المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 28 - بتاريخ: 15 - 01 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٢٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 28

- بتاريخ: 15 - 01 - 1934

ص: -1

‌من جد الشتاء

الدكتور طه حسين

من جد الشتاء أن تهنئ الزيات بعيدين يطلع بهما عليه فجر يوم واجد، هو هذا اليوم الذي تظهر فيه الرسالة للناس، وتشرق بهما عليه شمس واحدة هي شمس يوم الاثنين، ويستقبل فيهما ابتسامتين ما أعرف أن في الحياة شيئاً أحب إليه ولا أحسي في نفسه وقعاً، ولا أجمل في قلبه صورة، ولا أشد إحياء في الأمل واستدعاء للغبطة، وإثارة للابتهاج منهما، إحداهما مقصورة عليه أو كالمقصورة عليه. استغفر الله، بل هي مقسومة بينه وبين شطر نفسه وشريكته في الحياة، وهي ابتسامة ابنه (رجاء)، والأخرى شائعة بينه وبين أصدقائه وأحبائه وخصومه وأعدائه في مصر كلها، وفي الشرق العربي كله، وفي كل طرف من أطراف الأرض تقرأ فيه اللغة العربية ويذاق فيها الأدب العربي، وهي ابتسامة بنته (الرسالة). فقد رزق الزيات في مثل هذا اليوم من العام الماضي هذين الوليدين العزيزين، فسعد بأولهما في نفسه وأسرته، وسعد بثنتيهما في نفسه وأمته، وأنفق عامه كله معنياً بنتشئ رجاء وتنمية الرسالة، يقصر جهد عقله على هذه، ويختص بفيض قلبه ذاك. ويجني من هذه كما يجني من ذاك هذه الثمرات الحلوة المرة، اللذيذة المؤلمة، التي يجنيها الأحياء من حب الأحياء والعناية بهم والانصراف إليهم عن كل شيء.

يبتسم رجاء للحياة فيبتسم قلب الزيات وتنعم نفسه، وتبتسم الرسالة للحياة فيبتسم عقل الزيات وينعم ضميره، تعرض الآم الحياة لرجاء فيكتئب قلب الزيات، ويأرق ليله وينغص نهاره، وتظلم الحياة في وجهه، وتعرض المصاعب للرسالة فيبتأس عقل الزيات ويقلق ضميره وتضيق به الأرض ويضيق هو بالأرض، لا يطمئن ولا يستريح ولا يتذوق لذة العيش إلا إذا استقبل النهار في بيته، وبابتسامة الرسالة خارج البيت. أليس من الجد أن نهنئ صديقنا إذا استدار العام وأقبل يوم الاثنين، فإذا رجاء يقبل على الحياة مبتسماً لها، مغتبطاً بها، آخذاً منها بهذا الحظ الحلو، الجميل الصفو، الخالص من كل شائبة، الذي لا يتاح إلى للأطفال، والذي أتيح لنا جميعاً في وقت من الأوقات، ثم محته من نفوسنا وقلوبنا وذاكرتنا هذه الأيام التي تمضي وهذه الليالي التي تتبعها، فإذا نحن لا نذكره ولا نقدره، وإنما نأسى عليه ونود لو استطعنا أن نحقق المستحيل فنسعد لسذاجته النضرة، ونحتفظ مع

ص: 1

ذلك بمصدر ما نكره من الألم والحزن، ومن الكآبة والشقاء، وهو العقل والضمير.

أليس من الجد أن نهنئ الزيات إذا استدار العام وأقبل يوم الاثنين، فإذا الرسالة تستقبل الحياة واثقة بإقبال القراء عليها وتأييدهم لها، وحرصهم على أن يستقبلوها كلما دار الأسبوع قوية نشيطة، ممعنة فيما هي فيه من تصوير الحياة الأدبية الشرقية، والآمال الأدبية الشرقية بما فيها من جد وهزل، ومن قوة وضعف، ومن أمل ويأس، ومن نور وظلمة، ومن نشاط وخمول. بل أن من الجد كل الجد أن نهنئ صديقنا بهذا اليوم السعيد لقلبه وعقله معاً. وأن نتمنى لصديقنا أن يستدبر الأعوام والأعوام، وأن يستقبل هذا اليوم كلما أتم الفلك دورته بهاتين الابتسامتين اللتين تملان قلبه وعقله وضميره وغبطة واطمئناناً لأداء الواجب واستعداداً للنهوض بأعباء الحياة.

ومن جد الشتاء أن نذكر لهو الناس بلذات الشتاء، وما أكثر لذات الشتاء وما أعذبها، وما أشد تنوعها واختلافها، وما أحسن موقع بعضها من القلوب، وما أجمل أثر بعضها في النفوس، وما أقل حظنا من الرغبة في خيارها والإقبال على طيباتها. أما دور السينما فحافلة والحمد لله في جميع ليالي الأسبوع، وفي جميع أيامه، كثيرة ولكنها على ذلك مزدحمة بالمختلفين إليها، مكتظة عليها تعرض عليهم كثيراُ من السخف وقليلاً جداً من القيم المفيد، وهم بذلك راضون، وفي ذلك راغبون، لأنهم لا يبتغون إلا هذه اللذة اليسيرة القصيرة التي تلهيهم عن هموم الحياة وأثقالها ساعات من ليل، أو ساعات من نهار، وأما دور التمثيل فالأمر فيها مختلف، منها العربي الذي يعيد ما يبدئ، ويبدئ ما يعيد، يصاحب الحياة دون أن يحيا، ويستقبل الأيام والليالي، لأن الأيام والليالي تمر به وتغمره كما تمر بكل شيء، وكما تغمر كل شيء. لا يحدث جديداً ولا يبتكر طريفاً، والناس مع ذلك يغشون هذه الدور في كسل، وفتور لأنهم تعودوا أن يغشوها كما تعودوا أن يغشوا الأندية والقهوات ينفقون فيها ساعات فارغة من حياة فارغة. ثم يعودون إلى بيوتهم بنفوس فارغة وقلوب فارغة وأجواف ممتلئة. والله يعلم بأي نوع من أنواع الطعام والشراب، وأنك لتسأل نفسك وتسأل الناس وتسأل الأدباء، وتسأل النقاد عن القصة الطريفة من قصص التمثيل والآية البديعة من آيات الفن التي استقبلنا بها فصل الشتاء، فلا تظفر إلا بهز الرءوس ورفع الأكتاف وابتسامة فيها السخرية وفيها الحزن، وفيها اليأس من الحياة والازدراء للحياة

ص: 2

والانصراف عما يجعل للحياة قيمة أو يجعلها خليقة بالتفكير والتقدير.

ومنها دار الأوبرا الملكية التي تنام تسعة أشهر، وتستيقظ ثلاثة أشهر من كل عام، تنام لأنها في بلد يحب النوم، وتستيقظ لأن قوماً من الأجانب يوقظونها كلما انتهى الخريف وأقبل الشتاء، وهم يوقظونها لأنهم يدعون إلى ذلك ويرادون عليه. تدعوهم إلى ذلك الدولة. لأنها لا تريد أن ننام طول العام، أو لان يظن بنا الناس أننا ننام طول العام، أو أن يزورنا السائحون فلا يجدوا عندنا ما يلهيهم ويريحهم من تعب النهار. ويدعوهم إلى ذلك ضيفنا الأجانب الذين لا ينامون لا في الصيف ولا في الشتاء، ثم أيقاظ في بلادهم إذا أقبل الصيف، وهم أيقاظ في بلادنا إذا كان الشتاء، هم يلهون في بلادهم على حساب أنفسهم إذا أقبل الصيف، وهم يلهون في بلادهم على حسابنا نحن إذا أقبل الشتاء، والغريب أننا نلهيهم ولا نلهو معهم. وحق الضيافة على أقل تقدير يقضي علينا بأن نشاركهم فيما نقدم لهم من اللهو. ولكن أحصيت لي الطرابيش التي كانت في الأوبرا يوم الاثنين الماضي. فلم تبلغ العشرين. فأما العمائم فما لها وللأوبرا؟ وكيف يظن بها أن تختلف إلى هذه الدار؟!

ص: 3

‌النفس والرقص

للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري

ترجمة الدكتور طه

- 3 -

أركسيماك - أي أتكتيه! ما أشد إتقانك للقرب!

فيدر - كأن الموسيقى تستردها في هدوء، كأنها ترفعها. . .

أركسيماك - إنما تغير الموسيقى نفسها

سقراط - أي آلهة الفن، إن قوتكن لبالغة في هذه اللحظة التي تريد أن تموت. يا له من تعليق حلو للأنفاس وللقلوب. . . إن الثقل ليسقط تحت قدميها، وهذا الرداء العظيم الذي يسقط في غير صوت ينبئنا بذلك. لا يرى جسمها إلا متحركاً

أركسيماك - لقد عادت عيناها إلى الضوء.

فيدر - لنستمتع بهذه اللحظة الحلوة التي تغير فيها إرادتها! كأنها الطائر الذي يصل إلى حافة السقف نفسها ثم يقطع ما بينه وبين المرمر الجميل من صلة، ويسقط في طيرانه.

أركسيماك - لا أحب شيئاً حبي لما يريد أن يحدث، حتى في الحب لا أجد ألذ من الشعور الأول. والفجر أحب ساعات النهار إلي. لهذا أريد أن أرى في شيء من الحنان ظهور الحركة المقدسة على هذه الفتاة الحية. أنظر. . .! إنها تنشأ من هذا اللحظ المنزلق الذي يجذب في قوة رأسها ذا الأنف الحلو إلى كتفيها المضيئتين، وهذا العصب الجميل كله، عصب جسمها الصريح القوي، يظهر ويلتوي شيئاً فشيئاً من العنق إلى العقب. ثم تمضي الرعشة في كل شيء. ويصور في بطء مولد وثبة. ويحظر علينا أن نتنفس حتى تنبع هذه الوثبة ملائماً في تقدير خفي مفاجئ لطرق الصنج الذي يمزق الهواء.

سقراط - ما أعجبها! هاهي ذي تدخل في الاستثناء وتمضي في غير الممكن. إن نفوسنا لمتشابهة أيها الصديقان أمام هذا السلطان الذي هو واحد كامل بالقياس إلى كل واحدة منها. . . إنها لتشرب معاً كل ما هو جميل.

أركسيماك - إنها لتستحيل كلها إلى رقص وتفرغ كلها للحركة الكاملة.

ص: 4

فيدر - كأنها قبل كل شيء تمحو بهذه الخطوات التي يملؤها العقل من الأرض كل تعب وكل حمق. وهاهي ذي تتخذ لنفسها منزلاً يرتفع قليلاً فوق الأشياء كلها، وكأنها تهيئ لنفسها عشاً في ذراعيها الناصعتين. . ولكن ألا يظن الآن أنها تنسج لنفسها بقدميها بساطاً من الاحساسات لا يكاد يحد. هي تلائم وتخالف وتنسج الأرض بالزمن. ياله من أثر بديع هذا العمل القيم تأتيه بإبهاميها العاقلتين اللتين تهجمان وتختلسان، وتعقدان وتحلان، وتتطاردان، ثم تطيران. . . ما أرعهما! ما أنشطهما هاتين الماهرتين في إنشاء اللذة التي ينفق فيها الوقت الضائع!. . . إن هاتين القدمين لتتناغيان وتختصمان كأنهما حمامتان. إن نقطة من الأرض لتثير بينهما من الخصومة ما تثيره الحبة بين الحمامتين. ترتفعان معاً ثم تصطدمان في الهواء أيضاً. إني لأقسم بآلهة الفن ما اشتهت شفتاي قط قدمين أكثر مما تشتهيان هاتين القدمين.

سقراط - وكذلك تحسد شفتاك هاتين القدمين البارعتين على فصاحتهما البالغة، وتود لو أعارتا كلماتك جناحيهما ولو زينتا ما تقول بوثباتهما.

فيدر - أنا؟. . .

أركسيماك - لم يكن يفكر إلا في أن ينقر حمام الأقدام. وهذه نتيجة لعنايته الحادة التي يختص بها منظر الرقص. أي غرابة في هذا يا سقراط؟ أي شيء أدنى إلى السر الساذج الجميل، إن صديقنا فيدر مسحور بهذه الحركات الحفية الظاهرة المضيئة التي تزدهي بها إبهاماً (اتكتيه) هو يلتهمهما بعينيه، هو يمد إليهما وجهه، هو يظن أنه يحس على شفتيه جرى أظفارهما السريعة. لا تعتذر أي فيدر العزيز، لا يأخذك اضطراب ما. فأنت لم تشعر بشيء إلا وهو مباح غامض أي ملائم كل الملازمة لطبيعة الناس، ألسنا عبثاً منظماً؟ وتأليفنا الحي أليس اختلاطاً نعمل في نظام، واضطراباً يحدث آثاره؟ أليست الحوادث، والرغبات، والخواطر تتغير في نفوسنا على أشد الأنحاء ملاءمة للضرورة ومباعدة للفهم. . . أي اختلاط من العلل والآثار.

فيدر - ولكنك وضحت بنفسك أحسن التوضيح ما شعرت به أنا شعوراً ساذجاً. سقراط أيها العزيز فيدر في الحق أنك لم تتأثر بغير سبب. وكلما نظرت أنا إلى هذه الراقصة التي لا توصف تحدثت إلى نفسي عن الأعاجيب وأسالها كيف استطاعت الطبيعة أن تودع هذه

ص: 5

الفتاة النحيلة الضئيلة مقداراً ضخماً من القوة والسرعة إلى هذا الحد؟ أتوجد أسطورة لهرقل وقد استحال إلى طائر؟ وكيف يستطيع هذا الرأس المحدود كأنه قبضة الصنوبر أن يثير آلافاً من المسائل والأجوبة بين أعضائه وهذه المحاولات المذهلة التي تحدثها - متخلصة منها دائماً متلقية إياها من الموسيقى ثم رادة لها في سرعة الضوء.

أركسيماك - وأنا إنما أفكر في قوة الحشرة التي تستطيع بهذه الحركات التي لا تحصى في أجنحتها أن تقيم صوتها وثقلها وشجاعتها.

سقراط - هذه تضطرب في شرك لحظنا كأنها الذبابة الأسيرة، ولكن عقلي الطلعة يجري في أثرها ويريد أن يلتهم ما تحدث!

فيدر - أيها العزيز سقراط! ألا تستطيع إذن أن تستمتع إلا بنفسك؟

سقراط - أيها الصديقان ما حقيقة الرقص؟

أركسيماك - أليس الرقص ما نرى؟ وأي شيء أوضح في تعريف الرقص من الرقص نفسه؟

فيدر - صديقنا سقراط لا يرضى حتى يصل إلى نفس كل شيء بل إلى نفس النفس.

سقراط - ولكن ما الرقص وما عسى أن تقول الخطى؟

طه حسين

ص: 6

‌أحدث المبادئ الاجتماعية؟!

للأستاذ حسن جلال

المنظر الأول

(شابان - فتى وفتاة عليهما سيما الجد الذي يقارب العبوس، يدخلان)

(المكتب) ثم يتقدمان إلى صدر المكان حيث تجلس العاملة)

المنوطة بأعمال المكتب فتدور بينهما المحاورة الآتية التي تبدأها العاملة عادة)

فتاة المكتب - زواج أم طلاق؟

الفتى - طلاق

- هل لكما أبناء؟

- كلا!

- وما اسمك أيها السيد؟

- اسمي. . . . .

- وما اسمك أيتها السيدة؟

- اسمي. . . . .

- هاكما الأوراق

(يستلم كل من الشابين ورقته ولكنه يظل واقفاً في مكانه كأنه لا يصدق أن كل ما كان بينه وبين صاحبه قد انتهى على إثر هذا الحوار البسيط. . . وتتنبه فتاة المكتب فتدرك ما هما فيه وتقول):

- لقد انتهى كل شيء.

- أليست هناك إجراءات أخرى؟

- كلا. لقد أصبح كل منكما حراً. إن شاء بقي كما هو وإن شاء تزوج بمن يشاء!

- شكراً. (وينصرفان)

المنظر الثاني

(زوج آخر من الشبان. ولكنه فتى باسم وفتاة باسمة. يتقدمان أمام فتاة المكتب ليحلا محل

ص: 7

الزوج السابق)

- زواج أم طلاق؟

- زواج!

- ما اسمك أيها السيد؟

- اسمي. . . . . . .

- وما اسمك أيتها السيدة؟

- اسمي. . . . .

- دونكما الأوراق. أرجو لكما وقتاً سعيداً!

شكراً (وينصرفان هذه المرة بسرعة)

هذه هي العملية التي يقال إنها تتكرر اليوم عشرات المرات في (مكاتب الزواج والطلاق) في روسيا الحمراء. وهي لا تشبهها في سرعتها وبساطة إجراءاتها إلا عمليات تناول الطعام في محلات (السندوتش) الرشيقة التي تملأ القاهرة اليوم. قضمة من بعدها أخرى، ثم كوب الماء ودفع القرش. وتنتهي العملية هنا أيضاً مما تنتهي به عادة في بلاد السوفيت:

- شكراً (وينصرف)

ترى أهو لصالح الجماعة هذا النظام، أم هو هادم لكيانها؟ أما أنصاره فيقولون إن (الزواج) كما يعرفه العالم اليوم لم يزد على أن يكون إحدى العادات المدنية التي اعتادها الإنسان فخرجت به عن فطرته الأولى حيث الحرية التامة وعدم التقيد بأي قيد. وإنه لجدير بإنسان الجيل الحاضر أن يتحرر من هذا القيد كما تحرر من كثير من أمثاله. لقد خبر الناس نظام الزواج أجيالاً من بعدها أجيال، فهل سعدت الإنسانية باتباعه أم شقيت؟ وهل استراح الإنسان في حظيرة الأسرة وارتقى مستواه. أم فقد تحت أثقالها حيويته، وتبددت داخل أسوارها مطامعه وآماله، وناء بأعباء العيش وتربية البنين ورعاية البنات؟

ثم يقولون وما شأن هذا النظام بالحياة الفاضلة التي ينشدها الإنسان؟

أليست جريمة الزنا وليدة هذا النظام؟

وهل في العالم اليوم جريمة أوسع انتشاراً من هذه الجريمة التي يمارسها الملوك والصعاليك على السواء؟

ص: 8

وإذا كان هذا النظام هو الذي طوح بالجماعة إلى هذه النهاية المحزنة التي أصبحت الرذيلة شعارها. أفليس من العقل أن يعدل الإنسان عن هذا النظام؟

ثم يتساءلون متى كانت صلة الرجل بالمرأة صلة دائمة في طبيعتها حتى يحتم لها الإنسان هذا الدوام في صورة عقد الزواج الحالي؟ ألم يثبت عن تجربة أن صلة الرجل بالمرأة لا يمكن أن تدوم حية إلى أبعد من بضع سنوات؟ ألم تنته هذه الصلة عند ملايين الناس في كل زمان ومكان إلى الفتور والبرود؟ ألم تعالج بعض الأديان هذه الحالة بوضع نظام آخر فيه معنى التجديد. وحاولت التخفيف من قيود الزوجية لا بتيسير الطلاق وحده بل بإباحة تعدد الزوجات؟ ففيم التقيد إطلاقاً بنظام الأسرة؟ إن انهيار نظام الملكية الفردية في روسيا يؤدي حتماً إلى زوال السرقة، وكذلك انهيار الأسرة الحالي يؤدي حتماً إلى زوال جريمة الزنا ويمهد الطريق لأن تنتشر في الكون حياة فاضلة سعيدة!

هذا ما يقوله الأنصار

فاسمع ما يقوله المعارضون:

لا شك أن السرقة جريمة شنيعة تتنافى مع طبيعة الأمن الذي ينشده كل إنسان سواء أكان من أنصار هذا المذهب أم ذاك. ولا شك في أن الزنا جريمة مرذولة لأنها أقسى أنواع السرقات. أليس لصها يسرق القلوب؟ وهل المرء إلا قلبه! ولكن أليس أقرب إلى الهزل منه إلى الجد أن يعالج الإنسان داء السرقة في المجتمع بإباحة أموال الناس عامة؟ وأن يعالج داء الزنا بهدر الأعراض؟ وهل الشيوعية إلا هذه الإباحة والهدر. فالمال فيها مال الدولة والأبناء فيها أبناء الدولة ولا شيء فيها إلا هو للدولة!

الدولة أبوكم!

الدولة أمكم!

الدولة دينكم!

هذه هي صيحات الشيوعية وتعليماتها لأهلها! وهذا هو المذهب الذي يدعو إليه الخارجون على نظام الأسرة الحالي. فهم في سبيل مكافحة الفقر عند المعسرين يفقرون الأغنياء. وفي سبيل إخفاء معالم جريمة الزنا يريدون أن يجعلوا من العالم كله ماخورة واحدة!

وبعد

ص: 9

فقد شهدت منذ قليل رواية جميلة عنوانها ` وترجموها بقولهم (مخالفة الشريعة) والرواية تسير حوادثها هكذا:

يقبل من أقصى الأرض فتى وفتاة يريدان الالتحاق بإحدى الجامعات (الروسية) الحديثة. والشابان زوجان. ويرد الشاب أن يلتحق بكلية الطب فيصادف فيها الأستاذ ر - وهو ركن من أركان السوفيتية. فينفث في الطالب من روحه، ويتأثر الطالب بنفثاته، لأنه بعجب بعلمه ومقدرته في فن الجراحة الذي يدرسه عليه، وتكون من تعليمات الأستاذ لتلميذه أن (الحب حر) وأن رباط الزوجية معطل للنبوغ مقيد للمواهب. ويضرب له المثل بنفسه فيريه أنه هو غير متزوج، ولكنه يعاشر فتاة يحبها حباً كثيراً، وأنعه يسعد بهذا الحب أضعاف السعادة التي يمكن أن يشعر بها الأزواج. وتنسكب هذه المعاني انسكاباً في قلب الفتى الغض: فتفتر همته في حب زوجته الشابة لأنها ظللتها تلك الغشاوة التي نسجها من حولها أستاذه، وتحس الفتاة بما جد على فتاها من التطور والتحول. وتدرك أن أستاذه هو السبب في ذلك. فتتوجه إليه وتستغيث به في أزمتها التي تهدد حياتها، وتتوسل إليه أن يقوم طباع تلميذه وان يخفف من تلقينه هذه المبادئ التي توشك أن تهدم هناءهما. فيقول لها الأستاذ في جمود:

- وماذا عليك إن تركك فتاك؟

- أن أحبه

- سوف تنسين!

- إن الحب لا ينسى!

- أنت طفلة ينقصك علم كثير وخبرة كثيرة، كل شيء يا بنيتي يستطيع الزمن أن يجر عليه ذيل النسيان

- ولكنني لا أطيق أن أراه يعلق بفتاة غيري.

- هي الغيرة إذن! لقد أصبحت هذه العاطفة عتيقة عندنا يا صغيرتي! ونحن نعمل على مطاردتها من صدور الناس لأنها سر شقائهم. ثم ما بالك أنت لا تعلقين بفتى آخر فينسى كل منكما صاحبه في جو حياته الجديدة؟ إن الحب حر في هذه البلاد!

وتنصرف عنه الفتاة يائسة

ص: 10

وتشاء المصادفة، أن ترتاح في الوقت نفسه رفيقة الأستاذ إلى طلعة الطالب وفتوته فتعمل على إغوائه حتى يتم لها ذلك. وعندئذ توعز إليه أن يطلق زوجته الأولى ليتزوجها هي، ويقبل الفتى على ذلك متأثراً بروح أستاذه وتعليماته. وبجمال معشوقته وفتنتها وإغوائها ويتم بينهما الزواج.

ويتلمس الأستاذ فتاته فلا يجدها، فيظل يبحث عنها في كل مكان حتى يهتدي إليها أخيراً بين ذراعي تلميذه. .

وهنا ذروة القصة ونقطة انقلابها!

ماذا ترى يكون موقف الأستاذ إزاء هذا المشهد البديع؟

لقد كانت تقضي تعليماته أن يدير ظهره ويذهب من توه يبحث عن فتاة أخرى ينسى عندها حبه الأول.

ولكنه بدل أن يفعل ذلك وقف يحدق ثم يحدق ثم صر أسنانه وهو يوجه القول إلى فتاته:

- ماذا تصنعين هنا؟

- الحب حر! أليس هذا من مبادئك؟

ولم يكن من الأستاذ إزاء هذا الجواب المفحم إلا أن تسللت يده في حركة خفية فأخرجت مسدسه من جيبه. وكانت طلقتان أصابت إحداهما الطالب المسكين فصرعته، وأصابت الأخرى عروسه فطرحتها إلى جانبه!

وكانت هذه الخاتمة المروعة هي التطبيق العملي البديع لنظريات الأستاذ الخلابة في (حرية الحب) وفي مقدرة (ذيل الزمن) على نشر النسيان بين الناس، وفي بيان ما أصاب عاطفة الغيرة من الهزائم على يد هذه المذاهب الحديثة!

حسن جلال

ص: 11

‌الشعر

للشعر أثر كبير في تاريخ الحياة الإنسانية، ولا يستطيع أحد أن ينكر

ما أفادها بنغماته السحرية الجميلة، وموسيقاه الناطقة المؤثرة، وإذا كان

العلم يعطينا مدداً نافعاً، وفوائد جليلة، فإن الشعر يمنحنا هبة أعظم

شرفاً، وذلك لأنه يفتح على أرواحنا النوافذ المغلقة فيصلها بالحياة التي

تجري أمامها، والنور الذي ينتشر حولها، ثم هو يعرض أمام أنظارنا

الجمال الهاجع في الكون مجلواً في أبهى حلله، ذلك الجمال الذي هو

زهرة الحياة الدنيا وفتنتها فما هو هذا الشعر الذي يقدم لنا كل هذه

الهبات؟

أما أساتذة مدارسه التي أخذت تعلمه في الشرق فقد اهتدوا منذ القرون الأولى للهجرة إلى تعريفه بأنه (الكلام الموزون المقفى) ولا شك أن هذا تعريف قاصر لأنهم تناولوا به السور الخارجي الذي يحيط بمدينة الشعر فقط، أما المدينة نفسها وما تضج به من حياة وحركة، وما تموج به من حسن وجمال، فلم تسترع أنظارهم، ولم تجذب انتباههم، ولعل رواية الشعر الجاهلي هي التي ورطتهم في هذا التعريف الأبتر، فقد كان الشعر الجاهلي يروى سواء أكان بسيطاً أم لم يكن، وسواء أكان مؤثراً أم لم يكن، وسواء أكن مفهوماً أم غير مفهوم، وكان الرواة لا يطلبون في الشعر إلا أن يطن بالوزن والقافية، وأما المعنى الذي هو روح الشعر فلم يلق منهم عناية ولا دراية إلا في الأقل القليل، فلما أخذت المدارس تعلم الشعر وتقننه فهمت أن الوزن والقافية هما كل شيء فيه، واستن لها السنة الخليل بن أحمد أستاذ المدرسة الأولى فقد قال: والشعر هو ما وافق أوزان العرب، فمادام الكلام قد ارتدى برداء الوزن فهو شعر ولو لم يكن فيه روح تنبض، ولا حياة تخفق، والذي يدعو إلى الدهش هو أن هذه الفكرة السقيمة في الشعر استمرت قائمة في هذه المدارس طوال العصور المختلفة كأنها قضية منطقية مسلم بها، ولم يفكر الأدباء في الخروج عليها. نعم أتيح للجاحظ أن يتأثر بالمدرسة اليونانية فيقول:(إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير) ولكن للأسف لم يعن هو نفسه بهذا المعنى فيما جمع من الشعر بكتابه البيان

ص: 12

والتبيين، وعلى الرغم من أن ابن خلدون انتقد المدارس السابقة في تعريفها للشعر، استمرت عند فكرتها، ولم تحاول أن تعتق نفسها من رق هذا الخطأ، ولا أن تطلق عقولها من أغلال هذا التقصير.

والأمر في تعريف الغربيين للشعر على خلاف هذا، ولنلم بطرف من تعاريفهم، ولعله يلقي على الموضوع أشعة توضحه، يقول مستر بلوك: إنه لا يمكن تعريف الشعر بشيء سوى السحر، وكان أجدر به أن يعدل في كلامه فيقول إنه لا يمكن تشبيه الشعر بشيء سوى السحر، ومهما يكن فتعريفه لا يعطينا شيئاً أكثر من فكرة أولية لا تقبل التحليل، وقال مستر تيفر: إن كلمة الشعر ككلمة الجمال من الكلمات المبهمة التي تشمل مجموعة من الأشياء المختلفة تمام الاختلاف بالنسبة لاختلاف المنتجين، وانتهى إلى أنه يمكن تعريف الشعر بأكثر من هذا التعريف الرديء لمعاجم اللغة، واعترف مستر لمبورن بأنه لا يمكن تعريف الشعر إلا إذا عرفنا الحياة والحب، اللذين يترجم عنهما.

وهكذا نجد النقاد من الإنجليز مضطربين أمام تعريف كلمة الشعر، فبعضهم يعرفها تعريفاً ناقصاً، وبعضهم يعرفها تعريفاً مبهماً، ويحجم كثير عن تعريفها لأنه لا يمكن تعريفها، أو لأنها ككلمة الجمال لا يمكن تحديدها، وبمعنى أوضح لأن الشعر عمل فني، وكأنما كتب على كل عمل فني ألا تحيط به التعاريف إحاطة تامة، وأياً كان فكلمة الشعر تعني شيئاً موجوداً أمامنا، يشرح خواطرنا، ويخاطب قلوبنا، ويؤثر في نفوسنا تأثيراً جميلاً، وإذا كنا لا نستطيع أن نحدد الشعر تحديداً تاماً يبين ماهيته فليس من العسير أن نقف على أساسه، ولعل أقدم من تكلم في هذا الموضوع كلاماً مستفيضاً هو أرسطو فقد قال: إن الابتكار أساس الشعر، فالشعر عنده صورة مخترعة يخلقها الشاعر بقوة خياله، والوزن عنده شيء إضافي يلحق بالصورة حين يتم خلقها في قلب الشاعر، وماذا؟ أيخترع الشعراء الأوزان التي ينظمون عليها كلامهم؟! وهل يخلق الشعراء الألفاظ التي يوقعون عليها نغمات عواطفهم؟ إن الوزن واللفظ ملك للغة، ليس لأحد أن يدعي شيئاً منهما لنفسه وإنما الذي يستطيع الشاعر أن يعزوه إلى نفسه فيصدق هو الصورة الطريفة التي يبتدعها، وهذه النظرية جميلة في ظاهرها، ولكنها ليست دقيقة كل الدقة، وعلى الرغم مما يظهر فيها من المغالاة في تقدير الشعر استمرت محتلة أفكار النقاد مدداً طويلة، حتى جاء المؤرخ اليوناني

ص: 13

(ديونيسيوس) صاحب الأبحاث البلاغية الشهيرة، فعلق على الأوديسا تعليقاً انتهى فيه إلى أن أساس الشعر إنما هو الأسلوب، وقد تبعه كثير من النقاد في أوائل العصر الحديث، كل منهم يخطئ نظرية أرسطو، ويبرهن على أن الأسلوب والوزن لهما أثر كبير في صناعة الشعر والواقع أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد، فلا بد له من الصورة الفنية، والموسيقى الجميلة، والخيال البارع حتى يستطيع أن ينهض من الأرض فيحلق فوق رءوسنا في السماء.

وقيمة الشعر ترجع إلى أنه يترجم عن احساسات الإنسان محاولاً أن يوقظ العواطف المقابلة في قلوب الآخرين، ومادامت هذه هي قيمته، فكل منا شاعر إلى حد ما، لأن كلاً منا يملك إحساساً، وقوة بها يترجم للآخرين عما يجيش بصدره، ولكن يجب أن نعرف أن هؤلاء الذين نسميهم شعراء هم في الواقع أرق من الشخص العادي شعوراً وألطف منه وجداناً، وهم أقدر على التعبير عما يحسون ويتأثرون، قد انقادت إليهم أعنة الكلام واستسلمت لهم شوارد الأوزان، فسهل عليهم تصوير ما في قلوبهم وإخراج ما تطفح به صدورهم، والذين يعنون بدراسة الشعر ونقده يجدون مواطن كثيرة لا يجذب جمالها قلوبهم، ولا يسترعي حسنها عقولهم، يلفتهم الشاعر إليها بصوره الساحرة التي يعرضها، وموسيقاه الجميلة التي يغني بها، ولقد أحسن كيتس حين قال:(ربما جعل الله لك يا بني هذا العالم جميلاً في نظرك كما هو جميل في نظري) وحقاً أن الشاعر يتراءى له العالم جميلاً أو قبيحاً أكثر مما يتراءى لنا، وكثيراً ما يجعل الأشياء التي تبدو لنا قليلة القيمة أنيقة معجبة بما يصور من جلالها وما يظهر من جمالها.

وأول محاولة في الشعر هي ترجمة العاطفة الثائرة في قلب الشاعر، فقياس الشعر ليس هو المنطق، وإنما هو العاطفة، ونحن لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر عقلاً من غيره، بل لأنه يجعلنا نشعر بحياة قلوبنا وأحاديث وجداننا، والتعبير العاطفي هو الشعر ولكن إذا حمل لباساً جميلاً، وشكلاً أخاذاً وموسيقى بارعة، فإذا لم يحمل ذلك لم يكن شعراً بالمعنى المعروف، لأن الشعر لا يتطلب حياة عاطفية فقط، بل هو يتطلب إلى ذلك الأسلوب الجميل والموسيقى المؤثرة، ويجب أن تكون الموسيقى قوية، وطبيعية، وحرة، لتستطيع عواطف الشاعر وأفكاره أن تبقى خالدة على وجه الدهر، أما إذا كانت الموسيقى

ص: 14

ضعيفة واهنة، أو نافرة جامحة، أو أسيرة سجينة، فإنها تفسد على الشاعر شعره، والموسيقى الشعرية لا تستطيع أن تحيا بدون التعبير العاطفي لحظة من الزمن، بخلاف التعبير العاطفي فإنه يستطيع أن يحيا، بدون الموسيقى فيكون نثراً أدبياً، وبقوة تعبيره وجمال تصويره تكون قيمته في هذه الحياة الفنية التي وقف عندها.

ويجب أن تكون لغة الشعر سلسة عذبة، جميلة في مرأى العين وسمع الأذن، لا يعوزها الحسن ولا ينقصها الرواء، كما يجب أن يكون الأسلوب متماسكاً متراكباً ليعبر تعبيراً واضحاً مسرعاً عن غايته، وحسن البيان ضروري في الشعر حتى لا يقعد به سوء التعبير عما يريد الإفصاح عنه، والواجب أن يهتم الشاعر بهذه الأشياء جميعها لأنها اللباس، وكثيراً ما يدل اللباس على صفات لابسه.

وكل العواطف صالحة لأه تكون موضوعاً للشعر يترجم عن مستورها ويفصح عن خبيئها، ولكن ليست العواطف كلها في مرتبة واحدة غير متفاوتة، بل منها القوي ومنها الضعيف، فإذا ترجم عن عاطفة ضعيفة فأن شعره يتدلى معها إلى أسفل فتنقص من حسنه وتغض من روعته، ويجب أنه يكون القلب الذي يعبر عن هذه العواطف سليماً غير مريض، فأن القلب هو الذي يمثل مرض الإنسان، أما القلب المريض فلا يجد من يحمله، وما أشبه العواطف بجداول مياه تنساب من لقلب فيميلها كيف يشاء.

وخير العواطف ما كان يبعث على الحياة والقوة كعاطفة الإعجاب التي تملأ قلب الشاعر فتجعله يصف الأسد مثلاً، وسمو هذه العاطفة راجع إلى أن القوة مظهر الحياة، وهي تعجب الإنسان أكثر من أي مظهر آخر، فالإنسان دائماً يعتز بقوته ويخفي سوأة الضعف التي قد تتراءى له في زوايا نفسه، يتجاهلها، ويتعامى عنها، ويبعدها عن نفسه كلما ألمت به، ولهذا كانت العواطف التي تبعث على الحزن ضعيفة، لأن الألم والبكاء تنفر منهما النفس وتفر بطبيعتها إذ الإنسان لا يرضى أن يعترف بضعفه، وإذا اعترف لم يبق على هذا الاعتراف طويلاً، ومن العواطف الضعيفة عاطفة المدح فإنها عاطفة شخصية تتصل بنفس الشاعر وذاته، ولا تعبر عن شيء عام يشترك فيه الجميع. نعم إن تخلصت من ذاتيتها، فمدحت المروءة أو حضت على خلق كريم تغير حالها، وعلت مرتبتها، لأنها حينئذ تفصح عن شيء يشترك فيه الجميع ويقدره.

ص: 15

والعاطفة، ليست وحدها كل شيء في الشعر بل يجب أن تضاف إليها الفكرة التي تنظمها وتهيئها للحياة والظهور، وكل الفنون ماعدا الموسيقى لابد فيها من الفكرة حتى تتلذذ العاطفة، وليس من الواجب أن تخترع الفكرة، وإنما الواجب أن تظهر في معرض جديد يوضح عمل صاحبها وقوة إيمانه بها، والشعر قد يكون فكراً خالصاً فيبحث في أعمق المسائل التي تشغل عقول الفلاسفة من مثل طبيعة الخير والشر، وحينئذ لا يكون شعراً بالمعنى الصحيح إلا إذا امتزج بالقلب فأصبح عاطفة قوية تفيض منه لا من العقل ، تخاطب الشعور والوجدان قبل أن تخاطب الأفكار والأذهان ، ولقد أحس قدماؤنا حين قالوا (الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان).

والشعر في الواقع رسالة كرسالة الأنبياء، فهو يقوم على الإلهام أكثر من أي شيء آخر، والأيمان بالفكرة ووضوحها هما الملكان اللذان يوحيان إلى الشاعر بالمعاني الجميلة المعجبة، والصور الفريدة المعجزة، فيخرج للناس أفكاره نيرة واضحة، كأنها وهج الحريق في الليل البهيم، فر تجد تكلفاً ولا تعملاً، وإنما هي زهور جميلة ينثرها الشاعر على رغمه كما ينثر الزيتون زهوره، وما أشبه الفكرة القلقة يقولها الشاعر بالعصفور المضطرب الحيران التائه من عشه، ويجب أن تكون الفكرة قوية، ليكون الشاعر مبدعاً، رائعاً حتى إذا أراد أن يحلق في السماء انتهى إلى أعلاها فكان نجماً زاهراً بين نجومها، وللأسف نجد الشعر العربي تعوزه القوة في كثير من الأحيان، ولعل هذا هو السر في أن الشاعر العربي إذا أراد أن يحلق فوقنا ارتفع ارتفاع السحاب في السماء الدنيا ولم يستطع الارتفاع إلى أعلى أكثر من ذلك، لأن أجنحته ليست قوية، على أنه سرعان ما يدنو إلينا وينزل من سمائه إلى أرضنا.

والعواطف والأفكار لا تكون وحدة الشعر بنفسها، وإنما الذي يصنع ذلك هو الخيال الشعري، فهو المنظم للأفكار والعواطف وهو المخرج لها، هو الذي يجمعها وينفحها بروح من لدنه فتستوي ناطقة معبرة نشخص لها ونعجب بجمالها، وإذا شاهد شخص حديقة جميلة في مكان وجاء يقول: لقد رأيت حديقة بها أزهار وأشجار ومياه لم يكن هذا شعراً، وإنما الشعر حقاً هو الذي يحمل للناس أبهة الخيال فيظهر للناس في وحدة جميلة بديعة تسترعي الأنظار، وتخلب الألباب، وأي خيال أجمل من قول كيتس (يوجد الغد مبرعماً في نصف

ص: 16

الليل)

شوقي ضيف

بكلية الآداب

ص: 17

‌الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية

3 -

البرنامج الداخلي في طور التنفيذ

للأستاذ محمد عبد الله عنان

رأينا كيف نشأت الوطنية الاشتراكية الألمانية واستمدت قوتها من عوامل اليأس والفوضى التي غمرت الشعب الألماني عقب الحرب، ومن مختلف المصائب والمتاعب التي توالت عليه من جراء شروط الصلح وأعبائه، ومن تفاقم الخطر الشيوعي، وفشل الديموقراطية والنظم البرلمانية في معالجة الحالة وتسيير الشؤون، من تفاقم العطلة والأزمة الاقتصادية؛ هذا من الناحية السلبية، وأما من الناحية الإيجابية فإن وعود الوطنية الاشتراكية في العمل على تحقيق وحدة ألمانيا وسلامها ورخائها؛ ومكافحة الخطر الشيوعي وحل مشكلة العطلة، وإنهاض الزراعة والصناعة والتجارة ومعالجة الأزمة الاقتصادية بوجه عام؛ ثم في تحرير ألمانيا من عسف الظافر ومن أعباء معاهدة الصلح؛ كانت كلها تبث الأمل والانتعاش في الجموع وفي الشباب بنوع خاص، وتحشد خول علم الوطنية الاشتراكية ملايين الأنصار.

والآن لنر كيف عملت الوطنية الاشتراكية لتنفيذ برنامجها الداخلي منذ قبضت على مقاليد الحكم في 30 يناير الماضي.

لم تمض أسابيع قلائل حتى استأثر الهر هتلر وحزبه بكل سلطة حقيقية، وغمر تيار الوطنية الاشتراكية ألمانيا من أقصاها إلى أقصاها، وبدأت ككل حركة ثورية تنفذ برنامجها بمنتهى العنف والسرعة. فوجهت ضرباتها الأولى إلى الشيوعية والديموقراطية؛ سحق الشيوعية أو الماركسية من غاياتها الرسمية كما بينا، ولكنها اتجهت إلى سحق كتلة اليسار كلها باعتبارها مسئولة عن كل مصائب ألمانيا منذ خاتمة الحرب؛ وجدت في مطاردة الحزب الشيوعي فمزقته أبلغ تمزيق وصادرت مراكزه وأمواله وصحفه ونشراته، واعتقلت كل زعمائه ونوابه وأنصاره، وسحقت دعايته بكل ما وسعت، ومزقت الحزب الديموقراطي الاشتراكي أعظم الأحزاب البرلمانية منذ نهاية الحرب، ونكلت بزعمائه ونوابه وأنصاره، واعتقلتهم كالشيوعيين آلافاً مؤلفة، وصادرت كل مراكزه وصحفه، واختفت الشيوعية والديموقراطية من ألمانيا بسرعة مدهشة، في الظاهر على الأقل؛ وحققت الوطنية الاشتراكية الألمانية في ذلك ما حققته الفاشستية الإيطالية يوم قيامها، بيد أنها كانت أشد

ص: 18

عنفاً وقسوة؛ وكانت وسائلها أشد إثارة وإغراقاً، ولا ريب أن سحق الوطنية الاشتراكية للشيوعية كانت عملاً جليلاً، بل لعله أجل خدمة أدتها إلى ألمانيا وإلى الدول الغربية كلها، ذلك أن البلشفية (الشيوعية) خطر اجتماعي على النظام والمدنية كلها، وكانت قد تقدمت في ألمانيا إلى حدود مروعة، وكانت تحمل أكبر تبعة فيما أصاب ألمانيا من الاضطراب والخراب والفوضى، وكانت ألمانيا ومازالت حاجز البلشفية من الشرق، بيد أن الوطنية الاشتراكية كانت متطرفة مغرقة في مطاردة الديموقراطية، وكانت تقصد بسحقها إلى غايات حزبية لا إلى غايات قومية، بل لم يقف الحزب الوطني الاشتراكي عند سحق كتلة اليسار، ولم يطق أن يرى إلى جانبه أي حزب آخر في ألمانيا مهما حمدت مبادئه ووسائله، فمال على الحزب الوطني الألماني، وحزب الوسط الكاثوليكي؛ وهما الحزبان اللذان حالفاه وعاوناه على استخلاص الحكم والسلطة المطلقة؛ وانتهى بحلهما وإدماج أنقاضهما فيه، وبذلك اختفت كل الأحزاب البرلمانية السابقة من ميدان السياسة الألمانية، واستطاع هر هتلر أن يفرض الوطنية الاشتراكية على ألمانيا كلها.

ولما كانت الوطنية الاشتراكية حركة طغيان مطلق، وقد بدأت بتعطيل الحياة الدستورية، فقد كان طبيعياً أن تعمل على إخماد جميع الحريات الدستورية حتى لا تقف عثرة في سبيلها. ولم تكتف في ذلك بمطاردة خصومها السياسيين إلقائهم في ثكنات الاعتقال آلافاً مؤلفة دون أية تهمة، وإصدار القوانين الاستثنائية المختلفة بل عمدت إلى الصحافة مظهر الرأي الحر فسحقتها وأخضعتها لرأيها ووحيها، وجعلتها تابعة لوزارة الدعاية التي أنشأتها؛ وعطلت كل صحيفة مخالفة في الرأي، وجعلت مهنة الصحافة نوعاً من المهن الرسمية. وكما أنه لا يستطيع اليوم إنسان في ألمانيا أن يرفع بالاعتراض على شيء من أعمال الحكومة، فكذلك لا توجد صحيفة ألمانية واحدة تستطيع أن تقول رأياً غير رأي الحكومة، ووزارة الدعاية (ووزيرها الدكتور جبلز) هي التي ترسم للصحافة كلها خططها وتلقي إليها أوامرها ووحيها. والشعب الألماني لا يعرف من سير الحوادث والشئون في ألمانيا إلا ما تذيعه صحافته الرسمية. ولم تفعل الوطنية الاشتراكية الألمانية في ذلك سوى أن حذت حذو البلاشفة في روسيا والكماليين في تركيا والفاشست في إيطاليا. ومن الطبيعي أنه حيثما قام الطغيان المطلق تنعدم كل ألوان الحرية الفردية. وهذا ما وقع في ألمانيا. ويفسر لنا أنصار

ص: 19

النظام الهتلري ذلك بأن ألمانيا قد أصبحت كلها تدين بمبادئ الوطنية الاشتراكية وغاياتها وتؤيد سياستها ووسائلها بكل ما وسعت؛ ولكن كيف يمكن استجلاء الرأي العام إذا جرد من كل وسائل الإعراب والإفصاح؟

هذا وأما من جهة تركيز السلطة فقد خطت الوطنية الاشتراكية في ذلك خطوة جريئة؛ وأصدر المستشار هتلر مرسوماً يقضي بإلغاء استقلال الحكومات والمجالس الاتحادية ويخضعها بطريقة مباشرة لسلطة الحكومة المركزية ويجردها من لك سلطة معارضة؛ وتلك بلا ريب خطوة هامة في سبيل تدعيم الوحدة الألمانية؛ وتدعيم هذه الوحدة كما رأينا من أخص غايات الوطنية الاشتراكية. ونستطيع أن ندرك أهمية هذا الانقلاب متى ذكرنا كيف كانت الحكومات المحلية في بعض الولايات القوية (مثل بافاريا) تقاوم في كثير من الأحيان سياسة الحكومة المركزية وأعمالها. وكيف كانت الدسائس الأجنبية تتسرب إليها لتنظم فيها دعوة الانفصال (مثلما حدث في منطقة الرين أيام احتلال الحلفاء) تمزيقاً لوحدة ألمانيا وأضعافاً لها. وقد حقق هر هتلير في ذلك غاية جليلة، وأتم العمل العظيم الذي بدأه بسمارك في سبيل الوحدة الألمانية. وثمة خطوة أخرى اتخذت في سبيل تركيز السلطة السياسية هي إلغاء نظام النقابات القديم وتنظيمها طبقاً لدستور جديد يحرم عليها كل عمل سياسي ويجعلها بما تضم من ملايين عديدة خاضعة للحكومة من حيث توجيهها الاقتصادي والاجتماعي؛ وهذا أيضاً تقليد من جانب الوطنية الاشتراكية للفاشستية الإيطالية التي عرفت قوة النقابات فنظمتها واستخدمتها لغاياتها.

وقد بذلت الحكومة الوطنية الاشتراكية جهوداً لا بأس بها لمكافحة العطلة وإنعاش الزراعة والتجارة؛ وحذت حذو الفاشستية في العناية بأخلاق النشء ومطاردة ألوان الفساد الاجتماعي والجنسي، وتعزيز الميول الرياضية والأخلاق المحافظة؛ وفي الحد من حرية المرأة وتدخلها في الشئون العامة، وتوجيهها إلى المنزل والأسرة. وتلك من عناصر قوتها وتقدمها.

والآن ننتقل إلى مشكلة من أخطر وأدق المشاكل التي أثارتها الوطنية الاشتراكية الألمانية: تلك هي مشكلة الجنس وتطهيره وتفوقه، أو بعبارة أخرى هي المسألة اليهودية: ونحن نعرف أن سحق اليهودية الألمانية غرض أساسي من أغراض الوطنية الاشتراكية، وأنه

ص: 20

أدمج منذ الساعة الأولى في برنامج الحزب الوطني الاشتراكي في مادة خاصة هذا نصها:

(لا يحق لغير أعضاء الأمة أن يكونوا موظفين في الدولة، ولا يحق لغير أولئك الذين ينحدرون من دم ألماني مهما كان مذهبهم أن يكونوا أعضاء في الأمة؛ وإذن فليس ليهودي أن يكون عضواً في الأمة)(المادة الرابعة): ويخصص هر هتلر في كتابه (جهادي) حيزاً كبيراً لنظرية الجنس؛ ويشرح بإفاضة خطر الجنس اليهودي وخواصه المنحطة؛ ويعتبر الجنس الآري وحده أهلاً لإنشاء الحضارة، والجنس اليهودي أشد الأجناس هدماً للحضارة؛ وإن الحضارات الإنسانية العظيمة لا تفنى إلا لأن الجنس المنشئ لها يفنى بامتزاج الدم وتسممه، وأن تاريخ الأمم الآرية يدل على أنها تنحط وتتدهور كلما انحرفت عن مبدأ فصل الأجناس وامتزجت بالشعوب المغلوبة؛ ويعدد هتلر مزايا الجنس الآري، ثم يتحدث عن خواص الجنس اليهودي، فيقول أنه جنس يضطرم بالأثرة، وأنه ذكي ولكنه مقلد مجرد من الابتكار والطرافة، وأنه لم يخلق لنفسه أية حضارة خاصة، ولا يحدوه أي مثل أعلى: ثم يصف الطرق التي يتبعها اليهودي في دخول المجتمعات الجرمانية، فيقول أنه يحل في أثر الجيوش الأجنبية، ويتقدم كتاجر ويشتغل بالوساطة والربا الخطر، ويحتكر التجارة ويرهق الفلاحين؛ ويجتمع اليهود في أحياء أو مجتمعات خاصة، وينشئون بذلك دولة داخل الدولة، ثم يملقون رجال السلطة والأمراء ويمدونهم بالمال، ويستظلون بنفوذهم وحمايتهم، ويسيطرون على البورصة والإنتاج؛ ثم يملقون الشعب ويبدون له في ثوب محبي الإنسانية وأصحاب النظريات الحرة، ويتكلمون الألمانية ولكنهم يحرصون كل الحرص على نقاء جنسهم، ويستعملون لتعزيز نفوذهم أداين قويتين هما الصحافة والبناء الحر (الماسونية). هذا من الناحية الاجتماعية، وأما من الناحية السياسية، فإن هتلر يعتبر الشيوعية (المركسية) يهودية في أصلها وفي غاياتها؛ ويقول لنا إن الوطنية الاشتراكية تؤمن بزعامة الجنس وأهمية الفرد وتجل الزعامة والفكرة الارستوقراطية، ولكن المركسية ديموقراطية حرة تحل مكان الفرد فكرة الجماعة وتتخذ من ذلك وسيلة لتمكين اليهودية من الاستئثار بالنفوذ العالمي.

وليس فيما يقوله هر هتلر عن اليهودية شيء جديد. وإنما هو ترديد فقط للنظرية الألمانية القديمة التي قامت عليها خصومة السامية الحديثة. وكان الكاتب الألماني كرستيان لاصن

ص: 21

أول من نوه في منتصف القرن الماضي بأهمية الفوارق الجنسية بين الجنس الآري والجنس السامي، وبتفوق الآريين في الذهنية والخواص الجنسية على الساميين، وتبعه المؤرخ الفرنسي رينان في التنويه بانحطاط الأجناس السامية. وقد كانت ألمانيا منذ أواخر القرن الماضي مهداً خصباً لخصومة السامية (أ. حركة اضطهاد اليهود) وكان بسمارك قبل قيام الإمبراطورية يصادق اليهود ويعتمد عليهم في تحقيق سياسته لأنهم كانوا بين الأحرار قوة بارزة، وكان الأحرار يؤيدون وحدة ألمانيا، فلما تحققت الوحدة الألمانية انقلب بسمارك لمحاربة الأحرار واليهودية ووجد في خصومة السامية سلاحاً قوياً، وتفاقمت الحركة غير بعيد، وأيدها المحافظون ورجال الدين وسرت الصحية بأن اليهود خطر على ألمانيا والفت صداها في الرأي العام بقوة. وعرض اليهود إلى صنوف الاضطهاد والزراية واقترح بعض النواب إبعاد اليهود عن الوظائف والمدارس، ونظمت الجهود لمقاطعة التجارة اليهودية، وكادت الحركة تضرم في ألمانيا نار الحرب الأهلية لولا أن رأى جماعة من العقلاء والمفكرين وعلى رأسهم ولي العهد (الإمبراطور ولهلم الثاني فيما بعد) خطورة الحركة وسوء عواقبها، فأذاعوا منشوراً وقعه كثير من أعلام العصر شرحوا فيه أخطار هذه الخصومة القومية، ووصفوها بأنها وصمة في شرف ألمانيا، وناشدوا الشعب أن يخلد إلى السكينة والاعتدال فهدأت الحركة واضمحلت بسرعة وانصرف عنها معظم العقلاء والمعتدلين،

وهذه نفس النظرية - نظرية الخصومة السامية - التي نقلها هر هتلر وصاغها في برنامج حزبه كمبدأ أساسي يجب أن تعمل الوطنية الاشتراكية مذ تولت مقاليد الحكم لسحق اليهودية بمنتهى العنف والقسوة والسرعة، فطاردت اليهود في كل مناحي الحياة العامة بشدة، وقضت الحكومة الهتلرية بطرد جميع الموظفين غير الآريين (اليهود) من وظائفهم في جميع مصالح الحكومة المركزية والمحلية، وإقصاء جميع المستخدمين والعمال اليهود عن أعمالهم في جميع الجهات والهيئات والأعمال، وعزل جميع القضاة وأساتذة الجامعات والمعلمين اليهود، وقضت بطرد الأطباء اليهود من جميع المستشفيات العامة وشطب أسمائهم من سجل الأطباء والجمعيات الطبية، وفرضت عليهم في مزاولة العمل الخاص قيوداً تستحيل معها مزاولة المهنة، وحرمت على معظم المحامين اليهود مزاولة مهنتهم،

ص: 22

وحرمت على اليهود في المستقبل مزاولة المهن والأعمال التي تقتضي درجة عالية من التعليم، وجعلت للطلبة اليهود في المدارس الثانية والعالية نسبة ضئيلة، وحددت نسبتهم في، المستقبل بواحد في المائة، ونظم الحزب الوطني الاشتراكي من جهة أخرى مقاطعة التجارة اليهودية في سائر ألمانيا، ونفذها بطريقة رسمية يوم أول أبريل الماضي رداً على دعوة اليهودية في الخارج إلى مقاطعة التجارة الألمانية، وعلى الجملة فإن الحكومة الألمانية لم تترك حقاً مدنياً أو سياسياً لليهود إلا سلبته ولم تترك لهم وسيلة مشروعة للحياة والعيش والعمل إلا سحقتها، وصيغ ذلك كله في طائفة من القوانين الاستثنائية التي لم يسمع بها، ونفذ في غمر من المناظر المروعة، وارتكبت خلال تنفيذه سلسلة من الاعتداءات والجرائم المثيرة كانت لها في الرأي العالمي أشد وقع، واتخذت ذريعة لحملات شديدة على الوطنية الاشتراكية الألمانية وعلى مبادئها ووسائلها.

ولا نقف طويلاً عند هذه الحوادث المعروفة، ولكن يحسن أن نلخص الأسباب والحجج التي تبرر بها الوطنية الاشتراكية موقفها. فهي تقول إن اليهود يبلغون في ألمانيا نحو واحد في المائة فقط من مجوع الشعب الألماني (نحو سبعمائة ألف من 65 مليوناً) ومع ذلك فقد استطاعوا في ظل الحكومات الديموقراطية أن يحصلوا على أعظم قسط من النفوذ والسلطان في دوائر الحكم والمالية والثقافة والمهن الحرة والفنون والتجارة والصناعة، وكل مقومات الحياة العامة، وأنهم بلغوا في بعض هذه، الميادين نسباً لم يسمع بها، مثال ذلك أن نسبة الأطباء اليهود في برلين بلغت 52 في المائة من المجموع وبلغت أكثر من ذلك في المحاماة، وبلغت نسبتهم في دوائر البورصة تسعين في المائة، ووصلت أيضاً في دوائر التعليم إلى حدود مزعجة، مثال ذلك أنه كان بجامعة برزولا سنة 1931 من الأساتذة اليهود 25 في المائة في كلية الفلسفة و47 في المائة في كلية الحقوق و45 في المائة ف كلية الطب. وأما في الدوائر المالية فقد كان نفوذهم فوق كل نفوذ، مثال ذلك أنه في سنة 1928 كان خمسة عشر يهودياً يسيطرون على إدارة 718 شركة ألمانية وهكذا. وتزيد الوطنية اشتراكية أن كثيراً من اليهود الذين تقصدهم بالمطاردة ليسوا من اليهود الألمان، ولكنهم وفدوا على ألمانيا عقب الحرب من أوكرانيا وغاليسيا وبولونيا وأنهم من العناصر المنحطة التي يخشى منها على سلامة الجنس الجرماني. بيد أن مطاردة اليهودية في ألمانيا كانت

ص: 23

عامة شاملة كما تقدم.

والواقع أن الوطنية الاشتراكية الألمانية لا تقف في صوغ نظرية تفوق الجنس وفهمها عند هذا الحد، بل تذهب في ذلك إلى أبعد مدى. فهي تنادي بتفوق الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى لا على الجنس اليهودي وحده، وترى أن الأجناس غير الآرية كلها أجناس منحطة، وتعتبر شعوب البحر الأبيض الجنوبية والشعوب السامية والشرقية بوجه عام كلها من الشعوب المنحطة التي يجب أن يستعبدها الجنس الآري، ويجب أن يحرص على نقائه من الامتزاج بها. وهذه نظرية تستحق منا نحن المصريين والشرقيين عامة تأملاً خاصاً. ولسنا في حاجة لأن نقول إنها لا تقوم على سند من العلم أو البحث أو التفكير السليم، لأنها ليست إلا مظهراً جديداً لما تجيش به الشعوب الغربية نحو الشرق من أثرة وتحامل وليست إلا عنواناً جديداً لتلك النزعة الاستعمارية الغربية التي ترى في الشرق أبداً فريسة يجب التسابق لاقتسام أشلائها. على أن إغراق الوطنية الاشتراكية في نزعتها الجنسية وما أثارته باسمها من ضرام الخصومة السامية، وما لجأت إليه في تنفيذ سياستها من العنف والبطش. انتهت إلى نتائج لم تكن تتوقعها، فقد اتخذت كما قدمنا مادة لحملات شديدة على ألمانيا في معظم دول العالم، وكان لذلك أثره في هيبة ألمانيا وسمعتها ومصالحها الخارجية، وكان أكبر عامل في تحول الرأي العام في إنكلترا وأمريكا عن مناصرة ألمانيا في ميدان السياسة الدولية.

هذا ما فعلته الوطنية الاشتراكية الألمانية لتنفيذ برنامجها الداخلي وسنرى في الفصل القادم كيف سارت في تنفيذ برنامجها الخارجي.

محمد عبد الله عنان

ص: 24

‌وقفة ثالثة على جسر إسماعيل

أما أنا فلم أقف على هذا الجسر. . لأن مشيتي عليه كانت أقرب إلى العدو منها إلى الوقوف. . . . إن شيئاً فقد مني فكيف تطلب مني أن أقف. . .؟ دعني أسير لأبحث عنه. . ودع قلبي يسبق بصري إلى ما وراء الجسر. . . والجسر. . . ما وراؤه. . .؟ إنني لم أجد شيئاً. . . إن نفسي كانت حائرة. . . ولكن الحيرة لم تتطرق إلى بصري. . . فقد كان ساهماً جامداً مصوباً إلى ما وراء الجزيرة، إلى ما وراء الأفق. . . الشفق البعيد، ففيه قتمة من قتمة الليل. . وفيه ظلام من ظلم البشر. . .

فكيف كنت تطلب مني يا سيدي أن أقف. . .؟ لقد كان (بافنوس) آثماً في بحثه عن (تأسيس). . لذلك كانت وقفاته كثرة. . أما أنا فلماذا أقف. . .؟ إن هرم (خوفو) بعيد عن الجسر. . فإذا وصلته فقمته بعيدة عن القاعدة. . . فإذا أدركتها فالفضاء وسيع فسيح. . .

وقف أستاذي على جسر إسماعيل فتمهل وتريث. . . للجسر جمال. . . للطير تغريد. . . للماء بريق. . .

أما أنا فلم أقف، لأن الأعمى لا يسر ناظريه ما قد يكون حوله من جمال أو بهاء أو رواء. .

أما أنا فلم أقف لأن الأصم لا يطربه تغريد البلبل. . . والأذن المصلوم لا يزينه قرط. .

أما أنا فلم أقف لأن المشرف على الغرق لا يتغزل في جمال الطبيعة ولا يستهويه خرير الماء أو تلاطم الأمواج

إن النيل الذي يجري تحت الجسر لو خلبه سحر المنظر لوقف في مكانه يا سيدي كما وقفت. . . ولكنه مثلي مثقل بالهموم، مقيد بالأوهام، محمل بالأرزاء، لذلك يهرول باحثاً عن البحر. . . ليلقى فيه الغرين الذي يثقله. . . وليدفع عنه الشاطئ الذي يقيده. . وليذيب أرزاءه في صفائه، ويمزج سكونه في اضطرابه. . . . . والفرق بيني وبين النيل. . . أن النيل بجد بغيته، أما أنا فلا أجد. . .

ثم وقف صديقي على جسر إسماعيل فتأوه وتأسى. . . فالأسد نائم. . . والثكنات متيقظة. . .

حقاً يا صديقي إن من يرى دمعك ينهمل. . . لا تمهله دموعه. . . ولكن. . . . . . اعذرني يا صديقي لأنني لم ألق لك بالاً. . . ولم أسمع أنين قلبك وأنت واقف على جسر

ص: 25

إسماعيل. . . لأن أنين قلبي قد طغى على نفسي فلم أر ولم أسمع. . .

يا أستاذي. . . في نفسي قبس. ولكن بصري عليه غشاء. . .

يا صديقي. . .

في قلبي. . . من قلبك شعلة. ولكن خافقي مريض. . . . . . لقد بحثت عن حبيبتي في كل بقع الأرض فلم أجدها. . . . . من أجل ذلك رأيتني أسير مهرولاً على جسر إسماعيل محدقاً ببصري إلى ما وراء الجسر. . إلى ما وراء الأفق. . . إلى الشفق البعيد. . ففيه قتمة من قتمة الليل، وفيه ظلام من ظلم البشر. . . . .

جورج وغريس

ص: 26

‌كيف اختار المنصور موقع بغداد

دالت دولة الأمويين وقامت على أثرها دولة بني العباس تسندها كواهل الفرس وتؤيدها سيوفهم، وكان لابد للدولة الجديدة من عاصمة جديدة، إذ يرى المتتبع لتاريخ العرب أن تغير العاصمة لابد منه عندما تتولى الحكم أسرة جديدة، ففي بدء الإسلام هاجر النبي (ص) من مكة واتخذ يثرب مقراً له فانتقل بذلك المركز السياسي لجزيرة العرب من مكة المدينة التجارية القديمة إلى يثرب التي سميت بعد مدينة الرسول، والتي أصبحت عاصمة الإسلام ومركز الحكومة، وبقيت كذلك في حياة النبي (ص) والخلفاء الراشدين الثلاثة من بعده أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما آلت الخلافة إلى علي عليه السلام اتخذ الكوفة مقراً، وحدث النزاع بينه وبين معاوية منافسه الذي مرت عليه عشرون سنة وهو أمير الشام. قد وطد فيها أمره وأسكن أقرباءه وأتباعهم، حتى إذا ما انتهى هذا النزاع بشهادة الإمام الحسن أصبحت دمشق حاضرة الإسلام، وكان موقعها مناسباً لأن تكون عاصمة حكومة الأمويين العربية، فهي واقعة وسط إقليم خصب، وهي قريبة من مكة والمدينة مركزي القوة الدينية كما أنها تقع على تخوم الصحراء العربية التي يتخذ الخلفاء من سكانها جنوداً يهاجمون بلاد الروم القريبة من دمشق أيضاً، ولم يكن يقلل من أهمية موقع دمشق أنها لم تكن واقعة على نهر صالح للملاحة، لأن تجارة المسلمين كانت حينذاك بسيطة تتبع طريق القوافل وتحمل على الإبل.

وإذا ما صلحت دمشق لأن تكون حاضرة الأمويين، فإنها لا تصلح أن تكون حاضرة بني العباس، فهي مأهولة بأتباع الأمويين ومناصريهم وهي بعيدة عن بلاد فارس، مصدر قوة العباسيين ودعامة ملكهم، وفضلاً عن ذلك فقد أصبحت مهددة بالروم الذين اغتنموا فرصة ضعف الأمويين، فأخذوا يشنون الغارة تلو الغارة، كي يثأروا لاندحارهم القديم، فالعاصمة الجديدة إذن يجب أن تتجه نحو الشرق قريبة من بلاد فارس، ثم إن التبسط التجاري يقضي أن تكون على ماء يصلها بالبحر ومن هذا تعين أن يكون موقعها إما على الفرات وإما على دجلة، حيث لم يتردد العباسيون أن يجعلوها هناك.

لما انتهى السفاح من حروبه ومذابحه ابتنى الهاشمية بجوار الأنبار

المدينة الفارسية القديمة، واتخذها مقراً له وتقع هذه الهاشمية على ضفة

ص: 27

الفرات الشرقية، حيث يتفرع منه النهر الكبير الذي عرف فيما بعد

باسم نهر عيسى، وفيها توفي السفاح سنة 136 هجرية. وبعد قليل من

تبوئ المنصور كرسي الخلافة شرع في بناء مقر له سمي بنفس الاسم،

وتقع هذه الهاشمية الثانية بين الكوفة والحيرة على الجانب الغربي من

الفرات، في مجل لا يبعد كثيراً عن البطائح، مصب الفرات في القرن

العاشر الميلادي وتقول رواية أخرى أنها كانت قرب مدينة ابن هيبرة

القريبة من الكوفة. ومدينة ابن هبيرة هذه غير قصر ابن هبيرة. لم

يكن موقع الهاشمية الثانية مناسباً ليكون عاصمة بني العباس لقربها من

الكوفة مركز شيعة العلويين ولأن القبائل التي تقطنها كانت لا تفتأ تثور

وتشاغب، وقد تركها المنصور بعد ثورة الراوندية الذين تظاهروا

بتقديسه وكادوا يفتكون به.

وإذا ما انتقلت العاصمة إلى العراق فمن الواضح أن فائدة بقعة على دجلة خير منها على الفرات لأنها تكون وسط إقليم خصب فقد كانت مياه الفرات تسقي الأرض التي بينه وبين دجلة كما كانت مياه هذا الأخير تروي الأرض الواقعة شرقيه، وفضلاً عن ذلك فإن القسم الأسفل من دجلة كان أصلح للملاحة من الفرات.

وقد قام المنصور برحلات عدة للتفتيش على موقع لائق بالعاصمة فسافر من جرجايا إلى الموصل، متبعاً شاطئ دجلة ووقع اختياره أولاً على موقع قرب باريما جنوب الموصل عند الموقع الذي يعرف اليوم باسم الفتحة، حيث يقطع نهر دجلة جبال حمرين ولكنه تركه حين علم بغلاء المرة وقلتها فيه وأخيراً اختار قرية بغداد الفارسية الواقعة، على ضفة دجلة الغربية، شمال مصب نهر الصراة تماماً وأسس فيها عاصمته الجديدة سنة 145 للهجرة (762 للميلاد).

ويظهر من الاستكشافات التي قام بها السير هنري رولنصن سنة 1848 للميلاد أنه قد كان

ص: 28

في هذا المحل مدينة من المدن القديمة جداً فقد وجد آجراً مكتوباً عليه سم بختنصر ولقبه، كما وجد في خرائط الآشوريين الجغرافية اسماً لمدينة يقرب من اسم بغداد.

وقد كانت تقام في قرية بغداد الفارسية أثناء حكم الساسانيين سوق شهرية اشتهرت كثيراً في صدر الإسلام، إذ هاجمها المسلمون سنة 13 للهجرة وغنموا كثيراً من الذهب والفضة ثم لم يعد يظهر اسم بغداد في التاريخ حتى سنة 145 للهجرة حين أخذ المنصور يفتش عن موقع لعاصمته الجديدة، وقد كان في هذا الموقع لذلك الحين عدد من الأديرة وخاصة أديرة الرهبان النسطوريين، ومنهم عرف المنصور خلو هذا المحل من البعوض الذي يكثر في المحلات الأخرى من دجلة، وأن لياليه باردة حتى في الصيف وكانت هذه المميزات بلا شك مما أغرى المنصور على اختيار هذا المكان موقعاً لعاصمته.

وقد أطنب مؤرخو العرب وجغرافيوهم، في الكلام عن فوائد موقع بغداد المتعددة، فيذكر لنا المقدسي مثلاً أن الخليفة انتصح بقول ساكني هذا المحل، ولخص في الأسطر التالية الكلام الذي خوطب به المنصور (الذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج (مقاطعات) في الجانب الغربي طسوجان، وهما قطريل وبادرابا، وفي الجانب الشرقي طسوجان، وهما نهر بوق وكلواذى فأنت تكون بين نخيل وقرب الماء فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته، كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمنية وما اتصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة. وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل).

إن التبصر الذي أظهره الخليفة المنصور في اختيار موقع بغداد يظهر جلياً في تاريخ بغداد الأخير، فقد توسعت هذه المدينة توسعاً كبيراً حتى كانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية في العصور الوسطى ولم يكن لها نظير في جلالها وعمرانها بين مدن آسيا الغربية، ولم

ص: 29

تستطع الحروب والحضارات وانتقال الخلافة منها إلى سامراء، وحتى تخريب المغول لها، كل هذه لم تستطع أن تحط من مركز بغداد وكونها عاصمة ما بين النهرين، فاتخذها الأتراك مقراً لهم، والآن بعد أن مر عليها أحد عشر قرناً، أصبحت عاصمة الحكومة العراقية.

سليم محمود الأعظمي

ص: 30

‌من صور الحياة

صديق. . .

إلى تلك النفس الظلوم

قلبي الساعة مجال لصراع عنيف بين عاطفة من الحب والوفاء، وعاصفة من شيء يشبه المقت وأنا بينهما حائر مضطرب:

لي صديق لا يزال حياً، ومع ذلك فأنا أميل إلى الاعتقاد بأنه مات، لأني كفنته في أثواب الإهمال، ودفنته في زوايا النسيان، ولأن أباه قضى، ووفاءه مضى، وليس بعد فقد الآباء والوفاء معنى للحياة.

إذن مات صديقي بالنسبة لي على الأقل. ولكنه أورثني فيما خلف لي من تركته المثقلة بالهم، جروحاً لا يزال الدم يقطر منها ولكم وددت لو أن الأيام عقدت حول اسمه ورسمه سحباً من النسيان لا ينفذ إليها شعاع من الذكرى وطالما جاهدت نفسي في أن أجعل بيني وبينه من التناسي أستاراً صفيقة، وأسواراً منيعة، فلا يسعى إلي ولا أصل إليه، فلم أوفق. ولا تزال ذكراه تلم بي وتحوم حولي، ولا أزال أتردد على رسائله وصوره كما يتردد العابد إلى محرابه ولقد يتفق لي أحياناً أن أصادف هذا الصديق الميت الحي، فأقف أمامه مضطرب العاطفة إنه يشبه صديقي في جماع شكله، إلا أن صديقي كان صفي النفس وفي القلب نقي الضمير، وليس هذا الإنسان من تلك الصفات في قليل ولا كثير! لقد أتممت اليوم قراءة الصفحة الثانية بعد العشرين من كتاب حياتي، وعاشرت الناس بقدر ما اتفق لي أخياراً وأشراراً فلم أر شيئاً أوقع في النفس من خيانة الصديق. وكنت ولا أزال أحتقر نوعاً من الصحاب يصادقون شهراً وينافقون دهراً، ثم يتقلصون أخيراً عن الصاحب فإذا هو عندهم منكر الطلعة كأن لم يكن بينهما من أسباب الود القديم ما يربط أحدهما بالآخر. . . وصديقي من صميم هذا النوع. قطعت معه في طريق الحياة أشواطاً لم يقف الأمر خلالها بيننا على ما يكون بين الصديق صاحبه من المجاملة، بل نشأ بيننا لون من الضب العميق الوثيق لم تعبث به الأغراض، ولم تفسده الأعراض فأخلصت له كما يجب أن يخلص الصاحب، لا أبتغي على ذلك جزاء ولا شكوراً إلا أن يأخذ نفسه بشيء من الإخلاص، فأعطاني على ذلك الموثق وأقسم جهد أيمانه ومضى يزعم أن شيئاً في الوجود لا يستطيع

ص: 31

العبث ثم إذا هو أخيراً يتكفل بنقض دعوى نفسه وترجيح الشك فيها على اليقين.

على أني مع ذلك لست أكرهه، ولست أطمع كذلك في رجعته، فإن النفس الجاحدة أثبت على الباطل ولكن ما أخوفني أن يفيق ضميره في الفينة بعد الفينة كما يفيق المجنون! فربما حاسب نفسه فأحس أنه أساء إلي، وربما يحس في أغوار نفسه مرارة الحسرة وحرارة الندم، ولست أحب أن يمسه شيء من ذلك:

فبعض الظالمين وإن تناهى

كهى الظلم مغفور الذنوب

أي صديقي الميت الحي!

عزيز علي أن تكون هذه صورتك! ولكن الله يشهد أني لم أزد على الأمانة في رسمها للناس، ومهما أكن حريصاً على رضاك فإني على رضا الحق أحرص.

البكري القلوصناوي

ص: 32

‌الطفلة الراقصة

للآنسة سهير القلماوي

ليسانسيه في الآداب

كان اليوم يوم عيد الأطفال فأخذ أهل المصيف يتوافدون على فندق كبير وكل معه طفل أو طفلان. وقد ارتدت الأطفال أزياء مختلفة جميلة. فهذا الطفل من سكان الجبال، وذاك راجات الهند، وهذه شريفة، روسية، وتلك راقصة إسبانية. وهكذا اجتمعت للمتفرجين مجموعة طريفة جميلة من أزياء مختلفة يزيد جمالها أن ممثليها كلهم أطفال تقل أعمارهم عن العشر سنوات.

وصدحت الموسيقى الراقصة وحملت نسمات البحر أنغامها إلى الآذان فهزت القلوب هزاً لذيذاً مطرباً. واندفع الأطفال في حماس بريء يرقصون ويضحكون ويهللون. وكانت هي بينهم طفلة في السابعة أو الثامنة من عمرها. مرتدية لباس راقصة حديثة لونه أخضر جميل. وقد بدت منه تقاطيع جسمها جميلة منسجمة بديعة التكوين. وما كاد نصف الأطفال ينأى عن مكان الرقص ليستريح حتى اندفعت هي إليه ترقص رقصاً فنياً رشيقاً مدهشاً. واتجهت إليها الأنظار كلها. وخجل الأطفال من رقصهم البسيط الفطري فانتحوا ناحية يفسحون المجال لتلك الطفلة الراقصة.

ما دهشت لرقص قدر ما دهشت لرقصها، وما هزني الطرب لمنظر أعجبني قدر ما اهتززت لمنظرها، أي جمال! أي فن! أي طفولة مرحة بريئة ساذجة! هذه هي الحياة عندها: رقص وموسيقى، فرح ومرح، حب وإعجاب، لقد دوى التصفيق في أذنها مراراً فاتسعت له حدقتا عينيها اتساع النشوة والرضى، وأغراها التصفيق بالمزيد، بل بالتفنن في المزيد، فمازال بها ظمأ إلى الإعجاب والاستحسان. ترى أتظل الحياة لها هكذا؟ أتظل هي هي مرحة، طروباً لاهية، راقصة؟ أم ستضطرها الحياة إلى تذوق ألوان أخرى منها؟ أستعرف الألم، أستعرف العذاب؟ أستنسى المرح؟ أستظل راقصة أم سيبدل الدهر رقصها نحيباً مشجياً؟

لهفي عليك، طفلتي يوم تودين الرقص فلا تستطيعين! لهفي عليك نوم تذكرين أيام طفولتك بالحسرة اللاذعة والألم الأليم! ترى أستظل نظرتك كما هي إلى تصفيق الناس وإعجابهم

ص: 33

بك؟ أستظلين ظامئة إليهما تسعين إلى المزيد ولا ترضين إلا به، أم ستستتفهين هذا الإعجاب وتزدرين هذا التهليل والتصفيق؟ ترى أتظلين حريصة على رضى الناس عنك أم ستعلمك الأيام أن رضاءهم أرخص من أن تسعى إليه؟ كم أخاف طفلتي هذا الإعجاب، كم أخافه على أخلاقك وعلى حياتك المستقبلة. ستتعودينه، وستفقدينه وستتألمين أمض الألم لفقده، ثم سترينه يكال لغيرك كيلاً، ولكن الحياة ستسلمك إلى نوع من الرضى اليائس، ستعرفين بعد أن تصهرك الآلام أن الأيام دول وأن الدوام نقيض الحياة، ستؤمنين بكل هذا ولكن بعد دروس ودروس. دروس لا كدروس الرقص التي تعلمتها فرحة لذيذة منعشة. ولكنها دروس قاسية مؤلمة موئسة.

ودوى التصفيق فانحنت الطفلة الراقصة وكم كانت رشيقة في حركاتها الشاكرة الراضية، كم كانت الغبطة تشع من عينيها بريقاً لامعاً. وانتحت الطفلة ناحية ثم عزفت الموسيقى دور رقص روسي، فقامت طفلة أخرى في لباس رقص روسي وأخذت ترقص رقصة صعبة بديعة. وكال لها المتفرجون التصفيق كيلاً، فأدرت رأسي أبحث عن الطفلة الأولى. كانت في ركن بعيد تنظر إلى الراقصة الجديدة نظرة المتعجب المعجب الفرح، وتتبع حركاتها حركة حركة فتصفق لها كلما قامت بحركة صعبة فأتقنتها، كانت أشد المعجبين بالراقصة الجديدة حماساً وأخثر المتفرجين تصفيقاً لها. يا للطفولة البريئة الطاهرة! لم تخط الغيرة بعد سطراً من سطورها ولم يخط الحسد كلمة من كلماته. يا للطفولة المرحة الطروب ما أجملك وما أطهرك!

وصدحت الموسيقى ثالثة فقامت الطفلة راقصة لاهية طروباً، ودوى لها التصفيق وانتشت بنشوة الإعجاب بها من جديد، تفننت في رقصها وأبدعت. فلمت نفسي على أوهامي وخيالي. حصن الطفولة مازال حصيناً لم ينفذ فيه سهم من سهام الدهر بعد. ليتك تظلين طفلتي هكذا. ليت الحياة تدعك كما أنت عصفورة من عصافير جنتها تغنين وترقصين وتلهين. ليتك لا تعرفين للحياة معنى غير ما تعرفين الآن. أبقي طفلتي كما أنت راقصة. فرحة مرحة إلى ما شاء الله. الحياة الحياة ما هي؟؟: رقصة. فأرقصيها لاهية.

سهير القلماوي

ص: 34

‌الشافعي واضع علم أصول الفقه

للأستاذ الشيح مصطفى عبد الرازق

أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب

- 6 -

- الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث

جـ - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه

د - وضع الشافعي علم أصول الفقه

وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن، وأنهم ليسوا للسنة أنصاراً ولاهم فيها بمتثبتين، فان أصحاب أبي حنيفة يقدمون القياس الجلي على خبر الواحد وهم يقبلون المراسيل، والمجاهيل - أي الحديث المرسل الذي أسنده التابعي أو تابع التابعي إلى النبي خلى الله عليه وسلم من غير أن يذكر الصحابي الذي روى الحديث. أما المجاهيل فهم مجهولو الحال من الرواة -

ثم لا يقبلون الحديث الصحيح إذا كان مخالفاً للقياس، ولا يقبلونه في الواقعة التي تعم فيها البلوى: الرازي ص250، 251

كانت الحال على ما ذكرنا حين جاء الشافعي، وقد تفقه الشافعي أول ما تفقه على أهل الحديث من علماء مكة، كمسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينه، ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث (مالك) ابن أنس في المدينة فلزمه، ولقي من عطفه ومن فضله ما جعله يحبه ويجله (عن يونس بن عبد الأعلى أنه سمع الشافعي يقول:(إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك بن أنس) الانتقاء ص23

على أن نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث، ولا استعداده استعدادهم.

لقد توجه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس، ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبله بأهل الحديث الذين كانوا لا يرونها من العلم النافع (حكي عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظاً وقال: لا تعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فانهم لا يحتملون هذا، معجم الأدباء ص380)

ص: 35

وكان الشافعي بطبعه نهماً في العلم، يلتمس كل ما يجده من فنونه، وقد ذكر من ترجموا له: أنه اشتغل بالفراسة حين ذهب إلى اليمن، وعالج التنجيم والطب، وربما كان درسهما في إحدى رحلاته إلى العراق، حيث كان التنجيم يعتبر فرعاً من فروع العلوم الرياضية، وكان الطب فرعاً من العلم الطبيعي، والعلم الرياضي، والعلم الطبيعي قسمان من أقسام الفلسفة التي كان مسلمو العراق أخذوا يتنسمون ريحها، وكان الشافعي مغرى بالرمي في شبابه ولم يكن في كهولته يأنف من الوقوف عند مهرة الرماة يدعو لهم ويمدهم بالمال، ويظهر: أنه لم يكن شديداً في جرح الرجال كعادة أهل الحديث، وقد نقل صاحب كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) حكاية تدل على سخرية الشافعي من تزمت المزكين.

(قال الشافعي رضي الله عنه حضرت بمصر رجلاً مزكياً يجرح رجلاً فسئل عن سببه وألح عليه فقال: رأيته يبول قائماً، قيل وما في ذلك؟ قال: يرد الريح من رشاشه على بدنه وثيابه فيصلي فيه، قيل هل رأيته أصابه الرشاش وصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟ قال: لا ولكن أراه سيفعل؟ حـ - 1 - ص 194، 195

وكان في العلماء المعاصرين للشافعي: بل أهل الرأي منهم بله أهل الحديث من لا يراه ممعناً في الحديث (عن أبي عبد الله الصاغاني يحدث عن يحيى بن أكثم قال: كنا عند محمد بن الحسن في المناظرة، وكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم، صافي الذهن، سريع الإصابة، ولو كان أكثر سماع الحديث لاستغنت أمة محمد به عن غيره من العلماء (ابن حجر ص59)

ولما ذهب الشافعي إلى العراق استرعى نظره تحامل أهل الرأي على أستاذه مالك وعلى مذهبه، وكان أهل الرأي أقوى سنداً وأعظم جاهاً بما لهم من المكانة عند الخلفاء، وبتوليهم شؤون القضاء، ذلك إلى أنهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بياناً، ويمثل حال الفريقين من هذه الناحية، ما روي عن أمامي أهل الرأي وأهل الحديث: أبي حنيفة ومالك.

روى ابن عبد البر المالكي عن الطبري قال: وكان مالك قد ضرب بالسياط، واختلف فيمن ضربه وفي السبب الذي ضرب فيه قال: فحدثني العباس بن الوليد قال: خبرنا ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكاً عن الحديث: (ليس على مستكره طلاق) ثم دس

ص: 36

إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس (الانتقاء ص43، 44)

أما أبو حنيفة فينقل في شأنه الموفق المكي في كتاب (المناقب)(عن معمر بن الحسن الهروي يقول: اجتمع أبو حنيفة ومحمد ابن إسحاق عند أبي جعفر المنصور، وكان جمع العلماء والفقهاء، من أهل الكوفة والمدينة وسائر الأمصار لأمر حزبه وبعث إلى أبي حنيفة فنقله على البريد إلى بغداد، فلم يخرجه من ذلك الأمر الذي وقع له إلا أبو حنيفة، فلما قضيت الحاجة على يديه حبسه عند نفسه ليرفع القضاة والحكام الأمور إليه، فيكون هو الذي ينفذ الأمور ويفصل الأحكام، وحبس محمد بن إسحاق ليجمع لابنه المهدي حروب النبي - ص - وغزواته قال فاجتمعا يوماً عنده وكان محمد بن إسحاق يحسده لما كان يرى من المنصور من تفضيله وتقديمه واستشارته فيما ينوبه وينوب رعيته وقضاته وحكامه، وسأل أبا حنيفة عن مسألة أراد بها أن يغير المنصور عليه، فقال له ما تقول يا أبا حنيفة في رجل حلف ألا يفعل كذا وكذا أو أن يفعل كذا وكذا ولم يقل إن شاء الله موصولاً باليمين، وقال ذلك بعدما فرغ من يمينه وسكت، فقال أبو حنيفة لا ينفعه الاستثناء إذا كان مقطوعاً من اليمين، وإنما كان ينفعه إذا كان موصولاً به، فقال وكيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين الأكبر أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن استثناءه جائز ولو كان بعد سنة، واحتج بقوله عز وجل (واذكر ربك إذا نسيت)؟ - فقال المنصور لمحمد بن إسحاق: أهكذا قال أبو لعباس صلوات الله عليه؟ قال نعم! فالتفت إلى أبي حنيفة رحمه الله وقد علاه الغضب، فقال تخالف أبا العباس فقال أبو حنيفة لم أخالف أبا العباس، ولقول أبي العباس عني تأويل نخرج على الصحة ولكن بلغني أن النبي - ص - قال (من حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه). وإنما وضعناه إذا كان موصولاً باليمين، وهؤلاء لا يرون خلافتك. لهذا يحتجون بخبر أبي العباس، فقال له المنصور كيف ذلك؟ قال: لأنهم يقولون إنهم بايعوك حيث بايعوك تقية وإن لهم الثنيا متى شاءوا يخرجون من بيعتك ولا يبقى في أعناقهم من ذلك شيء قال هكذان قال: نعم فقال المنصور: خذوا هذا يعني محمد بن إسحاق فأخذ وجعل رداؤه في عنقه وحبسوه) ج1 ص142 - 144

كان طبيعيا: أن يجادل الشافعي عن أستاذه وعن مذهب أستاذه وقد نهض الشافعي لذلك قوياً بعقله، قوياً بعلمه، قوياً بفصاحته قوياً بشباب في عنفوانه، وحمية عربية، وقد رويت لنا

ص: 37

نماذج من دفاع الشافعي عن مالك ومذهبه: (عن محمد بن الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم يعني (أبا حنيفة ومالكاً) وما كان على صاحبكم أن يتكلم وما كان لصاحبنا أن يسكت، قال فغضبت وقلت نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله (صلعم) مالك، لكن صاحبنا أقيس، فقلت: نعم ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله (صلعم) من أبي حنيفة فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام) الانتقاء ص24

كان هذا الحجاج عن مذهب مالك، في قدوم الشافعي إلى العراق أول مرة، وأقام الشافعي في العراق زمناً غير قصير ودرس فيه كتب محمد بن الحسن وغيره من أهل الرأي فيما درس في العراق ولازم محمد بن الحسن ورد على بعض أقواله وآرائه نصيراً لأهل الحديث.

ولاشك أن الشافعي في ذلك العهد كان متأثراً بمذهب أهل الحديث ومتأثراً بملازمة عالم الهجرة فهو كان يدافع عن مذهبه يدافع حميته لأستاذه وأنصار أستاذه المستضعفين.

أما البزاز الكردري فهو يروي في سبب اختلاف الشافعي على محمد بن الحسن روايات يقول فيها: (عن عبد الرحمن الشافعي: لم يعرف الشافعي لمحمد حقه وأحسن إليه فلم يف له. وعن إسماعيل المزني قال الأمام الشافعي: حبست بالعراق لدين فسمع محمد بي فخلصني فأنا له شاكر من بين الجميع. وعن ابن سماعة قال: أفلس الشافعي غي مرة فجاء إلى محمد أصحابه فجمع له مائة ألف فكان فيه قضاء حاجته ثم أفلس مرة أخرى فجمع له سبعين ألف درهم ثم أتاه الثالثة، فقال: لا أذهب مروءتي من بين أصحابي، لو كان فيك خير لكفاك ما جمعت لك ولعقبك وكان قبل هذا مولعاً بكتبه يناظر أوساط أصحابه ويعد نفسه منهم، فلما أتى محمداً الثالثة أظهر الحلاف) المناقب - ج2 - ص150، 151

والشافعي نفسه يرد على ذلك، فقد أخرج الحاكم من طريق محفوظ بن أبي توبة قال: سمعت الشافعي يقول: يقولون. إني إنما أخالفهم للدنيا، وكيف يكون ذلك والدنيا معهم؟ وإنما يريد الإنسان الدنيا لبطنه وفرجه، وقد منعت ما ألذ من المطاعم ولا سبيل إلى النكاح، وعني لما كان به من البواسير ولكن لست أخالف إلا من خالف سنة رسول الله. ابن حجر ص76

ص: 38

ولما عاد الشافعي إلى بغداد في سنة 195هـ - 810 - 811م ليقيم فيها سنتين اشتغل بالتدريس، والتأليف وروى البغدادي في كتاب (تاريخ بغداد):

(عن أبي الفضل الزجاج يقول: لما قدم الشافعي إلى بغداد وكان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة، أو خمسون حلقة فلما دخل بغداد مازال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول وهم يقولون قال أصحابنا حتى ما بقي في المسجد غيره) ص68، 69

واختلف إلى دروس الشافعي جماعة من كبار أهل الرأي كأحمد بن حنبل وأبي ثور فانتقلوا عن مذهب أهل الري إلى مذهبه، ويروى عن أحمد ابن حنبل: أنه قال (ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منة) فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ (قال إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم) الانتقاء ص76

ووضع الشافعي في بغداد كتاب: (الحجة)(روى ابن حجر عن البويطي: أن الشافعي قال: اجتمع علي أصحاب الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة فقلت: لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فكتبت إلى كتب محمد بن الحسن فنظرت فيها سنة حتى حفظتها ثم وضعت الكتاب البغدادي يعني (الحجة) ص76

ويظهر من ذلك: أن مذهب الشافعي القديم الذي وضعه في بغداد كان في جل أمره رداً على مذهب أهل الرأي وكان قريباً إلى مذهب أهل الحديث.

وروى البغدادي عن حرملة: أنه سمع الشافعي يقول: (سميت ببغداد ناصر الحديث) ج2 ص68

ونقل ابن حجر عن البيهقي: أن كتاب الحجة الذي صنفه الشافعي ببغداد حمله عنه الزعفراني، وله كتب أخرى حملها غير الزعفراني منها: كتاب السير، رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي) وفي كتاب كشف الظنون:

((الحجة) الإمام الشافعي، وهو مجلد ضخم ألفه بالعراق إذا أطلق القديم من مذهبه يراد به: هذا التصنيف، قاله الأسنوي في المبهمات ويطلق على ما أفتى به هناك أيضاً)

ثم انتهى الشافعي إلى مصر فآزره تلاميذ مالك حتى إذا وضع مذهبه الجديد وأخذ يؤلف الكتب رداً على مالك تنكروا له وأصابته منهم محن

ص: 39

(قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: قدمت مصر لا أعرف: أن مالكاً يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثاً فنظرت فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل.

ثم ذكر الشافعي في رده على مالك: المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها بقول واحد من الصحابة أو بقول واحد من التابعين أو لرأي نفسه

ثم ذكر: ما ترك فيه أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه وذلك: أنه ربما يدعى الإجماع وهو مختلف فيه

ثم بين الشافعي أن ادعاء: أن إجماع أهل المدينة حجة، قول ضعيف. الرازي ص26

ويروي بعض الرواة: أن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقي بها وكان يقال لهم: قال رسول الله (صلعم) فيقولون: قال مالك، فقال الشافعي: إن مالكاً بشر يخطئ فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه وكان يقول استخرت الله تعالى في ذلك. ابن حجر ص76

ومذهب الشافعي الجديد الذي وضعه في مصر هو الذي يدل على شخصيته وينم عن عبقريته ويبرز استقلاله

(سئل أحمد ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك، أم التي بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك كما يرويه الذهبي في تاريخه الكبير (هامش الانتقاء ص77)

(يتبع)

ص: 40

‌صفي الدين الحلي

- 2 -

هذه هي الناحية اللفظية، وأما خصائص معانيه فإنها تتمثل في شدة اتصالها بعلوم البيان من كثرة التشبيه واستعمال المجاز والكنايات، وقد ساعده على الإجادة في ذلك ما وهبه من قوة الخيال ودقة المشاهدة كما سنعرف ذلك حين التحدث عن وصفه. وتتمثل أيضاً في طغيان الإشارات والمصطلحات العلمية عليها إذ تراه يستغل معارفه في علوم الفقه والحديث والفلسفة والتصوف في استعارة معانيه لأي موضوع شاء، وكثيراً ما يضرب الأمثال بحوادث التاريخ أو يستشهد بالقصص العامة الشائعة كأنه يدرك قاعدة التربية الحديثة في إظهار المعقول بثوب المحسوس.

وتعد معانيه فوق ذلك من النوع الممتلئ الدسم، فهي تتدفق قوية في طريقها إلى الغاية من غير تفكك أو فضول أو تدنس بالمعاني العامية المبتذلة، ويحس قارؤها بروح الصدق سارية بين أجزائها في أغلب الأغراض لأنالشعر كان قطعة من نفس صفي الدين لا علماً يحرك به لسانه، أما في غير الغالب فقد كان يقحم نفسه في أغراض متكلفة لا صلة بينه وبينها غير حب المحاكاة والصنعة كما أنه انحدر إلى أعماق الابتذال حين خاض في المجون. .

وقد قال صفي الدين بهذه المعاني في جميع الميادين التي عرفها الشعر العربي إلى وقته، حائزاً قصب السبق في كثير منها فتناول الفخر والمدح والوصف والغزل، وهي أركان شعره الكبرى ثم الحكم والخمر والزهد والألغاز والمجون، وهي العمد الثانوية، ونحب قبل أن نستعرض هذه الميادين أن نسجل هنا شهادة أحد المعاصرين له وهو صاب (الفوات) المتقدم ذكره إذ قال: تعجبك ألفاظه المصقولة ومعانيه المعسولة ومقاصده التي كأنها سهام راشقة وسيوف مسلولة)! وما أثمنها شهادة من معاصر كان أجدر به الجحود والنكران

لم يكن صفي الدين شاعراً قوالاً فحسب، وإنما كان بطلاً مغواراً يعرف كيف يكتب بالسيف على الرقاب كما يخط بالقلم على الطرس، وذلك لأنه نشأ من أسرة نبيلة قوية كانت هي صاحبة الولاية على (الحلة) وبعض بلاد العراق المحيطة بها، وكان بجانبها أعداء وحساد كثيرون يحاولون أن ينزلوها من المكانة السامية بكل الوسائل من غدر دنيء أو قتال

ص: 41

صريح، حتى أن أحد أخوال هذا الشاعر قد قتل وهو بين يدي ربه في المسجد العام فكان هذا الموقف الخطر داعياً إلى تنشئة أبناء الأسرة نشأة حربية باسلة ليستطيعوا أن يأخذوا من أعدائهم بالثأر ويردوا في نحورهم كيدهم ولهذا كان أول الدواعي التي حدت بشاعرنا إلى الشدو والغناء ذلك الشعور اقوي الذي كان يجيش في خلايا قلبه شعور العزة القومية والمجد والكرامة، وقد غرس فيه هذا الشعور طموحاُ وثاباً إلى مشارف العلا فظل يضرب على وتر الفخر والحماة بأروع الأغاني الشجية التي تبرئ صدر الجبان وتلهب عزيمة الشجاع المقدام، فشعره في ذلك مثل من أمثلة الأدب الحي القوي الذي ننشده اليوم في عصر انحلال الزائم وخمود الشهامة! وإذا شئت فترنم معه وهو يشيد بذكر قومه:

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة

يوماً وإن حكموا كانو موازينا

تدرعوا العقل جلباباً فإن حميت

نار الوغى خلتهم فيها مجانينا

إذا ادعوا جاءت الدنيا مصدقة

وإن دعوا قالت الأيام آمينا

إذا جرينا إلى سبق العلا طلقا

إن لم نكن سبقاً كنا مصلينا

تدافع القدر المحتوم همنتا

عنا ونخصم صرف الدهر لو شينا

عزائم كالنجوم الشهب ثاقبة

مازال يحرق منهن الشياطينا

ولم يقصر الشاعر همه على مجرد الفخر بهذه الإرادة التي تدافع القدر المحتوم وتخصم الدهر؛ بل كان بين قومه في منزلة الشاعر الجاهلي في قبيلته يشترك عملاً في تدبير سياستهم ويحرضهم قولاً على الحرب إذا ثلمت كرامتهم وينعى عليهم لو أحجموا يوماً عن أداء الواجب، وكأنما كان شعره جريدة (الحلة) القومية تشير عليهم كل آن بسديد الرأي وماضي العزم وفي نار هذه المواقع المشبوبة تلقى الشاعر دروساً من الحكمة جديرة أن توضع بين عيني كل من يحلم بالمجد أو يطمح إلى العلياء، فهو رجل عملي لا يؤمن بالحظ والخيال الكاذب، ولكنه يرى طريق النجاح مرصوفاً بالكد والعناء لا تذلله إلا الإرادة الجبارة والنفس التي لا تلين. وهو رجل نستنكف أن جري ماء الحياة بين جنبيه ثم لا يسعى ويقدم ويصعد حتى يدرك قمة الشرف والسمو، وكم يسخر ويثور على هؤلاء القوالين الذين يقتنعون بالألفاظ الرنانة والأصوات الجوفاء، ألا تراه يقول

لست ممن يدل مع عدم الجد

بفضل الآباء والأجداد

ص: 42

ما بنيت العلياء إلا يجدي

وركوبي أخطارها واجتهادي

وبلفظي إذا نطقت وفضلي

وجدالي عن منصبي وجلادي

غير أني وإن أتيت من النظ

م بلفظ يذيب قلب الجماد

لست كالبحتري أفخر بالشع

ر، وأثني عطفي في الإيراد

وإذا ما بنيت بيتاً بختر

ت كأني بنيت ذات العماد

إنما مفخري بنفسي وقومي

وقناتي وصارمي وجوادي

ومن منا لا يحفظ قوله السائر:

لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا

ولا ينال العلا من قدم الحذرا

ومن أراد العلا عفواً بلا تعب

قضى ولم يقض من إدراكها وطرا

وله غير ذلك الشعر الجيد المصقول يصور فيه همته وتفضيله الموت على الذل والنفور من اليأس حتى في ساعة الفشل والاستهزاء بالعدا والأخطار، ويالها من مبادئ يبتسم لها المجد

ولكنه ما كاد القرن الثامن يذر في الأفق حتى أحاطت بالعراق خطوب وفته بانشقاق أهله على أنفسهم وبإيغال المغول في أنحائه فاتحين متجبرين، فاضطرت الولايات الصغيرة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها إلى الاجتماع بما حولها من الدول الحصينة القوية. وهكذا اعتمدت أسرة الحلي على الدولة الارتقية المقيمة بماردين وعلى رأسها الملك المنصور نجم الدين غازي وقد كانت تتمتع باستقلال داخلي وراثي، ولكنها تعترف بسيادة مصر، وفي عاصمتها هذه يقول (ياقوت في معجمه:(إنه ليس في الأرض أحسن من قلعتها ولا أحصن ولا أحكم)، فدخل الشاعر إلى بلاط هذا الملك يحرصه بادئ الأمر على مساعدة قومه والانتصار لهم على أعدائهم، ثم ما لبثت أن صار شاعراً رسمياً له، يهتف بمناقبه وينث ذكراه. وعند ذلك ابتدأ ظهور النوع الثاني من شعره وهو المدح.

حدث صفي الدين الحلي عن نشوء هذا الانقلاب في شعره فقال: (كنت عاهدت نفسي ألا أمدح كريماً وإن جل، ولا أهجو لئيماً وإن ذل، ولكن الحوادث ألجأتني إلى هجر عريني. . فحططت رحلي بفناء فخر الأواخر والأوائل ملوك ديار بكر بن وائل فمذ ثبتوا بالإحسان قدمي، وصانوا عن بني الزمان وجهي ودمي، حمدت لقصدهم مطايا الآمال، وقلت لا خيل

ص: 43

عندك ولا مال، فليسعد النطق إن لم تسعد الحال) فمن ذلك الحديث نرى أن مدحه لم يكن نفاقاً أو رياءً يتخذه وسيلة للاستجداء والسؤال، وإنما كان نتيجة عاطفة محمودة هي عاطفة الشكر وعرفان الجميل. ويدل كذلك على أنه كان يفهم غاية الشعر حق الفهم ويؤمن بقدسيته الفنية، فكان يربأ به أن يكون عبد الغرض ورسول الحاجة ولا غرو فقد عرفنا صفي الدين شاعراً مطبوعاً لا مصنوعاً.

وإذا أحصينا المدائح التي نظمها وهي كثيرة مستفيضة ألفيناها تكاد تنحصر في أربعة مسالك: مدح الرسول وآله، ومدح الأسرة الارتقية المذكورة، وبني قلاوون، وبيت المؤيد، وكلها تسير على نمط متحد في عدم الوصول إلى المدح إلا بعد مقدمات طويلة في موضوع آخر يسترسل فيها ثم يبذل جهده في اختراع وسائل التخلص إلى غرضه. غير أنه كان يتصرف في أنواع هذه المقدمات بألوان شتى، فتارة تكون غزلاً وأخرى وصفاً لرحلة فتارة تكون فخراً أو خمراً، وقد تكون رسماً لمنظر طبيعي جميل، فكأن كل قصيدة منقسمة إلى شقين لكل منهما غايته وصورته ولا يلتقيان إلا بذلك الرابط الواهن الذي يسمونه (حسن التخلص)

وأوضح ما نراه في معاني المدح النبوي ظاهرتان تشير إحداهما إلى مذهبه والأخرى إلى خلقه: فقد عهدناه محباً مخلصاً لآل البيت والسلالة العلوية يذكرهم كلما ذكر النبي تقرباً إليه بأهله، ويناضل تحت لوائهم كل من عرض لهم بمذمة أو نقيصة، مردداً أنهم أجدر الناس بالخلافة، مسجلاً على بني العباس طغيانهم واغتصابهم لذلك الحق الثابت. وقد سأله نقيب الأشراف بالعراق أن يجيب عبد الله بن المعتز عن قصيدته التي غض فيها من قدر العلويين، فأجابه بقصيدة دامغة الحجة كأنها جدال علمي لولا ما فيها من صور العاطفة الثائرة. وهذه العاطفة الشيعية تدل على حقيقة تاريخية كبيرة، هي أن العلويين كانوا لا يزالون يثيرونه دعاتهم في العراق أملاً في أن يخلفوا العباسيين بعد زوال دولتهم.

أما الظاهرة الثانية فهي اعترافاته الخطيرة أمام النبي (ص) بما جنى في حياته من عبث وجور على الشريعة يصفها بأنها جرائم تندك منها الجبال، ولا نحسبها مبالغة منه لأنا نعرفها حقيقة ثابتة في خلقه، إذ كان حي لشيطان واهي الزمام في بيداء هواه يعطي لنفسه ما تشتهي ثم يعود إلى ربه معتقداً دائماً أن الله غفور رحيم، ولذا نظن أنه لم يفكر في هذا

ص: 44

الندم إلا بعد أن وخطه المشيب وآذنت شمس حياته بالمغيب.

وأما مدائحه في بني أرتق فبحسبنا أن نقول عنها إنها جمعت كل ما انبتت القرائح في الأدب العربي من أوصاف الخلق الحميد، ففيها كرم حاتم ووفاء السموءل وحكمة لقمان وشجاعة خالد وهكذا حتى تطوف على ذرى الفضائل الإنسانية، فهي مليئة حقاً بالمبالغة والإغراق إلى أبعد مدى. ويظهر أن الشعراء كانوا لا يعدون بلاغة المدح في تصوير الحقيقة الواقعة وإنما يقبسونها بعظم المثل الأعلى الذي يتخيله الشاعر ثم يرسمه في شعره. وهذه القصائد قسمان: قسم متفرق مرتبط بالمناسبات العارضة، وقسم آخر مجتمع الأجزاء كديوان مستقل يحتوي على تسع وعشرين قصيدة كل منها تسعة وعشرون بيتاً وقد أسماه (درر النحور في مدح الملك المنصور)

(له تكملة)

ضياء الريس

ص: 45

‌من طرائف الشعر

عصفورة الوادي

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

// لقد رقد السُّمارُ حتى خلا النادي

ولم تبق يقظى غير عصفورة الوادي

شدت في هدوء الليل تندب غائباً

وفي شدوها شجو لسامعه باد

تردده في خير لحنٍ سمعتُه

وتنشده شعراً على خير إنشاد

فيا حسن شعرٍ مطربٍ معاً

ويا حسن لحنٍ ثم ي حسن ترداد

فبِتُّ وعيني لحظُها يخرق الدجى

وسمعي على بعدٍ إلى الطائر الشادي

قد انتبهت في ليلها فتذكَّرت

أليفاً غداً عنها ولم يَعُد الغادي

وبرَّحت الذكرى بها فترنَّمت

ترنُّمَ ثكلى قد أصيبت بأولاد

وقالت تناجي نفسها ما لصاحبي

تأخر عن ميعاده غير معتاد

وقد كان وجهُ الليل ميعادَ عوده

وذلك للأطيار آخر ميعاد

فما عاد عصفوري إليَّ لشقوتي

وكان إليه في حياتيَ إخلادي

أأبعد عن مثواه في طيرانه

فضلَّ طريقَ العود من بعد إبعاد

وكيف تضلّ الطيرُ عن مستقرّهَا

وكل كثيبٍ في الطريق لها هاد

أم احتازه الصيَّادُ في شَرَكٍ له

أم اختطفه برثنُ الأجدل العادي

أم التقفته هِرَّةُ البَرّ بغتة

أم ابتلعته حيةٌ بعد أرصاد

لقد كانم لي إغرادة خير سلوةٍ

كما كان يُسليه عَن الهمّ إغرادي

وكنا إذا طرنا معا لرياضة

نُخلِقُ في جوِّ من الصبح ورَّاد

وبعدئذٍ نهوِي معا في هوادة

إلى فَنَنٍ غَض من البان ميَّاد

وكنا على الأيام زوجين في رضىً

فأفردني دهري وأوحش إفرادي

بقيتُ لأرزاء الزمان وحيدة

بعشٍّ نضيدٍ من هشيم وأعواد

وكنا بنيناه معا فوق أيكةٍ

تُظلّ على ماءٍ وعشبٍ وأوراد

بنيناه حتى تَمَّ نجهد نفسَنا

لنحيا معا في غبطةٍ ثم إرغاد

يقيم بقربي ثم في العشّ واضعا

إذا ما غفا ألغَادَه فوقَ ألغادي

ص: 46

ولكن إلفي قد تخطفه الردى

فأفسد عيشي بعد أيّ إفساد

فيا ليت إلفي كان قد ظلَّ سالما

وإني بريشي والحياة له فاد

ذهبتَ ولم ترجع فهل كان واقفا

لك الموت في جنب الطريق بمرصاد

بربك عُدْ لي أو على الموت دلّني

فإني إلى كأسٍ شربت بها صاد

جميل صدقي الزهاوي

ص: 47

‌بني مصر!

للأستاذ فخري أبو السعود

إلامَ تغيب عنا وتطلعُ

ونلعب في ظلّ الحياة ونرتعُ؟

رضينا بخفض العيش والذلُّ حوله

وما الذل إلاَّ حظٌّ من بات يقنع

نَهِيمُ بهزلٍ لا نهيم بغيرِهِ

ونهرب مِن جِدَّ الحياة ونفزع

ونحجم عن أخطارها وصعابها

وتنهبنا لَذَّاتها والتمتع

وإن نبتغ العليا ترانا كأنما

نُساق إليها كارهين ونُدفَع

نسير على رِسْل ولِلعصر حولنا

مواكبُ في طُرْق العلا تتدفَّع

أساغَ بنو الشرق الحياةَ ذليلةً

وعيشُ بني الغرب العلا والترفُّع

هُمُ قادة الدنيا ونحن وَرَاءهمْ

فُضُولٌ وأذيالٌ تجَرُّ وتَتْبَعُ

رضينا بأن نحيا على الغرب عالةً

كَأن ليس فيما دون ذلك مَطْمَعُ

نُدِلُّ ونستعلي بمخترعاتهم

ولا كاشفُ منا ولا ثَمَّ مُبدِع

ونفخَرُ بالعلم الذي هُمْ عُيُونهُ

ولم نَكُ إلاَّ شَرْبَهُ حيث ينبع

ونَرْفلُ في أعطافها مِن حضارةٍ

وما نحن نَبْنيِها ولا نحن نَصْنَعُ

وكم تائهٍ منَّا بثوبٍ منمَّقٍ

وأحرَى به منه الرَّدِيمُ المرقَّع

وكم مستعيرٍ بَاسَهُمْ ويخاله

بقوَّته فينا يصول ويَدْفع

لهمْ حاضرٌ دالٍ وماضٍ مؤتَّل

وسعيٌ إلى مستقبل المجد أرْوَع

إذا ذَكَروا أوطانهم فَخرُوا بها

ويا حبَّذا فخراً ذمار ممنَّع

يطولون بالجاه العزيز تفاخُرا

ونطرق من ذلّ الإسار ونخشع

ونَشحَذ من لآبائنا وجدودنا

فخاراً على أعقابهم ليس يُخلع

همُ دوننا أهلُ الفخار ولم يكن

عُلوُّ أبٍ في حِطَّةِ الوُلْدِ يَشْفع

نتيهُ بتاريخ لهم ومآثر

قِيامٍ على الأيام لا يزعزع

وما هي ما نَحْنى إلا صحائفُ

بَوَالٍ وأطلالٌ خَوَالٍ وأرْبُعٌ

وفيمَ تبَاهينَا بعزٍّ ورفعةٍ

وحاضِرُنا قَفْزٌ من العز بلقع؟

تَبَرّأ ماضي المجد منه ولو دَرَى

للاشَ له خُوفو وأُذْهِلَ خَفْرَع

ص: 48

ورِيعَ الفراعينُ العِظامُ وأجفلوا

وهالَهُمُ هذا التراث المضيَّع

رأوْا أُمةً تمشي وراء زمانها

وقد عرفوها في الطليعة تطلع

وتقنع من حظّ الحياة بدونها

وقد تركوها في الذرى تتربع

وأوغل فيها الأجنبي نيُوبهُ

وقد عهدوها النجمْ أو هِيَ أمنعُ

وهالهُمُ خيلٌ بمصرَ ورايةٌ

إلى راية النيل المفدَّاةِ ترفع

كأنِّي أُصغِي من علاهم إلى صدَى

يَشقُّ القرون الداجيات فَيُسْمِع

يقول: بني مصر الحياة أو الردى

ومالكُمُ من دونِ هذين مَشْرع

فليست حياة الشعب إلاَّ سيادة

تَرُدُّ طِماع الطامعين وتَرْدَعُ

وليس الردى إلا حياة مَهينةً

يَقرُّبها الشعب الذليل المضعضع

أيرضخ شعب النيل للغير راضياً

بما بات يأباه من الزِّنج أوكعُ؟

هلموا إلى جد الحياة وَنفضُوا

بقية هذا النوم فالعصر مسرع

فما الأمر لو تدرُون إلا عزيمة

تصارعِ شدات الحياة فَتَصْرَعُ

تَعافُ ذلول العيش قد لان ملمساً

وتضرب في وعر الحياة وتقرع

وأنَّى سلكتم فاجعلوا مصر قِبلةً

وحول علاها الملتَقى والتجمُّعُ

شريكتم في سِرِّكم وجهاركمْ

وحين تغيب الشمس عنكم وتطلع

وولوا إلى الأعمال لا القول همكم

فما القول بالمجدي ولا الزعم ينفع

وإن فاتكم منها الجنَاة ففي غدٍ

ستزهِرُ للجيل الجديد وتونِعُ

ص: 49

‌بائع حصير

جاء طفل يروم بيع حصير

زخرفته بالنقش أيدي الصين

فيه بحر يبدو، وفي البحر فلك

وعلى الفلك بضع حورِ عين

وعليه نوتية من غوان

جادفات فيه بكل سكون

فتمنت نفسي الركوب بفُلك

يتحلى بلؤلؤ مكنون

سعد البحر في حشاه وفي أع

لاه در مكلَّل للجبين

وكأن الفلك الذي ضم غيداً

صدف قد طفا بدر ثمين

جاءني الطفل وهو يحسب أني

ذو نقود تغري وكنز دفين

ثم قال اشتر الحصير وزيّن

لك بيتاً يليق بالتزيين

قلت مالي بيت أزيِّنه أو

أي بيت فناؤه يحويني

كل هذا الوجود بيتي ومالي

فيه نيت عند الدجى يؤويني

كل ليل آوي لبيت كراء

بي لا يرتضي ولا يرضيني

لست أشري الأثاث، كل أثاث

لعيوني يلوح، ملك عيوني

كل هذا الوجود بيتي وفيه

من بديع الأثاث ما يكفيني

فأثاث البيوت ليس بأبهى

من رياض الأقاح والياسمين

صوروا البحر في الحصير لكي يش_رَى ويقني والبحر يزخر دوني

وإذا صوروا الغواني بفلك

فخيالي مصوِّر ذو فنون

صوَّروا الكائنات تزهو وعندي

صور فُقْنَ عالم التكوين

وإذا كنت ما اقتنيت أثاثاً

فخيالي أبهى الأثاث يريني

دمشق

أحمد الصافي النجفي

ص: 50

‌الشعر والموسيقى

للشاعر الكبير بول فاليري

عضو المجمع الفرنسي

مترجمة بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي

خير عون على إدراك ما في عمل الشاعر من مشقة وصعوبة، أن نقارن بين ما في يديه من عتاد البداية، وبين العتاد الذي يتصرف فيه الموسيقار. فانظروا هنيهة ما هو مبذول لهذا وما هو مبذول لذاك وهما مقبلان على العمل، وقد خرجا من حيز النية إلى حيز التنفيذ

فما أسعد الموسيقار! إن تطور فنه قد هيأ له حالة كثيرة المزايا. فوسائله معينة مفصلة، ومادة تأليفه موضوعة وضعها المحكم من قبله. وقد يصح تشبيهه بالنحلة حين لا يصبح لهغا هم غير عسلها، حين تكون أقراص الموم المنتظمة ونخاريب شهادها مصنوعة قبلها. فمهمتها مقدورة مقصورة على إخراج خير ما عندها. ذلكم حال الموسيقار. بل إنه ل

يصح القول بأن الموسيقى قديمة الوجود، وأنها كانت تنتظر الموسيقار. وقد مضى عليها وهي تامة الوضع دهر دهير.

فكيف كانت للموسيقى أوضاعها؟ نحن نعيش بالسمع في عالم الضوضاء، ومن جملة هذه الضوضاء تنفصم مجموعة من ضوضاء لها بساطة خاصة انفردت بها، بحيث تتميزها الأذن وتقوم لها بمثابة المعالم. وتلك عناصر لها فيما بينها علائق بديهية. وهذه العلائق الصحيحة الملحوظة بين العناصر ندركها إدراكنا للعناصر نفسها. فالفترة بين نغمتين نحسها مثل إحساسنا بالنغمة

ومن ثم فهذه الوحدات ذات الرنين، هذه النغمات، قمينة بأن تتركب منها تلكم التواليف المطردة، وتلكم المنظومات المتتابعة أو المتحدة في الزمن، التي تطلع لنا فتروعنا ببنائها وسياقها وتواشجها وتقاطعها.

ونحن نميز حق التمييز بين النغمة والضوضاء، ويومئذ ندرك التباين بينهما، وهذا إحساس له خطورة كبرى، لأنه التفريق بين الخالص وغير الخالص، ويستطرد ذلك إلى التفريق بين النظام والفوضى، وهذا أيضاً يرجع إلى أحكام قوانين ذات أثر فعال. ولكننا نكتفي بهذا

ص: 51

القدر.

وهذا التحليل أو التمييز للضوضاء قيض للإنسان إيجاد الموسيقى على أنها عمل قائم بذاته، واستغلال لعالم الأصوات. والفضل في إنجاز هذا أو على الأقل في ضبط سيره وتوحيده وجمع قوانينه، يرجع إلى علم الطبيعة، الذي صار استكشافه هو ذاته بهذه المناسبة وعرف بأنه علم المقاييس. وقد استطاع هذا العلم من قديم الزمان الملائمة بين القياس وبين الإحساس، وأمكنه البلوغ إلى نتيجة كبرى وهي إحداث الإحساس بالصوت على نحو دائم متماثل بواسطة آلات. وما هذه المعازف في حقيقتها إلا آلات للقياس!

فالموسيقار يجد في حوزته مجموعة وافية من الوسائل المحدودة المفصلة تقابل بين الاحساسات والنغمات أتم المقابلة. عناصر عزفه حاضرة بين يديه، محصاة العدد، مرتبة الصفوف. وهذه الإحاطة الدقيقة منه بوسائله بحيث لم يقف عند الإلمام بها بل نفذ إلى كنهها وتزود بها في صميم نفسه، تمكنه من التقدير والتدبير، ومن البناء والتركيب، من غير أن يشغل خاطره بمادة عمله، وميكانيكية فنه بوجه عام.

ويحصل من ذلك، أن يكون للموسيقى مجال خاص بها، هو مجالها على الإطلاق. وإذا عالم الفن الموسيقي، أي عالم الأصوات، ظاهر الانفصال عن عالم الضوضاء. وبينما أن حركة من الضوضاء لا تبعث في وعينا إلا حدثاً مفرداً، فإن نقرة واحدة من النغمات تبعث وحدها كل العالم الموسيقي. وهذه القاعة التي أحاضر فيها والتي تحسون فيها لغط صوتي أو غيره من شتى العوارض المسموعة، إذا أنتم سمعتم فيها على حين غفلة نغمة من النغمات، إذا اهتز وتر أو نبضت آلة منغومة.

فإنه لا يكاد هذا الصوت الفذ الذي لا يخلط بغيره من الأصوات العادية يمس أسماعكم، حتى تحسون فيه فاتحة واستهلالاً وحتى ينشأ في الحال جو آخر، وتخيم على الجميع حالة انتظار خاصة، ويؤذن بالظهور نظام جديد بل علام جديد، وتتهيأ نفوسكم الصاغية لاستقباله، بل إن بها لجنوحاً من تلقاء نفسها إلى توسيع مقدماته؛ وإلى توليد احساسات لاحقة بالإحساس الوارد على نفوسكم، وعلى شاكلته وفي مثل صفائه.

وكما توفر لنا الدليل طرداً فهو متوفر عكساً

فإذا وقع في قاعة من دور السماع، والألحان ترن فيها وتسودها، أن هوى مقعد، أو سعل

ص: 52

ساعل أو اصطك باب، فسرعان ما تشعر بانقطاع لا تدري ماهيته وبأن شيئاً لا يمكن وصفه، أشبه بالسحر، قد بطل أو بالزجاج، قد تكسر أو انشعب.

وحاصل القول أن هذا الجو، هذا السحر القدير الوشيك العطب، هذا العالم من الأصوات ميسور لأهون مؤلف موسيقي وذلك بطبيعة فنهن وبما يفيده مباشرة من هذا الفن.

وبخلاف هذا حالة الشاعر، فإن ما أوتيه أقل حظاً من صاحبه بما لا يحد. فتراه يعالج مطلباً لا يختلف كبير اختلاف عما يرومه الموسيقار وهو محروم مما تقدم بيانه من المزايا العظيمة. فهو ملزم بأن يخلق مبدئاً ومعيداً في كل دقيقة، ما يلقاه الآخر جاهزاً مهيئاً.

يلقى الشاعر الأمور على شر حال من السوء والفوضى. فبين يديه هذه اللغة المعتادة، هذه المجموعة من الوسائل الجافية الغليظة التي يطرحها كل علم مضبوط لكي يبتدع لنفسه أدوات التعبير عن أغراضه. فالشاعر لابد له من استعارة هذه الطائفة من الألفاظ والقواعد المأثورة المنقولة غير المعقولة التي صاغها من صاغها غريبة في استعمالها، غريبة في تفسيرها، غريبة في قيد أحكامها.

واقل الأمور صلاحاً لمقصد الفنان، هو هذه الفوضى الأصيلة التي ينبغي له في كل لحظة أن يستخلص منها عناصر النظام المنسوق الذي يريد استحداثه. ولم يرزق الشاعر بعالم من علماء الطبيعة فيحدد له الخصائص الدائمة لعناصر فنه، ويعين علائقها ونسبها والأحوال المتماثلة لإصدارها. وليس لديه مفتاح للدوزان! ولا ميزان لضبط حركة الأصوات ولا واضعون للسلم الموسيقي ولا متنطسون في أصول تركيب الأنغام! وليس يصح عنده علم يقين، اللهم إلا العلم بالتموجات الصوتية المعنوية في اللغة، إلى أن هذه اللغة لا ترد مورد النغمة في اتجاه واحد على السمع وهو الحاسة المثلى للتوقع والإصغاء، بل اللغة بعكس ذلك، خليط من المنبهات الحسية والنفسية غير متماسكة، ولك كلمة هي مجموع وقتي من المؤثرات لا رابطة بينها، فالكلمة تجمع صوتاً ومعنى، بل أخطأت، فإن كل كلمة هي عدة أصوات وعدة معان معاً، أجل، عدة أصوات، أصوات عداد ما في الوطن الواحد من أقاليم، بل عداد ما في كل إقليم من أناس، وهذا ظرف عصيب على الشعراء، إذ يفسد الوقع الموسيقي الذي دبروه، وتشوه معالمه بتصرف القراء. ثم، عدة معان، لأن الصور الذهنية التي توحيها لنا كل كلمة لا تخلو بوجه عام من اختلاف وصورها الثانوية

ص: 53

التابعة جد مختلفات.

فالقول شيء مركب، وهو مجموع خصائص مرتبطة بالفعل ومستقلة بطبيعتها في آن واحد. والكلام يمكن أن يكون منطقياً عامراً بالمعنى ولكنه خلو من الإيقاع خلو من الوزن، وقد يكون عذب الورود على السمع وهو سخف ولغو، وقد يكون واضحاً وفارغاً، غامضاً ولذيذاً. . . .

ويكفي لتصوير ضروب الكلام وكثرتها العجيبة، أن نعدد سائر العلوم التي نشأت للتوفر على بحث هذا التنوع، وليستثمر كل علم عنصراً من عناصرها. فالواحد منا يستطيع دراسة نص من النصوص على وجوه شتى كل منها مستقل بذاته، فيمكنك الرجوع به دواليك إلى علم الصوت، وفقه اللغة، وتركيب الكلام والمنطق والبيان - وزد عليهما الوزن والاشتقاق.

وهو هو ذا الشاعر يصارع هذه المادة غير المستقرة وغير الخالصة إلى حد بعيد. فهو مضطر إلى النظر طوراً فطوراً في رقة الألفاظ وفي معناها، واستيفاء الانسجام وتنغيم الفقرات، فضلاً عن شتى المطالب الفكرية والمنطق والنحو وموضوع القصيد وأفانين البديع والوشي بله المتواضع عليه من القواعد.

فتأملوا مبلغ الجهد الذي تقتضيه معالجة الإتقان لكلام يجب أن تتوافر فيه، بمعجزة من المعجزات، جميع هذه المطالب دفعة واحدة.

ص: 54

‌العلوم

سمك البكلاه

للدكتور أحمد زكي

السماكة كالزراعة صناعة من أقدم الصناعات، بل هي أقدم من الزراعة لأنها صناعة صيد، والإنسان كان صياداً قبل أن كان زراعاً، يصطاد طعامه على الأرض وفوق الدوح وكذلك في الماء. وكانت طريقته في صيد ما على ظهر الأرض وما في الهواء مسك ما يمسك، وقذف ما يفلت بالحراب مصنوعة من الحجز والخشب ثم من الحديد. ولكن هذه الطرائق التي أساسها القوة لم تغنه في صيد أحياء البحار إلا قليلاً؛ لأن البحر غير الأرض، لم يخلق لحمل الرجل والحافر، والإنسان لم يؤت زعنفة ولا ذيلاً، وهو إن عام فاصطناعاً وتكلفاً، وفوق ذلك فالماء إذا سمك تعثر البصر فيه فلا ينفذ إلا يسيراً لذلك غير الإنسان طريقة الهجوم وعمد إلى الحيلة، إلى الختل والخديعة، فعقف إبرة ربطها بحبل أمسكه بيده، ثم كساها بما يصلح أن يكون طعاماً، ثم في الماء دلاها فجاءت تالسمكة المسكينة تسعى كالناس للرزق فلما وجدته وجدت تفيه حتفها. وطمع الإنسان في غلة من البحر كبيرة، والبحر أبو الخيرات، كثير الفيوض، فعمد إلى الحبل الطويل يمده بين السفينتين تتدلى منه الحبال تحمل الصنارات الكثيرة تخفت تحت ألوان من الطعام شهية لم تبذل عن سخاء. ثم جاء دور الشباك، ثم امتدت هذه وطالت حتى بلغت قيمها مئات الجنيهات. وجاء البخار فاستبدلت السفن الشراعية بسفن بخارية، وارتقت طرق الصيادة وأحكمت، فكثر المصيد وتعددت أنواعه واتسعت تجارته فأثرت الأمم وأغنتها.

ومن الدول من يعتمد في أكثر ريعه واتزان ميزانيته على الدخل الذي يأتيها من السماكة. ولما كانت هذهالدول تصيد الأقل لنفسها، وتصيد الأكثر الكثير لغيرها من الأمم البعيدة النائية، وكان السمك قريب التحلل سريع العطب، عمدت إلى تحليله وتقديره، فأصبح يختزن منه بنسبة لا تختزن بها اللحوم، وصار ما يصاد في القطب يؤكل في خط الاستواء، ومن ذلك سمك البكلاه الذي نحن بحديثه اليوم.

والبكلاه إسبانية معناها سمك الحوت، وهو سمك يقطن المناطق الشمالية من البحر الأطلسي ويقطن بحر الشمال والبلطيق؛ ويوجد كذلك في شمال المحيط الهادي، وتتحدد

ص: 55

أخص مناطقه بخطي عرض 0 و 75

وهو لا يوجد في البحر الأبيض المتوسط. ويسكن من البحر أعماقه على مسافات تتراوح في الأغلب بين العشر قامات والمائة قامة، ولو أنه غوري في سكناه وعادته إلا إذا آن أوان إنساله غادر الأعماق الكبيرة ورحل في قطعان هائلة إلى أماكن من البحر يترجح عمقها بين 20و30 قامة يكون فيها أقل استهدافاً للمهالك، فإذا هو بلغها ألقى بيضه فطفا في الماء، ويحدث هذا غالباً في يناير وفبراير ومارس، فإذا فقس البيض وتبدل واستتم خلقه تدرج في النزول إلى الأغوار الأعمق وعندئذ يبدأ يعيشكما عاش آباؤه، فإذا بلغ من العمر سنة استطال حتى ليبلغ ثمانية من البوصات، ثم يزداد في الطول عاماً بعد عام، حتى إذا استتم عامه الرابع أدرك فاستطاع أن يكون أباً أو أماً، ويكون طوله عندئذ نحو قدمين، وإذا امتد به الأجل عاش إلى أن يطول إلى خمسة أقدام وبلغ ثمانية من البوصات، ثم يزداد في الطول عاماً بعد عام، حتى إذا استتم عامه الرابع أدرك فاستطاع أن يكون أباً أو أماً، ويكون طوله عندئذ نحو قدمين، وإذا امتد به الأجل عاش إلى أن يطول إلى خمسة أقدام وإلى أن يزن خمسين رطلاً.

وتبيض الأنثى من الحوت بيضاً يتذبذب عدده بين المليون والعشرة الملايين في الفصل الواحد تبعاً لحجم الأنثى وزنتها. ويبلغ قطر البيضة جزءاً من عشرينمن البوصة، وليس كل البيض بفاقس، فأكثره يذهب طعمة لغادي السمك ورائحه، وكثير منه يهلك فلا يستتم إنضاجه بسبب مؤثرات فيزيائية لا طاقة له بها، وقد عرفت الطبيعة منه ذلك فزادته عدداً لكي يفلت منه المقدار الذي لابد منه لاضطراد وجوده.

وأكثر صيد الإنسان للحوت يكون في فص إنساله، ذلك لأنه فص التجمع فالترحل إلى سطوح من قيعان البحر أقرب إلى يد الإنسان. وأشهر هذه السطوح مواضع ثلاث، ساحل النرويج، وجزيرة أسلن وجزيرة نيوفوندلند وهي لذلك أشهر مصايد الحوت. وعدادها قيعان ضحلة ببحر الشمال بين بريطانيا والقارة الأوربية.

أما مصايد النرويج فقد هيأت لها الطبيعة ساحلاً متعرجاً، يدخل فيه البحر تارة ويدخل هو فيه تارة أخرى، وينحدر شاطئه في الماء انحداراً باغتاً كبيراً. وفي قبالة هذا الساحل سلسلة جزائر اللوفوتي في حذاء الشاطئ النرويجي وتستدير قليلاً مع استدارته، تنحو عليه، كأنما

ص: 56

تحميه من أنواء البحر الطلق وأمواجه. وعدا هذا تأتي الشاطئ التيارات المائية الدافئة من خط الاستواء من حرارته فتقل نحواً من عشرين درجة عن حرارة أي نقطة من الكرة الأرضية على خط عرضه. ولهذا لا تتجمد البحار النرويجية في الشتاء، فهي تهيئ بقيعانها وطيب جوها مناخاً مستطاباً لقبائل الحوت تنزح إليه لتؤدي في كنف الحب واجب الحياة الأول.

أما مصايد جزيرة نيوفوندلند فأوفقها منطقة تتكون من سلسلة جبال علاها الماء نحواً من ثمانين قامة، قممها تحت الماء من رمل وطين، يرحل إليها الحوت في جماعاته فيجد عندها مسكناً ومستقراً إلى حين. ويزيد في صلاح هذه المنطقة تياران بحريان يلتقيان هنالك، يحملان معهما مقادير لا حصر لها من أحياء متعضونة صغيرة ومن الفطريات، غذاء طيب لا للحوت ولكن لأسماك قشرية وأخرى رخوة يعيش الحوت بدوره عليها.

كذلك لجزيرة أسلن وللبحر الشمالي ميزات من ضحولة واسستار عن هائجات المحيط تجعل الحوت يقصدها.

وتعود السفن بحمولاتها من الحوت، فيشق ويغسل باطنه ثم يملح. وبعد استكمال ملوحته يجفف إما في الشمس إن كانت. وأما في حجرات سخن هواؤها بالفحم، وذلك إلى أن يبلغ درجة من الجفاف معروفة. وقد يجفف بلا تمليح. ثم يصدر هذا القديد، وهو المعروف عندنا بالبكلاه، إلى أوربا الجنوبية ومصر والقارة الأفريقية. أما كبد الحوت فتعالج بالبخار وهي صبيحة فتدر بزيتها المشهور. ولحم الحوت أبيض لذيذ الطعم وهو طازج، سهل الهضم إلا أنه قليل التغذية نسبة إلى غيره وذلك لقلة دسمه، حتى كأنما تركز دسمه في كبده فافتقدته سائر الأعضاء. أما زيته فغذاء طيب كسائر الزيوت ويمتصه الجلد سريعاً فيغذي به الأطفال في بعض الأمراض بدعك بطونهم به. وكشفوا فيه عن فيتمين من الفيتمينات التي تذوب في الدهن فطلبه الطب فغلا ثمنه. والزيت النقي له طعم جميل كطعم الزبدة لا رائحة للسمك فيه، ولكنه سريع العطب بالتأكسد وينشأ عن هذا التأكسد طعمه الكريه، والزيت يتأكسد ولو احتجب عن الهواء لأن به أكسجيناً ذائباً يكفي لإفساد نكهته. والطريقة الحديثة لوقايته من ذلك تتلخص في تفريغ ما فوق الزيت من هواء كائناً ما كان، فينبعث منه كل غاز مذاب، ثم يطلق في الفراغ الحاصل غاز الكربون فيحل في الزيت محل

ص: 57

الهواء.

ويقدر الحوت المصيد في السنة بما بين 300و400 مليون حوتة، ثمنها دون دون الزيت خمسة ملايين من الجنيهات والطازج منه كثير في إنجلترا فقد قصد صيادوها بعد الحرب العالمية إلى منافسة الأمم في اصطياده فبرزوا عليهم. والطازج منه رخيص في إنجلترا، كنا ندفع في الرطل منه ستة بنسات أو دون ذلك. أما القديد فثمن الرطل منه دون هذا.

والحوت له المحل الثاني في جدول أسماك العالم الاقتصادية أما المحل الأول فلسمك الرنكة المعروف بالرنجة ولا نراه في مصر إلا مملحاً أو مدخناً.

وقد بدأ القلق يظهر خشية على الحوت والرنكة وغيرهما من الأسماك أن تنفد من المحيطات وذلك لإمعان الإنسان في اصطيادها ولتحسن العدة التي يستخدمها في ذلك، فهو بتحسنها يأتي بالمحصول الأكثر لقاء مجهود أقل وزمن أقصر. وهم يحاولون اتقاء هذا بإغلاق المصايد أحياناً، وبإنشاء المرابي الصناعية أحياناً أخرى. ويطهر أن الطريقة الأولى هي الوحيدة الناجعة، إذ لابد من أن يتباطأ الصيد حتى يتمشى مع سرعة إنسال السمك فلا يصيد الإنسان غير المزيد. أما الطريقة الثانية فتقليد للطبيعة عسير، وقد دلت التجارب على أن تلك المرابي يأتي أكبرها في العام من الخلف بالمقدار الذي يأتيه بضع مئات فقط من الحوت الطليق في المحيط.

ومصر، مصر الواقعة جنوب البحر الأبيض؛ وغرب البحر الأحمر، وكلاهما مزرعتان تناهضان في أمل الثراء ضياع الدلتا والصعيد، ما دخلها مما أحاطها الله من بحاره؟ لا أدري. إنما الذي أدريه أنها في يوم عيدها القومي تأكل سمك البكلاه، وهو لا ينزرع في بحرها الأبيض، إنما يأتي من أصقاع بعيدة نائية.

أحمد زكي

ص: 58

‌العالم المسرحي والسينمائي

الدرامة والحياة

لناقد (الرسالة) الفني

من الجلي الواضح أننا قبل أن نطرق بحثاً كهذا، علينا أن نتريث برهة نسائل فيها أنفسنا ماذا نعنيه تماماً بكلمة (درامة) - أو بمعنى آخر - ما هو التعريف الذي نستطيع أن نضعه لفن الدرامة إذا ما قورن بالفنون الأخرى كالشعر والتصوير والقصص؟ من الواضح أن الدرامة فن، ولكن أي القيود نستطيع بها أن نحدد صفاته الخاصة التي تميزه عن الفنون الأخرى؟ ولقد يبدو هذا عند النظرة الأولى سهلاً ميسوراً ومطلباً هيناً لا عسر فيه ولا عناء، ولكن قليلاً من التفكير يكشف لنا عن الصعاب التي تواجهنا، وتقد يكون من الخير لنقدر دقة هذا المطلب العسير أن نرجع خطوة أو خطوات إلى الوراء فنمر سراعاً عاجلين بتلك المحاولات التي بذلها أقطاب هذا الفن في تاريخه الطويل ليجيبوا على هذا السؤال وليضعوا لفن الدرامة تعريفاً واضحاً وصريحاً.

من أولى النظريات التي وضعت في هذا الصدد ومن أكثرها ذيوعاً وانتشاراً، تلك النظرية التي نستطيع أن نسميها (نظرية التقليد) والمحاكاة. ولعل من الخير أن نذكرها في أبسط صورها كما جاءت في أقوال (شيشرون) الخطيب الروماني المعروف، فالدرامة عنده (نسخة للحياة، مرآة للعادات، انعكاس للحقيقة) وهذا التعريف، إذا صح أن نسميه كذلك، قال به كثير من النقاد المتعاقبين مئات من السنين، واتخذ أساساً لأبحاث فنية لا عد لها، خصوصاً في عصر النهضة (رنيسانس). بل لقد وجد حتى في العصور الأخيرة أنصاراً وأشياعاً لأنه يتمشى مع أغراض الكتاب الواقعيين (ريالست) في القرن التاسع عشر.

ومن أنصار هذه النظرية في تعريف الدرامة زولا الكاتب الفرنسي المعروف وبومارشيه رجل المسرح الشهير. ومن المقدمة التي وضعها الأول لروايته (تيريس راكوين) ومن كتاب الثاني عن الفن المسرحي نستطيع أن نستخلص الكثير من العبارات التي ندلل بها على أن المثل الأعلى للمسرح عند الاثنين أن يكون (مرآة الحقيقة وصورة مطابقة لما في الحياة)

فإذا أخذنا بهذا الرأي وبحرفيته قلنا أن الدرامة اقتباس من الحياة. وهذا معناه أن المؤلف

ص: 59

المسرحي الحق يجب أن يضع نصب عينيه أن يكتب لنا مشاهد للمسرح تطابق قدر المستطاع ما يحدث في الحياة أو يمكن حدوثه فيها حتى لتجيء هذه المشاهد كالصور وخيالها في المرآة أو كالنسخ المتعددة المتطابقة للشيء الواحد. وتكون محاورات أبطال الرواية الأروع والأجمل إذا كانت تنقل لنا نفس الحديث، بل الكلمات والألفاظ للحوار الذي يقع بين الأحياء كما ينقله الحاكي دون نقص أو زيادة، ويكون اجمل ما في الرواية صدقها وأمانتها للحقيقة.

وإذا نظرنا إلى هذه الآراء في مجملها قد نغرى بأن نصدق أن ثمة ما يمكن أن يقال للدفاع عنها أو تأييدها، ولكن لو فكرنا قليلاً لتبين لنا زيفها وخطؤها. وبغض النظر عما إذا كان في مقدور المرء أن يعتبر أن المؤلف المسرحي ليس أكثر من حاكي يسجل ما يسمع وينقله حرفياً إلى المسرح، فإنه من السهل أن نتبين أن هذا المثل الأعلى للدرامة مستحيل لأن الرواية المسرحية لا يمكن أن تكون صورة مطابقة تمام المطابقة للحياة. وحتى إذا فرضنا أن المؤلف في أحد مشاهد روايته نقل نفس الألفاظ التي تحدث بها فعلاً الأشخاص الذين اتخذهم كنماذج لأبطاله، فإن الحقيقة الواقعة من أن هذا المشهد فصل عما سبقه أو تلاه من المشاهد الأخرى تجعله شيئاً صناعياً محضاً، أو بمعنى آخر تكسبه الصبغة الفنية. وإذا لم يستعين لمؤلف بالآلات الميكانيكية المسجلة للأصوات، فإنه لا يستطيع أن يطمع في نقل الحوار الذي دار في الحياة الحقة بألفاظه وحروفه وتفصيلاته نقلاً دقيقاً غاية الدقة لا تحريف فيه. فإذا كان المؤلف هو الذي خلق المشهد وخلق أبطاله، كما يحدث على الأغلب، لكان من السخف أن نتخيل أن هذا المشهد لو أنه حدث حقاً في الحياة، لتحدث هؤلاء الأبطال، لو أنهم أحياء من لحم ودم، بنفس هذه الكلمات ولدار بينهم هذا الحوار دون زيادة أو نقنص. فمطابقة الحياة في الدرامة شيء مستحيل ومطلب عسير فالريالزم الحق لا وجود له، ثم هو بعد ذلك ليس من عمل الفنان، لأنه ليس من الفن. ولم يكن في يوم من الأيام مطمح كبار الكتاب الخالدين بآثارهم المعروفة، ولا المثل الأعلى الذي حاولوا تحقيقه بأعماله وكتاباتهم ونحن إذا أخذنا بهذه النظرية في معناها الحرفي وحدودها الضيقة طرحنا من مكتبة الفن أحسن ما فيها من أعمال رجال الأدب والمسرح وألقينا بمخلفات أشيل وارستفان وشاكسبير وموليير وأندادهم طعمة للنار.

ص: 60

فإذا أردنا أن نتحرر من هذا الحرج وأن نأخذ هذه النظرية، نظرية التقليد أو المحاكاة، بمعنى أوسع وأرحب، كان لنا أن نعود إلى أرسططاليس الذي جعل أساس آرائه أن الفن في مجمله ينطوي على عنصر التقليد، وأظن أننا في غنى أن ندخل في بحث مستفيض في هذا الصدد وحسبنا أن نقول أن أرسططاليس قد ذكر أن التقليد هو أصدق تمثيل للحقيقة إلا في النادر القليل.

ومن المعروف أن النصوص التي وجدت ونسبت إلى الفيلسوف اليوناني القديم والتي يتحدث فيها عن فن التراجيديا والشعر القصصي اتخذت مرجعاً لرجال الفن ونقاده في شتى العصور وكانت لها مكانة القداسة في عصر النهضة وأطال مناقشتها وبحثها كثير من النقاد في العصر الحديث. ومن الخير أن نلم بهذا كله قدر المستطاع وهو ما سنحاوله في القريب العاجل إن شاء الله.

ونعود إلى بحثنا لنكرر ما قلناه في أسطر سلفت من أن نظرية التقليد وجدت في العصور الحديثة مشايعين وأنصاراً ولكن في معناها الشامل الرحب، وهناك فيكتور هوجو الذي قال في المقدمة التي وضعها لرواية كرمويل (لقد قيل إن الدرامة مرآة تنعكس فيها الطبيعة. ولكن إذا كانت هذه المرآة عادية، مسطحة لامعة، فإنها لا تقدم لنا إلا صورة ضئيلة للأشياء التي تعكسها دون أن تبرزها، صورة صادقة ولكن لا روح فيها، ومن المعروف أن اللون والضوء ينعدمان في الانعكاس البسيط. فالدرامة على ذلك يجب أن تكون مرآة تتركز فيها المرئيات، وبدلاً من أن تضعفها تجمع الأشعة وتكثفها وتطغى عليها قوة التركيز فتجعل من القبس شعاعاً، ومن الشعاع لهيباً وهاجاً، وبهذا وحده تستحق الدرامة أن تكون فناً له خطره وقيمته).

وهذه العبارة في وضوحها وقوتها لها أهميتها الكبرى فيما نحن بصدده، وتتمشى معها كلمة سارسيه من أكبر نقاد المسرح الفرنسي إذ (يقول إن الطبيعة المجردة على المسرح لا تثير اهتمام الجمهور بل تبدو له فضلاً عن ذلك مزيفة كاذبة). ويضيف (في رأيي أن الحقيقة إذا أظهرت على المسرح بصدق وأمانة بدت مزيفة للجمع الحاشد من المتفرجين. إننا نعد فن الدرامة الخلاصة التي تمثل الحياة على المسرح ونعطي الجمهور عن طريقها خيال الحق).

وقد لمس بعض النقاد في عصور متقدمة هذه الحقيقة ولكن في صورة غامضة مبهمة

ص: 61

وذكرها هيدلين الناقد الكبير في قوله (إن المسرح لا يمثل الأشياء كما هي، بل كما يجب أن تكون) وشبيه بهذا ما يقوله جوته (إن من يعمل للمسرح عليه أن يدرسه، ويتفهمه حق الفهم، وأن يلم بتأثير المناظر المسرحية والإضاءة والألوان من نواحيها المختلفة، وليترك الطبيعة في مكانها اللائق بها)

وما نستطيع أن نلخص هذه النظرية بأصدق وأوجز مما لخصها به أحد كبار النقاد الذين يعتد بهم حيث قال: إن الدرامة ليست نسخة من الطبية ولكنها تقليد ومحاكاة لها) وإذا رجعنا إلى الآراء التي مررنا بها في هذا المقال لماماً وجدنا أن أجداها وأثمرها ذلك الذي يتحدث عن الدرامة كمرآة مركزة تجعل من القبس شعاعاً ومن الشعاع نوراً وهاجاً. وإنا لنلمس صدق هذا التحليل إذا ما درسنا الأعمال الفنية الخالدة، لأن الكاتب الموهوب، عندما يقتبس لمحة من الطبيعة، لا يقنع بعرضها مجردة من الروح والحياة، بل يسبغ عليها من وحي فنه وعبقريته ما يسمو بها إلى قمة الخلود ويجعل منها مشاهد قوية مثيرة تلهب الحواس والشعور وتصبغ العمل ذاته بالصبغة الفنية الحقة. وهذه إحدى خصائص الفنان الحق.

ص: 62

‌الحركة المسرحية والسينمائية في العالم

نيويورك

نعت أنباء أمريكا أخيراً هوراس ليفريت من أكبر الناشرين المعروفين في الولايات المتحدة وهو صاحب الفضل الكبر في إظهار أوجين أونيل الكاتب الأمريكي الشهير فقد كان أول ناشر قبل أن يطبع كتاباً له في مستهل حياته الأدبية ونجح الكتاب أكبر نجاح مما ساعد أونيل على الاستمرار حتى وصل إلى ضهرته التي يتمتع بها اليوم. وكان من رأي هذا الناشر ان الكتب الأولى للمؤلفين الشبان المبتدئين يجب أن تعطى فرصة طيبة للظهور تشجيعاً لهم. وربما كان وراء هذا الشاب الحدث عبقي نابغ وكان هذا الناشر يحارب الرقابة الأدبية التي تفرضها الحكومات على الكتب والروايات بكل ما يملك من نفوذ ومال. وأشتهر هذا الناشر أيضاً كمخرج مسرحي ومن أشهر أعماله في هذه الناحية أخرجه في سنة 1925 على أحد مسارح نيويورك الشهيرة رواية (هاملت) بملابس عصرية.

ونذكر بهذه المناسبة أن أوجين انتهى من رواية جديدة دعاها (الوحدة) وستمثل في الموسم القادم على مسرح (جلد) بنيويورك

لندن

عقد في لنده من أمد قريب الاجتماع السنوي (لجمعية الدرامة الإنجليزية) وهي جمعية من أغراضها نشر الدعاية للفن والمسرح في جميع أنحاء إنجلترا، في مدها وأطرافها النائية، وكثير من الكتاب الإنجليز المعروفين بدأت شهرتهم بين أحضان هذه الجمعية وظهرت أعمالهم الأولى على مسارحها. وقد ألقى مستر برنادشو خطاباً قيماً في هذا الاجتماع عن (الهواية والاحتراف) نرجو أن نقدمه لقراء (الرسالة) في عدد قادم.

- مس ميني رينر من أشهر ممثلات المسرح الإنجليزي المشهود لهن بالكفاية والمقدرة ويبلغ عمرها اليوم 64 عاماً وقد التحقت بالمسرح وهي في سن الحادية عشر ولم تنقطع عن العمل خلال هذه المدة الطويلة. وفي إحدى حفلات الأسبوع الماضي أعلنت - بمناسبة عيد ميلادها - أنها اشتركت في 10 ، 000 حفلة مسرحية وهو رقم قياسي جديد في عالم الفن يعد الأول من نوعه.

روما

ص: 63

سيتولى بيترو ماسكاني الموسيقار الإيطالي المعروف رئاسة مسرح الأوبرا الملكية في روما. والمعروف عن هذا الموسيقار أنه يكره التقيد بالمناصب الثابتة ولكنه رضي أخيراً بهذا المركز بعد أن ألح عليه شخصياً السنيور موسوليني. وستظهر على مسرح هذه الأوبرا أربع أوبرات جديدة في الموسم القادم أولها (نيرون) لماسكاني نفسه وبعدها (الشعلة) الأوبرا الجديدة لرسبيني، ثم (سيسليا) للوسيان رفيس، والرابعة أوبرا جديدة لمؤلف حديث لم نجد اسمه في برنامج الأوبرا الرسمي، وإذا أتم مالبيير والموسيقار المعروف الباليه الذي يضعه والذي اقتبسه من أحد كتب بيراندللو فسيكون القطعة الخامسة التي ستعرض على مسرح الأوبرا. وفي حديث لماسكاني مع أحد الصحفيين صرح أنه يعتزم أن يجعل من روما عاصمة العالم الموسيقي وقطب الرحى فيه.

ص: 64

‌القصص

الوردة الحمراء

كوميدية عصرية في فصل واحد

لجاستون سوربيه والبريك كاهويه.

ترجمة فتوج نشاطي

(صالون على الطراز الحديث. . نافذة عند صدر المنظر وباب على كل من جانبي المسرح. . . بعض خور عائلية وأسلحة تاريخية تزين جدران الحجرة. فوق مكتب صغير تتألق باقة من لورود الحمراء داخل آنية شافة. . عند رفع الستار يرى جاستون جالساً على ديوان وثير، مطرق الرأس، حزيناً وقد تناهبته هموم مبرحة. . بعد فترة وجيزة ينتصب فجأة ويتجه نحو النافذة. . . يمر في طريقه بالورود الحمراء فيقف متردداً. . يرنو إليها ثم ينشق في رفق عبيرها العاطر ويمضي إلى النافذة فيلقي منها نظرة سريعة وجلة بعود بعدها إلى باقة الورد يتأملها، مشتت الفكر. وما يلبث طويلاً حتى يقترب ثانية من النافذة ويظل يتردد هكذا بين الورود والنافذة إلى أن يسئمه الانتظار فيحاول إشعال سيجارة لكنه يخفق فيرمي بها إلى الأرض، حانقاً يضغط على زر الجرس فيبدو الخادم فرنسيس)

المشهد الأول

جاستون - فرنسيس

فرنسيس - سيدي. .؟

جاستون - ألم يجئ أحد؟

فرنسيس - كلا يا سيدي.

جاستون - ويريد الساعة الرابعة؟

فرنسيس - لم يصل بعد

جاستون - (مشعلاً سيجارة) والمسيو شنسيريل؟

فرنسيس - لو أنه جاء. . .

جاستون - (مقاطعاً وقد فهم) حسناً. . . (يلقي في حركة آلية بسيجارته إلى الأرض) ألم

ص: 65

ترد برقية؟

فرنسيس - لا ياسيدي

جاستون - والتلفون؟

فرنسيس - لو أن أحداً سأل عن سيدي بالتليفون لسمع سيدي رنين الجرس. .

جاستون - في الواقع. . . (وهو يشير حواليه، ضجراً) أعد عض النظام إلى الحجرة

(يحاول جاستون من جديد إشعال سيجارته في عصبية مضطردة بينما يرتب فرنسيس في صمت الأوراق المبعثرة المتراكمة على المكتب. عندما ينتهي الخادم من عمله يقترب من باقة الورود فيجمع أوراقها الذابلة المتناثرة على أرض الغرفة وحوالي الآنية الشفافة وإذ يحاول المضي بها.)

جاستون - ماذا تصنع؟

فرنسيس - (على أهبة الخروج) أمضي بهذه الورود. .

جاستون - (مستوقفاً إياه) لماذا؟

فرنسيس - لأنها. . . بدأت تذبل

جاستون - لكنك تعلم جيداً أنني لن أستبدل بها غيرها، بعد اليوم

فرنسيس - طبعاً لا. . بما أن سيدي. .

جاستون - (موقفاً سيل التوضيحات) إذن؟ (يعيد فرنسيس الورود إلى مكانها الأول)

جاستون - (مرهفاً سمعه فجأة) ألم يقرع الجرس؟

فرنسيس - ما أظن يا سيدي (يعود جاستون إلى النافذة. هنا يدوي رنين الجرس)

جاستون - (مرتعشاً) أما قلت لك؟

فرنسيس - (مبهوتاً) رن الجرس الآن فقط

جاستون - حسناً!. . اذهب وافتح (يخرج فرنسيس ويعود في الحال مصطحباً شنسيريل)

المشهد الثاني

جاستون - شنسيريل

جاستون - آه! يا صديقي. كاد ينفذ صبري في انتظارك!

شنسيريل - يبدو عليك في الواقع سيما الاضطراب الشديد

ص: 66

جاستون - أقابلت جانين؟

شنسيريل - نعم. ولو أنها لم تتوجه اليوم إلى محل عملها

جاستون -. و. . كيف وجدتها؟

شنسيريل - حزينة جداً

جاستون - يا للصغيرة المسكينة!

شنسيريل - (مشعلاً سيجارة) كلفتني عملاً شاقاً اصاحبي! صدقني لن أحمل نفسي بعد اليوم عناء استنطاق الفتيات التعيسات اللائي هجرهن عشاقهن. . . ساعة القطيعة. .! النهاية. . .

جاستون - عجل، قص علي ما حدث

شنسيريل - لم أمكث بجوارها أكثر من لحظة. لكن. . يالها من لحظة مشئومة!

جاستون - نعم، أقدر حالتها النفسية. . . كانت واجمة دون شك من هول الخبر، مضعضعة الحواس، يائسة. .! الواجب كان يحتم عليك أن تشجعها، أن تهون عليها. . . لكنك فضلت النكوص على عقبيك

شنسيريل - تسمح لي بالجلوس؟

جاستون - إن شئت. . . لكن حدثني. . . أوضح لي. . هل انتزع منك الكلمات انتزاعاً؟ ماذا قالت لك؟

شنسيريل - لا شيء في البدء. شاءت الحديث، لكنها لم تستطع. . شبهت على أولئك الأصدقاء الذين نواجههم بعد كارثة ألمت بهم. . نراهم صامتين، نحسبهم متماسكين صابرين. . نمد لهم يد العزاء. . فإذا بهم يجهشون بالبكاء. . ذكرت لها أني حضرت أتسقط أخبارها. . فاستفسرت عما إذا كنت قد جئت من قبلك. . .

جاستون - وأجبتها؟. .

شنسيريل - إجابة غامضة. .

جاستون - عندئذ؟

شنسيريل - شاهدت وجهها الصغير المعتم تتناهبه سمات التفكير والألم والعزم. . ثم قامت فخطت لك هذا الخطاب

ص: 67

جاستون - (يتناول الخطاب في لهفة وقد بدا عليه التأثر لكنه يقلبه بين يديه دون أن يجسر على فضه)

شنسيريل - يا صديقي لو تسمح لي نصحتك بإرجاء قراءة هذا الخطاب إلى غداة يوم زواجك (يجفل جاستون) لأنك صممت على الزواج

جاستون - بالتأكيد. بما أني قطعت كل علاقة لي بعشيقتي السابقة مع ذلك لكم أجبتها جانين!. . لقد كانت نعم الصديقة الحنون، النموذج الكامل لشريكة الحياة القانعة المحبة. الودود. .

شنسيريل (في ابتسامة) التي تغني بمحاسنها شعراء الشباب والربيع!

جاستون - نعم يا عزيزي روجيه، عشنا معاً قبل الحرب سنتين مترعتين بأجمل ذكريات حياتي!. .

شنسيريل - (ساخراً) أحمد الله على أنك الوحيد الذي يخرج من دنيا الغرام بذكريات سعيدة!

جاستون - غير أن هذه العاطفة الوهاجة. . لم تكن لتدوم إلى الأبد. . جانين التي تعرف دقة مركزي لم تكن لتجهل أن علاقتنا لابد آيلة إلى تلك النهاية المنطقية: الزواج، نعم الزواج الذي كان قد بات حتماً على، وقد أصبحت مضطراً أن أهجر مسكني هذا لألتجئ إلى برج العائلة، هناك في مقاطعة بريتانيا أعيش من أرضي دون إسراف. كان ذلك منذ ثلاث سنين. . إذ كنت أعتزم البعد عن باريس وعن جانين بالطبع، عندما وقعت الكارثة

شنسيريل - أية كارثة؟

جاستون - الحرب الكبرى!

شنسيريل - آه! عفواً! كدت أنسى أننا نصلاها! بالاختصار؟

جاستون - بالاختصار رغماً عن رتبة الضابط التي وصلت إليها ونياشيه الشرف الحربية التي أحملها وجراحي الباهرة التي حصدتها في المعارك لم يكن مركزي المادي قد تحسن عندما. . ساق إلي القدر العطوف. .

شنسيريل - اللؤلؤة النادرة. . . داخل علبتها الذهبية!

جاستون - لا تمزح. . . فالمدموازيل دي شاليني فتاة نبيلة جديرة بكل إخلاص ومحبة

ص: 68

وأقر أني أحببتها في الحال تقريباً. . .

شنسيريل - بهذه السرعة؟

جاستون - نعم في الحال. . . أحببتها. . . لا كما أحببت جانين التي عبدتها عبادة. . . بل كما أتصور أن يحب الإنسان المرأة التي اصطفاها ليجعل منها رفيقة العمر، الشريكة التي يعقد وإياها ضد الحياة وللأبد معاهدة هجومية دفاعية. . . فهذا الحب يختلف عن الآخر كل الاختلاف. . . ربما كان أقل مرحاً وظرفاً وتوثباً. . . لكنه أثبت وأعمق وأبقى!

شنسيريل - يا للجحود!

جاستون - تخطئ يا صاحبي! لم أنس شيئاً. صورة جانين مازالت مطبوعة في خاطري، ومازلت أشعر نحوها. . . بعطف ممزوج بعرفان الجميل وإني لمصمم على رعايتها وتهوين مصاعب حياتها المعيشية. . .

شنسيريل - (ساخراً) لا شك أنها تعتمد عليك في ذلك كل الاعتماد!

جاستون - أؤكد لك أنني معذب لعذابها! حاولت كثيراً تخفيف وقع الخبر عليها وتوطين قلبها لتلقى هذه الصدمة القاسية فلم أقطع صلتي بها إلا عندما أصبح الأمر محتماً. . . البارحة فقط بعد بضع ساعات من تبادلنا خاتم الخطوبة أنا ومرجريت. . . عندها وجدتني مضطراً أن أصارح جانين بحقيقة موقفي وأن أقطع كل علاقة لي بها خصوصاً وقد كاشفتني خطيبتي البارحة برغبتها الملحة في أن تراني داخل إطار مسكني. . عش العزوبة كما تسميه مداعبة. فتصورها يا صديقي وقد جاءتني صحبة مربيتها واتفق وجود. . . الأخرى! أية مأساة!

شنسيريل - فعلاً!

جاستون - تلقاء هذه الزيارة المهددة لم أتمالك من أن أبوح لجانين بكل شيء! هكذا ودعنا بعضنا وداعاً مؤثراً أظهرت خلاله رباطة جأش نادرة، حتى لقد استفهمت مني عما إذا كانت خطيبتي شقراء. . .

شنسيريل - (متشككاً) سيجارة!

جاستون - (رافضاً) شكراً (يفض خطاب جانين الذي كان يقلبه بعصبية بين يديه حتى هذه اللحظة)

ص: 69

شنسيريل - أما زلت مصراً على قراءة هذا الخطاب؟

المشهد الثالث

فرنسيس - فريسة اضطراب شديد) سيدي!

جاستون - ماذا تريد؟

فرنسيس - جاءت مدموازيل دي شاليني. . . مع مربيتها. . .

جاستون (إلى شنسيريل) وقع ما كنت أخشاه! (إلى فرنسيس) أدخلها (بعد خروج الخادم) لا مفر من استقبالها!

المشهد الرابع

جاستون - شنسيريل - مرجريت

جاستون - أنت مرجريت؟ (يقبل يدها)

مرجريت - (مبتهجة) نعم أنا. . . تذكر! أخطرتك أني سوف أزورك صحبة مربيتي. . . (تلمح شنسيريل) أوه! صباح الخير يا سيدي!

جستون - (مقدماً) أعز أصدقائي، روجيه شنسيريل، خطيبتي، مدموزيل دي شاليني

مرجريت - (في ظرف) نأمل أن نحظى برؤيتك قريباً في قصرنا يا مسيو شيسيريل. على شريطة ألا تبوح برؤيتك إياي هنا (تضحك) لأني أجد زيارتي هذه ولو بصحبة مربيتي الإنكليزية بعيدة عن كل لياقة.

شنسيريل - ثقي مدموازيل بتكتمي التام (منسحباً) يا صديقي العزيز. . .

جاستون - (متضايقاً) تنسحب؟

مرجريت - (لشنسيريل) بل ابق يا سيدي لن أطيل المكوث. . . مربيتي إنسانة ظريفة لكنها عصبية المزاج وأراهن أن معين صبرها قد فرغ. . .

جاستون - ما أظرف الخاطرة التي دفعت بك إلى هذه المفاجأة السارة. . . (يختلس نظرة قلقة إلى الساعة)

مرجريت - نعم الخاطرة التي جعلتني. . . أخاطر بسمعتي لأراك. . . بل نعم. . . لا تعترض. زيارتي اليوم شاذة ولا يبعد أن تثير تقولات عديدة. غير أن روح المخاطرة

ص: 70

تغلبت على العقل وتركتني عزلاء عن مقاومة رغبتي الحادة في رؤية خطيبي داخل مسكنه الخاص وسط الأشياء التي اعتادها في ساعة من ساعات حياته اليومية. . لكن. . . ما حل لك؟ أراك مأخوذاً مشرد الفكر. . حتى لقد سهوت عن تقديم مقعد لجلوسي. . .

جاستون - أرجو العفو يا مرجريت. . .

مرجريت - على أني في غير حاجة إلى مقعدك. فليس أمامي من الوقت متسع. . . أولى لك أن تضع جانباً هذه الورقة التي تجعدها أصابعك وتقف على خاطرك الحائر. . (يجفل جاستون لقولها، يتردد لحظة ثم يخفي الخطاب في جيبه. تلقي مرجريت نظرة جائلة حواليها) ما أبدع مجموعة السلاح التي تملكها! (تجلس في خفة على ذراع مقعد)

جاستون - هذه أسلحة أسرتي يا مرجريت

مرجريت - (في اهتمام) ويرجع تاريخها إلى أي العهود؟

جاستون - إلى عهود مختلفة، فهذا الحسام الثقيل. قاتل في سبيل الملك لويس الثالث عشر وقضى في مبارزة على أحد أعوان الكردينال الأحمر: ريشيليو، فتسبب موته في ترحيل جدي الأكبر إلى غيابة الباستيل، أما هذا الرمح فقد كافح في معركة رينان ليحمي زمار الملك. الشمس ويبقي على العرش مجد ذريته. وقد وجد بعد المعركة على ما يظهر بجوار جثة صاحبه!

مرجريت - يروقني أن أضم إلى صدري هذه الذخيرة المقدسة!

جاستون - أما هذا السيف الرقيق الناعم، سيف البلاط المزركش فلكم تخطر على ساق صاحبه وسط حفلات الملكة غير المتوجة مدام لابومبادور في رحبات القصر الملكي! (لا يتمالك نفسه عن اختلاس نظرة عجل إلى الساعة)

مرجريت - والأسلحة الأخرى؟

جاستون - هذا الصارم البتار ناضل تحت أمره القائد روشامبو في سبيل استقلال الأميريكيين، ثم دافع عن الملك التعس (لويس السادس عشر) لكنه رفض المهاجرة إلى خارج فرنسا وقاد الصفوف في معركة واترلو. أما هذا الرمح الدقيق الصنع فقد قاتل أبهر قتال في حروب أفريقيا

مرجريت - (أثناء الحوار الأخير تقدمت من المكتب، وعبثت ببعض ما عليه من الكتب.

ص: 71

تلمح الورود الحمراء فتنحني عليها) يا للأزهار الجميلة!

جاستون - (جافلاً) مرجريت!

مرجريت - (تهم بقطف) تسمح؟ (يشير جاستون بالنفي) لا؟

جاستون - لا

مرجريت - لمه؟

جاستون - (بالغ التأثر) لأن هذه الزهور. . . قاربت الذبول ولم تعد تصلح للزينة. . .

مرجريت - ليكن. أتخلي لك عن زهورك، لكن ما الذي دهاك فجأة؟ أأكون قد أغضبتك، عفو الخاطر؟

جاستون - مرجريت. . لا تعتقدي. . .

مرجريت - كأني بك مللت رؤيتي! أأكون تمطفلة؟ (ينظر جاستون إلى الساعة) والبرهان أنك تخالس الساعة النظر. . . (في حزن) الوداع إذن. أخطأت في مجيئي، أعذروني أيها السادة. سألحق بمربيتي (تخرج)

المشهد الخامس

جاستون - (يتنفس الصعداء) أوف! هذا الخطاب كان يلهب أصابعي!

شنسيريل - لا تتردد إذن. . . وأقرأه (يقرأ جاستون الخطاب واضطرابه يزداد فقرة بعد فقرة ثم يناوله لصديقه)

شنسيريل - (بعد قراءته) فهمت الآن سبب اضطرابك! يا للمخبولة! تريد أن تراك للمرة الأخير، وإذا لم تلمح الساعة الخامسة الإشارة المعتادة، هذه الباقة من الورود الحمراء التي اعتدت أن تضعها عند النافذة أيام كنت تنتظرها. . .

جاستون - سوف تطيع وساوس اليأس!

شنسيريل - وعلام عولت؟

جاستون - لو أنك مكاني ما الذي كنت تفعل، أنت؟

شنسيريل - أنا لا أؤمن بالانتحار العاطفي على أني لو خيرت بين أهون الشرين لفضلت أن أستقبلها. . .

جاستون - أخشى أن تكون هذه المواجهة مشئومة العاقبة. لا أذكر لنا (أنا وجانين) إساءة

ص: 72

تبادلناها طوال مدة علاقتنا ويحضرني أني أبكيتها يوماً. فإذا شاء القدر أن يرينيها تتألم هنا بين سمعي وبصري. . فما يدريني إذا ظللت وقتها متمالكاً نفسي؟. . .

شنسيريل - إذاً لا تستقبلها

جاستون - وإن كانت قد صممت حقيقة على الانتحار. . . (فزعاً) أوه! عندها يلازمني تقريع ضميري مدى الحياة!

شنسيريل - إذاً استقبلها وعجل فالوقت يمر (يخف جاستون إلى باقة الورود لكن ما إن يتناولها حتى يسمع نقراً خفيفاً على الباب ثم تدخل مرجريت فجأة متبوعة بفرنسيس)

المشهد السادس

مرجريت - معذرة أيها السادة أرجوكم. . . نسيت قفازي! يالي من طائشة! يا عزيزي جاستون أخشى أن تكون في نفسك فككرة سيئة عن امرأتك المقبلة! (تنظر يمنة ويسرة وفجأة وقد وجدت ما تبحث عنه) هاهو! (تلاحظ مظهر القلق البادي على جاستون) أوه! جاستون - ما بك؟ أراك تخفي عني شجناً ما.

شنسيريل - هذه المرة انسحب. تسمحين يا آنسة؟

مرجريت - تفضل يا سيدي

جاستون - (لشانسيريل وقد أوشك على الخروج) أيها الخائن أتتخلى عني وأنا في أشد المواقف حاجة إليك؟

شنسيريل - يا صديقي سوف أعود (يخرج)

مردجريت - والآن. . حدثني لا تنكر. أراك في حالة اضطراب شديد ومن غير المعقول أن يكون وجودي هو الذي يصعب عليك إلى هذا الحد

جاستون - أوه!

مرجريت - (ملحة) خبرني. إني أكاد أكون زوجتك. . إن كنت تعاني ألماً أو تقوم في نفسك رهبة مرتقبة فلي الحق أن أطالبك بنصيبي

جاستون (متأثراً) مرجريت!

مرجريت - يخيل لي أن شيئاً تبدل في عينيك وفي قلبك

جاستون - فضلت أنك لم تجيئيني اليوم!

ص: 73

مرجريت - إذاً لأدعك لنفسك

جاستون (في لهفة) تحسنين صنعاً

مرجريت - ألا تقتضيني أكثر من ذلك، لتستعيد صفاء نفسك لا تكذبني الحقيقة. جاستون. عهدي بك أجهر صراحة وأخلص نية. (لا يجيب) صدقني. تشرف حبنا لو أنك تفضي إلي بما يعذب قلبك

جاستون - أنت على حق. . لكن يساورني وسواس أسود إذ أعتزم أن أفتح بين يديك مغاليق روحي الحائر. مع ذلك أقسم لك أني ما تصورت يوماً موقفاً مثل هذا ممكناً وأن تتزاحم الظروف أو تترى. . . دافعة بي إلى موقف التردد بين واجبين

مرجريت - واجبين؟ ماذا تعني يا صديقي؟

جاستون - لا تحمليني على أكثر مما قلت

مرجريت - قلت أكثر مما يجب كي لا تتم. . . إن القلق الذي يساورك خف إلى قلبي وليس من مصلحة مستقبلنا أن تدعني أتخبط فيه. تكلم!

جاستون - (تعد أن يلقي نظرة محمومة إلى الساعة يخرج من جيبه الخطاب ويدفعه إليها بعد تردد قصير) إذن، إقرأي!. .

مرجريت - (تقرأ مرتعشة وقد تهالك جاستون على مقعد ثم تقول في صوت أبح) هذا هو السر!

جاستون - (متأثراً) عفواً (تكاد مرجريت تهوي إعياء فيحاول أن يسندها) مرجريت

مرجريت - (تدفعها عنها في رفق) لم يصبني أذى. . أرجو العفو. . . لكني أحس ألماً ممضاً. . .

جاستون -! مرجريت أخطت إذ بحت لك. . .

مرجريت - (مقاطعة) بالمرة، جاستون. لي سؤال واحد: هذه الإنسانة، مدموازيل. . . (تعود إلى الخطاب) جانين له هي جديرة حقاً بالـ. . . بالاهتمام الذي حملته لها مدى عامين؟

جاستون - نعم يا مرجريت

مرجريت - آه! (تندفع إلى باقة الورود وتضعها على منضدة أمام النافذة.)

ص: 74

جاستون - (في لهفة) ماذا تصنعين؟

مرجريت - أعطي الإشارة

جاستون - كيف؟ تجيزين لي استقبالها؟

مرجريت - أنت؟ لا. . بل أستقبلها أنا

جاستون - أنت؟ لكن هذا محال. .

مرجريت - لم؟ أتخشى على حياتي؟

جاستون - كلا، أخاف عليك مما ينتظرك من عميق التأثيرات. . .

مرجريت - أعنف التأثرات شعرت بها وأنا أقرأ هذا. . (تشير إلى الخطاب) والآن دعني أعم ما يتراءى لي

جاستون - لكن. .

مرجريت - لا تعاند (يسمع رنين الجرس ويدخل فرنسيس على الأثر) أدخل السيدة، فرنسيس (يدهش الخادم لكنه ينحني ويختفي) إن مقاديرنا الساعة في كفتي ميزان. صدقني جاستون. يجب أن أواجه الآن هذه الفتاة. . أحس حاجة ملحة في أن أستوضح أشياء. . دعنا أرجوك، سوف أرجوك، سوف أدعوك في الوقت المناسب

جاستون - (يحاول إقناعها وهي تقوده إلى الباب) مرجريت. . لا أحتمل أن أتصورك أنت خطيبتي. . زوجتي. .

مرجريت - خطيبتك نعم!. . أما زوجتك، فلم أصرها بعد. ينسحب جاستون منهزماً (تبقى مرجريت وحيدة فريسة اضطراب بالغ وقد لفت وجهها تجاه الباب متكئة بيد إلى المكتب)

المشهد السابع

مرجريت - جانين

جانين - (تدخل مندفعة) آه! عفواً. مدام. . أبحث عن جاستون (مستدركة) لكن. . . من أنت؟ آه!. . . حزرت من تكونين!. . . ووجدت من نفسك الشجاعة على اقتحام باب عشيقي؟! (تندفع نحو الباب فتهزه في عنف جنوني)

مرجريت - (صارخة) ابقي!. . (تلتفت جانين إليها، دهشة فتقول لها في لهجة أرق) أتوسل إليك!. . .

ص: 75

جانين - (دهشة) تتوسلين إلي؟

مرجريت - نعم، إن دعى الحال. . . لأستبقيك.

جانين - والداعي؟

مرجريت - لأعلم إذا كان الخطاب الذي وجهته إلى. . . المسيو كيرولون.

جانين - (ثائرة) وأطلعك عليه؟. . .

مرجريت - لم يطلعني عليه بدافع عاطفة الزهو التي تتصورين.

جانين - قبل أن نخوض غمار هذا الحديث الشاذ، خبريني. . ماذا تصنعين في هذا البيت، أنت ما من ليس مكانك هنا؟

مرجريت - أتعرفينني؟

جانين - حدثني عنك بما فيه الكفاية!

مرجريت - إلى هذا الحد؟

جانين - لقد تابعت خيالك الممقوت في نظراته الشاردة، في فترات صمته الحالم بل وفي كل همسة وحركة. . . . آه! لكم عذب قلبي وأضناه (تلتفت حواليها) ألهذا السبب بات الآن يخشى مقابلتي؟

مرجريت - تخطئين، مدموازيل. . لك أن تقابليه إن رغبت. . . على أني شئت قبلها أن أحادثك وبما أن الصدف الأليمة تسوق بين يدي هذه الفرصة السانحة

جانين - لا أطمع في شفقتك، مدموازيل!

مرجريت - وأنا لا أسمح لنفسي بها. . ولكن ألا يمكنني أن أحاول تهوين وقع. . .

جانين - مصابي؟ وكيف؟ أتعشم أن لا يكون ذلك بتقديم. . ما في مكنة الوارثات السريات أمثالك أن تقدميه من مال. . . ما أهون الثمن!

مرجريت - أسفاه

جانين - لا تشتكي، فلولا مهرك لما فزت بالزواج من جاستون

مرجريت - هل ألقى جاستون في روعك أنه يقترن بي طمعاً في ثروتي؟

جانين - (هازة كتفيها) لو أنه صارحني بذلك لما صدقته. .

مرجريت - إذن؟. . . آه!. . فهمت ما يجول بخاطرك وهو أسمى مما نطقت به؛

ص: 76

تتصورين أن مالي سيساعد بلاستول في جهوده المقبلة، لكنك تتناسين، أنه في مقابل ذلك يحمل إلي كنزاً لا يقوم بثمن من التقاليد المجيدة والأفكار المبتكرة التي تفوق في قيمتها جميع أموال العالمين. واتفقت معي من برهة على أن جاستون يشعر نحوي بعض العطف وأنا، من جهتي. . لا لا. عفواً:

جانين - أنت تحبينه، حزرت ذلك

مرجريت - إذن. . ألا تجدين ارتياطنا طبيعياً؟

جانينن - لو أنني أملك ثروتك لفكرت مثلك، على أنك محقة في النهاية، خذي إذن جاستون، امضي، وثقي أنه أسعد منك حظاً: سوف تكونين ملكاً له بكليتك. أما هو فلن ينالك منه أكثر مما تركت لك من فضلات. .

مرجريت - لم توجهين إلي هذه العبارات القاسية؟

جانين - إنني أحمل في قلبي سنتين من أجمل سني شبابه بما فيهما من فتوة حارة. . . ونشوة فياضة. . .

مرجريت - أوه! صمتي!

جانين - (متهالكة على المقعد) أضحي بالحزن يعميني حتى ليدفع بي إلى الشر والأذى

مرجريت - مدموازيل. . .

جانين - دعيني وشأني.

مرجريت - جانين، هل لك أن تجيبيني على سؤال أخير يجمع تذكاراتك الحية، يجمع قلبك المعذب في صراحة تامة؟

جانين - وهل أملك من الجهد ما أجيبك به على سؤالك؟

مرجريت - قد يبدل ردك حظوظنا نحن الثلاثة. أتفهمين؟ إذن أجيبي. هل وعدك جاستون يوماً ما. . بالزواج؟

جانين - وعدني بالزواج؟. . كلا لم يعدني بشيء!

مرجريت - (تتنفس) و. . سامحيني إن كنت لح، لكني في أشد الحاجة إلى استيضاح الحقيقة كاملة. . ألم يحاول جاستون أن يعللك بيوم مقبل تصبحين فيه زوجته دون أن يقطع على نفسه عهداً صريحاً بالزواج؟ أقسم لك بأعز من أحب لو أنه بذر في قلبك مثل هذه

ص: 77

الفكرة لأكونن على استعداد تما للابتعاد عنه إلى الأبد دون أمل في الرجوع. . (ترفع جانين رأسها في بطء) وتطيل النظر لحظة إلى مرجريت ثم تطرق من جديد) لم لا تجيبين؟

جانين - وما الفائدة؟. . ألا تحسين أني ما عدت آمل شيئاً؟

كلا لم أحب جاستون إلا حباً خالصاً لا يداخله وعد ولا أمل. . إني لم أكن اجسر على المجيء إلى هنا إلا عندما كنت المح من الشارع قرب النافذة هذه الباقة من الورود الحمراء. . . فهل كان في مكنتي أن أحلم بمشاركته يوماً في حياته النبيلة، أن أحيا بقرب هذه المجموعة من الأسلحة الأثرية ، ، أمام هذه الصور العائلية التي يطالعني منها الأشراف والقواد العظام، أنا ابنة الشعب البائسة؟ صدقيني يا مدموازيل. . مثل هذا الحلم الباهر لم يقم بخاطري. . على أني لا أملك نفسي عن الشعور بأن كل شيء قد انتهى. . (تنكي)

مرجريت - (في تأثر بالغ) وهل أنا التي أهجت في قلبك هذا الألم الممزق؟. . آه عفواً! يا صغيرتي جانين

جانين - ليس في مقدورنا الآن أن نبدل شيئاً!

مرجريت - من يدري؟

جانين - لو أنك شئت إعادة جاستون إلي لما استطعت. . لن يعود بعد اليوم. . . انتهى. . . على أني أفضل الآن وقد عرفتك أن تكوني أنت التي تمضين به لا امرأة أخرى. . . لكن عفوا!. . . عيوني مازالت تغص بالدموع. . . مدموازيل! اغفري لي أقوالي الطائشة التي فهمت بها منذ لحظة. . . كنت مجنونة. . . لم أك أتوقع رؤيتك هنا. . . أسأت إليك، فعفواً! والآن، وداعاً!

مرجريت - ألا تفضلين رؤيته قبل الرحيل؟

جانين - (بسرعة) كلا.

مرجريت - إذن، قبيل أن نفترق، يا جانين، عديني بأن ما ورد في خطابك قد تبخر. . . أتسمحين لي أن تكوني جد شجاعة؟ (تسير جانين) مهما تصورتني بعيدة عنك فثقي أن لك في صديقة حبيبة. . .

ص: 78

جانين - الوداع يا مدموازيل (تجيل بصرها في أنحاء الججرة) أبحث عن تذكار. . . هذه الورود. . . (تنزع الزهور في لهفة من الآنية) إنها ملكي هذه الورود! كل ما أملك من متاع العالم! (في يأس دامع) على أن الزمن العاتي سينويها عن قريب! (تضم باقة الورد إلى قلبها وتختفي)(تتابعها مرجريت في نظرة أليمة ثم تسقط باكية على مقعد أمام المكتب)

المشهد الثامن

مرجريت - جاستون

جاستون - (مقبلاً) أأنت وحدك؟

مرجريت - (ترفع رأسها دون أن تنظر إليه) فضلت ألا تراك، على أنها وعدني ألا تستسلم إلى اليأس

جاستون - مرجريت

مرجريت - يا للصغيرة المسكينة لن تبرح خاطري صورتها وهي تمضي إلى حال سبيلها، وحيدة، باكية

وقد ضمت إلى صدرها تلك الباقة من الورود الحمراء. . التي تشبه قلبها الدامي.

جاستون - مرجريت! كأني بك لم تعودي تحبينني. أتجدينني مذنباً

مرجريت - لا يا جستون. إني لا أتهمك. لقد دفعت عنك جانين لم تكن تلك خطيئتك، بل خطيئة المقادير، خطيئة الحياة، الحياة التي تجعلنا بالرغم منا قساة إلى هذا الحد

ينزل الستار

ص: 79

‌وجه صالح للسينما

للكاتبة الألمانية فيكي بوم مؤلفة الفندق الكبير

(تتمة)

وفي صباح أحد الأيام التقى بها رناتس ثوربج وهي صاعدة إلى غرفة الملابس في الأستوديو لتأخذ الشال الذي تضعه على كتفيها أثناء التمثيل. وسألها قائلاً: صباح الخيرز يا دريجالسكي. كيف حالك؟

- بخير يا سيدي ونظر إليها ثوربج ملياً ثم قال:

- بخير نعم. أراك تحسنت كثيراً. .

وكأن في صوته ما يدل على عدم رضاه لأنها بخير. . . وفكرت دريجالسكي فيما تحمله قلوب الناس من حقد وحسد!

(عند عودتها اشترت زهوراً وآنية جديدة للزهور. واشترت طعاماً تحمله إلى ولدها في المصحة إذ كانت تزوره كل أحد. وكان سعيداً في تلك المصحة مسروراً بتلك العصي الحمراء والزرقاء التي كانوا يقدمونها له هناك ليلهو بها.

كانت دريجالسكي تبتسم كلما فكرت في ولدها. وهاهي تفكر فيه وتبتسم وتنظر إلى خيالها في المرآة - وكانت قد اشترت مرآة - وابتسمت أيضاً وقد اطمأنت إلى شكلها في مرآتها الجديدة.

وكانت أعدت طعاماً فاخراً لهر بوش، واشترت دهاناً لشعرها وزينت رأسها، واشترت غطاء جديداً للمائدة التي كانت تتناول عليها وهر بوش القهوة، وقد بدأ هر بوش يفكر فيها وفي أنها تصلح قرينة له.

جاء شهر أكتوبر، ولأول مرة أحست دريجالسكي أن القوم في الأستوديو غير راضين عنها. وكان ما طلبوه منها سهلاً بسيطاً. إذ كان عليها أن تعبر شارعاً ثم تقف قليلاً تحت المصباح وتسعل ثم تمضي في طريقها في بطء. . . ولكنها أخطأت في كل حركة قامت بها، وقد استقام ظهرها وزال الانحناء الذي كان يزيدها ضعفاً، وجفت عيناها، وقد تعودتا النظر إلى الضوء الساطع وأعاد المخرج المنظر ثلاث مرات، ولكنها لم تفلح فطردها وعادت إلى بيتها.

ص: 80

وفي المرة الثانية جاءت في ثوبها الأبيض ومعطفها الأزرق الجديد، فتلقوها بشيء كثير من العنف وقدموا لها ملابس بالية ولكنها لم تظهر في صورتها الحقيقية الأولى، وأمرت في قسوة وحدة أن تحضر دائماً مرتدية تلك الأسمال البالية التي جاءت بها الأستوديو لأول مرة، ولكنها لم تدرك قط ما يريده أولئك الناس وقد أصبحت الآن تخجل من لباسها القديم، ولماذا يسمح لغيرها من النساء أن يظهرن في أثواب جميلة، ويأبون عليها ألا أن تظل في مظهرها التعس؟

ومر شهر نوفمبر ولم تدع للعمل إلا قليلاً؛ وكانت تصور في يوم من أيام ديسمبر بين جمع من الناس في رواية (الأشقياء) ولم تدرك أن هر فيلب المخرج كان يشير إليها حين كان يصيح بعماله لماذا تركتم هذه المرأة من غير تزيين وجهها؟ ما هذا الإهمال؟ ومد أحدهم يده وجرها من ذراعها إلى غرف التزيين وقام العامل بطلاء وجهها وتصوير التجاعيد عليه، تجاعيد الفقر والجوع التي فقدتها من شهور مضت.

جاء فيليب إلى غرفة ثوربج فوجد امرأة تبكي بكاء مرا ًوسأل ما الخبر، فأجابه ثوربج

- هذه دريجالسكي جاءت تشكو لأننا لم نستدعها من عهد بعيد، فأجابت وهي تنتحب

- كنت أقول. إنه ليس من العدل ألا أدعى إلى العمل وقد أصبح في وسعي الآن أن أحضر في ثياب لائقة، ويخيل إلي أنكم ترونها جريمة من عاملة مثلي أن تأكل وتتغذى، إني أستطيع بتلك الدهانات التي يصبغ بها الوجه أن أسدي لكم ما تريدون. ولا أحسبكم تريدون مني أن أظل جائعة في أسمالي البالية، فكل ما في الأفلام غير حقيقي، وقد رفضتم عودتي إلى العمل لا لسبب إلا لأن غذائي قد تحسن. فأجابها فيليب وحدة وغضب:

- لا، يا سيدتي فأنت مخطئة، إننا نريد في الأفلام شيئاً أكثر من التمثيل نريد حياة، الحياة الحقيقية. وإذا كنت تريدين لنفسك عيشة راضية فلا شأن لنا بك.

قال ذلك وسكت وترك الغرفة، ثم قال ثوربج وهو يفكر:

- نعم، إنه على حق يا دريجالسكي، إن الفن شاق وقاس، عودي إلى حياتك الأولى، أنهكي قواك في العمل، لا تفري من الشقاء، أقضي الليالي ساهرة، وأعيدي إليك ولدك، وعندئذ ندعوك ثانية، هل فهمت الآن؟

لا، لم تفهم درجالسكي قط، وخرجت من الغرفة وكأنما انحنى ظهرها قليلاً مرة أخرى،

ص: 81

خرجت وقد استحال عليها أن تفهم شيئاً

وكانت تسائل نفسها؛ علام كل هذا؟ أيدفعون نقوداً لكي أظل جائعة؟ فإذا كسبت من النقود ما يكفي لأحسن طعامي طلبوا إلي أن أعود إلى الجوع، وإذا وجدت من الغذاء ما يكفيني طردوني من العمل! سأحدث بوش عن هذا كله. ربما كان خيراً لي أن أعود إلى عملي، غسيل الملابس، يخيل لي أنهم هنا في الأستوديو كلهم مجانين

محمود عزي

ص: 82

‌الكتب

ابن خلدون وتراثه الفكري

تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان

أصدر الأستاذ المؤرخ الكبير محمد عبد الله عنان كتابه القيم، (ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري) فأدى به واجباً طالت بنا الأيام ونحن عاجزون عن أدائه. ولئن كان أهل الأدب ورجال العلم والتاريخ قد قابلوا هذا الكتاب بما يليق به من الترحيب والتقدير لما رأوا فيه من ترجمة وافية لحياة العالم المؤرخ الفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون الذي شهد له كبار رجال الغرب بالعبقرية وقدروه حق قدره، واعترفوا بأنه واضع أصول علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، فأني قد قابلت هذا الكتاب النفيس لا بما قابله الناس فحسب، وإنما قابلته كذلك بفرح وغبطة، ذلك بأنه قد حقق أمنية لي طالما تمنيتها وناديت بها على صفحات الصحف وهي أن نعمل على إحياء ذكرى مؤرخنا الفيلسوف العظيم حتى يعلم المسلمون خاصة والشرقيون عامة مقدار علو مقامه، وليقفوا على مدى سمو علمه فيجعلوه مفخرة لهم وينتفعوا بعد ذلك بتراثه الفكري العظيم.

وإذا كان الأستاذ الكبير محمد عبد الله عنان قد أرضى العلم والتاريخ بترجمة حياة عالمنا ومؤرخنا الفيلسوف بعد أن كان لا يعرف من حياته ألا ذرو يسير لا يحيط به إلا القليلون، وأطلع جيلنا على عظمة هذا الرجل ومبلغ أثره الفكري، وكشف عن فضله على العلم والتاريخ والأدب، فإنه قد بقي أمر ذو خطر لم يسع حضرة المؤلف نفسه إلا أن يتحدث عنه ويشيد هـ، ذلك هو مقدمة تاريخ ابن خلدون، تلك المقدمة التي حملت نتاج عبقريته وكانت سبب عظمته التي بهرت علماء الغرب جميعاً وجعلتهم يشهدون له بالنبوغ والألمعية، فإن طلاب الأدب والعلم الذين ناشدهم الأستاذ عنان أن يعكفوا على دراستها والانتفاع بها لا يجدون بين أيديهم نسخة صحيحة منها يرجعون إليها، ذلك بأن كل ما طبع منها قد مسه التحريف، وناله التصحيف، وقد ذكر لنا الأستاذ أحمد زكي باشا أنه لما استيقن من وجود المسخ والتحريف والتصحيف فيما طبع من هذه المقدمة ظل يسعى حتى أسعده التوفيق بالعثور على نسخة خطية من هذه المقدمة مصححة بقلم ابن خلدون نفسه وعلى أنه قد أنفق في سبيل نقل هذا الأثر النفيس نحو ثمانين جنيهاً فإنه يأسف جد الأسف إن لم يجد

ص: 83

أحداً من رجال العلم أو من أصحاب المطابع قد سعى في طبعها ونشرها، ولا يزال هذا الكنز مدفوناً بالخزانة الزكية

فإذا كان الأستاذ الكبير محمد عبد الله عنان قد قام بهذا الفرض الكفائي فأرخ حياة ابن خلدون فإنه لا يزال عليه فرض آخر لا يتم الفرض الأول إلا به، ذلك أن يعمل على طبع نسخة صحيحة من مقدمة ابن خلدون فيحظى بالحسنيين ويتم بذلك عمله الخالد وحبذا، لو تولت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبع هذه المقدمة ووقف على تصحيحها مع الأستاذ عنان الأستاذان الجليلان أحمد أمين وأحمد حسن الزيات فيؤدوا بذلك أجل عمل للأدب والعلم والتاريخ

إني أناشد حضرات الأساتذة الأجلاء عنان وأمين والزيات بحق العلم الذي يعملون له مخلصين أن يجعلوا من عملهم للعلم طبع مقدمة ابن خلدون ولتجعلها لجنة التأليف والترجمة والنشر من حسناتها في (نشر) الكتب القيمة والأسفار النافعة.

محمد أبو ريه

ص: 84