة (أمينة شاكر فهمي) أن ترد علي بعد أن نبهتها إلى تلك الأخطاء الظاهرة في ردها الأول، ومنها أنها لا تزال تدعى أنى غيرت الإعراب وأبقيت القواعد على ما هي عليه، مع أني غيرت القواعد أولا، ثم غيرت الإعراب ثانياً، وإني بعد هذا لا يسعني إلا أن اختار السكوت فيما بيني وبينها، والسكوت في بعض الأحيان قد يكون خير من رد.
(أزهري)
دراسة التصوف في أوربا
يحلو لكثير من المشتغلين بدراسة التصوف الإسلامي أن يقارنوا بينه وبين التصوف في العصور الوسطى في أوربا، وبينهما وبين التصوف الهندي، وهى بحوث لا تخلو من لذة، ويزعم بعض المستشرقين أمثال الأستاذ فون كريمر أن التصوف الإسلامي يرجع في بعض نواحيه إلى النرفانا، ويماثلونها (بالفناء) عند الصوفية من أهل الإسلام، وينقض هذا الرأي الأستاذ رينولد بيكلسون - وهو اليوم أعظم المشتغلين بهذه الناحية - ويرى أن الزهد الإسلامي مستقل عن أي تصوف آخر، ويميل لهذا الرأي الأستاذ ماسنييون وهو أيضاً من أقطاب الباحثين فيه.
وعلى الرغم من كثرة الكتب في هذا الباب، فإن هناك عدداً وفيراً لازال رهن المخطوطات، ومبعثراً في دور كتب أوربا؛ ومن المشتغلين اليوم بهذا الفرع من الدراسة الأستاذ آرثر حنا أربري (وكان من قبل أستاذاً بكلية الآداب بالجامعة المصرية) فنشر بضع مخطوطات منها كتاب (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النَّفري (المتوفى سنة 360 هـ)، وطبعه في سلسة جب التذكارية، وأرفق النص بترجمة له، ودراسة وافية - بالإنجليزية - عن الألفاظ الصوفية التي استعملها المؤلف، واصطلاحات المتصوفة ومقدمة في حياة النفري.
وأسلوب النفري في غاية العمق، كما أن كثيراً من عباراته تكاد تكون غامضة مهمة تتطلب خبرة غير قليلة ودراسة قوية للتصوف، أما المخاطبات فبينه وبين الحق، كما في قوله
(أوقفني في العلم وقال لي: حجبتك بعلمك في حجاب من علمك فما عرفتني، فإن لم تخرج من علمك إلى معرفتك فأنت في حجاب من العلم) وابن عبد الجبار النفري يتكلم عن ناحية الإلهام وعن الذات الإلهية،، ومواقفه بين يدي الحق مثل موقف العز والانتقام والخوف ثم تعتريه حالات تطرأ على نفسه فيذكرها.
كذلك نشر الأستاذ أربري من قبل في مصر كتاب التوهم للحارث بن أسد المحاسبي (سنة 243هـ) وهو أشبه ما يكون برواية طريفة في ذكر الجنة والنار، وكان ابن أسد المحارثي هذا من معاصري احمد بن حنبل (راجع تاريخ بغداد ج8 ص211 - 126) وأسلوب المحاسبي في هذا الكتاب أميل للناحية الأدبية، والقطعة التالية منه تبين أسلوب الكتاب ومرمى المؤلف، يقول (وتوهم حين وقفت بالاضطراب يرعد قلبك، وتوهم مباشرة أيديهم على عضديك وغلظ أكفهم حين أخذوك، فتوهم نفسك محثوثة في أيديهم وتوهم تخطيك الصفوف، طائر فؤادك، فتوهم نفسك كذلك حتى انتهى بك إلى عرش الرحمن فقذفوا بك من أيديهم، وناداك الله عز ووجل بعظيم كلامه، (أدن منىّ يا ابن آدم) فَغَيَّبَك في نوره) وقوله في موضع آخر حيث الصراط (فتوهم نفسك وقد أنهيت إلى آخره فغلب على قلبك النجاة وعلا عليك الشفق، وقد عانيت نعيم الجنان وأنت على الصراط). .
ويشتغل الأستاذ أربرى هذه الأيام في إخراج مخطوط آخر للمحاسبي، وهو يجد لذة في إخراج أمثال هذه المخطوطات التي ليس من شك في أنها تلقى ضوءًا جديداً على دراسة التصوف، وتنير السبيل للباحثين فيه.
وهناك من المستشرقين المهتمين بهذه الناحية الأستاذ ميشيل أزين بلاتشيوس الأسباني، وهو يعكف منذ أمد بعيد على دراسة التصوف الإسلامي، والفلسفة الإسلامية وخاصة ما كان منها متعلقاً بمسلمي أسبانيا، وقد نشر منذ أمد بعيد رسالة قيمة عن ابن مرْة (بالأسبانية) عالج فيها مبادئه وآراءه، وأفكاره السياسية، وبسط فيها الفكرة الشيعية التي أثرت عليه فجعلت منه داعياً وفيلسوفاً.
المستشرقون والحياة الشرقية
في الخامس من شهر سبتمبر الماضي انعقد بمدينة بروكسل مؤتمر المستشرقين، حيث ألقى فيه الأستاذ (بروجلهاون) - وهو من علماء الاستشراق المعروفين بحثاً وافياً عن تطوّر
الشعر العربي في نصف القرن الأخير، وألم فيه ببعض شعراء مصر. واهتمام المستشرقين بدراسة الأدب العربي ليس بالشيء الجديد، وإن كان - على أية حال - يشير إلى عناية هؤلاء القوم بدراسة الشرق في نواحي تفكيره المختلفة. وفي عصوره القديمة والحديثة على السواء.
ودراسة المستشرقين لأقطاب الفكر العربي دراسة تحلو من كل مغمز، قوامها تحليل ما يكتبه هؤلاء وعرض آثارهم الفكرية على العالم الغربي والمهتمين بتتبع الأمور في بلاد الشرق. ومنذ أمد قريب نشر الأستاذ كراتشوفسكي المستشرق الروسي مقالاً عن الأدباء المحدثين في مصر وسورية، كما نشر من قبل الأستاذ جب سلسلة من الأبحاث القيمة الدقيقة في مجلة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، تناول فيها أدباء مصر ومؤلفاتهم، كذلك نشر الأستاذ كمبفماير عدة بحوث عن شاعر العراق المرحوم جميل صدقي الزهاوي، وترجم إلى الألمانية بعض قصائده.
والمتتبعون لما يكتبه الدكتور بروكلمان يرون أنه في الملاحق التي أضافها لكتابه قد تناول كثيرين من أدبا العربية في مصر والشام والمهجر أمثال العقاد وهيكل والمازني وطه حسين والزيات ومنصور وفهمي وسلامة موسى وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة واليازخي وغيرهم مشيراً خلال ذلك إلى إنتاجهم الفكري في الترجمة والتأليف.
ولما طبع المرحوم شوقي بك روايته (مجنون ليلى) ترجمها بأذن منه الأستاذ أربري وكان إبان ذلك الوقت أستاذاً بكلية الآداب بالجامعة المصرية، ولقد حافظ المترجم في ترجمته هذه على الروح الأصلية فجاءت آية في بابها، ومثالا يحتذي في دقة الترجمة، وإدراك العاني كما تدل على أصالة شعرية وطبع موهوب، ولعل البعض يسأل عن علة اختيار هذه الرواية بالذات؛ والجواب على ذلك أن الأستاذ ممن لهم ولع بدراسة التصوف الإسلامي في رواية مجنون ليلى تتجلى روح قل أن تنبه لها إلا القليلون، تلك هي أن ليلى عاشت عذراء وماتت عذراء طاهرة رغم زواجها وقصارى القول أن عناية المستشرقين روائع الأدب العربي الحديث إلى لغاتهم الأوربية أو الكتابية عن أقطاب الفكر في مصر والشام وغيرهم من المعاصرين لها دلالتها على حيوية الأدب الحديث، كما أن فيها إطلاع الغرب على النهضة الفكرية في الشرق.
ح. ح
المسرح والسينما
شيء من لا شيء أيضاً
مدت سينما ستديو مصر عرض فلمها الأول لهذا الموسم (شيء من لا شيء) أسبوعاً آخر، دالة بذلك على أن الإقبال عليه كان عظيماً في الأسبوع الأول. وهذا صحيح، فقد أقبل المتفرجون والمتفرجات ووحدانا ومن كل فج من فجج القاهرة والضواحي لرؤية باكورة إنتاج ستديو مصر في هذا الموسم، ومصدر ذلك الإقبال الذي شاهدناه بأعيننا هو أن الجمهور اعتاد من هذا الاستديو الكبير أفلاماً ممتازة بين زميلاتها المصرية، قوية بالنسبة لغيرها، في الموضوع والإخراج والتمثيل والمونتاج. وقد يجوز لنا أن نعترف لهذا العلم بأنه حققا الأمل ولكن إلى حد، لأنه وإن كان قوياً في بعض النواحي ضعيف في أكثرها، ولاسيما الفنية منها. وذلك ما نأسف له كثيراً، ونهتم له كثيراً في الوقت عينه. وما دمنا كذلك فلا يلمنا لائم إذا نحن عرضنا لتعداد بعض ما في هذا الفلم من عيوب، بعضها ظاهر لاحظه الجمهور كما لاحظناه، وسجله نقاد آخرون كما سجلناه، والبعض الآخر تسنى لنا أن ننفرد بتسجيله حتى يتنبه المسؤولون إليه ويعنوا بتلافيه في الأفلام القادمة.
الرواية: خيالية شرقية مقتبسة من ألف ليلة وليلة، وهي في الأصل غنية بالمواقف المؤثرة والمناظر المضحكة والعبارات الرائقة وفي رأينا أنها صالحة لأن يصنع منها سيناريو جيد
السيناريو: كان ضعيفاً مع الأسف، الشديد، فليست له وحدة تجلو الموضوع من جهة، و (التقطيع) فيه مقتضب وغير متمش مع أصول القصة من جهة أخرى، وقد كان ذلك مثار دهشة النفاد جميعاً لأن أفلام الاستديو السابقة كان لها سيناريات أقوى وأمتن وأدق من هذا السيناريو
الإخراج العام: لعله أحسن ما في هذا الفلم. وهذه شهادة طيبة للأستاذ بدر خان مخرجه، فقد راعى فيه الفن كل المراعاة تصميم الديكور: لم يكن به عيب، ولكن اغلبه التقط من زوايا غير مناسبة ومجموعة الديكور في (شيء من لا شيء) خير من سائر مجموعات الأستديو السابقة بلا استثناء.
الملابس: لم نفهم فيها شيئاً، وكانت خليطاً غريباً من ملابس العرب والمسلمين والعرب والروس والأروام في وقت معاً، ولعل مرجع ذلك أن الرواية خيالية، وتنسيق الملابس كان
اجتهادياً.
الحوار: كان سخيفاً مع أن واضعه من مشاهير كتاب الحوار. وقد علمناً أنه كلف بكتابته سجعاً، وقد بينا أثر السجع على انتباه الجمهور في العدد الماضي فلا داعي لإعادته. ونحن نرجو بشدة ألا يتكرر مثل هذا.
الأغاني: لم يصادفها التوفيق قط، وكان تلحينها (أوبرا) مزيفة، وفي مناسبة الأوبرا ومناسبة الغناء الارتجالي العادي، وكانت فاترة ولاسيما أغاني بطل الفلم عبد الغني السيد الذي سمعنا له مقطوعات في الإذاعة أقرب إلى طبيعة صوته وأدنى إلى الجودة وبراعة التلحين من مقطوعاته بالفلم.
التمثيل: وفق الأبطال المضحكون الثلاثة كل التوفيق في إضحاك الجماهير. ولكنهم فشلوا كممثلين سينمائيين. فقد كانوا يتبعون طريقة المواقف المسرحية الاستعراضية، وكانوا يكثرون من (القفش والتنكيت) وكان لهم في بعض المواقف (تهريج) غير محمود وإن كنا نظن أنه أعجب كثيراً من الناس. وقد طغى الجانب الفكاهي على الجانب الغنائي، وفشلت نجاة على وزميلها عبد الغني السيد في أداء دوريهما فشلاً ذريعاً، والمسئول عن ذلك هو المخرج دون سواه؛ ويكفي أن نقول إن وجه عبد الغني السيد لم يكن يعبر عن شيء قط، وكانت حركات فمه أثناء الغناء غير متفقة مع مخارج الكلمات التي ينطقها!
المونتاج: أصيب الفيلم من جرائه بتلف كبير واقتضبت لقطات كثيرة دون سبب ظاهر. مثال ذلك عبد الغني السيد حين عاد إلى غرفة حبيبته من الخارج فوجد بها الأمير عنتر يحاول أن يقبلها، فقد رأيناه يدخل الغرفة، ثم رأيناه مباشرة (نازل طحن) في الأمير عنتر ورجاله بسيف من سيوف الشيش لم يعرفه المسلمون دون ريب من قبل هذا الفيلم! ولولا المونتاج لكان الفيلم أقوى كثيراً مما هو الآن.
كلمة أخيرة: ويطول بنا الكلام إذا نحن توسعنا في ذكر سائر العيوب ولذلك نكتفي بما قدمنا، راجين من حضرات الأخوان الذين يخصهم هذا الكلام من رجال الاستديو أن يطالعن بغاية، ويجتهدوا في تلافي هذه العيوب في الأفلام القادمة ولعل ذلك يكون قريباً إن شاء الله، أن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا وما توفيقنا إلا بالله.
والت ديزني
وأخيراً!!.
لاشك أن رواد السينما يعرفون رجلاً اسمه (والت ديزني) يقدم لرواد السينما من وقت لآخر قطعا من الرسوم المتحركة الملونة نالت إعجابهم وتقديرهم لأنها في الحق بلغت الذروة في جمال رسومها وألوانها. . . استمر والت ديزني هذا يعمل ثلاث سنوات في الخفاء أنفق خلالها مليونً من الجنيهات المصرية وبمساعدة 500 فنان أنتج (الأميرة الصغيرة والأقزام السبعة) وهي اعظم فيلم عرفه العالم في هذا النوع.
بهجة الحياة
رأت شركة ر. ك. و. راديو أن تشارك الأمة المصرية أفراحها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك فقررت عرض رواية (بهجة الحياة) أعظم رواية مضحكة أنتجتها شركات السينما للآن تمثيل إيرن دن ودوجلاس فيربنكس الصغير؛ وهذه الرواية عرضت في لندن 4 شهور متوالية، وفي نيويورك 7 شهور وفي باريس 3 شهور، وفي روما 5 شهور!! وقد نالت هذه الرواية نجاحاً لم يسبق له مثيل في العالم، ويكفى أن نقول: إنها أضحكت كل مدينة بأسرها حينما عرضت فيها ونالت إيرن دن بعد تمثيلها هذه الرواية لقب أعظم ممثلة مضحكة! أما دوجلاس فيربنكس الصغير فقد أصبح من كبار ممثلي السينما بعد أن أضحك أوربا وأمريكا!
ومن أظرف ما يروى عن هذا الفلم أنه حين عرض في نيويورك أغمي على 37 شخصاً من شدة الضحك في الحفلة الأولى، وكانت هذه أقوى دعاية عرفتها السينما لفلم ما!