الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 279
- بتاريخ: 07 - 11 - 1938
من مآسي الحياة
شيطان!
كان الناس منذ عهد قريب يقرءون في القصص الغربية أفانين من فجور النفس وقحة الهوى وبغي الفتنة، فتفيض عيونهم من الدمع رحمة للزوجة التي أعمتها الغواية، وللزوج الذي أشقته الخيانة، وللطفل الذي أيتمه الطلاق؛ ثم يُسَرِّي عنهم أنها فجائع إن تكن في الغرب فنحن في الشرق، وإن تكن من زور الخيال فنحن في حقيقة الواقع. حتى عشنا معيشة أوربا، وفتحنا دورنا لكل طارق، وصدورنا لكل متودد، فأصبح ما يجري هنا صورة لما يجري هناك، وما كان معدوداً من خداع الفن صار جارياً على نظام الطبيعة!
عرفت زوجين شابين تعارفا بالجمال وتآلفا بالحب، ثم عاشا على اختلاف الدار والجنس معيشة أهل الجنة: صفاء غير مشوب، وولاء غير مكذوب، ورخاء في ظلال النعيم والأمن يبسط المشاعر وينشر الأنس ويجمِّل الحياة
كان الزوج مثلاً في الإخلاص والرعاية لزوجه، فلا يفكر إلا فيها، ولا يسعى إلا لها، ولا يفهم وجوده إلا مضافاً إليها ومتصلاً بها. وكانت الزوجة آية في الوفاء والطاعة لزوجها، تقاسمه هم العمل، وتساهمه دعة المنزل، وتبادله رجاء المستقبل، وتتقلب معه في الشدة والخفض غير متبرمة ولا متجهمة. وكانا معاً بهجة الأسرة وأنس الأصدقاء، فلا يخلو بيتهما من سمر، ولا ليلهما من زيارة، حتى أصبحا في بيئتهما الخاصة مثلاً مضروباً في الزوجية الموفقة والحياة السعيدة
وكانت حياتهما الأوربية تقضي عليهما أن يكابدا التعرف العارض والخلاط المستمر. والعصمة من شرور الأخلاق في مثل هذه الحال لا تجد لها مناطاً إلا ثقة الزوج في الزوج، واطمئنان النفس إلى النفس. وثقة الرجل المثقف في المرأة المثقفة أصبحت في المجتمع الحديث من القضايا المسلّمة والأمور المفروضة. فلا ينبغي أن تحوم حولها شبهة، ولا يقوم عليها جدل
وكان فيمن يختلف إلى بهوهما الأنيس الباش فتى من أهل الرواء، خداع الملامح، خلاب الأحاديث، يعد نفسه في الطراز الأول من ثقافة الفكر والخلق. تقلب طويلاً بحكم منصبه في البيئات الدبلوماسية المختلفة، فحذق الكلام والهندام، ومهرَ الغناء والرقص، وأحكم
النظرة التي تنفذ، والبسمة التي تقول، واللفتة التي تعجب؛ وامتلأ ذهنه من صور الدنيا وحوادث الناس، فكان جميل المحاضرة عذب المفاكهة حتى ليستولي على المجلس فلا يترك فيه مسمعاً إلى أحد. وكان مَذاعاً يتمزى على زملائه، ويتبجح بالحظوة عند رؤسائه، ويلقي في روع السامع أن له المكانة المرفوعة والكلمة المسموعة والغد المضمون. فاستطاع بكل أولئك أن يخدع الزوجين بمظهره عن جوهره، فكبر في نفس السيد، وحلا في عين السيدة
ودخل هذا الفتى جنة الزوجين دخول إبليس، فحرك فيها السَّموم وسَفَى عليها الكدر! فلا الزهر نفاح باسم، ولا النسيم رِخيٌّ أرج، ولا الجو بهيج طلق، ولا العش الصادح في أفياء الشجر ناعم آهل! وسوس الشيطان لحواء قال لها: إن السعادة في بيت غير هذا البيت، والثروة عند رجل غير هذا الرجل، والجاه في منصب غير هذا المنصب! وهذه المزايا التي لك على الأتراب في الجسم والفكر والطبع لم يجملك بها الله لتحبسيها في هذا القفص الشعري الذي تهدهده الأحلام على نغمات الحب والأمل. ليست الحياة كلها شعراً يا حواء! وإن بجانب النفس الشاعرة نفوساً أخرى هواها في المال واللهو والسلطان والعظمة. ومن زعم أن نعيم الدنيا في الغزل، وزينتها في الرياض، وبهجتها في المنى، فقد أنكر المعروف وتجاهل الواقع. وكان الشيطان المُغْوِي حِدْثَ نساء، فعرف كيف يندس بالخديعة إلى الزوجة الضعيفة، فأصغت إلى نزغاته بأذنها ثم بقلبها. ثم أصبحت فإذا زوجها مسؤوم، وبيتها موحش، وعيشها تافه؛ وأحست برباط الزوجية يشتد على حناياها اشتداد الوثاق على ضلوع الأسير. لم تعد الجنة في عينها هي الجنة، ولا آدم في قلبها هو آدم! وأوهمها الخيال أو الخبال أن النعيم المقيم هو في أكناف إبليس على متون السحب وربى الجبال وشطئان الأبحر. ولكن عشر سنين قضتها مع الزوج الوفي في نشوة متصلة من الحب المواسي لا يمكن أن تخفت أصداؤها العذبة في لحظة. فكانت كلما تخلصت من فعل الغواية صارحت زوجها بأنها تحب هذا الفتى حباً غطى على بصرها وبصيرتها فهي لا ترى ولا تفهم. وسألته يوماً أن يحتال لبرئها من هذا الخبل، فاتفقا على أن ترحل إلى أوربا تنشد في أجوائها المختلفة السكينة والسلو، حتى إذا أقبل الصيف وتعطل العمل لحق بها زوجها، فربما إنجاب الغشاء عن العين والقلب فأبصر الأعمى ورشُد الغوي! ولكن الفاجر علم
بسفرها المفاجئ فطلب إجازة طويلة من الوزارة التي يعمل فها وتبعها إلى مصيفها وهي وحدها توازن في هدوء العزلة بين ماضي الزوج الواضح ومستقبل الحبيب المبهم، فأسقَط من يدها الميزان، وأيقظ في نفسها الحيوان، وأفسدها على نفسها وعلى زوجها وعلى أهلها فساداً لا يرجى معه صلاح!
ثم امتدت يد القدر تحل عقدة الرواية، فإذا الزوج وحيد يعاني غصص الألم، والزوجة مطلَّقة تتجرَّع مرارة الندم، والشيطان الرجيم يقطع البحر عائداً إلى منصبه الكبير في وزارة الخارجية يشارك في أمور الدولة على هذا الخلق، ويتصل بالأسر المخدوعة على هذا الوجه. .!
أحمد حسن الزيات
في رمضان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ليقل من شاء ما شاء، فإني أعتقد أن الله تعالى يغفر لي ذنوبي وخطاياي جميعاً جزاء لي على صبري في رمضان. ومن كان له أولاد كأولادي، وخدم كخدمي، فإن هؤلاء شفاعة كافية له بلا نزاع، وإذا كان القارئ لا يصدق، ولا يؤمن كأيماني بشفاعة هؤلاء لي، فلينتظر حتى تقوم الساعة وينصب الميزان
عددت أبواب الغرف وما المسها فإذا هي عشرون، ومنها تتألف جوقة موسيقية لا تفتر ولا تهدأ في ليل أو نهار، وقد يئست من حمل خادمتنا العجوز التي حملتني طفلاً - على كتفها أو ذراعها لا في. . . - على تزييت هذه الأبواب، وما أكثر ما قلت لها إني أشفق على هذه الأصوات الرخيمة أن تبح، فكانت تبتسم - أو تظن أنها تبتسم - وتقول:(الله يخليك يا سيدي!). فأقول لها: (لا تخافي علي فإن عمر الشقي، باق أي طويل، ولمن غيري يكون وجع القلب؟ كلا: لا تخافي، وإني لفي أمان من الموت ما بقيت لي، فإذا ذهبت أنت بعد عمر طويل، فإن هناك الأولاد. . .؛ كلا. لا خطر علي من هذا الردى العادي الراصد لغيري، المتربص بسواء)
فتدعو لي بطول العمر، ولكنها لا تزيت الأبواب! وقد حاولت أن أنهض أنا عنها بهذا العبء، فكادت تدق عنقي، فكففت بعد ذلك، ورضت نفسي على السكون إلى هذه الموسيقى
ومن طرائف هذه الخادمة العجوز أنها لا تكاد تسمع، أو تبصر، فهي لا تكاد تفهم. وأنا رجل خفيض الصوت جداً، وأحتاج أن أكلمها - فما من هذا مفر في بعض الأحيان - فأنادي أحد الأبناء الأفاضل وأقول له - وأنا أعلم أن هذا يسره - انقل عني بصوت عال، فيفعل، ولكن اللعين يصيح في أذني أنا!! ثم يقع على الأرض من الضحك
ويكون الولدان الصغيران في المدرسة، وتكون بي حاجة إلى كلام الخادمة، فماذا أصنع؟ لقد جربت عبث الصياح، فإن أقول لها (هاتي قهوة). فتغيب شيئاً ثم ترتد إلي، وتدعوني أن (أتفضل) فأتعجب، وأسأل نفسي:(ماذا يا ترى؟ هل شرب القهوة يستدعي أن تجرني هذه العجوز إلى غرفة أخرى؟) وأطيع، وأخرج، وأتبعها، فإذا هي قد أعدت لي طشتاً وإبريقاً وسجادة للصلاة!!
لهذا صرت إذا احتجت أن أطلب منها شيئاً، أكتب لها رقعة بما أريد، تذهب بها إلى البقال أو النجار، أو الجيران، ليشرحوها ويبينوا لها ما فيها، وما أكثر ما يعابثها البقال!!
ولا أستطيع أن أنهرها، أو حتى أن أظهر لها الغضب أو الأمتعاض، أو الضجر، فقد ربتني صغيراً، وليس هذا ذنبي، ولكنها تعدني (ملكا) لها، وترى أن هذا يخولها حقوقاً علي، فالبيت كله بيت (ابنها) بما فيه، ومن فيه، ومن كان لا يعجبه هذا فلينفلق!
على أن مصيبة الأولاد أدهى، تكون الساعة الخامسة صباحاً، فأسمع نقراً على الباب، فأفتح عيني وأقول (تفضل. . . تفضلا. . تفضلوا. . . أو تفضلن) فيدخل اللعين الصغير الذي نسميه (ميدو) - وهي عندنا صيغة التصغير لعبد الحميد - فيدور بيننا هذا الحوار
- بابا
- نعم يا سيدي
- صباح الخير أولاً
- صباح الخير يا سيدي. خير إن شاء الله؟
- الساعة كم الآن؟
- الساعة؟ أو ليس عند ماما ساعة؟
- عندها ساعة. ولكنها قالت لي البارحة إنها خربت ووقفت
- هي قالت ذلك؟ وحضرتك صدقتها؟
- وهل ماما تكذب؟
- أعوذ بالله!! مستحيل يا سيدي. وهل يكذب إلا الكذاب؟
وأخبره أن الساعة الخامسة فيقول
- أنا ذاهب إلى المدرسة
فأصيح، واستوي قاعداً، (أي مدرسة يا أخي؟ وهل صارت المدارس في عهد هيكل باشا تفتح قبل الفجر؟ أما إن هذه لبلية! رح يا أخي، رح نم!)
فيقول (بس اسمع يا بابا)
فأقول وأنا أعيد رأسي إلى المخدة (سامع. فضل)
- بقى الأفندي قال لنا (يجب أن نكون موجودين في منتصف الساعة الثامنة، وأن من
يتأخر عن هذا الموعد لا يشترك في الرحلة)
فأشتهي أن أقول في هذا (الأفندي) أشياء كثيرة. وأقولها فعلاً، ولكن في سري؟ كما كانت تفعل حماتي. أي نعم حماتي، فقد كانت في هذا قدوة، ومثلاً يحتذى. وكانت إذا سخطت على إنسان، توسعه ذماً، وسباً، ولعناً، في سرها! وكانت تجد في هذا شفاء لغليلها، فتتبسم، وتتنهد، وتضع يدها على قلبها وتقول (أيوه كده! الحمد لله! كنت سأطق)
وأقول للغلام (ولكن أين نحن من هذا الموعد؟ أذهب، ونم)
فيقول: (لا يا بابا، لئلا أتأخر!)
فأقول: (يا أخي، وما ذنبي أنا إذا تأخرت حضرتك)
فيقول: (إنما أردت أن أسألك هل أصوم؟ لأني أكلت في السحور مع ماما)
فأهز رأسي، وقد فهمت، ذلك أن ماما لابد أن تكون هي التي أوعزت إليه أن يبكر فيسألني هل يصوم أو لا يصوم وأقول له:
(إنك صغير، جداً، والصيام غير مفروض عليك، ثم إنك ذاهب لتلعب، وتنط، فستجوع بسرعة، فيجب أن تأخذ معك طعاماً وإلا مت من الجوع)
فيسألني (وماذا آخذ معي؟ إنهم لم يُعدوا لي شيئاً)
فأغتنم هذه الفرصة، وأقول له (يا عبيط! كيف تقول أنهم لم يعدو لك شيئاً؟ أو تتهم ماما بمثل هذا الإهمال؟)
فيسألني (هل تعني. . .؟)
فأقاطعه وأقول بصوت كالهمس (أسمع، لقد هيأت لك ماما كل شيء، ولكنها لم تخبرك حتى لا تخرج قبل الأوان، ثم لتفاجئك فتسرك. . . ماما لطيفة، أليست كذكلك؟ (فيهز رأسه موافقاً) ولكني صرت أخشى الآن أن تتأخر، وقد قال لك الأفندي إن من يتأخر لا يشترك في الرحلة، فاذهب إلى ماما، وأيقظها بلطف، وصبحها بخير، وارج منها أن تعطيك ما هيأت لك. . . وستنفي لك أنها صنعت شيئاً، لأنها تعتقد أنك بكرت جداً، وساعتها كما تعلم واقفة، فأفهمها أن الوقت قد أزف، وخذ ما تعطيك. . . والآن أذهب، ومع السلامة، وإن شاء الله نراك ونراها بخير)
فيذهب مسروراً، فأنهض خفيفاً، وامشي إلى الباب على أطراف أصابعي، وأوصده
بالمفتاح، لأني أعرف ما يحل بي إذا تركته مفتوحاً!!
والمثل يقول (جن الذي نجا من الموت!) فلا تمضي دقائق حتى أشفق أن يتهشم الباب، ويتحطم رأسي، فلا يسعني إلا أن أفتحه، فتدخل ماما، كالإعصار وتصيح بي:
(ما هذا الذي صنعت؟ تغري الولد بي، فيوقظني في هذه الساعة وأنا صائمة!!)
فأقول: (ساعتك واقفة؟ أليست كذلك؟)
فتقول، وهي تغالب الضحك (يعني إيه؟)
فأقول، وأنا أعود إلى السرير (يعني دقة بدقة، والبادي أظلم!)
فتقول: (راجع إلى السرير؟ تقلقلنا وتنام! شيء جميل!)
فأقول: (من الذي أقلق صاحبه؟)
فتقول: (إنك أنت سبب القلق والمتاعب كلها في هذا البيت)
فأقول: (غفر الله لك يا امرأة! أذهبي وتوبي إلى الله واستغفري لذنبك عسى أن يرحمك)
فلا يجدي هذا النصح، وينتهي الأمر بأن أجمع المخدات المبعثرة في الغرفة، وأعيدها إلى حيث كانت، وأنا أنهج من التعب، وأتمثل بقول الشاعر:
(ومن ظن أن سيلاقي الحروب
…
وأن لن يصاب، فقد ظن عجزا)
وهكذا، وهكذا، إلى آخره، إن كان له آخر. فالحق أن أجري عظيم في رمضان!
إبراهيم عبد القادر المازني
مصر وعلاقتها بالخلافة
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
من ولاة العصر العباسي الذين عرفوا بالخير والعدل واكتساب محبة الأهلين موسى بن عيسى الذي ولي مصر ثلاث مرات. فقد أشتهر بالعدل في البلاد وتحبب إلى النصارى فأذن لهم ببناء الكنائس التي هدمها سلفه علي بن سليمان وقد أشار عليه بذلك قاضياه الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، بحجة أن إرجاع الكنائس المستحدثة في الإسلام من مستلزمات عمارة البلاد. ومما يدل على عناية هذا الوالي بالعمارة ما كان من زيادته في جامع عمرو.
وكان عنبسة بن إسحاق (238 - 242هـ) آخر من ولي مصر من العرب. وكان من أحسن الولاة الذين ولوها في هذا العصر، مما حدا بالمؤرخين إلى القول بأنه أظهر من العدل ما لم يسمع بمثله في زمانه. وقد بلغ من تورعه وبغضه للمظاهر أنه كان يروح من دار الإمارة إلى مسجد العسكر ماشياً. وكان آخر من أموا الناس في السجد. وقد بنى المصلى الجديد سنة 240هـ إذ رأى أن المصلى القديم ضاق بالمصلين. وكذلك حصن دمياط وتنيس بعد أن أغار عليها الروم سنة 238هـ فبقيت دمياط في يد المسلمين إلى أن استولى عليها الصليبيون سنة 616هـ
على أن عدل عنبسة وورعه لم يكسباه حب الناس جميعاً، فقد كان مكروهاً من البعض لاعتقاده بمذهب الخوارج مما دفع بالفضل أبن يحيى إلى أن ينحى فيه بالملائمة على الخليفة لتوليته إياه مصر. وما قاله أيضاً من شعر يتهم فيه هذا الوالي بالتراخي عن طرد الروم من هذه البلاد وقت استيلائهم على دمياط وتنيس كما تقدم
مَن فتى يبلغ الإمام كتاباً
…
عربيا ويقتضيه الجوابا
بئس والله ما صنعت إلينا
…
حين وليتنا أميراً مصابا
خارجيا يدين بالسيف فينا
…
ويرى قتلنا جميعا صوبا
مر يمشي إلى الصلاة نهارا
…
وينادي السحور، ضل وخابا
ومن هنا نتبين كيف كان اعتقاد عنبسة بمذهب الخوارج - إن صح أنه كان يعتقد به - سبباً في الحط من شأنه وإظهار ما أتاه في حكمه من عدل وما أظهره من ورع، بمظهر
العسف والظلم حتى أدى ذلك بالفضل إلى اتهام هذا الوالي بالقعود عن نصرة المسلمين حين أغار الروم على مصر، فقال الفضل للخليفة المتوكل:
أنرضى بأن يعطى حريمك عنوة
…
وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى تينيس والروم وثب
…
بتينيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشتوم يبغون مثلما
…
أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرا ولا درى
…
من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا إنا بدار مضيعة
…
بمصر وإن الدين قد كاد يذهب
لم يل مصر بعد عنبسة وال من العرب كما تقدم، فقد وليها بعده يزيد بن عبد الله (244 - 253هـ) من موالي المنتصر العباسي وكان كغيره من الأتراك من السنيين الغلاة. وكان شديداً صارماً وأتى في عهده بكثير من الإصلاح وقضى على كثير من معايب المجتمع، فمنع النداء على الجنائز وضرب من نادى عليها، وعطل الرهبان وتتبع العلويين فلحقتهم منه شدائد وأهوال
وورد إليه كتاب الخليفة المستعين بالاستسقاء لقحط كان في العراق، فاستسقى الناس في يوم واحد. وفي عهده خرج بالإسكندرية رجل يقال له جابر بن الوليد واجتمع إليه خلق كثير من العرب والقبط والنوبيين فاستولى على الكريون وسنهور وسخا وسمنود، فأنفذ الخليفة مزاحم بن خاقان مدداً لواليه على مصر. وظلت ثورة جابر ابن الوليد على حالها طوال عهد يزيد بن عبد الله الذي صرف في ربيع الأول سنة 253هـ وولي بعده مزاحم بن خاقان فواقع جابر بن الوليد في أرض الجيزة والفيوم حيث أسر في جنْبَويه من كورة البدقون (المكتبة الجغرافية ج6 ص282، 83 - المقريزي خطط1 ص73) وبعث به إلى العراق في رجب 254هـ
هذا وكان عامل مزاحم بن خاقان على الشرطة أُزجور التركي فقد منع النساء من دخول الحمامات ومن زيارة المقابر وسجن النوائح ومنع من الجهر بالبسملة وأمر بتمام الصفوف عند الصلاة وعهد إلى رجل من العجم فكان يستعمل السوط في تنفيذ هذا الأمر. ومنع من استعمال المساند والحصر للجلوس في المسجد ومن التثويب ومن أن يؤذن المؤذن يوم الجمعة في مؤخر المسجد. ثم صرف أزجور عن الشرطة في ذي القعدة سنة 253هـ
وولي مصر أحمد بن مزاحم باستخلاف أبيه له فجعل أزجور على الشرطة ثانية ثم وليها أحمد إلى أن مات (1 من ربيع الآخر سنة 254هـ) فولي مصر أزجور وظل على ولايتها إلى رمضان من هذه السنة فوليها بعده أحمد بن طولون
حسن إبراهيم حسن
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
13 -
دكتور!
سألني اليوم صديق لي من المدرسين:
- ألا تعرف قصة المسيو تريس؟ إنها إحدى العجائب!
قلت: لا والله، فأي شيء هذا المسيو تريس؟ وما هي قصته؟
قال: رجل فرنسي تخرج في إحدى دور المعلمين الأولية، ولكن الأبواب سدت عليه في بلده، وضاقت به الحيل، فلم ينل وظيفة، ولا استطاع أن يحصل شهادة ثانوية (بكالورية)، فشد رحاله إلى الشام، فكان فيها معلماً. . .
قلت: ليس في هذا عجيب، بل العجيب أن يكون غير هذا!
قال: لم أبلغ بك مستقر العجب بعد. . . لقد درس هذا الرجل سنين، ثم خطر له يوماً خاطر، فقال لي:
- لقد سمعت أن المسلمين يحجون. . .
قلت له: نعم
قال: أفلا تخبرني عن حجهم، كيف يكون، وما هي صفاته، وكيف تكون الرحلة إليه، وما هو خبر المحمل الذي كان يذهب به كل عام؟
في أسئلة أخرى هذا. سبيلها قال صديقي فقلت له: إني لا أعرف إلا طرفاً من هذا ولكني آخذك إذا شئت إلى من يرشدك إليه. وأخذته إلى رجل كان جمالاً يرافق الحج. فأنبأه بما يريد، فلما كان بعد أيام جاءني المسيو تريس، وقد كتب ذلك في كراسة عرضها علي لأنظر فيها. فنظرت فإذا هي أعجوبة الدهر التي يعجز عن مثلها صاحبنا أو العبر حين كان يقف على الجسر في بغداد فيكتب كل ما يسمع، فإذا ملأ الصحيفة قدها قداً فخالف بين أجزائها، ثم قرأ ما يجيء فيها، فيجيء بكلام ليس في الدنيا أحمق منه. . . وإذا هي كراسة مضحكة عجيبة يعد صوابها ولا يحصى خطؤها، على أنها في زعم صاحبها دراسة للحج عند المسلمين، سمي فيها الجمل الذي يحمل (المحمل) باب السلام، وسمي إمام الحرم المكي (أمين الصرّة) وجعل تبوك على أبواب مكة. . . ومثل هذا الهذيان. . .
قال صديقي: فرددتها إليه رداً جميلاً، وتخلصت منها وعاد الرجل إلى بلده، ومرت شهور طويلة، وإذا أنا بالبريد يحمل إليّ الرسالة مطبوعة، مكتوباً عليها:
الأطروحة التي نال بها مؤلفها شهادة الدكتوراه من جامعة باريس!!
علي الطنطاوي
الحقائق العليا في الحياة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
(ألفاظ إذا نطقت بها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)
تلك أعمدة الكون الخفية، تسكن قممها عقول المتأملين، وتسجد على أقدامها قلوبهم. قد أسبغ خالق الكون وواهب الحياة على العقول والأرواح ظلالاً من تكريمه واحترامه حين أوجد لها هذه الحقائق، وأوحى لها أن تتعرف إليها كما أوحى إلى الأجساد أن تتعرف إلى التراب والماء والغذاء والهواء. . .
وليت شعري! هل تسعفني خواطري الدائمة الدوران حول هذه الحقائق فتحضرني جميعها وأنا أكتب عنها؟
إني أبدأ الكتابة الآن وليس في نفسي إلا صور مبهمة منها. أما تركيز أفكارها وتجميعها وتجنيدها وعرضها، فأمر أسأل (الحق الأول الأكبر!) أن يتولى هو بفنه الخالق (إخراجه) من قلمي العاجز كما يخرج النخلة السحوق من النواة الضئيلة!
وإن تعجبوا فعجب لجماد الأقلام وطين الألسنة حين يتولاهما الجشع فيحاولان أن يمسكا السيالات التي لا تمسك!
وليت شعري! متى يأتي الإنسان الذي يستطيع أن يقول كل ما في رأسه بألفاظ ترضيه وتترجم عن التيارات العميقة المتلاطمة في قرار قلبه؟
إنه لاشك الإنسان الأخير الذي يختتم به وجود الإنسانية هنا على الأرض. . . ولعلها ما تلاحقت أنسالها في الأرض إلا لتقول (الأسماء كلها) التي علمها الخالق أباها آدم. . .
فالإنسان الأخير هو آدم ثان جاء ليختم الدورة التي بدأها آدم الأول. . . هو الإنسان الذي صبت فيه كل جداول البيان وسكنت فيه كل أطياف المعاني، فوعى كل كلمة نفسية ولفظية اختلج بها قلب أو فكر أو لسان. . .
هو الإنسان الذي يأتي بعد أن لم يبق شيء في عالم الآفاق وعالم الأنفس إلا وجد له لفظاً إنسانياً يصوره ويحدده. . .
هو ابن الإنسانية الواحدة الهائلة التي تنقلت في الدهور والأحقاب فوقع عليها كل الضوء وكل الظلام!!
1 -
الإيمان:
أنا الآن في (الرستمية) على أديم الأرض مباشرة، وتحت السماء مباشرة. . . حافي القدمين مجرودهما، جاث على الركبتين معقورهما، شاخص العينين محرورهما، مرهف السمعين مشدودهما، صامت الشفتين معقودهما. . . في الظلام الصارم! والريح تصفر في كل ما يحيط بي من مبان ومنافذ وأشجار. . . وبنات آوى تعوي وتعترك على قرب مني. . . وكلاب الرستمية وكلاب تلك القرية الماثلة على رأس تعريجة من تعاريج نهر (ديالى) تتبادلان نباحاً دائماً متشابهاً هو عندي نغم يهيئ في نفسي جواً معنوياً لليالي القرى والخيام. . والنوم ذائع السلطان منشور الأعلام على مباني (دار المعلمين الريفية)، وعلى أجساد ساكنيها من الطلاب والمعلمين. . وكل ما في جسمي ونفسي يقظ: كل خلية وكل شعرة، وكل قوى جاذبة أو دافعة، وكل خاطرة جديدة عابرة أو مخزونة غابرة، مستجمع أرواح آبائي وأرواح أنسالي. . في خيالي، وجميع حياتي الذاهبة في الأزل والآنية في الأبد!
أنا في ساعة خبال أو عقل، وفي جد أو مجانة؟ لا أدري. لا أدري إلا أن الرحى الدموية الحمراء التي في صدري تدور دوراناً لا عهد لي به من قبل. . .
أنا أيتها الأكوان الناطقة والصامتة الموغلة في الصمت، أحاول أن أتكلم عنك بين يدي أبي وأبيك! بالكلمة التي أعياني النطق بها كما أعيا كل كائن يحسها حقيقة شائعة في نفسه ولكن لا يستطيع البيان. . .
أدير فكري وكل حواسي في الدنيا لأجد ابتداء القول، فلا أظفر إلا بالاستغلاق؛ وإن كنت أظفر بامتلاء أوعية أخرى لا سلطان للبيان على نقل ما فيها. .
كل فراغ حياتي مملوء بخواطر مستبدة بي، ألاقي بها الحركة والركود، والنور والظلمة، والبحر والصحراء، والنملة والجمل، والعلم والجهل، والسلامة والسقم، وكل شيء، وكل شيء، وكل شيء. . .
فاعذروني أيها الفارغون!
واطلبوا التوفيق لقلمي المسكين الذي يتصدى للنار ليكتب فيها عنها. . .
ويتصدى للريح العصوف ليحملها قبل أن تحمله وتذروه مع الهشيم. . .
الإيمان؟!
يا لله من ابتذال الألفاظ الكريمة ونزولها من لمعات الفكر العالي وسبحات الروح، إلى رؤوس الأغبياء والجامدين والمحدودين!
ويا لله من جناية التجسيم والتشبيه على المعاني التي حياتها في أن تكون مطلقة متفردة منساحة في محيطات ربها انسياح الكهرباء والجاذبية والإشعاع!
ويا لله لغذاء الملائكة إذا ولغت فيه الكلاب والخنازير والقردة!
وأواه من الذين ينظرون إلى الألفاظ الحية نظرهم إلى الحجارة والصخور!
أخذوا هذه الكلمة التي لا يمكن أن يكون قد نطق بها ناطقها الأول إلا بوحي، وصاروا يلوكونها كما يلوك الملقنون بعض الألفاظ يلقونها على أجساد الموتى. . .
أخذوها من معادنها ومناجمها العميقة في قلوب الأنبياء وخواطر الأصفياء وألقوها في أفواه التماسيح والقردة، فصارت تعض وتقهقه بها ممسوخة في غير موضعها، كموسيقى الجنازات.
أخذوها كما يأخذون الوردة المنضورة الممطورة من غصنها، فلا يزالون يبتذلون شذاها على أنوفهم المزكومة، وحريرها بين أصابعهم القاسية، حتى يمزقوها فلا يبقى منها في أيديهم غير جثة مسحوقة يلقونها في التراب. . .
أخذوها من نصابها في قلوب الأنبياء وخواطر الأصفياء. ووضعوها على قلوبهم الضيقة كما توضع الشموع على القبور. . .
صيروها ملكاً لكل بليد أبله، تموت وتنطفئ على شفتيه الكلمات المنيرة كما تموت العروس في جلوتها. . .
ثم وضعوها في قواميسهم وكتبهم بجانب هذه الجمادات والجيف: تراب. رصاص. ذهب. حديد. معدة. .!
فيا موحي المعاني! حررني من ألفاظهم الميتة الجامدة التافهة، واحلل عقدة من لساني حتى أبين معناك في قلبي. وما أهول معناك فيه!
الطبيعة كلها أوتار مرنة، وكلمات مبينة، وأصابع مشيرة، يسمعها ويقرؤها ويراها ذلك
الراهب الذي سجنته بين ضلوعي!
وأناملي الآن تحاول أن تشير إليك بالقلم والمداد في رموز أغني بها وأبكي!
ليس الكلام هنا شيئاً يذكر بجانب الفكر، وليس الفكر شيئاً يذكر بجانب الوجدان. . .
ولكي أكتب عن معناك كتابة عارف. . . لابد لي من جسد آدم الذي لامسته يدك، وعمر نوح الذي طال فيه سرك، وعقل إبراهيم الذي سعى أمامه نورك، وأذن موسى التي رن فيها صوتك، وإنشاد داود الذي ترقرق فيه نغمك، ويد عيسى التي كان معها إذنك، وكمال محمد الذي انطلقت منه إلى الإنسانية كلمتك الخاتمة. . .
أجل! لابد لهذا أن أغتسل بالبحر كله، وأتوضأ بالشعاع كله، وأتوج بالشمس والقمر والنجوم. . ثم أندمج في كل شيء لأتسمع إلى الهمسات والأحاديث الدائمة بين العوالم والأكوان عن الظاهر الباطن، والأول الآخر. . . . المتكبر! الذي أذابها وأفناها انتظار لمحة لوجهه ذي الجلال!
ولكن يا طين آدم! مالك ولهذا العلو الشاهق؟
يا خنفساء الغبراء! لا تحلمي بجو النسور. . .
يا جُعَل! إن شذا الورد يخنقك. . . فلا تطلب سكنى الرياض. . .
كيف يقوى على سنا الرب قلب
…
ليس يقوى على سنا المربوب!
والكلمات لا تَناهي لدى الله
…
فلابد من بقاء الغيوب
أجل يا (باكثير)!
ولكن الذي يتصدى لكبرياء الإلهية، إنما يحاول أن يبلغ أقصى حدوده وأدنى حدودها ليعود فبقول كلمة تربح ذلك الراهب السجين، وتكون مشاركة منه في عزف اللحن الدائم مع أوتار الطبيعة، وفي تسجيل الكلمات المبينة مع أفلام الطبيعة. . . . حتى يرى بعد ذلك كلمته هذه طائرة بجوها الموسيقي، تخفق بجناحيها في رئات الناس، وترقص في ضياء عيونهم، وتأكل من حبات قلوبهم، وتغرد في منطقة الصمت من أفئدتهم!
قد لا يدرك الإيمان على حقيقته إلا المؤمن الأخرس الأصم. . . الذي لم يقل ولم يسمع إلا الكلمات النفسية التي لا تصب بقوالب من الألفاظ الضيقة التي قد تكون منحرفة الوضع أو مبهمة الدلالة أو ناقصة الموسيقى. ولكل معنى في النفس جو موسيقي يجب أن يصحبه في
اللفظ
وإني أرثي للذين لم يعرفوا الإلهية إلا من ألفاظ الكتب! ولأن الناس صاروا يأخذون عقيدتهم في الإلهية من الكتب ومن الأفواه، اختلفوا وتفرقوا وتباينت الصور التي في رؤوسهم منها. ولو أنهم أخذوها مباشرة من الطبيعة الواضحة الواحدة، التي ليس في كلماتها انحراف في الوضع، ولا إبهام في الدلالة، ولا نقص في الموسيقى. . . لاتفقوا وتلاقوا على فهم المعنى الواحد الذي يملؤها، كما كانوا أول زمانهم قبل تشعب الكلام بهم، ووجود ميراث من الكلمات المغلوطة التي تمحو طابع الفطرة البسيطة التي لا تعرف الرموز ولا تستغني بها عن النماذج الواضحة التي تملأ الطبيعة
ويا لله من جناية الناس على وسائل إنقاذهم ورفعهم من حضيضهم!
إن الملهمين والعلماء يفتحون لهم أبواب أقفاصهم وسجونهم حتى ينطلقوا ويفروا منها إلى الطبيعة. ومن الطبيعة تفد عقولهم إلى خالقها وصاحب المشيئة الغالبة عليها. ولكن الأغبياء والمحدودين من الدعاة يعودون بهم ثانياً إلى الأقفاص والسجون ويسدون أبوابها بالأوثان والأنصاب والصور والرموز، ويلهونهم بالخرافات
وعندئذ تموت وتنطمس الكلمات الحية المنيرة، فينطقون بها ويخيل إلى رائيهم من ذوي البصائر أنهم يلفظون حجارة أو جثثاً ميتة للمعاني الكريمة. . .
وإذا انقلب الوضع فصار الراعي يهتدي بالقطيع، فهنالك ضياع الجميع. . .
وهنا أسأل:
لماذا لا تخدمون الإيمان أيها الكتاب الموهوبون فتخدموا بذلك أقلامكم وتخدموا الحياة والفن؟
لماذا تلسعكم النار وتتحول أقلامكم إلى عقارب تلقونها بسرعة من أيديكم إذا ما سجل أحدكم كلمة مؤمنة؟
أنا أعرف السبب. أعرفه وأعزو إليه كل هذا الضعف: هو أنكم تأنفون من أحاديث العوام والعجائز والفقراء الذين جعلوا الإيمان غذاءهم وعزاءهم لأنهم فقدوا كل شيء سواه. فهم يعتزون به ويتزيدون فيه بأحلام المحرومين. فمن هنا تراكمت في نفوسكم (عقد نفسية) خفية في العقل الباطن تعقل أقلامكم عن الخوض في المعاني العامية. . .
ولكني أعيذ فطنتكم أن تجعلوا يد البستاني مرآة للبستان. . .
وإنكم إذ تتحاشون الحديث في الإيمان لمحرومون من منابع الإلهام الدائم، وحياة اللذة بالشعر، وحياة اللذة بالعلم، وحياة اللذة بالقوة، وحياة اللذة بالمجد الشخصي، واحترامكم لأنفسكم!
أتدرون أنكم لا تسبحون إلا في الضحضاح من المعاني المكشوفة الدائرة حول الظاهر من الحياة الدنيا، وأنكم تدورون في هذا الضحضاح دوراناً مضحكاً)؟
أتدرون أنكم بإهمالكم وصف الأفق الذي تلتقي فيه كل الحقائق والجمالات والكمالات والرائعات من عالم الخفاء وعالم الظهور، قد ضيعتم أعلى نغم وعطلتم شعركم من أعذبه؟
هبوا أنكم لم ترضوا بحديث بعض المأثورات من كتب الدين عن الإلهية، فلماذا لا تحدثون أنتم الإنسانية بحديثكم الشخصي عنها وهي تملأ كل نفس عالمة أو شاعرة؟
وهبوا أن بعض الأنجاس ولغوا في هذا النبع، فهل معنى ذلك أنه تنجس عند الذين يعرفون من أين ينبع وإلى أين ينتهي؟
كلا! لن تذهب مسؤولية ذوي الطباع الرحبة في التكلم للحق إذا تكلم فيه الجامدون أو الدجالون، بل إن مسئوليتهم تبدأ من هنا. . .
وإن الذي يخرج من الدنيا كاتباً أو شاعراً أو فناناً أو عالماً أو متأملاً، ثم لا يترك في ميراثه حديثاً عن (ملتقى الأكوان!) لا ريب أن يحكم عليه الحق بأنه أعمى، لأنه مر على حجرات جدرانها كلها مرايا فلم يرها ولم يحدثنا عنها. .
(بغداد - دار المعلمين الريفية)
عبد المنعم خلاف
مقالات في كلمات
للأستاذ محمود غنيم
العدل المطلق
أسرفت القوانين على اختلاف أنواعها في توخي العدالة، ولكن يظهر أن تحقيقها لا يزال يقتضي انتظار زمن طويل، إن لم نقل: إن ذلك مستحيل
أرأيت ذلك الذي يطيح القصاص برأسه جزاء إثم اقترفه؟ لقد حكم القضاء بإدانته مرتاح الضمير، معتقداً أنه أقر الحق في نصابه، وقابلت أنت الحكم بالهتاف للعدالة، ونسيت أن لهذا الحكم العادل ناحية فيها ظلم صارخ. ما ذنب أطفال هذا المجرم الذين أسقطهم القضاء من حسابه، فحرمهم كاسبهم، ورماهم باليتم من غير إثم اقترفوه؟ أغلب الظن أن القصاص العادل مهد لهؤلاء الأطفال البرآء سبيل الأجرام، فكأنه استأصل شراً وأنبت شروراً، وأراح الإنسانية من وجه ثم أتعبها من وجوه
ما ذنب المرأة يلقي زوجها في أعماق السجون باسم القانون، فتتضور تلك الحرة جوعاً، أو تأكل بثدبيها؟ وقد تكون حياتها - وهي البريئة الطليقة - أشأم من حياة زوجها - وهو المذنب السجين -؟
وكم تكون دهشتي كلما تذكرت حكم الفقهاء في طلاق السكران المتعدي! إنهم يوقعون طلاقه تغليظاً عليه، كأن مسألة الطلاق لا تعني إلا إياه، وليس الرجل فيها إلا طرفاً من طرفين، بل من عدة أطراف، إذا لم نسقط من حسابنا شريكته في الحياة وأطفاله الصغار. ألسنا بذلك نكون قد قضينا على زوجة، وشردنا بنين، لأننا أردنا أن نلقي على رجل سكران درساً أشك كل الشك في قسوته؟ أجل، فمن الجلي أن الرجل هنا يرتكب أخف الضررين، ففي استطاعته أن يتزوج لأن أمر زواجه موكول إليه، أما الزوجة المنكودة - التي لم تعاقر الكأس ولم تغش الحان - فعليها أن تنتظر ثم تنتظر، لأن أمر زواجها ليس إليها
كلنا يهتف للمساواة ويعتبرها ضرباً من ضروب الأنصاف، ولكني ألاحظ أن ذنباً واحداً قد يقترفه اثنان، معيشة أحدهما في السجن لا تختلف عنها كثيراً في منزله، بينما يؤثر ثانيهما الانتحار على أن يقضي في السجن سحابة نهار. فهل تعتبر توحيد الحكم عليهما من العدل في شيء؟ ثم ماذا تقول إذا كان أحدهما متعطلاً لا كسب له، وكان للثاني عمل يدر عليه
الربح الوفير؟ لا شك أننا في هذه الحالة نكون قد حكمنا على الثاني بغرامة فادحة، لم يصب الأول منها قليل ولا كثير
ولقد يتخاصم المتخاصمان أحدهما في سعة من الرزق يستطيع أن يستعين بجيش من مهرة المحامين، بينما ثانيهما مقل لا يستجيب له إلا من يقنع بالأجر الطفيف، وهكذا يسوي القانون بينهما في كل شيء، ويغفل هذه الناحية الحساسة، ذات الأثر البالغ في تكييف الحكم، وتكون النتيجة أن ينتصر باطل الأول على حق الثاني باسم العدل والقانون
وبعد فلست أجهل أن القوانين لا تنظر إلى الأفراد بمقدار ما تنظر إلى المجموع، وأنها كثيراً ما تضحي بمصلحة الفرد في سبيل الصالح العام، ولكنني أبحث عن العدل المطلق، العدل الذي لا يشحذ مديته على كبش من كباش الفداء
اللذة السلبية
عرفت بالتجربة أن من أطيب الأوقات التي تمر بالإنسان تلك الأوقات التي ينسى فيها نفسه بسفر طويل وإن كان لغير غرض، أو بإمعان في تفكير وإن لم يكن من ورائه طائل، أو بانهماك في (لعبة) وإن كانت غير ذات جدوى. وجلي أن الإنسان لا يفيد من ذلك فائدة يستطيع أن يرجع إليها ما يشعر به من لذة، فهل مصدر تلك اللذة هو مجرد نسيان الإنسان نفسه حيناً من الدهر؟ إن صح ذلك فأحر بنا أن نطلق على هذه اللذة أسم (اللذة السلبية)
أغلب الظن أن ذلك صحيح، وعليه يكون مجرد الشعور بالحياة عبئا على الأحياء، ويكون الاحتيال على التخلص منه بين فينة وأخرى داعية سرور وارتياح. ومما يدعم هذه النظرية تلك اللذة التي يشعر بها المخمور، وماذا يفيد المخمور من جرعات الراح التي يتجرعها بين تغضن الأسرَّة وتقطيب الوجه، إلا فترات غيبوبة ينسى فيها نفسه، ويعدم شعوره، ويفارق حيويته إلى حين؛ حتى إذا ذهبت نشوته، وتسرب إليه شعور، ودع نعيمه، وعاد إلى دنيا الهموم؟
إذا وافقتني على ذلك استطعنا أن نحل ذلك اللغز الذي حير الأفهام من قديم الزمان، وهو (متى يستشعر النائم لذة النوم) إن قلت: قبله، قلنا: لا يستشعر الإنسان لذة شيء قبل مباشرته، وإن قلت: أثناءه، قلنا: لا شعور للنائم. وإن قلت: بعده، قلنا: ما شعور الإنسان بلذة شيء فات؟ أقول: إذا وافقتني على تلك النظرية استطعنا أن نعتبر لذة النائم من نوع
اللذة السلبية، أعني تلك اللحظات التي غرق فيها في السبات، فغاب عن الوعي، واطرح أعباء الحياة، وتخلص من نير الشعور
ولعل من هذا كان حظ الإنسان من الآلام النفسية يتناسب مع مبلغ حدة شعوره ودقة إحساسه طرداً وعكساً، فإن ذا الحس المرهف أشد حيوية من غيره. والمشاهد أن أشد الناس تمتعاُ بالحياة هم أقلهم حظاً من التفكير والإحساس، لأنهم إلى الموت أقرب منهم إلى الحياة. ومن قديم قيل:
والعيش خير في ظلا
…
ل النوك ممن عاش كدا
غير أنني أخشى إذا تمشيت مع هذه النظرية أن أنحدر إلى القول بأن الموت هو السعادة الأبدية
اللذة والألم
هل تحسب أن بائع العطور يستشعر ما تستشعر أنت لها من رائحة زكية؟ إن الإنسان ليجلس في بستان برهة من الزمان، فتصاب أعصاب حاسمة شمه بالشلل، حتى ما يفرق بين ورد وريحان، أو فل وياسمين
هذا مثل مادي يبين لنا تصريف اللذة والألم في الحياة، فالمنظر الجميل إذا أدمنت التحديق فيه أصبح مألوفاً عادياً لا يحرك مشاعرك؛ والطعام الشهي إذا أكثرت تناوله فقد جاذبيته، بل قد يصل إلى درجة تعافه معها النفوس. ولقد يظفر الموظف بإجازة يوم فيشعر بغبطة لا حد لها، ثم يسامح بعد ذلك شهورا فتفقد المسامحة سحرها، بل إن الألم الذي يستثقل وطأته الإنسان يتسم به الجسم على مر الأيام، ويخف حمله بطول المران عليه
إذن لابد من ألم الجوع والظمأ حتى يستشعر الإنسان لذة الشبع والري، ولابد من جحيم الفراق حتى يشعر بنعيم الوصال، ولابد من حرارة العمل حتى يحس برد الراحة، بل لابد من المرض حتى يدرك الإنسان أنه صحيح معافى. بعد هذا نستطيع أن نقول بملء الفم: إن الألم شرط في إحداث اللذة، وإن النعيم المحض لم يكتب لمخلوق في هذه الحياة، وإنما تمني به الكتب المقدسة البررة الصالحين في دار الخلود. ومن هنا التمس الناس السعادة من قديم الزمان في كل مكان فأعياهم التماسها، لأنهم يبغونها صرفاً غير مشوبة بشائبة، ولم يفطنوا إلى أن الألم شرط في إحداثها، ومقوم من مقوماتها
اللذة والألم متكافئان، حظ الناس منهما واحد، مهما تفاوتت أقدارهم في الهيئة الاجتماعية، وتفاوت حظهم من الجاه والمال، غاية ما في الأمر أن لكل منهما صوراً وأشكالاً متباينة وإن كان الشعور به في قرارة النفس واحدا
فعزاء للفقراء، وليعلموا أنهم هم وأرباب المال والجاه. على قدم المساواة
(كوم حماده)
محمود غنيم
التعليم والمتعطلون في مصر
المدرسة وتكوين الأخلاق
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
قيمة الأخلاق وتكوينها
كان خير ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى (وأنك لعلى خلق عظيم) وقوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وفي هذا الدليل القاطع والحجة القوية على ما للأخلاق الكريمة من أثر في الحياة. والأخلاق الكريمة لا يحتاج إليها الإنسان في الزعامة أو القيادة أو الرياسة فقط، ولكنه يحتاج إليها في جميع الأعمال والمهن والحرف على اختلاف أنواعها، لما يجري فيها من معاملات بين الناس وأخذ ورد، ومد وجزر، تتطلب جميعها الحكمة وحسن التدبير والحسنى في القول، والصدق والأمانة في العمل. ولا غرو فالأخلاق لكريمة عماد تكوين الأمم وأساس نهضتها ورقيها. وفي ذلك يقول المرحوم شوقي بك:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويقول المغفور له سعد زغلول باشا: (نحن لسنا محتاجين إلى كثير من العلم، ولكننا محتاجون إلى كثير من الأخلاق الفاضلة)
والأخلاق كما تورث بذورها عن الآباء والأمهات تربى في النشء. وأمتنها وأقواها ما نشأ عليه الطفل منذ نعومة أظفاره، وهي فوق ذلك تربى في الشاب واليافع والكهل، بل وفي الشيخ بالتعود والمرانة ورياضة النفس. وليس شيء أدل على ذلك من آيات التأديب المختلفة التي نزلت في القرآن الكريم حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(أدبني ربي فأحسن تأديبي) فمن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى: (يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) وقوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) الخ. وانظر إلى قوله تعالى تعليما وتأديباً للمؤمنين: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا) وإلى قوله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله
أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعلمون خبيرا)
كل تلك الآيات المحكمات وغيرها تدل دلالة واضحة على أن الآداب تكتسب بالتعليم والمرانة والتعويد. فإذا فاتت الطفل فرصة تأديبه وتعويده الأخلاق الكريمة في منزله فيجب ألا تفوته تلك الفرصة في مدرسته حتى يستقبل الحياة العملية مزوداً بالزاد المثمر المنتج وحتى لا تضيع عليه فرصة ذهبية هي أولى الفرص بالتأديب والتموين. وهي فوق ذلك أحسنها وأثمنها وأغلاها. ولقد أيد ذلك الرأي علماء التربية والباحثون فأقاموا الدليل تلو الدليل على أن الأخلاق تربى في الإنسان وتقوى فيه بالتعويد ورياضة النفس. وقديماً قالوا في الحكم والأمثال (الحلم بالتحلم، والكرم بالتكرم)
فلم يبق إذن شك في ذلك وليس فيه ما يدعو إلى البحث والتنقيب إنما الذي يدعو إلى البحث والتنقيب هو:
أولاً - معرفة تلك الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتصف بها الإنسان في حياته
ثانياً - طرق غرس تلك الأخلاق وتعهدها وما فعلت المدرسة المصرية في هذا السبيل وما لم تفعل
ثالثاً - معرفة ما يتصف به شبابنا في الوقت الحاضر من صفات لا تناسب نهضتنا ولا تتفق مع ماضينا وقوميتنا بما يقعد بهم عن الإقدام على الأعمال الحرة فيؤثر تأثيراً سيئاً في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية ويؤدي إلى عرقلة سير النهضة القومية. وأخيراً بحث الطرق العملية المؤدية إلى استئصال ذلك
الأخلاق المطلوبة
مما لاشك فيه أن الأخلاق القويمة التي نصت عليها الشرائع السماوية كالصدق والأمانة والجد والاستقامة والصبر وفعل الخير وإحقاق الحق والعدل والمساواة في حرية الرأي والشورى. . . الخ هي الأسس التي يجب أن يعنى بها كل مصلح، والتي يجب أن يبثها في ولده كل والد، وفي تلاميذه كل مدرس. على أن هناك أموراً خلقية أخرى قد تؤدي إليها المحافظة على الأمور السابقة وتعودها كما يلزمنا المجتمع الحاضر وأحوال المدنية الحاضرة وأساليب الحياة الحالية بالعمل على خلقها في نفوس أبنائنا فرادى وجماعات حتى
يتمكنوا من الخوض في معترك الحياة والنهوض بهذه الأمة نهضة حقيقية فعالة ويرفعوا رأس بلادهم ويثبتوا أقدامها بين الأمم الراقية.
هناك تكوين الشخصية القوية، وهذا يستلزم تقوية إرادة الفرد بمختلف الوسائل وتنظيم حياته وتوجيه نشاطه، وتوزيع العمل واللهو على أوقاته، ويستلزم تعويد الفرد على أن يكون ذا رأي مستقل يدافع عنه في صراحة وجرأة وقوة، ويستلزم أن يكون الفرد ذا جاذبية خاصة أساسها حسن المعاشرة والمجاملة وعمل الخير مما يحبب فيه معاشريه، ويجذب إليه كل من يحتك به ويعامله، ويستلزم أن يتعود تحكيم عقله في ميوله وأهوائه، فكلما استطاع الإنسان كبح جماح شهواته والتغلب على أهوائهوميوله، ارتفع بنفسه في عالم الفكر وسما بروحه سمواً يجعله قوي الشخصية مؤثراً في غيره تأثير المغناطيس في الحديد
وهناك غرس فكرة النظام واحترام القانون في نفوس الناشئين منذ نعومة أظفارهم حتى يعتاد الفرد ذلك من صغره من غير أن يحتاج إلى رقيب يحاسبه ويتتبعه أو إلى دافع خارجي غير نفساني يدفعه، ويستلزم ذلك تربية الضمير وتقويته حتى يكون كل لإنسان رقيباً على نفسه يحاسبها دائماً على كل صغيرة وكبيرة. حدثني صديق اعتاد أن يسمر بعض الليالي عند أحد الوزراء السابقين الذين تلقوا علومهم العالية في بلاد الإنجليز: أن ذلك الوزير قص عليه قصة صغيرة وقعت له في تلك البلاد في أحد أيام الصيف، وكان قد سافر إليها للنزهة والتروض. وتتلخص تلك القصة في أن أحد أصدقائه الإنجليز دعاه يوماً للصيد فخرج معه إلى مكان ناء بعيد عن أعين الناس، ثم دعتهما ظروف الصيد إلى الافتراق فافترقا كل يطلب صيده، فلما وجد المصري نفسه وحيداً وقد هجمت عليه جموع من الطير التي يعلم أن القانون يحرم صيدها لم يتردد في إعمال بندقيته وخرطوشه فيها حتى صاد منها كمية كبيرة معتقداً أنه فاز برزق عظيم وأنه سيسر صديقه به. ثم ما لبث أن التقى الصديقان، فكانت دهشة الإنجليزي عظيمة لما رآه يحمل الطير المحرم صيده، وأخذ يلومه على ارتكابه مخالفة قانونية، فأجابه السيد المصري بأن الفرصة كانت سانحة لذلك وأنه لم يره أحد، فما كان جواب صديقه إلا أن قال له: ولكنك يجب أن تكون أميناً على تنفيذ القانون في كل مكان وزمان سواء أكنت وحيداً أو معك غيرك، ثم أعطاه درساً عملياً في احترام القانون، فذهب به إلى أقرب مخفر للشرطة فسلم الطيور كلها هناك ودفع
عنه في الحال الغرامة التي يجب دفعها نظير ارتكاب تلك المخالفة
هذا درس عملي عظيم إذا توخت مثله المدرسة في تربية أبنائها على احترام القانون والنظام العام أنتج أحسن الثمرات، وجاد بأطيب الخيرات والبركات. ثم لماذا نذهب بعيداً وعندنا من أمثال ذلك في صدر الإسلام الشيء لكثير؛ فلقد خرج عمر ابن الخطاب ذات ليلة يتفقد أحوال رعيته، فلما تعب اتكأ على جدار في جوف الليل وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء. فقالت: يا أماه أو ما عملت بما كان من عزمة أمير المؤمنين؟ فقد أمر مناديه فنادى لا يشاب اللبن بالماء. فقالت: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فانك بموضع لا يراه عمر ولا منادي عمر. فقالت الابنة: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كل ذلك وعمر يسمع تلك المحاورة فقال لمولاه أسلم: (علم الباب واعرف الموضع). ثم مضى؛ فلما أصبح الصباح قال: (يا أسلم، أمض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل؟). فذهب ورجع فأخبر عمر؛ فدعا ولده وقال: (هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه. ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد؟). فقال له عاصم: (أنا يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني). فزوجها من عاصم فولدت له بنتاً وولدت البنت عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو ذلك الخليفة الذي يضرب به المثل في الورع والتقى والزهد وإحقاق الحق وإقامة العدل
عبد الحميد فهمي مطر
العقيدة الشعرية
للأستاذ أحمد خاكي
يفرّق النفسيون في العصر الحديث بين الإيمان العلمي والإيمان الشعري. أما الإيمان العلمي فهو الذي يقوم على قواعد المنطق من فرض واستنباط واستقراء، ومن إثبات القضايا أو نفيها. إنه هو الإيمان الذي يقوم على الواقع قبل كل شيء، فهو يصدر عن الأشياء التي تقع في الحس، وهو الإيمان الذي قام على تثبيته أمثال بيكون، وديكارت وهو الذي أقام العلم والفلسفة بما واتى حياتنا المادية من تقدم. أما الإيمان الشعري فيختلف عن ذلك كل الاختلاف، فهو يقوم على جملة من الآثار النفسية تثبت في نفس الفرد عن طريق العادة أو التخيل أو التصور؛ فهو لا يرتكز على حقيقة محسوسة ملحوظة، بل هو فيض خيالي مما تصوره الغريزة أو الرغبة أو الفطرة. وهو بعد ذلك ضرب من اللعب إذا أحسن التعبير عنه كان فناً له خطره
الإيمان العلمي هو إلي يدفعنا إلى درس النجوم وعلاقات بعضها ببعض؛ ولكن الإيمان الشعري هو الذي يحبب إلينا النظر إلى تلك النجوم. الأول نتيجة لدراسة منطقية خارجة عن نفس الإنسان، أما الثاني فهو نتيجة لآثار العوامل الخارجية في نفس الإنسان. الأول يمدنا بالقيم العلمية التي تكاد تثبت في كل زمان ومكان، والثاني بالقيم الأدبية أو الجمالية التي يختلف تقديرها باختلاف المقدَّر والزمان والمكان
ولقد ازدهرت نظرية اللاشعور أو العقل الباطن في هذا القرن حتى أظهرت لنا نوعاً من العقائد الأدبية يعتنقها الشعراء في قرارة أنفسهم دون أن يحسوا بوجودها. وأظهرت لنا كذلك أن الشاعر أو الأديب أو المتفنن قد يكون صاحب عقيدتين في وقت معاً: أولاهما علمية تتصل بحقائق الحياة، والثانية شعرية تتصل بالخيال. وكان لهذه الفكرة خطر في النقد الحديث، لأنها قلبت أوضاع النقد، وثارت بالتقدير العلمي القديم، ونبهت النقدة إلى أن يتدسسوا في أطواء الشاعر حتى يروا معانيه التي كتبها بوحي من عقله الباطن دون أن يكون عليها سلطان من عقله الواعي. وحسبنا من كل ذلك أن نثبت أن الأدب يقوم على هذه العقائد الشعرية، وأن اكمل الشعر هو الذي يصادف مثل هذه العقيدة الشعرية عند سامعيه أو قارئيه
ويولد الإيمان الشعري مع خيال الطفولة، هو كذلك يميز عقلية الهمج. ذلك بأنه يتصل بغرائز الفطرة الأولى: بالخوف والحب والعداوة والجنس. فإذا تقدمت البيئة الأدبية إلى مرتبة عليا من مراتب المدنية استعلى المتفننون بذلك الإيمان الشعري فمثلوه تمثيلاً في النحت والتصوير والموسيقى والشعر وأطلق عليه الناس بعد ذلك اسم الفن. وهو لذلك يميز الإنسان في أحط درجاته، ويميزه كذلك في عصور الفن الزاهرة. فالإنسان الأول كان يقيم عفريتاً يعبده ليرضي خياله المفزوع، والإنسان المتمدن ما يزال إلى اليوم يصوغ امرأة من الذهب والعاج ليرضي رغبته الملحة. والعفريت والمرأة كلاهما نتيجة لذلك الإيمان الشعري الذي ينكر الواقع ويعنو للخيال. كلاهما يتفجر من نفس العين، ولو أن هذا قد هذب وذاك ما يزال في حاجة إلى التهذيب. وكلاهما نتيجة غريزة من الغرائز: الأول نتيجة الخوف، والثاني نتيجة الحب الجنسي.
وقد ذهب النقدة لذلك إلى أن الشعر ليس من شأنه حقائق الأشياء، وأن الحدود بين العلم والشعر ينبغي أن تكون ظاهرة لا يعتدي أحدهما على الآخر. وليس عند هؤلاء شعراً ما يعالج قضايا منطقية، بل ليس شعراً ما يعرض لنواحي الخلق العام. فإن آفاق الشعر لا تمتد إلى حيث ينبغي أن يبدأ النثر. بل لقد أمعن الناقد الإنجليزي في ذلك حتى قال إن الكذب آية من آيات الشعر فالشعر من الوجهة النفسية يرتكن على الخيال لا على الواقع، والعقيدة الشعرية هي الحالة النفسية المثلى لعمل الشعر، وهي كذلك الحالة النفسية لاستيعابه.
وإذا نحن حاولنا أن نطيق تلك المعايير النفسية على الشعر العربي وجدنا أنها تستقيم لحد كبير. والأصل في التشبيه والمجاز والاستعارة أن تكون خداعاً نفسياً. وليس الشعر شيئاً إلا إذا كان تشبيهاً ومجازاً واستعارة. على أن شعراء العرب قد علوا عن تلك المرتبة الأولى من مراتب القصيدة الشعرية، وبعضهم قد تخيل فأنطق الجماد، وبعضهم قد تدله فصور المرأة تصويراً نفسياً دقيقاً. وإليك بعد ذلك بعض أبيات لأبن خفاجة الأندلسي يصف فيها جبلاُ حتى ترى معي إلى أي حد تنطبق هذه القطعة على الواقع وإلى أي حد تنطبق على الخيال:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ
…
يطاول أحنان السماء بغارب
يسد مهب الريح عن كل وجهة
…
ويزحم ليلاً شهبه بالمناكب
وقور على ظهر الفلاة كأنه
…
طوال الليالي مفكر في العواقب
يلوث عليه الغيم سود عمائم
…
لها من وميض البرق حمر ذوائب
أصخت إليه وهو أخرس صامت
…
فحدثني ليل السرى بالعجائب
وقال إلى كم كنت ملجأ قاتل
…
وموطن أواه تبتل تائب
وكم مر بي من مدلج ومؤدب
…
وقال بظلي من مطي وراكب
ولاطم من نكب الرياح معاطفي
…
وزاحم من خضر البحار غواربي
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى
…
وطارت بهم ريح النوى والنوائب
فما خفق أيكي غير رجفة أضلع
…
ولا نوح ورقي غير صرخة نادب
وما غيض السلوان دمعي وإنما
…
نزفت دموعي في فراق الصواحب
وأحسب أن كل بيت من هذه الأبيات جدير بالتقدير. وهي جميعاً تكون وحدة جمالية لها أثر كريم في النفس. على أنها لا تنطبق على الواقع إلا قليلاً. فإذا أنت حاولت أن تتأثر عنصر الحقيقة من هذا الشعر لم تجد من هذا البيت وذاك البيت إلا أنه كان جبلاً عالياً مر كثير من الناس به في أيامه الخوالي. أما الجبل الذي يسد مهب الريح والذي يعتم عمامة سوداء من النسيم لها ذؤابات حمر من البرق؛ هذا الجبل الذي يسكن فيفكر، ويتحدث فيتفلسف، والذي ترجف ضلوعه من الأسى، وتذرف دموعه من الوجد؛ ذلك الجبل ما هو إلا خيال سام يصور الواقع لكنه فوق الواقع؛ وهو هو الذي نسميه شعراً
وإنما تمتاز هذه القطعة من الشعر بالجمال لأن فيها وحدة تسوي بين أجزائها جميعاً، وفيها كذلك علو بالخيال من بيت إلى بيت، فهي تبدأ بشيء كالواقع لكنها تنتهي بشيء كالخداع. على أنك تستطيع أن تقدرها إذا كنت في حالة نفسية خاصة، حالة نفسية تعترف بإيمان الشعر أو بالخداع أو بالخيال (سمه ما شئت)
لكنك لا تستطيع أن تقدرها إذا أنت وقفت بين البيت وبين البيت تحاول أن تتشكك في صدق المعاني وتحاول أن تنكر على الجبل أن يتكلم أو على الغيم أن يكون عمامة أو على الأيك أن يكون ضلوعاً
على أن ذلك الإيمان الشعري يمتلك النفس أكثر ما يمتلكها عند قراءة القصة أو عند مشاهدة الرواية المسرحية أو عند قراءة ملحمة طويلة في الشعر. فإذا أنت ذهبت إلى المسرح
لتشهد (هاملت) أو (سان جان داراك) فلست بمدرك ما في كل ذلك من الجمال إلا إذا وهبت نفسك لتلك العقيدة الشعرية. وربما علمت أن (هاملت) لم تحدث في التاريخ، وأن بعض وقائعها قد يكون محالاً، وأن شبح الملك المقتول الذي يظهر فيها إن هو إلا ابتكار أتى به الخيال؛ ربما علمت كل ذلك ولكن أحسبك لا ترضى - وأنت مأخوذ بسورة الجمال - عن إنسان يحاول أن يقول لك إن هاملت لم تحدث وإنها كلها لغو من عمل الخيال. ذلك بأنك تحاول وأنت تشاهدها أن تمارس ذلك الخيال ممارسة شعرية فيحلو لك أن تنسى عقيدتك العلمية، ويحلو لك أن تؤخذ أنت بالعقيدة الشعرية وأن تخدع لأن ذلك الخداع في نفسه جميل. وهذا هو الذي يحدث بين جنوبنا حينما نبكي عند رؤية المأساة، وهو الذي يضحكنا عند مشاهدة المهازل والمباذل على الستار الفضي
يروى عن سيدة أنها كانت تشاهد (عطيل) على المسرح. وحينما مضى الفصل الأول والثاني وجاء دور الوقيعة التي قام بحبكها ياجو تأثرت السيدة تأثراً شديداً لأنها رأت أن ياجو يغرر بعطيل تغريراً. فصاحت بعطيل: (إن هذا الملعون يخدعك أيها الأسود الغبي) وفعل مثل ذلك أحد النظارة حينما رأى القوم يأتمرون بيوليوس قيصر، فقد حاول أن يطلع قيصر نفسه على سر المؤامرة. ومثل السيدة والسيد كثير بيننا. بل في الحق أننا جميعاً مثل ذلك لأننا نكون مأخوذين بنوع من أنواع الخداع حينما نشاهد القصة المسرحية
ومثل ذلك يقال عن القصص الأخرى والروايات وعن الملاحم الشعرية الطويلة، فعلى قارئ هؤلاء أن يكون له من الإيمان الشعري ما يطوع له أن يرى نواحي الجمال فيها وما يستطيع به أن ينكر الواقع وأن يحسب الخيال واقعا. وفي الحق أن هذا أظهر ما يميز البيئات الأدبية التي ازدهرت فيها القصص المسرحية والشعر والروايات الأدبية الأخرى. والقصيدة الشعرية هي التي تفسر لنا كيف كان الناس يؤمنون أيام شيكسبير بتلك القصص التي صاغها للمسرح مع ما في أكثرها من خروج عن جادة المنطق السليم. بل نحن لا نستطيع أن نفهم رجلاً كشيكسبير إلا إذا قدرنا غرام بيئته بالشعر المسرحي وبالقصة المسرحية. ولا يمكننا أن نقدر كل ذلك حتى نزن عقائدهم الشعرية
وفي الحق أن شيكسبير قد أفلح في خلق مسرحياته لأن القصيدة الشعرية ملكت نفوس الناس في عهد اليزابيث. كان هؤلاء هم الذين يدفعون المال ليشهدوا المسرحيات، وكان
هؤلاء عاملا هاما من عوامل الإخفاق أو النجاح. ولقد تميز هذا الجيل في تاريخ إنجلترا بأنه كان يؤمن إيماناً شعرياً عميقاً بما يلقى عليه حتى لقد كان يتذوق الشعر ويستوعب قصص المسارح. وكذلك يمتاز رواد السينما في العصر الحاضر بتلك العقيدة الشعرية. والمسرحيات وروايات السينما في نفسها تقوم على خداع العقل وخداع النظر وخداع السمع، لكن شيئاً منها لن يصح في روع الناظر أو السامع حتى يكون له قدرة على الإيمان الشعري.
أحمد خاكي
المدرس بدار العلوم
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 14 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - وإذاً فقد رأيت بالمقارنة يا بولوس أن طريقة مناقضتك لا تشبه طريقتي في شيء. فأنت تفضل موافقة (الجميع) على موافقتي، وأنا أفضل اقتناعك وحدك وشهادتك وحدها، ولذلك قد عنيت بكلامك وتصويتك ولم أعن بالآخرين؛ فليبق ذلك إذاً معروفاً فيما بيننا، ولنمض الآن إلى اختبار النقطة الثانية التي كانت موضوع نزاعنا. أُترى (العقاب) عند (الأجرام) أفدح الشرور كما ظننتَ، أم ترى (الفرار من العقاب) هو الأفدح كما ظننتُ أنا؟
أو فلنمض هكذا: ألست ترى أن كلاً من (العقاب بعدل) و (لقاء جزاء الخطيئة) واحد؟
ب - بلى
ط - والآن هل تستطيع أن تقول إن كل ما هو عادل ليس (بجميل) بقدر ما هو عادل؟ فكر قبل أن تجيب!
ب - بلى يا سقراط فإني أعتقد أن الأمر كذلك
ط - فلنفحص ذلك أيضاً، إذا فعل (فاعل) شيئاً، إلا يكون ضرورياً أن يكون هناك (منفعل) يتأثر بفعل (الفاعل)؟
ب - يلوح ذلك
ط - وذلك الذي يتحمل ما يفعل الفاعل؛ إلا يجب أن يكون تابعاً له تماماً؟ ولنأخذ مثلاً: إذا طرَق أحدهم؛ إلا يجب أن يكون هناك (شيء) يطرق؟
ب - بالضرورة
ط - وإذا طرق الطارق بشدة أو بسرعة، ألا يكون الطرق على المطروق شديداً بالمثل أو سريعاً؟
ب - بلى
ط - وإذاً فالنتيجة بالنسبة للمطروق كما يريدها الطارق!
ب - نعم
ط - وبالمثل إذا أحرق إنسان، فيجب أن يكون هنالك (شيء) يحرق!
ب - حتما.
ط - وإذا أحرق الحارق بشدة وسبب ألماً شديداً، فإن المحترق يتأثر كما يريد الحارق؟
ب - نعم
ط - وإذا قطع إنسان ألا يكون الأمر بالمثل إذ يكون هنالك (ما يقطع)؟
ب - بلى
ط - وإذا كان القطع واسعاً أو عميقاً أو مؤلماً، أفلا يقاسي (المقطوع) ما يريده القاطع؟
ب - ذلك واضح
ط - فلتر بالأجمال إذا كنت توافقني على ما قلته توا في جميع هذه الحالات: وهو أنه كما
يكون فعل المؤثر تكون النتيجة في المتأثر
ب - إني أوافق
ط - وإذا كان الأمر كذلك فخبرني: أتحمل العقاب فعل وإيلام أم انفعال وتألم) يا سقراط
ط - فهو إذا (ألم) من ناحية شخص (فاعل)؟
ب - بلا شك لأنه (ألم) من ناحية من يعاقِب
ط - ولكن ذلك الذي يعاقِب بعقل وحق، أتراه يعاقب بعدل؟
ب - نعم
ط - وإذا فهل تراه يقوم في عقابه بعمل عادل أو لا يقوم؟
ب - إنه يقوم بعمل عادل!
ط - وذلك الذي يلقى جزاء خطيئة ارتكبها، ألا تراه يُعامَلُ معاملة عادلة؟
ب - ذلك ظاهر
ط - وقد اتفقنا على أن العادل جميل؟
ب - من غير تناقض
ط - وإذا فأمامنا رجلان، أحدهما يفعل فعلاً جميلاً، والآخر - وهو المعاقب - يتحمل ذلك الفعل؟!
ب - نعم
ط - ولكن إذا كان العمل جميلاً فانه يكون حسنا، لأنه إما أن يكون جميلاً أو نافعاً
ب - ذلك محتوم!
ط - وإذا فذلك الذي يتحمله المعاقَب ويقاسيه شيء حسن
ب - يلوح هذا
ط - وهو يخرج منه على ذلك بنفع؟!
ب - نعم
ط - وهل هذا (النفع) هو النفع الذي أتصوره؟ هل تتهذب نفسه إذا عوقب بعدل؟
ب - ذلك محتمل جداً
ط - وإذا فذلك الذي يعاقَب يتخلص من رداءة نفسه وشرها
ب - نعم
ط - أولا تراه يتخلص بذلك من أفدح الشرور؟ لنختبر السؤال على ذلك النحو؛ أذلك الذي يريد أن يجمع ثروة كبيرة، أهناك - فيما تتصور - شر له غير الفقر؟
ب - ليس من شر له غير هذا!
ط - وفي تركيب الجسم: أليس الضرر في رأيك هو الضعف والمرض والتشويه وكل النقائص التي من ذلك النوع؟
ب - بلى
ط - أولا تعتقد أن للنفس هي أيضاً نقائصها؟
ب - بالطبع
ط - أولا تطلق على هذه النقائص الظلم والجهل والجبن وأسماء أخرى مماثلة؟
ب - بالتأكيد!
ط - وإذن فقد عرفت أن لهذه الأشياء الثلاثة: وهي الثروة والجسم والنفس، ثلاثة رذائل وشرور، هي الفقر والمرض والظلم
ب - نعم
ط - والآن أي هذه الرذائل أكثرها (قبحاً)؟ أليست هي الظلم، وأعني به رذيلة النفس؟
ب - من غير جدال
ط - وإذا كانت هذه الرذيلة أكثرها (قبحاً)، فهي بالأحرى أكثرها (رداءة)؟
ب - وكيف تقول بذلك يا سقراط؟
ط - ذاك هو السبب. أليس أقبح الأشياء قبيحاً هكذا لأنه يسبب (ألماً) أكثر، أو (خسراناً) أفدح، أو هما معاً؟ ذلك ما قلناه من قبل!
ب - تماماً
ط - أو لم نعرف منذ هنيهة أن أقبح الأشياء هو (الظلم) أو هو بوجه عام (رداءة النفس)؟
ب - لقد عرفنا ذلك حقاً
ط - أوليس أقبح الأشياء قبيحاً هكذا لأنه أكثره ألماً وإيلاماً، أو أكثرها خسرانً، أو أكثرها جلباً للاثنين معاً؟
ب - بالضرورة
ط - وإذن فالألم الأكثر في أن نكون ظالمين وشرهين وجبناء وجهلاء، وليس في أن نكون فقراء ومرضى؟
ب - يبدو لي أنه كذلك يا سقراط تبعاً لما قلنا.
ط - وإذاً يجب أن تكون (رداءة النفس) أقبح الأشياء، لأنها تفوقها جميعاً بما تسببه من خسران هائل خارق للمعتاد، ومن شر مسرف عجيب، لا من الألم فحسب تبعاً لقولك
ب - ذلك واضح
ط - وذلك الذي يزيد هكذا بالخسران المفرط هو أفدح ما يوجد من الشرور؟
ب - نعم
ط - وإذاً فالظلم والشره (ورداءة النفس) على العموم، هي أفدح شرور العالم؟؟
ب - ذلك ظاهر
ط - والآن ما هو الفن الذي يخلصنا من الفقر؟ أليس هو الاقتصاد؟
ب - بلى
ط - ومن المرض؟ أليس هو الطب؟
ب - بلى، من غير نزاع
ط - ومن رداءة النفس وظلمها؟ إذا كان وضع أسئلتي على ذلك النحو يحيرك فسأجعلها هكذا: إلى من نذهب بأولئك الذين هم مرضى الجسوم؟
ب - إلى الأطباء يا سقراط
ط - وإلى من نذهب بأولئك الذين يتركون نفوسهم فريسة للظلم والشره؟
ب - أتريد أن تقول إننا نذهب بهم إلى القضاة؟
ط - أليس كذلك كيما يلقوا جزاءهم؟
ب - بلى
ط - والآن ألا نعاقب الناس، عندما نعاقبهم، بحق لأنا نطبق (عدلاً) خاصاً؟
ب - ذلك واضح
ط - وهكذا يحررنا الاقتصاد يا بولوس من الفقر، والطب من المرض، والعدالة من الظلم
والشره!
ب - ذلك واضح
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
من مشاكل التاريخ
طبيعة الفتح الإسلامي
للأستاذ خليل جمعة الطوال
اعتاد المؤرخون الأقدمون، وجاراهم في ذلك بعض المحدثين أن يسموا وقائع الفتح الإسلامي (غزواً)؛ وفاتهم ما تحمل هذه الكلمة في تضاعيفها من معاني النهب، والسلب، والعبث، والتمثيل، وما هو في أحكام هذه الأمور من أنواع الجرائم والشرور التي نهى عنها الإسلام وتجافاها المسلمون في فتوحهم. ولقد أطلق هؤلاء المؤرخون هذه الكلمة على الفتح الإسلامي سهواً وتساهلاً، وما أحسبهم قصدوا بها هذه المعاني المستنكرة التي تؤدي إليها؛ فأخذها عنهم المتعصبون على الإسلام، والكارهون لهذا الدين الحنيف وفسروها بما أملته عليهم منازعهم وأحقادهم، ثم روجعوا لها في كتاباتهم، حاسبين أنهم بذلك قد قوضوا أركان الإسلام، وصدعوا بنيان حضارته، تلك الحضارة السامية التي مازالت ولن تزال منارة العدل والإنسانية والحرية
وأكثر ما يضحكنا من هذه البدع المضلّلة، والحملات الطائشة، ما جاء في كتاب تاريخ آسيا لهربرت كوفين إذ يقول:(إن الديانة الإسلامية التي يقدسها مائتان وثلاثون مليوناً من الناس تنطوي على آثام اجتماعية تئن منها الإنسانية، وإنها لم تقم إلا على حب الغزو والنهب!)
وما هرف به أيضاً العالم الأثري كلرمون جانو إذ يقول: (إن الحضارة الإسلامية ليست إلا فظائع الغزو العربي)
ولئن كان لهؤلاء عذرهم في جهلهم أساليب اللغة العربية وتجاهلهم حقيقة البلاد العربية وتاريخها، فما بال القارئ بمن يعيش في بيئة هذه الأمة، ويقف على أساليب لغتها، وبدائع حضارتها، ثم لا يرى لها بعد ذلك حسنة إلا مسخها سيئة. . . بل سيئة تكاد ألا تكون في مقدور بشري مهما كانت درجة انحطاطه في سلم المدينة، وحلقة التطور! وأعني بذلك الرجل المتحامل المتغرض الأب لامنس إذ يقول: (إن العربي أثبت في فتوحه أنه جبان ضعيف في الجندية، لا يفكر في غير المغانم، وأن العرب ظهروا كما كانوا على عهد الرسول وسطاً في القتال، وعلى استعداد للنهب، يحجمون أمام الخطر. . .
وأن لا قابلية لهم بشيء من أسباب الحضارة، بل الفضل لأولئك المتفسخين في فارس
والعراق والشام ومصر وغيرها، من الأقطار التي افتتحت، وأن الحروب الصليبية وقائع البسالة، وكان الصليبيون عجباً بأنظمتهم وترتيباتهم، وأن اليهود عوملوا في عهد الحروب الصليبية في الغرب معاملة حسنة)
عجباً! أفنتصم بكل هذه الوحشية ويظل في الدنيا من يذكرنا بخير ويدرس تاريخنا بإعجاب! ويشهد بحضارتنا بفخر وإكبار؟
وإننا إذ نحاول دحض هذه المفتريات، وإزالة هذا الكلف من وجه التاريخ، فلسنا نكيل لها الحق بالصاع الذي كالت لنا به التهم والشتائم، وإنما نستند في تفنيدها إلى استفتاء التاريخ، واستنطاق الحق واستقراء الحوادث، ثم إلى شهادة من لا تجمعهم بالعرب صلات الرحم وعلائق الدم وأواصر القربى، ولا أية صلة تدفعهم إلى التحيز
إن الدعوة الصالحة لدين الله هي الأساس الذي ترتكز عليه دعائم التاريخ الإسلامي، ذلك التاريخ المجيد الذي لم ينصف قط بمنازع الأهواء، وأغراض العالم
ومن سمع بقوم يخرجون في سبيل ربهم، يدعون أعداء الله إلى الله، فيلقى هؤلاء في طريقهم القتاد. . والأشواك، ويعفرون وجوههم بالطين والتراب، ويحرضون عليهم سفهاءهم وصبيانهم ينالونهم بمختلف أنواع المهانات والموبقات؛ فيهجرون أوطانهم وأملاكهم وأغنامهم، وإبلهم، ليشتروا بها نفوسهم! ثم يبيعون نفوسهم للموت ليشتروا بها وجه ربهم؟ من سمع بقوم تكون هذه حالهم وتظل نفوسهم مع ذلك متعلقة بأعراض الدنيا الزائلة، بمباهج الحياة الفانية. . .؟
إن الغزو - وما في معناه - لا يكون إلا بين القبائل المتباعدة، والعشائر المتعادية، فيغزو بعضها بعضاً، طلباً لأخذ ثأر، وأملاً بكسب غنيمة، والكل يعلم حق العلم أن المسلمين لم يناهضهم بادئ بدء إلا أهلهم الأقربون، ومنهم لحمهم ودمهم، وعشيرتهم القرشية، وفيها عصبيتهم وفخرهم. ولسنا نعلم قط أن قبيلة كانت إلباً على غيرها فانقلبت فجأة وصارت حرباً على نفر من أفرادها، طمعاً في مغنم. . .! أو حبَّاً في أخذ ثأر. . .!
وأي ثأر يكون لكل من علي، وأبي بكر، وابن الخطاب، ومن إليهم من لمهاجرين عند إخوانهم القرشيين فينضموا إلى جانب محمد صلى الله عليه وسلم وهو من علمت بضعف بطانته وقلة عدته وعتاده للأخذ به. . .؟
ألأجل غنيمة يهجر الإنسان بيته ووطنه وماشيته وثروته، ليكافح أهله، ويناوئ عشيرته. . .؟ كلا. . .! ثم كلا. لقد خرج هؤلاء على أهلهم من أجل دعوة سامية، وما قاتلوا وجاهدوا إلا في سبيل الذب عنها (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)
أرأيت كيف أن الإسلام لا يبيح الاعتداء مطلقاً، ولا يوجب القتال في سبيل الله إلا دفاعاً. . .؟!
لقد هاجر المسلمون عن بلادهم إلى يثرب هرباً بعقيدتهم السامية من أن يئدها الشرك، وهي لما تؤد للعالم رسالة الحق والتوحيد. وهناك في يثرب تعاود النفوس عنجهية القبيلة، وشنشنة الجاهلية؛ ويكاد الشر أن يستفحل بين المهاجرين والأنصار، لو لم يتدارك النبي (ص) الموقف فيقف فيهم منادياً:(يا معشر المسلمين: الله الله. اتقوا الله. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمور الجاهلية، واستنقذ كم به من الكفر وألف بين قلوبكم)
أرأيت نبل هذا الخطاب وسموه؟ لم يقل أيها المهاجرون! ولا أيها الأنصار. . .! فليس في الدين قبائل ولا عشائر، وإنما الجميع إخوة، ففيم إذاً نخوة الجاهلية، وحزازات الصدور، وشنشنة النفوس. . .؟ وفيم القتال في غير سبيل الله؟
ولقد اقترح بعض الصحابة على النبي بعدما استقروا في المدينة أن يأذنوا قريشاً بالحرب، ويقاتلوها ويجزوها شراً بشر فيشفوا صدورهم مما تجد عليها، فدعاهم النبي إلى السكينة، وقال لهم:(لم يؤذن لي بالقتال بعد)
فأي إنسان بشرى تناله قريش بمثل ما نالت به النبي (ص) ويكون في بطانة قوية أطوع له من بنانه، ثم تعرض عليه أخذ الثأر له فيدعوه إلى الهدوء والسكينة، لأنه لا يقاتل طلباً لثأر، ولا شفاء لغيظ، بل استجابة لأمر ربه، وهو لم يأمره بالقتال بعد
وظن بعض الجاهلين أن النبي إنما استمال اليثربيين بما توعدهم به من المغانم المادية، والأسلاب العظيمة، وهم في ظنهم هذا أبعد ما يكونون عن الحق. وحاشا للنبي أن يشحن النفوس بمثل هذه الأماني الباطلة الفانية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وإنما أغراهم بشيء أسمى من المغانم، وأسمى من الذهب
والفضة؛ وذلك العلق النفيس الذي تشوفت إليه النفوس كان. . . الجنة. . .
ألا فانظر إلى هذا الموقف السامي الذي وقفه الرسول (ص) في صفوف اليثربيين عندما حاول أخذ بيعتهم، وقف صلى الله عليه وسلم وقال:
- أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فمد البراء بن معرور يده، وكان سيد قومه وكبيرهم، وقال: بايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة: ورثناها كابراً عن كابر.
وهم القوم بالبيعة فاعترضهم العباس بن عبادة قائلاً: (يا معشر الخزرج! أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأخذ أشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن فدعوه فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكه الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة)
فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟. .
وكان المنتظر أن يمنيهم بخير الدنيا وجاهها، وكان المنتظر أن يمنيهم بما تمنى به القادة والساسة المتحمسين إذ يسوقونهم إلى ساحات القتال، ويعدونهم بشتى الوظائف والأموال؛ ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، بل سكت هنيهة، ثم رد عليهم مطمئناً وقال:
الجنة. . .!
لقد كان الفتح الإسلامي فتحاً دينياً مبيناً لا شائبة فيه للأهواء المادية، وكانت تسيره عاطفة روحية سامية تمقت الغزو والنهب والسلب. وليس أدل على ذلك من هذه الكلمة السامية التي ترويها لنا كتب السيرة عن النبي (ص) حين كان يطوف بقومه في بدر ويقول:(والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. . .). فقال عمير بن الحمام وبيده ثمرات يأكلها: بخ بخ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء!. . . ثم قذف الثمرات من يده، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل
ولقد كتب الله للمسلمين في هذه المعركة النصر على المشركين وأسروا منهم سبعين أسيراً، وكان منطق الغزو يقضي أن يفتك بهم، بل كان منطق الحرب. . . يقضي أن يفعل بهم
ذلك أيضاً لاسيما وقد ناله منهم قبلا الذل والمهانة، ولكن الإسلام لا يقر أخذ الثأر، ويأبى على المسلمين أن يقاتلوا لهوى وحقد في نفوسهم؛ ولهذا فقد قبلوا منهم فدية قانونية عادلة (لا تتجاوز مقدور أضعفهم) بل إن فيهم من أطلق سراحه بتعليم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة، وهذه الفدية الجديدة تنافي ما أشيع من عداء الإسلام للعلم وحثه على الغزو
وكان من أسرى بدر سهيل بن عمرو، وكان سهيل قد شنع بخطبه على الرسول، فقال له عمر بن الخطاب: دعني أنزع ثنيتي عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً
وكان ذلك أقل ما يجب أن يفعله الرسول (ص) برجل شنع عليه بخطبه، وهو لو فعله لما تجاوز العدل قط، ولكن الرسول (ص) تنزه عن الحسد، والحقد، وتطهر قلبه بالإسلام من جميع أهواء النفوس في الجاهلية، فما كان منه إلا أن قال:(لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً)
يا له من إيمان سام! يعلو بالنفس عن أحقاد الدنيا، ويجعلها على اتصال بخالقها، فلا تتدلى لحضيض الأهواء البشرية الفاسدة
فقد أدب الله نبيه فأحسن تأديبه، وليس من الأدب قط أن يمثل الإنسان بأخيه ولو كان نبياً!. . . ولذا أبى الرسول أن يمثل بسهيل بن عمرو، بل رده إلى قومه عزيزاً مكرماً، ليعلم البشرية بذلك درساً سامياً كاد جهلها به أن يرديها في هوة الشقاء.
ولسنا نتبين جلال هذا الموقف، وسمو هذا العفو، إلا بمقارنتهما بتمثيل قريش وغدرها. . فمن ذلك ما حدث لقتلى المسلمين في واقعة أحد (فقد طافت هند بن عتبة والنسوة اللاتي جئن الميدان معها، تجدع آذان القتلى وأنوفهم؛ ولما وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب بقرت بطنه وأخرجت كبده فلاكتها فلم تسغها فلفظنها واتخذن من آذانهم وأنوفهم قلائد عدن بها إلى مكة)
وانظر إلى هذه الحادثة التي يتمثل فيها اللؤم والغدر بأجل مظاهرهما، والتي قابل بها المشركون القرشيون إخوانهم المسلمين بعد أن عفوا عن أسراهم، وكان في قدرتهم أن يمثلوا بهم ويجزوا أعناقهم عن أجسادهم؛ فقد طلب أبو براء عامر بن مالك بن جعفر العامري من النبي (ص) بعْثاً يبشر قومه في نجد، وكان النبي يعرف غدر قريش
والمشركين، وكان يقدر سوء مصير هذا البعث الذي سيبعثه إليهم، ولكن عامر بن مالك مازال به حتى حمله على إيفاد هذا البعث، فلقيهم عامر بن الطفيل عند بئر المعونة ففتك بهم جميعاً دون أن يبدؤوه بحرب أو عداء، وهكذا قضوا في سبيل الله يحملون إليه أرواحهم الطاهرة على أكفهم البريئة وكانوا (75) شهيداً، فتأمل!. . .
ولقد كانت هذه الحادثة، وما تجلى فيها من ضروب التفظيع كافية لأن تستفز النفوس الغافية، والأحقاد الجاهلية والحزازات الذميمة، ليأخذ المسلمون بثأرهم، ولكن هيهات! هيهات!
فعصر الثأر قد مضى وانقضى، وليس لهم إلا أن يصبروا على هذه الكيد والبلاء
وفي غزوة دومة الجندل دعا النبي عبد الرحمن بن عوف وسلمه اللواء وقال له: (خذ يا ابن عوف، سيروا جميعاً في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم)
فمن هذه الوصية الخالدة، وما فيها من أسمى المبادئ الإنسانية تتبينون حقيقة الإسلام وقاعدة جهاده ضد من كفروا بالله وناوؤا رسوله، وأذلوا المؤمنين. . .
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعة الطوال
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة الآنسة (ديلافيلد)
للأستاذ أحمد فتحي
لقد ظلت أول قصة كتبتها حتى اليوم بغير أن تنشر، ومن ودي أن تبقى كذلك أبد الدهر دون أن تخرج للناس
ولقد كتبتها أيام كانت أحلام مثيلاتي من الطالبات منحصرة في أن يتم للواحدة مرح الشابة (الأيرلندية) العابثة!. ومن المحقق أنني كنت متأثرة في قصتي الأولى بهذه الروح. وإني لأذكر عنها القليل جداً، ومن ذلك القليل أن البطلة كانت تسمى (بليس) وأنني جعلتها تموت وهي غضة السن: أعني لم تعدُ السبعين! بينما كنت أنا بين الثانية عشرة والرابعة عشرة. ولم يكن الحب - في تلك الأيام - ليخطر على بال إنسان لم يودع عشرين ربيعاً من عمره
على أن كثيراً من المشاهد التي كنت قد بنيت عليها هيكل تلك القصة ظل عالقاً بذهني مدى عشر سنوات كاملة، تقمص بعدها إهاب قصتي الأولى الجدّية (زيللا)
وربما كان من الخير أن أشير هنا إلى أن قصتي الأولى (زيللا) لم تكن أكثر من دراسة (سيكلوجية) لفتاة بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، كان عليها أن تعاني اضطراب وراثة مختلطة تضطرب بين إنجليزية وفرنسية
وحينما فكرت في أمرها أول الأمر وأنا في غرفة دراستي، كنت أوثر أن تكون لها نفس صافية، بينما تفتقر إلى الخلق الشخصي القويم، حتى أنها تخدع نفسها بنفسها، وينتهي بها الحال إلى أن تعود غير خليقة أن تؤمن على أية حقيقة على وجه الإطلاق
ولم تكن القصة التحليلية - حينذاك - قد عرفت سبيلها إلى الذيوع؛ ولاسيما في الأوسط المدرسية؛ وبذلك كان اختياري الطبيعي لهذا الطراز محدداً للمنهاج الذي التزمته ودرجت عليه في مستقبل أيامي
ولقد علمت، عامدة أو غير عامدة، أن البطلة الأنموذج فيما كان تتاح لي قراءته من القصص، لم تكن تعني كثيراً بمطابقة الحقيقة ومحاكاتها. حتى أن تلك القصة العظيمة التي
كتبتها (ماري كولمندبلي) باسم (الطعام الأحمر) والتي ضمنتها كثيراً من أروع الشخصيات، لم تخل من هفوة أو شبه هفوة، في تصوير بطلتها (راشيل) فتاة خيرة راجحة العقل. فإن المؤلفة لم تشأ أن تبرز بطلة قصتها في الصورة السمجة التي لابد أن تكون عليها في الحياة الواقعة؛ وهذا سر ضعفها. بل لقد بلغ إبرازها بهذا الوصف الخير من الثقل حد الطغيان على باقي شخصيات هذه القصة التي اختلط فيها الخير والشر مثل اختلاطهما في أفراد الجنس البشري بغير استثناء!
ولقد أوليتُ هذه القصة (الطعام الأحمر) عناية فائقة، لأنها كانت أول قصة عصرية حيوية أذكر أنني قرأتها بعين النقد وأعدت قراءتها مرات ومرات، كما أصنع دائماً بالكتب التي أفضلها، وبذلك استطعت أن أحللها بكل دقة، في حدود طاقة طفلة في مثل سني حينذاك
ولقد وضح لي منذ ذلك الحين أن رغبات الناس وتأثراتهم حيال الظروف المختلفة أمر ليس من السهل أن يُقرأ، أو يُكتبَ عنه، وأن تنزيه المؤلف لبطل قصته عن الأخطاء، من أشنع الأخطاء! وكذلك أنجيت بطلة قصتي (زيللا) من التعرض لمثل هذه المؤاخذة. والحقيقة أنه كان يروق لي أن أبرز نقائصها أكثر مما كان يروقني إبراز ما فيها من فضائل، فلم أكن أرغب مطلقاً أن أسمو بها عن المزالق الطبيعة التي يتورط فيها نظائرها من الشباب!
وبعد بضع سنين، حين كانت القصة بين يدي الناشر، كاشفته برغبتي في تغيير اسمها باسم آخر رمزي هو (الحرباء) ولكنه ردّني عن هذه الرغبة في رفق، زاعماً أن من القسوة على البطلة أن أشبِهها بهذا الحيوان البارد المتلوِّن!
على أنه قد يوجعني أن أضيف إلى ما تقدم أنني حين كتبت (زيللا) لأول مرة؛ وقبل أن أبدل فيها كثيراً أو قليلاً؛ كنت قد ختمت فصولها بمأساة فاجعة. وكذلك كانت تُختَتَمُ غالبية القصص التي قدر لي أن أقرأها إلى ذلك العهد. وعلى أي حال فقد كنت في سن لا يتورع فيها الإنسان من أن يبتسم للفواجع! وإنما كنتُ في الواقع أفوق من عاصروني بجعل الفكرة في قصة (زيللا) تمهد لتصوير البطلة في موقف مفاجأة عنيفة يتلخص في اقتحامها بيتاً وهو يحترق، كي تنقذ طفلاً؛ فإذا بها تجد نفسها طعمة للنيران فتحترق وتموت!
وأظن أني شعرت في غموض بأن وجود هذا الطفل في ذلك البيت المحترق، يعلل اقتحام
الفتاة النيران بدافع غير سيئ! حتى ولو لم يكن الدافع لها على ذلك هو روح بطولة، وأؤكد أنني لم أتصرف تصرفاً كهذا في حياتي، مهما كان الدافع إليه مما يجعله - في نظري - على درجة عظمى من البطولة الحق!!
على أنني قرأت بعد ذلك بأمد، كتاباً للمستر (روبرت هيوبنس) اسمه (الجبان) انتهى أمر بطله إلى نفس تلك النهاية ذاتها، غير أن الصور النفسية فيه كانت أقلَّ رداءةً! كما أني قبل أن أضع لختام قصتي فكرة احتراق البيت، كنت أنوي أن أختتمها بانتحار البطلة! وكانت خاتمة كهذه خليقة بإنجاح القصة في نظري!
وبعد أن لبثت هذه الخواطر الفجة المتداعية متأرجحة في ذهني ست سنين أو سبعاً؛ نتج منها آخر الأمر شيء له هيكل (القصة). . . على أن عملي لم يكن ليتجاوز تصوير بعض الشخصيات التي خالطتها وخبرتها من كثب وتأثرت بها في مدارس الرهبنة
وإني لأذكر جيداً أنني لم أنفق أكثر من ستة شهور أو سبعة في تسجيل فصول هذه القصة تسجيلاً نهائياً. على أني لم أكن أكتب إلا في أوقات فراغي؛ وقد أخذت أوقات الفراغ هذه في التضاؤل بعد أن وضعت الحرب أوزارها، واستؤنفت الأعمال بهمة ونشاط
على أن فصول القصة لم تُكتب تباعاً، وإنما كنت أشرع في الكتابة حالماً أحس الرغبة في ذلك، فأثبت الحلقات الضرورية، بحيث أصل بين الصفحات كلما بدا لي أنها قد انفصل بعضها عن بعض. وهذه الطريقة - إذا جازت تسميتها كذلك - كانت كل ما في وسعي، لأنه لم تكن لدي أية فكرة إنشائية عن فن القصة، بل لم يكن وجود مثل هذه الفكرة ليخطر ببالي. وإني لأتصور أن قليلاً من قصص الناشئة قد كتب بمثل ما كتبت به حرارة العاطفة. ولقد استمرأت الكتابة بسرعة وبقلة اكتراث؛ وكان مضحكاً أن أقرأ للفصول الطوال على أصدقائي في صوت مرتفع؛ وكان من هؤلاء الأصدقاء واحدة فقط تتنبأ لقصتي بصلاحيتها للنشر، وربما لم يكن بين الباقين من آمن بصحة نبوءتها!
وفرغت من الكتابة في (إيستر) عام 1916 حين كنت معتزمة الرحيل، وقد كنت أؤمل أن أنتهي من أمرها قبل رحيلي، وإني لأذكر جيداً كيف كتبت بعض الصفحات الأخيرة وأنا جاثية إلى منضدة، بسبب عدم وجود مقاعد ساعتذاك في بيت الغرباء الذي كنت فيه، وما كدت أنتهي من الكتابة على هذا النحو حتى هرعت فلحقت القطار
وإني الآن لأستدعي ذكريات صفحات هذه القصة بعد فراغي من كتابتها بقليل، وكيف كنت لا أظن كلمة واحدة منها تحتمل الحذف، فضلاً عن جريان القلم الأحمر على نصف صفحة كاملة مثلاً. وكذلك كنت شديدة الاعتداد بهذا العمل الأدبي الذي كتبته بأقصى سرعة تسمح بها حركة القلم على الورق، حتى أنني كنت شديدة الاعتقاد بأن قصتي فوق التنقيح وفوق التصحيح
على أني لا أزال حتى اليوم، وبعد احتراف الكتابة عشرين عاماً ونيفاً، كما كنت وثيقة الإيمان بإن إعداد الفصول للنشر أعداداً نهائياً هو أصعب مراحل الإنتاج الأدبي على وجه الإطلاق
ومن الخير أن أسمي المستعار الذي ظهرت به أعمالي الأولى كان من اقتراح شقيقتي ولكنه لم يكن من ابتداعها، إذ كان اختراع قصصي معاصر شهير، ولكنني وفقت إلى توقيع حرفي حسن هو (ا. م) ولم أكن أقصد به أن يخطئ الناس فيظنوني رجلاً ولكنني استعملته متابعة لكاتب معاصر كنت ولا أزال أقدمه على سواه.
ونصحت لي إحدى الصديقات بالبحث عن ناشر؛ ولم تلبث هي أن قدمت قصتي إلى (ويليام هاينمان) فوافق على نشرها على الفور. ولا أزال أحتفظ بذلك الخطاب الرقيق الذي بعث به إلى حينذاك.
ولم يكن لأمي علم بأنني وضعت كتاباً. ولقد كان عندها واحد من الأقرباء لا يفقه الأدب حين بلغتها برقية مني بأن كتابي قد وافق عليه الناشر! وبعد ساعة واحدة، وصلتها برقية أخرى علق عليها ذلك القريب الجاهل بقوله لأمي (لعلها تخبرك أن الأكاديمية الملوكية قد قبلت إحدى لوحاتها الزيتية)؟!
وعلى أي حال، فقد كان أسم (زيللا) من وضع مكتب الناشر (هاينمان) وربما كان على التحقيق من وضع المستر (ف تومسون) الذي كان يقرأ له كل ما يراد نشره!
وظهر الكتاب في مارس 1917. وصادف ظهوره نجاحاً فائقاً كباكورة أعمالي القصصية. وقد ظل الناشر نفسه يجهل اسمي الحقيقي حيناً طويلاً بعد ذلك
ومما هو جدير بالإشارة أن المستر (هاينمان) قد تفضل - بعد ظهور الكتاب - فدعاني إلى الغداء، حيث قدمني إلى ثلاثة من مشاهير الأدباء المعاصرين، وهذا ما لم يكن يطمع في
مثله ولا بعضه أي قصاص مبتدئ! ولكنني كنت صغيرة السن جداً كما كنت قليلة الخبرة بأمور الحياة الأدبية، فلم أومن بهذا الفضل! بل إن غداء المستر (هاينمان) قد ظل أول وآخر عهدي بالمجتمعات الأدبية إلى الآن!
وكلما أعدت قراءة قصتي الأولى (زيللا) بعد الطبع، استرعت نظري فيها جدة خاصة، أظنها الطابع المميز لمعظم الأعمال القصصية الأولى، كما تسترعي انتباهي أيضاً طريقة كتابتها التي أصبحت بها بعيدة العهد. والواقع أنها لم تكن قصة بالمعنى الصحيح بقدر ما كانت تسجيلاً تعقبياً لما تميزت به البطلة من ضعف طبيعي جر على حياتها أسوأ العواقب. على أني أعتقد بأن استعراض شخصياتها لم يكن رديئاً. وكما أسلفت، أرى أن ضعف هذه القصة ينحصر في طريقة بنائها، وفي انعدام العقدة الفنية فيها، بحيث أنها كان من الجائز أن تختتم في منتصف فصولها، دون الاستطراد إلى مئات من الصفحات الأخرى.
ولكن. . . بعد أن تم كل شيء أحسست بشعور دافق من الارتياح يغمرني. ولست أنسى أبداً تلك اللحظة السعيدة التي تسلمت فيها النسخ الخمس الأولى من قصتي هدية من الناشر. . .!!
المترجم
أحمد فتحي
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 26 -
وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية كأنه من أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة؛ وما عرف عنه أنه شهد حرباً من قبل، اللهم خلا تلك المعركة الضئيلة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه متطوعاً ضد الصقر الأسود. . .
ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجباً؛ وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات. . .؟ إنما يسير هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدى من نور عبقريتهم. . .
وهل التوت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أو لم يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على محبته ثم على الإعجاب به؟ وإذا كان هذا هو شأنه في السياسة ولم يتعلمها فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب وهو قد استعان بالمعلمين الأخصائيين في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟
أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال إذ كان هؤلاء ينقصهم القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء؛ والذين يتتبعون أدوار الحرب يشهدون أن النصر في النهاية كان مرده إلى شخص الرئيس فلقد كان وحده جيشاً مغالباً، وكان وهو رجل الأمة وحده أمة في رجل. . .
وكان القواد في الميادين يبذلون ما في وسعهم لا يألون جهداً للوصول إلى النصر، ولقد كان لبعضهم خطوات موفقة في هذا السبيل ونذكر من هؤلاء جرانت الذي سوف يعظم شأنه حتى يصبح رجل هذه الحرب
أما ماكليلان فقد ظل على حاله يدرب جنده، ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر على ذلك لا ينفد صبره وإن أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد كانوا يستعجلونه الزحف على رتشمند عاصمة الجنوبيين
ومع أن الرئيس قد أمره بالزحف في نهاية يناير عام 1862 أي بعد نحو تسعة أشهر منذ بدأت الحرب، فاإه لبث مكانه حتى شهر مارس ثم أخذ يتحرك ولكن في بطء وحذر مما دعا الرئيس أن يطلب إلى وزير الحربية أن يستحثه ولكن ما كان أعظم دهشتهما حينما كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال، وحجته في ذلك أن العدو متكاثر أمامه
وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من جهد يأبى القدر إلا أن يصوب إليه سهماً يصمي مهجته ويوشك أن يذهب بلبه ويزعزع فؤاده، فلقد غالت المنية أصغر بنيه وهو صبي في العاشرة من عمره. ولقد كان وأخاه يزوران مستشفى من مستشفيات الحرب فسرت إليهما العدوى، ولم يقو الصغير على المرض فذوى كما تذوي الزهرة ولدت مع الصبح ولم يكن لها إلا مثل عمر الندى. . .
لقد ارتاع الرئيس ووهى جلده أمام تلك المصيبة ورأى الناس ذلك الطود الأشم بتمايل ويتخاذل من الوهن وهو لا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه ولوعته؛ وإنه ليجهش بالبكاء كما يجهش الصبي وفي عينيه حزن وحسرة وفي وجهه صفرة كصفرة الموت. . علم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها فسألها ذلك العملاق الذي يحمل عبء قومه كيف تحملت تلك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة وأنها تثق في رحمة الله فمنه العزاء والسلوان. . . وهنا يجيبها ذلك الرجل العظيم الشديد البأس أنه سيحاول أن يتعلم الصبر منها وأنه يثق أيضاً في رحمة الله وأن الله سيهبه العزاء ثم يردف قائلاً (أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال هذا الذي تتحدثين عنه). . . ويعبر عن مبلغ حزنه بقوله (إنها أعظم محنة لاقيتها في حياتي. . . لم كان هذا؟ لم كان هذا؟).
ولقد كان الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع،
ولكنه كان مع ذلك رؤوفاً عطوفاً يكره الحرب ويتألم منه أكثر مما يتألم الناس جميعاً، ويتمنى أكثر مما يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت. . . ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم، ولا يقر أحداً على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم له وأشاح عنه، في حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة وهو يقول له وللناس جميعاً أنه يمقت تلك الحرب من أعماق قلبه وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنها شر لابد منه، وما أراد بها إلا أن تكون علاجاً لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده. . . أما أن تكون انتقاماً وعلواً في الأرض واستكباراً فليس هو من ذلك في شيء. . .
وكثيراً ما كان يصدر من الأمر ما يتعجب منه القواد ولا يشيعونه الرأي فيه ولأن نفذوا ما أمر به. ساقوا إليه في تلك الأيام شاباً حكم عليه أن يرمى بالرصاص لوجوده نائماً في الخطوط وكانت عليه الحراسة؛ فسأله الرئيس عن سبب نومه فعلم أن ذلك كان بسبب الإجهاد فإنه كان متعباً من قبل وأخذ الحراسة بدل زميل له مريض. وهنا صرفه الرئيس ولم يرض أن يكون جزاء اجتهاده ومروءته الإعدام. . . وما قيمة قوانين الحرب عنده؟ إنما هو يستمد قوانينه من قواعد الإنسانية، ولذلك تراه يصبح بالقواد (إني لا جلد لي أن أفكر أنني ألقى الله ودماء هذا الشاب المسكين على يدي). . .
أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال لكي لا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان يشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال والرجال. . . ولقد كتب إليه الرئيس خطاباً كان مما جاء فيه (أحسب أن القوات التي سيرت إليك قد بلغتك؛ وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة. . إن العدو بتأخرك يكسب نسبياً)
ولم يسع القائد إلا أن يصرح في رسالة له أنه واثق بعد من النتيجة وأنه أخذ في الزحف، ولكنه في الوقت نفسه أخذ يشكو من المطر الهطال ومن الطرق الوعرة، فكان هذا هو جهد ما فعل. . . وأخيراً لم ير الرئيس بداً من أن يبرق إليه في الخامس والعشرين من مايو يقول:(أظن أنه قد أزف الوقت لكي تهاجم رتشمنذ أو تدع هذا العمل جانباً وتأتي للدفاع عن وشنجطون)
فكأنما أراد ماكليلان في ذلك الوقت أن يكيد للرئيس، أو كأنما أراد أن يخلق مشاكل جديدة يتخذ منها ذريعة لهذا الجمود فلقد كتب إليه ينتقد الموقف الحربي كله في جميع الميادين ولم يقتصر على شؤون الحرب، بل راح ينتقد الحكومة في جميع شؤونها!
وتقدم القائد بعد ذلك نحو رتشمند تقدماً بطيئاً، فأدى ذلك إلى أن أرسل الثوار المدد إلى جيشهم الذي كان في طريقه لتهديد وشنجطون، وهنا لا يتردد ماكليلان في أن يرسل إلى وزير الحربية قائلاً إنه يزمع أن يتراجع. ومما جاء في رسالته قوله:(إذا أنا نجيت هذا الجيش فأني أقول لك في بساطة إني في ذلك لن أدين لك بشكر، لا ولا لأي شخص في وشنجطون، فلقد بذلتم قصارى جهدكم لتحطيم هذا الجيش)
وكان القائد لي في ذلك الوقت يزف على وشنجطون، وكان على حمايتها بوب أحد قواد الشمال ومعه ثمانية وثلاثون ألفا من الرجال ولكن جيش لي كان أكثر عدداً وأشد بأساً؛ وتبين أن خير وسيلة لرد لي عن وجهته أن يبادر ماكيلان بالزحف على رتشمند لا أن يتراجع ويتباطأ كما فعل
ولما يئس الرئيس منه في هذا السبيل أرسل إليه يدعوه لحماية العاصمة، ولكنه أبى أن يطيع حتى هذا الأمر وكتب يقول إنه سيجيبه إلى ذلك (إذا رأى الظروف تسمح به) وكان ذلك في شهر أغسطس، ولقد عاد الرئيس فكتب إليه يطلب إليه القدوم بكل ما في وسعه من سرعة وأبرق إليه القائد هاليك يستحثه ولكنه لم يأبه بذلك كله ولم يصل إلا بعد شهر من هذه الدعوة. . .
وكان أمراً طبيعياً أن تنزل الهزيمة بالقائد بوب وأن تبيت وشنجطون معر ضة للسقوط؛ ولقد عاود الذعر هذه المدينة على نحو ما حدث غداة الهزيمة في معركة بول رن، بل لقد كان الموقف يومئذ أشد هولا؛ إذ اختلفت وجهات النظر في مجلس الوزراء واحتدم الجدل في المجلس التشريعي، وارتفعت الأصوات بطلب عقد الصلح مع الجنوبيين، الأمر الذي خيف منه أن يؤدي إلى انحلال العزائم. . . ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته يعالج الموقف بالصبر والحزم ويهيب بالرجال ألا يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم. . .
ولقد كان للناس من هذا الصبر والثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك تضاءل فزعهم وعادت إليهم الثقة ووقفوا إلى جانب رجلهم
ثم إن الرئيس ضم عدداً من الجيوش بعضها إلى بعض وجعل منها جيشاً جديداً وضعه تحت قيادة ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي بلغ مائتي ألف، فلم يفعل ماكليلان كما طلب الرئيس فأصاب أهل الشمال هزيمة أخرى في شهر سبتمبر
وأخيراً التحم جيش ماكليلان وجيش لي في معكرة عنيفة هي معكرة انتيتام، فلم ترجح كفة أحدهما، ولكن لي اضطر أن يوقف الزحف، بل اضطر أن يعبر نهر بوتوماك الذي كان على أبواب العاصمة، متراجعاً بذلك عنها، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة فيتعقب الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على رغم إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد. . . وأصدر الرئيس إليه أمراً أن يسير في أثر الجيش المتراجع ولكن دون جدوى
ولقد بلغ من استهتار العدو بقوة الشماليين أن عبر أحد القواد الجنوبيين النهر بجنده وسار حتى اقترب من وشنجطون وألحق بأهل الشمال هزيمة منكرة، وأحاط بجيش ماكليلان، ولولا قلة عدد جنوده لأدى هجومه إلى كارثة ليس بعدها كارثة
على أن ماكليلان قد أساء إلى نفسه قبل كل شيء، فلقد فقد منزلته عند الناس، وبعد أن كان اللوم يوجه أول الأمر إلى الرئيس وحكومته أصبح يوجه إلى هذا القائد الذي أضاع كثيراً من الفرص بجموده. . . وراح الناس يتهمونه بأنه يفعل ذلك لغرض في نفسه، وهكذا أخذ يتضاءل شأنه حتى هان أمره على الناس وتأنى الرئيس أن يعزله ليبحث عن قائد غيره. . .
وربما أُخِذَ على الرئيس طول صبره على ماكليلان ومصانعته زمناً على الرغم من تطاوله في غير مبرر؛ وبذلك يكون الرئيس هو الملوم في ضياع الفرص أو يكون على الأقل شريكاً لماكليلان فيما هو خليق به من اللوم؛ ولكن الرئيس لم يكن غراً، فهو يعلم أن كثيراً من جنود ماكليلان مفتونون به، يخلعون عليه من صفات العبقرية ومن معاني البطولة ما لا يتهيأ لقائد غيره.
وكذلك كان لماكليلان أول الأمر في قلوب الناس من غير الجند مكانة عظيمة، وإذاً فلم يكن من الحكمة في شيء أن يقف الرئيس منه موقف البغض والنفور فيؤدي موقفه هذا إلى فتنة في وقت أن كانت البلاد أحوج ما تكون إلى الاتحاد ولم الشمل
على أن لنكولن كان بمصانعته ماكليلان على هذا النحو يظهره على حقيقته ويكشف للناس عن مواطن ضعفه، بينما كان هو يبهرهم بقوة صبره، تلك الخلة التي كان لها أعظم الأثر في إنقاذ البلاد من الخطر في تلك الأيام العصيبة، وأي صبر هو أعظم من هذا الصبر في زمن توالت فيه على الرئيس المهموم والشدائد؟
لقد كان إبراهام يتلقى الأنباء عن عدد القتلى والجرحى وهو أكثر الناس إشفاقاً وجزعاً، ولقد كان يسأل عن العدد من الفريقين المتحاربين لا من فريقه فحسب فيحزن لهؤلاء جميعاً، كأبناء أمة واحدة
ولقد كان الرئيس يذرف الدمع على ما يصيب رجاله في تلك الحرب الهائلة. ذهب ذات مرة إلى مقر أحد الجيوش فلعلم بموت صديق له كان من جلسائه في سبرنجفيلد، فأسرع إلى العودة مضطرباً يداه على صدره كأنما يمسكه أن يتصدع، وعيناه تفيضان، وعلى وجهه شحوب وكدرة، وإنه ليسير بين الجنود لا يلتفت إلى تحياتهم فلا يردها من شدة الغم وتكاد لا تقوى على حمله رجلاه. .
وفي تلك الأيام كان لا يفتأ يقرأ شكسبير، ففي مآسيه صدى لنفسه الحزينة. على أن عينيه تقعان ذات مرة على تسأل أم ولهى تقول:(لقد سمعتك أيها الأب الكاردينال تقول إننا سنرى ونعرف أصدقاءنا في السماء. ولئن كان هذا حقاً فلسوف أرى ابني ثانية). فانظر إلى الرجل يضع الكتاب ويكب بوجهه على كفيه فيملأهما من روافد دمعه. . .
ذلك هو الرجل الذي كان يقوم على شؤون هاتيك الحرب. فلله ما أقسى الأيام! إن فؤاده ليكتوي بنارها كلها؛ وإنه ليحس كل ضربة أو طعنة تصيب كل رجل غيره من الرجال، ولكن عليه أن يحمل الأهوال، وإلا فمن يحملها كما يحمل من الأبطال؟
(يتبع)
الخفيف
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هاشمياته:
تكاد الهاشميات أن تكون كل ما بقي من شعر الكميت. وقد كان للكميت شعر كثير بلغ إلى موته خمسة آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتاً، ولا أدري كيف ضاع هذا القدر الكثير من شعر الكميت، ولعل شهرة الهاشميات هي التي غطت على غيرها من شعره، فشغل الناس بها عنه.
ومن هاشمياته لاميته التي تبلغ تسعة وثمانين بيتاً، وقد ابتدأها بقوله:
ألَا هل عَم في رأيه متأمِّلُ
…
وهل مُدبْرٌ بعد الإساءة مُقْبلُ
فلفت به أهل عصره من الهزل إلى الجد، وأرسلها صرخة قوية في آذان أولئك الغافلين، ليصحو من غفلتهم، ويتنبهوا إلى الخطر المحدق بهم، وهو في هذا ينسى شخصه ونفسه، ولا يفكر إلا في مصلحة أمته، ولاشك أن من ينظر إلى هذا المطلع وخطره يدرك الفرق الشاسع بينه وبين المطالع العابثة التي اعتاد شعراء العربية أن يفتتحوا بها قصائدهم.
وقد مضى بعد هذا يضرب في هذه اللامية على هذا الوتر فقال:
وهل أمة مستيقظون لرشدهم
…
فيكشف عنه النعسةَ المتزملُ
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى
…
مساويهم لو كان ذا الميلُ يعدل
وعطلت الأحكام حتى كأننا
…
على ملة غير التي نتنحل
كلام النبيين الهداة كلامنا
…
وأفعال أهل الجاهلية نفعل
إلى أن قال:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها
…
أمورُ مًضِيعٍ آثر النومَ بُهَّل
ثم أخذ يوجه صرخته إلى خاصة الأمة وساستها، بعد أن صرخ بذلك في دهمائها وعامتها، فقال:
فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم
…
ففيكم لعمري ذو أفانين مِقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم
…
على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف ومن أنى وإذ نحن خلفة
…
فريقان شتى تسمنون ونهزل
بُرينا كبرى الفدح أوهن متنه
…
من القوم لا شارٍ ولا متنبل
إلى أن قال:
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم=فحتَّام حتَّام العناء المطول
رضوا بفعال السوء عن أمر دينهم
…
فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا
كما رضيتْ بخلاً وسوء ولاية
…
لكلبتها في أول الدهر حومل
نباحاً إذ ما الليل أظلم دونها
…
وضرباً وتجويعاً خبال مخبلٌ
وما ضرب الأمثال في الجور قبلنا
…
لأِجورَ من حكامنا المتَمثل
تحلُّ دماء المسلمين لديهمُ
…
ويحرم طلع النخلة المتهدَّل
وليس لنا في الفيء حظ لديهمُ
…
وليس لنا في رحلة الناس أرحل
فيا رب هل إلا بك النصر يُرتجى
…
ويا رب هل إلا عليك المُعٍَول
ثم انتقل إلى تذكير الناس بمقتل الحسين رضي الله عنه، فقص من أمر هذه الحادثة الأليمة ما يثير الشجن في النفوس، ويملؤها غيظاً وسخطاً على هؤلاء الملوك، وفي هذا يقول:
ومن عجب لم أقضه أن خيلهم
…
لأجرافها تحت العجاجة أزمل
هَماهِمُ بالمستلئمين عوابس
…
كحد آن يوم الدَّجن تعلو وتسفل
يحلِّئْن عن ماء الفرات وظله
…
وحُسَيْنا ولم يُشهر عليهن مُنصل
كأن حسيناً والبهاليل حوله
…
لأسيافهم ما يختلى المتبقل
فلم أر مخذولاً أجل مصيبة
…
وأوجب منه نُصرة حين يخذل
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
…
فيا آخراً أسدى له الغي أول
إلى أن قال:
فإن يجمع الله القلوب ونلقهم
…
لنا عارض من غير مزن مكلل
على الجرد من آل الوجيه ولاحق
…
تذكرنا أوتارنا حين تصهل
نكيل لهم بالصاع من ذاك أصوعاً
…
ويأتيهم بسجل من ذاك أسجل
ثم انتقل إلى مقصوده من الدعوة إلى بني هاشم بعد أن ألهب النفوس بذلك وحركها للثورة فقال:
ألا يفزع الأقوامُ مما أظلَّهم
…
ولمَّا تجبهم ذات ودقين ضئبل
إلى مَفزعَ لن يُنجيَ الناس من عمىً
…
ولا فتنة إلا إليه التَّحوُّلُ
إلى الهاشميين البهاليل إنهم
…
لخائفنا الراجي ملاذ وموئل
إلى أن قال:
فيا رب عجل ما يؤمل فيهم
…
ليدفأ مقرور ويشبع مرمل
وينفذ في راض مقر بحكمه
…
وفي ساخط منا الكتاب المعطل
فأنهم للناس فيما ينوبهم
…
غيوث حياً ينفى به المحل ممحل
وإنهم للناس فيما ينوبهم
…
مصابيح تهدي من ضلال ومنزل
لأهل العمي فيهم شفاء من العمى
…
مع النصح لو أن النصيحة تقبل
ثم أخذ يشرح موقفه من هذه الدعوة الهاشمية، ويلائم بين حاله في هذه الدعوة الحارة في شعره، وحاله في إحجامه عما يبذله غيره من نفسه في سبيل تأييدها، ويبين أنه إنما ينتظر بذلك الثورة الكبرى التي تقضي عل دولة بني مروان، فلا يبخل وقتها بشيء من نفسه وماله، ولا يرضى بذلك الأحجام الذي يلجأ إليه، فقال:
لهم من هواي الصفو ما عشت خالصاً
…
ومن شعري المخزون والمتنخل
فلا رغبتي فيهم تغيض لرهبة
…
ولا عقدتي من حبهم تتحلل
وإني على حبيهم وتطلعي
…
إلى نصرهم أمشي الضراء وأختل
تجود لهم نفسي بما دون وثبة
…
تظل بها الغربان حولي تحجل
ولكنني من علة برضاهم
…
مقاميّ حتى الآن بالنفس أبخل
إذا سُمت نفسي نصرهم وتطلعت
…
إلى بعض ما فيه الزعاف الممثل
أتتني بتعليل ومنتني المنى
…
وقد يقبل الأمنية المتعلل
وقالت فعد أنت نفسك صابراً
…
كما صبروا أي القضاءين يعجل
أمواتاً على حق كمن مات منهم
…
أبو جعفر دون الذي كنت تأمل
أم الغاية القصوى التي إن بلغتها
…
فأنت إذن ما أنت والصبر أجمل
فإن كان هذا كافياً فهو عندنا
…
وإني من غير اكتفاء لأوجل
ولكن لي في آل أحمد أسوة
…
وما قد مضى في سالف الدهر أطول
على أنني فيما يريد عدوهم
…
من العرض الأدنى أسم وأسمل
وإن أبلغ لقصوى أخض غمراتها
…
إذا كره الموت اليراع المهلل
ثم قال في ختامها:
فدونكموها يال أحمد إنها
…
مقللة لم يأل فيها المقلل
مهذبة غراء في غب قولها
…
غداة غد تفسير ما قال مجمل
أتتكم على هول الجنان ولم تطع
…
لنا ناهياً ممن يئن ويرحل
وما ضرها أن كان في الترب ثاوياً
…
زهير وأودى ذو القروح وجرول
عبد المتعال الصعيدي
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
(تتمه)
وفي اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة، الدنيا لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقيّ الإنسان الأدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، ولأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دارُ قرارٍ لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض كما يقول جاعلاً هذا التراب وطنَ الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصوّر لإنسانية تتمتع كل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة الألوهية
تلك حقائق لم تفت ثلاثة من أعلام الشرق العربي أهابوا بنا إلى ترجمة زرادشت ونشره في هذه البلاد لتسديد عزم الشبيبة في هذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا. أولئك الثلاثة هم المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة والإسلام، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ في أوساط المفكرين، والأستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطلاعه وتفكيره والرافع عَلَمَ الآداب الشرقية بقلمه، وقد تفضل الأستاذ المشار إليه فنشر في مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة، ولولا تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برّمته لما كنا بادرنا إلى طبعه كاملاً مستقلاً
إن ما دعانا وأصحابنا المشار إليهم إلى تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا إلى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادئ الدينية الاجتماعية التي نتجه إلى أحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلف الفريد في نوعه ليس من الكتب التي تنقل إلى بياننا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب، بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوربي، فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثير الأكبر في
تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر في عالم الغرب، واشتمل من المبادئ على ما كان ولا يزال محور الخلاف لمستحكم بين ذهنيته وذهنية الشرق العربي بوجه خاص. ولقد مضى على ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع في هذه البلاد بنيتشه وفلسفته إلا بمقالات موجزة، وكل ما عرف عنه هو أنه يدعو إلى التحرر من ربقة الأوهام واطرح الزهد واليأس والاتجاه إلى إيجاد الإنسان المتفوق.
ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلوّ المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية فاتخذ أنموذجاً بين أبنائها للصراحة والإخلاص في طلب الحقيقة يعد نقصاً في هذه المكتبة ويسجل قصوراً علينا، لذلك اقتحمنا إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه الموسوعة الكبرى إنه لا يعد أروع ما كتب نيتشه فحسب، بل أروع ما كتب في اللغة الألمانية على الإطلاق.
ولابد في ختام تمهيدنا من لفت المفكرين إلى فصل من كتاب زرادشت عنوانه (بين غادتين في الصحراء) وفيه نشيد لخيال زارا (صفحة 254) فإننا وقفنا عنده ملياً لأنه من نوع البيان المستغرق في الرمزية فلا يفهمه القارئ إلا بحسه الكامن وقد لا يتفق اثنان على تأويله تأويلا واضحاً جلياً.
ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب يقف المشاهد أمامها فلا يدري أجبلا يرى أم شجرة أم إنساناً.
لذلك اضطررنا إلى ملء بعض الفراغ بين الخطوط، وإلى الالتجاء لكسر النتوءات عند نقل بعض المكعبات المبهمة الصارمة، فجاء هذا النشيد أقرب إلى البيان المألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إلى كثير من الاستغراق في تفهم معانيه
وخفنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط الأصلية في النقل فرجعنا إلى عالم معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إلى حد بعيد في تحليلها وهو حضرة الدكتور روبرت ربننجر الأستاذ في جامعة فينا نعرض عليه ما رأيناه في رموز نشيد الصحراء، ونسأله إقرارنا على ما أصبنا فيه وتصحيح ما قد نكون ضللنا في تبيانه، فوردنا جوابه مؤرخاً في 19 أبريل من هذه السنة وفيه يقول:
(إنني أرى خلاصة معنى النشيد في فقرته الأولى المكررة في آخره وهي: إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء) فإن نيتشه قد رمز بالصحراء إلى الوجود القاحل الذي لا غاية له، وقد أتيت على بحث هذا الرمز في كتابي (جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها)
(أما سائر ما في النشيد فأراه يرمي إلى وصف أجواء الصحراء المتمتعة بالحرية وهي بابتعادها عن المعمور تولى أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة على نقيض ما تورثه ثقافة أوربا الشمالية من الخشونة والكثافة
أما كلمة (صلاة) فقد أصبتم في ترجمتكم إياها (حيَّ على الصلاة)
(هذا وقد يكون النبي محمد هو المرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها على حسب تأويلكم)
لقد سرنا وأيم الله أن يوافقنا هذا العالم على تأويلنا وإن يكن ذهب في تفسير اتساع الصحراء وامتدادها إلى غير ما ذهبنا إليه، فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه من أتساع الصحراء وامتدادها وتهديد من يطمح للاستيلاء عليها إنما هو انبعاث الإيمان الحق بالفضائل العليا وتمردها على الجحود والتضعضع في الحياة
وقد كان دليلنا على صحة مذهبنا ما ورد في النشيد من صراحة تؤيدنا خاصة في الفقرة الأخيرة وهي:
(ارتفع يا مظهر الجلال، ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة
(ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضاً أمام غادات الصحراء، فإنه أقوى ما ينبه أوروبا ويحفزها إلى النهوض
(وهأنذا ابن أوربا لا يسعني إلا الخشوع لدوي هذه الآيات البينات)
للعالم الأوربي تأويله ولنا تأويلنا، وللصحراء في بلاد العرب رموزها فلندع للأزمان تأويلها ولنكرر ما جاء في نشيد الجاحد الطامح إلى الخلود
(إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء)
إن عبير الشرق لا يضوع من نشيد الصحراء فحسب - بل هو يفوح من كل حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع الأوربي، ولسوف يقف رجال العلم أبناء الضاد عند كثير من أقواله فيعرفون فيها آية من الآيات التي أوحيت لأنبيائهم أو ألهمت لحكمائهم أو
حديثاً لذلك الأمي الأعظم الذي تناول أدق القضايا الاجتماعية فردها إلى مكارم الأخلاق ليحلها جميعاً
إننا ونحن نخط هذه الأسطر نتذكر صديقنا فقيد الشرق المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي الذي قل من جاراه في تفهم دين الله والشعور بالقومية العربية ووحدة الإنسانية. إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من آيات وأحاديث وحكم يتجلى فيها ما أجمع مفكرو الغرب على الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات في اتجاهات العالم المتمدن وفي طلب رقي الإنسان والاهابة به إلى العمل في الأرض كأنه خالد عليها لا يموت
غير أننا إذا كنا حرمنا الآن من هذه النجدة في كتابة تمهيدنا هذا فلن تحرم البلاد أعلاماً يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من السلف والمعاصرين
فليكس فارس
من أصداء البحر
بين عشية وضحاها
للأستاذ إبراهيم العريض
- 1 -
على شاطِئِ البَحرِ - في قريةٍ
…
تَلوحُ بعًزلتها الدائِمَهْ
كأنَّ الدُجى لفَّها بالسُّكونِ
…
فما بَرحَت دهرَها نائِمِه
تطلُّ عليْها عَروسُ النهارِ
…
فَتلبثُ في جوَّها حالمِه
وللبدرِ في أُفقها قُبلةٌ
…
تَطولُ. . . ولكِنَّها ناعِمه
بِناءٌ يَذكرُ سُكانَها
…
بِشامخِ أبنيةِ العاصِمه
يقيمُ بهَ نائبٌ - أمْرُهُ
…
مُطاعٌ - وسطوتُه غاشِمه
فلوْ أيقظَ البحرُ أمواجَهُ
…
لمرَّتْ بأعتابهِ لأثِمه
كذلكَ كانَ شُعورُ السوادِ
…
من الذُلِّ نحوَ اليدِ الحاكِمه
وأكواخُهمْ وسطَ هذا الإطارِ
…
تموجُ بألوانِها القاتِمَه
وتفتحُ نافِذةَ القصْر خَودٌ
…
مساءً وتمعنُ إمْعانَها
فَيحلو لها أن ترى الشمسَ تسجُ - دُ سجدةَ شكرٍ لمنْ زانَها
وهَبها توارتْ وراَء الغُيومِ
…
فهلْ تُنكرُ الأرضُ إحسانَها
ويعرضُ مِرآته البحرُ حتّى
…
تُجِّملَ - سافِرةً - شانَها
وأموجهُ في هُدُوءٍ أمامَ ال
…
نَعيمِ تُلمْلمُ أردانَها
فلا هُوَ يتركُها تستقرُّ
…
ولا هي تهجرُ شُطآنَها
وتُبصِرُ في قاربٍ فِتيةً
…
تُمدُّ إلى الصَيدِ أشطانَها
فيغمُرها فرَحٌ بالحياةِ
…
فتُعلنُ للقصرِ عصيانَها
وتخرجُ نشْوى على رمْلِهِ
…
تُرَدِّدُ كالطيرِ ألحانَها
وتركبُ في زورقٍ كالهلالِ
…
يعومُ بها نجمةً زاهِرهْ
فتأخذُ في جذفهِ باليدينِ
…
وفي صدرِها موجةٌ زاخِره
ويلثمُ فاها نسيمُ الأصيلِ
…
فيندَي بأنفاسِها العاطِره
إلى أن تغيب وراَء السديمِ
…
بعيداً بأحلامها الطائِره
ويُدرِكُها أولُ الليلِ عندَ
…
فَنارٍ يغضُّ لها ناظِرَه
فتشهدُ مركزَها في الظلامِ
…
ومن حَولها الأفقُ كالدائِره
وتلمحُ من بعدٍ قصرَها
…
يُدِلُّ بأنوارهِ الباهِره
فتثني أعِنتها للرجوعِ
…
. . . ولكنها ترتمي خائِره
ويستيقظُ البحرُ بعدَ الهُجوعِ
…
ليُملي إرادتهُ القاهِره
ويشرقُ إحسانُها في الصباحِ
…
مَلياً على همساتِ البشَرْ
فتملكُها رعشةٌ للذي
…
يمرُّ على ذِهنها من صُوَر
وتذكرُ ما كانَ من حَظَّها
…
ومن حَظَّ زورقِها المُنكسِر
وكيفَ تقومُ بها موجةٌ
…
وأُخرى على جانِبيها تمُر
فتصرخُ صرخَتَها للحياةِ
…
وفي حَلقِها نَفسٌ يُحتضر
فتمتدُّ كفٌ لإنقاذِها
…
من الغَيبِ. . . ذلك ما تدَّكر
وتشعرُ بالدفءِ تحتَ اللحافِ
…
فتعجَبُ كيفَ احتَوتها السُرُر
وتفتحُ ناظِرهَا بعدَ لأيٍ
…
على شبحٍ قائمٍ ينْتظِر
يُناشِدُها وعلى ثغرِهِ
…
بنانٌ تُشيرُ بِأنْ تْستقِر
وتستغرِقُ الخوْدُ في نَومِها
…
وتأخذُ حظاً من العافِيهْ
ويفترُّ في شَفتيها دمٌ
…
كطَلٍ على وردةٍ زاكيه
وتحتَ يدَيها يزِلُّ النصيفُ
…
عن بُرْعمي صدرِها ناحِيه
ومِلؤُهما عِزةٌ بالجمالِ
…
جمالِ أنوثتها الغافِيه
فَيحنو عليها الفَتى في خُشوعٍ
…
ويسترُ أطرافَها العارِيه
ويعزفُ لحناً على عُودهِ
…
يُذَكرُ عهدَ الهوى ناسِيه
وينبعثُ النغمُ العذبُ من
…
تململِ أوتارهِ القاسِيه
إلى أن تُفيقَ فتاةُ القُصور
…
وتَطرِفَ أهدَابُها ثانِيه
فتبسطُ راحتَها كالغريقِ
…
وفي ثغْرِها قُبلةٌ طافِيه
ويَسألُها عن عهود الصِبا
…
وأترابِها في القُرى. . مَنْ هُمُ
فتُغضي حياءً. . . وفي رقةٍ
…
تبوحُ لهُ بالذي تكتمُ
(يداكَ تجودانِ لي بالحياةِ
…
فشكراً على الجُودِ يا مُنعِم!
وهبتُكَ قلبي. فخُذني إليكَ
…
ومُرْني أُطعكَ بما تحكُم)
وتلبَثُ في صمتها برهةً
…
ليفهمَ منها الذي يفهم
ولكنهُ لا يُحيرُ الجوابَ
…
كمنْ رَابهُ أمرها المُبهمُ
فتنطقُ باسمِ أبيها لهُ
…
وتبسم. . . يا حُسنَ ما تبسم
فينفرُ منها نُفُورَ الظليمِ
…
وقد ثارَ في مُقلتَيهِ الدم
(أأنتِ ابنةُ النائبِ المستبدِّ
…
وأهاوكِ. . إني إذنْ مجِرمُ)
فترجعُ للقصرِ عند الأصيلِ
…
طريدةَ آمالِها الخائِبهْ
قضَتْ يومَها حافِلاً بالشعُورِ
…
كأحفلِ أيامِها الذاهِبهْ
فتشعُرُ مثلَ شعورِ الغريبِ
…
وإن لم يطُلْ عهدُهَا غائِبه
فترْنو إلى البحرِ. . . حتَّى تراهُ
…
يسيرُ في موجهِ قاربَه
فتنشِدُهُ حُبَّها لو يُصيخُ
…
وتُذرى له دمْعَها عاتِبه
أيا حاسراً زندهُ للبحارِ
…
تذوبُ له حسرة كاعِبه
أسأتَ بيَ الظنَّ حتى خَجِلتُ
…
ولم تَكُ في نيتي شائِبه
ضربتَ بحبيَ عُرْضَ الجِدارِ
…
وأنكرتَ من سؤددِي جانبه
وغاظكَ أنَّ أبي ظالِمٌ
…
ألستَ بظلمكَ لي صاحِبَه
وتَخنقُها عبرةٌ في النعِي
…
مِ تُلهبُ منْ لوْنَها شاحِبهْ
ويَمضي لطيتهِ ضاحكاً
…
يُؤدِّي - على بُؤسِهِ - واجِبَه
- 2 -
تَوالتْ على القَصْرِ عشرُونَ عاماً
…
أسابيْعُها مِثلُ أَعيادِهَا
تُوافي الفتاةَ عَروساً، فزَوْجاً،
…
فأُمّاً، تَحنُّ لأولادِهَا
وأعقلُهُمْ بحَشَاها ابنْةٌ
…
فدَتها الأهَالي بأكْبَادِهَا
تغنِّي. . فتُصْغي إلينا الطُيورُ
…
وتَطرَبُ مِنْ حُسنِ إِنشادِهَا
وتَلمحُ صُورتَها في المياهِ
…
فتضْحَكُ من قَولِ حُسادِهَا
ولو أَنها نَزَلتْ في الجِنانِ
…
لأزرَتْ بأجْمَلِ أورَادِهَا
يخفُّ إليها نسيمُ الربيعِ
…
يُذَكرُها يومَ مِيلادِها
ووالدُهَا غائِبٌ في البلادِ
…
يقومُ بتنظيم أجْنادِها
فيكتبُ مُسْتملحاً لو تَسيرُ
…
إليهِ فَيَحظى بإِسعادِها
وتصحبها أمها للسلامِ
…
على زوجها. . وهي لا تبتسمْ
فقد علّمْتها صُروفُ الزمانِ
…
بأنَّ الطلاقةَ شيءٌ يُذَم
يذمُ. ولابْنتها نظْرةٌ
…
تَبشُّ إلى كلّ وجْهٍ - وفَم
وتجري بها الفُلكُ وسْطَ البِحَارِ
…
وأمواجُها دائِماً تلتَطِم
فتُلقي بها تارة كالدلاءِ
…
وترفَعُها تارة كالعَلَم
إلى أنْ يَلوحَ لها - حيثُ لاحَ
…
قديماً - فنارٌ يُنيرُ الظُلَم
فتَذهَلُ واجِمة. . . كالذي
…
يَرى شَبحاً في ثناياهُ دَمْ
وتذكُرُ حُباً خلا في الوُجود
…
لشخصٍ طَوى صفحَتيهَ العَدم
فتَبسم. . لكنَّ في نَفْسِها
…
مَرَارةَ ذِكرَى تُثيرُ الألمَ
على أن ذاكَ الفَتى لم يَمتْ
…
فقَدْ صارَ نابِغة في الفُنُون
تلقَّى من الكَونِ إلهامَهُ
…
ومثَّلَ آياتِهِ في اللحونْ
فما هيَ إلا الضُحى في امتِدادٍ
…
وما هيَ إلا الدُجى في سُكون
كأنَّ على يدِهِ العُودَ طِفلٌ
…
يبُثُّ الوَرَى شجْوَهُ بالأَنين
يرِنُّ. . فتَقْطُرُ منهُ القُلوبُ
…
وتأخذُ موضِعَها في العُيون
ويصُغي إليهِ المحبُّ الغَيورُ
…
ويُدْركُ في الحُبِّ سرَّ الجُنون
وتنْعطِفُ الأمُّ نَحوَ الرَضيعِ
…
وفي صدْرِها جدْوَل من حَنين
ويحْلمُ بالمجْدِ طرفُ الجَبانِ
…
وإن ذاقَ في المجدِ كأْسَ المنون
لأنَّ المعانيَ من كلِّ لَوْنٍ
…
تَفوزُ بجلوَتِها في الرَنينْ
ويُبْصرُها وهْوُ في مَحْفِل
…
يُوقَّعُ أنغامَهُ في الغَزَلْ
وقدْ حوَّلُ الصمْتُ تلك العُيونَ
…
شِفاهاً تدُلُّ على ما تَدُل
فيذكرُ زوْرَقَها في الظلامِ
…
ومَشْهَدَها تحتَ نابِ الأجَل
فيشعرُ بالوخزِ - وخْزِ الضمير
…
- على قطِعِه حبْلهَا المتَّصِل
فينُشْدُ. . . والعُودُ بينَ يدَيْهِ
…
يُرجَّعُ كالطِفْلِ ما يرتجِلُ:
(أمَا كُنتَ حاضِرَنا يا هلالُ
…
عِشَّيةَ ضاقتْ عليْها السُبلُ
فألقَيتُ نفْسيَ وَسطَ الغِمارِ
…
وأدركتُ فيها بقايا الأمَل
كأَنِّي - وقد حضَنتها يدايَ
…
- أودُّ لها في ضُلوعي مَحَل
ولو نزلتْ في صَميمِ الفُؤادِ
…
لعَزَّ على غُلَّتي أن تُبلْ)
وتطرَبُ مِنْ لحنهِ البِنتُ حتَّى
…
تُنَاشِدهُ أن يُعيدَ الغَزَل
وتسألُ عن شأنِه مَنْ يكونُ
…
فتَجذِبُها أمُّها بالعجَل
وتهمسُ في أُذْنِها دُونَ أَنْ
…
يَرَى الحَفْلُ ما مسَّها من خَجَل:
(بُنيّةَ! هذا فتىً مِنْ قُرَاكِ
…
تَعرفَ بي في الصِبا المُرْتحل
وخُيِّلَ لي أَنهُ مَيتٌ
…
ولكنَّ لله شأْناً أجَل
أغرَّكِ مِنهُ النسيبُ الجَميلُ
…
على ثَغرِهِ يُشتَهى كالقُبَل
دَعْيهِ. فعَهدِي بقلبٍ طَواهُ
…
- على فَنِّهِ - مُقْفِراً كالطَلَلْ)
(البحرين)
إبراهيم العريض
البريد الأدبي
العيد الألفي لمدينة القاهرة
قررت الحكومة الاحتفال بانقضاء ألف عام على تأسيس القاهرة كما ذكرنا من قبل، وننشر اليوم أن البيان الرسمي الذي بني عليه هذا القرار يتضمن أنه في العام القادم سينقضي ألف عام هجري على تأسيس مدينة القاهرة. وقد عزمت بعض الهيئات والمعاهد في أنحاء مختلفة على أن تحتفل بهذا الحادث التاريخي الذي يهم العالم الإسلامي أجمع. وقرر معهد المباحث الإسلامية بمدينة بومباي وهو من أهم المعاهد الإسلامية في الهند أن يشترك في الاحتفال بهذا الحادث، وسيضع كتاباً يحتوي على وثائق خاصة بتاريخ القاهرة لم تنشر من قبل، وهي مستقاة من مخطوطات عربية في حوزة المعهد المذكور، على أن تقدم نسخة من الكتاب مجلدة تجليداً فخماً إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فاروق الأول
ولا حاجة إلى تبيان ما ينتظر أن يكون لمثل الاحتفال الذي نحن بصدده من الشأن في الشرق الإسلامي بوجه خاص. لذلك رأى مجلس الوزراء أن يقرر احتفال الحكومة الملكية بانقضاء ألف عام هجري على تأسيس القاهرة، وأن يعهد إلى لجنة خاصة في اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع برنامج لذلك الاحتفال وجعله خليقاً بمصر في عهد الجديد
بعثة الإمام الشيخ محمد عبده
أصدر صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر قراراً بتعيين الدكتور محمود البهي قرقر والدكتور محمد ماضي خريجي بعثة الشيخ محمد عبده، مدرسين في كلية أصول الدين: أولهما لتدريس الفلسفة، وثانيهما لتدريس التاريخ الإسلامي، وهما حاصلان على درجة الدكتوراه في هذين العلمين من جامعة هامبرج في ألمانيا، وقراء الرسالة يعرفون الأستاذين بأبحاثهما الجليلة في الأدب والاجتماع
مسألة شكسبير وبيكون
من أنباء لندن أن البحث في كنسية وستمنستر مدفن العظماء عن قبر أدموند سبنسر الشاعر الإنكليزي الذي كان معاصراً لشكسبير لم يجد شيئاً، وقد قام بهذا التفتيش جمعية فرنسيس بيكون وغرضها منه أن تبرهن على أن الاسمين هما لمسمى واحد، وأن الذي أشتهر باسم شكسبير هو في الواقع فرنسيس بيكون لا غيره
وكان هذا الحفر بناء على وثيقة مؤرخة سنة 1600 قيل فيها أن أدموند سبنسر دفن في الكنيسة وأن عدداً من معاصريه أبنوه بقصائد دفنت معه. وان خط رثاء شكسبير لسبنسر يثبت أنه خط بيكون. وقد أخرجت بضعة توابيت يظن أن تابوت سبنسر أحدها ولكن أهل الشأن لم يسمحوا بفتحه إذا لم يثبت أنه لسبنسر، وهو مصنوع من الرصاص
شريعة عربية
روي الأديب المهذب (ح، ح) في بحثه (مصدر الهتلربة) في (الرسالة) الغراء قول (تريتشكي): (فلولا الحرب ما كانت الدولة، وينبغي أن يجعل المرء شعاره على الدوام أن الحروب دواء الأمم المريضة) ومقالة (نظرية) الجرماني هذه هي شريعة العربية وقد شرحها الكلحبة العرني في بيته:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت
…
حبال الهوبني بالفتى أن تقطعها
وفي معاني (الجهاد) ما يزيد هذا البيت إيضاحاً. وقد قال غربي: كان سلطان العرب ما قاتلوا، فلما تركوا الحرب واتدعو ذهبت ريحهم
(* * *)
أمة عربية تزول
أذاعت شركة الأنباء الإيطالية (ستيفاني) في جميع أنحاء العالم هذه البرقية:
روما - تلقى الدوتشي من كبار الشخصيات العربية في ليبيا - كالأمير سليمان القرفيلي، ومفتي ليبيا وقضاة طرابلس ودرنة وطبرق، ورئيس المحكمة الشرعية - برقيات تعرب عن خالص شكرهم وشكر أهالي ليبيا العرب على ما منحت تلك البلاد من شرف اعتبارها جزءاً من إيطاليا، وقد أضافت البرقيات أن عرب ليبيا لن ينسوا الخدمات التي أدها ومازال يؤديها الدوتشي لبلادهم وأنهم على استعداد للعمل معه مخلصين إلى النهاية في جميع الظروف
ومعنى هذه البرقية التي نشرت على العالم العربي فلم يحفل بها أحد ولم تعلق عليها صحيفة - أن السلطات الإيطالية اللوبية أرغمت أولئك العرب المساكين على أن يسدوا الشكر (خالصاً) إلى حكومة روما على تلك المنحة العظيمة التي قدمتها إليهم، وهي خمسة
ملايين من الإيطاليين سيغمرون ليبيا ويحولونها إلى منطقة إيطالية خالصة، ثم لا يكون للعرب بعد أن توزع أملاكهم على المهاجرين المستعمرين، إلا قفار الصحراء الجديبة يعيشون فيها على الضر والفقر دون أن يكون لهم في أمور البلاد السياسية والاقتصادية لسان ولا يد!
هذه فلسطين أخرى ولكن فلسطين تستطيع أن تقول وأن تعمل؛ أما طرابلس فلا تقول ولا تعمل إلا ما يريده الحاكم بأمره
بس. . .
قال الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في مبحثه في (العامية والفصحى) في (الرسالة الغراء): (وأما بس فلا مثيل لها، ولا غناء عنها بغيرها في اللغة العربية) وهو قول حق كله، واللفظة عربية كل العربية، وإن كان الأصل من فارس. وقد ذكر بهاء الدين العاملي في (كشكوله)، ونقل قوله الزبيدي في (تاجه):(بس كلمة فارسية، وليس للفرس في معناها سواها، وللعرب حسب، وبجل، وقط - مخففة - وأمسك واكفف، وناهيك، ومه، ومهلا، واقطع، واكتفًّ)
أجل، إن في لغة (الجزيرة) كل ذلك لكن لم تظرف واحدة من أُليا الآنسات العشر - كما يرى الأستاذ المازني - ظرف تلك الفارسية
ونطق باللفظة (اللسان) غير ذام ولا ناقد: (وبس بمعنى حسب فارسية) والفارسيات المتعربات أمم يا أستاذاً في العربية
وأخبرنا السيوطي في (المزهر) والخفاجي في (شفاء الغليل) أن (الخليل) أودعها (العين) غير منسوبة إلى فرس ولا عرب: (بس بمعنى حسب) ونابغتنا (الخليل بن أحمد) تلاميذ تلاميذه، كلامهم على الرأس والعين
وروي (المزهر) عن كتابه (المشاكهة) لمحمد بن المعلى الأزدي: (تقول لحديث يستطال: بس، وعن أبي مالك: البس القطع، ولو قالوا لمحدث: بسا كان جيدا بالغا بمعنى المصدر أي بس كلامك بسا، أي أقطعه قطعا، وأنشد:
يحدثنا عبيد ما لقينا
…
فبسك يا عبيد من الكلام
القارئ
جورج هويتفيلد
مضى قرنان من الزمان على موت جورج هويتفيلد أعظم خطباء الإنجليز ووعاظهم في القرن الثامن عشر. وقد هبت إنجلترا وأمريكا تحتفل بذكرى الرجل العظيم الذي خطب عشرت ملايين منهم فعلمهم جميعاً الرحمة ومحبة الله والتفاني في خدمة البشر والتجرد من زخرف الحياة وباطلها لتكون زخرفاً وجنة للجميع. وكثيرون منا لا يعرفون هذا الرجل الذي شاد بخطبه وعظاته نصف ما في إنجلترا وأمريكا من ملاجئ ومستشفيات ودور للخير. حقا إن شهرة هويتفيلد لم تبلغ في العالم من الذيوع ما بلغته شهرة لوثر أو كلفن أو ويسلي، وهذا لأنه لم ينشئ مذهباً جديداً أو فلسفة جديدة، لكنه في الحقيقة كان أخطب منم وأنفع للخير العام، لأن خطبه الممتلئة بالحرارة والإخلاص لم تقد الناس إلى الحرب وإهراق الدماء والمذابح بل قادتهم إلى البر والمؤاخاة والعطف بينهم، وإن من أظرف ما يروى من أخباره أن الرئيس فرنكلين كان يسمع عنه وكان لا يحبه، فدعاه أحد أصدقائه مرة إلى اجتماع سيخطب فيه هويتفيلد فذهب على كره منه. فلما سمع الشطر الأول من خطبته - وكان موضوع الخطبة الحث على جمع التبرعات لعمل خيري - تحرك شيء من العطف في قلب فرنكلين وعزم على التبرع بقليل من السنتات (السنت: مليمان) فلما بلغ الخطيب نصف خطبته ثار العطف في قلب الرئيس أكثر فعزم على التبرع بدولارات، فلما فرغ هويتفيلد هب فرنكلين فأفرغ في صندوق التبرعات كل ما كان في كيسه من السنتات والدولارات والجنيهات!
فهل من وعاظنا الأفاضل من يبلغ مبلغ جورج هويتفيلد؟
جورنج رجل ألمانيا الحديدي
ظهر هذا الكتاب بالإنجليزية لمؤلفه هـ. و. ريان، وقد تناول فيه المؤلف حياة المارشال جورنج فأرخها تأريخا جميلا من يوم نشأته في المدرسة القروية الحربية البروسية إلى عمله في فرق الطيران الألماني زمن الحرب، إلى هجرته إلى السويد بعد هزيمة ألمانيا، فزواجه هناك من زوجته كارين التي قاسمته شظف العيش وشدة الحياة، التي وضعت في حياته اللبنات الأولى للمجد والمستقبل الحافل. . . ومن أبرع فصول الكتاب تلك التي
تتناول عهد الصداقة بين هتلر وجورنج. فقد عهد هتلر إلى صديقه تشكيل الحزب الوطني الاشتراكي فقام بمهمته على أحسن الوجوه وشكل فرق القمصان البنية، وكان مبدؤه إعادة الثقة إلى الشعب الألماني ثم بناء ألمانيا الجديدة. وقد حدث شغب في ميونخ كاد يؤدي إلى إعدام جورنج لولا أن صدر عفو شامل فأنقذت حياته وفي الحقيقة أنقذت حياة ألمانيا. ثم سلك سبيله إلى الريخستاج فصار أحد أعضائه البارزين. ولما صار هتلر مستشاراً عهد إلى صديقه بتنظيم الطيران في ألمانيا وتدعيم اقتصادها في وقت واحد فقام بالمهمتين أحسن قيام. وكون لألمانيا أسطولا جويا وأهبة واستعدادا، ولولا هذا الأسطول ما جرأت ألمانيا على احتلال الرين غير عابئة بقوات أعدائها الكثيرين. وجورنج مع ذاك رجل مثل عملية وهو صاحب الصيحة الآرية المدوية كما أنه هو الذي طهر ألمانيا من اليهود
سياسة الغد
كتاب جليل الموضوع مستقل الرأي مستقيم التفكير، أخرجه الأستاذ (مريت بيك بطرس غالي) كما تخرج الطبيعة ثمرتها في إبانها: عالج فيه الأستاذ الخطط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تسير عليها مصر في عهدها الجديد علاجاً بارعاً نزيهاً صريحاً لم يتقيد فيه بمذهب خاص ولا حزب معين. والكتاب لجلالة موضوعه ومكانة مؤلفه يستحق أن نعود إلى الحديث عنه بالتفصيل في العدد القادم
ناد أدبي للطلبة المغاربة بمصر
اجتمع الطلبة المغاربة بمصر بحثوا في تأليف ناد ثقافي تعاوني وكونوا لجنة تحضيرية لوضع مشروع قانوني أساسي له
وفي الساعة التاسعة من يوم الأربعاء 26 أكتوبر تناقشوا في مشروع القانون الذي قدمته اللجنة التحضيرية ثم وافقوا عليه، وانتخبوا لجنة تنفيذية لتدير أعمال النادي وتحقق أغراضه الثقافية والتعاونية من الطلبة
محمد العربي العلمي سكرتير والمهدي بنونه مساعد له وعبد الكريم غلاب أمين الصندوق وأحمد وبن المليح والعربي بناني ومحمد المسقوي وعبد العزيز الوارثي أعضاء
الكتب
هكذا تكلم زرادشت
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
إن نيتشه نفسه يوافقنا على هذا التفسير، فهو يقول ص17 من الترجمة العربية:
(وهنالك في الصحراء القاحلة (أعني صحراء الحياة القاحلة) يتم التحول الثاني فينقلب العقل أسداً لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه. . .!
وفي هذه الصحراء يفتش عن سيد ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنين (الواجب) والتغلب عليه)
ولست أدري كيف غفل صديقنا المترجم عن هذا مع أن قلمه جرى به في الترجمة؟ وكيف تغافله الدكتور (روبرت ربننجر) إن صح ما ينقله صديقنا المترجم عنه
أما الفقرة الأخيرة من النشيد، والتي يجد فيها المترجم سنداً لتأويله على زعمه، فهذه الفقرة لا تؤيده في رأيه بعد أن وضح التفسير الصحيح وإنما هي تؤيدنا في تفسيرنا الذي ذهبنا إليه
أما ترجمة عبارة (سلاه)(حيَّ على الصلاة!) ففيها نظرة؛ ذلك أن نيتشه كان أخصائياً في الآداب العبرية. ومعروف في الأدب العبري أن لفظة (سلاه) ترد في أواخر الأناشيد، والدليل على هذا القائم في سفر الأناشيد في العهد القديم وقد ترجم إلى (سلاه) عربياً في كلا الترجمتين اليسوعية والأميركية. هذا إلى أن نيتشه نقلها كما هي إلى الألمانية واختتم بها عبارات أناشيده. وظلت على نصها العبري في جميع التراجم مع ظهور مفهومها في اللغة العبرية للجميع، إذاً فليس هنالك وجه لأن يذهب المترجم ليفسرها بأن نيتشه يقصد بها (حيَّ على الصلاة!)
أما تقدير الدكتور (روبرت رينجر) فلا قيمة له، ذلك أنه يعرف عن نيتشه أنه متصل بالآداب السامية، فلما وجد تفسيراً للكلمة في العربية وافق المفسر في رأيه، وهو لو درى
أن نيتشه كان وقوفه مقصوراً على آداب العبريين، لعلم أن مفتاح الكلمة في لغة العبريين وليست في لغة العرب، ومن هنا كان له أن يرفض تفسير المترجم!
وهنالك في التمهيد الذي قدم به صديقنا المترجم مآخذ كثيرة نحصر الكلام هنا على أهمها وأكثرها مجانبة للواقع
يقول المترجم:
(يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق - يعني السبرمان - جباراً كشمشون، وشاعراً كداود، وحكيماً كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان (التافه) القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره.)
وهذا الرأي يصح ولكن إذا كانت القوة الحيوية في الأحياء لا يمكن زيادتها فيهم حتى يكون من تصرفها من مختلف نوافذ الحياة ما يجعل الحي يقف في مرتبة التفوق من سلم الارتقاء من هنا لا يصح هذا الاعتراض على نيتشه، ذلك أنه يقيم فكرته في مجيء السبرمان من ازدياد القوى الحيوية عن طريق ترك المجال للتنازع للبقاء فيبقى القوي الأصلح. وتعمل سنة الانتخاب على تثبيت صفة القوة في سلالات هذا القوي الذي خرج منتصراً من معمعة التنازع على البقاء.
يقول المترجم:
(من تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لابد له أن يسلم أخيراً بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها ولكل شخصية ميتنها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج)
وهذا الرأي فكرة أولية يؤمن بها صاحبها فليكس فارس وتدور من حولها آراؤه في الشرق والغرب، وهذه الفكرة فيها عنصر من الخطأ، وموضع الخطأ عدم ملاحظته العوامل والمؤثرات الطبيعية والاجتماعية التي تترك أثراً ثابتاً في فطرة الأحياء يتكافأ مع حوافزهم الطبيعية. وقد جلينا في سلسلة مقالاتنا المدرجة على صفحات (الرسالة) عن الغرب
والشرق كيف تنزل جميع آراء صديقنا من هذه الفكرة الأولية، وشرحنا أوجه الضعف بتفصيل فيها، فلا داعي هنا للإفاضة.
يقول نيتشه:
(إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل)
ويعلق على هذا الكلام المترجم بقوله:
(ما هذه الفطرة التي يراها نيتشه رافعة الإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله إلا حافزاً الحب وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجتذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر.)
وهو في تفسيره هذا وتعليقه يحمل نيتشه أفكاراً لم تمر بخاطره فضلاً عن أنه يخالف العلم الحديث بمقدراته.
يقول نيتشه إن غريزة الحركة والعمل في الحياة تعمل لخلق كائن يتفوق على أبويه، وهو في هذا يماشي فكرة أن التطور مدفوع للارتقاء، فإذا كانت الحياة هي الحركة والعمل ومجبولة على الأرتقاء، فأذن كل نتاج الحياة يتفوق على أصله. وهذه فكرة مستقلة بذاتها عن فكرة المترجم حين يقول: إن حافزة الحب بما في أعماقها من غريزة الانتخاب الزوجي يجذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن من بنية الآخر
ومع هذا ففكرة المترجم واهنة لو نظرنا إليه من ناحية العلم البيولوجي، ذلك أننا نعرف من بحوث الأستاذ جوليان هكسلي المعروف أن المظاهر الخارجية في الحياة وخصوصاً الصفات (النفسية) وعلى وجه خاص الحب لا يتعدى أثرها (إحكام الروابط النفسية بين الأحياء بعد أن يهبط الميل الفسيولوجي إلى درجة العدم). من هنا لنا أن نقول إن حافز الحب مهما كان له من الأثر في إحكام الروابط النفسية بين الأحياء فإنه لا يتعدى دائرة المظاهر الخارجية للحياة ولا يصل بتأثيره إلى العالم الداخلي فإذن رأي صديقنا المترجم يخالف مقررات العلم البيولوجي الحديث وأمانة البحث تضطرنا إن نقول إن بعض الباحثين إلى الآن لا يزالون يحملون بعض الظاهرات الطبيعية في التناسل على الصفات (الروحية) ذلك أن هذه الفكرة بقية من آثار الرأي العامي الشائع في أن للمظاهر الروحية أثراً في تكوين الجنين. ويستحسن أن يراجع المترجم بحوث الأستاذ جوليان هكسلي في
هذا الموضوع
ومن هنا نرفض كل ما نقله المؤلف من فصل (منابت الأطفال) من كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) مقدرين أنه لا صلة بينها وبين الأبحاث العلمية الحديثة في البيولوجيا
يقول المترجم:
(إن الدين يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب)
وهذه الفكرة تدور في كلامه، ذكرها في كتابه (رسالة المنبر) مراراً ورددها في مناظرته معي عام 1937 وجاء يكررها على صفحات (الرسالة) أخيراً، وهاهو ذا اليوم يذكرها في تمهيد يقدم به ترجمته لكتاب زارازوسترا. ومع كل هذا فالفكرة خاطئة فالغرب لم يشوه الدين أخذه من الشرق، وإنما كل ما فعله، أنه جعله يتكافأ مع طبيعته الحيوية الإنسانية فأسبغ عليه صوراً ليست منه، ولكنها من طبيعته، فكان من ذلك صورة للدين تغاير الصورة التي هي عليها في الشرق
إذن فالتعبير بأن الغرب شوه الدين تعبير خاطئ، وصحة التعبير أن يقال إن الدين الذي أخذه الغرب عن الشرق كيفه على حسب طبيعته حتى يقبله، وهذا التكييف إن اعتبر تشويهاً في نظر المترجم هو في الواقع خلع للثوب الغيبي عن الأديان وجعله إنسانياً!
يقول المترجم:
(إن الدين قد أراد للإنسان تكاملاً روحياً يهيئه إلى إدراك باريه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر ما لا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على هذه الأرض فيجعلها جنة خلد يستوي عليها بجبروته إلهاً. . .)
ونحن نقول:
(إن نيتشه لم يفعل أكثر مما استلزمته عقيلته الآرية وعقله الإنساني المتحرر من تقاليد الماضي، وهو لم يحاول أن يجعل الإنسان يفلت من حدود إنسانيته بل عمل أن يرد الإنسان لحقيقته في عالم الطبيعة بعد أن حاولت الأديان أن تفلته من حدود الطبيعة وتجعله خاضعاً لما وراء الطبيعة، حتى أصبح الإنسان حيواناً ميتاً فيزيقيا)
إن وجهة النظر تفترق من اعتقاد ثابت بالغيب أو بإنكار لها وإيمان باليقين الواقع، ومن هنا فالفرق بيني وبين صديقي المترجم أنه رجل غيبي وأنا رجل ضد الغيبيات على خط
مستقيم
والناحية الغيبية عند صديقي هي التي جعلته ينكر التطور كحقيقة بيولوجية إذ قال:
(إن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها مهما كرت القرون وتعاقبت الأجيال، لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للبنات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان ولا الحيوان، أن يجتاز ملكة الإنسان
لذلك كان الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيواناً أو استبدال الحيوان إنساناً
لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقب كرت ما وراءه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبداً ضمن حلقة إنسانيته)
ويؤسفني أن يرجع صديقي فليكس فارس عن أفكاره عصره القهقري إلى أفكار القرون الوسطى
يقول أمين الريحاني فيلسوف الفريكة في خطاب لصديقه وصديقي فليكس فارس على صفحات المقتطف:
(ألا إن فليكس لصديق عزيز قديم. وقد طالما ترافقنا في جادات العقل والروح واتفقنا، بل كنا دوماً في طليعة الحملات حملات الحرية والعلم، على معاقل الظلم والظلام
وإني لأرى فليكس اليوم في غير تلك الطلائع والحملات، إني أراه اليوم واقفاً في المؤخرة وهو يتلفت إلى الوراء ويجنح بعض الأحايين إلى جادات لا أثر فيها للعلم الحديث، وللنزعات الفكرية الحرة. .!)
وإني وإن كنت أوافق فيلسوف الفريكة في الشطر الثاني من كلامه عن صديقي فليكس، فأنني لأشك في صدق الشطر الأول منه، في وقوف صديقنا فليكس في طليعة حملات العلم، ذلك أنني لا أتصور إنساناً يقف في طليعة حملات العلم، ولو قبل الحرب العظمى ويكون منكراً للتطور. لقد كان فليكس فارس في طليعة حملات الحرية في سوريا قبل الحرب، ولكن لم يكن في طليعة حملات العلم. هذه حقيقة يجب أن نعرفها. إن كانت للصداقة واجباتها فإن للحقيقة حقوقها. . .
بالأمس كنت أقلب بين يدي كتاباً عن نظرية التطور عند القدماء لأوتو فولنجر الكاتب
الألماني المعروف. وقد جمع مؤلفه في القسم الثاني منه كل ما قاله كتاب العرب في موضوع التطور واليوم انتبهت فإذا بصديقي فليكس يرى التطور وبتصوره بالصورة التي جعله عليها إخوان الصفا وابن مسكويه منذ قرون. فيذهب للرد عليهم جانحاً إلى صور من التأمل والتخيل أبعد ما تكون عن أساليب العلم والعلماء
لاشك عندي أن صديقي فليكس يسير في المؤخرة من سير الزمن، يعيش بعقله في عصر سابق لقيام النهضة الحديثة
إن الشخص الذي يتحدث عن المواليد الثلاثة وعوالمها وعن عدم إمكان الجماد أن يفلت من حدود عالمه إلى عالم النبات، وعن عدم إمكان النبات أن يفلت من كونه إلى مملكة الحيوان. . . إنما هو شخص يعيش بأفكاره في العصور الوسطى، ونحن لا نرضى بمثل هذه الحياة لصديقنا، ولكن ليس بيدنا من أمر!. . .
يقرر الصديق فليكس أن كرّ القرون وتعاقب الأجيال لا يُمَكِّنُ النوع من الانعتاق من حلقة نوعه. . . فكأني بالصديق أولاً: من الذين يتصورون النشوء والتطور يجري لطول الآماد وكرّ القرون وتعاقب الأجيال. ثانياً: أنه من الذين لم يقفوا على المباحث الحديثة في التطور وخصوصاً تجارب (مورغن) و (مللر) و (جوهانسن) حتى أنه يكرر القول بعدم إمكان النوع أن ينعتق من حلقة نوعه
أما عن التصور الأول فقد نبه إلى فساده من قبل (شارلس روبرت دارون) في كتابه أصل الأنواع، إذ قال في الفصل الرابع (ص218 من الترجمة العربية، طبعة أولى وج2 ص40 من الطبعة الثانية - ترجمة صديقنا إسماعيل مظهر) ما نصه:
(إن كر الصباح ومر العشي، ومضي الأزمان المتتابعة لا يحدث في الانتخاب الطبيعي أثراً ما إيجاباً أو سلباً. ولقد اضطررت إلى التكلم في هذا المبحث لأن بعض الطبيعيين أيقن خطأ بأني أعتقد أن لمضي الأزمان وترادف العصور، الأثر الكلي والجولة الواسعة في تغيير صفات الأنواع، على قاعدة أن صور الأحياء عامتها كانت ممعنة في تغاير الصفات بتأثير سنة طبيعية مؤصلة في تضاعيف فطرتها بيد أن مضي العصور وتلاحق الدهور لا يتعدى أثرها تهيئة لظروف ظهور التغايرات المفيدة للكائنات الحية وانتخابها انتخاباً طبيعياً واستجماعها ثم تثبيتها من طبائع الصور العضوية، ولا جرم إن لذلك أثراً بيناً، غير أنه
بعيد عما يتوهمون، كذلك يعد مضي الوقت طبائع الكائنات الحية من حيث تأثيرها الآلي، إلى قبول تأثير الحالات الطبيعية قبولاً مباشراً)
لقد كان صديقي إسماعيل مظهر يرد على جمال الدين الأفغاني مزاعمه في هذا الموضوع بنفس هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة. واليوم يدور دولاب الزمن، وأقف أنا من سيره أعيد كلام صديقي في تصحيح مزاعم الصديق فليكس.
أما عن الأمر الثاني فصديقي فليكس يظهر تماماً أنه لم يقف على حقيقة البحوث التطورية الحديثة، وهو قد ظن أن الخلاف الذي نشب في أوائل القرن العشرين بين مدرسة لامارك ومدرسة دارون ومدرسة ويزمان دي فريس حول مجرى التطور إن دل على شيء فإنما على أن نظرية التطور واهنة.
والواقع أن التطور اليوم خرج من حدود النظريات وأصبح حقيقة أولية في علم الأحياء، وإن كان هناك من خلاف فهو حول تفسير التطور والعوامل والمؤثرات التي تدفع إليه.
وليس من شأني هنا أن أنقل للصديق فليكس آخر الآراء الحديثة في تفسير التطور، فليس خلافنا معه على التفسير إنما على التطور نفسه، فإن الصديق فليكس ينكره كحقيقة علمية وهنا موضع الافتراق بيننا.
وإني وإن كنت من غير المشتغلين بمباحث الأحياء فإن وقوفي على مباحثه وقوفاً تاماً يسمح لي أن أقول مع شكسبير إنني مستعد لدفع ألف إسترليني لمن يثبت ولو من وجهة نظرية أن التطور ليس حقيقة علمية!. .
إني مستعد لدفعها وبعد ذلك إعلان إفلاسي وكسر قلمي. . كما قال في مسألة مماثلة من قبل جوجول.
وذهب صديقي فليكس إلى الخلط بين الإلحاد والعدمية بين وفهو يقول: (الملحد هو الذي يرى أمامه ووراءه العدم والزوال) وهو في ذلك يوافق الأديب الناقد الأستاذ عباس محمود العقاد رأيه في أن (الملحد من يجحد الحياة وهو من هنا يريد أن يقول إن نيتشه نظراً لأنه لم يجحد الحياة) فهو مؤمن!
غير أني أرى أن هذا الرأي في الإلحاد توسع في فهم معناه إلى أكثر مما يحتمله معنى الإلحاد، فإن الإلحاد عندنا (الملحدين) حالة سلبية بالغيبيات، وناحيتها الإيجابية اعتبار
اليقينيات أساس المعرفة.
وأظن أن هذا الرأي يتسق مع مفهوم الإلحاد أكثر من رأي الصديق فليكس وفكرة العقاد.
وبهذه المناسبة أحب أن ألفت نظر الصديق فليكس إلى ذلك الحديث الذي جرى منذ شهرين تقريباً على المائدة في داره بيني وبين الصديق الدكتور محمود عزمي وأديب حلب سامي الكيالي، وكيف انتهى بنا الحديث إلى أن الإلحاد حالة غير حالي العدمية
ومن هنا لا أجد بدَّا لرد فكرة اعتبار الإلحاد والعدمية وجهتين من النظر لا تختلفان
العدمي هو الذي جحدته حياته فجحدها، وكثير من الملحدين عدميون، ولكن هذا ليس بدليل على أن الإلحاد والعدمية مظهران من حالة واحدة
هذه ملاحظات سريعة على التمهيد، نوطئ بها الكلام عن نيتشه وفلسفته وقيمة تفكيره في عالم في عالم الفلسفة وأثرها في ألمانيا
(أبو قير)
إسماعيل أحمد أدهم