الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 278
- بتاريخ: 31 - 10 - 1938
إحياء الأدب العربي
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشرت الصحف اليومية أن صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف (يعنى الآن بدراسة طائفة من المشروعات التي ترمي إلى بعث كتب الأدب العربي القديم، وصوغها في أسلوب عصري يقرب من ذوق الطلاب ومريدي الأدب، وإن الوزارة تفكر في نشر المخطوطات المجهولة التي تتصل بالأدب المصري وفيها فائدة للطلاب)
وإن الوزير الأديب ليصنع خير صنيع إذا وجه وزارة المعارف هذه الوجهة النافعة، ولديها ولا ريب وسائلها الوافية. فالآداب العربية مشحونة بالذخائر النفيسة التي عليها طابع الذهن العربي والحياة المشرقية لا يشركها فيها أدب من آداب الأمم الأخرى بمثل هذه الخصائص أو بمثل هذه الوفرة. وعندنا في الكتب المطبوعة والمخطوطة ثروة من أدب النوادر والفكاهات والأمثال والآراء الموجزة والملاحظات النفسية لا تجتمع في أدب أمة أخرى. وأحسب أن الأجوبة العربية التي اشتهرت بالأجوبة المسكتة لو ترجمت كلها إلى اللغات الأوربية لغطت فيها على شهرة الأجوبة اللا كونية المنسوبة إلى إسبرطة والمأثورة بين الأوربيين بالإيجاز والإفحام والمضاء، وتشبه هذه الأجوبة الأمثال والحكم والمشورات والنوادر التي يسوقونها بغير تعقيب ولا تفسير، ولكنها كبيرة المغزى عظيمة الإيحاء عند التأمل فيها والتدبر في أغراضها. ويقترن بما تقدم كله سير (الشخوص) التاريخية التي ظلمناها بإهمالها واستصغارها، وإن في كلمة من بعض كلماتها، وفي حيلة من بعض حيلها، وفي خطة من بعض خططها، ما يسلكها بين أعظم الشخوص العالمية التي تحيا في سجلات التاريخ بكلمة أو بمشورة أو بخليقة من خلائق السيادة والسياسة
هذه ثروة يسرف من ينبذها وهو في حاجة إليها، ويسهل علينا جدَّا أن نضعها بوفرتها بين أيدي الناشئة المصرية فتغنم منها الفوائد الذهنية وتغنم منها الثقة النفسية في زمن كثر فيه المتحدثون بفضائل الأجناس والفصائل والأعراق
وقد نحصر الأسباب التي تحول بين الناشئة وبين هذه الثروة فإذا هي لا تخرج عن سبب من الأسباب الآتية وهي:
1 -
التطويل والحشو
2 -
التشتت والاختلاط
3 -
صعوبة المفردات والمصطلحات
4 -
العبارات النابية التي كان المؤلفون في جميع الأمم القديمة يقحمونها بين أخبارهم ولا يتورعون من التصريح بها لأنها من جهة لا تصل إلا إلى أيدي القليلين من نساخ الكتب للتعلم والإستفادة، ولأنهم من جهة أخرى كانوا يعيشون في زمن الفطرة التي لا نتحرج من بعض ما تحضره لباقات الحضارة وكناياتها
وجميع هذه الأسباب علاجها ميسور وعناؤها غير كبير
فالتطويل علاجه الاختصار، ونعني بالاختصار هنا حذف أجزاء وإبقاء الأجزاء الأخرى بنصها العربي القديم، لأن المقصود بالإحياء هو هذا النص لا مجرد الحكاية ولا فحواها. وقد يجوز أن نختصر حكاية لا تهمنا إذا كانت الحوادث هي المقصودة بالوعي والصيانة. أما إذا كان المطلوب هو نمط الأداء وأسلوب التعبير والنظر في وضع الجمل والمفردات فينبغي أن يكون الاختصار بطريقة أخرى غير طريقة التلخيص وتغيير الكلمات، ليعلم الطالب وهو يقرأ الكتاب أنه يقرأ المؤلف لفظاً ومعنى ولا يقرأ كاتباً حديثاً ينقل المعاني من ذلك المؤلف القديم
وأما التشتت والاختلاط فليس أيسر من ردهما إلى نسق واحد ونظام متلاحق. ولا ضير هنا من جمع مؤلفين عدة ومؤلفات شتى في كتاب واحد إذا اتفقت الموضوعات والمناسبات مع الإشارة إلى أسماء المؤلفين وأسماء الكتب في ذيل كل فقرة، وإلحاق المنقولات بترجمة وجيزة للمؤلف وبيان وجيز عن الكتاب
أما صعوبة المفردات والمصطلحات فعلاجها الأوفق في رأينا هو التفسير دون التغيير، وأن يترك ما هو صعب لمن هم أقدر على فهمه من الطلاب، وأن يقصر الناشئة الصغار على السهل السائغ في المعنى وفي التركيب؛ ولتدرس الكتابات المغلفة على النحو الذي تدرس به روايات شكسبير اليوم في الجامعات والمدارس الثانوية، أي مقرونة بالحواشي والهوامش ومقصوداً بها علم اللغة والإحاطة بالفحوى حيناً آخر، وذلك أفضل من نقلها إلى عبارة أخرى تخرج بها من نطاقها وهو نطاق الأدب القديم
وأسهل الأسباب التي ذكرناها علاجا هو سبب العبارات النابية والأخبار (المكشوفة) كما
نسميها في اصطلاحنا الحديث، فهذه كلها تحذف حذفا من الكتب التي يتداولها الطلاب ولا يسمح بالاطلاع عليها في المدارس ولا في الأسواق العامة إلا لمن يريدها من الباحثين والمنقبين عن أطوار الشعوب ودقائق التاريخ
بقى أن نعرف ما هي الكتب التي يشملها الاختيار والإحياء؟ وفي أي عنوان نلتمسها إذا طلبناها - مثلا - في إحدى المكتبات؟
أفي عنوان الأدب وحده أو في غير ذلك من العناوين والأبواب؟
والرأي، فيما أحسب، أن نوسع الاختيار حتى يشمل جميع الأبواب ولا ينحصر في باب الأدب وحده بمعناه المشهور
فرب كلمة عارضة في رحلة من الرحلات تصف مدينة أو رجلا أو شعبا من الشعوب هي أدخل في باب الأدب من رسائل المنشئين البلغاء
ورب قصة في سياق تاريخ هي أدب صميم وخيال محض ليس فيها من التاريخ بقدر ما فيها من الإبداع والافتنان
ورب شاهد في تفسير آية أو حديث يحتاج إليه الأديب أضعاف حاجة الفقيه
ورب مجاز في استخدام لفظ مهجور تحتويه المعاجم يكون مفتاحا لأسرار التشبيه والتعبير عند واضعيه الأولين
ورب شتيت متفرق بين كتب الجغرافية والنبات والطب والكيمياء يتألف منه رأي جميع لا يستغني عنه المقتبس والمستفيد
فالاقتصار على ما اشتهر من كتب الأدب يفوت علينا شوارد هذه الأبواب ويضيق علينا الأفق الذي نملك توسيعه إلى غاية مداه
فكل ما صلح للاقتباس والاطلاع فليقتبس من أي كتاب ومن أي باب، وإذا كنا لا نأخذ كل ما في باب الأدب فليس صواباً أن نغلق كل ما عداه من الأبواب
إن المطلب عظيم ومستطاع، وعند وزارة المعارف وسائله من المصادر ومن العاملين، وكل عناء مبذول فيه هو عناء دون الفائدة المرجوة منه للجيل الحاضر ولمقبل الأجيال
عباس محمود العقاد
في سبيل الإصلاح
المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ علي الطنطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
سقت إليك في الفصل الماضي طرفاً من حديث المشكلة، وانتهيت بك إلى الكلام على المشاكلة بين الزوجين، وأنها ركن كبير من أركان السعادة الزوجية، فإذا لم تكن مشاكلة، وكان بينهما اختلاف في الغنى أو العلم أو الجاه كانت الحياة الزوجية موتاً بطيئاً. على أنه لا بأس أن يكون الزوج هو الأعلى في جاهه أو ماله أو علمه، ولكن البأس كل البأس حين يكون الأدنى، لأن الغنى والعلم والجاه من وسائل السلطان، فإذا كانت للمرأة زاحمت الرجل على سلطانه، ونازعته رياسته ففسد الأمر، واضطرب حبل الودّ. وأحسب أن مبدأ الكفاءة في الزواج (في الفقه الإسلامي) هو الدواء لهذا الداء
وأنا متحدث إليك في هذا الفصل عن سائر أسباب الخلاف بين الزوجين، ولست أزعم أني متقصيها كلها أو محيط بها، فذلك مالا أقدر عليه، ولكني ذاكر منها ما انتهى إلىَّ خبره
موقف أهله وأهلها
فمن ذلك موقف أهله وأهلها، فانه من أظهر أسباب الخلاف بين الزوجين، وأكثرها انتشاراً بين ظهرانينا، حتى أنه يبلغ منا العجب حين نسمع أن داراً تجمع بين الكنه والحماة، ولا تجمع إليهما النكد والشقاق والبلاء تصبَّه على الزوج صباً. . . فلا يكاد يروح إلى داره ليجد فيها الراحة بعد تعب النهار، والهدوء بعد الكدح المضني، والكدَّ المميت، حتى تستقبله المعارك والشكايات والدسائس، وما أكثر القراء به عالمون. . . فيحار في أمره: لا يدري أيسوء أمه وهي التي حملته جنيناً، ورَّبته صغيراً، وأحبَّته وجعلته أملها في حياتها، أم يسوء زوجه وهي التي هجرت أهلها وفارقت عشها لتجعله أهلها من دون أهلها وأمنها ومفزعها، ثم إنها قد تكون بريئة لا ذنب لها ويجد أن أمَّه لا ترضى عنه حتى يفارق زوجه - وييّتم أولاده - وزوجه لا ترضى عنه حتى يطرد أمه، ويعصي رَّبه، وهما خُطتان أهونهما أصعب الصعاب، وخيرهما من شرَّ الأمور. . . وليس إلى إقناع إحداهما من
سبيل، لأن للمرأة منطقاً خاصاً، يجعل بينها وبين الرجل هوة لا يلتقيان معها أبداً، ويدع الرجل وإقناع ألف رجل أسهل عليه من إقناع امرأة واحدة. . .
والخلاف بينهما أزلي ثابت لا تتغير أسبابه. فالأم ترى أنها هي سيدة الدار لأنها الكبرى، ولأنها الأصل، وأن على الكنه التي أحضرتها بيدها واختارتها برأيها، أن تطيعها، وتعمل بأشارتها؛ والزوجة ترى أن الأم العجوز قد مضى زمانها، وذهبت أيامها، وأصبحت كالموظف المتقاعد، له مرتب وليس له أمر ولا نهي، وأنها هي السيدة في الدار، وأن لها الرأي في إدارتها. . ثم إنهما تختلفان على قلب الرجل، فالأم التي عرفته وليداً، وربته طفلا ويافعاً، وكان لها وحدها - لا تطيق أن تراه وقد صار لغيرها، ولا تقدر أن تبصر نفسها فريدة في غرف الدار، كأنما لم يكن لها ولد لأن ولدها خال بزوجته. . . والزوجة التي أعطت زوجها قلبها كله وحبها وحياتها ولم تجعل له شريكاً فيها، لا تستطيع احتمال هذه الشركة بينها وبين هذه العجوز، ولا يقنعها إلا أن يكون الزوج خالصاً لها. . .
وما يقال في الأم يقال مثله في الأخت، بل إن، الأخت إذا كانت عانساً لم تتزوج، وإذا كانت على بقية من شباب، تكون أشد على الرجل من أمه، لأنها أقل منها حباً وحناناً عليه، وأكثر غيرة لمكان الصبوة من نفسها، ولأنها ترى امرأة غريبة تستمع بالزواج الذي حرمت هي منه، ويكون هذا الزوج أخاها، غلبتها هذه الغريبة عليه، وحرمتها عطفه وحبه، فيكون حرمانها مضاعفاً. . .
هذا وليس ينفرد أهل الزوج بإدخال الألم عليه، وتنغيص حياته الزوجية، بل يشارك في ذلك أهل الزوجة، يكرهون فتاتهم على الزواج بمن لا تريده، لعلو سنه عن سنها، أو قبحه وجمالها، فلا يحفلون إرادتها ولا يبالونها لأنهم يرونه غنياً، فهم يبيعونها منه بيعاً، أو صاحب جاه فهم يجعلونها وسيلة إلى الانتفاع بجاهه، بل ربما زوجوا الفتاة بنت خمس عشرة، بالشيخ أبي الستين، ولم يستأ مروها ولم يروا رأيها، وربما زوجوها من الرجل القبيح. ولقد قال عمر (الرجل الملهم) فيما أحتفظ من قوله:(لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح فأنهن يحببن ما تحبون). . . فتدخل الزوجة دار زوجها وهي كارهة، فلا يأتي منها إلا مساءته وأتعابه، إن لم يسقها صباها وعجزه إلى أن تتصل بغيره من الفتيان أو تموت سلاً وكمداً
هذا طريق، ولأهل الزوجة طريق آخر إلى إفساد الحياة الزوجية، هو التقصير في تربية فتاتهم أولاً، وعجزهم عن ضبطها وتأديبها ثانياً. فإذا كانت الزوجة سيئة الخلق وعناء، فأنها تدع دار زوجها لأتفه الأسباب، وتذهب مغاضبة تشكو إلى أهلها وتستعديهم، فإذا كان أهلها عقلاء ردوها إليه، وأصلحوا ذات بينهما، ولاموها على خلوة بها، كما يلومونه على خلوة به، فيؤلف الله بين القلبين، وتعلم الزوجة أنه لا ملجأ لها إلا دار زوجها، ولا منجي لها إلا حسن خلقها فترضى وتستقيم، وأما إذا كان أهلها جاهلين فإنهم يغضبون لها غضبة الجاهلية فيعينوها على طلاقها ويزيدون في عنادها فيخربون بيوتهم بأيديهم، ويسوقون الشقاء إلى فتاتهم، ويكونون شراً عليها وعلى زوجها ووبالاً. . .
ودواء هذا الداء أن يبحث الرجل عن أخلاق الأسرة، وأسلوبها في تربية بناتها، وحال أمها مع زوجها ومبلغ طاعتها له ورضاه عنها، قبل الإقدام على الزواج، فإذا اطمأن إلى ذلك وصاهر عقلا حازما، وكان الزواج برأي الفتاة ورضاها، من غير احتيال عليها ولا إكراه لها، فقد أمن جانب أهلها، وبقى عليه جانب أهله. . . والمصيبة بهم أشد. . . والعلاج أن يتفرد عنهم بزوجته. فإذا لم يستطيع ذلك، فعليه بالحزم في الأيام الأولى، وأن يعرف لأمه حقها، فان زوجه تطيعه وتتخرج عليه وتتربى على ما يأخذها به، أما أمه فلا سلطان له عليها. . . ولا عليه بعد ذلك أن يرضى زوجته فيما بينه وبينها، ويعوضها بما فقدت من السيطرة في الدار، بما يدخل السرور على قلبها ويملؤه رضى وأملا والسبل إلى ذلك شتى
المشاكل المالية
أولها هذا (الجهاز) فكم ثار من أجله من خلاف، وكم هد من أسر، وكم أصاب من بلايا. . . يتنافس القوم من أجله في إغلاء المهور حتى تبلغ المئات من الجنيهات، فتبور سوق الزواج، وتكسد البنات، ثم إذا كتب الله على الزوج أن يدفع هذا المهر الفاحش، لم يكن دفعه غنما للأب ولا لفتاته، لأن عليه أن يدفع مثل ما دفع الزوج أو قريباً منه، ثم يشتري بذلك كله أثاثا ومتاعا، وما شئت من الخرثى الذي لا ينفع في دنيا ولا آخره، فمن خزانة محفورة منزَّل فيها أدق الأصداف ثمنها سبعون جنيها، ومن مقاعد وأرائك على نحوها ثمنها مائتان لكنها لا تقيم على الاستعمال عاما واحدا، ومن ستائر للنوافذ ثمن إحداهنَّ عشرة جنيهات، ومن أوان فضية وقوارير كولونية تصف على المناضد صفا، كصف الجند
ثم لا تفتح أبدا، والمناضد (نسيت المناضد) وثمن إحداهنَّ عشرات الجنيهات، وغير ذلك مما لا أعرفه ولا أذكر اسمه وان كنت قد رأيته في دور الحمقى والمغفلين. . .
ولقد عرفت شابا مستور الحال أراد الزواج فطلبوا منه أربعمائة دينار ذهبي، فباع داراً كانت لأبيه، وأعدَّ المهر، فسلمه إلى أم الزوجة، وضمت إليه أمها ثلاثمائة من عندها لتشتري بها جميعا (جهازاً) لابنتها، فلما بلغه ذلك طار عقله وذهب يقنع أم الفتاة أن تشتري لها بذلك داراً (عمارة) يكون لها ملكها وريعها وتبقى على الدهر فقبلت ومرت أيام فبلغه أنها قد عدلت عن ذلك وأنفقت المال كله في الجهاز. . . فسألها عن السبب فإذا السبب أن البنت بكت وقالت: هل أنا دون ابنة فلان، وقد جهزوها بكذا. .؟؟ قالت الأم:(فقطع قلبي بكاؤها، فلم يسعني إلا أن أفعل ما تريد. . .)
وتم العقد واستأجر الزوج داراً فخمة (على نسبة الجهاز) فلم تمض إلا شهور حتى ركبه الدين، فاضطر إلى استئجار دار تليق به، ويحتملها مرتبه، فلم يلق فيها مكاناً لهذا (الجهاز) فذهبوا يبيعونه؛ فلم يأتهم بأكثر من مائة وعشرين، وقد كان ثمنه سبعمائة. . .
ومن مشاكل الجهاز أن الزوجة تجده رأس مالها، وقنيتها في حياتها، فتحافظ عليه محافظتها على روحها، وتكره أن يدعى إلى الجلوس على مقاعده ضيوف زوجها، أو أن يدخل غرفته زوار أهله، وقد لا يكون في الدار غرفة للاستقبال سواها، لان الناس يجعلونها أبداً للاستقبال. فتبدأ المشاكل. . . وقد تنتهي بالطلاق. . . رأينا ذلك مراراً
وعندي أن الدواء إبطال الجهاز بالمرة، وأن يفرش الرجل داره كما يريد ويستطيع، ويشتري بالمهر القليل الذي يدفعه الزوج عقار تملكه الزوجة ويسجل باسمها، أو حلية ذهب تبقى لها محتفظة بثمنها
والمشكلة المالية الأخرى نفقات المرأة وكسوتها. وقد قدمت القول بأن كسوة النساء (إلا الضروري منها) تبذير من عمل إخوان الشياطين وإسراف لا جدوى منه، وسبيل إلى كل ما يكره الرجل وتأبى العادات والمروءات وينكر الدين، من أجل ذلك قال عمر الذي ينظر من وراء الغيب بعينين من إلهام وتحديث (استعينوا على النساء بالعرى) وليس يرى العرى المطلق، بل النزاهة عما يضيع المال والعرض معا!. . .
أقص عليك قصة امرأة واحدة، فيها وصف لنساء كثيرات، تلك هي امرأة موظف كبير
مرتبه ثلاثمائة ليرة سورية، وهو مبلغ في دمشق ضخم، تخرج من دارها كل يوم في عربة أو سيارة لا تستطيع لثقلها أن تمشي، فتطوف على بيوت الناس، فأصبحت تعرف عشرات من الأسر الغنية المبذرة. فلا يمر أسبوع لا تدعى فيه إلى عرس أو حفلة إلا كلفت زوجها كسوة جديدة. لأن من العار عليها أن ترى بثياب قد سبق فرئيت فيها من قبل. فتشتري الإزار والرداء (أو ما يقابله في الاصطلاح النسائي فما أعرف ماذا أقول. . .) والحذاء والجوارب، ويتراوح ثمن ذلك (كما حدثني المسكين وحلف لي) ما بين ستين وتسعين ليرة سورية فلا يقوم مرتبه كله بكسوتها. فيستدين ليتم لها ما تريد وينفق على نفسه وأولاده. حتى هذه الدين وأصبح مضطراً إلى بيع أملاكه المرهونة. . .
ومن النساء من لا تبالغ في الإسراف هذا المبلغ، فتكتفي بنصفه أو ثلثه، ولكن مرتب الموظف المتوسط نصف مرتب صاحبنا أو ثلثه، فتبقى النسبة على حالها؛ أما الموظفون الصغار كالمدرسين الذين يأخذون خمسين ورقة في الشهر وأربعين وثلاثين والصناع وصغار التجار، فتصور أنت موقفهم من نسائهم، فما يبلغ القول تقرير الحقيقة ووصف الواقع
ولست أزعم أن النساء كلهن عمياوات لا يبصرن حالة أزواجهن، وأن قلوبهن قد قدت من حجر فلا تشفق ولا تحزن، بل أن في النساء عاطفةً وحسَّا، ولكنهن يألفن حالة، فلا يطقن أن يراهن أحد على حالة دونها، ويستحيين من صاحباتهن ورفيقاتهن. . . ووراء هذه المشكلة الحزم في الأيام الأولى من الزواج (وهو رأس الأدوية كلها) وتقليل الاختلاط، والاقتصاد في زيارة الناس ومصاحبتهم، وليس من بأس بعد ذلك أن يخصص الزوج لزوجته مبلغاً من المال لكسوتها يدفعه إليها مشاهرة، ويدعها تفعل فيه ما تشاء، على أن تقنع به، ولا تسأله من بعده درهماً واحداً لكسوة أو ثياب. ولقد جرب هذه الطريقة كثير من الرجال فوجدوها صالحة مؤدية إلى الراحة والاطمئنان
مشاكل أخرى
إن من طبيعة المرحلة التي تجتازها اليوم أمم هذا الشرق الإسلامي: مرحلة الانتقال، أنه يلتقي فيها عصران، ولكنهما لا يأتلفان فيتحدان، ولا يختلفان فيتباينان، فينشأ عن ذلك هذا الازدواج في الحياة، فيعيش قوم في عصر مضى، وقوم في عصر لم يأت، فكيف يلتقي
الزوجان وبينهما عصر مديد. . . هو يعيش محافظاً، وهي تريد التجرد مما يحافظ عليه. هو متدين وهي رقيقة الدين! إن كل شيء يحتمل، ضياع المال والتعب والشقاء، ويجد الإنسان عزاءه عنه في انتظار ثواب الله، في الآخرة، يجد عزاءه في الدين، فإذا ضاع الدين فأين يجد العوض منه والعزاء فيه؟
لذلك كان أول ما يجب على الزوج أن يفكر فيه، هو أن يختار زوجه من طبقته ورأيه، محافظة أو تجديداً، وإلا كان الزواج شراً كله
هذا أصل يتفرع عنه فروع كثيرة، أولها: تأدية حق الله في العبادة، والمحافظة على الصلوات، والرجوع إلى أحكام الدين فيما يختلف فيه من أمور الحياة، إلى غير ذلك مما يراه المسلم رأس الأمر وملاكه ويسميه المجددون (المتجردون) رجعية وجموداً.
وثانيها: خروج المرأة من دارها، وحالها عند الخروج وزيها وزينتها، وتبرجها في الأسواق وتيممها السينمات ودور اللهو، وعرض مفاتنها على الرجال، وما إلى ذلك مما يسميه المسلم وقاحة ورذيلة وقلة حياء. . . ويدعوه المتجردون مدنية وتقدماً. . .
وثالثها: الاتصال بالناس، وتخصيص الأيام الكثيرة لاستقبالهم، وإضاعة الأموال في إكرامهم وتعطيل أعمال الدار، وتربية الأولاد في سبيلهم - وما يجره الاختلاط الكثير. . . الذي ينفر منه العقلاء، ويرونه فساداً لا خير فيه، وبابا لا يلج منه إلا كل ضرر، لأن النساء لا يقبسن من النساء إلا السيئ المكروه، ويراه أهل التجديد واجباً لا بد منه، وفرضاً لا تكون المرأة متمدنة محترمة. . . إلا به!
ورابعها: اتباع (المودة) والأيمان بها إيمانا لا شك فيه، والخضوع لها خضوعاً أعمى، والتعامي عما تجر على الأسرة والأمة من ضرر. وهذه ثمرة من ثمرات الاختلاط المرة، يراها العقلاء سخافة وحماقة، ويعدها أهل التجرد والتجدد من فروض العين!
ومن هذه المشاكل الفرعية الخلاف على تربية الأولاد حين يحكم المرأة عاطفتها فتأبى على الأب أن يأدب ابنه أو يأخذه بالحزم، وهذا فضول من المرأة لا معنى له.
على أنها قد تثور الثائرة بين الزوجين لغير ما سبب واضح، كأن يكون الزوج متألما في نهاره أو مصابا بمصيبة لا يحب لأن يسوء بها أهله، فيدخل مقطباً من حيث لا يشعر فتحسب الزوجة أن ذلك موجه إليها، فتغضب وتعرض، فيألم الزوج في نفسه، ويظن أنها
رأته في مصيبة فأعرضت عنه بدلاً من أن تعطف عليه وتواسيه، وينأى كل واحد منهما عن الآخر، ويوسوس له الشيطان حتى يصبحا متنافرين حقاً، وهذا مشهور يتكرر تمثيله دائماً، وداء يعتاد الأزواج في كل حين - ودواؤه الناجع كلمة يقولها أحدهما يشرح بها حاله، وقهر لهذه الكبرياء الخبيثة التي تمنعه من هذه الكلمة
كلمة الختام
وبعد فهذا كله سهل يُتداوى منه بشيء من الحكمة والحزم فما دواء حماقة الآباء في إغلائهم المهور، وتمسكهم بهذه العادات الباطلة، حتى أدى ذلك إلى (أزمة الزواج) التي اشتدت وعمَّت؟
ومتى نجد الأب الذي يملك في نفسه من الجرأة، وفي رأسه من العقل، وفي صدره من الدّيِن، ما يكسر به هذا السدَّ الذي يمنع عن الأمة كل خير وسعادة، ويعيد لنا سعيد بن المسيب في قصته التي رواها الرافعي (رضى الله عن الاثنين)؟
هل فسد الزمان حتى ما نجد في أربعمائة في أربعمائة مليون مسلم (سعيداً) واحداً؟
(دمشق)
علي الطنطاوي
مصر وعلاقتها بالخلافة
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
خاض الجند العرب غمار الفتن السياسية التي قامت بين الخلفاء الأمويين والخارجين عليهم، وكذا بين العباسيين ومناوئيهم. وكان لتدخلهم أثر ظاهر في هذه الفتن. وسنأتي بوصف موجز لها لنبين ما كان لدخول جند مصر في غمارها من أثر
تألب محمد بن أبي حذيفة على خليفة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وإخراجه إياه من الفسطاط إلى خلع عثمان، وأسعر البلاد بنار الثورة التي انتهت بقتل عثمان وتولية علي بن أبي طالب، وما تلا ذلك أيضاً من الحوادث التي قامت بين حزب علي وحزب معاوية، وقيام الدولة الأموية. ولا غرو فقد كان لجند مصر في هذه الحوادث كلها نصيب وافر، ناهيك بما كان من قتل عثمان الذي تمَّ على أيدي الثوار من مصر دون غيرهم من عرب البصرة والكوفة
وفي عهد يزيد بن معاوية، دعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه (سنة 64 هـ) وصادفت دعوته نجاحاً عظيما في بلاد العرب والعراق. إلا أن تنصَّل محمد بن الحنفية بن عليَّ بن أبي طالب عن مبايعة ابن الزبير، ومبايعة يزيد بن معاوية لعدم وثوقه بأهل الكوفة الذين خذلوا أباه وأخويه من قبل، وخروج الكيسانية مع المختار ابن أبي عبيد الثقفي، ودعوتهم لمحمد بن الحنفية؛ كل هذا فتْ في عضد ابن الزبير، وآذن بانحلال أمره
صادفت دعوة ابن الزبير في مصر بعض النجاح، فشد أزره أنصار العلويين اعتقاداً منهم أنه لأهل البيت، ولحق به كثير من المصريين، وسألوه أن يبعث إليهم والياً من قبله، فبعث عبد الرحمن بن جحدم الفهري، فدخل مصر في شعبان سنة 64 هجرية في جمع من الخوارج من أهل مصر وغيرهم الذين انضموا إلى ابن الزبير في مكة. فاضطر عرب مصر من شيعة بني أمية إلى مبايعته على كُرْهٍ
ولما بويع مروان بن الحكم في ذي العقدة سنة 64 هـ كاتبته شيعة الأمويين في مصر سراً، فسار في كثير من الأشراف وبعث ابنه عبد العزيز في جيش إلى أبلة (عند العقبة) ونشط ابن جحدم لحربه، وأشار عليه بعض رجاله بأن يحفر خندقاً (موقعه الآن بجهة
القرافة) فتمَّ حفره في شهر واحد، وفي ذلك يقول ابن أبي زمزمة الشاعر:
وما الجِدَّ إلاَّ مثل جدِّ ابنِ جَحْدمٍ
…
وما العزْم إلاّ عزمُه يوم خندقِ
ثلاثون ألفاً قد أثارُوا ترابه
…
وخدّوه في شهرٍ حديث مصدَّق
وبعث ابن جحدم الجيوش والمراكب لحرب مروان وابنه عبد العزيز، فانهزمت جيوش والي ابن الزبير، ولم ينفعه خندقه، ودخل مروان عينَ شمس ثم الفسطاط في أول جمادى الأولى سنة 65هـ. وبنى الدار البيضاء لتكون مقرَّاً له، وبايعه الناس إلاَّ نفراً ظلوا على تمسكهم ببيعة ابن الزبير، فضرب أعناقهم وكانوا ثمانين رجلا من المعافر. وقتل أيضاً سيد لخم (الأكدر ابن حمام بن عامر بن مصعب) فأتى زهاء ثلاثين ألفا من لخم، وهم مدججون بالسلاح، ووقفوا بباب مروان ثائرين فتوسط بعضهم في الصلح وانصرف الثائرون. واتفق أن توفي عبد الله بن عمرو ابن العاص في اليوم الذي قتل فيه الأكدر (15 جمادى الآخرة سنة 65هـ). فلم يستطيع القوم أن يخرجوا بجنازته لتألب الجند على مروان، فدفن في داره
لقد كان للجند العرب في مصر أثر ظاهر في الفتن التي انتهت بقتل عثمان وعلى أيديهم وحدهم تمَّ ذلك. ولما انتشر أمر ابن الزبير في الحجاز والعراق وامتدَّت دعوته إلى مصر حيث لاقت قبولا من نفوس العلويين أُخِذَت له البيعة على يد واليه عبد الرحمن بن جحدم الفهري، ولما بويع مروان بن الحكم سنة 64 هـ كاتبه أنصار الأمويين فسار إلى مصر وانتصر على أتباع ابن الزبير ثم دخل الفسطاط سنة 65هـ، وبايعه الناس إلا نفراً قليلا أمر بضرب أعناقهم
كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب في النزاع الذي قام بين العباسيين والأمويين، ذلك النزاع الذي انتهى بقيام الدولة العباسية. فلما أتى مروان بن محمد مصر فارا من وجه العباسيين لم يستطع أن يصد صالح بن علي الذي تعقبه إلى مصر، ولم يقو على مقاومته العباسيون، لما كان من تألب الجند عليه في هذه البلاد، فقد خرج القبط بسمهود، وخالفه عمرو بن سُهَيل ابن عبد العزيز بن مروان، وتابعه قوم من قيس، ونزلوا في الحوف الشرقي، وأظهروا العصيان. ولما علم جند مصر بمسير مروان إليهم أجمعوا على منعه، فلما قدم (22 شوال سنة 132هـ) ليس أهل الحوف الشرقي السواد لباس العباسيين، وحذا
حذوهم أهل الإسكندرية والصعيد
وعلى الرغم من هذا كله فقد استطاع مروان أن يدخل الجيزة، ومن ثم شرع في محاربة الجند العرب في الحوف الشرقي وفي الإسكندرية والصعيد، وفي قمع فتنة القبط في رشيد، ثم قدم صالح بن علي العباسي (10 ذو الحجة 132هـ) في إثر مروان، فسار هذا إلى بوصير، في كورة الأشمونين (من مديرية بني سويف) فوافاه صالح بن عديَّ في جيوشه وقتله (الجمعة 23 ذي الحجة سنة 132هـ) ثم تعقب ذوي قرباه والممالئين له في هذه البلاد، ودخل الفسطاط (23 المحرم سنة 133هـ)، وبذلك زال سلطان بني أمية وتوطدت دعائم الدولة العباسية. ولا شك في أن لقيام جند العرب في مصر في وجه مروان أثرا ظاهرا فيما أحرزه صالح بن علي العباسي من نصر معجل على مروان، مما أدى إلى زوال سلطان بني أمية زوالا لا رجوع بعده
استعمل العباسيون اسم الشيعة أداة لإزالة الخلافة الأموية، فلم يكد يتم تأسيس الدولة العباسية حتى قام النزاع بينهم وبين العلويين الذين أخذوا يكيدون لهم بالسيف حيناً وبالحيلة حيناً آخر. وفي خلافة المنصور (136، 158هـ - 754، 775م) دعا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية إلى نفسه سراً، وتلقب بأمير المؤمنين. ثم ظهر في سنة 145هـ بعد أن صادفت دعوته نجاحاً عظيماً في مكة والمدينة، حيث اعترف الناس بإمامته، وأفتى الإمام مالك بأحقيته بالخلافة من أبي جعفر. ومن المدينة أرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة لنشر دعوته
ولكن محمداً لم يعش حتى يرى نتيجة دعوته، فقد مات على يد ابن موسى العباسي، فدعا أخوه إبراهيم إلى نفسه، وشد أزره كثير من فقهاء البصرة وغيرهم من ذوي الرأي والجاه، وانضوت المعتزلة والزيدية تحت لوائه وعاونه الإمام أبو حنيفة وراسله سرَّا. وبهذا كله تمكن إبراهيم من الاستيلاء على واسط والأهواز وفارس
بيد أن حياته آلت إلى ما آلت إليه حياة أخيه من قبل. فقد قتله عيسى بن موسى (الاثنين أول ذي الحجة 145 هـ - 682م) في موقعة باخمرا التي بين الكوفة وواسط. ولقد ظهرت دعوة ابن عبد الله في مصر وتابع كثيرون من أهل هذه البلاد ابنه علي بن محمد الذي أنفذه أبوه لنشر الدعوة
غير أن والي المنصور على مصر استطاع أن يحيط أعمال على وأعمال من ناصروه، وظل على ذلك حتى وصل إلى مصر خبر وفاة إبراهيم بن عبد الله فسقط في يد الشيعة، وانطفأت جذوة الثورة. ولا يعلم المؤرخون ما آل إليه علي بن محمد بن عبد الله
كذلك كان لجند مصر نصيب كبير في الفتنة التي قامت بين الأمين وأخيه المأمون شأنهم في الفتن الخارجية التي كانت تنشب بين الخلفاء والخارجين عليهم أو المنافسين لهم، وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات مألوفاً لديهم، حتى في الأحوال التي لم يكن لمصر ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها
ولسنا ندري ما الباعث الحقيقي الذي كان يدفع هؤلاء القوم إلى الزج بأنفسهم في غمار هذه الثورات. ولا شك في أنه لم يكن لهذه الثورات علاقة ما بالعصبية العربية التي جاء الإسلام ماحيا لها، وإن كانت قد ظهرت في مواطن كثيرة بعد الإسلام. ويظهر أن الجند العرب كانوا لا يزالون مرتبطين بدار الخلافة بروابط الجنسية أكثر من ارتباطهم بمصر نفسها، إذ لم تكن القومية المصرية قد شملت بعد المصريين من القبط والعرب جميعاً. غير أن الأمر الذي يسترعي النظر ما رواه الكندي من أن مصر كانت حين قام النزاع بين الأمين والمأمون في أمن ودعة، وكذا كانت راضية عن واليها جابر بن الأشعث الطائي، وعن حكمه، وأن هذا الوالي كان محبوباً لدى الخاصة والعامة في هذه البلاد
على أنه سرعان ما احتدم النزاع بين الأمين والمأمون بسبب ما كان من خلع الأمين أخاه المأمون وترك الدعاء له على المنابر وتوليته عهده ابنه موسى بدلا منه حتى غضب العرب في مصر وغيرها، وتكلموا في خلع الأمين لنكثه العهد الذي تركه أبوه الرشيد وأودعه الكعبة الشريفة، وهذا كاف وحده لإثارة سخط الناس عليه. وظهر في مصر السري بن الحكم الذي استغل هذا الظرف لنفسه لإعلاء شأنه ورفع ذكره، إذ كان منذ أتى مصر في أيام الرشيد خاملاً لا حيثية له. فدعا إلى المأمون فبايعه نفر يسير. ولكنه ظل على نشاطه في نشر الدعوة حتى دعا المأمون أشراف مصر إلى بيعته فأجابوه سرا. وأتى كتاب هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون المعدودين إلى وكيله على ضياعه بمصر وهو عباد بن حيان، فقرأ هذا الكتاب (كتاب هرثمة) على ملأ من الجند في المسجد ودعاهم إلى خلع الأمين فأجابه السواد الأعظم منهم وخلعوه (جمادى الآخرة سنة 196هـ)، ثم بايع الناس
عبادا على ولاية مصر، وأخرجوا والي الأمين من الفسطاط فثبت المأمون عبادا في هذه الولاية.
ولما علم الأمين بما حدث في مصر من خلعه وإخراج عامله كتب إلى ربيعه بن قيس (رئيس قيس بالحوف) بولايته على مصر وكتب إلى اليمانية يطلب إليهم أن يقوموا بمعاونة قيس هذا فأظهروا دعوة الأمين وخلع المأمون، وخرجوا إلى الفسطاط، ودارت بين الفريقين مناوشات وحروب كان النصر فيها في جانب أنصار المأمون. على أنه لما بلغ قيسا قتل الأمين (المحرم سنة 198هـ) وبيعة المأمون تفرقوا - شأنهم في الفتن التي اشتركوا فيها.
هذا ما كان من أمر اشتراك عرب مصر في الفتن الخارجية وهي فتن سياسية في جملتها وإن كانت قد أُلْبِست لباس الدين، ليكون تأثيره في النفوس أقوى وأشدَّ
ولا يعزب عن بالنا ما كان من الانقسامات المذهبية التي شطرت العالم الإسلامي شطرين: سنة وشيعة. ولقد كان لكل من هذين المذهبين في مصر أنصار وأعوان، كما كان بها أيضاً أنصار لمذهب الخوارج الذين اعتزلوا علياً، فضلا عما كان لظهور المذاهب الأربعة من التأثير في مصر حيث ساد مذهب مالك في القرن الثاني للهجرة، وظل على ذلك نحو قرن ثم ساد بعده مذهب الشافعي، وبقى على ذلك إلى اليوم، وإن كان التأثير من هذه الناحية لم يظهر في ثوب عدائي مصحوب بفتن وحروب
وعلى الجملة فقد كان عمل الجند العرب في مصر ينحصر في عدة أمور
1 -
القيام بالفتوح الخارجية لتأمين مصر من الغرب والجنوب
2 -
الاشتراك في الغزوات البحرية التي قام بها الخلفاء الأمويون والعباسيون ضد الدولة الرومانية الشرقية أو القضاء على المحاولات التي بذلتها هذه الدولة حيناً بعد حين لاسترداد مصر
3 -
قمع الثورات الداخلية التي كان بها المصريون في وجه الولاة
4 -
الاشتراك في الفتن التي قامت بين الخلفاء والخارجين عليهم أو المنافسين لهم
وطالما انقسم العرب في مصر على أنفسهم إلى فريقين: فريق يناصر الخليفة وفريق يناصر الخارج عليه والمنافس له
هذا إلى ما كان من قيامهم في وجه الولاة والعمال إذا ما اشتطّوا في جمع الخراج ومن انقسامهم على أنفسهم بسبب ما كان من ظهور الاختلافات المذهبية في المدنية وفي دمشق وبغداد
وقد ظل عرب مصر على ذلك إلى أيام الذي غالي في عقوبتهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة فاستكانوا. ناهيك بما كان من إسقاط المعتصم العرب من الديوان، فلم يشتركوا بعد ذلك في فتن سياسية ولم تعد لهم كلمة، واستعاضوا عن الاشتغال بالحروب والسياسية والزراعة وكسب العيش عن طريق غير طريق العطاء، وساروا في مناكب مصر وانتشروا في المدن والقرى، واختلطوا بالسكان الأصليين اختلاطاً تاماً، فانحطت العصبية العربية في مصر وفي غيرها من البلاد، ولم يحكم مصر بعد ذلك والٍ من العرب إلا عنبسة بن اسحق (سنة 238هـ - 242 هـ) اللهم إلا ما كان من دخول هذه البلاد تحت سلطان الخلفاء الفاطميين مدة قرنين وتسع سنين (358 - 567 هـ)
حسن إبراهيم حسن
التعليم والمتعطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
الثقة بين رجال التعليم
قبل أن يتناول بحثنا المدرسة المصرية الحالية، وما وقع في تكوينها من أخطاء، وما يجري بين جدرانها من نقائض وعيوب وما نقترحه في سبيل إصلاحها لتفي بالغرض من وجودها من مقترحات - لا بد لنا من التحدث إلى القارئ عن بعض الأمور الأساسية المتصلة بها اتصالا مباشراً لما لها من أثر فعال في تكوينها وتأثير قوي في كيانها. وهي أمور من الأهمية بحيث نرى أن من واجب طالب الإصلاح وضعها دائماً نصب عينيه، فرجال التعليم على اختلاف طبقاتهم يألمون أشد الألم مما يصيبهم من أذى وحرج بسبب ضعف الثقة بهم الذي تظهر آثاره من آن لآن، ويتردد صداه من وقت لآخر في كل مكان، ولكن لعل ذلك كله بدأ منا وانتهى إلينا، فكنا نحن مع الأسف الشديد السبب المباشر في وجوده والعاملين دائماً على استمراره
أن ضعف الثقة بين الرئيس والمرؤوس مسألة قديمة، وهي لم تقتصر على وزارة التعليم فحسب، بل انتشرت في جميع دواوين الحكومة المصرية، فأزعجت الموظفين وجعلتهم جميعاً يفرون من المسئوليات، ويلقون على غيرهم التبعات، وأفقدتهم التعاون والتضامن فتعطلت الأعمال وساءت الأحوال حتى نهض المثل السائر: يوم الحكومة بسنة، وأصبح معروفاً عند الخاص والعام. وكانت وزارة المعارف من أقدم الوزارات التي تمسكت بذلك وحرصت عليه حتى هان أمر كل مرءوس على رئيسه، وأصبح كل منهما يرى في الآخر عدواً يحاول اقتناصه والإيقاع به، وبرزت إلى الوجود بين المتحذلقين منهم مسألة الأوامر الكتابية، فكل كلمة تصدر عن رئيس لا تكون ذات قيمة إلا إذا كانت مكتوبة ممهورة بتوقيعه، وكثيراً ما رأينا أحد المدرسين يتحدى ناظر مدرسته بقوله:(أكتب إليَّ رسميا) فينزعج الناظر من ذلك ويخشى تلك الكتابة التي قد تجر عليه النكبات، إذ كثيراً ما أدت إلى الانقسامات بين صفوف المدرسين، والى الاضطرابات والارتباكات؛ وكثيراً ما قامت الوزارة وقعدت وأرسلت بمفتشيها لإجراء التحقيقات وتحديد المسئوليات كما يقولون، لذا نرى معظم نظار المدارس يعاملون المدرسين عندهم بكل حذر. بينما نرى بعض المدرسين
والمرءوسين يحصون على ناظرهم كل صغيرة وكبيرة، حتى إذا جد الجد وجاء دور التحقيق بينهم أبرزوا ما حوته مذكراتهم من حركات الناظر ومخالفاته شهوراً طويلة. فهل في جو مثل هذا الجو يمكن أن يطمئن والد على تربية ابنه وتثقيفه وتنشئته تنشئة خلقية فاضلة!
ظهر ضعف الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين في قانون نظام المدارس العتيق المعمول به من قديم الزمن في مواضع عدة نذكر منها على سبيل المثال تحريمه على ناظر المدرسة أن يكاتب أية مصلحة أخرى إلا عن طريق الوزارة، فكان ناظر المدرسة بالفيوم مثلا الذي يرغب في مكاتبة مجلسها البلدي لزيارة التلاميذ وابور المياه أو وابور الثلج لا يمكن أن يفعل ذلك رسمياً إلا إذا كتب للوزارة بذلك، وهي في دورها تخاطب بلدية الفيوم. وناظر مدرسة قنا الذي يرغب في زيارة تلاميذه آثار الأقصر لا يستطيع ذلك إلا عن طريق الوزارة وهكذا. كذلك كان يحرم القانون على ناظر المدرسة تناول المدرسة طعام الغداء بين تلاميذه بالمدرسة من نفس الأصناف وبنفس الكميات التي يأكلونها حتى ولو كان ذلك على نفقته الخاصة حسب التعريفة المقررة، وذلك مخافة أن يحابيه طباخ المدرسة فيما يأكله من الطعام. في حين أن القانون إلى جانب ذلك يحرم على الناظر في موضع آخر مغادرة المدرسة أو تركها في أية لحظة من لحظات اليوم المدرسي لأي سبب من الأسباب حتى ولو كان لتناول طعام الغداء
وفي قانون نظام المدارس مادة أخرى تحرم على المدرس أن يعطي درساً خاصاً لتلميذ عنده في الفصل حتى ولو كان هذا التلميذ داخلاً في امتحان عام كامتحان البكالوريا أو الابتدائية بعيداً عن مدرسته وأساتذته. فإذا علمت أن هذا المدرس هو أعرف الناس بمواضع ضعف هذا التلميذ وهو أعلم طبيب بالطرق الناجعة لعلاجه لاتصاله المباشر به وإشرافه اليومي عليه وعلمه بعقليته وتعرفه لأسباب ضعفه تبينت مقدار تعنت المشرع في ذلك ومقدار عدم ثقته بالمدرس. لأن الذين نشأوا على هذا التشريع وقتلوه بحثا ًيعللون ذلك بأن المدرس ربما يتأثر بالعلاقة الجديدة التي تنشأ بينه وبين هذا التلميذ إذا سمح بإعطائه درساً خاصاً فيحابيه في أثناء الدرس العام أو يعمل على نجاحه آخر العام الدراسي إن كان ممن يمتحنون بالمدرسة، هذا بالرغم من أن أوراق امتحان النقل جميعها توضع عليها أرقام
سرية لا تمكن أي مدرس من أن يعرف أوراق أي تلميذ، فعلام هذا التحوط وعلام كل هذا الخوف؟
أما الأرقام السرية في الامتحانات فحدث عنها وعن أهميتها ولا حرج، فقد كانت في بادئ الأمر توضع على جميع الأوراق التي يدون عليها التلاميذ إجابتهم في الامتحانات العامة كامتحان الشهادة الابتدائية وشهادة الدراسة الثانوية، ثم انتقلت عدواها إلى أوراق امتحان النقل في جميع مدارس التعليم العام في أنحاء المملكة المصرية بناء على قرار وزاري خاص فأصبحت هي السر الهائل من أسرار لجان الامتحان الذي إذا حاول أي إنسان كشفه لأي غرض كان نفسه لأشد العقوبات ولأعظم النكبات، ولا يتولاها من عرف بحفظه للأسرار وكتمانه لها كتماناً تاماً. ولكم وجدت لها ضحايا من رجال التعليم بين آن وآخر من الذين لا يعملون بإحكام على كتم مكنوناتها وصون أسرارها العتيدة. وبالرغم من نظر الرسميات لها هذه النظرة فهي في نظرنا اللطمة التي تصيب سنوياً صميم الثقة العامة برجال التعليم، وهي الصفة القوية المؤلمة التي يصفون بها جميعاً في كل عام مرتين من غير أن يعيروها أدنى اهتمام بعد أن اعتادوها ودرجوا عليها. ولكنهم لو تأملوها لأدركوا أن هذا التحيز الذي يتهمون به، وتلك المحاباة التي يرمون بها، ويخشى من أجلها على تلك الوريقات أو الشهادات التي يتسلمها الطلبة، والتي أصبحت اليوم تافهة القيمة لا تقدم الشخص في حياته ولا تؤخره، وأن تلك الروح المعقوته التي يوصفون بها - ما هي إلا لطخة في جبينهم لا يقرها إنصاف ولا عدل. بل هي نكبة من النكبات التي أصيبت بها الثقة العامة برجال التعليم يندى لها جبينهم وتحترق لها أفئدة المخلصين منهم على مدى الأيام، وسيظل الضمير العام لرجال التعليم متألماً، وسيظلون أبداً وراء صفوف الهيئات والطوائف الأخرى ومحل عدم اكتراثها، وستظل مصر مجافية لروح التجديد والإصلاح في تكوين ناشئتها ما دام هذا النوع من العمل قائماً؛ فهي الامتهان للكرامة بعينها والقضاء على الثقة بكامل معانيها، ولن تقوم لرجال التعليم قائمة إلى أن يتخلصوا من هذه الوصمة التي أصابت ضميرهم وصميم الثقة بهم. وإنها لبدعة دنلوب تحمل بين جنبيها التناقض الصريح في جعل المدرسين أنفسهم يمتحنون الطلبة الامتحان الشفوي في اللغات حيث يكون من السهل معرفة التلميذ للممتحن ومعرفة الممتحن للتلميذ. ومع كل ذلك فقد تمسكنا بها تمسكاً
كبيراً وحافظنا عليها ونقلناها من الامتحانات العامة إلى أنواع الامتحانات جميعها؛ وقد غلونا فيها وعمدنا إلى تنظيمها وتعميمها حتى شملت جميع المدارس وبعض كليات الجامعة مع الأسف بعد أن كان الواحد منا قديماً يأخذ معه في منزله أوراق الطلبة فيصححها باطمئنان على مهل ثم يعيدها، كما يفعل القاضي بالقضايا، وكما يفعل المهندس بالمقايسات والرسوم المختلفة، وكما يفعل سائر الموظفين في باقي الأعمال الهامة التي لها مساس كبير بمصالح الجماهير، والتي بالرغم مما نسمعه كل يوم من ضبط المختلسين والمرتشين لم يفكر أحد قط في جعل البحث فيها سرياً كما يجري عندنا، حتى لقد أصبح المدرس الذي يقوم طول العام على تعرف عقلية تلميذه ومقدرته ليس فقط ممنوعا من إبداء رأيه في نقله من فرقة إلى أخرى، بل هو فوق ذلك متهم في أمانته، متهم في ذمته، متهم في أخلاقه، مصاب في كرامته، فهل يصح بعد انتزاع هذه الثقة الغالية منه أن يؤتمن على تكوين الفضيلة وبث الأخلاق الحسنة في تلاميذه وأبنائه!!. . .
اللهم أنها نقمة حلت بالتعليم وأهله نسألك أن تزيحها عنهم حتى تعود الثقة بالمعلمين الذين يصفهم الناس إلى اليوم بهتاناً وزوراً بأنهم ورثة الأنبياء، مع أنهم جردوهم من أثمن الفضائل وأغلاها ولقد كان لانتزاع الثقة العامة من رجال التعليم الأثر البالغ في رجال السلطة التعليمية العامة الذين ينتخبون من بينهم فضعفت الثقة بين المراقبين والمساعدين، وبين المساعدين والمفتشين، وبين المفتشين والنظار والمدرسين الخ. . . وأصبح الواحد منهم يخشى الآخر ويحذره ويعمل ما استطاع على الهرب من المسئولية وإلقائها كلما جد الجد على غيره، فأصيب الكثيرون منهم بالضعف والخور وفقدان الشخصية. وصار كل منهم يتلمس حرفية القانون فينفذها فقط مخافة أن يقال له يوماً إنه خالف القانون وصار كل تفكيره منصبا على ما هو مكلف به من غير أن يفكر في إصلاح أو تجديد، لأنه يرى بعيني رأسه أن المتحمسين للتجديد المندفعين في تياره بما جبلوا عليه من حب للعمل والغيرة عليه كثيراً ما ينالهم الأذى من وراء ذلك إذا وقعوا في أتفه مخالفة للقانون حتى ولو كانت تلك المخالفة في صالح العمل وتقتضيها مصلحته. ونتج عن ذلك نتيجتان وخيمتان:
أولاهما: الجمود الفكري الذي استحوذ على المدرس في فصله والناظر في مدرسته. حتى
صار الواحد منهم لا يعبأ بمعرفة شيء عن أصول التربية الحديثة ومستلزماتها ولا يهتم بالتمشي مع أصولها خوف ما يقع عليه من المسئولية والأذى إذا حاول الشذوذ عما يرسم له بتطبيق نظرية حديثة أو فكرة جديدة، وأصبح لسان حال كل منهم يقول (لماذا أتعب نفسي وأهتم بأي شيء قد يجر على مالا تحمد عقباه؟ فما علي إلا أن أردد كل عام الدروس التي رددتها من قبل أو أن أعمل العمل الذي كنت أعمله في الأعوام السابقة في سبيل الحياة وأكل العيش)
وثانيتهما: إعدام التعاون بين أعضاء المجموعة الواحدة، كل يفكر في نفسه غير مبال بغيره حتى لقد يمر العام كله على مدرسين في مدرسة واحدة لا يعرف أحدهم اسم الآخر كما قد يمر العام على مدرسين في فصل واحد لا يتذاكرون شيئاً عن أحوال تلاميذهم أو أخلاقهم أو عقلياتهم. وليس هناك أمر من الأمور يعرض عمل أية مجموعة أو طائفة من الناس للخيبة كفقد رابطة التعاون والتضامن بينهم، وخصوصاً إذا كان ذلك بين جدران المدارس التي يجب أن يكون التعاون غرضاً من أغراضها الأساسية. فالمسألة أصبحت قاصرة على أن كل واحد منهم يعمل عمله المتكرر الممل المعاد سنة بعد سنة بدون تأمل في إصلاح ولا تفكير في تجديد وأنى لهؤلاء أن يبعثوا بملكة التأمل والتفكير في تلاميذهم إذا كانوا قد أصبحوا هم أبعد الناس عنها!!
عبد الحميد فهمي مطر
لا كرامة لنبي في وطنه!
ولي الدين يكن يتجاهله المصريون
للأستاذ كرم ملحم كرم
مما يؤلم أن ليس لأديب مصر ولي الدين يكن صدى مسموع في وادي النيل وهو الذي ملأ وادي النيل صيحات وأغاريد، فالمصريون إخوانه لا يحفلون به كما يحفلون بسواء من رجال الأدب والعلم، فكأنه لم يكن، مع أن ولي الدين بلغ مكانة في الأدب والبيان يحن إلى بلوغها عدد وافر من بني قومه. ومعظم هؤلاء الذين يكتبون اليوم في مصر لا يجيدون الكتابة كما أجادها ولي الدين. فان لولي الدين في الإنشاء أسلوباً لم يسبقه إليه منشئ، وما جاراه فيه مقلد، فارتقى إلى ذروة سامية كان فيها نسيج وحده. فنفحنا بلغة القرآن كما نفحنا جبران خليل جبران بلغة التوراة، وظهرت لنا فيه الفخامة، والتشبيه البكر، والرقة، والبلاغة. وقد يكون في بيانه أقدر كاتب عرفته مصر، فما في أسلوبه تقعر ولا تحذلق ولا ترهل، بل قوة ورسوخ، قوة مصدرها القلب، ورسوخ لحمته الإخلاص؛ فليس يكتب ولي الدين ليملأ فراغاً بل ليجود بما تزخر به نفسه من عواطف وأشجان.
وإن يكن ثمة أديب يدل إنشاؤه عليه فهو ولي الدين، ففيما يكتب تجري نفسه: فيما يكتب الأنفة، وولي الدين أنوف. فيما يكتب الجرأة، وولي الدين جريء؛ فيما يكتب ثورة على الظلم وولي الدين ثائر على الظلم. فيما يكتب عن العظمة، وولي الدين عظيم. في أصله وفي قلمه. فان إنشاءه إنشاء ملوك، وهو من حفدة أصهار الملوك والسلاطين
لقد استعان المنفلوطي بعواطف سواه لما كتب، فزخرف ونمق؛ وذلك حسبه، على حين أن ولي الدين خلق، وهذا هو المنشئ البليغ. كتب ما بحسه بلغة رفيعة وجيزة تنطلق كالسهم فلا انحناء ولا التواء؛ ومع كونها لغة ما قل ودل فأنها لتموج بالزخرف كالعروس
ولولي الدين في الأدب أنداد جروا مجراه في الأنفة والسمو والنبل. ومن هؤلاء أبو فراس الحمداني، والشريف الرضي. أبو فراس طمع في العرش الحمداني والشريف الرضي في الخلافة. وبين ولي الدين وبينهما شبه متعدد الوجوه في عواطفه وشعره
ولي الدين عانى وحشة المنفى، وأبو فراس ذاق مرارة الأسر. أبو فراس عاش ومات مقهوراً، وولي الدين عاش ومات مقهوراً. شعر المتنبي طغى على شعر أبي فراس، وشعر
شوقي طغى على شعر ولي الدين. على حين أن قصيدة أبي فراس: (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. . .) تساوي ديواناً. ولا جدال في أن صاحبنا أبا الطيب يتمنى لو تكون له، إلا أن عواطف المتنبي بعيدة كل البعد عن رقة أبي فراس في غزله بعد رقة شوقي عن طبع ولي الدين
فلسنا نحس ونحن نقرأ شوقي قلبه يجول في السطور. فما هناك غير شاعر ينقر العود ليطرب سامعه، وربما ليرفعه إلى أعلى ذروة من عالم الطرب؛ على حين أن ولي الدين في شعره الغزلي يثب وثباً إلى القلب ويتلاعب به ويملكه ويذله ويدعوه إلى الإقرار مكرهاً بأنه فعل فيه فعله، وبأنه تأثر كل التأثر به، وبأن ما في هذا الشعر يحاكي عواطفه وميوله؛ فهذه نفسه مسبوكة في أبيات من الشعر ذوات قواف وأوزان، بينما هو يقف أمام شوقي وقفة الإعجاب، وقفة الاحترام والخشوع، فيتأثر عقله لا قلبه، شأن كل منا أمام الأهرام وقلعة بعلبك وخرائب تدمر، فنعجب بالصانع والمبتكر دون أن يكون لهذا الإعجاب صلة بالقلب. فالقلب يظل مستقراً في زاويته لا تهتز منه الأوتار، على حين أن تغريدة بلبل وزقزقة عصفور تحتلان منه الصميم
وهذا موقف أبي فراس من المتنبي: المتنبي شاعر القوة وأبو فراس شاعر المهجة المقروحة، والاثنان لا يلتقيان. فالمتنبي لما عاد من مصر بالإخفاق، واحتل قلبه اليأس لم يفكر في سوى الهجو، في غير ضرب العصا، فما جرى في منظومة قلبه بل حقده، بل أعصابه الثائرة وحنقه. فأطلقها تغلي كالمرجل الجياش:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ
…
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
أما الأحبة فالبيداء دونهم
…
يا ليت دونك بيد دونها بيدُ
وهذا شعر، ولكنه شعر حجري مقدود من الجلمود!
وأبو فراس يئس كالمتنبي لدى وقوعه في الأسر، ولا نكير في أنه كان أشد من المتنبي يأساً وقد نزعت منه حريته وبات تحت رحمة ملك الروم. على أن هذا اليائس لا يضرب بالعصا وهو ينظم الشعر، فلا يقول كالمتنبي:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
…
إن العبيد لأنجاس مناكيد
بل ينشد:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة:
…
أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى=ولا خطرت منك الهموم ببال
أيضحك مأسور وتبكي طليقة
…
ويسكت محزون ويندب سالي؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
…
ولكن دمعي في الحوادث غالي
وهذا الشعر يائس، ولكن القلب يتكلم فيه، لا الحنق ولا العصا، وليس منحوتاً في صخر!
في طليعة الشعراء العاطفيين في مصر إسماعيل صبري وولي الدين. وما اشتعلت العاطفة إلا في الأيام الأخيرة في صدر شوقي. ولقد اندفع إليها مضطرا. حمله عليها أبطال رواياته. فلا يسعنا القول أن شوقي شاعر عاطفي لكونه أنطق ليلى العامرية ومجنونها بالغزل والنسيب. فالموقف جره إلى ما كلف نفسه إياه. فنطق بيانه لا قلبه. كان مصوراً لا حساساً يعطينا من كبده
وفي هذه الناحية اختلف ولي الدين عن شوقي: ولي الدين كان عبد العاطفة. وكل شعره شذ به عن العاطفة كبا فيه. والدليل شعره السياسي. فأين هذا الشعر من القصائد المصهور فيها قلب ولي الدين؟
فبينا أنت إزاء ولي الدين العاطفي في حضرة شاعر من الطبقة الأولى إذا بك تجاه شعره السياسي أمام شاعر من الطبقة الثانية بل الثالثة، وأين قصيدة:
الله في وجدٍ وفي مأمِلِ
…
من لي بعود الزمن الأول
قد كنت أشكو عّذلي في الهوى
…
وها أنا أثنى على عّذلي
مللت عذب اللوم جهلاً به
…
لو كنت أدري الحب لم أملل
من قصيدته في تهنئة سيد مصر يومذاك عباس حلمي الثاني:
هلموا بنا نحو الأمير نسَّلم
…
سلام على عباس مصر المعظم
ألا أن في الأكباد شوقاً مبرحاً
…
إليه فقد كادت من الشوق تدَّمى
ففي القصيدة الأولى تكلم قلب ولي الدين فأسمعنا أبرع الشعر، وفي الأخرى تكلم لسانه بما تقضي به المجاملات فعدا سجيته ولم يكن من الظافرين.
وهذه حال ولي الدين في قصائده كافة: يجلي في شعر العاطفة ويكبو فيما جاوز هذا الشعر. ولسنا بحاجة إلى الأمثال وهي موفورة في كل قصيدة من نظم الرجل. وأي جسامة في
الفرق بين قصيدته:
أعلمت الهوى الذي أخفيه
…
أي سر في القلب لم تعلميه؟
هو مأواك منذ كان وهل يح
…
جب شيء في البيت عن ساكنيه
وقصيدته في رثاء أحمد خيري بك:
يا روح خيري حين جدَّ الرحيلْ
…
قفي قليلا وكفانا الدليل
الموت قد بت الذي بيننا
…
لم يبق منه غير حزن طويل
فلا صلة بين القصيدتين ولا قرابة: فكأن هذه من نبع وتلك من نبع آخر. وعلى المرء أن يعالج ما خلق له، وولي الدين على سمو منزلته في الأدب، وهو ممن يمشون أبداً في الطلائع والنظائر، لم يدرك الفوز فيما لم ينشأ عليه. لقد تفوق في شعر العاطفة وكان عليه أن يملأ به ديوانه فحسب، لا أن يجري على ما ليس فيه!
ومع أن من حق مصر أن تفاخر برجل موهوب من أبنائها كولي الدين فإنها لتحدق إليه شزراً كأنما يضيمها أن تتعرف إليه على حين تغبطها سائر البلاد العربية على أديب فريد في نثره وفريد في شعره العاطفي في هذا العصر
يقول الناقمون على الرجل إنه ساير الإنكليز فوقف عليهم قلمه، ورحب باحتلالهم وادي النيل، وجوابنا أن الإنكليز ساعدوا على ترقية مصر، فان يدهم في عمرانها غير منكورة عليهم. وفئة محترمة من زعماء مصر، وبينهم من تربعوا في العرش المصري وكانوا منه كالسوار من المعصم، اعترفت للإنكليز باليد البيضاء على وادي النيل. فان يكن ولي الدين جارى هذه الفئة فلا عليه. وقد سمعنا النحاس باشا نفسه، زعيم الوفد المصري، يتدفق بالشكر لإنكلترا على أثر إبرام المعاهدة المصرية الإنكليزية!
وثمة من ينعى على ولي الدين عبثه بالتقاليد، إذ حارب الخليفة، وتزوج مسيحية، وأطلق على أبنائه أسماء غريبة، فأنكره ذووه ومالوا عنه فعرف البؤس المرير:
تعوَّد كلٌّ بؤسها ونعيمها
…
وعشنا على بؤسي ولم نتعوَّد
على أنه ما شأن الأدب في حياة الأديب الخاصة؟ هذه في واد وهو في واد. وإذا جئنا ندين الأدباء في حياتهم الخاصة اضطرنا إلى حذف تسعة أعشارهم من السجل. وهو مجهود سخيف!
ولقد بسم الحظ لولى الدين، ولكن ما بسم له حتى مات، وهذا نصيب المنكود من دنياه. كان ولى الدين من مؤيدي السلطان حسين كامل. فلما تولى السلطان حسين عرش مصر قرَّب إليه الأديب الموهوب؛ غير أن الموت زاحم مولى مصر على ابنها البار فدهمه داء الربو فمات وهو في حلوان، وقيل إنه مات بالسل
ومهما يكن فليس ولي الدين ممن يجب الإغضاء عنهم وله على البيان العربي يدٌ طاهرة. عدا أن محاولة طمسه لن تأتي بفائدة؛ والغد كفيل بأن يحييه. فما أبقى ولي الدين من آثار أدبية يضمن له الخلود. فليس من أديب في مصر يأتي فوراً تلو شوقي سوى ولي الدين، أي إن إنكاره وغمط فضله لا يؤثران فيه، بل يدلان على نية فاسدة. وإننا لننزه القوم في مصر عن التحزب في الأدب، ويكفيهم أن يعلموا أن التحزب العباسي قضى على تسعة أعشار منظوم بشار بن برد وظل بشار من الخالدين!
(بيروت)
كرم ملحم كرم
مصدر الهتلرية
منذ أعوام أصدر مستشار الريخ كتابه (كفاحي) متضمناً السياسة التي عول على السير بمقتضاها، وهي سياسة صريحة لا مراوغة فيها ولا مداورة. فهل كان هتلر هو خالق هذه المبادئ وواضع تلك السياسة؟
يرى فريق من المتتبعين لتطور السياسة الألمانية في نهاية القرن الماضي أن كل ما جاء به دكتاتور ألمانيا إنما هو مأخوذ عن المبادئ التي وضعها الأستاذ هنريك فن تريتشكي أستاذ التاريخ الحديث في جامعة برلين وبثها في محاضرات ألقاها على القوم في فريبرج ولينرج وبرلين، أيام كانت ألمانيا تحرز النصر تلو النصر على الدانيمرك والنمسا وفرنسا (أعني في المدة ما بين 1866 - 1872) ووقت أن كانت تحتاج ألمانيا إلى روح من (مركب النقص) تدفعها على الدوام لأن تتبوأ القمة بين دول أوربا
يقول الأستاذ همبدن جاكسون في بحث نشره عن نظريات تريتشكي: (يحتمل أن تكون آراء تريتشكي قد استمدت مباشرة من كتاب (كفاحي)، لولا أنها ظهرت قبل أن يعرف الوجود هذا الكتاب بنصف قرن) ولقد كتب تريتشكي يقول:(إن الحكومة هي القوة، ووظيفة الحكومة الجوهرية هي شن الغارات، وبدونها لا تكون هناك حكومة قط، فلولا الحرب ما كانت الدولة. وينبغي أن يجعل المرء شعاره على الدوام: (إن الحروب دواء الأمم المريضة) كما أنه في الساعة التي تقول فيها الحكومة: (إن كياني ووجودي في خطر) ينبغي أن يغفل المرء البحث عن مركزه الاجتماعي، وأن يتناسى كل حزب خصومته، وينكر كل فرد ذاته، وأن يعتقد أن ليست حياته بشيء إن هي قيست بخير المجموع. وفي هذه اللحظة ذاتها تتجلى عظمة الحرب التي تقول بوجوب تلاشي الضعيف، أما المثل الأعلى للسياسة فهو الذي ينشد الحرب بينما تنفر منها المادية. ما أبعد الأخلاق عن الواقع حينما تحقر شأن الغلبة في الكيان الإنساني)
ولقد حذا هتلر حذو تريتشكي فما حاد عن تعاليمه قيد شعرة، فقال عن المعاهدات:(ليس في وسع أية حكومة أن تجعل مستقبلها رهن مستقبل حكومة أخرى، فلكل دولة الحق في أن تعلن الحرب متى شاءت، كما أن لها الحق في أن تنقض أية معاهدة متى رأت فيها غلا لها. إن لكل زمن معاهدة)
لم يقتف هتلر خطى الزعيم المدرس المتوفى عام 1895 في السياسة فحسب، بل اتبعه في
جميع نواحي الحياة السياسة والاجتماعية، فمن قبل أعلن ترتيشكي رأيه في المسألة العنصرية الجنسية فقال (إن كلمة (نبيل) لا تفيد إلا معنى العنصرية، ولا يمكن فهمها إلا على أساس اعتقاد أن المميزات الشخصية إنما يتوارثها الخلف عن السلف، وأفضل ما في الجنس الآري صفة الشجاعة، فرجاله دائما على أهبة امتشاق الحسام للذود عما كسبوه بقرائحهم) كما أن رأي هتلر في النساء قد سبقه إليه ترتيشكي من قبل في قوله:(ليس للمرأة من وظيفة في الحياة غير الزواج وتدبير المنزل. إن الجميع - حتى الذين لا يميلون بطبيعتهم للخير العام - يكرهون استخدام المرأة في المصانع) ويقول ترتيشكي عن الجيش: (ليس له من حق في إبداء الرأي، وإنما هو قوة فعالة تنفذ ما يُلقى إليها. أما إذا خُوَّل الحق في إعلان رأيه اضطراب الأمن. وليس ثمة بلاء أنكى على الدولة من جيش يتناقش، ثم يفترق شيعا وأحزابا) وهذه الكلمات التي ننقلها هنا، جاءت في محاضرة له ألقاها عام 1892م، وفيها ما يميط اللثام عما أحاط مسألة التطهير التي جرت في يونيه 1934م عندما قتل هتلر الجنرال فون شليخر، وقادة فرق القميص الأسمر الذين حاولوا أن يكون لهم رأي في إدارة دفة الحكم
أخذ ترتيشكي يدعو إلى احتقار الجنس السامي، ويذكى غضب عشرائه ويستغل حماسة طلابه في تهديد اليهود لألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر حيث يقول:(والآن حيث أصبح في ميسور الآريين تصريف الشؤون المالية فقد انتهت مهمة اليهود ولم تعد لهم ضرورة. بل لقد أصبح خطرهم شراً جسيما يهدد كيان الدولة بانحلال قواها، ويحمل هذا الأمر في طياته نذير قيام جنسيات مختلفة) غير أن ترتيشكي لم يستطع أن يضع حداً فاصلا (لليهودي الخالص) وبين الذين يمتُّون للجنس الجرماني بنسب فقال: (وأستطيع - إلى مدى بعيد - ألا أجد غير وسيلة واحدة لإنقاذ هذا النشاط، تلك هي تنمية مجهودنا القومي الذي ينبغي أن يكون طبيعة ثانية بجانب طبيعتنا، وأن نلزم أنفسنا برفض كل مالا يحمل الطابع الجرماني، فيعم الخير الجميع؛ في ساحة الملاهي وصالات الموسيقى وفي قراءة الصحف؛ أما حيث يوجد القذى اليهودي فعلينا أن نبتره بتراً، فأن استطاع العيشَ بعد ذلك فتبعة هذا اللوم واقعة على المتساهلين معهم، المترَّفقين في بغضهم للجنس السامي)
ويرى تريتشكي أن حاجة ألمانيا إلى المستعمرات من المسائل التاريخية والسياسية والاقتصادية فيقول: (إن حربنا المقبلة الناجحة، ستنجلي عن الحصول على المستعمرات بأية وسيلة، فحاجتنا تاريخية لأن الألمان قاموا بأكبر مشروع استعماري عرفه التاريخ منذ عهد الرومان، ألا وهو استعمار الوثنية من الألب حتى ثم هي مسألة معنوية لأن الأمم العظيمة في التاريخ ترى واجبها في طبع القبائل البربرية بطابعها، والآن (1892) نرى أن أوربا منهمكة في إيجاد أرستقراطية عامة للجنس الأبيض على سطح الكرة الأرضية. كذلك هي مشكلة سياسية لأن الدولة التي ليست لها مستعمرات ستنتهي إلى مركز حقير، حتى ولو كانت قوية من ناحية أخرى، وخلاصة الموقف الألماني تتمركز في سعيه لأن يتكلم الناس قاطبة لغته حتى تكون لغة المستقبل)
هذه هي آراء تريتشكي، وهي نفسها آراء هتلر
(ح. ح)
أسلوب العقاد
للأستاذ سيد قطب
نصف الحياة اضطرابٌ
…
ونصفها أوزانْ
هذا هو مذهب العقاد في الحياة، وهو مذهبه في الفنون، وهو رائده في التعبير. . . الشعر حركة في الضمير، وهزة في الشعور - وهذا هو الاضطراب - وهو بعد ذلك لفظ مقروء وجرس مسموع - وهذه هي الأوزان - فإذا اضطربت العواطف واشتجر الشعور وماجت الأحاسيس، فيجب - لتكون فناً - أن تضبطها الأوزان وتحدها الألفاظ، ويحكمها التعبير
من فهم هذا المذهب على حقيقته، فقد فهم أسلوب العقاد، وتنبه إلى الدقة في ترتيب المعاني وتنسيق العبارات، وفي إيراد الألفاظ المعبرة عن المعنى بلا زيادة ولا نقصان
التعبيرات الطائرة، والأساليب المزوقة، والجمل المتراقصة، كل أولئك لا نصيب له في شعر العقاد، لأن الشعر أقدس لديه من أن يكون ثوب مهرج، أو قفزات بهلوان! وهو كذلك مالك لريشته، متنبه لتعبيره، فلا مجال لغير الدقة والقصد والإحكام
هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى أن الأحاسيس والمعاني التي يضطلع بها الأسلوب في شعر العقاد ليست رخيصة مبتذلة، ومعظمها ليس متداولا متعارفاً، وهي على العموم ليست (ملقاة على قارعة الطريق). فالأسلوب في شعر العقاد إذن يضطلع بعبء لا يضطلع به عنه سواه، وهو عبء من نتاج الإنسانية الممتاز، ومن ثروة الفن العالي، ومن الخلاصات النفسية، فمن حق هذا الأسلوب أن يتريث ويتأنى، وأن يكون له وقار من وقار المعاني التي يحملها، وجلال من جلال الأحاسيس التي يصورها، وأن ينظر فيه أولا إلى مقدار الذخيرة الفنية التي يفيض بها، وأن تكون الموسيقية الممتازة فيه هي موسيقى المعاني والأفكار والآفاق الجديدة التي يرتادها في هدوء وعمق وسموق، لا الموسيقية اللفظية الرخيصة وحدها، وهي ليست بذات بال
وما أقول هذا لأن شعر العقاد تنقصه هذه الموسيقى اللفظية ففيه الكثير منها، بل في هذا الشعر مجموعة من القصائد التي تتوفر فيها هذه الخاصة، قلما يوجد نظيرها في دواوين الشعراء الموسيقيين، كما أن الرصانة والجزالة في عامة شعر العقاد ملحوظة واضحة.
وإذا شاء أحد أن يأخذ على بعض من ينتسبون للمدرسة الحديثة من الشبان قصوراً في
التعبير، أو عدم عناية بالديباجة العربية السليمة، فما هو واجد من ذلك شيئاً في شعر العقاد بالذات، ودون هؤلاء دواوين العقاد كلها إذا أرادوا
ولكن جماعة ممن يبيحون لأنفسهم أن يقتعدوا مقعد النقاد بلا مؤهلات، يقسمون الإنسانية تقسيما غريباً، ولا يسمحون أن يحتاز إنسان لنفسه موهبتين أو أكثر، كأنما يخشون نفاذ هذه المواهب التي بين أيديهم! فمن كان شاعر معان وأحاسيس، فما هو بشاعر موسيقى وتعبير، والعكس بالعكس، إلا من يشاء لهم (الإنصاف البديع) أن ينالوا أكثر من قسط، وهؤلاء يجب أن يكونوا من خصوم العقاد!
ومن هنا كان العقاد - عند هؤلاء - كاتباً ولم يكن شاعراً، فإذا سمحوا له بقسط من الشاعرية، فليكن هذا القسط في المعاني والأفكار، وليبق الأسلوب والتعبير وقفاً على طائفة خاصة من غير المغضوب عليهم، أو من أولئك الشعراء المريحين الذين لا يتعبون هؤلاء المحترمين في فهمهم وفي التسلق إلى مستواهم الرفيع، ولتختلف المقاييس حسب اختلاف الأهواء، فتارة يكون الأسلوب الجيد هو الجزل الرصين، حين يستعرضون للعقاد بعض القصائد السهلة الرشيقة، وتارة يكون الأسلوب الجيد هو العذب اللذيذ حين يعرضون للعقاد بعض القصائد المتينة الرصينة، ولو أنصفوا أنفسهم وأراحوها لقالوا: إن الأسلوب الجيد هو غير أسلوب العقاد في كل حالة، لأن هذا ما يرضي نقصهم وقصورهم حيناً، وحقدهم وتعنتهم أحياناً!
وهاأنذا أفتح الجزء الأول من ديوان العقاد، وهو الجزء الذي ابتدأ به حياته الشعرية، وانتهى من نظمه وهو في الرابعة والعشرين، وأختار هذا الشعر بالذات، لأن الشاعر في أبانه لم تكن قد استقامت له بعد طريق البيان، ولم يكن مالكا لريشته وألفاظه، وكان خليقاً أن يقصر ويعذر في التقصير
ولكن شيئاً من هذا لا تلمحه في ديوان الشاعر المبتدئ، بل إنني لأريد أن أفهم كيف يكون الأسلوب العربي الرصين المشرق، إذا لم يكن كالقطعة الأولى في الديوان الأول بعنوان (فرضة البحر)، حين يقول
قطبَ السفين وقبلة الربان
…
يا ليت نوركِ نافع وجداني
يرجى منارك بالضياء كأنه
…
أرَق يقلب مقلتي ولهان
وعلى الخضم مطارح من ومضة
…
تسري مدلهة بغير عنان
كمطارح الأفكار في لجج على
…
لجج من الشبهات والأشجان
تخفى وتظهر وهي في ظلمائها
…
باب النجاة وموئل الحيران
أمسيتِ إحداق السفائن شُرَّع
…
صُور إليك من البحار روان
كالبيت يجمع بعد تشتيت النوى
…
شمل الأحبة فيه والإخوان
جوديَّ كل سفينة لم يبنها
…
نوح ولم تمخر على الطوفان
فيها التقى بر وبحر واستوى
…
شرق وغرب ليس يستويان
بسطت ذراعيها تودع راحلا
…
عنها وتحفل بالنزيل الداني
زمر توافت للفراق فقاصد
…
وطنا ومغترب عن الأوطان
متجاوري الأجساد مفترقي الهوى
…
متبايني اللهجات والألوان
فانظر إلى تلك الوجوه فانها
…
شتى ديار جمَّعت بمكان
في فرضة متقاصر عن متنها
…
موج أشم أحم ليس بوان
موج بطيف بها وقدران الكرى
…
فيها طواف الضيغم الغرثان
ألقت مراسيها السفائن عندها
…
وتحصنت منها بدار أمان
فكأن ضوء منارها نار القرى
…
لو كان يُبعث ميت النيران
بل كيف يكون الأسلوب العربي المشرق إذا لم يكن مثل قصيدة (عزاء) في الصفحة الثانية من الديوان الأول حين يقول
يا شاكيا وصبا أحاط بنفسه
…
أربِعْ عليك لكل يوم كوكب
حمّل الفؤاد ما يؤودك حمله
…
أني لأجلدُ للهموم وأصلب
أنت النعيم لناظريَّ وخاطري
…
عجبا وحقك من نعيم ينحب
يشكو من الدنيا الآلي لولا همو
…
ما كانت الدنيا تحب وترغب
إما بكيتَ فلستَ أول شارق
…
يجلو العيون وقد حواه الغيهب
قد كنت تبلغ ما تريد وتشتهي
…
لو أن للأيام عينا ترقب
لا يذهبن بك القنوط فربما
…
عاد الصباح وأنت لاه تطرب
دمع الشبيبة لا حرمتَ ثمارَه
…
يروى به اللب الغضيض فيخصب
فأما حين يطلبون الرصانة وقوة الأسر وجزالة الأسلوب وفخامة التعبير، فإن الجزء الأول من ديوان العقاد يجيبهم إلى طلبتهم في عدة قصائد أذكر منها (وقفة في الصحراء) وفيها يقول:
هضابكِ أم هذي أواذيَّ عيلم
…
وهل فيك من ورد لغير التوهم
تخايلت كالدنيا وأقفرت مثلها
…
فلا تخدعني إنني لست بالظمى
أيا ربة الآل الحلوب وإنما
…
إلى الآل ركب الناس جمعاء فاعلمي!
خلوت فلا آثار حيٍّ ثوابتٌ
…
عليك ولا آثار ميت معظم
نَبا بِكِ عن حال العمار وضده
…
شِماسٌ فلم تبنى ولم تتهدمي
تشابهت الأيام فيك فلم يكن
…
إلى السعد يومٌ أو إلى النحس ينتمي
صحارى من الدهر الفسيح جديبة
…
كعهدك لم تعبس ولم تبتسم
لَفيكِ وإن طال الزمان غوارب
…
على الناس أخفى من غوارب أنجم
أضاءت عليها النيرات ولم تزل
…
هنالك في ليل من الغيب أيهم
إلى أي ركن فيك يلجأ هارب
…
وفي أي ظل من ظلالك يحتمي
تسدين أرجاء الزمان بحاصب
…
من النار موار العجاجة مظلم
تثور كأفواج الدخان تطلعت
…
إلى عُلْو من قاصي قرار جهنم
إذا ما رآها الوحش ولى كأنها
…
من النقع تجلى عن خميس عرمرم
يلوذ ببطن الأرض والأرض جمرة
…
خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم
ويذهل حتى يفلت الليث صيده
…
ولا تفرق الغزلان من ناب ضيغم
وما سكنتها الوحش إلا لأنها
…
أحب إليها من جوار ابن آدم
وقفت عليها والمطايا تقلنا
…
مطايا ثمود قبل ذاك وجرهم
ذميلاً وإرقالا وما تستحثها
…
سياط سوى الرمضاء أيان ترغى
فقلنا بأوجار الضباع فأكرمت
…
على البعد مثوانا ولم تتقدم
كرامة مضطر ويا رب طارئ
…
يكرمه من لم يكن بالمكرم
هذه أو قصيدة (ليلة نابغية) حين يقول:
إلى أي قولي قائل أنت أميل؟
…
وعن أي حاليك العشية تسأل؟
عرفت مدى شطر وشطر جهلته
…
فحسبك من بلواك ما لست تجهل
تغوص على الأوجاع بُهراً كأنني
…
بريء من الأوجاع لا أتململ
فيالك من قلب إذا ما تعللت
…
قلوب الورى لم يغن عنك التعلل
تعلق إلا بالمحال رجاؤه
…
وأقسم لا يلهو ولا يتأول
ضمنتَ كدُفَّاع الضرام لواعجاً
…
أأنت لنيران اللواعج هيكل؟
فيا من يراني والفؤاد كأنه
…
إذا الليل أغضى قاتل يتزمل
ويا من يراني والنجوم كأنها
…
نواظر من خوف المنية تقفل
كأن الفضاء لم ير الشمس مرة
…
ولم يسر فيه بدره المتهلل
أبيت وبي ليلان: ليل صباحه
…
يرَّجى وليل مدبر الصبح مقبل
أضمد جرحي باليدين وفيهما
…
جراح يغشيها النجيع المسلسل
وأحمل نفسي وهي ولهى طليحة
…
إذا التام منها مقتل سال مقتل
إذا أدبر الليل استرحت وإنما
…
يوكل بي الليل الذي هو أطول
عفاء على الأضواء ماذا انتساخها الل
…
يالي وليلى آخر الدهر مسبل
فيا شهب خطى بالرجوم على الدجى
…
وباصبح فاسمعني ويا ناس فانقلوا
ضؤلت سراجا يا شموس إذا خبا
…
سراجي وليلي قاتم الجنح أليل
فأما حين يطلبون السلاسة والعذوبة، فما أكثر ما يجيبهم ديوان العقاد الأول وحده إلى ما يطلبون، وأقرب ما تقع عليه العين قصيدة الحب الأول ونقتطف منها قوله:
يهنيك يا زهر أطيار وأفنان
…
الطير ينشد والأفنان عيدان
طوباك لست بإنسان فتشبهني
…
إني ظمئت وأنت اليوم ريان
هذا الربيع تجلى في مواكبه
…
وهكذا الدهر آتا بعده آن
تفتحت عنه أكمام السماء رضىً
…
وزفه من نعيم الخلد رضوان
وشائع النور في البستان باسمة
…
والأرض حالية والماء جذلان
الشمس تضحك والآفاق صافية
…
جلواء والروض بالأثمار فينان
وللنسيم خفوق في جوانبه
…
وللطيور ترانيم وألحان
في كل روض قرى للزهر يعمرها
…
يا حبذا هي أبيات وسكان
مستأنسات سرى ما بينهما عبق
…
كما تراسل بالأشواق حبان
الورد يحمر عجبا في كمائمه
…
والياسمين على الأغصان ميسان
وللقرنفل أثواب ينوعها
…
عن البلور صناع الكف رقان
وللبنفسج أمساح ممسكة
…
كأنه راهب في الدير محزان
وحبذا زهر الليمون يسكرنا
…
منهن جام خلا من مثله الحان
والليل يحييه والأطيار هاجعة
…
بلابل وشحارير وكِرْوان
مؤذن الطير يدعو فيه محتسبا
…
فيستجيب له بر وغيان
والصبح في حلل الأنوار طرزه
…
في الشرق والغرب أسحار وأصلان
كأنما الأرض في الفردوس سابحة
…
يحدو خطاها من الأملاك ربان
ضاق الفضاء بما يحويه من فرح
…
فكل ما في الفضاء الله فرحان
. . . الخ. . . الخ
وعلى قيد صفحات من هذه القصيدة الرائقة الرائعة تجد (ليلة الأربعاء) وفيها يقول:
شف لطفاً عما وراء السماء
…
نور بدر مفضض اللألاء
رق سجف السماء حتى كأن ال
…
عين تتلو هناك سر الفضاء
وسرى الطرف في الفضاء فما يث
…
نيه ثان عن خوض ذاك الفضاء
وربا النور كالعباب فما في ال
…
كون غير الظلال من ظلماء
تلك أولى لوائح الصيف والصي
…
ف بهيج في الليلة القمراء
يمن الله سعيه من رسول
…
يطرق الأرض وافداً من ذكاء
مولد الأرض فهي تلبس فيه
…
كل عام مطارف الأضواء
أضرم الجو بالمشاعل كالظا
…
فر يعدو في إثر جند الشتاء
إلى أن يقول في عذوبة رقيقة:
ليلة الأربعاء بالله عودي
…
وأعيدي يا ليلة الأربعاء
ليلة أرسل الزمان بها عف
…
واً فجاءت كحكمة البلهاء
قد نسينا الصباح حتى ذكرنا
…
هـ بنور من بدرها الوضاء
فوصلنا مساءها بصباح
…
ووصلنا صباحها بمساء
وشربنا ونحن مرضى من الهم
…
دواء أنعم به من دواء
ثم يقول من هذه القصيدة:
أين لا أبعد المهيمن داراً
…
لك يا من أجله عن ندائي
أذكرتني بك الكواكب والبد
…
ر ونفخ الرياض والصهباء
أنت أقصى مني ضمائر لو شئ
…
ت لباتت في غبطة وهناء
أنت شمس لهيبها في فؤادي
…
أنت نور لظاه في أحشائي
أنت عندي كليلة القدر في الدهـ
…
ر ولكن لن تستجيب دعائي
تتجلى في كل حسن فأرعا
…
ك وأنسى محاسن الأشياء
. . . الخ
تلك نماذج مختلفة من أسلوب العقاد في أول ديوان يصدره منذ خمسة وعشرين عاما مرن على النظم، واستجابت له التراكيب وسلس له التعبير، وتهيأ له خلالها ما يتهيأ لأي شاعر عادي من المران والدربة والإتقان.
فإذا استغنينا بالجزء الأول وحده، فنحن واجدون للعقاد كثيرا من شعر الأساليب الفخمة الجزلة، والأساليب الرصينة المتينة، والأساليب العذبة السلسة، وكل ما يعنيه الأسلوبيون ببدائع الأسلوب. ودع عنك ما وراء أسلوب العقاد من معان وفكر وأحاسيس وعوالم واسعة من الفن الفريد
فماذا يريد إخواننا الرافعيون؟
إنهم ليستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم في آذانهم، ويذهبون ويتجنون وينكرون، وما على العقاد ولا على المدرسة الحديثة منهم، بل لا كانت هذه المدرسة إذا كانت تنظر إلى رضاء الرافعي!
(حلوان)
سيد قطب
العزلة
للشاعرة ليلا هويلر ويلكسكس
بقلم السيدة فله فهمي
إضحك، يضحك معك العالم
إبك، تبك وحدك
على الأرض الحزينة الهرمة إن تنشد سرورها،
لكن لديها من الهم الكفاية.
غن، تردد غناؤك التلال،
ولكن تنهداتك تتبخر في الفضاء.
يلتقط الصدى الصوت الطروب
لكنه يحجم عن الصوت الحزين
إن تبتهج، سعى إليك القوم،
وإن تحزن، ولوا عنك.
إنهم ليرغبون في أكبر قسط من لذاتك
بينما هم في غير حاجة إلى هموم نفسك.
كن طروباً، يكثر أصدقاؤك
وكن حزينا، تفقدهم جميعاً.
ليس هناك من يعف عن رحيق خمرك
لكن عليك وحدك أن تكرع علقم الحياة
أَوْ لِمْ تزدحم قاعاتك
صُمْ، ينصرف عنك العالم.
انجح وامنح، فذلك يعينك على الحياة
لكن ليس من يستطيع أن يحمل عنك آلامك
هناك مكان في قاعات السرور. . .
لكل من يقطع مرحلة الحياة الشاقة،
لكن علينا أن نجتاز واحداً فواحداً
ممر الألم الضيق. . .
فله فهمي
الفهم
وصلته بالحكم الأدبي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
قرأت فيما قرأت للمرحوم الرافعي كلاماً يقول فيه: إن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وإن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وإن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا!
وهذا الذي قاله الرافعي كلام يتهالك في أوله، بقدر ما يتماسك من آخره. نعم فقد أخطأ الرافعي إذ حسب أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، فإن الفهم شيء والذوق شيء آخر، وإذا كان الذوق يستلزم الفهم كما يقولون، فان الفهم كثيرا ما ينفك عنه فلا يستلزمه ولا يقتضيه. ولقد يتأتى للشخص أن يفهم الأثر الأدبي على خير ما يكون الفهم، ومع ذلك لا يقع من ذوقه أدنى موقع، كما هو حال كثير من علماء النحو ورجال اللغة!! ولكن الرافعي مصيب من غير شك إذ يرى (أن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا) فأن الناقد إنما تتم له الأداة، ويصح له أن يحكم على الأثر المنقود، إذا ما فهم ألفاظه ومعانيه، ووقف على إشاراته ومراميه، وتلمس له كلَّ وجهٍ يستقيم عليه منطوقاً ومفهوماً، وكل مدلول يقتضيه صريحاً واستلزاما
تلك حقيقة هي من الوضوح إلى حد البداهة، ولكن الدكتور طه حسين نقل كلاما عن الشاعر الفرنسي بول فاليري زعم فيه: أن موت الأثر الفني إنما يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا ما قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذن جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئ فقد غلب، وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب القارئ ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط، ومن هنا كان النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم! والدكتور طه لا يميز الناقد في هذه الغمرة عن أي قارئ آخر، بل ولا يرضى له أيضا بفهم (الأثر الفني الخليق بهذا الاسم) ليتم لذلك الأثر البقاء كما يقول، ومن ثم طار إلى الأوج بقصيدة (المقبرة البحرية) لصاحبه فاليري، وكل دليله في ذلك أنها استغلقت على النقاد فلم ينفتح لهم فيها باب الفهم، على الرغم مما بذلوا في الفهم ووسعوا في التأويل، وكأني بالدكتور الفاضل قد فاته أن اللغة - في أرقى أوضاعها وفي أحط أوضاعها - ليست إلا سبيل الفهم، والفهم إنما هو أساس المعرفة،
والمعرفة إنما هي قوام الحياة، وصلة الإنسان بالعالم. ثم كأني بالدكتور الفاضل قد نسى أنه من قبل ذلك ردَّ كتاب رسائل الأحزان الرافعي، وكانت حجته في ذلك أنه قرأ الكتاب فلم يفهمه وهو لا يستطيع أن يحكم على شيء استغلق عليه فهمه، وتعذر دركه!
ومهما يكن من شيء فإن هذا الذي نقله الدكتور طه على أنه من طريف أوربا له شبيه طريف في تاريخ الأدب العربي، فقد حدَّث ابن سنان الخفاجي قال: جرى بين أصحابنا في بعض الأيام ذكر شيخنا أبي العلاء بن سليمان المعري، فوصفه واصف من الجماعة بالفصاحة، واستدل على ذلك بأن كلامه غير مفهوم لكثير من الأدباء، فعجبنا من دليله وإن كنا لم نخالفه في المذهب وقلت له: إن كانت الفصاحة عندك بالألفاظ التي يتعذر فهمها فقد عدلت عن الأصل في المقصود بالفصاحة التي هي البيان والظهور، ووجب عندك أن يكون الأخرس أفصح من المتكلم، لأن الفهم من إشاراته عسير بعيد، وأنت تقول: كلما كان أغمض وأخفى، كان أبلغ وأفصح. وعارضه أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب وقال: صدقت. إننا لا نفهم عنه كثيراً مما يقول، إلا أنه على قياس قولك يجب أن يكون ميمون الزنجي الذي نعرفه أفصح من أبي العلاء، لأنه يقول ما لا نفهمه نحن ولا أبو العلاء أيضاً، فأمسك!
وسواء أأمسك الدكتور طه كذلك الرجل أم لم يمسك، فما يعنينا ذلك، وليس من وُكدنا أن نطيل في تفنيد دعوى باطلة لا يمسكها دليل من عقل أو فهم، وما كنا لنعرض لها بذكر لولا أن رأيناها قد جازت عند بعض الناس. وإننا لنمضي فنقرر بأنه إذا كان الحكم فرع التصور كما يقول المناطقة، فان الفهم لا شك دعامة من دعامات الحكم الأدبي، وشرط أساسي لا بد منه في تقدير الكلام والحكم على الأثر المنقود، كما هو شرط في الحكم على أي شيء آخر، وقديما قيل: يكفي من حظ البلاغة ألا يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من فهم السامع، ولا جرم أن الناقد إذا لم يفهم، واستباح لنفسه أن يحكم، فهو إما مسيء إلى صاحب الأثر المنقود، فإذا كتب الله له السلامة من الإساءتين فذلك شيء بقضاء وقدر، ولا صلة له بتقدير الفن ومقاييسه، ولا يد فيه ولا عمل لمواهب الناقد وملكاته!
هذا وللجاحظ كلام حلو مستقيم يدخل في هذا الباب، فلا بأس من إيراده وإن كان مرده إلى
جهة القائل لا إلى جهة الناقد. قال أبو عثمان: (قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المختلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن أفكارهم - مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، وحاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمور، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها، وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً، والغائب شاهداً، والبعيد قريباً؛ وهي التي تخلص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيداً، والمقيد مطلقاً، والمجهول معروفاً، والوحشي مألوفاً، وعل قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وافصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع في البيان. . . والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه، ويدعو إليه، ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم. . . والبيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصول، كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر، والغاية التي إليها يجري القائل والسامع: إنما هو الفهم والإفهام. . . وقال علي بن الحسين رضي الله عنه: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الإستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن درك ذلك كان يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة)
ولعمري لقد أصاب الجاحظ شاكلة الصواب في قوله: إن الغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام، فالمسألة قسمة بين القائل والناقد، فإذا كان من الواجب على الأول أن يقول ما يفهم، فأن من الواجب على الثاني أن يفهم ما يقال، ومن ثَمَّ كان طلبهم في الشاعر الحاذق بالصناعة أن يكون شعره مفهوماً واضحاً يسبق معناه ولفظه، وكان شرطهم في الناقد إذ كان يدعي علم الشعر ويتحقق بالأدب، أن يكون يفهم معاني الشعر، وله دربة الغامض والظاهر منها. وهذا رأي قويم تقع به مهمة البيان موقعها من جهة، ومن
جهة أخرى يستطيع الناقد أن ينهض بمهمته، وأن يخدم الأدب والفن كما يجب، فيميز بين الخبيث والطيب، ويفصل بين الشريف والأصيل، ثم هو يقضي في ذلك ونفسه مطمئنة، ورأيه عن ثقة وتثبت. وقد أجاد الآمدي وأفاد في هذا المعنى إذ يقول في صدر باب من كتابه الموازنة:
أما بعد: فإني أدلك على ما تنتهي إليه البصيرة، والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة - يريد صناعة النقد - والجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض. . . فأن علمت من ذلك ما علموه، ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموه، وأخروا من أخروه، فثق حينئذ بنفسك، واحكم يستمع حكمك، وإن لم ينته بك التأمل إلى علم ذلك، فأعلم أنك بمفردك عن الصناعة. . . لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه، فينبغي أصلحك الله أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك!!
على أننا إذ نقول الفهم، فما نعني فهما كالذي يقصد إليه عالم كالعكبري مثلا إذ يقول في مقدمة شرحه للمتنبي:
(وأما بعد، فإني لما أتقنت الديوان الذي اشتهر ذكره في سائر البلدان، وقرأته قراءة فهم وضبط. . . ورأيت الناس قد أعربوا فيه بكل فن وأغربوا، فمنهم من قصد المعاني دون الغريب، ومنهم من قصد الأعراب باللفظ القريب، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب، ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قصد إليه، فاستخرت الله تعالى وجمعت كتابي هذا. . . وجعلت غرائب إعرابه أولا، وغرائب لغاته ثانياً، ومعانيه ثالثاً. .) نعم! نحن لا نعني هذا الفن من الفهم وما هو على غراره من الأساليب التي انتهجها القدماء في شرح الآثار الأدبية، لأن فهم الآثار الأدبية ليس هو بتفسير الغريب، وإعراب المشكل من التراكيب، والتنبيه على مذاهب الاستعارات والكنايات وما إلى ذلك من اصطلاحات أهل البيان، فما هذه كلها إلا مجهود ضئيل قد يأتي بشيء ولكنه لا يأتي بكل شيء، وإنما الوضع الصحيح لفهم الآثار الأدبية الذي يولد فينا الذوق الأدبي، ويقوي فينا الشعور بالجمال، ويصل بنا إلى مقصد الشاعر أو الكاتب، هو أن نستنطق الأثر الأدبي في كل ما يلابسه ويحيط به، وأن نتبين ما هناك من ميول وأهواء، ونزوع واتجاه، في
كلام المؤلف، وشعر الشاعر، وبيان الخطيب فان من وراء هذا كله أشخاصاً ينطقون ويشعرون، فإذا ما خالطنا هذه الآثار ومازجناها، أحطنا بظواهر أصحابها وبواطنهم، واتصلنا بأسرارهم ودخائلهم، وعرفنا خصائصهم وطبائعهم، واهتدينا إلى أخلاقهم وميولهم، ووقفنا على سلوكهم وأوضاعهم، وفي هذا كله ما فيه من ثقافة للذوق، ومتاع للعقل، ثم فيه ما فيه من إفادة للناقد، وتسهيل عليه في درك الحقيقة التي ينشدها، والصواب الذي يسعى إليه.
وهنا سؤال لا بد منه، وقد يكون القارئ فطن إليه من قول العكبري:(ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قد قصد إليه)، فأن القائل قد يقصد في قوله إلى شيء، ولكن الناقد يذهب بفهمه إلى شيء آخر، ما دام اللفظ يتحمله، والتعبير يتسع له، ثم إن الإفهام تختلف، والنقاد يختلفون في استخلاص المعنى من اللفظ، (فمنهم من تكفيه اللمحة الباردة لينتبه إلى النكتة اللطيفة والتلميح البعيد المستظرف في عروض كلام الكاتب فيعدَّ ذلك له من القلائد ويفهمه حسبما أراد به وقصد إليه، ومنهم من يحسبها جملة جرى بها قلم الكاتب عن غير تعمد، إذ أنه يرى فيها شيئاً يشبه وجهاً محجوباً بستر صفيق فلا يدري أحسن هو أم قبيح، ومنهم من يمرَّ بالكلام ولو سألته ماذا أراد به كاتبه لعجب من سؤالك! إذ أنه لم يرَ فيه شيئاً استوقف خواطره، وعلى حسب ذلك الفهم وذلك الشعور ينتقد ويحلل) ويقدَّر ويحكم، وأنت لو نظرت إلى النقاد الذين انتقدوا المتنبي مثلا، لعجبت من مدى خلافهم في تفهم معانيه، والوقوف على أغراضه، وهو نفسه يصوَّر ذلك في أبرز صورة إذ يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها
…
ويسهر الخلق جراها ويختصم
إذن فماذا يكون حظ (الحكم الأدبي) من فهم الناقد، وكيف يقع موقعه من الحق والصواب ما دام للناقد أن يذهب بفهمه على ما يرغب، وما دامت إفهام النقاد تختلف في الدرجة والطاقة على حدّ تعبير العلميين!
والجواب على هذا السؤال سهل قريب، والتعليل له أسهل وأقرب، فان الأمر ليس منوطاً برغبة الناقد يذهب فيه مذهبه ولكن هناك قيود والتزامات، فالفهم المعتبر عندهم في تكوين الحكم الأدبي، والذي يجب أن يتوجه إليه الناقد بكل ما عنده من علم وزكانة، إنما هو
الوقوف على غرض القائل وما يرمي إليه، والى غير هذا الهدف لا يباح له أن يصوب النظر، إذ المقصود إنما هو الحكم للقائل أو عليه، والوقوف على حظه من العبقرية الفنية، وليس مما يصح في منطق العقل أن نحكم على رجل بغير مقصوده، وأن نؤاخذه بغير ما يريده!
إن من الواجب على القاضي في عرف القانون أن يحاول جهده الكشف عن نية المتهم فيما ارتكبه ليحكم عليه في غير ما حيف ولا جنف، والناقد لا شك له مكانة القاضي ومهمته، فمن الواجب عليه كذلك أن يفهم كلام القائل (حسبما أراد به وقصد إليه)، والسابقون من النقاد قد عبَّدوا السبل إلى ذلك، فاهتموا بالتغلغل في شخصية الشاعر أو الكاتب، والكشف عما أحاط به من العوامل والمؤثرات ليكون ذلك في هداية الناقد ومعونته على فهم القائل حق الفهم، ولذلك يقول (سانت بوف): إن من أراد أن يكتب عن شاعر أو كاتب فليبحث حياته وسيرته بحثاً دقيقاً ليعرف كيف كان يعيش في منزله وفي الخارج حتى يمكن تصويره في جميع صوره، ومن المأثور عن هذا الناقد الكبير أنه كان يهتم بقراءة رسائل الذين كان يرغب في الكتابة عنهم الخصوصية وكذلك مفكراتهم واعترافاتهم لأنهم يظهرون فيها غالبا بمظاهرهم الحقيقية
ثم هناك ناحية هامة لا نحسبها تخفى على القارئ الفطن، وهي أننا إذا تركنا الناقد يفهم في الكلام كما يشاء، ويحكم على الأثر المنقود حسبما يذهب إليه فهمه وتصوره، فان حكمه - والحال هذه - يكون على مواهبه هو، ومدى إدراكه وفهمه، لا على مواهب القائل ومدى ما عنده من الفن والعبقرية. ولا شك أن هذا تعطيل لمهمة النقد، وخروج بالحكم الأدبي عن وضعه، ومن ثمَّ فقد أخذ الوهم بعقول بعض الناس فزعموا أن النقد لا حقيقة له، لأنه ليس إلا فهم الناقد لا فكرة القائل، بمعنى أننا إذ نكشف عن معنى في تعبير أدبي، فلسنا نكشف في الواقع عن معنى قصد إليه الشاعر أو الكاتب، ولكنا نكشف عن معنى انقدح في ذهننا وتمَّثل لفهمنا! وقد يكون هذا المذهب صحيحاً أو غير صحيح، ولكنا لا شك نرده على أصحابه إذ نطلب من الناقد أن يكون فهمه إنما هو لمقصود القائل وما يرمي إليه، وهذا أمر هين على الناقد المستكمل الأداة المتدرب بالمران
محمد فهمي عبد اللطيف
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 3 -
ذلك كان فردريك نيتشه، مجسَّم القوة المفكِّرة التي دارت بها النائبات وحاصرتها الأوجاع وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوربا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهزُّ المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته
فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها ناشرة في أوربا مزيجاً من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإدارة الحرة، فقال شوبنهور إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره فوجم حائراً وفي نفسه ظمأٌ في صحراء لا ماء فيها غيرُ وهج السراب، ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها والالتجاء إلى الزهد وانتظار الفناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصية فيها
وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات للاحتفاظ بالعقيدة المسيحية بأبحاث لاهوتية ينسجها حول تعاليم عيسى رهطٌ من المفكرين كنويمن وكورليج وكارليل وشلير ماخر وبيالرووجان باينو وشارل سكريتان وإضرابهم فزجَّوا بالإنجيل في مآذق مجادلات ليست منه وليس منها في شيء. وهل خطر لذلك المعلم الإنساني وهو يدعو إلى تطهير النفس ومقاومة الظلم والأخذ بالرحمة وإقامة الإخاء بين بني الإنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح والانعكاسات من الآفاق والانطباعات في السرائر؟ بل هو خطر له أن يبحث علاقته بالله وعلاقته هو وحده أو هو وأبو الخليقة كلها بروح القدس؟
وأخذ نيتشه بهذه التيارات تهبُّ من كل جانب على فكره الوَّقاد تلهمه الآلام وتثير تشوَّقه إلى حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صبره وجهاده
إن الرجل المتمتع بصحة الجسم وبشيء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما تعطيه، فإذا آمن بالله واليوم الآخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحاً إلى ضميره، وإذا أُخذ بفلسفة الجحود رضي بهذه المرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل جهد
ولا يسطو القلقُ الفكري بخاصة في حالة الحيرة من أمر هذه الحياة إلا على الإنسان الذي يؤدي ثمناً باهظاً من أوجاعه لكل لذَّة يختلسها كالسارق من قوَّته الأسيرة في ضعفه الجائر
إن مثل هذا الإنسان إذا عززته القوة الخفية بالحس المرهَف، يطالب الدنيا ببدلٍ لما يبذل فيها فيستنطق نفسه والآفاق ليعلم ما إذا كان لهذه الإنسانية المعذَّبة المجاهدة ما يبرر محنتها وجهادها
وفريدريك نيتشه كان ذلك الإنسان فما أَرضته من الفلسفة اللاهوتية تلك الأحاجي التي أُحيطت المسيحية بها، وما كان ليرضى من جهة أخرى بهذه القوة الهوجاء التي صوَّرها شوبنهور موجدةً لإنسان لم يُعط له إلا التصور لإقامة أشباحٍ تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه
ونظر نيتشه إلى الوجود فرأى وراء صوره المتحولة مادة تتعالى عن الاندثار، فنشأت فيه فكرة العودة المستمرة، وبدأت صورة زرادشت ترتسم في ذهنه حتى استكملها فأنشأ كتابه في أوقات متقطعة من سنتي 1883 و1885 في فترات كانت تسكن فيها حِدَّة دائه أو هو يسكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال المخدر. وهو نفسه يقول: إنه كتب كلاًّ من الأجزاء الثلاثة الأولى من زرادشت في مدى عشرة أيام كان فيها مأخوذاً بإلهامه خاضعاً لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرهقته إرهاقاً
إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح الأحلام، فان نيتشه يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتاً من رقابة القوى الواعية فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحلام تبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية ولكنها تتبع في مرورها وحركاتها ما نحسبه تضعضعاً في عالم القوى الساهية المجهولة
لقد ماشينا نيتشه في حلمه وهو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساهية اسم زرادشت الفارسي الذي قال بالخير والشر كقوتين تتنازعان حياة الإنسان، فرأينا زرادشت المزيف لا يقلد الأصلي باتخاذه أتباعاً له وباقتباسه لهجة حكماء الشرق إلا ليعارض فكرة الخير والشر قائلاً: إنها نشأت دخيلة على الإنسانية، وأن ليس لهذه الإنسانية أن تتفوق على ذاتها إلا بإنكار الخير والشر وتحطيم ألواح الشرائع المقدرة لقيم الأعمال، لأن كل شعب
أشترع لنفسه ما لا يتوافق واشتراع جاره
ولكن نيتشه المتلبس خيال زرادشت في رؤياه لم ينتبه إلى أنه يرتكب تناقضاً بيناً في دعوته إذ ينكر ما يراه من خير وشر طلباً لحالة جديدة يراها هو خيراً يريد أن يتسلح به للقضاء على شر ينكر وجوده
ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخير والشر كما يدعي زرادشت الجديد، أو بتعبير آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخير فلماذا يطلب زرادشت هذه الحقيقة وهو يعلن أنها الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركته؟
إن تحديد الخير والشر في الكلمات العشر إنما هو أساس كل شرعة تكفل حق الفرد ونظام المجموع
لقد تتناقض الأحكام التي تسنها الحكومات والجماعات في مجال الأزمان مستوحاة من حالةٍ موقتة تدفع إليها حاجةٌ ملحَّةٍ، فتُكتب ألواحٌ تستبدَلُ بتبدُّل الوضع والملابسات ولكنَّ السننَ التي تسن لهم من الشريعة الموحى بها لا يمكن أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيلات الأوضاع الإنسانية. وكلُّ شرعةٍ أصيلة تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتماً وكلَّ شريعةٍ تحدَّرت مثلها من ذلك الأصل
إن زرادشت الجديد لم يَجُلُ في مسارح حلمه فاتحاً لسريرته مجالات التفكير إلاَّ وهو يحتفظ بانطباعاتٍ من تواريخ الأمم القديمة الوثنية وبصورٍ متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثَّلت هذه السننُ أشباحَ ألواحٍ نتراقص عليها ألوانُ البِدَع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو اتباعه إلى تحطيمها
أما اللوحان الأوَّلان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسان أخاه بما يريد أن يعامله أخوه والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكلِّيات تُستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فان زرادشت لم يبحثها، مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراءَ أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته. وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدَّع بما حُشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شُغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار
وتبلبل الفكر فيضطر من أَلمَّ بها إلى نبذها جميعاً لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها
وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادماً كلَّ ناموسٍ ونظامٍ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجودٍ شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبداً قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ
ولا يطمعنَّ القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهاماً لأنه لن يظفر منه صور يلمحها لمحاً في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثرٌ لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه وهولا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسيه ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلواها جثة على مدى الأحقاب.
لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوَّهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصباً وجهلاً فوقف مفكراً جباراً لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين. وهكذا هبَّ يطلب للإنسانية إلهاً منها يسودها، وللأرض معنى أبدياً يحول كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود. . .
ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكملا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيماناً بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلام من مبادئ اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستوراً يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع، ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محباً للحياة والقوة والجمال والحرية دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها
ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد رأى أن التكامل النبل عطف الألوهية الراسخة في الأذهان
والتخلص من عقابها الصارم يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العقلية الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة فثار على هذه الألوهية المزيفة التي ما عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه، وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته
هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت وهو في تقديرنا إذا نحن استترنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيتنا السامية جحودٌ يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد رب الناس أجمعين.
بل أننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في حديث للنبي الكريم على قولٍ أو في كلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر، وهي
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)
إذا ذكرنا ذلك، يتضح لدينا أن نيتشه قد ذهب إلى أبعد مدىً في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصية الثانية وهي وصية راسخة في أرواح أبناء هذه البلاد الشرقية العربية، فليس إذاً في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يتمشى والمبادئ العليا التي اتخذها السلف الصالح أساساً لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة
(البقية في العدد القادم)
فليكس فارس
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تشيعه
يقوم التشيع على أساس اعتقاد انحصار الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في علي وقرابته من بني هاشم، وهو بعد هذا ذو درجات مختلفة في العلو والاعتدال، فيصل في الغلو إلى حد تكفير الصحابة الذين حالوا بين علي والوصول إلى حقه في الخلافة ويصل في الاعتدال إلى حد الرضا عن الشيخين أبي بكر وعمر دون غيرهما ممن حكم بعدهما
وكان الكميت أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وقد قال الجاحظ ما فتح للشيعة الحجاج إلا الكميت بقوله:
فأن هي لم تصلح لحيٍّ سواهمُ
…
فأن ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثهُ
…
لقد شركت فيها بكيل وأرحب
وهو يرد في هذا على من يقول في هذا على من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث كما يورث غيره، فيقول إنه لولا تراثه وأن آل بيته أحق بالخلافة لأنهم ورثته لكانت لتينك القبيلتين وغيرهما من القبائل العربية نصيب في الخلافة، وكان الناس كلهم سواء فيها
ولكن الكميت لم يكن يعلو في تشيعه إلى الحد من تكفير أصحاب رسول الله، وكان يتورع في شعره عن لعنهم وإن كانوا مخطئين في نظره، وهو إنصاف من الكميت لم يكن يعميه عنه خصومة الرأي. ويظهر أن الإنصاف كان طبعا له مع كل مخالفيه في الرأي، وقد ذكرنا ما كان بينه وبين الطرماح ابن حكيم من المودة والألفة، وكان الطرماح من شعراء الخوارج. ويجب أن نستثنى بني مروان من هذا الاعتدال في خصومته، لأنه كان يغالي في خصومتهم كغيره من الشيعة، ولعل السبب في ذلك أن خصومتهم كانت هي القائمة في عهد الكميت، أما خصومة غيرهم فكانت خصومة قديمة لا معنى لاحيائها والغلو فيها. وقد أفرط بنو مروان في خصومتهم لبني هاشم، فأفرط الكميت في خصومتهم كما أفرطوا
وغالى فيها كما غالوا.
وقد ذكر الكميت أبا بكر وعمر رضى الله عنهما في بعض هاشمياته فتحرج في أمرهما بعض التحرج، وقال في ذلك:
أهوى عليا أمير المؤمنين ولا
…
ألوم أبا بكر ولا عمرا
ولا أقول وإن لم يعطيا فدكا
…
بنت النبي ولا ميراثه كفرا
الله يعلم ماذا يأتيان به
…
يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
وكانت فدك قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهلها سنة سبع من الهجرة يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوه على نصف الأرض، فقبل منها ذلك وصار نصفها خالصا له، لأنه لم يوجف على ذلك بخيل ولا ركاب، فكان ينفق ما يأتيه منها على أبناء السبيل، وفعل ذلك الخلفاء الراشدون بعده، فلما ولى معاوية أقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لبنيه، ولما ولى عمر بن عبد العزيز ردها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله والخلفاء الراشدين، فوليها أولاد فاطمة رضى الله عنها، ثم أخذت منهم بعده، ثم ردها المأمون إليهم سنة عشرين ومائتين، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تصدق بها على فاطمة رضى الله عنها
وأما منع أبا بكر وعمر وفاطمة ميراثها فقد اعتمد فيه أبو بكر على ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) برفع صدقة على أنه خبر المبتدأ قبله، والشيعة يروونه بالنصب على أنه حال لا خبر، وتقدير الكلام على هذا - لا نورث ما تركناه حال كونه صدقة - ويفهم من هذا أنهم يورثون غيره
وقال الكميت في ذلك أيضاً:
نفى عن عينك الأرق الهجوعا
…
وهمٌّ يمتري منها الدموعا
دخيل في الفؤاد يهيج سقما
…
وحزناً كان من جذل منوعا
لفقدان الخضارم من قريش
…
وخير الشافعين معاً شفعيا
لدى الرحمن يصدع بالمثاني
…
وكان له أبو حسن قريعا
حطوطاً في مسرته ومولى
…
إلى مرضاة خالقه سريعا
وأصفاه النبي على اختيار
…
بما أعيا الرفوض له المذيعا
ويوم الدوح دوح غدير خم
…
أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها
…
فلم أر مثلها خطراً مبيعا
فلم أبلغ بها لعناً ولكن
…
أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار بذاك أقربهم لعدل
…
إلى جور وأحفظهم مضيعا
أضاعوا أمر قائدهم فضلوا
…
وأقومهم لدى الحدثان ريعا
تناسوا حقه وبغوا عليه
…
بلا ترة وكان لهم قريعا
فهو في هذا أيضا يأخذ عليهم ما فعلوه في الخلافة مع علي رضى الله عنه، ولكنه لا يصل في أمره إلى لعنهم، ولا يغمط ما كان لهم من العدل في الحكم كل الغمط، وإن كان يرى أنهم أساءوا في ذلك وضلوا عن الحق، وهذا غاية ما كان يمكن أن يقوله الكميت فيهم لترضى تشيعه، ويلائم بين شعره وعقيدته. وغدير خم موضع بين مكة والمدينة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضى الله عنه (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) وقال أيضا (من كنت مولاه فعلي مولاه) فقال عمر رضى الله عنه: طوبى لك يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة
هذا ولا يزال المسلمون يتنازعون في كتب الكلام على هذا المنوال الذي لا يفيد شيئا في هذا العصر، وقد خرج الأمر من أيدي بني هاشم وقريش جميعا، ولا معنى لهذا النزاع بعد مضي تلك الأزمنة التي كان له معنى فيها، ولكنه الجمود على تلك الكتب هو الذي يجعلنا نعكف عليها، وإن كانت تزرع بين المسلمين حقد بعضهم على بعض، وتفرقهم أحزابا وشيعا في وقت هم أحوج فيه إلى الاتحاد والتحاب، ولعل الله يرزق المسلمين من المصلحين من يجمع كلمتهم بعد افتراقها، ويربي فيهم خلق الإنصاف والتسامح، حتى تصفو بينهم هذه الحياة، ويسود بينهم الإخلاص والمودة، ولا يحملون من اختلافهم في الرأي سببا في الانقسام والتفرق، لأن هذا الخلاف لا بد منه، وهو إذا خلا من ذلك الغلو توسعة ورحمة
عبد المتعال الصعيدي
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة الآنسة (ج. ب. ستيرن)
للأستاذ احمد فتحي
في تعاون خبيث بين عقلي الواعي والباطن، يبدو لي دائماً أنني كنت - حتى الثامنة عشرة - قد أرصدت عمري كله لإخراج قصتي الأولى. ولكنني حين أرجع البصر في الموضوع؛ أتبين أنني لم أخرج هذه القصة الأولى إلا بعد أن بلغت الحادية والعشرين. وإن أبعث للإنسان على استدعاء صور الماضي أن يكون قد كتب قصته الأولى وهو لم يودع من عمره سوى ثمانية عشر ربيعاً، وأن تكون قصته تلك على جانب من الأمانة الفنية، كما أذكر من أمر قصتي الأولى (يانتومايم)!
وحين أنظر الآن إلى القصص الأولى لكثير من الكتاب المعاصرين، أجدها تتساوى في السطحية والضآلة وإظلام آفاق التفكير. فما أجد بينها واحدة كانت خليقة أن تبشر بخير، غير أنها جميعاً تنطق أفصح النطق بما أحب أن أدعوه (فوضى السخرية!). . . والحقيقة أنني كنت أميل كثيراً إلى القصص الساخر إلى ما قبل ظهور قصتي الأولى بسنوات. وهذا اللون الساخر نفسه من ألوان الفن القصصي، كان صورة من أظهر صور العصر. وكم كنت أرقص طرباً كلما قرأت شيئاً لأحد من أعلامه، ولا سيما كاتب (برونللا) وهو (لورنس هاوسمان) وكاتب (مهرج العصر) وهو (إيرنست داوسن)!
ولقد كانت تلك سني حياة ساخرة عابثة مرتجلة!. . ولربما أسفت عليها الآن وحننت إليها حنيناً. . .
وتأثرت بطراز هذه القصص الساخرة فكتبت على غرارها كثيراً من القصص، أذكر منها واحدة اسمها (بائع الأحلام)
وكان هنالك كاتب اسمه (باري) وآخر اسمه (لوك) وإني لأذكر كيف كان أبي في أحيان كثيرة يقول لي (آه. . . حينما تستطعين أن تكتبي مثلما يكتب (لوك!) ثم يهز رأسه في قنوط؛ دون أن يتم العبارة. .!
على أن أعلى مثال للقصة الساخرة كان ولم يزل؛ مائلاً في (كرنفال كوميتون ماكنزي) وقيمتها الخالة ترتكز على ما فيها من دراسة صادقة حية لشخصية البطل، ولكني لم يكن يعنيني كثيراً منها ومن أمثالها من قصص هذا الطراز الساخر سوى بعض العبارات الملونة التي تتمتع بقسط أوفى من قوة الإفصاح وصرامة التعبير. وإني لأذكر حين كنت في مستقبلي أتحدث إلى إحدى صاحباتي ممتدحةً قصة (الكرنفال) كيف أن صديقتي قالت في أسلوب رائع من النقد الفني (أجل. . . هذا المؤلف يستطيع أن يكسو الصفحة من الورق منظراً طبيعياً ساحراً). . . وقد أغْلَى هذا من طمعي، وحسبتني مستطيعة أن أكسو - أنا الأخرى - صفحتي منظراً طبيعياً ساحراً! جعلت أتخيّله، بألوانه، وظلاله، ومشاهده، ولم تكن هذه المحاكاة يسيرة ولا قريبة المنال، فأن التزامها كان يقتضيني ثلاثة أمثال ما يلزمني من الوقت!
كنتُ إلى أن بلغت الحادية والعشرين، أُعَني بكتابة المسرحيات وحدها. لأنني كنت أودُّ حينذاك أن ألعب أدواراً في مسرحياتي إذا أخرجَتْ! وكذلك كنت أكتب الأشعار، ومن قصائدي واحدة اسمها (هنا مضحكون آخرون) لا أزال أرويها إذا ألحَّ عليها طلب حار؛ ولكنه لا يوجد! كما أنني كتبتُ ثلاث أقاصيص قصيرة حملتها بنفسي إلى محرر (المجلة القصصية) وكان في ذلك الوقت (ر. سكوتلاند ليدل). ولقد كان - على غير متوقُّع مني - إنساناً لطيفاً. انصرفتُ من حضرته بعد أن وعد بنشر أقاصيصي، وبعد أن أمضينا وقتاً طيباً في حديث طيب. وفي بضعة الشهور التالية لم أسمع شيئاً عن هذه الأقاصيص، ثم لقيت الرجل مصادفةً في شارع (أكسفورد) وما كاد يراني حتى أخبرني بأن أقاصيصي جميعها قد ظهرت في مجلته، وأنه كان الأيسر أن أترك له عنواني كي يبعث إلي بثمن ما نُشر لي!
وبعد، فقد أستطيع التحدث عن بدء كتابتي (القصة) بمعناها الصحيح. ولحسن الحظ أن الثامنة والأربعين تنظر إلي الحادية والعشرين بعطف وإشفاق، وفي غير فزع! كان الدافع لي على الكتابة هو تلك الخاتمة الفاجعة الأليمة التي انتهى بها (حُبِّي) الذي حسبت أن لا نهاية تنتظره! والذي كان غراماً شعرياً إلى غير حد!
كان (تشارلس) غضَّ السن، جذاباً ذكيَّ الفؤاد. . . التقينا في بعض حدائق (ميدنهد) ثم
أهدى إلي نسخة من كتاب (لورنس) المسمى (ماكيافيللي الجديد). ذلك الكتاب الذي ترك في نفسي أبعد الأثر بفصوله الرائعة، وبأنه هدية من حبيب القلب!
كان مغرماً بالطائرات، ولقد حملني مرة على متن إحداها في مساء ساحر، وعدنا إلى بيته بعد أن أنتصف الليل بساعتين، ولقد تلقاني قومه في شيء من عدم الارتياح، والشك في مستقبلي ككاتبة! وعلى أي حال فأن والدته من فورها قد أخذت تعلمني كيف ترقع سراويل الرجال!
دامت خطبتنا عاماً. ولم يكن هنالك من المتاعب سوى افتقاري إلى المرانة في البيت. فقد نشأت في بيئة فتيات يهوديات من عائلات طيبة. ولم تكن هذه البيئة دينية على وجه الإطلاق. وإنما كانت تتميز بالزهد وتتشبث بأهداب الطهارة. وإني لأذكر العبارة التي كانت الفتيات يستعملنها دائماً فيما بينهن. . . (إنك لن تظفري بزوج أبداً ما لم تظلي نقية. . . وعذراء!)
وربما لم تكن هذه العبارة تعنيني وحدي، ولكنها كانت تفنى في جوي أنا. . . ربما؛ حقاً إنها لم تزل تفنى في جو حياتي إلى الآن!. .
إن شباب هذه الأيام، على قلة ثرثرتهم، يعرفون جيداً كيف يجيبون على سؤال شاب حار الدم، خطب لنفسه فتاة يحبها، وقد أمضى وقتاً طويلا وهولا يستطيع الاقتران بها لعجزه عن التغلب على بعض العوائق الاقتصادية!. أجل، إن شاب اليوم يستطيع أن يقطع برأي حاسم في مثل هذه المسائل. ولكن، حين عرضت لي نفس الظروف لم أستطع أن أصنع شيئاً، بل لم أعلم ماذا يراد أن يصنع بي. وقد ندر ما كنت أتحدث وخطيبي في هذا الصدد، بصفة غير مباشرة. وهذا من أظهر الفروق الملحوظة بين تلك الأيام، وبين أيامنا هذه!!
واعترف لي الفتى بأنه كانت له عشيقة، امرأة جميلة، ولكنها ليست (خاصة)! وكانت تكبره في السن
(بالتأكيد يا تشارلس، كان هذا قبل الآن. . .) هذا ما قلت له، دون أن أعلم أنني كنت وراء مطلب عسير، هو النقاء التام في الجسد، كما في الروح!!
لم يرض أبي عن هذه الخطبة من أول الأمر، وكثيراً ما كان يقول لي (ليس في خلق هذا الفتى شيء من الثبات، هل هو على شيء من الثبات؟ كلا!. .)
وكنا نلتقي، كعاشقين مضطهدين، في ظل استياء أبي وتجهمه. ومضى عام كامل. . . وكان (تشارلس) مهندساً بارعاً ولكنه كان قليل الصبر على عمله المسئم الذي لم يكن يبشر باتساع في الرزق!
وفي بعض الأماسي، حيث كنت أعيش معه ومع أمه، صحب عشيقته إلى (دروري لين) وكان الصباح التالي مقروراً جهما. وكذلك كنت. وحين أقبل المساء اعترف لي بأنه لا يستطيع أن يحتفظ بأمانته لحبي أكثر من ذلك. وقذفني ببعض الألفاظ المؤلمة! فأخذتني المفاجأة شر أخذة. ثم افترقنا بوسيلة تمثيلية أكثر مما كان ينبغي!!
كيف أعالج بقية أيام حياتي؟!. هذا هو السؤال الذي ألح على خاطري بعد فشل غرامي العظيم! ولقد وثب إلى ذهني أنني لو استطعت أن أكتب قصة من روائع الفن فسأبعث الحسرة والأسف في نفس من نأى عني بجانبه. . .
وفي مخدع أنيق في (برايتون)، وبغير تحضير تقريباً، بدأت أكتب السطور الأولى من قصتي الأولى.
كان على حوائط المخدع أستار جميلة مسدلة، وكانت نيران الموقد تتلظى في لهب ساطع براق. وإني لأذكر القليل من ظروف كتابة (بانتومايم) وإن طريقتي الآن هي أن أظل أدور حول موضوع قصتي شهوراً؛ قبل أن أبدأ في تسجيل فصولها؛ مع تسطير بعض الخواطر المبعثرة على أوراق منفصلة أجمعها في النهاية فتكونِّ هيكل الموضوع الناضج الذي أخرجه للناس. وفي ذلك الحين لا بد أن أكون بدأت تسجيل فصول قصتي مباشرة، لأسري عني الألم، وأزجي الفراغ الذي كان يملأ حياتي، والذي كنت أشعر به دائماً.
وعقدت في تلك الأثناء صداقة وثيقة مع فتاة في مثل سني اسمها (روز آلاتيني) هي اليوم تحترف الكتابة باسم (لوسين ونيرايت) وكانت هي أيضا قد بدأت كتابة قصة. وكثيراً ما كنا نكتب مجتمعتين قلماً إلى قلم! وكثيراً ما كان يحدث في تروضنا بالمشي أن نقف بأسماء الناشرين المعلقة على دورهم؛ نفكر أي دور النشر الكثيرة هذه يحسن استقبالنا بعد حين؟! ولقد استقر رأينا على دار (بوولى هد) أخيراً. . .
وحدث أن كنا في بعض خلوتنا الفنية نكتب في جو حالم حين طالعنا وجه رجل أبيض الشعر معقود الحاجبين، عرفنا فيه (جون لين) ولم نشأ أن نصدمه بإخباره بأننا نكتب
(قصتين) سنعرض عليه أمر نشرهما في القريب!
بعد فراغي من كتابة قصتي الأولى (بانتومايم) بعثت بها إلى والد (مارجريت هالستان) الذي كان قد أرضته مسرحية كتبتها منذ أربعة أعوام تقريباً حينما كنت في (الأكاديمية المسرحية) واسمها (خادم الأجم) كانت مفزعة حقاً. وكانت له في نشرها وجهة نظر خاصة.
وقرأ المستر (هرتز) قصتي فزعم أنها عمل فني من الطراز الممتاز، وكان في ذلك حسن الظن جداً، ولكنه لم يكن مصيباً. كان في القصة الإجادة ولكنها لم تكن ترتفع إلى الدرجة الأولى. بل إني لأقرر الآن أنها لم تكن أكثر من بشير بالتقدم. ولو أنه أتيح لي - الآن - أن أكتب رأيي في نفسي - حينذاك - لما زدت على قولي:(لهذه الكاتبة استعداد حسن، ولا يبعد أن تنبغ إذا استطاعت أن تقهر أخطاءها الشنعاء!)
على أن الرجل قد كتب إلي يقول إنه قد أظهر على قصتي صديقاً له يدعى المستر (جيمس دوجلاس) وقد تفضل هذا بدوره فكتب إليَّ مطرياً يقول إنه قرأ القصة، ثم دفع بها إلى صديقه (جون لين). وظننت بذلك أنني أصبحت (في عداد المؤلفين) الذي تعتمد عليه دار (بودلي هد) للنشر! ولكن (جون لين) لم يلبث أن أعاد إلي قصتي مصحوبة بقوله (إن هنالك ناشرين يرضون بأن يقبلوا هذا الهواء المزركش - على حد تعبيره - ولكن دارنا لا يمكن أن تفعل ذلك!)
وانزعجت كثيراً. . . فان قرار الرجل كان يبدو نهائياً بقدر ما كان يبدو فيه من تحقير! ولم يكن لي من قوة الروح ما يبرر لي الظن بأن (جون لين) لم يكن يدري عم يتكلم! ولم يكن يتبين العمل الجيد حين يقدم إليه. أو لم ينشر (الكتاب الأصغر)؟؟ أو لم يكشف الستار عن مئات العبقريات المغمورة
وعلى أي حال فإني لا أكاد أذكر من الذي نصح لي بأن أبعث قصتي إلى (كالثروب) وأن أسأله عما إذا كانت رديئة إلى هذا الحد!
ولم أكن لقيت أبداً أكبر الأخوة الذين يحملون اسم (كالثروب) ولكن، عندما كنت في السادسة عشرة كان (دونالد كالثروب) ممثلاً محترفاً، وكان بطلا في نظري، وكان فوق ذلك يهوى واحدة من زميلاتي بالدراسة اسمها (نيللي) وقد رغب وإياها في إخراج إحدى
مسرحياتي، ولكن أخاه الأكبر (ديون) نصح له بالعدول، وإنما وعد بمساعدتي إذا كتبت خيراً منها في المستقبل!!
ولقد تحقق وعده على الأيام. إذ قرأ لي (بانتومايم) وما لبث أن كتب لي في تظرف ورقة يقول إنه أوصى بي وصاة خاصة عند الوكيل الأدبي لأعماله ويدعى (جيمز بنكر) وكلفه أن يرعاني. غير أنني، في قلة صبري وقلة تجاربي. لم يكن يرضيني منه أقل من أن يقول لي (إن الدنيا تحت قدميك جميعاً. تفضلي يا عزيزتي يسي ستيرن)!!
ودعاني المستر (بنكر) للقائه. فلما ذهبت إليه وسألته سبب هذه الدعوة، قال إنهم يريدون أن يكسبوا مالاً عن طريقي! وذكر لي أنهم يتبعون نفس الطريقة مع سواي وعدد لي أسماء اطمأننت إلى سماعها، وتركت له القصة، وجعلت أرتقب المستقبل!
واتفقت نهائياً على نشر القصة في سبتمبر 1913، وظهرت للناس في يناير 1914. ولم تكن هذه سنة حسنة ليبدأ أي إنسان حياته العملية!
وأنا وإن لم أقرأ القصة قراءة كاملة منذ عام 1914، إلا أنني كثيراً ما أتصفح بعض فصولها بين الفينة والفينة، فأجد فيها كثيراً من الهفوات التي أصبحت أنزه عنها أعمالي الأدبية، غير أنني أجد فيها دائماً أشياء تبعث على الارتياح
وكثيراً ما أصادف من قرائي من يقول بأن (بانتومايم) قصتي الأولى والأخيرة، وأنني لم أكتب مثلها أبداً!
بل قد يسألني بعض القراء (متى أكتب) قصة جيدة مثلها؟ فابتسم، وأقول (أرجو. . . في القريب)
احمد فتحي
رسَالة الشعر
رحلة في الخيال القريب
في الريف
للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي
بينما كنتُ ذاهباً في السماءِ
…
حائماً كالشعاع فوق الماءِ
هائماً في الوجود أَنشُد نفسي
…
حيث تصفو، وأنفسَ الأَصفياءِ
هارباً من حقيقة الأرض وحدي
…
سابحاً في حقائق الأحلامِ
مؤنساً وحشتي ببهجة روحي
…
وينبع الجمال والأنغامِ
أتملّى الوجودَ فوق ذراهُ
…
وأناغي المال تحت التراب
وأراني على جناحَيْ خيالي
…
فأرى الأرضَ مثل لمع السرابَ
سارياً في حماية الله ربي
…
طائراً في مسارح الملكوتِ
لست أعدو محلقاً أتغنى
…
بعلاه في منطقي وسكوتي
بينما ذاك جاذبتني قلبي
…
وجناحيَّ نزعةٌ للريفِ
وأنا الريفُ منبتي. وحياتي
…
من نسيمَيْ ربيعه والخريفِ
فتهاديتُ أملأُ الروحَ من في
…
ض الحياةِ التي يُفيضُ الوادي
ساكباً في فؤاده من شجوني
…
آخذاً من شجونه في فؤادي
عابَداً في جماله مجدَ ربٍّ
…
جعل الريفَ آيةً في الجمال
خضرةٌ يغمر الضياء حلاها
…
ومروجٌ ملوَّناتُ الظلالَ
ليس أبهى من مشرق الشمس فيها
…
تحت غيمٍ وشجوها في الغروب
ولقد يغضب الشتاء قليلاً
…
فَيشي الضوءُ بالجبين الغضوبِ
يا لبدع الغمام باللون عند ال
…
لون (والطيفُ) ضاربٌ (بالقوس)
فإذا البدر ما جلته الليالي
…
أخذت ليلها من الفردوس
جنةٌ غير أنها في هوان
…
ضاربٍ ظلّه على أهليها
كل من جاءها غريباً (تمنى)
…
وابنها وحده المعذَّبُ فيها
ساد فيها السلامُ - والسلمُ إلا
…
في ظلال السيوف - ذلٌ مقيم
تعتدي فوقها الذئابُ. ونرجوا
…
ورجاءُ الذئاب رأيٌ عقيم
أمَّنوا في حماكِ يا مصرُ شعباً
…
ثم عاشوا عليكِ عيشَ الطريد
ربَّ قوتٍ مرارة الجوع فيه!
…
وجياعٍ لم يشبعوا من ثريد
وبيوت كأنهن كهوفٌ
…
أو قبورٌ بنين للأحياءِ
أقسم النور لا يَراهُنّ إلا
…
من ثقوبٍ كأعين الرقباءِ
أيباع الهواءُ في مصر حتى
…
تحرمون الهواَء تلك الدورا؟
ونفوسٌ أم هذه حشراتٌ
…
ليت شعري أدخلتموها الجحور!
تلك أنشودة العصور الخوالي
…
لو ضميرُ الزمانِ كان سميعاً
عجباً يا حمامة من بعيدٍ
…
نسمعُ اللحنَ منكِ يجري دموعاً
بت أصغى إليه من كل قلبي
…
آسراً لُبِّىَ الذكاءُ العطوفُ
وعليه من الأنوثة فيضٌ
…
وجمالٌ، ونفحةٌ، ورفيفُ
أأحييك في العظائم عوناً!
…
أم أحييك باسماً للجروحِ!
فسلامٌ عليك يا ابنةَ مصر
…
وسلامٌ إلى صديقةِ روحي
إبراهيم إبراهيم علي
القبلة الأخيرة
للأستاذ إبراهيم العريض
وقَفْنا. . ولما يُشْرِقِ البدْرُ طالعاً
…
ولا سبَقْتُه في السماء نجومُها
على جدْوَل قد صقَّلتْه يدُ الصَبا
…
فمالتْ مع الأغصان فيِه رسومها
وخرخرةُ الأمواهِ أثناَء جريها
…
على حجَر يرفضُّ منه نظيمها
كترنيمة المانِيِّ عند عُكوفِه
…
على ضوءِ نار في صلاةٍ يقيمها
وكنتُ على ما بي الحُزْن واجماً
…
وكانت هي الأخرى كثيراً وجومها
فلما رأيتُ الصمْتَ طال على جَوَى
…
تُزكِّيهُ أُحدانُ الدموع وتومها
وعهدي بها ما شافهتْني بغُنَّةٍ
…
من اللحْن إلا واستباني رخيمها
نطقتُ اسمها همْساً لِترْفعَ رأسها
…
إِليَّ فلم تفعَل ولستُ ألومها
وأنَّى تناغيني بسابق بِشْرِها
…
وأنفاسُها الحرَّى تكادُ تزيمها
فلمْ يَكُ بدٌّ أن أُحدِّث بالذِي
…
يَسُرُّ وإنْ غال السعادةَ شُومها
فقلتُ انظُري ياميُّ حولَكِ للصَبا
…
تُرَاودُ أزهاراً فيزكو نسيمها
وللطير تشدو في الغُصون صبابة
…
إلى إلفِها - لا مسَّها ما يَضيمها
وللموْج يصبو للتعانُقِ بعضُهُ
…
إلى بعضِهِ من غير أيْدٍ يُقيمها
وللغيْمِ في حِضْنِ الغمامةِ يرتمي
…
كما يرتمي في حِضْنِ خَوْدٍ حميمها
ترَىْ كل شيءٍ في الحياةِ مسخَّراً
…
إلى الحبِّ موْقوفاً عليه نعيمها
يُخيَّلُ لي أنَّ الطبيعةَ مثْلَنا
…
تحِسُّ ولولا ذاكِ ما طابَ خِيْمُها
رأتْ ما بنا من لوْعةٍ فتألَّقتْ
…
كأحسنِ شيءِ شُهُبها وسديمها
لِتنجابَ عن نفسي ونفسِكِ ظلمةٌ
…
من اليأسِ لا يفضي لصُبح بهيمها
فصعَّدتِ الأنفاسَ من حرَّة الجوى
…
وقالت (بودي لو تعفّت رسومُها
وأيُّ عزاءٍ لي إذا شَّطتِ النوى
…
بأن خاتلْتني في السماء نجومها
أتعلُم هذا آخِرُ العهد بيننا
…
وتبغي سُلوِّى أي حال ترومها
أما ضمَّنا وشكُ الفراقِ هُنيهْةً
…
لنبكي حياةً زال عنا نعيمها
وإن كانَ بالحبِّ استتبَّ نظامُ ما
…
نراهُ كحَّباتٍ حَلاها نظيمها
فما باُلنا نشْقَى كذا بودادِنا
…
ونجْرعُ كأساً لا يُطاقُ حميمها
أما نحْن أوْلَى من طُيورِ خميلةٍ
…
بألحانِ حبٍّ في الحياةِ نُديمها
أيُقضَى لنا من دُونِها بتَشتُّتٍ
…
فترْضَى به إلا شتاتاً يَضيمها)
فلمْ أَتَمالكْ دونَ أن مِلتُ نحْوَها
…
وبينَ ضُلوعي ما يكادُ يُقيمُها
وقلتُ (ارفقِي يا ميُّ بالنفسِ حِسْبَة
…
فدْيتُكِ خوفاً أن تطيشَ حلومها
أَأَشْفَقْتِ أن تُطوى صحائِفُ حُبِّنا
…
وهيْهاتَ في عَيْنيَّ خُطّ رقيمها
أبَى ليَ قلبٌ طالَ فيكِ وجيبُه
…
وعينٌ هواها حيثُ أنتِ يَشيمها
بأن أتملّى جُرْعةً من زُجاجةٍ
…
إذا لم يكُنْ ذكراكِ دوْماً نديمها
أأسْلوكِ؟ لا والله حتى يَعودَ لي
…
شبابي وأَحْلَى الذِكرَياتِ قديمها
ولو عادَ لي حقاً إذاً لقضيْتُهُ
…
كعهْدِكِ بي في لوْعةٍ اسْتَديمها
وهل أشبَهتْ دنيايَ إلا قلادةً
…
بديعاً دراريها. . وأنتِ يتيمها)
فأدنتْ فماً مثلَ الأقاح مُنوّراً
…
تُوَدِّعُ. والأحشاءُ دامٍ كلُومُها
وقد أرْسَلَتْ من شَعْرِها حولَ وجْهها
…
ففاحَ كعرْفِ الياسَمينِ شميمها
وضمَّتْ على الصدْرِ اليَدَيْنِ كأنما
…
هنالِكَ شيْءٌ بالعذابِ يسومها
فقبَّلتها ما أَسْعَفَ النَفَسُ الذّي
…
احتسبتُ جنُوناً قُبلة أسْتديمها
وأشرقَ نورُ البدْرِ من خلفِ غيْمةٍ
…
فغادرْتُها. . . والنفْسُ ولهى ترومها
(البحرين)
إبراهيم العريض
أسيران
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
أيها الطائر الحب
…
يس ترنم كما تشاء
أنت في أفقها الند
…
ى كما كنت في السماء
حولك السحر دافق
…
ما ترنمت، والسناء
أنت في ظلها الظل
…
يل كما كنت في الخلاء
حولك الورد باسم
…
أبد الدهر في نماء
كلما صحت شادياً
…
أقبلت تسمع الغناء
ملء آذانها غنا
…
ؤك ما ذاع في الفضاء
لست مثلي تضيع أل
…
حانه كلها هباء
وإذا ما ظمئت جا
…
ءتك بالماء: أي ماء!
لست مثلي إذا تَغَ
…
نَّى بلا رجاء
وتوافيك في الصبا
…
ح وتلقاك في المساء
لست مثلي يحن في
…
كل يوم إلى اللقاء
حولك الخلد كله
…
فلم النوح والبكَاء
ليتني ما حييت في
…
أفقها أنهل الضياء
ليتني ما حييت في
…
جوها أنشق الهواء
ليتني ما حييت في
…
سمعها أسكب الغناء
ليتني ما حييت من
…
كفها ألقط الغذاء
ليس من يشتكي الحيا
…
ة كمن يشتكي الفناء
فدع النوح لا تخل
…
إننا في الأسى سواء
عبد الحميد السنوسي
البريدُ الأدَبي
أحكام الشريعة الإسلامية في تعديل القوانين
قدم نائبان محترمان اقتراحاً هاماً يتضمن (1) مراعاة الشريعة الإسلامية كلما أريد تعديل في القانون القائم (2) رد القوانين القائمة بقدر الإمكان إلى أحكام الشريعة الإسلامية (3) إدخال عنصر يمثل الفقه الإسلامي في لجنة تعديل القوانين. . . وقد سبق أن بدأ الدكتور السنهوري النضال من أجل هذه الغاية، وقد وافق مؤتمر القانون الأخير على حسبان الشريعة الإسلامية مصدراً عظيماً من مصادر التشريع العام الذي يحرص كل الحرص على خير الإنسانية وتوزيع العدالة بين أفرادها والذي نرجوه في هذه الحركة أن تقوم كلية الشريعة بنصيبها في العناية بهذا الأمر فتصل أسبابها بأسباب كلية الحقوق وتقرر دراسة القانون المقارن بها وتوسع مدى دراستها الأخرى حتى يتيسر لخريجها مشاركة إخوانهم خريجي الحقوق في دائرة اختصاصهم وبذا يتسع مجال المستقبل لأبنائها وتحيا الشريعة الإسلامية على أيديهم.
كتاب المسيو هريو عن مصر
نشر في الأسبوع الماضي بباريس كتاب المسيو هريو عن سياحته في مصر وفيه مقدمة بإهدائه إلى محمود فخري باشا وزير مصر المفوض عن باريس منوهة (بالشكر والامتنان والصداقة)
وقد قدم المسيو هريو إلى معاليه نسخة ممتازة من هذا الكتاب راجياً أن يتولى رفعها إلى جلالة الملك فاروق
شعر سافو بين أوراق البردي المصرية
ذكرت جريدة (كوردبيري لاسيرا) أن الأستاذ فوليانو اكتشف شعراً من نظم الشاعرة الإغريقية سافو. ويقيم البرفسور فوليانو عادة في برلين ولكنه يدرس آداب اللغة اليونانية في جامعة ميلانو
وكان في المدة بين سنة 1934 و1937 يدير البعثة الأثرية التي اشتغلت في مصر في منطقة تبتوتنس وإحدى المدن بالفيوم وكان من نتائج أعمال هذه البعثة أن حمل الأستاذ.
فوليانو إلى إيطاليا 12 ألف ورقة من أوراق البردي وجدت في أم البريجات.
ويقال أن الجزء الأكبر من هذه الأوراق جاء من محفوظات إحدى الأسر الغنية التي عاشت في العهد الواقع بين الإمبراطورين طيبريوس وكومودس
وكان الأستاذ فوليانو يشتغل منذ ذلك الوقت بدراسة دقائق هذه الأوراق فوجد قطعا هامة من بينها هذه القطعة المجهولة من شعر سافو الذي يوجد نصفه الآن في برلين حيث تنسخ قبل نشرها على العالم
هتلر والسامية
لعوامل اقتصادية وسياسية أخذ الزعيم هتلر ينمي الغرور القومي في نفوس الألمان بترديد ما زعمه (رينان) ومن ذهب مذهبه من تقسيم الناس إلى آريين وساميين، وقولهم إن الآريين يمتازون في أصل الخلقة بالعقل والأصالة والكفاية والسمو.
ويرمي من وراء ذلك إلى تبرير ما يصنع مع اليهود من الاضطهاد والمصادرة والطرد، وتسويغ ما يطمح إليه من سيطرة النازية على شعوب الشرق. وفكرة هذا الامتياز لا تعتمد على أصل من العلم ولا سند من الواقع، على فرض أنك تستطيع وضع الحد الفاصل بين الآري والسامي. أما إذا علمت ما تقتضيه طبيعة الوجود من المزج الدائم بين الأجناس والتداخل المستمر بين الأمم، وعرفت اختلاف العلماء في موطن الآريين: أهو في وسط أسبانيا أم حول بحر البلطيق، فلا يداخلك الشك في أن الفكرة خرافة لا تنبت إلا في رأس مستعمر ماكر أو متعصب حاقد. والذي يعنينا من هذه الفرية أن هتلر جعل المصريين في الجنس الذي حكم عليه هو بالتأخر، ورمانا بالعجز والزماتة والانحطاط في كتابه (كفاحي)(صفحة 656 من الأصل) ونسى هذا السياسي المتعصب تاريخ المدنية وما قدمه الفراعنة والعرب للعالم من عبقريات الذهن وروائع الخيال وآيات الهداية. ولكن الدكتاتورية طغيان؛ والطغيان يتجاوز الحدود في كل شيء فلا يقف عند علم ولا منطق ولا عدالة
من نثر الأستاذ قسطاكي الحمصي
قرأت في (الرسالة) الغراء خطبة الأستاذ الفاضل السيد اسعد الكوراني في الحفلة التي أقامها الأدباء والكبراء في حلب تكريما لصاحب السعادة الأستاذ (قسطاكي بك الحمصي)
وقد اطلعت على كتاب كريم بليغ كان الأستاذ قسطاكي بك قد بعث به إلى صاحب له أهدى إليه رسالة في مبحث علمي، فرأيت أن أنحف به القراء مضافا إلى ما رواه الأستاذ الكوراني من نثر هذا السرىَّ العالم الأديب الكبير
يا صديقي
وصلتني كلمتكم. . . فسرحت طرفي منها في روضة بلاغة نقَّطت أزهارها الغمائم، بل في عالم فضل جمع شتيت العوالم. ونقلتني سطورها الموجزة إلى الهند والصين، ورفعتني آياتها المعجزة إلى أعلى علّيين. وأبعدت بي في المكان والزمان، حتى حادثني كهنة مصر وفلاسفة اليونان. بل جاوزت بي عصور الخلق الحيواني وأحقاب ظهور النبات، بل تعدت ما قبلها من الدهور السحيقة لتكوَّن الجمادات. ثم حلقت بي على أجنحة الفكر وأقدام الخيال، فجوَّلت في العوالم الشمسية، ومن لي بشرح ذيالك التجوال. وعاينت بأعين العلم ما تعجز عن إدراكه أعيان الحس من آيات الجمال. ثم حدرتني إلى عالمنا السيّار، وسايرتني إلى آخر الإعصار. وعرَّفتني جماعة من الحكماء الكبار كباكون ونيوتن وسبنسر ودروين وكنت ولامرك وهيكل علَم المتأخرين، وكثيراً من إضرابهم من تطأطىء لفضلهم شوامخ الرءوس، ويقال عند ذكر أسمائهم: لا عطر بعد عروس. فيا حبذا كلمتك وما أوجزت، ولله درك ولله أنت. لازلت تدير علينا من صهباء فضلك كؤوسا، وتطلع من سماء معارفك بدورا وشموسا
حلب في 25 شباط سنة 922
قسطاكي الحمصي
ذلك كتاب العلم والفضل والأدب والوجاهة في مدينة سيف الدولة، وعماد الدين وابنه نور الدين، وإبراهيم هنانو، وابن يعيش، واحمد بن الحسين القائل:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
…
أقصير طريقنا أم يطول؟
وكثير من السؤال اشتياق
…
وكثير من رده تعليل
كلما رحَّبت بنا الروض قلنا:
…
(حلب) قصدُنا، وأنت السبيل
القارئ
غاندي وتشكسلوفاكيا
كتب غاندي في جريدته (هاريجان) فصلا مناسبة المشكلة التشكسلوفاكية عاد فيه إلى مثُله العليا يجترها ويبدي فيها ويعيد، ومن رأيه أن أوربا قد باعت روحها من أجل التمتع بهذه الدنيا فترة قصيرة أخرى من الزمان. ومن رأيه أيضاً أن السلم الذي جاء ثمرة لمؤتمر ميونخ هو فوز للقوة كما إنه هزيمة لها في الوقت نفسه. . . ثم استولى على غاندي وسواسه الصوفي فعاب على التشك إذ عانهم للقوة بعد أن تخلت عنهم فرنسا ومن وراءها إنجلترا. وكان من رأيه أن يشهروا في وجه الألمان سلاح المقاومة السلبية دفاعاً عن الشرف الوطني، لأنه إذا كان من الشجاعة أن يقضي المرء في محاربة عدو يفوقه في القوة والعدد، فانه يكون أكثر شجاعة إذا رفض أن يحارب ورفض أيضاً أن يذعن. وما دام الموت هو النتيجة في الحالتين فخير للإنسان أن يكشف صدره للعدو ليقتله، من أن يمد إليه يده ليقتله، أو يملأ جوانحه بالحقد عليه) - وروح العصر الذي نعيش فيه تسمي كلام غاندي تخريفاً يريد أن يرى الناس كلهم فلاسفة. ونحن لا نشك في أن هذه الفلسفة الغاندية هي علة شقاء الهند وسبب فشلها في نضالها ضد الإنجليز. ورحم الله المتنبي حيث يقول:
وإذا لم يكن من الموت بد
…
فمن العجز أن تكون جباناً
نادي الشبان الإنجليز
في سبتمبر الماضي فكر رجال التربية الإنجليز في تأسيس ناد للشبان الذين هم دون العشرين ولا يقلون عن الخمسة عشرة سنة، وقد تأسس هذا النادي العجيب بالفعل وعقدت أولى جلساته في مساء الرابع من أكتوبر الحالي فكانت جلسة غريبة جمعت الأخلاط والأشتات من الشبان والشابات من جميع الطبقات، وستعنى وزارة التربية الإنجليزية بجلسات هذا النادي فتعين لكل منها مرشداً من أبرز رجال الفكر في إنجلترا فيحاضر الأعضاء في موضوع خاص يختاره هو من الموضوعات التي تهم الشباب والتي تؤهلهم دراستها لفهم الحياة الصحيحة والمفروض في المحاضر أنه لا يفرض آراءه على الأعضاء ولذا فهو مستعد لمناقشتهم بعد المحاضرة ولا بأس من النزول على وجهة نظرهم إذا كانوا هم المصيبين. ووزارة التربية تنشد من وراء هذا النادي تنشئة الشباب على حرية الرأي
والاتصال المباشر بزعماء الفكر في البلاد، وبتغير أعضاء النادي في فترات قصيرة، وليس في ذلك تفويت الفرصة على من لا يحضر الجلسة لأن الأحاديث تذاع كلها من محطة الإذاعة البريطانية فيصغي إليها جميع الأعضاء الآخرين
في قول الإمام العكبري
أورد من قول العكبري في الفعل (استحيا) ما فيه الإيضاح الشافي لأن (رسالتنا) الكريمة، لسان حالها يقول مقال صاحب (الكشاف):(أنضج رأيك إنضاجاً، ولا تخدجه إخداجاً)
قال الإمام العكبري: (لا يستحي: وزنه (يستفعل) و (عينه لامه) ياءان، وأصله الحياء، وهمزة الحياء بدل من الياء، وقرء يستحي بياء واحدة، والمحذوفة هي (اللام) كما تحذف في الجزم ووزنه على هذا (يستفع) إلا الياء نقلت حركتها إلى (العين) وسكنت، وقيل المحذوف هي (العين) وهو بعيد)
(* * *)
المؤتمر التمهيدي للشباب العربي
تلبية للنداء الذي وجهه إخواننا العرب في المهجر إلى العالم العربي، أجمع فريق من الشباب - يمثل الهيئات وشتى النزعات - على عقد مؤتمر تمهيدي للشباب العربي يبحث في أهم شؤون القضية العربية من جهة، ويكون بمثابة خطوة أولى لعقد مؤتمر عربي عالمي من جهة أخرى
ولا ريب أن أهم ما يضعف الحركة القومية العربية هو انقسام أبناء الوطن العربي الواحد إلى أحزاب متنابذة متشاكسة وعدم الاهتمام برفع مستوى الشعب الثقافي والاقتصادي، وإنقاذه من الأمية والبؤس، وإيقاظ الوعي القومي الشامل، بوسائل فعالة تتجلى آثارها في ارتباط الأواصر ووثوق الصلات بين منظماته الشعبية المختلفة، فيؤدي اشتراكها في الحركة الوطنية - وهي في هذه الدرجة من الوعي والشعور المشترك - إلى نمو تلك الحركة واتساع أفقها
ولقد درست اللجنة التحضيرية للمؤتمر التمهيدي للشباب العربي هذه القضايا واتفقت بالجماع على برنامج شامل يبحث في أهم عناصر الحركة القومية العربية لتكون أساساً
لأعمال المؤتمر التمهيدي
واللجنة التحضيرية تأمل أن تتلقى جوابكم الكريم على دعوتها لحضور هذا المؤتمر حال وصول هذا البيان إليكم، كما أنها ترجوكم إذا أردتم المساهمة في بحث نقط من نقاط المنهج المرفق بهذه الدعوة أن تبعثوا بكلمتكم إليها قبل موعد انعقاد المؤتمر بعشرة أيام على الأقل ليتسنى لها ترتيب أعماله وتنظيم شؤونه
وسيعقد المؤتمر في مدينة دمشق في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1938 الموافق لعطلة عيد الفطر المبارك
منهج المؤتمر التمهيدي للشباب العربي
أولاً: المؤتمر قومي شعبي عربي
ثانياً: يعتبر المؤتمر أن القومية العربية هي مظهر الشعور الشامل للشعب القاطن في البلاد العربية المرتبط بجامعة اللغة والثقافة والآلام والأماني والبيئة الجغرافية
ثالثاً: يعتبر المؤتمر أن الحركة القومية العربية هي الإفصاح العملي عن شعور التضامن الذي يشمل العرب في شتى أقطارهم، وهو يرى أن من أهم عناصر الحركة القومية ما يلي:
أولاً: التحرر من الاستعمار الأجنبي بالوسائل التالية:
أ - إيقاظ الوعي القومي بين سائر أفراد الشعب ومكافحة الدعايات الأجنبية
ب - تضامن العرب في سائر أقطارهم للحصول على استقلالهم وحرياتهم
ج - تحقيق التنظيم الشعبي الحر ضمن أهداف الحركة القومية العربية
د - تأمين حرية الفكر والكلام والاجتماع وسائر الحريات العامة والفردية للعرب في كل قطر من أقطارهم
أ - نشر الثقافة بين جميع أفراد الشعب
ب - تعميم التعليم الابتدائي الإجباري المجاني، وتوحيد برامج التعليم في الأقطار العربية
ج - إنشاء مؤسسات ثقافية شعبية في كل قطر من الأقطار العربية والسعي للتقرب بينها
د - تحرير المرأة بتعليمها وتثقيفها
ثالثاً: إنقاذ الشعب العربي من الفقر والبؤس بالوسائل التالية:
أ - الانتعاش الاقتصادي العام
ب - تشجيع الإنتاج الوطني الزراعي والصناعي وحفظ ثروة البلاد الطبيعية
ج - توثيق العلاقات الاقتصادية بين الأقطار العربية والعمل على رفع الحواجز الجمركية بينها
د - رفع مستوى حياة الشعب
رابعاً: إيجاد صلة وثيقة بين العرب وإخوانهم في المهاجر ودعوتهم للمساهمة العملية في إنهاض البلاد اقتصاديا وثقافياً واجتماعياً وسياسياً
الكُتبُ
هكذا تكلم زرادشت
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
صديقي الأديب النابغة فليكس فارس علم من أعلام البيان في الشرق العربي، عرفته العروبة على منابرها في سوريا ولبنان خطيباً مفوهاً يدعو لإحياء الثقافة العربية؛ وعرفته لغة الضاد ذائداً عن حياضها أمام تيار العجمة الدخيل؛ وعرفه الشرق العربي رسولا يرفع رسالة غيبيات الشرق أمام يقينيات أوربا الجارفة
و (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) التي أصدرها منذ عامين صرخة مدوية إلى الضمير العربي تظهر لك فليكس فارس على حقيقته. فهو ينظر للعالم من ناحية ارتضاها شعوره فسكن إليها عقله، وقبلها وجدانه فنزل عندها فكره. فهو شاعر في تفكيره وفنان في منطقه وداعية في علمه؛ ولهذا تقع على الشيء الكثير من المفارقات في كتابه، تلك التي أجليناها في نقد مستفيض نشرته لنا مجلة (العصبة) في العدد الثاني والثالث من السنة الرابعة. ذلك أن فليكس فارس رجل يؤمن بخيالات الأمس ويعيش في ذكريات الماضي، فهو يعيش في الحاضر بكيانه المادي، أما عقله وروحه فهماً في الماضي، ينظر إليه بمنظار ناصع مكبر؛ أما الحاضر فمنظاره أسود مصغر، ولهذا تجده يهيب بأهل المشرق أن يخلعوا عنهم رداء مدنية الغرب التي لبسوها في العصور الأخيرة وأن يرجعوا لفطرتهم التي تفجرت منها في الماضي أنوار الموسوية والعيسوية والمحمدية
هذا هو صديقي فليكس فارس كما عرفته من مطالعة كتابه (رسالة المنبر)
ولقد ترجم أخيراً أثرين عن اللغة الفرنسية، أولهما قصة لألفريد دي موسيه، وثانيهما كتاب زرادشت لفردريك نيتشه
وترجمة هذين الأثرين من قبل صديقنا فليكس فارس مدعاة لنا للتساؤل عن الأسباب التي دفعته لترجمتها!
يقول أديبنا النابغة في تمهيد لقصيدة (رولا) لألفريد دي موسيه وقد نشرتها له المقتطف في
عدد مايو من هذه السنة: (إن في بذل البيان لتفكير الغير كثيراً من التضحية لكاتب أندغم تفكيره في بيانه، لأن هذا البذل يستلزم إقامة حاجز بين القوة المبدعة مما كمن فيها تذكاراً وتنسيقاً، علماً بالاستقراء وعلماً بالحس الباطني، وبين قوة التعبير تصويراً وتلويناً وتنغيماً. وفي هذا الفصل من الجهد ما لا يدركه إلا من يعانيه، ولا يعاني هذه المشقة كل من يقتحم الترجمة إطلاقاً؛ فان من الترجمة ما لا تتعدى الاقتدار على النسخ، وليس هذا النوع ما نعني، فالمترجم الذي ينقل كتاباً يبحث في صناعة أو مسألة اقتصادية لا يكون عمله إذا امتلك ناصية اللغتين إلا عبارة عن كتابة ما سطرته الريشة من الشمال إلى اليمين بكلمات يخطها القلم من اليمين إلى الشمال، ولمثل هذا العمل قيمته ولا نكر، غير أنه جد بعيد عن مجال البيان الأدبي، وليس فيه غير أثر الجهد والاطلاع والدقة، إذ لا يمكن أن يتضمن شيئاً من شخصية المترجم الأدبية
شتان إذن بين من يترجم ومن يسلخ إنشاءه عن تفكيره ليكون هيكلا سوياً من البيان تحتله روح مؤلف مبدع فنان)
ومهما يكن قيمة هذا الرأي فان عنصراً من الحق في بيان منحى الترجمة عند أديبنا. إذن فلنا أن نتساءل - ويكون لتساؤلنا محله - عن العناصر التي تكافأت بين هذين الأثرين البيانيين وبين نفس المترجم، حتى كبد نفسه جهد إسكات ما فيه من القوة المبدعة، وعمل راضيا على إعارة بيانه بلغته لتفكير غيره؟
إن في الإجابة على هذا السؤال حل مشكلة ترجمة أديبنا لهذين الأثرين دون غيرهما من تراث الأدب والفكر الغربي!
أما (الاعترافات) فهي قصة حب (الفريد دي موسيه) لـ (جورج صاند) وهي تمتاز بعمق الاحساسات وزخور المشاعر، ولكن فكرتها وخيالها ضعيفان. ذلك أن (الفريد دي موسيه) كان (رومانيا) يغلب شعوره عقله واحساساته تفكيره، ومن هنا كان لا يقدر على التحليق في أجواء الخيال. . . وهذا الطابع الذي يسم (الاعترافات) هو الذي تجاوب مع نفس المترجم، ذلك أنه من طراز المؤلف في طابعه الشخصي
هذا إلى أن القصة وإن لم يكن لها مقام يذكر في تاريخ الفن القصصي، فان أديبنا المترجم فتن بما فيها من إحساس صادق ووصف جميل، هو كل ما للاعترافات من ميزة. ومن هنا
تجد أن المترجم نزل عن بيانه لموسيه راضياً. ذلك أن الصور والاحساسات التي منها توسيعه في كتابه قريبة من نفس المترجم ليست غريبة عنه، فهذا موسيه يرى مع فليكس فارس أن داء العصر - الذي حاول موسيه أن يصوره في مستهل كتابه فأخفق - نتيجة للمدنية الآلية. وهذا الداء ظاهرة من ظواهر اليوم في جيل شباب هذا الشرق العربي. . . ومن هنا أعتقد أن المترجم رأى في الاعترافات علاجاً أدبياً لداء العصر. ومن هنا نرى أن فليكس فارس لم يترجم كتاباً بترجمة (الاعترافات) إنما وجد في الفريد دي موسيه من يعبر عن احساساته وأفكاره تعبيراً صادقاً في (الاعترافات) فنقلها للعربية وكأنه ينشئها من نفسه
إذن فليس لنا أن نعيب على المترجم نقله كتاب (الاعترافات) إلى العربية، مهما كان رأينا في الاعترافات، ذلك أن الأفكار والاحساسات المبثوثة في (الاعترافات) تنبع من صميم نفس المترجم. فكل اعتراض عليها اعتراض على طبيعة بشرية!
أما كل ما يمكن أن يدار من البحث حول ترجمة الاعترافات فهو مقدار نصيب الترجمة العربية من روح الأصل الفرنسي، ونحن نعتقد اعتقاداً أولياً أن المترجم مهما يكن مقدار تصرفه في الترجمة، فان روح الاعترافات في أصلها الفرنسي لا شك قوية واضحة في الترجمة، ذلك أنها لا تنزل من المقدرة على الترجمة وإنما تنزل من روح المترجم
أما كتاب (زارازوسترا) لفردريك نيتشه، فان بعض الصعوبة يبدو للنظر إذا حاولنا أن نثبت وحدة المزاج بين الفيلسوف الألماني والمترجم العربي، ذلك أن المؤلف مشهور بتجديفه والمترجم مؤمن مشهور بإغراقه في التدين. . . وأين الإلحاد من الإيمان؟
ولكن لو نظرنا للبواطن، فأننا نجد وحدة في المزاج بين المؤلف والمترجم، هذه الوحدة تقوم على الإغداق والطبيعة الفنية، ذلك أن نيتشه فلسفته ليست نتيجة لقريحة فلسفية إنما هي تجربة الدنيا أملت على طبيعته الفنية ما أملت. . . ومن هنا كان نيتشه فناناً أكثر منه فليسوفاً. وروحه الفنية قديمة، وللطابع العبري نتيجة، لتأثره بالآداب العبرية التي تبحر فيها. وهذه الروح السامية هي التي أخذ بها المترجم، بما فيها من الحقائق إزاء الوحدة المتجلية للكون في روح الفيلسوف الفنان. ومن قبل التفت الأديب الناقد عباس محمود العقاد في دراسة سريعة له للمتنبي إلى أوجه الشبه بين نيتشه والمتنبي، ورأى لهما فلسفة في الحياة واحدة، نتناول سننها وصروفها، ولا تتناول مصادرها ومصائرها. ولقد وقف
العقاد وقتئذ حائراً في تفسير أوجه الشبه بين شاعر العرب الكبير ومفكر ألمانيا وفنانها الكبير، وهو لو ذهب من ناحية الطبيعة الفنية يعلل أوجه الشبه بين الرجلين مستعيناً بالعوامل التي تكافأت مع هذه الطبيعة، لكان نجح في بحثه أضعاف ما نجح.
مضى صديقنا فليكس فارس يترجم عن نيتشه كتابه، مأخوذا بهذه الروح، ونحن نظلم أنفسنا ونظلمه ونظلم الحقيقة إذا ذهبنا نقارن بين كتاب زارازوسترا في أصله الألماني وبين ترجمته العربية، لأن أديبنا المترجم رجل أنصب تفكيره في بيانه عن طريق الاشتراك بين العلة والمعلول. . . ومن هنا كانت ترجمته سلخ لتفكيره عن إنشائه - كما يقول هو - ليكون إنشاؤه هيكلا سويا من البيان يحتل روح مؤلف مبدع صاحب بيان وفن كفردريك نيتشه. ولما كان السلخ غير مستطاع في كل الحالات كانت أفكار المترجم تتسرب إلى تفكير نيتشه فتخلتط به أو تجعل مفهوم كلامه ينحرف بعض التحريف حتى يجوز المكافأة لنطق المترجم، وآثار هذا الانحراف جلية في الترجمة، تارة في صورة تصرف، وطورا في صورة تفسير وتأويل. ومن هنا كان لنا أن نعتبر الترجمة تحمل طابعاً شخصياً يتصل بالمترجم، لا عند بيانه فحسب بل يتكافأ ومنطقه إلى حد كبير
ولا أدل على هذا من تصرف المترجم في كلام نيتشه وتأويله وتخريجه عباراته تخريجا يبعدها كل البعد عن مفهوماتها.
يقول نيتشه في فصل (بين غادتين في الصحراء) على لسان (زارازوسترا) نشيداً يستهله بقوله:
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء عليها!
يا للمهابة!
يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا!
تليق بأسد أو نذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق
إنها لروعة لم تسط عليكما يا صديقتي عندما أتيح لي أنا ابن أوربا أن أجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل.
حي على الصلاة!)
فهنا (أسد الصحراء) رمز (للنبي) رمز (لانبعاث الفضائل العليا وتمردها على الجحود
والتضعضع في الحياة!. . . و (سلام) رمز (لحي على الصلاة!).
هذا ما يقرره صديقنا في مستهل الترجمة، ولو ذهب لتدعيم تأويله إلى عالم أخصائي في فلسفة نيتشه هو الدكتور (روبرت رينجر) أستاذ الفلسفة بجامعة فينا - الذي يظهر أنه يوافق صديقنا المترجم بعض الموافقة في تأويله - إن صح ما نقله المترجم عنه!. . .
ولكنا لو راجعنا الدكتور (رينجر) وخاصة مجلده الضخم عن نيتشه، فإننا لا نجد وجهاً في كتاباته يتفق مع تأويل أديبنا النابغة فليكس فارس.
ومع هذا فرأي الدكتور رينجر (لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، ذلك أننا نجد تفسير هذه الرموز جلية في كتاب (زارازوسترا) من مطالعة النشيد في ضوء روح الكتاب عامة. ونحن نقدر أن (أسد الصحراء) رمز للعقل الإنساني الطموح إلى نيل حريته وبسط سيطرته على حياته؛ أما الصحراء فنفهمها على أنها الحياة المتحررة. أما صرخة الأسد أمام غادات الصحراء فهي صرخة الإرادة في الإنسان الطموح لنيل حريته، وغادتي الصحراء، هنا هما فضائل الحياة، ولكن أي حياة؟. . . نرجع الحياة المستعبدة.
(البقية في العدد القادم)
إسماعيل أحمد أدهم
المسرَح وَالسّينما
رد على رأي
الأستاذ توفيق الحكيم
في إنهاض المسرح المصري
نشرت (الأهرام) الغراء في الأسبوع الماضي خلاصة المذكرة التي قدمها أديبنا الكبير الأستاذ توفيق الحكيم إلى لجنة ترقية التمثيل العربي، فاطلعت عليها اللجنة المذكورة وأقرتها. وخلاصة هذه المذكرة هي أن الأستاذ يرى أن الملاحظ في حركات ازدهار المسرح في جميع الأزمنة وجميع البلاد أنها كانت نتيجة عوامل ثلاثة:
أولاً - رقي الجمهور الذي يرتاد المسرح
ثانياً - قيمة الكتاب الذين يكتبون للمسرح
ثالثاً - خطر النقاد الذين يذيعون أعمال المسرح
ولا ريب أن (الناقد القديم) يشكر أديبنا الكبير على مساهمته في معالجة هذا الموضوع الدقيق بتحقيق أدبي استنباطي يسرنا أن يكون أكثره متفقاً مع ما نشرته الرسالة في أعدادها الماضية حول هذا الموضوع
ولكنا نخالف الأستاذ الحكيم في قصره إنهاض المسرح على مراعاة العوامل الثلاثة السابقة دون أن يعنى قليلاً أو كثيراً بالعوامل التمثيلية البحث التي هي الأصل - كما هو معروف - في نهضة المسرح وفي تحقيق العوامل التي ذكرها الأستاذ الحكيم وهذه العوامل هي (المسرح) و (الإخراج) و (التمثيل) بمستلزماته المتعددة؛ وهي ما أسميناه في مقالاتنا السابقة (العرض). وقد قلنا في صدده ما نصه: (ولكن قيمة البضاعة هي أهم العوامل في جذب (العميل) بلا مراء. وكلما ازداد احتواؤها على الميزات والخصائص التي يرغبها ويريدها، ازداد إقباله عليها وتشجيعه لها وأنجح الفرق لدينا هي التي تميزت إدارتها بفهم مزاج الجمهور وميوله. ومع ذلك فهناك بدهيات عامة يتفق عليها الجميع دون مراعاتها إنهاض حقيقي للمسرح. . .) الخ
ونخالف الأستاذ كذلك في بعض ما اقترح لإنهاض المسرح من وسائل عملية سريعة فقد
قال في صدد (تهذيب النقد الفني): (أما النشر في المجلات فيوزع جزء كبير منه على أصحاب الصحف المجهولة الذين يهددون ويتوعدون ويخشى من لسانهم البذيء. فطريقة الدعاية في الفرقة إذن عتيقة وينبغي أن تستبدل بالنشر في أمهات الصحف اليومية فقط ليلة التمثيل، على أن يعنى بالنقد العالي كوسيلة من وسائل الإعلان. وذلك بأن يتفق مع أربع جرائد يومية كبرى ومجلتين أسبوعيتين أدبيتين كبيرتين على أن يلحق بكل منها أديب كبير معروف يعين بالذات يكتب في كل أسبوع مقالاً أدبياً عن المسرح وتتولى الفرقة دفع أجره من حال الدعاية. بذلك تضمن الفرقة أن ستة كتاب كبار مسموعي الكلمة يكتبون عن أعمالها في ستة صحف كبيرة بمعدل مقدور كل يوم وتلك دعاية واسعة النطاق لا تعدلها دعاية أخرى، دعاية يصل صداها إلى كل الآذان المهذبة. . . الخ)
ونحن لا نحب أن نعلق على هذا الكلام بأكثر من رجائنا الأستاذ الكبير أن يذكر لنا أسماء ستة من كبار الكتاب المعروفين في استطاعتهم التحدث عن المسرح الحديث الذي يسيغه ويسير به جمهور عال ومؤلف نابغة! فإذا فعل كنا لحضرته شاكرين!
(الناقد القديم)