المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 280 - بتاريخ: 14 - 11 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٨٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 280

- بتاريخ: 14 - 11 - 1938

ص: -1

‌الغازي كمال أتاتورك

ربما كان (كمال أتاتورك) أضعف من (مصطفى كمال) في الدلالة على نشور دولة في قائد، ونبوغ أمة في رجل، وبلوغ حكومة في زعيم، وتاريخ نهضة في حياة فرد! فإن (مصطفى كمال) أسم على كل أولئك نقشته في الآذان والأذهان الأقدار المصرِّفة والعبقرية الخلاقة في مدى عشرين سنة! ولكن (أتاتورك) لّقبٌ أطلقوه على النسر المحلق بعدما قبض مخلبه وطوى جناحه، فلم يطر معه في جو، ولم يقع به على فريسة، ولم يدل إلا دلالة الأبوة على الأسرة الطائعة والألفة الجامعة والرعايا الحنون!

لم يكن مصطفى كمال رحمه الله رجلاً من رجال المصادفة والحظ،

يرفعه إلى البطولة خلو الميدان، ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة؛ وإنما

كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي

يوشك أن يضل، والحيويةَ للشعب الذي يأبى أن يموت. والغالب في

هذا الصنف من الناس أن يكون مستبداً رأيه حاكماً بأمره، لأنه يظهر

والقوم في ضلال أو انحلال فيكون تفرده بالأمر تنبيهاً من الله وتوجيهاً

من الطبيعة؛ ومن ثَمَّ كان المضاء والفداء والإيثار والعدل من أخص

صفاته

جرت الطبيعة في تهيئة مصطفى كمال على منهاجها في تهيئة الأبطال، فولدته في مهد الفقر، وربته في مدارج القرية، وغسلته بأنداء الحقل، وسقته من عرق العمل، ففلح الأرض، ورعى الغنم، وتلقى من الطبيعة الصافية الحرة أخلاق البطل الذي رمى المنجل وأخذ السيف، وأنصرف عن قيادة القطيع إلى قيادة الأمة

تستطيع أن تقول: أن الوراثة المختلطة والنشأة القروية والبيئة المقدونية والأم الصالحة قد فعلت فعلها جميعاً في تكوين مصطفى كمال؛ ولكنك لا تستطيع أن ترد إلى عامل من هذه العوامل ذلك القلق الروحي الذي استولى عليه في جميع أطوار عمره، فتركه ثائراً لا يهدأ، وطامحاً لا يرضى، ودائباً لا يستقر. إنما هو سر الينبوع يذيع، وقبس الإلهام يتقد، وفيض الحيوية يزخر؛ فهو راعاً قلق في المرعى، وطالب ثائر في المدرسة، وقائد متمرد في

ص: 1

الجيش، وزعيم مسيطر في الحكومة

رأى مصطفى طغيان عبد الحميد يخنق الحرية ويزهق النفوس ويرهق الضمائر، فقاومه وهو يافع في جماعة (الوطن)، وهاجموه وهو شاب في جمعية الاتحاد والترقي، وقضى على تراثه كله وهو كهل في المجلس الوطني الكبير. ثم كان في كل عمل تولاه يمضي مضي الأمر المقدور، فلا يتقيد برؤسائه الألمان، ولا بزملائه الترك، إذا رأى الفوز في خطته أو الصواب في رأيه

وعصفت الحرب الكبرى بغليوم وبوحيد الدين، ومزقت معاهدة (سِفر) رقعة الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء، فكان لكل حليف درة من تاج محمد الفاتح، حتى لم يبقى للخلافة إلا موضع العرش. ونزل الخليفة ووزراؤه على حكم القادرين فاعترفوا بالضيم واستكانوا للمذلة. وأعتقد الناس أن (الرجل المريض) قد لفظ نَفْسه فلا حسٌ ولا حركة. ولكن الشعوب الحربية يتنخلها الانتخاب الطبيعي فلا تموت بالصيحة كما تموت الشعوب الوديعة، فبقيت الروح التركية تضطرم وتفور في مصطفى كمال ورفاقه الميامين على شعاف الأناضول، فجمعوا فلول الجيش المحطم وكرّوا به على اليونان فكبكبوهم في البحر، وضعضعوا عزائم الأحلاف فهادنوهم في (مودانيا) مهادنة النصر، وعاهدوهم في (لوزان) معاهدة الاستقلال. وبُعثت تركيا من جديد على صرخة كمال وأنصاره كما يبعث المقبور على نفخة الصور، عارية من دنياها القديمة، منقطعة عن ماضيها الغابر، فاستبدلت الجمهورية بالخلافة، والقبعة بالطربوش، وفصلت بين الدنيا والدين، وكتبت من الشمال إلى اليمين، وأدارت ظهرها للشرق، وساوت بين الرجل والمرأة في الحق، وسجلت نفسها في عصبة الأمم من مواليد هذا القرن!

قالوا: إذا كان محمد من جهة البشرية معنى العرب، فإن مصطفى كمال من هذه الجهة معنى الترك. ووجه الشبه في زعمهم أن أتاتورك أحيا وجاهد واصلح وشرع، وأن مبادئه ستنطبع في العقلية التركية فلا تصدر إلا عنها ولا تسير إلا عليها؛ وقد فاتهم أن نهضة محمد يسددها قرآن ويسندها وحي، وأن نوطتها في القلوب آتية من اقتناع العقل لا من شدة السلطان؛ وقد انتقل العرب على هُدَى قائدهم الأعلى من حال إلى حال لا يقاس ما بينهما من البعد والاختلاف بما بين حالي الترك، ومع ذلك ظلوا في طريقهم الواضح إلى الله ثلاثة

ص: 2

عشر قرناً ونصفاً لا ينكصون ولا يضلون. فليت شعري أيظل الترك في طريقهم إلى الغرب بعد أن همد الصوت المُهيب وسقطت العصا المهددة؟ إن الناس ليختلفون في الجواب عن هذا السؤال. ولعل كثرتهم يعتقدون أن التغلب على العقائد المغروسة والتقاليد الموروثة والآثار الماثلة لا يتيسر في مثل هذه المدة. ولكن المختلفين والمتفقين كلهم لسان واحد في أن كمال أتاتورك أعظم من أنجبت تركيا شجاعة قلب وبراعة ذهن وأصالة رأي وطهارة يد وسلامة ضمير

تغمده الله برحمته، وجعل ثوابه كِفاءً لصدق جهاده وحسن نيته

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌بقية السحر والمثنوية

للأستاذ عباس محمود العقاد

في كتاب حديث باللغة الإنجليزية عن الآثار الدينية بمصر ذكر المؤلف معاني المعابد القديمة وطواف المسلمين بها في المواسم وفي غير المواسم يلتمسون قضاء الحاجات أو يطلبون وقاية الأبناء والأعزاء، ويعلقون على جدرانها خيوطاً أو خلقاناً تتصل بأصحابها كرامة الصنم أو القديس القديم، وقال المؤلف بعد ذلك ما معناه أن هؤلاء المسلمين ولاشك هم من عنصر الفراعنة الأقدمين، وأن هذه العقائد هي سلسلة الوراثة من الآباء إلى الأبناء والأحفاد

ومثل هذا التفسير يجوز لو كانت العقائد مما يورث في الدماء وراثة تشريحية كما يقولون في مصطلحات العلم الحديث، ولكن العقائد لا تنتقل هذا الانتقال ولا تبقى إلا بآثارها في المجتمع أو بأساسها من النوازع النفسية الخالدة، وليس منها الإيمان يولي مخصوص أو بمكان محدود. بل ذلك هو حكم العرف والتقليد

لقد لاحظنا كثيراً في الصعيد أناساً يذهبون إلى أصنام الفراعنة ولاسيما آلهة النسل - يطلبون الذرية ويفرضون على أنفسهم النذور، ويتلون بعض العزائم والدعوات. ولاحظنا كثيراً أناساً من المسلمين يطوفون بغير المعابد الإسلامية دفعاً لمرض أو اتقاء لبلاء، فلم يخطر لنا أنهم يصنعون ذلك بفعل الوراثة المتغلغل في التركيب على غير علم من ذويه، وإنما خطر لنا أنها بقية من السحر وبقية من الإيمان بعناصر الشر تساور الناس من جميع الأديان

فالمسلمون والنصارى واليهود والمجوس والبوذيون يلجئون إلى السحرة للتعوذ من الشرور، ولا يقول أحد إنهم أبناء أمم قديمة كانت تدين بهذا الدين أو ذاك، ولكنهم في الواقع يؤمنون بالسحر اليوم كما كانت الأمم القديمة تؤمن به على السواء في أفريقيا وأوربا وآسيا والأمريكتين وفي كل صقع من أصقاع العالم. ولو بقي في أستراليا مثلاً رجل واحد يلجأ إلى ساحر ليحميه بالرقي والتعاويذ لما جاز أن يقال إن هذا الرجل من نسل المصريين الأقدمين لأنهم كانوا أمة يسود فيها طائفة من السحرة والكهان. بل كل ما يجوز أن عقيدة السحر لها مرجع واحد من نوازع النفس الإنسانية، وهو خوف المجهول والإيمان بوجود

ص: 4

عناصر شريرة تصيب الناس ويتأتى لهم اتقاؤها بالطلاسم والهدايا والقرابين، على أيدي السحرة من ذوي الصلة بتلك العناصر أو تلك الأرواح

فالمسلم المصري الذي يلجأ إلى صنم فرعوني لا يتوجه إلى ذلك الصنم لأنه يعبده أو يحس في نفسه نوازع الوراثة من قتل الآباء والأجداد، ولكنه يتوجه إليه كما يتوجه إلى ساحر يخدم الشياطين ويصون الناس عن أذاها بجعل معلوم، ومن دأبه أن يتوقع الشرور من جانب الشياطين، فكيف يتفق على مهادنتها ومسالمتها إلا أن يكون الاتفاق على أيدي وسطائها المقبولين وسفرائها المقربين؟ إن الاتفاق مع شيخ من الشيوخ الصالحين قد يطول أمره، وقد يكون إشهاراً للحرب يستميت فيها الشيطان ثم ينهزم آخر الأمر بعد التنكيل بمن أثاروه وناوأوه. ولم هذا التطويل وهذه المجازفة؟ وماذا يجدي المتوسل المسكين أن ينهزم الشيطان في نهاية المعركة على يد الشيخ الصالح؟ أليس أحكم من ذلك وأدنى إلى النجاح أن تهدئ من ثورة الشيطان بالتوسل إلى سفرائه المعروفين؟

تلك هي الحالة العقلية أو الحالة النفسية التي تحفز بعض المسلمين إلى ابتغاء المعونة من الساحر أو من الصنم الفرعوني المهجور

ونقرب هذه الحالة بعض التقريب فنسأل: ماذا يصنع الفلاح المصري اليوم إذا علم أن منسراً من اللصوص هجموا على داره فانتزعوا منه طفله وحيوانه وأنذروه بإحراق زرعه؟

إنه لا يؤمن بحكومة مشروعة لأولئك اللصوص، ولا يحبهم، ولا يرضى عن وجودهم، ويعلم أن الطريق المشروع هو تبليغ الحكومة، وأن الحكومة إذا ما دخلت في حرب سجال مع أولئك اللصوص فالغلبة لها لا محالة، واللصوص من مقبوض عليهم في يوم من الأيام بغير جدال

ولكن ما العمل إذا قتل اللصوص طفله وحيوانه وحرقوا زرعه وداره قبل وصول الحكومة إليهم ونجاحها في القبض عليهم؟ أليس الأجدى من ذلك أداء (الحلاوة) المفروضة والتماس السلامة من هذا الطريق القريب؟ وهل يقدح ذلك في طاعته للحكومة وإخلاصه للقانون وكراهته لمنسر اللصوص؟؟

هذا بعينه هو أسلوب المسلم المصري في التفكير حين يعن له أن يحمي نفسه وأبناءه من

ص: 5

أذى الشياطين أو أرباب الكفر القديم.

إنه يؤمن بالله ويعرف أنه هو الإله الوحيد الحقيق بالطاعة والعبادة، وأنه إذا توسل إلى ولي من أوليائه الصالحين فهو منتصر في نهاية المعركة لا محالة، ومطمئن إلى جانب الله مالك الملك وقامع الأنس والجن والمردة والشياطين.

ولكن ما العمل إذا قتل الشيطان ابنه أو مسه بطائف من الخبل قبل انهزامه في المعركة التي يشنها عليه ولي الله؟ أليس الأجدى من ذلك أداء (الحلاوة) المعلومة وكتابة الحجاب المطلوب وتسليم الإتاوة وكفى الله المؤمنين القتال؟؟

فالسحر هو مهادنة بين المؤمن وعناصر الشر إيثاراً للدعة والإيجاز في علاج الأمور، وليس فيه إيمان بإله قديم ولا تراث من دم موروث في العروق.

ويشبه الإيمان بالسحر الإيمان الخفي بالمثنوية في نفوس الجهلاء وبعض المتعلمين.

لقد كانت مدام دي ستايل تقول إنها ملحدة ولكنها تعتقد وجود الشياطين، أو أنها فقدت رجاءها في الخير ولكنها لم تفقد خشيتها مما في العالم الظاهر والباطن من شرور.

والمسلم اليوم يؤمن بالله، وأن إبليس رسول الشر في هذه الدنيا غير مشلول الحركة ولا مغلول السواعد، فقد يصيب من أراده بالضرر ثم يكون المرجع في دفع ذلك الضرر إلى الله.

ولم يكن هذا اعتقاد الأقدمين من جميع الأمم مصريين وهنديين وفرساً وعرباً وأوربيين وأمريكيين.

بل كان اعتقادهم أن للشر إلهاً مناهضاً لإله الخير يتصاولان ويتصارعان، ولكل منهما معابده وكهانه وشعائره وصلواته، ومنهم من كان يصلي ويتقرب لإله الشر دون إله الخير. لأن إله الشر هو المخيف المؤذي الذي لا يكف عن الإساءة إلا بمهادنة وقربان. . . أما إله الخير فلا خوف منه ولا انقطاع لخيره، إذ هو مطبوع عليه انطباع زميله على النكاية والإيذاء.

بطلت هذه العقيدة وخلفتها عقيدة التوحيد، ولكنها ذات رجعات وعقابيل تظهر في المعتقدين والملحدين. فأما المعتقدون فمثالهم أولئك الجهلاء الذين يتوجهون إلى صنم فرعوني قديم، وأما الملحدون فمثالهم مدام دي ستايل التي تخاف العفاريت والشياطين ولا تخاف الله.

ص: 6

وفيما تقدم كله تفسير لما أشكل فهمه على الأستاذ مورتون مؤلف الكتاب الذي أشرنا إليه.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌الحقائق العليا في الحياة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب

(بعض الألفاظ إذا نطقت بها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)

1 -

الإيمان

أعجب لفنان لا يؤمن وهو دائماً يقلب حواسه في الطبيعة!

إلا يحس الربط الجامع بينها وبين قلبه؟

أهو يعجب إن رأى صنعه إنسانية تحاكي نماذج الطبيعة، ولا يعجب من النماذج الحية نفسها، التي تقذفها الأرحام وتنفتح عنها الأكمام، وتنسجها ظلمات الأرض، وتصبغها أضواء السماء؟

ألا يعجب من يقظة القوانين الدائمة الصيانة للذرة والمجّرَّة وما بينهما؟

أنا أدعو كل ملحد إلى شيء واحد: أن يعيد النظرة مرة ثانية في أبجدية الحقائق، وأن يستحضر روح طفل يفتح عينه لأول مرة على الحياة فيرى فيها كل شيء جديداً: الحياة الماثلة في الطبيعة المجردة لا في الطبيعة (المحفوظة في علب) كما يعبر الأستاذ توفيق الحكيم

أدعوه أن يترك الألفاظ الاصطلاحية التي ساقها الجدليون وأهل الخلاف، فدخلت إلى فكره واحتلته وخنقت الأصوات الطبيعية التي تنبعث فيه منادية إلى الأوليات والمبادئ الفطرية دائماً. بل إني أدعو كل ذي لب وقلب: أن ابتدئ حياتك! كن طفلاً من جديد. . . أنظر إلى الدنيا بعين ريفي أبله فوجئ بزينة المدينة. . . إنس ألفاظ الناس وتعاليمهم. إن كثيراً من معلوماتك دخلت إليك وأنت قاصر لا تميز الخبيث من الطيب. إنهم خدعوك في الحق وخدعوك في الباطل. فليس كل الحق عندك حقَّاً، وليس كل الباطل كذلك. . . وقد بنيت أحكامك بعد أن كبرت واستقللت على أشياء لم تتأكد من صحتها ولم تخبرها بكل عقلك وإلهامك. فأعد النظر في كل شيء تظفر بلذة عظمى: لذة انكشاف حقيقة نفسك ودنياها لك

لقد أتى (ديكارت) أبو الفلسفة الحديثة بالعجب العجاب حين أعاد النظر في نفسه ودنياها

ص: 8

من جديد. . . إنه جدد حياة الفكر البشري كله حين جدد حياة نفسه فهدم كل ما فيها ثم أعاد ما يستحق البناء منه وذرى أنقاض الباطل في الريح وفي وجه الشيطان. . .

سترى الناس لا يسيرون على الجادة، ولكن يتفرقون على بنيات الطريق ودروبه المسدودة أو الموصلة إلى التيه. . . أو أنهم يستديرون وجه الطريق ويستقبلون قفاه. . . أو أنهم يتخذون قطاع الطريق إدلاء ومرشدين ورواداً. . .

إن الطب يدعو إلى صحة الأجسام بتصفية الفضلات والزوائد والأخلاط المضادة. . .

فلماذا لا تصفي كل ما في نفسك لتذهب فضلاتها وزوائدها وسمومها. . .؟

إن هذا يذكرك نفسك دائماً ولا يدعك تذهل عنها بالاشتغال بقشور حياتها وبالنزاع الكاذب عليها، ولا يشغلك عن مواكب الحياة التي تمر أمامك في كل لحظة

إنه مسح لزجاجتها حتى تكون شفافة صادقة الوصف والنقل لما وراءها. . .

والذهول عن النفس بالخبز والذهب والحديد، فَقدٌ لها وإهدار لحياتها الحقيقية، وسوء فهم لطرق أمتعها. وإن طعم الحياة لا يذاق إلا بالتيقظ الدائم لها في كل لمحة ونَفَس

والإنسانية هي هذه النقطة، لأن الحيوان في ذهول دائم يسير مكباً على وجهه لا يتيقظ إلا إلى مشتهاه. ولذلك غلب الذهول عن الشئون الوضيعة، على عقول الفلاسفة والفنانين الصادقين، لأنهم دائماً في شغل بصيد الخواطر التي تقفز وتحوم حول حواسهم وأفكارهم

ومتى ابتدأت حياتك شعرت بنفسك ثم شعرت بيد قاهرة خفية تدفعك من غير إرادة منك ولا استشارة لك إلى هذه الدار العجيبة الكبيرة الهائلة: الدنيا. وتلك اليد هي مناط الإيمان. يجن العقل ولا يستطيع أن يتصور أن الطبيعة خالية منها أو خارجة عن طوعها. . .

فالإيمان أن تقذف بنفسك دائماً في أحضان هذه القوة القاهرة الحامية لحقائقها وقوانينها وأن تكون معها كما يكون الطفل مع أبيه: يلوذ به ويعوذ، ويعتز ويفرح، ويفتخر وينتسب.

الإيمان هو استمداد القلب قوته وحياته من واهب الحياة وقيوم الدنيا. فالإنسان به مسندٌ ظهره إلى جدار السموات والأرض، مُحْتم بقوانينها، ومسلط عليهما، سائر دائماً في صف مجدهما وحقهما: مجد الحياة وميزان العمل فيها، شاعر أنه قوة خادمة للإلهية عاملة ناصبة للتعمير وإقرار الحياة فيهما، فاهم أنه قيوم صغير نائب عن القيوم الأكبر، تتجدد فيه الحياة بتجدد خواطره ويتدفق فيه فيض مستمد منها يحيا به كل الحيوات. . .

ص: 9

ثم هو في مخاطبة دائمة مع المشيئة الغالبة العالمة المبدعة التي تلتقي عندها الخلائق

وإن إدراك معنى من معاني الإلهية في خفقة من خفقات الروح أمر يحطم الحدود الضيقة التي يعيش فيها الإنسان، ويجعله يتسع للعالم كله، فيرى الخلائق جميعها تلتقي وتزدحم وتنصب في قلبه. . . فمن من المتأملين لا يريد أن يرى الدنيا جميعها في لحظة خارجة عن حدود الزمان؟

من منكم يا راصدي الدنيا يأبى لنفسه هذا الأتساع وهذا الإدراك لكل شيء في موضعه الحقيقي بين يدي الإله، سواء أكان صغيراً صغيراً كالذرة، أم كبيراً كبيراً كالمجرة؟!

قولوا يا موصدي أبواب العلم في وجوههم وفي جوه الناس!

أجيبوا يا مدمري سعادة الإنسان ومهدري معناه ومضيعيه في الأشواك والصخور بين السعالي والغيلان!

أجيبوا يا مشرديه في أودية التيه، وخاطفيه من أحضان أبيه وقاذفيه إلى قرار اللعنات والطرد والحرمان والفقد الذي ليس معه عزاء!

أجيبوا فإني لا أفقه ما ترمون إليه إلا أن تكونوا قطاع طرق الرحمة ومطاردي الإنسانية من فراديس سعادتها. . ولن تكونوا بذلك إلا شياطين ممسوخة لا تظهر في أثوابها، أو مأجورين للشياطين تدفع لهم أجورهم من الشهوات!

أجيبوا يا باحثين عن فراديسهم وهي في قلوبهم. . . ولكن بينهم وبين أن يعيشوا فيها شيء واحد: هو أن يؤمنوا أنها في قلوبهم قبل أن يروها وبعد أن يروا الحقيقة الكبرى التي تملأ الأكوان فلا يجحدوها. . .

أجيبوا يا صانعي الألفاظ ومبلبلي خواطر الناس وجالبي شقائهم الدائم بالعمى عن كل شيء يضيء والصمم عن كل شيء يصيح!

إنهم يبحثون عن سعادتهم فيما وراء قلوبهم، ولذلك يهدمون كل شيء ويقتلعون كل شيء من مكانه ويفتحون كل (قمقم) كما يفعل الذي يبحث عن متاع ضائع ثمين أليم الفقد. . .

كل هذا لأنهم اخترعوا طائرة وسيارة وراديو وتلغراف. . لذلك أغضوا عن البعوضة والبعير، ونسوا خالقهما وما بينهما. . نسوا الذي اخترع الآلة العجيبة التي في رؤوسهم، وهي التي اخترعت هذه الأعاجيب التي بها يفتنون. .

ص: 10

يقول توماس كارليل ما معناه (إن رفع اليد إلى أعلى لا يقل عجباً عن طيران جسم في الجو، وسماع الصوت من قرب لا يقل عجباً عن سماعه من آخر الأرض)

فالمبدأ المعجز موجود منذ الخليقة يراه كل ذي فكر يعبد الحق الأصيل ولا ينساه إذا رأى محاكاة له

والإيمان وصاية واسعة المسئولية على كل شيء: يشمل رعاية النفس والقربى والرحم والوطن والإنسانية والحيوان والجماد. . . نعم الجماد فله على المؤمن أن يضعه موضعه في الفكر وأن يجمله ويسخره ويتأمله ويسبغ عليه من حياته هو. . .

فالمؤمن ليس فردياً أنانياً ضيقاً حياته له وحده. حتى عياله؛ إنه يلدهم لجيش المبدأ الذي يعمل له، هو متجرد من سلطان كل شيء، لأن معه كل شيء؛ إذ كان على موعد مع ما يفنى منه هنا حيث يتلاقيان عند ملتقى كل شيء، عند الله الذي إليه تصير الأمور فله عين ممتدة البصر وراء الفاني تصير معه وتعرف مقره النهائي، فلا يشعر فقده ولا يحرم رفده لأنه معه على اتصال فيما وراء الحجب والكثافات. . . فأيُّما سموٍ وخلود للنفس يشبه هذا فيما بين يدي عشاق الخلود من الفنانين والعلماء؟ فمن يتبع الخلود فليلتمسه عند ملتقى كل شيء وكل ظل وكل ضوء وكل صوت. ما بين المؤمن وبين الإلهية شيء من الحب لا يقاس معه شأن آخر من شئون الحب في قليل ولا كثير. . . لأنه يدري أن أباه الحقيقي هو واهب الحياة وحافظها والقائم عليها والمنظم لآلاتها في جسده. وليس لأبويه من ذلك الحب شيء إلا لأنهما سبيل شعوره بهذه الرحمة والحب من الإلهية التي أوجدته ليتمتع بأفانين الدنيا وأفانين النفس، وإنه ليرجع إليه في كل أمر سار أو ضار بفرح طفل أو حزنه، وإنه ليدري أن لضحكه ودموعه صدى عنده. وشتان بين معتقد هذا ومحسه وبين من يرى نفسه وحيداً بين معارك الدنيا وحرب الشر والخير، ليس معه عين أبيه ترعاه!

إن الثاني يدخل إلى الدنيا ويراها داراً من غير صاحب يملكها ويتعهدها. فهي عنده شيوع ليس لأحد فيها حرمة إلا بمقدار قوته، فيأخذ منها جهرة إن وسعه الجهر، وخلسة إن أحس القهر. لا حدود أمام أطماعه. وأطماعه غير محدودة، والإنسانية عنده قطعان آبدة متوحشة لا رحمة بينها ولا حب إلا في نطاق الضرورة.

وأي شقاء للنفس إذا لم تعرف أن للدنيا مالكاً! إنه شقاء يوحي بالجريمة في صور فظيعة

ص: 11

فاجعة كجريمة (نيرون) في حرق (روما) بأهلها. وكجرائم (جوف فوشيه) وزير نابليون، الذي استعمل كل ذكائه في التنكيل والتخريب وخدع نفسه إذ كتب على قبره (الموت نوم أبدي)، وكجرائم الفوضويين والمعطلين والدهريين الذي يرتكبون كل شنيعة على حساب العدم

لا يدخل نفس المؤمن شيء إلا بعد استئذان إيمانه. وما عرفت سلطاناً لشيء على النفس مثل سلطان الإيمان كما غرسه وعمقه القرآن. وإن النفس لتلاقي به كل شيء، فان كان من عوامل البطش استمدت من جبار السموات مدداً عليه، وإن كان من عوامل الرحمة استمدت من الرحمن صوراً من رحمته

وإن المؤمنين ليصبرون على غزو الشبهات لعقولهم ولا يدعونها تصل إلى قلوبهم. وهم أكثر الناس انقذافاً بالشبهات لأنهم ليسوا أغبياء ولا عجزة مغفلين عما في الدنيا من الأحاجي والألغاز؛ فعقولهم دائماً في احتكاك مع حقائق الحياة وما فيها من الآراء والمذاهب والأديان وفي تعجب دائم قد يصل بهم إلى درجة الحيرة (ولم تزل الحيرة سمة العارفين)

ولم أر إلا واضعاً كف حيرة

على ذَقّنٍ أو قارعاً سن نادم

نهاية إدراك العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

قالوا وقلنا دعاوى ما تفيد لنا

إلا الأذى واحتجاجاً في المداجاة

وإنهم ليعلمون أن الله راض لهم الفتنة ليصفيهم، ولا يأخذ منهم إلى قدسه وسبحات عرشه إلا من يثبت على اتجاهه إليه برغم حجب الغيب الكثيفة من جهة وبرغم أضاليل الحياة وتناقض بعض صورها في ظاهر بعض العقول القاصرة، وبرغم همزات الشياطين ونزغهم (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون)

(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)

وإنهم ليكتمون ما عساه يصيبهم منها في صدورهم علماً منهم أنها أمراض طارئة في عصر الشك الذي يصيب كل باحث كما أصاب الغزالي أبا الزهد والمعرفة حتى تكسرت عنه العقائد الموروثة) كما يقول في كتابه: (المنقذ من الضلال)، فيرون تحصين الناس منها حتى تبرأ قلوبهم ويهديهم الله إليه بعد جهادهم فيه، فيعرضوها بعد ذلك مع دوائها وبراهين

ص: 12

كذبها وبطلانها وعلما منهم كذلك أنهم ما أوتوا علمهم كل شيء، وأن أساطين العلم المادي لم يعرفوا إلى الآن ما هي المادة التي هي أول ما يدرك. . دع عنك ما خفي في عالم الآفاق وعالم الأنفس، وعلماً منهم كذلك أن أكثر الناس ليسوا مثلهم متفرغين للتفكير في الحقائق ومقابلة بعضها ببعض، وإنما أكثرهم يأخذون الحقيقة أو الشبهة أو الأضلولة فيعيشون بها طول حياتهم، وقد يموتون عليها إلا أن يتداركهم الله بمن يغسل قلوبهم من الشبه والأضاليل

تلك ذخيرة الإيمان في قلب! فأين منها تفريغ الإلحاد للقلوب من كل معاني عزائها وهنائها وقوتها وخلودها؟ أين منها ملؤه لها بكل معنى أثيم أو تافه أو فان؟ يا ويل من أراهم فارغي القلوب وقد صاروا الآن لا عدد لهم!

لقد ضاعوا لأنهم فقدوا ميراث عزائهم ولم ينالوا الدنيا

وعندي أن كل ملحد واجب عليه إخلاصاً لإلحاده أن يكون مجرماً سفاكاً أنانياً وحشياً حتى يحقق مقتضيات إلحاده فلا فائدة من الأخلاق والعلوم والبدوات مادام القلب فارغاً من الله. وقد قلنا في مقال (حرمة البيان)(ما هو الحق؟ ما هو الشرف؟ لولا الله، كل المعايير ساقطة باطلة مبلبلة إذا لم تكن في يده هو. . . كل الصدق كذب. . . وكل الخير شر، إذا لم يقله لنا هو. . .!)

لعمر الحياة لو كان الإيمان كذباً لكان ألد من الصدق! ومادام الإنسان يطلب السعادة والراحة فلماذا لا يطلبهما هنا؟ لماذا يخطئ معنى دوامهما؟ افرضوه كذباً. . . فهل برئت حياتكم من الكذب؟ إنها مجموعة أكاذيب مات منها حكماؤكم غيظاً أيها الناس!

إنه قياس أدركه الأقدمون واختار العقلاء منهم ما عبر عنه شاعرهم بقوله:

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

ومادمتم تقيسون قيمة الشيء بالمنفعة، فأيما شيءٍ أنفع من معنى الإيمان في حياتكم؟ إنه أعظم معنى جلب النفع للبشرية. وقصة تقدم الإنسانية هي قصة المؤمنين منها؛ فإنهم هم الذين تسلموا قيادها مرحلة مرحلة لأنهم أحسوا الإيمان بالقيوم الأكبر فأحسوا الوصاية نيابة عنه على القطيع القاصر، وحملوا أعباءه ونهضوا بها نهوض الجليدين الضليعين الذين لم يستول عليهم ضعف البشر لأنهم أولو العزم الذين في قلوبهم ذلك المعنى الحديدي الذي لا يفلت منه شيء: وهو الصبر! (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم

ص: 13

فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) فكل معاني شرف الإنسانية شعب وفروع من تلك الأرومة

ولذلك لو تغيرت فكرة الإلهية يجب أن تتغير موازين الخير والشر. ولكم في ضمير الإنسانية إيماناً عميقاً بالخير من غير سبب ظاهر، وكفراً عميقاً بالشر من غير سبب ظاهر؛ وقد أدى ذلك الفيلسوف الإنجليزي (باركلي) إلى أن يأخذ من هنا برهانه على أن هناك عقلاً أعظم قد أقر موازين الخير والشر في القلوب كما هما، لأن الخير والشر عنده كذلك

(الرستمية)

عبد المنعم خلاف

ص: 14

‌التعليم والمتعطلون في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

هناك غير ذلك حب التضحية والإيثار، وفي هذا يقول الله في كتابه الكريم:(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وهذا يستلزم أن يمرن الفتى أو الشاب أو الرجل على عمل الخير والإحسان إلى الغير في القول والعمل وأن يقلل من التفكير في شخصه ومصلحته الخاصة. وأن يتعفف عن العمل لنفسه فقط. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) ويقول سنيكا: (لو أعطيت الحكمة كلها لنفسي على أن أستأثر بها وأمنعها عن اخوتي بني الإنسانية لكرهت الحكمة)

ولاشك أن تمرين الإنسان نفسه على حب غيره ومساعدته مع التقليل من حب نفسه يدفعه إلى الإحسان المستمر. وإلى البذل ثم إلى التضحية وإيثار غيره على نفسه. وهو أعلى مراتب السمو الإنساني.

ومن أحسن الأمثال التي يمكن أن تضرب في التضحية والإيثار ما قرأناه عن أمة اليابان الفتية وإقدام أبنائها على بذل المهج والتضحية بالنفوس في سبيلها. من ذلك أن الحكومة أعلنت عن (طوربيد) اخترعه أحد المخترعين يستلزم دخول إنسان فيه يوجه إلى هدفه إذا ما قذف، فإذا اصطدم بالهدف بارجة كان أو نسافة أو غواصة انفجر بمن فيه فقتله في الحال. ولكنه في الوقت نفسه بفتك بهدفه فتكاً ذريعاً ثم أعلنت عن حاجتها إلى أربعمائة شخص لهذا الغرض المهلك. فتقدم إليها سبعة آلاف شاب يطلبون تلك التضحية عن طيب خاطر. وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة من التضحية والإيثار فلقد ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب زوج فاطمة ابنة الرسول أنه قال لها يوماً: جهزي لنا طعاماً. فقالت: والله ليس عندي غير الماء. فقال لها: إذن أمسك اليوم صائماً. ثم قال لها في اليوم التالي: جهزي لنا طعاماً يا فاطمة. فقالت: والله ليس عندي غير الماء. فأمسك صائماً ثم تكرر ذلك في اليوم الثالث. وفي اليوم الرابع خرج إلى السوق فرهن بعض الأشياء عند يهودي واشترى بما أخذه من نقود دقيقاً وسمناً وعسلاً وأحضره إليها. فجهزت الطعام ولما جلسا للأكل دق الباب فقام فوجد رجلاً يبكي فقال له: ما خطبك؟ قال: لي عشرة أيام لم أذق الطعام. فعاد فأخذ إليه ثلث الطعام. ولما جلس مع زوجه إلى الأكل دق الباب ثانية فقام

ص: 15

فوجد امرأة ومعها طفل رضيع يبكيان فقال: ما خطبك؟ قالت: لهذا الطفل اليتيم خمسة أيام لم يذق الطعام. فذهب فجاءها بالثلث الثاني من طعامه. ثم عاد فجلس مع زوجته للأكل فدق الباب ثالثة فذهب فوجد رجلاً مسلماً كان قد أسره الكفار ثم هرب منهم ولم يتذوق الطعام منذ خمسة عشر يوماً فجاءه بالثلث الأخير من الطعام، ثم خرج إلى المسجد جائعاً، فوجد رسول الله جالساً فابتسم لما رآه وقال له: لقد أنزل الله فيك قرآناً قال: وما هو يا رسول الله؟ فقرأ (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) فسر عليّ بذلك سروراً عظيماً. وكان هذا نعم الغذاء الروحي. بأمثال هذه القصص والحوادث يجب أن يتعلم الناشئة كيف يكون البذل، وكيف يكون الإيثار

ثم هناك بعد ذلك تعويد الناشئ الاعتماد على النفس والتغلب على الصعاب بالمكافحة والمثابرة وهو خلق نجد شباب اليوم أشد ما يكونون حاجة إليه في معارك الحياة ومنافساتها القوية، ويستلزم أن يمرن الفتى على الصبر على المكروه واحتمال المشاق والمثابرة على العمل فلا يتبرم إذا أخفق ولا ييأس إذا فشل. بل يتابع عمله ويستأنف جهوده مستبشراً بالمستقبل مملوءاً أملا وثقة بالنجاح والوصول إلى هدفه عاجلاً أو آجلاً مهما لقي من عنت أو إرهاق جاعلاً نصب عينيه مثله العليا حتى يفوز بما يبغي. فقد قال نابليون بونابرت:(لا مستحيل على قلب الشجاع) وإن أخوف ما أخاف على شبابنا ضعف العزائم وقلة الأقدام وعدم المثابرة. ولو أنهم قرءوا شيئاً من تاريخ المخترعين والمصلحين والمجاهدين. وما لقيه من عنت وإرهاق هؤلاء وأولئك من أمثال نيوتن وجاليليو وباستير وجان دارك ومصطفى كامل وفريد وسعد زغلول؛ بل لو أنهم قرءوا ما لقيه صاحب الرسالة الإسلامية في سبيل دعوته من عنت وإرهاق واضطهاد وعذاب وتشريد لعرفوا حقاً كيف تكون قوة الإيمان وكيف تنجح المثابرة والمصابرة

وتلك صفات إذا غرست في الفتى، وتعهد المشرفون على تكوينه وتربيته تغذيتها وتقويتها بالمثل الصالحة أنتجت الإنتاج المفيد المثمر، وإن في قول العلامة بوفون (ليست العبقرية إلا الصبر الطويل) لدليل آخر على ذلك

وهناك فوق كل ما تقدم خلق آخر جدير بأن يعني به العناية كلها في وقتنا الحاضر وهو خلق غير فردي، بل خلق جمعي يبث بين الجماعات المكونة لطوائف مختلفة في سبيل

ص: 16

مصلحة الجماعة وفائدتها. ذلك هو التضامن وهو الذي يقول فيه الحديث الشريف (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ولقد أصبح هذا الخلق ضرورياً لمختلف الطوائف لأنه من الأمور التي يبنى عليها نجاحها في معترك الحياة، وإن طوائف العمال في مختلف الممالك لم تنجح النجاح الباهر الذي أدى بها إلى تسلم مقاليد الحكم كما حصل في إنجلترا إلا بتضامنها وتعاونها وتساندها. وإن في اشتراك جماعات الطلبة في عمل واحد لا يقوى عليه فرد واحد منهم كما هو الحال في معظم أنواع الألعاب الرياضية لطريقة ناجعة تعودهم هذا الخلق المفيد. تلك هي الأخلاق التي يجب على كل والد أن يتولى غرسها في ولده، كما يجب على كل مدرسة أن تتعهدها وتنميها وتشجعها في أبنائها. وإنه لما يؤسف له حقاً أن المدرسة الحالية توجه أشد عنايتها إلى الكتب ودراستها والمناهج واستيعابها وملء عقول التلاميذ بمحتوياتها ليؤدوا فيها الامتحان المطلوب منهم في آخر العام من غير أن تعنى العناية المطلوبة بتكوين النشء التكوين الخلقي الذي تتطلبه الحياة. يقول صميلز في بدء كتابه عن الأخلاق (الأخلاق من أمهات القوى في هذا العالم. وهي في أبهى مظاهرها تمثل الطبيعة البشرية في أرقى أشكالها. لأنها تظهر الإنسان وهو في أرقى خلاله، ثم إن النوع البشري خاضع مسخر للرجال ذوي الكد والاستقامة المتشبعين بالأخلاق الراقية والأغراض الصادقة الخالصة، لأن الاعتقاد في مثل هؤلاء والثقة بهم والتشبه بأعمالهم غرائز في النفس. أولئك هم دعائم ما في هذا العالم من خير، ولولاهم لكان الوجود في هذا العالم عبثاً، ولئن كانت العبقرية تحرك الإعجاب فإن الأخلاق ضامنة التوقير والإجلال. ذلك أن هذه منشؤها قوة العقل، وهذي منشؤها قوة القلب، والقلب عادة صاحب السيطرة في الحياة. فالعبقريون في المجتمع بمنزلة الذهن من الإنسان، وذوو الأخلاق بمنزلة الذمة. وبينا أولئك يعجب بهم إذ هؤلاء يهرع إليهم) وقال أيضاً: (كم من أناس لا يملكون من الدنيا سوى أخلاقهم، وهم بفضلها كصاحب التاج المدل بتاجه، وليست طهارة الأخلاق وحسنها من مستلزمات ذوي العقول المثقفة بالمعارف. فقد يجتمع التفوق العقلي والأخلاق السافلة فيذل المتعلم المثقف لذوي المقامات الرفيعة. ثم يتغطرس على ذوي المنازل الوضيعة) وقال جورج هربرت: (قليل من الحياة الصالحة خير من كثير من العلم والمعرفة) ثم قال صميلز في موضع آخر) ليس الاستعداد العقلي ولا التفوق الذهني بنادرين في العالم، ولكن هل

ص: 17

يعتمد على الاستعداد العقلي وحده؟ وهل يؤتمن التفوق الذهني؟ كلا. اللهم إلا إذا رافقهما الحق فهو الخلة التي تضمن لصاحبها التبجيل والتعظيم، وتحمل غيره على الثقة به، وهو أساس كل فضيلة، ويظهر في معاملة المرء وسلوكه، وهو الاستقامة والإخلاص في العمل وله نور يسطع في كل قول وفعل، هو الباعث على ثقة المرء بنفسه والحامل للناس على الثقة به، والمرء ذو المكانة في العالم هو الذي يصح الاعتماد عليه، هو الذي إذا قال إن له علماً بشيء كان عالماً به حقاً، وهو الذي إذا قال إني فاعل شيئاً قبله حقاً، وهكذا يحصل الواثق بنفسه على ثقة الناس به واعترافهم بقيمته) وقال مرتن لوثر:(ليست سعادة الأمم في كثرة أموالها؛ ولا في قوة استحكاماتها، ولا في جمال مبانيها وشاهق قصورها، إنما سعادتها في أبنائها المثقفين ورجالها المهذبين الذين استنارت بصائرهم واستقامت أخلاقهم، فهؤلاء قوتها الأساسية وعظمتها الجوهرية) فهل بعد هذا كله يحق للمدرسة أن توجه كل جهودها إلى الثقافة ودراسة ما في بطون الكتب إعداداً للامتحان من غير أن تكترث بمادة الحياة الأساسية وهي الأخلاق؟ وهل بعد هذا ننتظر من خريجي مدارسنا أن يقوموا على العمل، وأن يسيروا في حياتهم السيرة الحميدة المطلوبة وقد أهملتهم هذا الإهمال

إهمال المدرسة للأخلاق ونتائجه

وإني لا أستطيع أن أفسر إهمال المدرسة في تقوية أخلاق النشء والعمل على تكوينهم تكويناً خلقياً عالياً إلا بأمور ثلاثة:

الأول: اندفاع المدرسة في تيار السياسة التعليمية التي رسمت لها عملياً من قبل وجعل النجاح في الامتحان في نهاية العام الدراسي هو الغاية التي ليس وراءها غاية من غير أن يفكر ولاة الأمور وقادة التعليم فينا تفكيراً جدياً عميقاً فيما يستدعيه الإصلاح الحقيقي للمدرسة وما يتناسب مع نهضتنا الجديدة وقوميتنا

الثاني: صعوبة ما يستدعيه العلاج الخلقي المدرسي من درس وفحص وتمحيص وما يستلزمه من مرونة في العمل وعدم الوقوف عند الخطة الآلية التي تسير عليها المدرسة الحالية من حيث قياس الأعمال بالدرجات في الامتحانات ونتائجها. وما يستدعيه فوق ذلك من السلطة المركزية من الديوان العام إلى أيدي المشرفين الفعليين على المدارس. وهو الأمر الذي لازال يقاوم إلى اليوم

ص: 18

الثالث: عادم ثقة القابضين على زمام الأمر في الوزارة بالمشرفين على المدارس والقائمين بالأمر فيها مما حال بين أولئك وبين ثقة غيرهم بهم. فأدى ذلك إلى انحطاط مستوى رجال التعليم الأدبي ونفوذهم في الهيئة الاجتماعية وفي هذا ما فيه من النزول بالمدرسة إلى مستوى لا يليق بها.

من أجل هذا أهمل تكوين الخلق في المدرسة فانحطت الأخلاق العامة وتدهورت وصرنا اليوم نواجه في شبابنا حالة سيئة لا يرضاها وطني محب لبلاده: نرى شبابنا عاطلاً خلوا من حب المغامرة والإقدام والنزول إلى ميدان العمل والكفاح في الحياة مليئاً بأنواع الخنوثة والطراوة، وعدم القدرة على المثابرة والنضال وأتجه همه إلى العمل ببعض عادات الفرنج التي أصيب كثير من الفرنج يستقبوحنها ويمقتونها كالخلاعة والرقص وحب اللهو والدعارة، وصار أحب شيء إليه التأنق في الملبس وارتياد محال اللهو والفجور والتهتك في الطرقات، وارتكاب المحظورات والمحرمات، والعمل على الحصول على المال اللازم لذلك بالتدليس والغش والنصب والتزوير والاحتيال، مع الخروج على المبادئ العامة المقررة في الأسرة والمدرسة، فالصغير يريد أن يرغم الكبير على الاستماع لأمره وتنفيذ رأيه، والتلميذ يرغب في أن يقلد أستاذه وناظر مدرسته كما يشاء هواه. وقد ساعده على ذلك ما نعرف نحن كما يعرف غيرنا من رجال التعليم من مآسٍ كثيرة وقعت في المدرسة بسبب أخطاء خلقية كبيرة ارتكبها الطلبة وأرادت المدارس أن تقمعها بالعقوبة الرادعة ولكن الوزارة عن طريق الشفعاء السوء كانت تهمل رأي المدارس بل كانت تجبرها أحياناً على القيام بعكس ما تراه بالانتصار للمخطئين والخارجين على حدود الآداب والفضيلة مما أدى في بعض الأحايين إلى نقل ناظر المدرسة أو بعض المدرسين الذين لا يروق لهم ذلك. ولم يقف الأمر عند المدرسة بل انتشرت الفوضى الخلقية انتشاراً مخيفاً يشفق على هذه الأمة منه عقلاؤها. ويكفي أن ندلل على تمسك الكثيرين من المتعلمين بأهداب الفضيلة وكرم الأخلاق مما يقع تحت حسنا ونظرنا في المجتمع المصري في كل يوم وفي كل لحظة: فهلا سمعت برجل الصحافة الذي يهاجم أشراف الناس وأبرياءهم، وهم هادئون آمنون فينهش أعراضهم، ويقذفهم بأشنع التهم وأفحش السباب، حتى إذا ما استدعاه أحدهم ونقده الجنيه أو الجنيهين، انقلب في يوم وليلة مادحاً له معتذراً عما سلف منه بمختلف

ص: 19

الأعذار السخيفة، فإذا ما نفحه شيئاً جديداً بعد ذلك كال له من المدائح ما يجعله في مصاف الأبطال والمجاهدين؟ وهلا سمعت بذلك الموظف الذي يدين بمركزه الكبير لوزير من الوزراء فتراه يتردد على منزله كل يوم ليقدم له فروض الطاعة والولاء وليقوم بخدمته في كل ما يطلبه منه مهما جل أو قل، ثم هو فوق ذلك يخضع لهواه في كل صغيرة وكبيرة مهما كلفه ذلك من الشطط والانحراف عن جادة الحق والعدل، فإذا تبين منه قليلاً من الانتقاد أو الامتعاض من موظف آخر صغير لسوء فهم أو التباس في أمر أسرع فأنزل به السخط وألبسه ثوب الذل وصادره في رزقه وكرامته مهما كان ذلك الموظف الصغير مخلصاً في عمله مؤدياً لواجبه مستقيماً في حياته محتفظاً بكرامته. والأدهى من ذلك أننا نجهد ذلك الموظف الكبير الذي ظلم الناس وداس كرامتهم متابعة لهوى سيده ينقلب في طرفة عين عليه إذا ما زحزحت الظروف ذلك الوزير عن مركزه، وحل محله غيره يخالفه في الرأي. فموظفنا العظيم لا ينقطع عن زيارات سيده السابق ولا يقطع علاقته به فحسب، ولكنه فوق ذلك يتحامل عليه وعلى أعماله أمام سيده الجديد إرضاء له، وهو فوق ذلك يحاربه بكل قوة، وينقلب عدواً لدوداً له. وبذلك يكسب عطف سيده الجديد ويضمن الرقي على يديه. وهل بلغك خبر ذلك المحامي النابه الذي يوكله أحد المتقاضين في قضية له، وينقده نصف الأجر ظاناً أنه سيعمل في صفه بإخلاص، فإذا به يتصل بالخصوم، ويأخذ منهم من المال كل ما تصل إليه يده ليهمل في حقوق موكله فتضيع عليه حقوقه؟ وهلا قرأت في الجرائد اليومية حيل المحتالين والنصابين وحوادث التزوير والتدليس، والاعتداء على العفاف والطهر مما يتزايد ضرره كل يوم وتملأ به الجرائد صفحاتها ومع ذاك فهناك فوق ذلك وا أسفاه كثير مما لا يصل إلى تلك الجرائد! هذه بعض الحال السيئة التي وصلنا إليها، وهي تنخر في عظام الأمة نخراً، بينما قادتنا وساستنا لاهون عنها، مع أن معظمهم قد ذاق الأمرين منها وانكوى بنارها، فجدير بهم أن يعنوا بها قبل عنايتهم بأي أمر آخر مهما كان هاماً. وإني لا أرى محلاً للعناية بها وإصلاحها غير المنزل أولاً، والمدرسة ثانياً، وإذا كان المنزل أساسه وقائده وحاكمه هو المرأة، وتربية المرأة متوقفة كذلك على المدرسة، فقد صارت المدرسة عندنا هي الحجر الأساسي في تكوين الأخلاق وإصلاحها.

يقول صمليز في كتابه الأخلاق: (وهكذا اضمحلت رومة ثم لحقها الدمار لما عم أبناءها

ص: 20

فساد الأخلاق، واستولى عليهم حب اللهو والخمول، حتى كانوا في أواخر أيامهم يرون العمل لا يليق إلا بعبيدهم. أمسك أبناؤها عن التحلي بما تحلى به آباؤهم الأولون من فضائل الخصال فسقطت الدولة ولم تكن أهلاً للبقاء. وهكذا تسقط الأمم الخاملة المنهمكة في اللذات، الراتعة في بحبوحة الترف، والتي تستنكف العمل الصالح، تسقط لا محالة ويخلفها في عظمتها الأمم الحية العاملة) ثم يقول في موضوع آخر (ومجمل القول أن سلامة الأمم والحكومات تتوقف على سلامة الأخلاق ولن تكون أمة عظيمة من أفراد فاسدي الأخلاق، مهما لاحت عليهم آثار الحضارة والرقي. ولكنهم لا يلبثون أن يتلاشوا متى صادفتهم عقبة أو غشيتهم شدة. ولن يكونوا ذوي قوة حقة ورابطة متينة وسلامة تامة إلا إذا اتصف كل فرد منهم بالصفات الجميلة والخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة).

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 21

‌رد على مقال

ولي الدين يكن وشعره السياسي

للأستاذ محمد مجاهد بلال

قرأت في العدد 278 من الرسالة فصلاً للأستاذ كرم ملحم كرم عن ولي الدين يكن، فسرني أن يتحدث أديب من بيروت عن ولي الدين، فإن ولي الدين لا يذكره المصريون، كأنه لم يعش بينهم ولا يتحدثون عنه، كأنه لم يكن شيئاً ذا بال. ويرحمه الله فهو القائل (. . . وليس رجل ينكره معارفه ويتجافاه أقرب أقاربه إلا الأديب، فهو إذا برّز على أقرانه حسدوه وإن قصر عنهم حقروه)

ومن الحق أن أقول إنني لم أكد أفرغ من قراءة المقال حتى أحببت أن أقول شيئاً في ولي الدين، لا لأن الأستاذ كرم حبّب هذا الشاعر إليّ، فإني أحب ولي الدين من قبل، وقد كتبت عنه أكثر من مرة، وإنما لأن الأستاذ له رأي في شعر ولي الدين السياسي لم أستطع فهمه، فهو يقول:

(ولي الدين كان عبد العاطفة، وكل شعر شذ به عن العاطفة كبا فيه، والدليل شعره السياسي؛ فأين هذا الشعر من القصائد المصهور فيها قلب ولي الدين؟ فبينا أنت إزاء ولي الدين العاطفي في حضرة شاعر من الطبقة الأولى إذا بك تجاه شعره السياسي أمام شاعر من الطبقة الثانية بل الثالثة)

ولقد جرى في أكثر حديث الأستاذ معنى هذا الكلام واتضح أنه حكم على شعر الرجل السياسي حكماً لا أقول قاسياً وإنما هو بعيد عن ولي الدين

والغريب أن الأستاذ حين أراد أن يقيم الحجة على رأيه تجاهل شعر ولي الدين السياسي كله ولم يذكر منه إلا هذين البيتين:

هلمو بنا نحو الأمير نسلم

سلام على عباس مصر المعظم

ألا إن في الأكباد شوقاً مبرحاً

إليه فقد كادت من الشوق تدمى

مع أن هذين البيتين لا يدخلان في باب الشعر السياسي بقدر ما يدخلان في باب التهنئة والمديح!

أحب الآن إذاً أن أعرض لشعر ولي الدين السياسي وأن أعرض له في شيء من الإيجاز،

ص: 22

فإني أعلم أن صفحات الرسالة معدودة ووقت فراغي محدود

شعر ولي الدين السياسي جله عذب وجله قد نطق به (وقلبه مصهور) وأظن أن القلب لا يصهره حب الغواني فقط - كما يفهم من مقال الأستاذ - وإنما تصهره الآلام جميعاً مهما كانت مصادرها. والذي يعرف تاريخ ولي الدين وحياته بين القاهرة والآستانة وسيواس يعرف أن شعره السياسي لم يكن عبثاً وإنما كان ينطق به وعواطفه ملهبة وقلبه ملتاع.

لقد كان ولي الدين أصدر بالقاهرة جريدة سماها (الاستقامة) فمنعت حكومة الآستانة دخولها إلى المالك العثمانية واضطر أن يوقف صدورها ويودعها بقصيدة جاء فيها:

ولي أمل أودي الزمان بنجحه

وخيبه سوء الظنون فخابا

ولو شئت وفيت الليالي حسابها

عليه ولكن لا أشاء حسابا

ومنها:

فمن مبلغ عني الغضاب الألى جنوا

بأني امرؤ ما إن أخاف غضابا

أذم فلا أخشى عقاباً يصيبني

وأمدح لا أرجو بذاك ثواباً

علام أحابي معشرا أنا خيرهم

ومثلي إذا حابى الرجال يحابى

إلى أن قال:

ولما غدا قول الصواب مذمماً

عزمت على أن لا أقول صوابا

فجافيت أقلامي وعفت (استقامتي)

ورحت أرجي للسلامة بابا

فهل من الحق أن ننكر في هذه الأبيات قلب ولي الدين وعاطفته وهل من الحق أنه قد كبا فيها؟ لا أظن.

وهذه أبيات من قطعة أخرى قالها ولي الدين في منفاه:

فؤاد دأبه الذكر

وعين ملؤها عبر

ونفس في شبيبتها

وجسم مسه الكبر

وآمال مضيعة

ووقت كله هذر

وعيش عذبه مضض

وعمر صفوه كدر

أما يا ليل من صبح

لمن سهروا فينتظر

ومنها:

ص: 23

علام نلوم أعداء

على شر إذا قدروا

بلونهم لدن شبوا

أننساهم إذا كبروا

نصحناهم فما انتصحوا

زجرناهم فما ازدجروا

لقد صلدت قلوبهمُ

كأن قلوبهم حجر

إذا ائتمروا على كيد

فإنا سوف نأتمر

فمن نخشى وفوق العر

ش مهما يغترر بشر

فهل من الحق أن ننكر في هذه الأبيات أيضاً قلب ولي الدين وعاطفته؟ وهل من الحق أنه قد كبا فيها؟

وانظر إلى ولي الدين وهو يصور رجال العصر الحميدي وقادته في أبيات لا تقل جمالاً عن سالفتها:

كفى حزناً أن الرجال كثيرة

وليس لنا فيما نراه رجال

نحكم قوماً لا يبالون قائلاً

وإن قام كل العالمين فقالوا

إذا ارتقبوا أمراً فذلك منصب

أو اطلبوا شيئاً فذلك مال

بغال تسوس الأسد شر سياسة

وما ساس أسداً قبل ذاك بغال

أما بعد: فالأستاذ كرم موافق على أن ولي الدين يجيد ويسمو ويبرع ويروع حين يصهر قلبه، فهل حالات ولي الدين التي دفعته إلى أن يقول هذا الشعر الذي قدمتُه لا تصهر قلبه؟ وماذا ننتظر من رجل تحولت آماله آلاما سوى أن نسمع منه صدى قلبه المصهور، ومن رجل منفي سوى أن ينطق بما يكابد ويعاني، ومن رجل حرا أبى - يرى حريته مكبوتة ولسانه معقوداً - سوى أن يترجم لواعجه وفواجعه؟

إحدى اثنتين: إما أن يكون ولي الدين يجيد ويروع حين يصهر قلبه - كما يرى الأستاذ - وإذاً فهذه الأبيات جيدة رائعة، وإما أن هذه الأبيات ليست جيدة ولا رائعة - كما يرى الأستاذ كذلك - وإذا فولي الدين لا يجيد ويروع حين يصهر قلبه فليختر الأستاذ لنفسه إحدى السبيلين

(طهطا)

محمد مجاهد بلال

ص: 24

تفتيش المعارف

ص: 25

‌كتاب المبشرين

أغلاطه اللغوية

لأستاذ جليل

كتاب (المبشرين) أغلاطه في اللغة وغير اللغة - يا أخا العرب - كثيرة. وهذا نموذج من تخليطه اللغوي:

1 -

في الصفحة (471): (أهل المدينة القربى من الفتيل)

قالت: قالت العربية: الأقرب، ولم تقل في مؤنثه القربى كما لم تقل في الأظرف والأكرم والإشراف: الظرفي والكرمي والشرفي، وهذا باب مرجعه السماع. وإذا جاءت في (أفعل التفضيل) أل غابت من. قال المفصل:(وتعتوره حالتان متضادتان لزوم التنكير عند مصاحبة من، ولزوم التعريف عند مفارقتها) وبيت الأعشى:

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنما العزة للكاثر

قال فيه شارح الكافية: (من، فيه ليست تفضيلية بل للتبعيض أي لست من بينهم بالأكثر حصى كما تقول مثلاً: أريد شخصاً من قريش أفضل من عيسى عليه السلام فيقال: محمد عليه السلام الأفضل من قريش، أي هو أفضل من عيسى من بين قريش) وقال صاحب (الخصائص) وشارح (المفصل) في البيت مثل ذلك

2 -

في الصفحة (435): (واستنزلهم على حكم يهودي خائن متمسلم، اسمه سعد بن معاذ) وجاءت (متمسلم) في الصفحة (365) أيضاً

قلت: لا يقال: تمسلم الرجل أي أسلم أو انتحل الإسلام ظاهراً إن كان كتاب المبشرين قصد هذا المعنى. وتمسلم في العربية معناه تسمى بمسلم ففي (القاموس المحيط): (ويقال: كان يسمى محمداً ثم تمسلم أي تسمى بمسلم) وأسلم من هداه الله وتسلّم: دان بدين العدل والمساواة. قال (لسان العرب): (كان فلان كافراً ثم تسلم أي أسلم، وكان كافراً ثم هو اليوم مسلمة يا هذا)

3 -

في الصفحة (397): (أشد أذى لهم وأبلغ نكاية عليهم)

قلت: يقال: نكى فيه ونكاه لا نكى عليه، والأقوال العربية وكتب اللغة كلها تخطئ المبشرين. قال (الصحاح): نكيت في العدو نكاية إذا قتلت فيهم وجرحت، قال أبو النجم:

ص: 26

(ننكى العدا ونكرم الأضيافا) وفي النهاية: أو ينكى لك عدواً، ومثل ذلك في اللسان والتاج والأساس والمصباح، وقد يهمز، لغة فيه

4 -

في الصفحة (21): (ثم أبادهم بنو إسرائيل عن بكرة أبيهم) وفي الصفحة (410): (وإهلاك أهل قرية عن بكرة أبيهم)

قلت: ليس لكلام المبشرين معنى وأصل هذا القول: (عن بكرة أبيهم) مثل، والأمثال لا تغير، وقد ذكرته كتب الأدب واللغة وأوضحته، قال (مجمع الأمثال):(جاءوا على بكرة أبيهم، قال أو عبيد: أي جاءوا جميعاً لم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بكرة في الحقيقة. وقال غيره: البكرة تأنيث البكر وهو الفتى من الإبل، يصفهم بالقلة أي جاءوا بحيث تحملهم بكرة أبيهم قلة. وقال بعضهم: البكرة ههنا التي يستقى عليها أي جاءوا بعضهم على أثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقال قوم: أرادوا بالبكرة الطريقة كأنهم قالوا: جاءوا على طريقة أبيهم أي يتقيلون أثره. وقال ابن الأعرابي: البكرة جماعة الناس يقال جاءوا على بكرتهم وبكرة أبيهم أي بجمعهم. فقلت: فعلى قول ابن الأعرابي يكون علي في المثل بمعنى مع أي جاءوا مع جماعة أبيهم أي مع قبيلته؛ ويجوز أن يكون على من صلة معنى الكلام أي جاءوا مشتملين على قبيلة أبيهم. هذا هو الأصل ثم يستعمل في اجتماع القوم وإن لم يكونوا من نسب واحد. ويجوز أن يراد البكرة التي يستقى عليها وهي إذا كانت لأبيهم اجتمعوا عليها مستقين لا يمنعهم عنها أحد، فشبه اجتماع القوم في المجيء باجتماع أولئك على بكرة أبيهم)

وأورد المثل الصحاح واللسان والأساس والتاج من المعجمات، وكتاب (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري، وكتاب غاية الأرب في معاني ما يجري على ألسنة العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب للمفضل بن سلمة، وروت هذه المصنفات بعض ما كتبه الميداني في شرح المثل.

5 -

في الصفحة (160): (إلى أمر جسداني فقط) وفي الصفحة (203): (بملاذ جسدانية)

قلت: النسبة إلى الجسد جسدي، وإذا كانت العربية لم تجز الجسمانيات - كما قال أبن أبي الحديد في شرح النهج - وفيها الجسمان بمعنى الجسم فيكف يكون حالها مع الجسداني والجسدانية؟ وليس الجسداني نسبة شاذة كما قال صاحب (أقرب الموارد) بل هي خطأ،

ص: 27

وجريدة الشاذ الطويلة في باب النسبة معروفة. . .

6 -

في الصفحة (294): (لكثرة ما انتشب بينهم من الحروب مهدوا)

قلت: انتشب مطاوع أنشب أي اعتلق، وأنشبه هو فيه أي أعلقه فأنشب، وأنشب البازي مخاليبه في الأخيذة. وانتشب حطباً جمعه، وانتشب طعاماً لمه، ذلك ما قالته العربية، ولم تقل: أنشبوا فيهم الحرب فانتشبت. . . وقد جاء في اللغة وهو من المجاز - ناشبه الحرب أي نابذه، ونشبت الحرب بينهم نشوباً اشتبكت.

7 -

في الصفحة (232): (لا يحل فيه صيد الوحش ولا قنص الطير ولا اختضاد الشجر)

قلت: في اللسان والتاج: (اختضد البعير أخذه من الإبل وهو صعب لم يذلل فحطمه ليذل وركبه، حكاها اللحياني، وقال الفارسي: إنما هو اختصر) وقالت اللغة: خضد الشجر وخضده أي قطع شوكه، وخضد العود أي ثناه فانخضد وتخضد وسدر مخضود ومخضد وخضيد، وفي الحديث في شجر المدينة: حرمتها أن تعضد أو تخضد. ومن حديث الدعاء: تقطع به دابرهم وتخضد به شوكتهم. وهذا مجاز

8 -

في الصفحة (358): (تذييل على الثلاثة فصول الأولى من المقالة) ومثل ذلك في الصفحة 476

قلت: أخطأ المبشرون في (الثلاثة فصول) قال شارح المفصل: (فالطريق فيه أن تعرف المضاف إليه بأن تدخل فيه الألف واللام ثم تضيف إليه العدد فيتعرف بالإضافة على قياس غلام الرجل) وفي (أدب الكتاب): (تقول: ما فعلت ثلاثة الأثواب ولا يجوز العشرة أثواب) قال ذو الرمة وروي الشاهد المخصص وشرح المفصل:

أمنزلتي ميَّ سلام عليكما

هل الأزمن اللاتي مضين رواجع

ولا يرجع التسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

وقال الفرزدق وهو في شرح المفصل:

مازال مذ عقدت يداه إزاره

يسمو فأدرك خمسة الأشبار

وقد قالوا: (الثلاثةُ الكُتب) والكتب وصف كما في أدب الكتاب و (الثلاثة الكتبِ) شبهوا ذلك بالحسن الوجه كما في المخصص، وهذا شاذ، وعند الكوفيين قياس كما قال الرضي. و (الثلاثة كتباً) ناصبين على التمييز كما في شرح الكافية.

ص: 28

9 -

في الصفحة (382): (حتى نجعت فيهم هذه الأكذوبة) ومثله في الصفحة (387)

قلت: هذا الكلام خطأ إذ لم يستعمل الفعل (نجع) في العربية لشئون الشر وأمور الضر، وأصل الفعل وحقيقته يوضحان معناه. قالت اللغة: نجع الطعام في الإنسان: هنأ أكله أو تبينت تنميته واستمرأه وصلح عليه. ونجع فيه الدواء: نفعه وعمل فيه. ونجع في الدابة العلف، وماء ناجع ونجيع إذا كان مريئاً، وماء نجوع كما يقال: ماء نمير، والنجعة طلب الكلأ ومساقط الغيث وقال الأعشى:

لو أطعموا المن والسلوى مكانهم

ما أبصر الناس طعما فيهم نجعا

ومن المجاز: نجع فيه الوعظ والنصح والخطاب وانتجعت فلاناً أي طلبت معروفه. وفي المقامات الحريرية: فناشدناه أن يعود، وأسنينا له الوعود. فلا وأبيك ما رجع، ولا الترغيب له نجع

10 -

في الصفحة (126) ما كان يجهل ما لزخرف الخطابة من فعل السحر وسلب الألباب فلذلك لم يهمل شيئاً من بهرج البيان وزخرف الخطابة فيما ادعاه من الوحي)

قلت: أرادوا أن ينجدوا فغاروا، قصدوا ببهرج البيان زينة البيان أو حسنه أو جماله (وهو ما يعنيه الأصل الإنكليزي وما تدل عليه العبارات قبله وبعده) والبهرج في العربية هو الرديء قال الأساس: كلام بهرج وعمل بهرج وكذلك كل موصوف بالرداءة. وفي اللسان: (واللفظة معربة وقيل: هي كلمة هندية أصلها نبهلة وهو الرديء نقلت إلى الفارسية فقيل: نبهرة ثم عربت فقيل: بهرج، ومكان بهرج غير حمي، وقد بهرج فتبهرج. ومثل ذلك في الجمهرة والنهاية والتاج. وقول (أقرب الموارد): (تبهرجت المرأة تزينت) - خطأ، والأصل الصحيح تبرجت (وتبرجت المرأة تبرجاً أظهرت زينتها ومحاسنها للرجال) كما في التاج. وفي (الكتاب) الذي جاء يهدي الناس ويهذبهم:(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)

11 -

في الصفحة (256): (مدعاة إلى الشك معثرة للضعفاء).

قلت: قول المبشرين معثرة - خطأ، ولهم في العربية المزلة والمضلة والمزلفة، وقد أرادوا أن يقيسوا فوقعوا في العاثور وفي تاريخ بغداد أن بعضهم:(طلب النحو فذهب يقيس فلم يجيء فقال: قلب وقلوب، وكلب وكلوب، فقيل له: كلب وكلاب).

ص: 29

12 -

في الصفحة (95)(يؤيد الأحكام الشفاهية)

قلت: في (الكتاب): (اعلم أنك إذا أضفت (نسبت) إلى جمع أبداً فإنك توقع الإضافة على واحده الذي كسر عليه، فإذا لم يكن له واحد لم تجاوزه حتى تعلم) فالنسبة إلى الشفاه شفيّ أو شفهي أو شفوي، وقد أنكر الأخير الجوهري، وأثبتها الأزهري. وتجمع الشفة على شفاه وشفوات وكلمته مشافهة ومشافاة) كما في المصباح

13 -

في الصفحة (432): (أو أن يرجع إليها منشد)

قلت: مقصود الكتاب يقتضي الناشد، وفي أكثر كتب الأدب واللغة، الناشد الطالب والمنشد المعرّف. قال التبريزي في شرح المعلقات:(يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها) ومثل ذلك في الصحاح والأساس والنهاية، وروي الأساس والجمهرة (والبيت للمثقب العبدي):

يصيخ للنبأة أسماعه

إصاخة الناشد للمنشد

وفي اللسان: (قال أبو عبيد: المنشد المعرف، والناشد هو الطالب. ومما يبين لك أن الناشد هو الطالب حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع رجلاً يَنشد ضالة في المسجد فقال: (يا أيها الناشد، غيرك الواجد) معناه لا وجدت. وقال ذلك تأديباً له حيث طلب ضالته في المسجد. وفي (التاج): وقال كراع في المجرد وابن القطاع في الأفعال، وأنشدتها بالألف: عرفتها لا غير

14 -

في الصفحة (235): (وكادت مذاهبهم (أي القرامطة الباطنية) تقلب الإسلام ظهراً لبطن)

قلت: شرّقت هذه الجملة وغرّب مقصودهم. قال الميداني في (مجمع الأمثال): قلب الأمر ظهراً لبطن، يضرب في حسن التدبير، واللام في (لبطن) بمعنى على، ونصب ظهراً على البدل أي قلب ظهر الأمر على بطنه حتى علم ما فيه) وفي اللسان والتاج والمصباح: قلب الشيء ظهراً لبطن: اختبره. وفي الأساس: ومن المجاز: قلبت الأمر ظهراً لبطن، وضربوا الحديث ظهراً لبطن، قال عمر بن أبي ربيعة:

وضربنا الحديث ظهراً لبطن

وأتينا من أمرنا ما اشتهينا

وفي النهاية: وفي حديث معاوية لما احتضر وكان يقلب على فراشه فقال: إنكم لتقلبون

ص: 30

حوّلا قلبا إن وَقي كبة النار: أي رجلاً عارفاً بالأمور حتى ركب الصعب والذلول، وقلبها ظهراً لبطن. وكان حسن التقلب. وفي (نجعة الرائد) للشيخ اليازجي في فصل في الفحص والاختبار: واستقصيت في التنقير، وتقصيت في التفتيش، وقلبت الأمر ظهراً لبطن

15 -

في الصفحة (25): وجه النجاشي جيشاً إلى اليمن لينقذ من فيه من النصارى من اضطهاد ملكهم الملقب بذي النواس وكان يهودياً)

قلت: الملك المقصود في هذا الخبر يقال له ذو نواس (لا ذو النواس ولا أبو النواس. . .) وقد ذكرت ذلك كتب التفسير والتاريخ والأدب واللغة، قال الكشاف في (قتل أصحاب الأخدود): فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم أثنى عشر ألفاً في الأخاديد. وفي خزانة البغدادي، قيل: إن خلفا الأحمر كان له ولاء في اليمن، وكان أميل الناس إلى أبي نواس فقال له يوماً: أنت من اليمن، فتكنَّ باسم ملك من ملوكهم الإذواء، فاختار ذا نواس، فكناه أبا نواس بحذف صدره، وغلبت عليه. وفي (الجمهرة) النوس مصدر ناس ينوس نَوسا وهو الاضطراب وبه سمي ذو نواس ملك من ملوك حمير لذؤابتين كانتا تنوسان على ظهره

قلت: قد يكون لكلمة نواس في الحميرية غير هذا المعنى

16 -

في الصفحة (37): إذ بين هاتين الأمتين عظيم مشابهة. وفي الصفحة (53): فكان لقريش شديد انصباب عليها

قلت: إضافة الصفة إلى موصوفها خطأ، قال شارح المفصل: الصفة والموصوف شيء واحد لأنهما لعين واحدة، فإن كانت الصفة والموصوف شيئاً واحداً لم يجز إضافة أحدهما إلى الآخر.

وقد ورد عنهم ألفاظ ظاهرها من إضافة الموصوف إلى الصفة والصفة إلى موصوفها والتأويل فيها على غير ذلك. وقال الدماميني: اعلم إن إضافة الموصوف إلى صفته والصفة إلى موصوفها لا تنقاس

وقال الشيخ عبد الله البستاني رحمه الله: لا يجوز أن يضاف اسم إلى مرادفه ولا موصوف إلى صفته ولا صفة إلى موصوفها لأن الغرض من الإضافة المعنوية التعريف أو التخصيص ولا يتعرف الشيء بنفسه، ولا يتخصص بها، فإن سمع عن العرب الخلص ما

ص: 31

يوهم شيئاً من ذلك أول وقيل: إنه شاذ لا يقاس عليه؛ وإن سمع عن المتأخرين حكم عليه بأنه غلط لا يجوز استعماله

17 -

في الصفحة (401): كان قد نفى الأعجاز عن القرآن تضميناً في مواضع متعددة من الكتاب نفسه

قلت: أخطئوا في قولهم (تضميناً) حسب قصدهم المتعسف والحال يقتضي - كما يريدون - لفظة الالماع أو التلميح أو التلويح أو الإيماء وما ضارع ذلك. ففي اللسان ضمَّن الشيء الشيء أودعه إياه كما تودع الوعاء المتاع والميت القبر وقد تضمنه هو. ومثل ذلك في الجمهرة والصحاح والأساس والتاج والمصباح

18 -

في الصفحة (91): وحذره ما يحيق به وبقومه من التهالك إذا لم يكف عما هو فيه

قلت: التهالك في الجملة خطأ، وللمبشرين في العربية الهلك والهلاك والتهلكة والمهلكة والإنهاك والإهتلاك. وقد أوضح (الأساس) معاني التهالك: تهالك على الشيء إذا أشتد حرصه وشرهه، وأنا متهالك في مودتك، وتهالكت في هذا الأمر إذا كنت مجداً فيه مستعجلاً، ومر بتهالك في عدْوه: يجد، وتهالك على الفراش تساقط عليه، وتهالكت في مشيتها: تفّيأت وتكسرت. ومثل ذلك مفرَّقا في الصحاح والنهاية ومفردات الراغب والجمهرة واللسان والتاج وشرح المفضليات لأبي القاسم الأنباري

19 -

في الصفحة (342): أن الشيعة يجعلون عليا ندا لمحمد، والسنية ينكرون أن علياً أو واحداً من الأنبياء كائنا من كان يمكن أن يكون ندا لمحمد

قلت: الند المثل المخالف، وقد اجتزأ بعض كتب اللغة بقوله: الند المثل وهو في الكتاب الكريم والحديث والأقوال العربية النظير المناوئ. قال الكشاف فلا تجعلوا لله أنداداً: الند المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ، قال جرير:

أتيماً تجعلون إلى ندا

وما تيم لدي حسب نديد

وناددت الرجل خالفته ونافرته من ند ندوداً إذا نفر وقال في (الفائق): الند والنديدة مثل الشيء الذي يضاده في أموره ويناده أي يخالفه. وفي الحديث في كتابه لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام، وذكرت النهاية قول الفائق في الند. وقال اللسان والتاج والمصباح مقال الكشاف. وقال لبيد (والبيت في الجمهرة والصحاح واللسان والتاج):

ص: 32

لكيلا يكون السندري نديدتي

وأجعل أقواماً عموماً عماعما

وأما قول (سال) إن الشيعة يجعلون علياً نظيراً لمحمد فمن خلط العربانيين فالشيعة فِرق لا يعلم عددها إلا الله والإمامية منها ثلاث وسبعون فرقة كما يقول الرازي في رسالته (اعتقادات فرق المسلمين) وإن عني سال بالشيعة إخواننا الإمامية أصحاب الانتظار فقولهم وقول إخواننا الجماعية في سيد الوجود (صلوات الله وسلامة عليه) واحد. وقد أوضح ذلك علامتنا الكبير (الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء) في مؤلفاته)

الإسكندرية

* * *

ص: 33

‌من مشاكل التاريخ

طبيعة الفتح الإسلامي

للأستاذ خليل جمعة الطوال

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

يقول درمنغهم في كتابه حياة محمد: (. . . . وكان محمد يفضل اهتداء رجل واحد إلى الله على جميع غنائم الدنيا)

وهل في تاريخ الحروب والأديان وصية بلغت من السمو الإنساني مبلغ هذه الوصية التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل الأنصاري حين سيره على رأس وفد إلى اليمن، وقال له:(يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة، فقل شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له)

تلكم هي ضالة المسلم المنشودة بعد أن تجرد قلبه من حب المال، ومتاع الدنيا. وتلكم هي الطريق إلى هذه الضالة: شهادة فلجت الشرك، وإيمان زعزع الأصنام

الجنة هي ضالة المسلم التي أخرجته إلى ربه مجاهداً للحصول عليها. الجنة التي لا تشرى بالصكوك، والتي لا تنفع فيها الأموال. الجنة التي ليس في استطاعة بشر أن يلجها وإن غفر له جميع أهل الأرض، إلاَّ أن يكون مؤمناً بالله، وبرسله والأنبياء، الجنة التي ليس للمرء فيها أن يغفر لأخيه، وأن يحل ذنوبه وخطاياه، إلا أن يغفر له الله وهو خير الغافرين

أسر المسلمون في غزوة بني المصطلق عبد الله بن أبي، وحاول عمر بن الخطاب قتله، فقال له الرسول (ص): فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمداً يقتل أصحابه. . .

ثم سمع ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي عزم ابن الخطاب، فجاء النبي (ص) وقال له: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فأن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أثر أبر بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر فادخل النار.

فقال له الرسول: إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا

ص: 34

تلكم هي روح الفتح الإسلامي السامية

الله أكبر! رجل يتقدم لقتل أبيه متطوعاً، ليحمل رأسه بيده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكيلا لا يكون عليه غضاضة في دينه، إن هو رأى غيره يقتله، فتحمله عزة الجاهلية على الأخذ بثأره، فيقتل مؤمناً بكافر، ويدخل النار!

سبحانك ربي! أية قوة جَعَلْتَ في رسالتك هذه، حتى استطاعت أن تحول النفوس الضارية إلى شعلة روحية سامية أضاءت الكون وقد كان ظلاماً حالكاً!

أَيحسنُ النبي صلى الله عليه وسلم ويترفق برجل طعن فيه، وشنع عليه، ويظل مع ذلك في الدنيا من يتهمه، ويفتري عليه. .

هذه هي روح الفتوح الإسلامية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يعرف التاريخ قط فتوحاً أرحم وأشرف وأعدل منها. وأما روح الفتوح الإسلامية الأخرى، فحسبكم دليلاً عليها هذه الوصية المثلى السامية التي أوصى بها الصديق قواده حين سيرهم لبث الدعوة إلى الإسلام: (لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا توقدوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً، إلا لمأكلة

وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له:

وسوف تقدمون على قوم: يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا أسم الله عليها

لقد كان الفتح الإسلامي فتحاً روحيَّاً مبيناً، خضعت له الجزيرة بأسرها دون أن تجري الدماء فيها أنهاراً، فتحاً دام تسع سنوات لم يقتل فيها إلا (240) من المشركين و (258) من المسلمين. فلا عجب إذا اتصف بهذه الروحانية السامية، لأن الروحانية كانت العامل الأكبر فيه. فمن أين جاء الجاحدون بهذه الغزوات الدامية التي امتلأت بها كتبهم، وبحت بها حناجرهم؟

من أين جاءوا بهذه المغانم والأرزاق والأسلاب التي أغرت المسلمين على التمادي في الغزو والنهب والسلب؟!

إنه فتح كان الدين غايته، ولولا الذين لكان له غير هذا الشأن

ص: 35

كتب عدي بن أرطأة عامل العراق إلى عمر بن عبد العزيز يقول: (إن الناس قد كثروا في الإسلام، حتى خفت أن يقل الخراج) فكتب إليه عمر يقول: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا)

أما والله لو أن حاكماً كتب إلى حكومة بلاده، يصف لها قلة خراج ولايته، لما تحرجت تلك الوزارة عن عزله، ولاجتمعت الأمة بأسرها تعالج تلك الأزمة الاقتصادية المخيفة، ولكن الإسلام إنما جاء ليهدي القلوب، لا ليبتز الجيوب (فإن الله إنما بعث محمداً هادياً لا جابياً)

قال عمر بن عبد العزيز في خطبة له: (وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم) اهـ. ولسنا بحاجة إلى التعليق على هذه الجملة الموجزة وعلى ما تنطوي عليه من الكره لا للغزو والنهب والسلب فحسب، بل لجميع متاع الدنيا

تلكم هي حجة الخصوم في حب الإسلام للنهب والغزو، قد سقطت بين أيديهم، قصاصة ورق، تتلاعب بها الرياح وأمواج الحقيقة. . .

أما القول بأن العرب كانوا وسطاً في القتال فلا يدل إلا على جهل صاحبه بالفطرة العربية، وبأخلاق سكان الصحارى الموحشة، والبراري المقفرة، التي يقوى فيها الذئب، وتصول السباع. ومن شك في تبريز العرب وبصرهم بأحوال القتال، فليستنطق ربوع الأندلس والهند وفارس وأفريقيا، بل وفرنسا، يوم كانت خيول مصر وقحطان تسرح في شرق البلاد وغربها. وكان مجرد أسم العرب يوقع الرعب في قلوب الأعداء لما كان يبلغهم من أنباء فروستهم وبطولتهم. . .

بقي أمر الحروب الصليبية، وقول من قال إنها كانت حروب البسالة والشهامة وأن الصليبيين كانوا عجباً بأنظمتهم وترتيباتهم. ولسنا نزيد في دفع هذا الكلام الغث على إيراد شهادات وأقوال بعض المستشرقين الكبار، وذلك لنكون بعيدين عما يدفع الغير لاتهامنا بالتعرض والتحيز

يقول ديسون: (آن لنا أن نتناول الحروب الصليبية بالبحث تلك الحروب التي بذرت روح العداء بين الإسلام والمسيحية. . . فلقد مشى فيها أقوام كان همهم السلب والنهب والسرقة والقتل، وزاد في ذلك ما وجدوه في طريقهم إلي القدس من وعثاء السفر والمشقات.

ص: 36

والحقيقة أن الصليبين - عدا من كان في جيوشهم من اللصوص والمجرمين - قد ظهروا للعالم كبرابرة مخيفين، وقد أظهروا في آسيا صنوفاً من الوحشية والفظائع لم تعهدها قط هذه البلاد التي كان قد مر عليها أربعة قرون آمنة في ظل نظام عربي لم تر له من قبل مثيلاً

وقد اقتحم الصليبيون القدس في 15 يولية 1099 وقتلوا في اليوم نفسه عشرة آلاف من المسلمين التجئوا إلى جامع عمر ظناً منهم أنه يحميهم من وحشية أعدائهم، ولم يكفهم هذا قط، ولا نفع غليل نفوسهم العطشى للدماء بل راحوا في الأسبوع نفسه يقتلون من المسلمين واليهود والمسيحيين (غير الكاثوليك) ما يناهز (60) ألف نسمة

وكان خلفاء الصليبين كأجداهم فظاعة وعسفاً حتى لقد وصفهم بعض كتاب المسيحية وصفاً مؤلماً، وقال أنهم ليسوا من المسيحية الغراء في شيء. .

وقال الأب ربموتد داجيل: (لقد اشتد القتل في هيكل سليمان، وكثرت فيه الجثث حتى أن الجند الذين قاموا بهذه المذبحة لم يعد بإمكانهم أن يطيقوا الرائحة التي كانت تتصاعد من جثث القتلى).

وقال روبرت ل موان: (لقد بدأت مذبحة الترك في 13 ديسمبر ولم يكف ذلك اليوم لقتل جميع الأسرى فأجهزنا على البقية في اليوم التالي).

وقال ميشو: (تعصب الصليبيون في القدس تعصباً لم يسبق له مثيل حتى شكا منه الكتاب المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية، وأعماق الأرض، ويجرونهم في الساحات ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم على ما اتفق على روايته مؤرخو الشرق والغرب سبعين ألف نسمة، ولن ينج اليهود كالعرب من الذبح فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجئوا إليه، وأهلكوهم كلهم بالنار. . .)

وجاء في تاريخ الأمير حيدر: (. . . أخذ ريشارد قلب الأسد سبعمائة من أسرى المسلمين وقتلهم على رأس تل عكا، بمرأى من عساكر صلاح الدين، وبقر عسكره بطون المقتولين ليروا إن كان فيها شيء من الجواهر والذهب، ظناً منهم أنهم ابتلعوا شيئاً منها، وحباً

ص: 37

بالانتفاع بمرائرهم يتخذونها دواء يستشفون به)

وجاء في التاريخ العام للافيس ورامبو: (. . بلغت دماء المسلمين التي سفكها الصليبيون في المسجد الأقصى حداً فظيعاً بحيث كان الفارس منهم وهو راكب تصل إلى رجليه دماء المسلمين التي سفكت في ذلك الحرم المقدس، وسالت كالسيل المنهمر!!. . .)

وكتب ريكولدوس حوالي 1294 في مدح المسلمين قائلاً: ومن ذا الذي لا يعجب بحماستهم وخشوعهم في صلاتهم، وبرحمتهم الفقير وبتقدسيهم أسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، ويبسن عشرتهم، ولطفهم مع الغريب؟)

ولله در غوستاف لوبون إذ يقول: (كان يشعر ظاهر الصليبين بأنهم يقصدون خدمة دينهم بالاستيلاء على القبر المقدس، ولكن الواقع أنهم كانوا منحلين من جوهر الدين، وأقرب إلى نزع شعاره متى رأوا مغنماً لهم، أو فاحشة يأتونها

شهادات في الفتح والحضارة الإسلامية: -

جاء في مقالة: للعالم الفرنسي ليوتي - نقلاً عن الأهرام - (وإذ كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية، يزعم أن الإسلام - بفتوحه - يبعث على التدمير والفوضى والتعصب، فأني بعد أن قضيت بين المسلمين مدة من الزمن في الشرق والغرب ولم أكتف بما قرأته عن الإسلام في الكتب - أقول إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة:). . .

وقال العالم الأمريكي لوثرب ستودارد، في كتابه (حاضر العالم الإسلامي): ما كان العرب قط أمة تحب إراقة الدماء، وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليلة الأخلاق والمزايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها، من الحضارة السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعاً. وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة، وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي. وذلك المجموع هو الذي نفخ فيه العرب روحاً جديداً، فنضر وأزهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامي، فاتحد وتماسك بعضه ببعض. فأشرق وعلا علواً كبيراً، وقد سارت المماليك الإسلامية، في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير

ص: 38

فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقياً وتقدماً وعمراناً، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء، ومختزن علومهم، يشعان إشعاعاً باهراً. وظل طيلة: هذه القرون الثلاثة يرسل على الغرب النصراني نوراً. . .)

ويقول هربرت جورج ولز: (ساد الإسلام لأنه كان أفضل نظام اجتماعي وسياسي تمخضت عنه الأعصر، وكان حيثما حل يجد أمماً استولى عليها الذل والكسل، وتفشى فيها الظلم والعسف؛ ويجد حكومات متفسخة غاشمة، مستأثرة مستبدة، لا تربطها برعاياها أية رابطة، فمدَّ إلى البشرية يد المساعدة والإنقاذ. . .)

وقال سيدبو: (إن الإسلام هو الدين السامي الذي استطاع أن يسير في فتوحاته دون أن يترك وراءه أثراً للجور، وكانت ترحب به جميع الأمم المغلوبة على أمرها لحكم الروم والفرس. . .)

أفبعد هذه الشهادات الصريحة تقوم ضد الفتح الإسلامي حجة، وينهض دليل؟

هذه صورة من كتابنا (في الدفاع عن الإسلام) الماثل للطبع، وسنتقدم في الأعداد المقبلة بكلمة أخرى نصور فيها الحضارة الإسلامية الزاهرة، ومبلغ ما وصلت إليه من التقدم والرقي، وما ذلك إلا نُصرةً للحق، وخدمة للعلم، والله خير الناصرين.

شرق الأردن

خليل جمعة الطوال

ص: 39

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

للأستاذ محمد سعيد العريان

1880 -

1937

- 42 -

مقالات منحولة

كثيراً ما تدعو الدواعي كاتباً من الكتاب إلى إنشاء مقال لا يذيله باسمه؛ ويكاد يكون من الشائع المألوف أن يقرأ القراء مقالاً في صحيفة من الصحف غير معزوّ إلى قائله، أو مرموزاً إليه رمزاً ما! ولكن من غير المألوف أن ينشئ كاتب من الكتاب مقالة أو فصلاً من كتاب، أو كتاباً بتمامه، ثم ينسب ما ينشئه إلى كاتب غيره. وللرافعي في تاريخه الأدبي حوادث من مثل ذلك؛ فثمة مقالات، ورسائل، وكتب متداولة مشهورة، يعرفها القراء لغير الرافعي، وهي هي من إنشائه وكدَّ فكره وعصارة قلمه، ولكنه آثر بها غيره زهداً عنها أو التماساً للنفع من ورائها. ولو أني أردت أن أستقصي ما أعرف من ذلك لأغضبت كثيراً من الأحياء أحرص على رضاهم وأخشى غضبهم؛ ولقد كنت على أن أطوي هذا الفصل حرصاً على مودتهم، ولكني وقد وضعت نفسي بهذا الموضع لأكون مؤرخاً بعيداً عن التهمة - لم تطب نفسي بكتمان الشهادة، فإذا لم يكن بوسعي أن أذكر كل ما أعرف، فحسبي اللمحة الدالة والإشارة الموجزة، وللحديث بقية إلى حين، ومعذرة إلى أصدقائي. . .

في سنة 1911 أصدر الرافعي كتاب تاريخ آداب العرب فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكتبت عنه المقالات الضافية في كبريات الصحف، ولكن ذلك لم يكف الرافعي؛ ففي ذات يوم قصد إلى جريدة (المؤيد) فلقي هناك صديقه المرحوم أحمد زكي باشا فأهدى إليه كتابه ورجاه أن يكتب فصلاً عنه؛ فقال زكي باشا:(وماذا تريدني أن أكتب؟) قال الرافعي: (تقول وتقول. . .) قال زكي باشا: (فأكتب ما تشاء وهذا إمضائي. . .!) وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة، فكتب ما شاء أن ينسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيله باسمه ودفعه إلى عامل المطبعة. . .

ص: 40

وقرأ الناس في اليوم التالي مقالاً ضافياً بإمضاء (أحمد زكي باشا) في تقريظ (تاريخ آداب العرب) شغل الصفة الأولي كلها من الجريدة. ولكن أحداً من القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه، يثني على كتابه ويطري نفسه!

ولهذه الحادثة أخوات مع زكي باشا نفسه؛ فإنه لما أنشأ الرافعي نشيده (اسلمي يا مصر. . .) قرأ القراء مقالاً في الأخبار بإمضاء أحمد زكي باشا، يثني على النشيد ويطري مؤلفه، ولم يكن كاتب هذا المقال أحداً غير الرافعي؛ بل أن أكثر المقالات التي يرها القراء في الكتيب الصغير الذي نشره الرافعي عن نشيده هذا، هو من إنشائه أو من إملائه!

وقد ظل هذا (التعاون) وثيقاً بين المرحومين زكي باشا والرافعي إلى أخريات أيامهما؛ ومنه أن زكي باشا كان على نية إعداد معجم لغوي كبير قبيل وفاته، وكان للرافعي في إنشاء هذا المعجم أثر ذو بال، وفيه فصول كتبها الرافعي بتمامها وأعدها للإمضاء. . . ولكن المنية أعجلت المرحوم أحمد زكي باشا عن إصدار هذا المعجم، وأحسبه ما يزال محفوظاً بين مخلفاته المخطوطة

ويتصل بسبب إلى هذه المقالات التي كان ينحلها الرافعي صديقه زكي باشا، ما نحل أخاه المرحوم محمد كامل الرافعي من شرح ديوانه الذي أصدر منه جزءين 1903 - 1904؛ فإن شارحهما هو الرافعي نفسه، وفيهما عليه ثناء وإطراء

في الحادثتين السابقتين إشارة إلى بعض الأسباب التي كانت تحمل الرافعي على أن ينحل أصدقاءه بعض ما يكتبه؛ وهنالك أسباب أخرى:

في سنة 1917 وقعت في طنطا جريمة قتل مروعّة؛ وكانت القتيل امرأة عجوزاً مسموعة بالغني والشح الكزازة، تزوّجها قبيل مقتلها شاب من الشباب العابثين طمعاً في مالها، فلم يلبث معها إلا قليلاً ثم وقعت الجريمة!

وتوجهت التهمة أول ما توجهت إلى زوجها الشاب، ثم انصرفت عنه إلى أختها وزوج أختها فسيقا إلى قفص الاتهام، وكانا شيخين عجوزين فيهما بلاهة وغفلة، فلم يستطيعا الدفاع عن نفسيهما، وهّيَّئّا بغفلتهما وبلاهتهما الفرصة للمجرم الحقيقي أن يحوك حولهما الشبكة وأن يصوّب عليهما أدلة الاتهام لينجو هو من العقوبة. . .

كان المجرم الحقيقي معروفاً للجميع، ولكن المحكمة بما اجتمع لديها من براهين مصنوعة

ص: 41

لم تجد أمامها غير هذين البريئين المغفّلين فألقت بهما إلى السجن المؤبد؛ وقضيا في السجن بضع سنين!

شيخان على أبواب الأبدية، يساقان إلي ظلام السجن ليس من ورائه إلا ظلام القبر، ولم يقترفا جريمة أو يرتكبا إثماً. . . ولكن القانون قد قال كلمته، والقانون حق واجب الأحترام؛ فلم تبق إلا الرحمة الإنسانية شفيعاً من قسوة القانون. . .

وسعت أسرة السجينين إلى المحامي الأديب الأستاذ حافظ ع تطلب إليه أن يكتب استرحاماً في أمرهما إلى أمير البلاد، لعل في عطفه ما يأسو الجرح ويخفّف وقع المصاب، وجعلت له أجراً على ذلك مائة جنيه!

وما ذل يقول المحامي في قضية فرغت المحكمة من أمرها وقال القضاء كلمته؟

ليس هذا سبيل المحامي الذي يرتَّب القضايا ويستنبط النتائج ويستنطق الصامت ويستوضح الغامض؛ لقد فات أوان ذلك كله فلم تبق إلا كلمة الشاعر الذي يخاطب النفس الإنسانية فيجتلب الرحمة ويستدر العبرة ويحسن الاعتذار عن البشرية من أخطائها فيذكي العاطفة الخابية ويوقظ الإحساس الراقد ويتحدث إلى القلب الإنساني حديث الوجدان والشعر والعاطفة. . .

وقصد الأستاذ حافظ إلى صديقه المرحوم الرافعي، ليضع القضية بين يديه ويسأله أن يكتب الاسترحام إلى أمير البلاد، وسمى له أجرة إن توفق في مسعاه

وقرأ الرافعي القضية وأحاط بها من كافة نواحيها، ثم شرع قلمه وكتب. . . وبلغت صيحته حيث أراد فأفرج عن السجينين في مايو سنة 1921

وتناول الرافعي أجرته على ذلك من المحامي سبعة عشر جنيهاً واستبقى المحامي لنفسه ثلاثة وثمانين. . .

في هذا الاسترحام الذي كتبه الرافعي في بضع وأربعين صفحة ونحله صديقه المحامي ليطبعه باسمه، لون من أدب الرافعي غير معروف لقرائه؛ فيه تحليل نفسي بديع، وفيه شعر إنساني يبلغ الغاية من السموّ؛ وفيه منطق واستنباط وملاحظة دقيقة لا تجد مقلها في أساليب الأدباء

وقد ظل هذا (التعاون) الأدبي متصلاً بين الرافعي وصديقه الأستاذ حافظ إلى ما قبل موت

ص: 42

الرافعي؛ ولكن هذا (التعاون) قد خرج من نطاق القضايا والمحاكمات إلى نطاق أدبي آخر ليس من حقي أن أتحدث عنه اليوم. . . . وعند الأستاذ الزيات بقية الخبر، تحدث به الرافعي إليه في مجلس ضمنا نحن الثلاثة. . . .

وفي شهر ديسمبر من سنة ما، قصد الأستاذ جورج إبراهيم إلى صديقه الرافعي، يطلب إليه أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسية في ليلة عيد الميلاد. . .

وكتب الرافعي المسلم كلمة مسلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه. . . وألقتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين المثقفين فخلبت ألبابهم واستحقت منهم أبلغ الإعجاب

وفي الشهر التالي كانت هذه الخطبة المسيحية الرافعية منشورة في (المقتطف) منسوبة إلى الفتاة. وكانت عند أكثر القراء المسيحيين إنجيلاً من الإنجيل

تحت يدي الآن النسخة الأصلية من هذه الخطبة مكتوبة بخط الرافعي، وهي النسخة التي بعث بها إلى صديقه الأستاذ جورج ليدفعها إلى الفتاة؛ وفي صدرها إلى صديقه:(هذا ما تيسر لي على شرط الفتاة، فنقح فيه ما شئت، واضبط لها الكلام. والسلام)

وفي آخرها يتفكه مع صديقه ((وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة) والمضرة، والمعرة يا عم جورجي)

وكان الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي - صهر الرافعي - من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المقربين، وكان أدنى منزلة إليه من كثير من تلاميذه، على أن تأثر به كان من الناحية الأدبية وحسب، على حين كان تلميذه المقرب المرحوم السيد رشيد رضا مخصوصاً بالرواية عنه في الناحية الدينية، فكلاهما من تلامذة الأستاذ الإمام ولكن لكل منهما نهجه وشرعته

فلما هم الأستاذ البرقوقي أن يصدر مجلة البيان - وكان السيد رشيد رضا قد سبقه بإصدار مجلة المنار - قصد البرقوقي إلى الرافعي يقول له: (إنني لا أتصوَّر كيف يصدر العدد الأول من (البيان) وليس فيه كلمة أو حديث أو مجلس من مجالس المرحوم الأستاذ الإمام، وأنا كنت أدنى إليه مجلساً من رشيد رضا الذي لا يصدر عدد من مجلته - المنار - إلا وفيه حديث أو خبر أو مجلس من مجالس الشيخ محمد عبده!)

قال الرافعي: (فابدأ العدد الأول بما شئت من حديثه أو مجالس درسه!)

ص: 43

قال البرقوقي: (ولكني لا أجد عندي ما أرويه عن الإمام؛ لقد ترك الشيخ في نفسي أثره ولكنه لم يترك في ذاكرتي من حديثه ومجالسه شيئاً يستحق الرواية!)

قال الرافعي: (. . . . ولابد من ذكر شيء عنه في البيان؟)

قال: (بلى، وإلا غلبني رشيد رضا واستطال عليّ عند قراه بأنه هو وحده تلميذ الإمام وراويه!)

وضحك الرافعي وأطرق هنيهة، ثم تناول قلماً وورقة وكتب. . .

وصدر العد الأول من مجلة البيان، وفيه حديث يرويه البرقوقي عن الشيخ محمد عبده في مجلس من مجالس درسه؛ بأسلوب من أسلوبه وروح من روحه وبيان في مثل بيانه؛ وما قال المرحوم الإمام شيئاً من ذلك ولا تحدث به، ولكنه حديث مصنوع وضعه الرافعي على لسان الأستاذ الإمام ونشره البرقوقي ليقضي لبانة في نفسه. . .

. . . ألقى إليَّ الرافعي هذا الحديث ساخراً، ثم دفع إليّ العدد الأول من مجلة البيان وهو يقول:(أقرأ؛ أترى هذا الحديث من مهارة السبك بحيث يجوز على القراء أنه من حديث الأستاذ الإمام؟)

وضحكْتُ وضحك الرافعي وعاد يقول: (ولكن تمام الفكاهة أن السيد رشيد رضا لما قرأ هذا الحديث المصنوع، التفت إلى جلساته قائلاً: (وأي حديث هذا حتى يبدأ به البرقوقي مجلته؟ لقد كنت حاضراً مجلس الشيخ، وسمعت منه هذا الحديث، ولكني لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته. . .!)

. . . . واستمرّ هذا (التعاون) أيضاً بين الرافعي والبرقوقي طول المدة التي كنت تصدر فيها مجلة البيان، فأيّ مقال قرأت من أعداد هذه المجلة فشككت في نسبته إلى مُذَيَّله بأسمه، فاحمله على أنه مما كتب الرافعي من الأدب المنحول. . .

ويدخل في هذا الباب كثير من المقالات كان الرافعي يكتبها بأسماء طائفة من ناشئة المتأدبين؛ ليدفع عن نفسه في معركة، أو يدعو إلى نفسه لمغنم، أو ليعين صاحباً على العيش، أو ليوحي إلى (صاحب الإمضاء) إيحاءً يدفعه إلى الاستمرار في الأدب والأمل في أن يكون غداً من الكتاب المشهورين. . . وليس يعنيني في هذه الناحية أن أسمي أحداً أو أشير إليه، إذ كان الذي كتبه من ذلك ليس له من القيمة الأدبية ما يدعونا إلى الحرص على

ص: 44

تصحيح نسبه، وأكثره لغو مما يُنشر في بعض الصحف لملء الفراغ

محمد سعيد العريان

ص: 45

‌كلمة أخيرة

بين العقاد والرافعي

وبيني وبين الرافعيين

للأستاذ سيد قطب

من بين الرسائل التي تلقيتها في أثناء كتابة هذه الفصول رسالة يقول فيها كاتبها الأديب (صلاح الدين الصدفي) بعد كلام كثير:

(. . . ونحن يا سيدي من سكان الريف الذين كثيراً ما يتأثرون بالآراء المتداولة، والأشعات المفتعلة، وقد كنا نعتقد أن العقاد كاتب سياسي من الطراز الأول، ولكنا نفضل عليه في الكتابة الأدبية آخرين، أسهل منه في الفهم، وأعرف لدى الجماهير، ثم تابعنا كلماتك فاستطعت أن تشوقنا إلى قراءة مؤلفاته النثرية على ضوء جديد، ولكنا إلى أمد قريب كنا لا نميل إلى الاعتراف بشاعرية العقاد، فإن كان شاعراً فهو شاعر الفلسفة والتأمل لا شاعر العاطفة، وإذا سلمنا أن له في شعر العواطف شيئاً، فما كنا نصدق أنه شاعر غزل. وأخيراً انكشفت عنا هذه الحجب التي بثتها فينا دعايات مغرضة، وإذا بنا نفهم أن العقاد هو كل أولئك، وأنه ممتاز في جميع مناحي الشعر، متفوق في كل هذه الاحساسات، وأسفنا على ضياع زمن طويل، لم نتنبه فيه إلى خصوبة هذا الإنتاج الوفير. . .)

هذه الرسالة جماع ما ورد إلي في رسائل متفرقة، وفي هذه الفقرات القصيرة ما يبرر البسط والتوسع الذي عالجت به (غزل العقاد) خاصة، وإن كنت أحس أن في القول متسعاً وأن غزل العقاد وشعره عامة، يصلح لدراسات مستفيضة، ولشروح وتآليف تجعل منه - كما يستحق - مذهباً قائماً، معروف المعالم، واضح السمات.

وشعر العقاد فن خصب، صالح للدراسة على أنماط مختلفة من الطرق والأوضاع، فتستطيع أن تدرس فنونه كل فن على حدة كما صنعت في (غزل العقاد) وتستطيع أن تدرس اتجاهاته وتلتمس لها أمثلة من مختلف فنونه، كما صنعت في محاضرتي عام 1934 عن (وحي الأربعين). وحيثما اتجهت في الدراسة وجدت مادة جديدة، وذخيرة فنية،

ص: 46

لأن العقاد صاحب طبيعة وصاحب فلسفة معينة في الحياة.

وقد اخترت أن أعرض (غزل العقاد) لأن الغزل عامة، وعند العقاد خاصة، معرض لجميع القوى النفسية التي تجيش بالشعر، وتحفز للتعبير، وفيه تستطيع أن تدرس نظرة الشاعر للكون والحياة وأغراضهما الأصيلة وآمالهما الخالدة، وتقف على رأيه في المثل العليا والأخلاق والفضائل، وتميز إحساسه بالمرأة والفنون والجمال، على نحو ما رأى القراء في الفصول السابقة.

ثم لقد كان هناك دافع آخر لاختيار الغزل فلقد كان حديثي عن الرافعي في غزله أو ما كتبه هو على أنه غزل، وكان أمامي لإثبات رأيي في كلا الرجلين طريقان: الأول أن أعرض ما قاله الرافعي في هذا الباب وأفنده، وهذا عمل أعتقد أن لا غناء فيه ولا جدوى منه لي ولا للقراء، فقد قرأت كل ما كتبه الرافعي في هذا الباب، فإذا هو خواء مقفر من كل عاطفة وإحساس، فإذا أنا عرضته، فإنما أعرض قطعة من صحاري النفوس ليس فيها ندى ولا حياة، ولن يصبر القراء معي - إذا أنا صبرت على قطع هذا القفار الموحش المتشابه الأرجاء. وبحسبي وحسبهم ما استعرضه من مثل هي نماذج لكل ما هناك

والثاني - وقد اخترته - أن أعرض غزل العقاد، فأكشف عن هذا العالم الحي المائج المضطرب بشتى الانفعالات والاتجاهات ثم يخلص بنا القول فيه إلى أن كل ما تجده هنا لا تجده عند الرافعي، لأن العقاد والرافعي مختلفان متناقضان

ولقد شاءت الظروف أن يكون العنوان: (بين العقاد والرافعي) فتوجد رابطة بين اسمي هذين الرجلين، لا وجود لها في أدبهما ولا اتجاههما ولا في شيء مما يصح فيه التشابه والارتباط

والواقع لقد كان في هذا الجمع بينهما ظلم لكيلهما: فأما العقاد فمظلوم - ولاشك - أن يقرن أسمه إلى أسم الرافعي، وبينهما هذه الهوة السحيقة الفاصلة، الهوة التي تفصل بين الصورة الفنية ترمز إلى معنى وتكاد تجيش بالحياة، وتهمس بالنطق والتعبير والنقوش التي نراها على أبواب المساجد ونوافذها: خطوطاً متعرجة أو مستقيمة ودوائر ومثلثات ومربعات كلها من عمل المسطرة والبركار، ولا شيء وراءها غير المهارة في اللعب والتزويق

فعشاق الصور الفنية محال أن يلتفتوا إلى هذا العبث على أبواب المساجد وأمثالها من شغل

ص: 47

(الأربسكة) المعروف عند النجارين، مهما بلغ التفنن في نقوشه وألوانه، وعشاق (الأربسكة) لا يتطلعون إلى فهم الصور الفنية بحال من الأحوال

والرافعي كذلك مظلوم - ولاشك - أن يقرن أسمه إلى أسم العقاد؛ فيطالبه النقاد حينئذ بالحياة والحركة والعمق، أو يطالبونه برأي معين في مسائل الحياة الكبرى وفي نواحي الإحساس والشعور، والرجل في عالم آخر غير هذا كله، عالم الأخشاب المنقوشة والشرفات المزركشة، والأصباغ والألوان. ومازلت كلما عدت إلى قراءة شيء من كتابة الرافعي، يمتد بي الخيال إلى (البهلوان) الذي (يتقصع) في مشيته ويضع يده في خاصرته، ويأبى أن يسير في الطريق بخطوات سهلة كما خلقه الله!

أما شأن الرافعيين معي، فشأن الرافعي مع العقاد سواء بسواء. كنت أعرض لهم الحياة المائجة الهائجة، فيعرضون لي النصوص والألفاظ؛ وكنت أحاول أن أفتح أبصارهم وأفتق إحساسهم، وأفهمهم أن في الدنيا شيئاً غير التعبير المزوق، وغير اللفتات الذهنية القريبة، والمعاني اللولبية، والجمل المنثنية المترقصة، فيأبوا إلا أن يعودوا إلى هذا العبث العابث في لف ودوران

ولست على استعداد أن استعيد ما قلت وقالوا، فقد أنفقوا - على ما يظهر - كل رصيدهم في هذه الكلمات المكرورة المعادة التي كتبوها، وما هذا بعجيب، فما لهم رصيد سوى بضع جمل وبضعة تعبيرات، وما كان لهذا العالم المصنوع الذي يعيشون فيه، ولا ينفذون منه أبداً إلى ضجة الحياة، أن يكون له رصيد مذخور سوى الخواء والإقفار

ولكنني أريد أن أعرض لبعض ما قاله مندوبهم الأخير، وأعاد به ما قالوه واحداً بعد الآخر في جهد وإعياء شديد

لقد أخذ يردد نغمة العوام في الموتى والأحياء، ويعتمد على شعور هؤلاء العوام في تقدير موقفي وأنا أتحدث عن العقاد الحي، وموقفهم وهم ينافحون عن الرافعي الذي مات

والمسألة - في ظاهرها - كما يقولون، ولكن الواقع غير ذلك، فأنا في دفاعي عن العقاد أمجد وأشرف من دفاعهم عن الرافعي، إذا كان مناط الحكم في هذا ما يناله كلانا من ربح أو خسارة، على النحو الذي يفهمونه هم من الربح والخسارة

فماذا يكلفهم الدفاع عن الرافعي؟ إنه لا يكلفهم شيئاً، بل على العكس يكسبهم حسن الأحدوثة

ص: 48

- لدفاعهم عن رجل ميت - عند عوام القراء والأدباء في هذا البلد وهم بحمد الله كثيرون؛ ويكسبهم - كما يريدون - سمعة الدفاع عن الدين، وأتباعه بالملايين في مصر والبلاد العربية؛ ويكسبهم محبة الأسلوبيين والعاجزين عن التحليق في الأجواء الفنية العالية، وهؤلاء يكونون تسعين في المائة من القراء بل من الأدباء، ولا يتعرضون لخطر واحد مما يتعرض له أنصار العقاد

أما الدفاع عن العقاد فيكلفني التعرض لغضب الكثيرين من ذوي النفوذ في هذه الوزارة وفي كل وزارة، ومن بينهم كثير من رؤسائي في وزارة المعارف نفسها، لأن العقاد رجل لم تبق له قولة الحق صديقاً من السياسيين، وكثير ممن يظهرون صداقته يكنون له غير ذلك لأنهم ينفسون عليه شموخه واعتداده بنفسه وتعاليه على الضرورات

ويكلفني خصومة الأدباء من المدرسة القديمة والحديثة على السواء. فأما أولئك فسبب سخطهم معروف، وأما هؤلاء فلأنهم ينفسون على العقاد أن يعطيه ناقد بعض ما يستحق من تقدير، ومن لا يعرف هذه الحقيقة فأنا - وقد أتاحت لي الظروف الإطلاع على داخلية كثير من الصحف والأدباء - أعرف ذلك وأعرف أن الكلمات التي يقدر فيها العقاد لا تجد طريقها سهلاً للظهور في الصحف على اختلاف أهوائها ونزعاتها السياسية، واختلاف المشرفين عليها من الأدباء وغير الأدباء

ويكلفني خصومة كثير من ناقصي الرجولة - وهم أعداء العقاد الطبيعيون - وكثير من ناقصي الثقافة الذين لا يفهمون العقاد فيحملونه تبعة عدم فهمه ولا يكلفون أنفسهم عناء الدرس والثقافة. وكثير من مغلقي الطباع الذين يستغلقون أمام كل أدب حي. وكثير وكثير ممن يؤلفون أكثرية القراء في هذا البلد المنكوب. . .

وقد يفهم هؤلاء النفعيون أن للعقاد الآن نفوذاً ننتفع به؛ فلهؤلاء أقول: إن للعقاد نفوذاً نعم، ولكنه لا يستخدمه في قضاء المصالح وتنفيذ الأغراض، إنما يحتفظ به لنفسه في إبداء آرائه، واستقلال شخصيته، وتحطيم من يستحق التحطيم وبناء من يستحق البناء

وذلك بغض النظر عن طبيعتي الخاصة في الانتفاع بنفوذ الأصدقاء، ذلك الانتفاع الذي يبدو غير مفهوم، حينما كنت أناصر العقاد وهو خصم الوزارات القائمة، وأوقع على ما أكتبه بإمضائي الصريح، في أحرج الأوقات

ص: 49

فخرافة الموتى والأحياء لا يرددها هؤلاء، إلا كما يرددها الأميون والعوام

وقد استكثر مندوبهم الأخير أن أقول: إن العقاد انتصر على الوفد وعنده عدة المال وعدة الحكم وعدة الماضي الوطني وكل عدة تؤهل للنجاح.

والذين يعيشون في ظلام الجحور يحق لهم أن يعجبوا لهذا الكلام. أما الذي وقف على صنوف محاربة الوفد للعقاد وهو في إبان سطوته، وعرفوا أنها لم تقف عند الخصومة الشريفة في سلاح ولا وسيلة، والذي يذكر الظروف التي خرج العقاد فيها على الوفد وما تلاها، فإنما يعلم أنني اقتصدت في هذا المقال!

الذي يعلم أن هذه الخصومة وصلت إلى حد محاربة العقاد في اللقمة، فلم تكتف بمحاربة الصحف التي يعمل فيها حتى يكف عن الكتابة الشهور الطوال، بل كانت تدفع لأصحاب المكتبات مئات الجنيهات حتى لا تبيع كتاباً للعقاد، وأي كتاب؟ إنه كتاب سعد زغلول الزعيم الأول لهؤلاء الخصوم؟

والذي يعلم أن هذه الخصومة هاجت وماجت لأن العقاد ألقى محاضرة من محطة الإذاعة الحكومية - على عهد الوزارة الصديقة - ولأن هناك مبلغاً يدفع قيمة لهذه المحاضرة، فأما أن تكف المحطة عن محاضرات العقاد وإما أن تعاقبها الحكومة بإهمال تحصيل الضريبة!

والذي يعلم أن هذه الخصومة كانت تلجأ إلى أصدقاء العقاد لتتخذ منهم جواسيس عليه وتدفع لهم ثمن هذه الجاسوسية علاوات وترقيات ومكافآت، فلم يسلم من هذا الأغراء إلا القليلون من خواص العقاد!

الذي يعلم هذا وساوه، ويعلم أن العقاد خرج والوفد في عنفوان قوته الأدبية والمادية، وجرؤ على ما لم يجرؤ عليه إنسان قبل، فحطم قداسة الأصنام، ولقح هذا الجسم الضخم بجراثيم الفناء التي ظلت تعمل عملها حتى خرّ بعد ذلك في الميدان

الذي يعلم كل ذلك لا يستكثر ما قلت، إلا أن يكون كصاحبنا يعيش في صومعة لا ينفذ إليها الضياء

وحكاية الدين والأدب، التي لج فيها، وجعلها محور الحديث، وقد تهكمت عليها من قبل، لأنها لا تناقش بغير التهكم، فأريد أن أفهم إذا نحن سرنا على هذه القاعدة العجيبة، وأسقطنا من حسابنا الأدب غير الديني في الأدب العربي كله، ماذا يبقى لنا بعد ذلك من هذا التراث

ص: 50

الضخم؟ اللهم إلا قصيدة البردة وبانت سعاد وبعض الأدعية والأوراد!

وصاحبنا أستاذ الكيمياء في كلية الطب - هكذا كتب أخيراً ليهددنا بعلمه الغزير وينكر علينا علمية التفكير وعلمية الأفكار، ويشرح خواص الذهب الوارد في بيت الرافعي. ومع هذا يطاوعه علمه أن يقول: إن الكيمياويين يصفون الذهب بأنه فلز نبيل، والذي وصل إليه علمي القليل أن هؤلاء الكيمياويين يصفون الذهب بأنه فلز بليد لأنه لا يتفاعل مع الأكسجين ولا مع كثير من الأحماض، ويصفون معدنا كالحديد مثلاً بأنه فلز نشيط لسرعة تفاعله، لأن مدار وصفهم للفلزات قائم على أساس التفاعل لا الثمن، ولا ادري من أين أتى صاحبنا بهذا القول الفريد!

ولست أعني بهذا أن أناقش الكلام الطويل العريض الذي فسر به أبيات الرافعي، فسواء كان الذهب نبيلاً أو خسيساً، فسيبقى شعر الرافعي وأدبه كله يدور حول الصور الذهنية الكابية ويتيه في القفر الجامد اليباب

وبعد فقد رأى الناس مما كتبه هؤلاء وما كتبه الرافعي قبلهم، أنه ليس من اليسير عليهم فهم العقاد، وأنه ليس من مصلحة العقاد أن يفهموه، فما هم بمستطيعين فهمه حتى يسف هو ويقفر ويمسخ خلفاً غير هذا الخلق الباسق الجبار.

ولقد اطمأن العقاد إلى مكانه من الشهرة ومقامه من الخلود، فما يعنيه أن يثلبه ألف رافعي، وما ينقصه أن يقول فيه هؤلاء الرافعيون.

وفي نهاية هذا البحث أجد لزاماً على أن أشكر للرسالة وصاحبها إفساح هذا المجال، وأرجو أن أكون قد أفدت القراء بقدر ما استغرقت من فراغ. والسلام.

حلوان

سيد قطب

ص: 51

‌جورجياس أو البيان

لافلاطون

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 15 -

(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها

أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)

للفلسفة!)

(رينوفييه)

(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر

من جميع الهادمين!)

(جورجياس: أفلاطون)

الأشخاص

1 -

سقراط: بطل المحاورة: (ط)

2 -

جورجياس: السفسطائي: (ج)

3 -

شيريفين: صديق سقراط: (س)

4 -

بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)

5 -

كاليكليس: الأثيني: (ك)

ط - وأي هذه الأشياء التي تتكلم عنها تعتبر أجملها؟؟

ب - أية أشياء؟

ط - الاقتصاد والطب والعدالة؟

ب - أعتبر العدالة أجمل الثلاثة يا سقراط.

ط - ومادامت هي أجملها، فهي إذاً تلك التي تنتج أعمق اللذات أو أعظم المكاسب أو هما

ص: 52

معاً.

ب - نعم.

ط - وإذاً فلذيذ أن نكون بين أيدي الأطباء، وأن نترك نفوسنا لعلاجهم!

ب - لست أعتقد في هذا!

ط - ولكن الإنسان يربح من العلاج، أليس كذلك؟

ب - بلى

ط - ذلك لتخلصه من شر كبير، فهو يفضل أن يتحمل الألم وان يستعيد الصحة!

ب - من غير شك.

ط - وفي هذه الظروف، متى نكون في أفضل حالات الصحة؟ أعندما نكون بين أيدي الأطباء، أم عندما لا يكون بنا مرض قط؟

ب - ظاهر أن ذلك يكون عندما لا يكون بنا أي مرض.

ط - ذلك لأن السعادة لا تقوم في الواقع - كما يلوح - في أن نتخلص من الشر، بل في ألا يكون لدينا شر قط.

ب - ذلك صحيح.

ط - وأي الرجلين يكون جسمه أو نفسه مصابة بالشر؟ وأيهما يكون أشقى من الآخر؟ أذلك الذي نعالجه ونخلصه من شره، أم ذلك الذي لا يعالج ويبقى بشره؟

ب - يبدو أنه ذلك الذي لا يعالج

ط - أو لم نقل إن من يلقى جزاء خطيئته يتخلص من أفدح الشرور وهو رداءة النفس؟

ب - قلنا ذلك حقاً

ط - وقلنا لأن العقاب يجعلنا حكماء، ويضطرنا لأن نكون أكثر عدلاً، مادامت العدالة طباً لرداءة النفس

ب - نعم

ط - وإذا فأشقى الناس هو ذلك الذي لا رذيلة أو رداءة في نفسه، لأنا قد رأينا أن (رداءة النفس) أفدح الشرور

ب - من غير أدنى شك

ص: 53

ط - ويأتي بعده من نخلصه من (رداءته)!

ب - يلوح هذا!

ط - وذلك الذي نخلصه هو الشخص الذي ننبهه ونعلمه، ونوبخه ونعنفه، ونقدمه ليقلى جزاء فعلته!

ب - نعم

ط - وذلك الذي يعيش كأشقى ما يعيش الناس، هو ذلك الذي يحتفظ بظلمه بدلاً من أن يتخلص منه

ب - نعم

ط - أو ليست هذه تماماً حالة الشخص الذي يرتكب أفظع الجرائم، وينهج أظلم المناهج، ثم ينجح في وضع نفسه فوق الإنذار والعقاب والتأديب، كما فعل - تبعاً لقولك - (أرشليوس) وكما يفعل الطغاة الآخرون من خطباء وسلاطين؟

ب - يلوح ذلك.

ط - إن هؤلاء يا عزيزي بولوس قد سلكوا تقريباً نفس السبيل الذي يسلكه من يصاب بأخطر الأمراض، ولكنه يعمل على إهمال سؤال الأطباء عن أمراضه الجسمية، وعلى الفرار من علاجهم، لأنه يخشى - كما يفعل الأطباء - من أنهم إذا عالجوه بالنار والحديد فإنهم يسببون له شراً.! ألست تتصور حالتهم على ذلك النحو؟

ب - بلى.

ط - والسبب فيما يلوح جهلهم ثمن الصحة وحالة الجسم السليم. وإذا شئنا أن نحكم تبعاً للأصول التي اتفقنا الآن عليها فإنا نقول إن من يسعون لنجنب العقاب يعتزمون تماماً أن ينهجوا نفس هذا السبيل يا بولوس! ذلك أنهم ينظرون للألم ويغمضون أعينهم عما فيه نفع لهم ولا يعرفون كم يجب أن يشكو المرء من السكنى مع نفس مؤذية فاسدة ظالمة كافرة، أكثر من شكواه من السكنى مع جسم مريض معتل.!، ومن هنا تراهم يعملون كل ما يمكنهم عمله لكي لا يكفروا عن خطيئتهم ولا يتخلصوا من أفدح شرورهم، فيحصلون لأنفسهم الثروة والأصدقاء والمهارة التي تمكنهم من إقناع الناس بالكلام! ولكن إذا كانت مبادئنا صحيحة فانظر أنت ماذا ينتج عن ذلك البحث، أم تريد أن نخرج منه نحن بالنتائج؟

ص: 54

ب - نعم، إذا سمحت!

ط - ألا ينتج عنها أن أفدح الشرور هو أن نكون ظالمين وأن نعيش في الظلم؟

ب - بلى، كما يتضح

ط - أو لم نعرف من الناحية الأخرى أن الإنسان يخلص نفسه من ذلك الشر إذا لقي جزاء خطيئته؟

ب - ذلك ممكن!

ط - وأن عدم العقاب لا يفعل أكثر من الإبقاء على ذلك الشر؟

ب - بلى!

ط - وإذاً لا يكون ارتكاب الظلم من حيث فداحة الشر إلا في المنزلة الثانية، ولكن الظلم الذي لم يلق جزاءه هو أول الشرور وأفدحها؟

ب - يلوح هذا

ط - أو لم نك يا صديقي العزيز في نزاع بشأن هذه النقطة؟ لقد كنت تقول إن (أرشليوس) سعيد لأنه ارتكب أفظع الجرائم وفر من كل عقاب، وكنت أزعم - على النقيض - أن (أرشليوس) وكل من لا يعاقب على خطيئته يكون بالطبع أشقى الناس وأتعسهم، وأن من يرتكب ظلماً يبقى دائماً أكثر شقاء وتعاسة من ذلك الذي يتحمله، وأن من لا يقلى جزاء خطيئته يظل أشقى من ذلك الذي يكفر عنها أليست هذه هي النقطة التي تحدث عنها؟

ب - بلى

ط - ألم يتضح أن الحق في جانبي؟

ب - يلوح هذا!

ب - بالتأكيد!

ط - ذلك هو المعقول، فإذا كان هو الحق يا بولوس فما عسى أن تكون فائدة البيان؟ إنه يجب في الحق - وتبعاً للمبادئ التي اتفقنا الآن عليها - أن نتجنب قبل كل شيء ارتكاب الظلم نظراً لأن ذلك يكون في نفسه شراً كافياً. ألست ترى ذلك صحيحاً؟

ب - بالتأكيد!

ط - وإذا ما ارتكب أحد ظلماً، وكان هو المرتكب له بنفسه أو شخص آخر ممن يهمهم

ص: 55

أمره، فيجب أن يذهب عن طيبة خاطر إلى القاضي حيث يكفر عنه بأسرع ما يمكن كما نذهب إلى الطبيب، ويجب أن يعجل بالذهاب خوفاً من أن يزمن معه مرض الظلم ولا ينتج إلا قرحة لا تشفى، وإلا فماذا نستطيع أن نقول خلاف ذلك يا بولوس إذا ظلت مقدماتنا صحيحة ثابتة؟

أليست هذه هي الحالة الوحيدة التي تتفق فيها نتائجها معها؟

ب - وماذا نستطيع أن نقول خلاف ذلك يا سقراط؟

ط - وإذن لكيما ندفع عن أنفسنا اتهام الظلم عندما نكون قد ارتكبنا خطيئة، أو ارتكبها والدانا أو أبناؤنا أو أصدقاؤنا أو وطننا فإن البيان لا يكون له عندنا أي استعمال يا بولوس إذا لم نقبل على النقيض وجوب اتهام أنفسنا أولاً، ثم والدينا وأصدقائنا في كل مرة يرتكبون فيها ظلماً! وإذا لم نوافق على وجوب عدم إخفاء خطايانا على الإطلاق، وعلى ضرورة إظهارها في وضح النهار كيما نكفر عنها ونستعيد بذلك صحتنا!، ثم إذا لم نقبل تقوية أنفسنا وغيرنا حتى لا نتراجع، وحتى نتقدم بشجاعة وبعين مفتوحة كما نتقدم أمام الطبيب ليبتر أعضاءنا أو ليكويها بالنار! وإذا لم نسلم بوجوب اتباع الحسن والجميل دون النظر إلى الألم، وإذا لم نرض بأنه إذا كانت الخطيئة التي ارتكبناها تستحق الضرب فلنتقدم إليه، أو السجن فلنمد أيدينا للقيد، أو التعويض فلندفعه، أو النفي فلننف، أو الموت فلنتحمله، وإذا لم نك أول من يقف في وجه أنفسنا وأقاربنا ونستعمل البيان فقد لتخليصنا من أفدح الشرور - وأعني به الظلم، وذلك بالكشف عن أخطائنا! فترى هل يجب أن نقول هنا نعم أو لا يا بولوس

ب - يبدو لي أن ذلك غريب يا سقراط ولكنه ربما كان نتيجة لما قلناه من قبل!

ط - وإذا فيجب إما أن ننكر ما قلناه، وإما أن نسلم بهذه النتائج!

ب - نعم، إنه لكذلك

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

ص: 56

‌الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وللكميت أربع هاشميات أخرى غير هذه الهاشمية اللامية السابقة، وقد اتجه في مطالعها اتجاهاً جديداً ينكر فيه الاتجاهات العابثة التي اعتادها الشعراء في مطلع قصائدهم، وهي هاشمية الميمية التي تبلغ (102) من الأبيات، وثلاث هاشميات بائية تبلغ الأولى منها (138) من الأبيات، وتبلغ الثانية (67) بيتاً وتبلغ الثالثة (28) بيتاً

وقد قال في مطلع هاشميته الميمية:

من لقلبِ متيمَّ مستهام

غير ما صبوةٍ ولا أحلامِ

طارقات ولا ادكارَ غوَاني

واضحات الخدود كالآرام

بل هواي الذي أُجن وأُبدي

لبني هاشم فرُوعِ الأنام

وقال في بائيته الأولى، وهي التي ذكرنا أنه عرضها على الفرزدق فأعجب بها، وفضله على الشعراء جميعهم، من بقي منهم ومن مضى:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب

ولا لِعباً مني وذو الشوق يلعبُ

ولم يُلهني دارٌ ولا رسمُ منزل

ولم يَتطرَّيْنِي بنانٌ مخصبُ

ولا أنا ممن يزجر الطير همه

أصاح غراب أم تعرض ثعلب

ولا السائحات البارحات عشية

أمرّ سليمُ القرن أم مرَّ أعضب

ولكن إلى أهل الفضائل والتقى

وخير بني حواء والخير يطلب

وقال في مطلع بائيته الثانية:

أني ومن أين آبك الطرب

من حيث لا صبوة ولا ريّب

لا من طلاب المحجبات إذا

ألقى دون المعاصر الحجب

ولا حمول غدت ولا دمل

مر لها بعد حقبة حقب

ولم تهجني الظؤار والمنزل ال

قفر بروكاً ومالها ركب

جرد جلال معطفات على ال

أورق لا رجعة ولا جلب

ولا مخاض ولا عشار مطا

قيل ولا قرح ولا سلب

ص: 57

ما لي في الدار بعد ساكنها

ولو تذكرت أهلها أرب

لا الدار ردت جواب سائلها

ولا بكت أهلها إذ اغتربوا

يا باكي التلعة القفار ولم

تبك عليه التلاع والرحب

أبرح بمن كلف الديار وما

تزعج فيه الشواحب النعب

هذا ثناء على الديارِ وقد

تأخذ مني الديار والنسب

وأطلب الشأو من نوازع ال

هو وألقي الصبا فتصطحب

وأشغل الفارغات من أعين ال

بيض ويسلبن وأستلب

إذ لمتني جَثْلة أَكَفِّها

تضحك مني الغواني العجب

وضِرت عَمَّ الفتاة تثئب ال

كاعب من رؤيتي وأثئب

فاعتتب الشوق عن فؤادي والش

عر إلى من إليه معنتب

إلى السراج المنير أحمد لا

يعدلني رغبة ولا رهب

وقال في مطلع البائية الثالثة:

طربت وهل بك من مطرب

ولم تتصاب ولم نلعب

صبابة شوق تهيج الحليم

ولا عار فيها على الأشيب

وما أنت إلا رسوم الديار

ولو كن كالخلل المذهب

ولا ظعن الحي إذ أدلجت

بواكر كالأجل والربرب

ولست تصب إلى الظاعنين

إذا ما خليلك لم يصبب

فدع ذكر من لست من شأنه

ولا هو من شأنك المنصب

وهات الثناء لأهل الثناء

بأصوب قولك فالأصوب

بني هاشم فهم الأكرمون

بنو الباذخ الأفضل الأطيب

فالكميت في كل هذه المطالع ثائر على شعراء العربية الذين اتخذوا افتتاح القصائد بالنسيب عادة لهم، ولا يعبأ بما يتكلف لهم في ذلك الاتجاه الذي جمد علبه أولهم وآخرهم، بل يهزأ بسؤالهم الديار ووقوفهم على الأطلال وبكائهم التلاع القفار، لأنه لا فائدة في سؤال من لا يجيب، ولا معنى لبكاء الديار وهي لا تبكي أهلها إذا اغتربوا عنها.

والحق أنه لم يكن هناك معنى في قصائد المدح لافتتاحها بإظهار الهوى إلي غير الممدوح،

ص: 58

لأن هذا من الفضول الذي يجب أن يقلع عنه كغيره من كل فضول، والواجب أن يذهب في هذا إلى مثل ما ذهب إليه الكميت من حصر قصده في الممدوح وحده، وعدم لعناية في شعره بغيره، والاتجاهات في ذلك كثيرة لا تقف عند هذا الاتجاه الذي وقف عنده الكميت في شعره، وإن كان قد افتن بعض الأفتنان فيه

وقد جاء أبو نواس بعد الكميت فقلده في هذه الثورة على ذلك التقليد الشعري، وعابه في بعض مطالع شعره كما عابه الكميت في مطالعه، ومن ذلك قوله:

صفة الطلول بلاغة القدم

فاجعل صفاتك لابنة الكرم

لا تخدعن عن التي جعلت

سقم الصحيح وصحة السقم

تصف الطلول على السماع بها

أفذو العيان كانت في الحكم

وإذا وصفت الشيء متبعاً=لم تخل من غلط ومن وهم

ولكن التجديد فيما فعله الكميت لا فيما فعله أبو نواس، لأن أبا نواس لم يزد على أن استبدل بالنسيب في المطالع وصف الخمر، ولا فرق عندي بين افتتاح القصائد بهذا أو ذاك، لأن كلاً منهما أجنبي عن القصيدة ودخيل فيها، وما وصف الخمر إلا نسيب فيها كالنسيب في النساء سواء بسواء.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 59

‌الطفل

لشاعر الهند رابندرانات طاغور

بقلم السيدة الفاضلة (الزهرة)

النعاس الذي يهوم على عيني الطفل. . . هل يدري أحد مأتاه؟

أجل. فقد زعموا أنه هناك في تلك الغيمة البديعة الفاتنة، الراقدة في ظلال الغاب الذي تضيئه الحباحب بأنوارها الخافتة. . . حيث برضت برعمتان دقيقتان، يخيم بين تلافيف أوراقهما الناعمة، مرود عجيب صيغ من سحر حلال ليكحل طرف الطفل. .

من هناك يجيء النعاس، ويداعب أجفان الطفل وهو راقد في مهده

الابتسامة التي ترف على ثغر الطفل وتطوف حول شفتيه وهو راقد في مهده. . . هل يعلم أحد من أين تجيء؟

أجل. فقد زعموا أن موجة ذهبية من موجات نور الهلال عند أفوله مست حافة إحدى سحب الخريف المتبددة، فولدت هناك أول ابتسامة، وكان مولدها في حلم الصباح المغتسل بالانداء. . . من هناك تجيء الابتسامة التي ترف على ثغر الطفل وهو نعسان.

النضارة الرقيقة الناعمة التي توقر أعضاء الطفل بأثمارها، وتزين ملامحه بأزهارها، فتضحك عن الأقحوان، وتتنفس عن الريحان. . . هل يدري أحد أين كانت مخبوءة من قبل؟

أجل. فإنها حين كانت الأم عذراء فتية قد انطوت في حنايا قلبها بعناية تجسمت فيها أبلغ أسرار الحب وأجمل خفايا الحنان. . . هنا كانت النضارة الرقيقة الناعمة التي تتفتح أكمامها في صباح وجه الطفل ويترقرق ماؤها على ديباجة خده

(الزهرة)

ص: 60

‌اللقاء الأول

للأستاذ عبد الحميد السنوسي

هل تذكرين لقاءنا لما التقى

طرفي وطرفك فالتقى القلبان

في ليلة صخابة وضَّاءة

من كل مبتهج بها زوجان

أقبلتِ مثل الفجر يفترس الدجى

فإذا العيون جميعهن روان

تمشين مشرقة الجبين محاطة

بالسحر في جمع من الخلان

فتلفتتْ عيناي نحوك وانثنى

قلبي وأفلت من يديَّ عناني

ومشيتُ نحوك واجفاً متردداً

فكأنني أمشي إلى بركان

متثاقلاً في خطوتي متعثراً

متهيباً مستهتراً في آن

ثم اتجهتُ إلى الرفاق محيياً

وجلست منك على شفير دان

وطفقت أهذي في الحديث لعلني

أخفي الجوى وأَصد من هيماني

فسألتِهم عمَّنْ أكون ورنَّ في

أذني سؤالك كالحيا الهتان

ورنوت في خفر إليَّ ورقة

لما علمت من الصحاب مكاني

وأتى الشراب مصفقاً فدعوتِني

للشرب خجلى فالتقى الكاسان

وشربت من فمكِ الجميل المشتهى

راحاً فهيّج صبوتي الراحان

وتجاوبت في النفس أصداء المنى

وسرت حمياً الخمر في جثماني

وخشيت أن تطغى عليَّ لواعجي

فمضيت في هذري وفي هذياني

أنا من تسامى للكمال فلم أجد

إلاَّك في هذا الوجود الفاني

أنا من تدلَه في هواك وإن أكن

لم أقض في دنياك غير ثوان

أنا من بعثتِ الروح فيه فجاءة

ودعوتِه فسعى من الأكفان

أنا من علمتِ ومن جهلت حنينه

فتركتِه في ملتقى الوديان

يشدو فيذهب شدوه في عاصف

داوي الصدى طاغ على الآذان

أبداً ينوح ولو سمعت نواحه

لشجاك ما يلقى من الأشجان

فلكم بكيتُ فما وجدتُ مشاركاً

لي في الأسى يبكي لما أبكاني

ولَكَمْ ضحكت وما ضحكت وإنما

أخفيت في الضحك ما أشجاني

ص: 61

وا ضيعة الألحان إن لم تسمعي

حتى الصدى وا ضيعة - الألحان

عبد الحميد السنوسي

ص: 62

‌الوداع

للأستاذ أمجد الطرابلسي

إلى دمشق وأحبابي فيها أهدي آخر ما نظمته تحت سمائها. ..

ماذا أقول لإخواني وأصحاب؟

لعلَّ صمتي قبلَ البَيْنِ أحرى بي!

يا لوعةَ الوجد في داري ومرتبعي!

ماذا. . . إذا احتجبتْ داري وأحبابي؟

يا قلبُ ويحك! هذا البين قد تعبت

غربانُه. . . قُتلت من شرِّ نَعّاب!

ألم يكن عهدُنا - والدهر ذو ترةٍ -

هزءاً بهزءٍ، وألعاباً بألعاب؟

أيْامَ دأبُ الزمانِ الغرّ مظلمتي

لهواً، وسُخريتي من ظلمه دابي!

أيّامَ يُدْهق لي الأكوابَ مترعة

سُمَّا، فأّجرع كالصّهباء أكوابي

فما لحصنك قد خارتْ جوانِبُهُ؟

كالبيت في القفر لم يُشْدَدْ بأطناب

يَظَلُّ في عَصَفَات الرَيح مُصطفقاً

يئن أَنَّ الثكالى إثرَ تنحاب

بميل والعاصفَ المجنونَ مُرتنحاً

كالراقصات تِهادى بينَ شُرّابِ!

قلبي، رشادَكَ! لا يفزعْكَ أن صهلت

خيلُ النّوى تستحثُّ الركبَ في بابي

أَهلي حَوالَيَّ. . . . ماذا أنت قائله

لهمْ قبَيلَ نوىً كالليل في الغاب؟

قلبي! أعِندكَ أن تشكو لهم حُرقاً

تشويك من لاعج في الصدر مِلهابِ

فما فغرت - على ما طال من وجعي -

فماَ بشكوى لصحب أو لأغرابِ!

ولا سجدتُ لغيرِ الله في زَمَنِي

ولا وَقَعتُ على أيدٍ وأعتابِ

ولا بسطت يدي للذلّ أقبله

ولو علمت لديه كل آرابي

هُوَ الشَباب! فلا كان الشبابُ إذا

لم يستسغ رشفاتِ العزّ في الصَاب!

لا عاشَ إمَّا حنا للبغي هامَتَهُ

أو ضمَّ برديهِ في الدنيا على عاب!

دمشقُ يا فرحة الدنيا وبسمتها

ويا مراتعَ تهيامي وتلعابي!

يا ممرح الغيدِ كالأحلامِ حائمة

ومسرحَ الصيد من صحبي وأترابي

ما لي عدوتُ إذا ما سرت منفرداً

لم ألقَ غيرَ جميل فيكِ جذاب؟

ص: 63

كأن عينيَّ قبل اليوم ما وقعت

على جمالك هذا الرائع السابي!

كلُّ طريف تروع القلبَ جدتُهُ

يا طولَ شغل فؤادِ الهائم الصابي

يا منبعَ الحسن والإحسانِ! كم سكرت

من راحِ دَلِّك أحنائي وأهدابي

مازلتُ أعشق فيك الحسن في دَعَةٍ

حتى عشقتُ جراحاتي وأوصابي!

أمَّ الميامين! قد غَنَّت ملاحمَها

فيك البطولات في شجو وإطراب

وجَرّرت من ذيولِ المجد سابغة

على بطاحِك في تيهٍ وإعجاب!

دمشق أنتِ التي فَجَّرتِ من كبدي

يُنبوعَ شِعْريَ يجري. . . أَيَّ سَكاّب

كما جرى (بَرَدَاك) العذبُ منفجراً

ما عاقه طولُ أزمانٍ وأحقاب

مازال فوقَ مشيبِ الدهر منسرباً

يجري كطفل على الآلام وثّاب

أدرت لي من كؤوس الحسن ألعبَها

بأنفس وخيالاتٍ وألباب

أرضٌ سماءٌ رياضٌ أنهُرٌ أُفقٌ

حُسْنٌ أفانينُ. ما عَدّي وتحسابي!

شدَوتُ فيك لحوناً كلُّهَا عَجبٌ

رَتَّلْتها بين أفراحي وأتعابي

ما كانَ أضيعَ ألحاني يُرَدِّدها

بعدي صَداها كأن الريح تهزا بي

غداً. . . سأمضي ولكن أينَ مُنْصَرفي

لا الدار داري ولا الأحباب أحبابي!

لا (نَيْرَبٌ) تَتَصَبّاني خمائِلهُ

أو (غُوطة) تتلقاني بترحاب!

غداً سَأَلْفِتُ جيدي لا أرى أحداً

حولي يشاطرني هَمْي وتطرابي

إلاّ خواطِرَ من وَجدٍ يعذبني

صَبْراً، ويلهب صدري أي إلهاب

وذكرياتٍ عن الأحباب ماثلة

من واضح خَضِلِ الألوان أو كابي

غداً. سأركبُ بنت اليم راقصة

على مُتون دَفوع الموج عَبَاب

تَشقُّ بي مسبح الحيتان مائسة

كأفعوان على البطحاء مُنساب

في ليلةٍ كطيوفِ الجنّ راعبة

مجنونةِ الموج والإعصار مغضاب

خلفَ الغيومِ ظلامٌ خلفه أَمَدٌ

من خِلِفهِ الغيبُ في صمت وإضباب

من خلِفِهِ القَدرُ الفجّاع ملتئما

عن العيون، كميناً خلف حُجّاب

غداً. . . إذا هبَّ طامي اليم يقذفنا

غَيظاً بموج له كالهُضْب غَلاّب!

وحارَ في أمرِهِ الملاّح وانبعثت

حَوليَّ أصوات نُوَّاح ونُدّاب

ص: 64

وحَوَّمَ الموتُ، في كفّيْهِ منجلُهُ

وَرفَّ فوق ضحاياه على قاب

أقول للوكب: ما شغلي بهولِكمُ

وفي فؤادي أعاصيري وتصخابي؟

أينَ السبيلُ؟ وهذا الليلُ معتكرٌ

لا كوكبٌ فيه لمَاعٌ ولا خابي!

أمضي غداً نحو آفاقٍ تمجّ دمّا

وجاحِمٍ بيني الإنسانِ لهّابِ!

حيثُ الرّعاة على القطعانِ جائرةٌ

تسوقها خلفَ أطماع وأسلاب

تُلقي بها للرّدى المنهومِ هَيِّنةً

سِرباً يموتُ على أشلاءِ أسراب!

تذيقها الجوعَ ألواناً مُلُوَّنةً

كيما تُسَلّمها بالظفر والنابِ

كيما تقيمَ على أشلائها نُصُبا

من مفخرٍ كدَويّ الطبل كذّاب!

زعامةٌ أبدعوها فتنةً عَجَباً

على ظهورِ صعاليك وأوشاب

تستعبدُ الناس، إذ تعمي بصائرَهم

في عصر نورٍ وعرفانٍ وآدابِ!

دعوا الشعوبَ تَآخَي قبلَ مَصرِعها

لا تلعبوا بقلوبٍ أو بأعصاب!

لا تستفزّوا بها الأحقادَ نائمةً

أو ترفد والّلهَبَ الخابي بأحطابِ

لا تهدموا الكون كي تبنوا تعاظَمكم

وتستطيلوا بشاراتٍ وألقابِ

لولاكم كان هذا الخلقُ في دّعةٍ

يستمرئُّ السلم في أمنِ وإخصاب

إيهٍ دمشقُ! أرى الأيْامَ مُثقَلَةً

تحبوا إليكِ بإطماعٍ وإرهاب

برغميَ اليومَ أمضي عنك مُغترباً

والليلُ حولك داجِ غيرُ مُنجاب

ماذا تجيءُّ به الأيامُ؟ لا بصري

يجلو الغُيوبَ، ولا وهمي بنَقَاب

أراكِ في ظلمة الأحداث واقفةً

على رَوابيك منها شرُّ جلباب

تَسْتَنْبِئِيِنَ الليالي وهي صامتةٌ

صمتَ الرّدى فوق أرماسِ وأنصابِ!

ليلٌ ثقيلٌ تَهادَى شهبُهُ فزعاً

من حادثٍ مُسْتَكِنٍ فيه رَيّاب

لؤمُ السياسة قد جَرَّبِتهِ زَمَناً

كم بارقٍ فيه للأبصارِ خلاّب

إن السياسَةَ في تدجيلها سُبَحٌ

للذكر في كفِّ فتّاكٍ وسلاّب!

وأختك القدس م زالت جراحَتها

تنصب منها دماها أيّ تَصباب!

لم يرحم البغي في أكواخها ولداً

في حجرِ أمٍ. ولا شيخاً بمحراب!

ويلَ اللئيم! أما راضت شكيمتَه

بالأمس صفعةُ صَدقِ العزم غَضّابِ

ص: 65

ذئبٌ على الحَمْل السَّاجي فإن زأرت

أَسدُ العراك تولّى أيَّ هَرّاب!

أمسى يوارى عن الأبصار خزيته

ببرقع السلم خوفَ الهزءِ والعاب

هذا السلام ذبيحاً فوق مَدرجه

فكيف أنقذته يا شرَّ كذّاب!

عفواً بلادي! سأمضي عنك، لا كبدي

حَرَّى، ولا مضجعي بالمُقْلَقِ النابي

ماذا أخافُ وأنتِ الخلدُ أجمعُهُ؟

هل في خلودِكِ من حظِ لمرتاب؟

أَلسْتِ مِن حَطَّمَ الأجيالَ صَعْدَتَهُ

وصارعَ الدهرَ فرداً غير هيَّاب

يأتي الخطوبُ وتمضي عنك مُتْعَبَةً

وأنتِ في عزمة الرئبالِ في الغابِ!

كم فيكِ للفاتح المأفونِ من حُفَرٍ

غطّيتها برياحينٍ وأعشاب

ثوى بها فتناسى الدهر سيرَتَه

وأنتِ باسمة من غير إجلاب

يا أهلُ، عُذْركم! ماذا أقول لكم

في موقف بفؤاد الصخرِ لعَاب!

أرى القوافي تُعاصيني وأعهدها

كأخضر زاخر الأمواج صَخّاب!

تنهلّ من خافقِي كالوبلِ مندفقاً

من مُزنة في أكفّ الريح مسكاب

خلف الجفون دموعٌ جد حائرةٍ

لولا الحياءُ لقد أوحتْ لكم ما بي

مثل السجين على القضبان منعكفاً

يفري الحديد بأظفارٍ وأنياب

تجري دماه عليها وهو يقضمها

هيهات يظفر! ما للسجن من باب!

(باريس)

أمجد الطرابلسي

ص: 66

‌البريد الأدبي

معرض (بونابرت في مصر)

أقيم في متحف (الأورانجري) بحديقة (التويلري) في باريس معرض يحتوي على أهم ما له علاقة بالجنرال بونابرت قائد الحملة الفرنسية في مصر. وقد كثر إقبال زائري هذا المعرض لمشاهدة الصور والتماثيل ورسائل قائد الحملة، وقد خطها بيده، ورسوم الضباط والعلماء والفنيين الذين رافقوا الحملة. ويرى زائر المعرض أيضاً رسوم المماليك وملابسهم وسروج خيولهم وسلاحهم الثمين، كالطبنجات، والغدارات التي يضعونها في مناطقهم أو على جوانب سروج خيلهم، واليطقان، والسيف المدلى من السرج. وكان نصل السيف ماضياً يؤثر تأثيراً شديداً في المضروب به، وقد قال (لاري) كبير أطباء الحملة إنه رأى للمرة الأولى في حياته، في موقعة الصالحية، تأثير سيوف المماليك: فكثيرون من الجرحى كانوا قد فقدوا أعضاءهم كلها أو جانباً كبيراً منها بضربة سيف

وكان للماليك أربعة وعشرون قائداً يحمل كل منهم (بيرقاً) كان الصدر الأعظم التركي أو حاكم مصر يسلمه إليه حينما ينعم عليه بلقب (بك)

وفي المعرض نماذج من تلك (البيارق) ويعلو كل بيرق كرة مذهبة أو صفيحة معدنية عليها كتابة. ويعلق في عصا البيرق الطويلة أذناب الخيل. وكان عدد تلك الأذناب يدل على أهمية المنصب عند الأتراك في ذلك العهد

وفي المعرض صورة كبيرة تمثل معركة الأهرام ويرى الناظر فيها السيوف المصلتة وغلافاتها والغدارات والخيول وسروجها والبيارق وغير ذلك تغطي وجه الأرض، وقد كانت تلك المعركة قاضية على سلطة المماليك في مصر والنظام الذي وضعه فيها السلطان سليم الأول العثماني من نحو ثلاثمائة سنة

كتابة التوراة والإنجيل وأوراق البردي المصرية

ألقى السير فريدريك كنيون محاضرة ألقت ضوءاً جديداً على تاريخ كتابة التوراة وذلك بفضل اكتشاف أوراق البردي في مصر. ومصر هي الدولة الوحيدة التي أمكنها الاحتفاظ بهذه الأوراق السريعة التلف

وقال المحاضر إن الآثار المهمة التي يرجع إليها في تحديد تاريخ كتابة التوراة اكتشفت

ص: 67

سنة 1881. ولكن منذ ثلاثة أعوام كان شاب من طلبة العلم يبحث في مكتبة رايلندز في مدينة منشستر فعثر على مجموعة أوراق من البردي تركت في مكانها نحو ثلاثين أو أربعين عاماً. ودقق فيها فوجد بينها قطعة صغيرة تحتوي على بضع آيات من إنجيل القديس يوحنا مكتوبة في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد

ولو أن هذه الورقة الصغيرة وجدت قبل خمسين عاماً لوضعت وقتئذ حدا لخلاف شديد كان ناشباً في شأن التاريخ الذي كتب هذا الإنجيل فيه. فهي تدل على أن هذا الإنجيل كان منتشراً في قرية ريفية صغيرة من قرى مصر سنة 140

وعثر الطالب نفسه سنة 1936 على أقدم قطعة معروفة من التوراة ممزقة من السفر الخامس من أسفار موسى كتبت في القرن الثاني قبل المسيح

فهذه الاكتشافات وأمثالها قربت إلى حد محسوس الشقة بين التواريخ التي كتبت فيها أسفار التوراة وتواريخ أقدم المخطوطات الموجودة منها

أسبوع الكتاب الألماني

خطب الدكتور غوبلز وزير الدعاية في فبمار بمناسبة (أسبوع الكتاب الألماني) ومما قاله إن مبيعات دور الطباعة والنشر في ألمانيا في خلال السنة الماضية زادت مرة أخرى وبلغت هذه الزيادة 11. 2 في الكتب العلمية و 4 للكتب الأدبية. صدر في الأشهر الستة الأولى من هذه السنة 3852 كتاباً (في سنة 1937، 2327 كتاباً) فتكون الزيادة 65 ، 8 في المائة ويوجد في ألمانيا الآن نحو 4 آلاف مكتبة في المعامل. ثم أعلن الدكتور غوبلز إنشاء صندوق معاشات للمؤلفين الألمان وقال إنه سينظم معرض عظيم للكتب بعد وقت قصير

بين الرافعي والكرملي

جاء في كتاب الأستاذ الكرملي إلى المرحوم الرافعي الذي نشره الأستاذ العريان في الرسالة مسائل يستفتيه فيها وطلب إلى القراء أن ينشروا ما يرون من رأي فيها ولعله يأذن لي أن أقول شيئاً في بعضها. . . قال الأستاذ الكرملي: في صفحة 8 ورد ذكر (المصنع) والعرب لم تنطق به، على أن القياس لا يمنعه ألا يتخذ الكاتب البليغ الكلمة التي جرت على أسلات

ص: 68

السلف وهي (الطراز)؟

والذي أرى أن الكلمة التي هي أولى أن يتخذها الكاتب البليغ وجرت أيضاً على أسلات السلف هي كلمة (المعتمل) فقد جاء في فتح الباري على البخاري للعلامة ابن حجر في الجزء الثاني ص10. . . أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيت لو أن رجلاً كان له معتمل وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق فكلما مر بنهر اغتسل منه الحديث. . . فالمصنع لم تنطق به العرب والطراز لا يدل إلا على الموضع الذي تنسج فيه الثياب الجديدة ليس غير، أما المواضع التي تصنع فيها أشياء أخرى غير الثياب فلا يطلق عليها الطراز إلا على سبيل التوسع والتجوز.

أما (المعتمل) فهو يشمل كل المواضع التي يعمل فيها (العامل).

وقال الأستاذ الكرملي أيضاً: وفي تلك الصفحة: (تراها - أي الطاقات - عطرة بيضاء) وأنا لم أجد إلى الآن في شعر أو نثر من وصف جمعاً مؤنثاً سالماً لعاقل أو لغير عاقل بوصف مفرد مؤنث. . الخ. أقول إن هذا السؤال قد أجاب عنه الرافعي قبل أن طبع كتابه وحي القلم فقد جاء في مقالته لحوم البحر. . وترد الأمواج نقية بيضاء كأنها عمائم العلماء) علق على هذه الجملة في الهامش قال: يرى بعضهم أن مثل هذا الوصف خطأ، وأن الصواب أن يقال (بيض)، ولسنا من هذا الرأي وقد غلط فيه المبرد ومن تابعوه لغفلتهم عن السر في بلاغة الاستعمال مرة في الوصف بالمفرد ومرة في الوصف بالجمع أنظر (الرسالة سنة ثانية ص1487)

(الرشيدي)

برنردشو والمدارس والتعليم

وجهت مجلة عالم المدرسين الإنجليزية استفتاء عاماً إلى عظماء رجال الفكر في إنجلترا عن المدارس والتعليم وما إليها من شئون وحصرت الاستفتاء في تسعة أسئلة تسلمت إجابة (شو) عنها فكانت إجابة عجيبة صريحة لا تصدر إلا عن شيخ الأدباء الفتيّ الجبار الذي يزدري كل شيء في العالم ولا يعجب بأي شيء. سئل شو عما يقدر اليوم أكثر من حياته

ص: 69

المدرسية أو الجامعية الماضية فأجاب في بساطة وسخرية: لا شيء. فقيل له: وماذا تأسف عليه من هذه الحياة؟ فقال إنه لا يأسف إلا على ذهابه إلى المدرسة أو الكلية؟!

وسئل عما إذا كان أحد من مدرسيه قد أثر فيه فوجهه إلى الخير أو الشر؟ فنفى أن يكون أحد منهم قد ترك أثره فيه وأنهم لم يكونوا يحبونه مطلقاً ولم يكونوا يفقهون من وسائل التربية السيكلوجية كثيراً ولا قليلاً

وسئل عن الكتب التي تركت طابعها في نفسه أكثر من غيرها في طور طفولته، فذكر أنه قرأ كل ما تيسر له من الكتب إلا كتب الأطفال التي كان يمقتها، ثم أورد الكتب التي ما يزال صداها يملأ ذاكرته فكانت ثلاثة هي رحلة الحاج لجون بنيان وألف ليلة وليلة وروبنسون كروزو

ونفى في سؤال رابع أن يكون لفئة المدرسين في هذا العصر طابع خاص يلفت إليهم النظر، ويميزهم من سواهم من سائر الناس. ثم أجاب عن شطر آخر من السؤال، فقال إن المدرس سجان برغمه للأطفال الشياطين يحبسهم سحابة النهار حتى لا يصيبوا أمهاتهم بالجنون.

وسئل عن الجمع بين الجنسين في التعليم إلى سن الرابعة عشرة ثم ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، هل هو مع الجمع أو هو ضده؟ فقال إنه لا يصلح للحكم في هذه المسألة على أنه لا يرى في الجمع أي بأس لاسيما للأبناء الذين ليس لهم أخوات والبنات اللاتي ليس لهن اخوة

وسئل عما يلاحظ في شباب هذا الجيل من الفظاظة والكسل وانعدام روح المجازفة، فاعترف بكل ذلك، لكنه فضل شباب هذا الجيل من هذه الوجهات على شباب عصره، بل فضلهم على نفسه هو حينما كان طفلاً وشاباً

وسئل عن هذه الفروع المملة من التعليم والتي لا تسيغها نفوس التلاميذ: هل ينبغي مع ذاك أن تكون جزءاً مما يفرض عليهم تعلمه؟ فقال: (حسن! وهل يسيغ أحد من التلاميذ جدول الضرب مع شدة لزومه؟). ثم أوصى بوجوب إثارة الرغبة في نفس التلميذ ليحفظ الجدول وما شابهه وإفهامه أنه بدون هذا الجدول لا يستطيع أن يتصرف في النقود التي يعطيها له أبوه لينفقها وإلا يبعثرها هباء؛ وبهذا يقبل الطفل على كل صعب مملول فيحفظه بدافع

ص: 70

الرغبة لا بدافع الرهبة والخوف من العقاب

وسئل عما عسى أن تكسبه الأمة أو تخسره في حالتي تعميم المدرسة الابتدائية أو المدرسة الأولية كخطوة أولى لتعليم الطفل. ويظهر أن (شو) أميل إلى تعميم المدرسة الابتدائية لأن هناك (نهاية صغرى) من المعلومات التي يجب تلقينها للأطفال لا يمكن ولا يصح بأي حال أن ينقص منها شيء ماداموا سيحيون في جماعة إنسانية متمدينة

وبقي السؤال الرابع. . . وهو أعجب الأسئلة كلها لأنه يتعلق بالخط! وهل من المهم أن يكون فرعاً من فروع التعليم المدرسي قائماً بذاته؟ وقد حتم (شو) أن يكون الخط كذلك. غير أنه رأى أن تزود المدارس بصور من خط ميكائيل أنجلو ليضاهي التلاميذ خطوطهم بها. . . وهذا ما لم نفهمه من (شو) فخط أنجلو لا يصلح مطلقاً أن يكون خطا لأبناء هذا الجيل من الكاتبين بالحروف اللاتينية، وكان الأجدر به أن يحتم تدريس الخط كفرع من فروع التعليم المدرسي وحسب

ص: 71

‌الكتب

1 -

سياسة الغد

للأستاذ مريت بك بطرس غالي

2 -

التصوف الإسلامي

للدكتور زكي مبارك

كتابان قيمان لأستاذين جليلين أولهما ابتكار في السياسة والآخر ابتكار في الأدب. ومن يمن الطالع وحسن التوفيق أن (مطبعة الرسالة) قد افتتحت جهادها في خدمة الثقافة بطبع هذين الكتابين. وقد تلقت الأندية السياسية والصحافة اليومية كتاب الأستاذ مريت بك بما هو أهله من التنويه والتقدير والبحث، وستجد الصحف الأدبية والمقامات العلمية في كتاب الدكتور مبارك كشفاً جديداً لناحية مجهولة من أدبنا العربي يستوجب التسجيل والشكر. وإنا نكتفي اليوم بنشر مقدمتي الكتابين بياناً لغرض الكاتبين وتمهيداً لما سنكتبه عنهما في عدد قادم.

- 1 -

قال الأستاذ مريت بك:

من عادة الكتاب في الشئون العامة أن يستهلوا حديثهم بأن يصبغوا أحوال بلادهم بألوان سوداء قاتمة، كي يتخذوا من ذلك وسيلة لإقدامهم على معالجتها؛ وما كنت لأعدل عن هذه العادة لولا أن أحوالنا الحاضرة أضحت تنطق بنفسها عما نحن عليه، وقد شُغل فكرنا جميعاً بعلامات الضعف في النظام السياسي والقومي، ومظاهر التفكك الاقتصادي والاجتماعي. وشاهدنا في السنتين الأخيرتين على الأخص اهتماماً عظيماً بمشاكلنا الداخلية في جرائدنا ومجلاتنا ومحاضراتنا وفي حديث الناس عامة؛ وترجع هذه الظاهرة الجديدة في حياتنا القومية، على ما أظن، إلى أنَا على أثر اكتساب حريتنا الوطنية انتقلنا إلى عصر جديد في تاريخنا، حتى بدأنا نشعر بأن مستقبلنا القومي أصبح الآن في أيدينا، وليس لأحد سوانا أن ينظّمه ويكوّنه. وقد غطت قضية الاستقلال خلال العشرين عاماً الماضية على شئوننا الداخلية إلى حد ما، وصرفتنا عنها بحيث خيل إلينا أنها على درجة من الرقي مقبولة. وكم كانت خيبتنا عظيمة حين عدنا من الشئون الخارجية إلى الشئون الداخلية، فوجدناها في

ص: 72

منتهى الضعف والتقهقر

وحالة مصر في الحقيقة لا تدعو إلى الاطمئنان: فأمامنا اضطراب مستمر في الحياة القومية، وأزمة محقّقة في الآداب العامة، ومشاكل اقتصادية واجتماعية قد تصل في القريب العاجل إلى الحد الأقصى من الخطورة. وليست تلك العوامل بخافية على أحد. وقد أوجدت عند بعضنا شيئاً من التشاؤم في المستقبل، وانتشر القلق في صفوف الشعب، من فلاحين يشعرون به ولا يفهمون أسبابه، إلى مثقّفين ومتعلّمين يرون الأخطار في جلاء ويتوقعون تضخّمها في السنوات القادمة. غير أن علامات الضعف والتفكك لا تظهر على صورة واحدة لكل منا، ولم نبحث وراء تلك الدلائل الخطيرة والعديدة عن الأسباب الأصلية التي عملت على تكوينها وظهورها. وكان لعدم تعوّدنا مواجهة تلك الشئون المعقّدة أن أخذنا ندرسها ونتناقش فيها منفصلاً بعضها عن بعض، ولم نفطن إلى وحدة الحياة القومية وإن بدت مختلفة المظاهر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً

زد على ذلك أن عدم الاستقرار السياسي والإداري يجعل الوزارات التي تتوالى على كراسي الحكم غير قادرة على أن تعد برنامجاً للإصلاح والتقدم، وتواصل تنفيذه منسِّقة بين مختلف التدابير الحكومية وغير الحكومية. حتى أن سرعة التقلب السياسي وكثرة المشاكل الوطنية وتعقّدها تبعد برجال السياسة والإدارة عن الأغراض البعيدة التي كان يجب عليهم ألا يفارقوها أبداً، وتجرهم نحو المجالات الحزبية والمسائل الوقتية أو الثانوية؛ فتظهر تلك المجادلات وهذه المسائل بمظهر هام جداً كلما قربت وضاق الوقت عن حلها، مما يؤدي إلى قرارات غير محكمة وحلول غير كاملة، فتبقى سياسة الدولة عديمة التواصل كثيرة التردد والتقلب

وليس الغرض من هذا البحث أن ندرس جميع المسائل التي تواجه الدولة المصرية في الوقت الحاضر، ولا أن نستعرضها واحدة بعد أخرى ونقترح حلاً وتدبيراً لكل منها؛ بل الغرض أن نلقي نظرة إجمالية على كافة مظاهر النشاط القومي مع التدقيق في العوامل الأساسية التي أدّت إلى تضخم مشاكلنا ومصاعبنا ثم نرسم بعض الخطط العامة التي يحسن العمل على مقتضاها لمعالجة هذه الأخطار. وإلى جانب ذلك نبيّن حاجتنا الحيوية إلى الوحدة والتناسق والتواصل في سياسة الحكومة لتكفل تقدّم الأمة سياسيَّاً وقومياً، وتضمن

ص: 73

علاج ما يمكن علاجه من أحوالنا الاقتصادية والاجتماعية

وإذا كانت سماء مصر ملبّدة بغيوم الأخطار الخارجية والمصاعب الداخلية، فجدير بنا ألا نرهب هذا أو نخشاه، ولنطمئن على كل حال إلى ما في قلوب المصرين من عزم وشهامة وإخلاص في خدمة الوطن. ولقد اتفق أول عهد مليكنا المحبوب مع شروق شمس الاستقلال الوطني الذي قضى الشعب المصري قروناً يتطلع إليه، فأصبح عهد (فاروق الأول) حلقة اتصال بين مفاخر مصر القديمة وآمال مصر الحديثة، والله نسأل أن يهدينا سبيل التقدم والفلاح.

- 2 -

وقال الدكتور زكي مبارك:

الحمد لله الذي هدانا لها، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

أما بعد فهذا كتاب التصوف الإسلامي، وهو كتاب شغلت به نفسي نحو تسع سنين، وأنفقت في تأليفه من الجهد والعافية ما أنفقت، في أعوام لو ابتلي بمثلها أصبر الصابرين وأشجع الشجعان لألقى السيف وطوى اللواء، فقد كنت في حرب مع الناس ومع الزمان، ويا ويح من ابتلته المقادير بإفك الناس وغدر الزمان!

ولكن الله عز شأنه لم يخلق الشر إلا لحكمة عالية، فقد قويت عزيمتي بفضل ما عانيت في حياتي من ضروب الاضطهاد، واستطعت أن أقيم الدليل على أن الظلم قد يعجز عن تقويض عزائم الرجال.

وهل كان من هواي أن أسرف على نفسي مثل الذي أسرفت فأقضي عشرين سنة في الحياة الجامعية بين القاهرة وباريس كانت كلها نضالاً في نضال؟

هل كان من هواي أن تخلو حياتي من الهدوء والطمأنينة فلا أُصبح ولا أُمسي إلا في عراك وكفاح؟

هل كان من هواي أن انتهي إلى ما انتهيت إليه فلا يكون لي من نعيم الحياة إلا ما أُصوره بقلمي من حين إلى حين لأوهم نفسي أني أعايش الأحياء؟

تباركت يا ربي وتعاليت! فلولا لطفك وتوفيقك لما استطعت بفضل الجد أن ألقي أهل زماني بالاستطالة والكبرياء.

ص: 74

ومن هم أهل زماني؟

هم الكسالى الظرفاء الذين حرمهم الله نعمة البلاه بأقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.

ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين: التصوف في الأدب، والتصوف في الأخلاق.

وقد كان هذا الموضوع فيما يظهر غامضاً أشد الغُموض، فقد طلب مجلس الأساتذة بكلية الآداب أن نقدم له مذكرة نشرح بها الغرض من هذا الكتاب ليقبل أو يرفض جعله موضوع رسالة لامتحان الدكتوراه. وقد أجبنا يومئذ بأننا نريد أن نبين كيف استطاع التصوف أن يخلق فنّاً في الأدب ومذهباً في الأخلاق، وهو موضوع يستحق الدرس بلا جدال.

وكان مجلس الأساتذة على حق، فقد كنا في حيرة مظلمة الأرجاء، وكنا لا ندري كيف نتوجه، وكل ما كنا نملك حينذاك هو الإطلاع على العناصر وتصور ما لها من أهمية لو وضعت في نظام واضح مقبول.

ولكن السبيل إلى ذلك كان في غاية من العسر والصعوبة، فقد كنا جمعنا ألوفاً من الجذاذات لا ندري كيف نربط بعضها ببعض، وكيف نسوي منها رسالة للدكتوراه في الفلسفة تستوفي الشرائط الجامعية.

وتجسم الخطر حين نظر المؤلف فرآه يخترق المصاعب وحده بلا هادٍ ولا معين، فقد كان ظفر بإجازة الدكتوراه قبل ذلك مرتين، مرة من الجامعة المصرية ومرة من جامعة باريس، وكان ذلك كافياً لأن ينصرف عنه الأساتذة ويتركوه يكتب ما يشاء كيف شاء.

ولكن أولئك الأساتذة الذين اعتمدوا على كفايته العلمية لم يتركوه بلا حساب، فقد تدخلوا في تصميم الرسالة وخرّبوها بأيديهم مرتين، فخرج منها كتاب نشر منذ سنين هو كتاب (المدائح النبوية في الأدب العربي)

والشر قد يكون باباً من الخير في بعض الأحيان.

نوقش هذا الكتاب بجلسة علنية في مساء اليوم الرابع من أبريل سنة 1937

ناقشته لجنة عنيفة قهرت المؤلف على التواضع، وهو خلقٌ لم يعرفه من قبل، واقترحت أن يحذف أشياء وأن يضيف أشياء.

وقد رجع المؤلف إلى الكتاب فنظر فيه من جديد وأضاف إليه طائفة من الفصول في الأدب والأخلاق، وحرر بعض الهوامش التي تحدد ما كان يحتاج إلى تحديد في بعض المواطن،

ص: 75

وانتفع بإقامته في العراق فتعقب الصلات بين التصوف والتشييع، وقد أعانه ذلك على إمداد كتابه بحيوية جديدة سيرى القارئ شواهدها وهو ينتقل من بحث إلى بحث.

هذا، وقد يجد القارئ ما يثيره في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فإن وجد ما يشوكه ويؤذيه فليرجع إلى ما شاكه وآذاه بالدرس والتأمل مرة أو مرتين أو مرات ليوافق أو يعترض على هدىً وبصيرة. وليتذكر أن الدراسات الفلسفية لا تقوى ولا تجود إلا أن سِلمتْ سلامةً تامةً من الرياء وتخوف العواقب

والمؤلف يرجو أن يتذكر القارئ أيضاً أن الصوفية كانوا من أقطاب الحرية الفِكريةُ، فمحاربة هذه الحرية باسم الغيرة عليهم خطأ لا يقع فيه رجلٌ حصيف

وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أدعو الله تباركت أسماؤه أن يُسْبِغ على هذا العمل الخالص لوجهه الكريم حُلة القبول، إنه قريب مجيبٌ.

زكي مبارك

ص: 76