المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 281 - بتاريخ: 21 - 11 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 281

- بتاريخ: 21 - 11 - 1938

ص: -1

‌من مآسي الأخلاق

بعد عشرين عاماً في الجهاد

في اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر 1918 بُعث نبي الوطنية سعد زغلول، وأوحى إليه أن يذهب هو واخوته إلى جون بول يدعونه إلى الحق، كما أوحى إلى موسى أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون يدعوانه إلى الإيمان. وجون بول كان يزعم كما يزعم فرعون أن له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته. فقال له سعد قوله اللين لعله يخشى أو يتذكر، فأبى واستكبر، ثم طغى وتجبر، فهدَّد وشرَّد، ثم قتَّل ونكل؛ فسلط الله عليه وحدة الأمة النبيلة فرمته بأُسُودها وأشبالها، بنسائها ورجالها، بصليبها وهلالها؛ فلم يجد بدّاً من التسليم لقوة الروح وسطوة الإيمان وغلية الحق، فنزل عن الحماية، وساوم على الأستقلال؛ فما زالت الأمة تداوره وتصابره حتى استردت حقها المسفوه بفضل الزعامة الرشيدة والرأي الجميع والقلوب المؤتلفة والفرص المواتية

وولي الأمر بعد الرسول الوطني خلفاؤه الأربعة الراشدون، فأحسنوا الولاية ووصلوا الجهاد وصدقوا العهد، حتى بغي مروان، وقُتل عثمان، فشتَّتِ الوحدة، وتشعث الرأي، وتصدعت القيادة، وذاق الناس بعضهم بأس بعض، وحمل كل فرق على كل فريق بالأذى والهُجر، يرميه بالفسوق والمروق، وينبزه بالجبانة والخيانة، حتى أُصيب الرأي العام بنوع من الأَفَن لا يستقيم معه منطق ولا يبلغ عليه جهاد!

هذان سرادقان نصبا في مكانين متقاربين في ساعة واحدة لغاية واحدة، فماذا رأى الرائي وسمع السامع في حفلين أقيما لتمجيد الجهاد والتضحية، وتجديد الاتحاد والألفة؟ رأى فريقين كانا في حومة الشرف وميدان الشهادة إخوان سلاح في معسكر واحد، يتحملون مكاره الرسالة كالأنبياء، ويهشون للقاء الموت كالشهداء، ويجهلون أن لهم أنفساً بشرية تبغي المتاع وتطلب السلطان. فأصبحا بعد النصرِ فرَقاً في يد الهوى، يعادي بينهم الحق كما يعادي بينهم الباطل، ويجري عليهم من أنفسهم أضعاف ما كان يجري عليهم من العدو

رأى ذلك وسمع خطيبين يعبر كل منهما عن رأي فريقه، فلم يدعا في مفردات اللغة كلمة تدل على الفشل والغلول إلا تراشقا بها على تصفيق الأيدي وتصديق الألسن من كل جانب. فإذا أخذت بشهادة كل فريق على صاحبه - ولا يخلو الفريقان من شهود عدول -

ص: 1

حكمت ولابد بأن الأمة إنما كانت تسير إلى غايتها من الحرية والاستقلال على هدى سليقتها الموروثة، تدعوها الإنسانية الطموحة، وتحثها الرغبة الملحة، وتساعدها المشاكل الدولية

أنا القادة والإدلاء فقد وقفوا على جانبي الجيش يتنافسون في الرياسة، ويتحاسدون على الجاه، فتتعارض المطامع، وتتناقض الخطط، ولا يكون من وراء ذلك لمجاهدين إلا الضلال أو التقهقر

ذلك حكم الواقع إذا صدقت شهادة كلا الحزبين على أخيه؛ وإلا فهو عَكَرُ الأخلاق المشوبة رسب بإِذن الله إلى حين؛ فلما انقضي جهاد العدو واطمأنت النفوس إلى وساوسها وأهوائها، ثار ما في القاع، من الأكدار والأطماع، فأنقلب الأمر نزاعاً على ولاية الحكم، وصراعاً على قسمة الغنيمة!

قالوا إننا أمة تبدأ وحدة وتنتهي آحاداً، وتفشل جماعة وتنجح أفراداً، وتضعف قادة وتقوى أجناداً؛ فليت شعري حتَّام يصدق هذا القول في أمة تزعم أن لها قومية متميزة، ومدنية مستقلة، وعقلية متجانسة، وثقافة متحدة؟؟. .

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌تحية المهد الملكي المبارك

على حواشي الفردوس من دار المًلكِ السعيدة

تطُوف أمانيُّ شُعوب، وتهفو عواطف قلوب، وتلهج ألسنةٌ صادقةٌ بالدعاء، وتفيض جوانح زاخرة بالولاء، وتتنزَّل الدعوات والتهنئات على مطلع البدر، كما تتنزَّل الملائكة والرُّوح في ليلة القَدْر!

وعلى كِلَلِ الورد من مَهْدِ الأميرة الوليدة

تَشِع هالاتُ من نور الحب، وتَشِيعُ نفحاتٌ من سرور الشَّعب، وتتلاقى بسمات المِلكين العظيمين، لأُولى ثمرات القلبين الكريمين، وتَرِفُّ نسمات الرضا الجميل، من عِطاف الوادي وضفاف النيل!

فرِيْالُ يا حلية العرش ودرَّة التاج الفريدة!

إنك وحدة الحب الملكي الصادق والحب الشعبي المكين، وإن مولدك مظاهرة سماوية من أعياد الدنيا والدين: عيدِ نزول القرآن، وعيد الجمعة الأخيرة من رمضان، وعيد افتتاح البرلمان، وعيد الفطر والإحسان!

كذلك عهد أبيك العظيم يا فريال: جمالٌ وجلال، ويمن وإقبال، وشباب وآمال، وقلب كله لله، ورأس كله للوطن!

ص: 3

‌أتاتورك

للأستاذ محمود غنيم

طاف الحمام بعاهل الأتراك

صبراً (فروق) قد احتسبت فتاك

ما مات فرد وورى بل هوى

من أفقه فلك من الأفلاك

صاد القضاء النسر وهو محلق

واها لنسر عالق بشراك

مات مصطفى كمال، وليس عجباً أن يموت في هذه السن الباكرة، إنما العجيب أن يمتد به الأجل فوق ذلك! إن ثمانية وخمسين ربيعاً عمر قصير إذا أضيفت إلى رجل من عامة الرجال، أما إذا أضيفت إلى عاهل الترك فإنها بمثابة قرون وأجيال. لو كان هذا الرأس من ماس لذاب؛ ولو أن تلك الأعصاب من حديد لاعتراها البلى؛ ولو أن هذا الجسم قلة من قلل الجبال، لأسلمه العمل المضني إلى الانحلال.

مات مصطفى، وأسدل الستار على ذلك الوجه الذي قدت عضلاته من الجرانيت، وانطفأت هاتان العينان بل الكوتان اللتان تشعان السحر والمغناطيس، وتنفذان إلى أعماق القلوب، وتنمان عن إرادة من فولاذ.

مات الرجل الذي كان معبود قوم، وقذى في عيون آخرين. مات الثائر الذي حكم القضاء الجائر بإعدامه، فلم يصبه سهم من سهامه. مات الذي طالما نصبت المؤتمرات شركاً لاغتياله، فلم يقع في حباله. مات الذي ناهض السلطان، ودوخ اليونان، وحارب الحلفاء في صف الألمان، فلم يجد الموت إليه سبيلا، كأنما هو في جفن الموت والموت وسنان.

مات مصطفى ميتة ابن الوليد على فراشه، لم يقطع شلو من أشلائه، ولم تسل قطرة من دمائه، فلا نامت أعين الجبناء!

كانت أمة محلولة العرى، مفككة الأوصال، أنهكها من الداخل استبداد الخلفاء، ومن الخارج انتصار الخلفاء؛ غريبة في أوربة بدينها وعاداتها، لا هي من الشرق ولا هي من الغرب، فجمع مصطفى تلك الأشلاء المتناثرة، وواءم بين هذه الأطراف المتنافرة، حتى استقام له شبه هيكل من العظام، كساه لحماً، وركب له أعصاباً، وشق فيه حواس، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو بشر سوى، مقطوع الماضي عن الحاضر، لا يمت أوله إلى آخره بآصرة من الأواصر، فلا غرو إذا قلنا: إن مصطفى كمال، طراز وحده في الرجال. وإننا لنجور

ص: 4

عليه وعلى الحق معه إذا قارناه بموسو ليني في الجنوب أو بهتلر في الشمال، فان المعجزة إنما هي في إحياء الميت، أما إحياء الحي فليس من المعجزات في شيء. فان كان هناك فقيد يستحق التخليد، تضاف إلى اسمه البلدان، وتقام له التماثيل في كل مكان، فهذا هو مصطفى كمال، لا غيره من أشباه الرجال الذين تنحت لهم التماثيل من الصخر، وكان جديراً بها أن تصاغ من الشمع، ثم تسلط عليها أشعة الشمس

لم يكن الأثر الذي أحدثه مصطفى كمال قاصراً على رقعة من الأرض، ولكنه غير اتجاهات الأفكار، وامتد إلى النظم التي تواضع عليها البشر، فقلبها رأساً على عقب. إنه لم يؤمن بسنة التطور في إنهاض الأمم، ولم يعترف للزمان بعمل في تكوين الشعوب، بل قال بالطفرة، ثم شفع القول بالعمل، فدفع بأمته من خلف، في قسوة وعنف، ثم سار وأوغل في سيره، والناس في شك من أمره. ولشد ما شده العالم حين رآه يجتاز السبيل، ويتخطى العقابيل، بالغاً بأمته حيث يريد في سلام واطمئنان، والزمان ينظر إليه في خجل، لأنه أسقطه من حسابه ولم يعترف له بعمل

كان مصطفى مثالاً حياً للرجل الثائر، أظلته الثورة من مهده إلى لحده، ما حمل على رأي إلا جرّحه، ولا سيم خطة إلا فندها، ولا حارب تحت لواء قائد من القواد، إلا وجه إليه مرير الانتقاد. ثار في طفولته على فلح الأرض ورعى الأغنام، وثار في شبابه على عبد الحميد ثم على وحيد، وثار في كهولته على العادات والتقاليد. وليست عظمة الرجل في أن يثور، فان الثائرين في الرجال كثير، وما أيسر الانتقاد، وأسهل الهدم على من أراد! ولكن مصطفى لم يكن هادماً فحسب، بل كان هادماً بانياً، يبني الجديد على أطلال القديم، ولا يعمل المعول حتى يضع التصميم

أراد مصطفى استغلال بلاده فلم يلجأ إلى الكلام، إلا بمقدار ما يمهد الكلام للحسام، ولم يلجأ إلى الاستجداء، لعلمه أن الاستقلال أخذ لإعطاء، ولكنه أسمع الغاصب المحتل صوت احتجاجه عن طريق المدافع الدوية، والسيوف المقعقعة، فكان صوتاً يخترق حجاب السمع، وكان أذاناً يطرق الصم من الآذان. وما كان لمصطفى بفلول جيوشه الحديثة العهد بالانهزام أن يطرد المحتلين، وأن يكبح جماح الجيران الطامعين، ولكنها العقيدة المتغلغلة في الصميم، إذا اقترنت بالحق الصراح، والرغبة المدججة بالسلاح، لم يقف في طريقها شيء،

ص: 5

بل اجتاحت هي كل شيء، ولم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم

وهكذا استطاع مصطفى أن يخلص الأوطان، من احتلال الغاصب وجشع اليونان؛ ولكن ماذا يفيد جلا الغاصبين، والبلاد واقعة تحت نير السلاطين باسم الدين؟

على رسلك يا مصطفى، إن طريق الدين شائك وعر المسالك فلا تجرح فيه عواطف الأتراك، بل عواطف المسلمين أجمعين. إياك والتعرض للخلفاء، فان للخليفة قوة أربعين من الأولياء. إن المسلمين لابد لهم من إمام، وإن الخلافة ركن من أركان الإسلام. بمثل هذا تعالت الأصوات، من مختلف الجهات، ولكن لمصطفى أذناً صماء، لا تصيخ إلي النداء. هو لا يريد الخلافة، فليكن ما يريد، ثم يضرب الضربة القاصمة، فيطوح بالخليفة في مجاهل الأرض، وتتطاير شظايا عرشه في الفضاء. أما الفقهاء فلهم أن يبدوا ما يحلو لهم من الآراء، وأما الصحف والكتاب، فلهم أن يحكموا هل أخطأ أو أصاب

ترى ماذا كان يكون من أمر الخلافة لو طرحها كمال على بساط البحث، وانتظر فيها قرار المتضلعين من رجال الدين؟ أغلب الظن أنها كانت تسلك الأدوار التي سلكتها من قبل مسألة خلق القرآن في عهد بني العباس، تتناطح حولها الحجج، وتتقارع البراهين، ثم ينتقل التناطح من الحجج إلى الرءوس، والتقارع من البراهين إلى السيوف والتروس، ثم لا ينتهي الأمر، أو ينتهي إلى لا شيء؛ ولكن مصطفى يعرف ذلك، ويعرف بجانب ذلك أن منطق الواقع يغير وجوه الرأي، ويحول اتجاهات الأذهان، ويحمل على التسليم والإذعان. وكأني به جالساً على أحر من الجمر، وأعضاء المجلس الوطني يتداولون الآراء في مسألة الخلافة، حتى إذا نشب الجدل وطال النقاش ساعة من نهار، لوح لهم بحبل المشنقة فصدر القرار

ليت شعري ماذا فعل مصطفى؟ أتراه على عروش الخلفاء، أم أجهز على جريح لا يرجى له الشفاء؟ أهي نزعة من نزعات الألحاد، أم التخلص من عضو دب إليه الفساد؟ للتاريخ وحده أن يحكم؛ غير أني أبرئ من الإلحاد مترجم القرآن، ومعز دين الإسلام، ومرغم الأجانب على احترام الجمعات، وإنما هو النفوذ الديني أسيء استعماله، فوجب استئصاله؛ ذلك النفوذ الذي تغلغل في كل مصلحة، واعترض طريق كل إصلاح، والذي لم يوسم به عصر دون عصر، أو يسلم من شره مصر دون مصر. ذلك الذي جعل مصطفى برماً

ص: 6

برجال الدين لا بالدين، حتى إنه ليقول في فورة من فوراته النفسية:(لوددت لو أستطيع أن أقذف بالأديان جملة في أعماق البحار)

وما كان لمصطفى ليضطغن على الإسلام لذاته، ولو لم يحترمه ديناً لاحترمه مقوماً من مقومات القومية التركية، تلك القومية التي كانت هدفه الوحيد بعد أن أغمد سيفه وعاد من الميدان

على أن مصطفى بشر يخطئ ويصيب، وقد يكون جار ليعدل، وانحرف عن الجادة ليصل إلى الطريق القويم. وإنك لن تخيط الثوب حتى تحدث الإبر فيه ثقوباً. ورحم الله القائل (إنا لن نصل إلى الحق حتى نخوض الباطل خوضاً)

ليس الرجل العظيم جديراً بهذا اللقب حتى يكون عظيماً في كل شيء، وقد برهن مصطفى على أنه رجل سلم كما أنه رجل حرب. ما كاد يخلص من قيود وطنه بالتحطيم، حتى تناول داخليته بالتنظيم، فأظهر في ذلك ما لم يكن ينتظر من رجل تخرج في الميدان، لم يعتد إلا حمل السلاح وإطلاق النيران. أنظر إليه يقوم (بتتريك) كل شيء، ويتعصب لقوميته حتى إنه ليحظر التعليم بغير اللغة التركية، ويقصي في سبيل ذلك كثيراً من معاهد الجاليات الأجنبية. ثم أنظر إليه لا يمنعه تعصبه الأعمى لقوميته أن يستعير من الغرب الحروف اللاتينية، فيفرضها فرضاً، ويطوف حاملاً سبورته مبشراً بها في الأندية والمسارح. ثم أنظر إليه يفرض القبعة على الرءوس، ويقذف بالقلبق والطربوش وغير هذين من الأغطية المختلفة الأشكال، التي كانت تجعل من الأتراك شبه (كرنفال). إن مصطفى القائد خبير بعلم النفس، مدرك تمام الإدراك الارتباط الذي بين النفوس، وبين أغطية الرءوس، فعل مصطفى ذلك كله في ثوان، وإن قوماً لا يزالون إلى الآن ينتظرون حكم الفقهاء في ترجمة القرآن، وهم كلما هموا باستبدال لباس بلباس، انتظروا حتى يحكموا الدليل والقياس

إن سر عظمة مصطفى هو في أنه رجل عملي، لا يعرف المناقشات البيزنطية. ما يحتاج إلى قرون، ينفذه في لحظة بقوة القانون. وإنه ليؤثر الأقدام على الخطأ على التردد في الصواب، بل إنه ليحيل الخطأ صواباً بشدة اقتناعه وسرعة اندفاعه. بذلك استطاع أن ينفذ برنامجاً واسعاً من الإصلاحات، وأن يعلن الجمهورية، وأن يلغي الألقاب، وأن يقضي على

ص: 7

نفوس كرادلة الإسلام، وأن يحقق غير ذلك من الأغراض التي لم تحققها الثورة الفرنسية إلا بعد عشرات من السنين، أروت فيها خشب المفصلة بدماء الملايين.

وبعد، فهل لنا أن نضيف مصطفى كمال إلى نابليون بونابرت وإلى محمد علي باشا ثم نعتبر هؤلاء دليلاً على أن رجال الميدان بما تعودوا من سرعة البت وصرامة الأحكام - أصلح لحكم الشعوب من رجال القانون الذين يتحرون المنطق في الأحكام، ويطيلون البحث في فقه الألفاظ ومدلول الكلام؟

وهل لنا أن نعتبر هؤلاء دليلاً على أن الحكم الدكتاتوري العادل هو أصلح أنواع الحكم التي تساس بها الدول؟ إنني لأميل إلى ذلك كل الميل. بيد أنهم يقولون: إن الدكتاتور يبني نفسه على أنقاض غيره، ويقوي شخصيته على حساب إضعاف شخصيات الآخرين. ولئن صح ذلك فأنني لأشفق على تركيا الفتاة ألا تجد خلفاً لمصطفى، أو تجد خلفاً يشغل زاوية من زوايا كرسيه العريض ويترك سائرة شاغراً

(كوم حماده)

محمود غنيم

ص: 8

‌من ذكريات لبنان

راهب الوادي

للأستاذ علي الطنطاوي

كنت في بيروت فمللت صخبها وضوضاءها وأحسست أن قلبي جائع لا يشبعه إلا الجمال، ونفسي عطشى لا يرويها إلا الحب، وتمنيت أن أعيش يوماً في الجنة. . . وما أقرب الجنة من ساكني بيروت تلوح لهم من شرف السماء كما تلوح الفراديس لعيني العابد المتبتل. . . وتبدو لهم بذراها المكللة أبداً بالثلج رمزاً للصفاء والطهر، وهاماتها المرفوعة المشمخرة صورة للعظمة والمجد، وصخورها الهائلة التي تتلو على الدنيا سورة الخلود، وسفوحها الحالية بأشجار الصنوبر والسرو التي تصف الحياة الباسمة، والجمال الباقي، وقراها الضائعة في الضباب العطِر، وغاباتها السكرى بالنشيد الحلو، وشعابها ومساربها التي يمرح فيها الحور العين، والولدان المخلدون، آمنين في مثابة العشاق، وحمي المحبين، وأوديتها العميقة عمق السر في نفس الصب المدله بحب أن يذيعه ثم يضنَّ به فيختزنه في صدره، الرهيبة رهبة الأزلية عند أبناء هذا الوجود الفاني. . . الساحرة سحر المجهول الذي يحبه الناس بمقدار ما يخافونه!

وكانت الدنيا تخطر في حلل الربيع، وكانت الطبيعة في عرس، فخرجت مع فئة من تلاميذي نؤم دنيا الأحلام، وجنة المستعجل، وذهبنا نصعد في الجبل على غير ما طريق، بل لقد تنكبنا الطرق عمداً ونأينا عن السبل المسلوكة، والقرى العامرة، لنرى الطبيعة العذراء، ونبصر الجمال البكر، لا الذي ازدحم عليه الواردون، فلم نكن نبلغ الذروة بعد طول الجهد، ونحسب أننا قد وصلنا حتى تظهر لنا من ورائها ذرى وضهور فنعود إلى التسلق ظربين، والطبيعةُ، ويح الطبيعة، تعرض علينا من فتونها ألواناً، وتغرينا بالحب ما وسعها الأغراء، فلم تلبث أن أيقظت في نفوسنا بنات الهوى، وشياطين الغرام، فإذا نحن نفتش في أثناء نفوسنا عن ذكرى حب قديم، أو أمل بحب جديد. . . وإذا نحن نحس بهذه العاطفة المبهمة التي يبعثها الجمال في النفوس الشاعرة، فنزهد في المال والجاه والمجد، ولا نطلب من الحياة إلا خلوة هادئة على صخرة من هذه الصخور. نقضي فيها العمر كله مع من نحب في قبلة واحدة. . . وهل يتسع عمر الإنسان (ليت شعري) لأكثر من قبلة

ص: 9

واحدة؟

لبثنا صاعدين ساعات طوالاً، والطريق تتسع بنا أو تضيق، والقرى تبدو لنا خيالاتها كأنها الأمل الباسم يومض نوره من خلال الأمل الطاغي، وهي متكئة على أكتاف الصخور، أو نائمة في حجر الجبل نومة الطفل المدلل في حضن أمه الرؤوم، والمشاهد تتبدل لنواظرنا أبداً، فلا تترك جميلاً إلا إلى ما هو أجمل، فلا ندري فيم نتأمل، وأين ننظر، كالذي يشهد معارض الفن الجميل فيحار أين يقف، وعلى أي لوحة يلقي البصر. . .

إن لبنان معرض الفن العلوي الذي أبدعته يد الله، فمن لم ير لبنان (لبناننا الشرقي النقي الطاهر، ولبنان القوم المرح الشاعر) لم ير من دنياه شيئاً!

بلغنا من الصعود ما لا نطيق أكثر منه، فنظرنا إلى أقدامنا، فإذا تحتنا أودية وأودية لا ينال البصر أدانيها، وإذا هي غارقة في الضباب، ومحجوبة بالسحاب الذي علونا عليه فصار جريه من تحتنا، وإذا هي مهولة مخيفة، ولكنها سبيلنا ما لنا من الهبوط إليها يد، بعد أن أضعنا الطريق وبلغنا هذه الذرى الخالية، فتوكلنها على الله وأخذنا نهبط في فزعين، ولم يكن ثمة من طريق فكنا نثب من الصخرة، وننحدر في المسيل، ونتزحلق على الحصى، والوادي العميق لا يزال كما كان غارقاً في الضباب، كأنه صورة مبهمة لاحت لشاعر، أو فكرة غامضة أو مضت في رأس عالم، وكنا كلما هبطنا درجة فتحت لنا صفحة جديدة من كتاب الجمال السرمدي، فلا نكاد نقرأ منها حرفاً، لأن لنا من حيرتنا وتعبنا وفزعنا ما يشغلنا عن تلاوة آيات الجمال. . .

حتى إذا مضت ساعات وآذن النهار بالرحيل، بلغنا قرارة الوادي، فإذا هو خال موحش يبدو لنا كأنه قبر، وإذا الأشواك والأزهار والأوراد قد حفت به متشابكة مؤتلفة حتى لا سبيل إلى بلوغه، ولم تكن قد مستها يد بشرية مدمرة، فبقيت على طبيعتها متعانقة لم يفسد ألفتها شيء، ولم يعبث بجمالها عابث، فدرنا حولها نفتش عن مجاز نجوز منه، فوجدنا بعد لأي طريقاً ضيقاً ملتوياً، فسرنا فيه نلتوي معه حتى بلغنا الأعماق. . .

كان الوادي ضيقاً عميقاً كأنه فجوة صغيرة، فنظرنا في جوانبه فلم نلق أثراً لإنسان فرفعنا رؤوسنا فإذا نحن نبصر على الجانبين جداراً هائلاً من الصخر، لا يبلغ البصر أعاليه، وإذا نحن في بئر عميقة نائية عن الدنيا، لم تبلغها الحضارة بخياراتها ولا بشرورها بعيدة عن

ص: 10

البشر لم يصلوا إليها، ولم يعلموا بها فأيقنا أنا قد كشفنا سراً من أسرار الطبيعة في هذا الجبل. وكم للطبيعة فيه من أسرار لم يكشفها إلى اليوم أحد!. . . وملكتنا رهبة المكان فسرنا صامتين، وابتعدت عنهم أنقب في جوانب الوادي، فإذا أنا بسلسال ماء يهبط من الذرى العالية يقطع مئات الصخور والحدور، حتى يستقر في هذا الوادي، كأنه رسالة الحياة وهديتها إليه فذهبت أتبع مجراه، وأتقصى أصله، فإذا أنا ألمح داراً متوارية وراء صخرة من الصخور الضخمة، وإذا أنا أسمع صوتاً يختلط بخرير الينبوع، ويرن صداه الخافت الفاتن في سكون الوادي الضيق، فيهز من القلوب حباتها، فأعجب من هذا الصوت وأقبل عليه على حذر فإذا أنا أتبين فيه هذه الأغنية اللبنانية الخالدة، التي تحمل عبقرية الأجداد، وصورة آلامهم ومسراتهم، وخوالجهم وهواجسهم، فيتلقاها الأحفاد ويزيدون عليها آلامهم وآمالهم فلا تنتهي أبداً، بل تبقى دائماً نشيد الشعب، بل أغنية القلب. . .

عَ اليادل يادل يادل. . . . . .

لَطْلعْ عَ راس الجبل

وَشْرِفْ على الوادي

وقول يا مرحباً

نَسَّم هوا بلادي

يا رب يطوف النهر

ويمتلي الوادي

لَعْمِل زنودي جسر

ومَرِّيء البنية

يا رايحين على حلب

حبي معاكم راح

يا مشيلين العنب

فوق العنب تفاح

كل مين حبيبه معو

ونا حبيبي راح

يا رب نسمة هوا

ترد الحبيب ليا

فهزني الغناء، قبلت على الرجل يدفعني الاستطلاع والفضول ويردني الفزع وخشية المجهول، وأثبته نظرا فإذا شيخ همٌّ أبيض اللمة واللحية بأسمال بالية، فلما رآني وثب مرتاعاً فِعْل من لم ير إنساناً قط وقذف في وجهي بصرخة هي إلى صراخ الوحش النافر أدنى منها إلي صياح الناس، وولى هارباً، فخفته، ولكني تجلدت، وتبعته فمررت بأرض مزروعة ورأيت عدداً من الشاء نفرن مني لما أبصرنتي، فأدركته عند باب الدار، فجعلت ألطف به وأكلمه، وهو ينظر إليّ وقد امحت وحشيته الأولى وصار وجهه كوجه طفل

ص: 11

بريء، وجعل يصغي إلى كلامي، شارد البصر يحاول أن يتفهم معناه ويردد بعض الكلمات بصوت خافت رهيب، فوقع في نفسي أنه مجنون، أو أنه قد نسى الكلام وكان الليل قد بسط على الدنيا جناحيه ولم يبق لنا بد من المبيت في هذا الوادي، فعدت ألطف بالشيخ وأكلمه حتى أنطلق لسانه فتكلم. . .

قال:

. . . نعم خالفت إرادة السلطان، وفررت بها إلى هذا الوادي. أليست ابنة عمي؟ أليس الحب يؤلف بين قلبينا؟

فهممت أن أسأله عنها، ولكني وجدته لا يعي الكلام وخفت إن أنا سألته أن يفوتني حديث قد لا أسمع مثله أبداً فسكت وعاد هو يقول:

لقد عشنا سعيدين لا نرى أحداً ولا يرانا، نزرع هذه الأرض فنأكل من ثمرها، ونسوق هذه الماشية فننال من ألبانها ولحومها، وكنا أسعد الناس، ولكنها ماتت، ماتت منذ أربعين سنة فماتت معها نفسي. وهذا هو قبرها. . .

وبكى الشيخ فأبكانا ثم قال:

إن أعيش من بعدها بلا حياة، أنا ميت، فاقض في ما أنت قاض. خذني إلى السلطان عبد الحميد ليقطع رأسي، لم يبق لي من الدنيا أرب بعد أن ماتت. . . لقد عشت بحبها، وأموت على حبها وهذا يكفيني. . .

ثم قام مشرعاً فاختفى بين أدغال الوادي، وترك لنا بيته وطعامه وشرابه فلبثنا فيه ننتظر الصباح

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 12

‌التعلم والمتعطلون في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

خطة الإصلاح الخلقي

والآن وقد كشفنا عن الضعف الخلقي الذي تفشي في شبابنا بسبب إهمال المدرسة للناحية الخلقية نرى لزاماً علينا أن نرسم للمدرسة خطتها التي نعتقد أنها إذا سارت عليها أمكنها أن تصلح من شأن أبنائها. ولسنا ندعي العصمة من الخطأ في ذلك ولكن هذه الخطة هي التي هدانا إليها اجتهادنا وتفكيرنا.

فعلى المدرسة أن تخصص مدرساً لكل عدد من التلاميذ لا يزيدون على العشرين يراقبهم ويدرس أحوالهم، ويكون لكل واحد منهم سجل خاص يدون فيه جميع المعلومات الصحية والخلقية والعلمية المتعلقة به وتحتفظ المدرسة بهذا السجل منذ بداية التحاق التلميذ بها. وعلى هذا المدرس أن يكون مركز الاتصال بين مدرسي هذا التلميذ الآخرين وإدارة المدرسة من جهة، وبين ذويه وأهله من جهة أخرى ليتعرف كل شيء عنه، وليباحثهم جميعاً في أمره وفي تنظيم حياته وفي ترقية حاله وفي إصلاح معوجه كلما لوحظ فيه انحراف عن الصراط المستقيم. وإنا نرى أن التعاون في ذلك بين المدرسة والمنزل من المسائل الجوهرية التي تقس التلميذ شر الشطط والانحراف عن جادة الحق بما يفرض عليه من رقابة شديدة ساهرة تقدم له المساعدة التي يتطلبها، وتبذل لذويه الإرشاد اللازم لصون صحته وأخلاقه، وتشرف على تنظيم أوقات فراغه وسيره في سبيل التقدم المطرد والنجاح المضمون، فيسير نحو الرجولة المنشودة. وهو فوق ذلك أمر يلزم ذويه بالعناية به والاهتمام الدائم بأمره وملاحظته والسهر على تقويمه. وبالرغم مما يلقيه هذا الواجب الجديد الثقيل على المدرس من عبء ومجهود متعب فانه يخفف عن المدرسة كثيراً من أعبائها وإجراءاتها الصورية المتعبة غير المثمرة التي تقوم بها مثلاً في حالة تغيب التلميذ أو مرضه أو تأخره أو تأديبه الخ. .

وفوق هذا فأننا نعلم أن كثيراً من التلاميذ الذين يتعلمون بالمدارس الابتدائية والثانوية يضطرون بحكم بعد المدرسة عن منازلهم أن يقطنوا وحدهم في مساكن كثيراً ما تكون قذرة وغير لائقة لعدم وجود من يعني بأمرهم. وليس هناك من يشرف على أحوالهم المعيشية،

ص: 13

أو يرقب عن كثب أحوالهم الخلفية فيرشدهم إذا أخطئوا، ويردهم عن غيهم إذا حادوا عن الصراط المستقيم؛ وفي هذا إفساد لكثير من الشبان من الوجهتين الصحية والخلقية. وإن في وجود هذا المدرس المشرف لضماناً كبيراً يحول دون ذلك لأن في إمكانه أن يفحص أحوال تلاميذه خصوصاً منهم من لا يعيشون تحت رقابة أهليهم.

ويصح أن يجمع عدداً من المتقاربين في أحوالهم المالية والمعيشية فيساعدهم على سكنى منزل واحد وعلى إيجاد خادم يقوم بخدمتهم فينظم بذلك حالتهم المعيشية، ويشرف إشرافاُ تاماً على تكوينهم الخلقي. فلو أن المدرسة عنيت بهذا الأمر حق العناية وحققت هذه الرقابة الدائمة على تلاميذها لخدمت الأخلاق والفضيلة والقومية المصرية خدمة كبرى، ولأدى هذا العمل إلى رفع المستوى الخلقي والقومي إلى حد كبير، ينهض بمصر نهضة قوية، ويضعها في مصاف البلاد العظيمة. وللنجاح في ذلك شرط أساسي يتلخص في أن يعمل المدرسون هذا العمل الجليل عن طيب خاطر وأن يعتبروه خدمة وطنية عظيمة تقدرها البلاد قدرها. ولابد لهؤلاء المشرفين من أن يخفف عنهم عبء العمل المضني في نوح أخرى

ثم إن على المدرسة فوق ذلك أن تعني عناية تامة بالرياضة البدنية المصحوبة بأجراء تدريبات عسكرية نظامية مستمرة. وعليها أن تدرب أبناءها جميعاً على المخاطرات واقتحام العوائق وتذليل الصعاب كالفروسية وغيرها كالسباحة والتجديف وركوب الخيل وأنواع المهارة الرياضية. وعليها أن تشعر الطالب بأن الألعاب الرياضية والتدريب العسكري وأعمال الفروسية من ضروريات الحياة التي يجب على كل واحد أن يأخذها منها بقسط وليست زينة تبرزها المدرسة في حفلاتها الرياضية السنوية فحسب لتباهي بها أترابها ولتظهر بها على غيرها، فإذا انتهت أيامها ماتت الرياضة بالمدرسة حتى تبعثها بعد عام أو عامين فكرة إقامة حفلة أخرى كما هو واقع اليوم، فكل تلميذ يجب أن يقدم على الألعاب الرياضية ويمارسها كل يوم ممارسته لغيرها من الأعمال المدرسية الأخرى. والواجب أن تخصص المدرسة نصف ساعة على الأقل يومياً للتدريب والتمرين الشخصي وأن تكون صفاً عسكرياً نظامياً عاماً يومياً، ويجب أن يخصص للتدريب العسكري فوق ذلك جزء من العام في شهر يناير كأسبوعين أو ثلاثة بصفة خاصة.

ص: 14

وليس الغرض من ذلك تقوية الجسم واعتدال الصحة فحسب، بل هناك فوق ذلك غاية أخرى لا تقل أهمية عن هذه وهي تكوين الخلق القويم بتعويد الطالب مغالبة الصعاب والاحتمال والصبر وحب النظام واحترامه وإطاعته وحب التضامن والتعاون مع غيره من أترابه وإخوانه. وهذه كلها أمور تتطلبها الحياة الاجتماعية اليوم وتدعو إليها النهضة القومية. ويعقب ذلك مباشرة الاهتمام بمسائل الرحلات والإكثار منها فلا يصح أن ينقضي أسبوع من غير أن تقوم المدرسة برحلة رياضية في الهواء أو في الصحراء أو في النهر أو البحر أو في الحقول الخضراء اليانعة، حيث يدرس التلاميذ بطريق غير مباشر طرق المواصلات وطبيعة الجهة صحراوية أو إقليمية أو بحرية وما يجري فوق سطح البحر أو تحته مما ينتفع به الناس. هذا إلى الرحلات العلمية التي يجب أن يقوموا بها لدراسة طبيعة البيئة المحيطة بهم، وما يجري فيها من صناعات وتجارات وزراعات. فالواجب على المدرسة أن تجعل من نفسها قطعة من الحياة الاجتماعية العامة المحيطة بها، وعلى المدرسة كذلك أن توجه عنايتها إلى خلق المشروعات الاقتصادية والخيرية بين جدرانها. وإن في قيام التلاميذ بحركة مقصف داخلي بها حيث يقوم بعضهم بشراء مستلزماته ويبعها وإيجاد سجلات لذلك وتدوينها، كما أن في قيامهم بصنع بعض الأدوات المنزلية البسيطة من الخيزران والجلد والقش الخ وبيعها في أسواق خيرية يقيمونها - لعملاً نافعاً يستحق الاهتمام والتشجيع.

وناهيك بما يمكن أن يقوموا به فوق ذلك من أعمال البر والإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين مما يبعث في نفوسهم الشفقة والرحمة. وهو أمر نادر الوجود بالمدرسة المصرية اليوم بينما نجده عملاً ضرورياً في كل مدرسة أجنبية. وعلى الأخص في مدراس البنات إذ يغرسون في قلب البنت العواطف الكريمة: عواطف الرحمة بالضعيف والشفقة على المسكين، والبر بالعاجز واليتيم. وإن من وجب الواجبات إدخال هذا النظام سريعاً والعمل به لما يخلفه من جو كريم ملؤه العطف والحنان ولما يريبه في الصغار من حب البذل والجود في سبيل الخير. وكثيراً ما سمعنا عن مدارس أجنبية بين ظهرانينا تقوم بعمل الكسى وتوزيعها هي والحلوى في أيام الأعياد على الفقراء والمساكين. وإذا كانت المدرسة المصرية قد استحدثت في سنيها الأخيرة نظام توزيع الجوائز على المتفوقين علمياً من

ص: 15

أبنائها فجدير بها أن تخص المبرزين من تلاميذها في كرم الخلق والحدب على الضعيف والعطف على البائس المسكين.

وأن تخض أقوم التلاميذ أخلاقاُ وأكثرهم رجولة. جدير بها أن تخص هؤلاء أيضاً بالتشجيع وأن تمنحهم الجوائز والمنح تشجيعاً لذوي الأخلاق الفاضلة وتنبيهاً لغيرهم إلى ما تستحقه تلك الأخلاق من تكريم وتقدير. وليكن لنا في قرين الملكة فكتوريا أسوة حسنة. فلقد كان رجلاً طيب القلب، طاهر الفؤاد، يقدر الأخلاق الكريمة حق قدرها فكلن كلما قرر مكافأة سنوية لمعهد من المعاهد جعلها لأرقى الطلبة خلقاً، ولمن يؤمل فيه أن يكون رجلاُ كبير القلب طاهر الفؤاد عظيم الشمائل، ولم يكن يجعلها لأذكى الطلبة أو أنبههم أو أكثرهم مدارسة للكتب، أو أنبغهم في العلوم

ثم إن على المدرسة بعد هذا وذاك أن تحبب أبناءها في القراءة ومدارسة الكتب وتذوق ما في بطونها. وعليها أن تتخير لهم الكتب المناسبة لعقولهم فتكثر للأطفال من القصص الصغيرة المليئة بحوادث التضحية والبطولة وأبطال الرجال وقادتهم، وأن تضمنها ما كان لعظيم أخلاقهم من سر في بطولتهم. فلكم يحلو للطفل أن يحدثه أستاذه أو كتيبه عن بعض المواقف العظيمة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز. وكم يحلو له أن يقرأ شيئاً عن مصطفى كامل أو سعد زغلول، أو جان دارك، أو غاندي، أو غيرهم من الأبطال المليئة حياتهم بالنوادر والقصص اللطيفة التي تحفز الطفل إلى التقليد والنسيج على ذلك المنوال فيشب معجباً بأعمال البطولة النادرة ويتمنى في نفسه دائماً لو أتيح له أن يكون كواحد من هؤلاء الأبطال. ولا شك أن هذا يدفعه في شبابه بل طول حياته إلى الأعمال العظيمة، كما أنه يحول بينه وبين كل رذيلة أو عمل حقير. وفي المدرسة الثانوية يجب أن يكون في صلب جدولها درسان على الأقل أسبوعياً للمكتبة لكل طالب يكلف فيها بحث إشراف مدرسه بدراسة تاريخ حياة بطل من الأبطال ليكتب عنه ويحاضر فيه إخوانه ويسمر معهم متحدثاً عن سيرة بطله وأعماله ونوادره وأحواله. وفي بطون التاريخ كثير من الأبطال السياسيين وغير السياسيين من المستكشفين والمخترعين وجبابرة العقول والفلاسفة. ولا شك في أن متابعة سير هؤلاء ومدارسة أحوالهم من أشهى وألذ ما يخاطب به عقل فتى تستهويه البطولة والعبقرية، كما

ص: 16

أني لا أشك في أمنية كل شاب أن يصير بطلاً كأولئك الأبطال مما يحفزه في أن يسير سيرتهم وينهج نهجهم. بهذا العمل لا نكون قد حققنا غرضاً واحداً، بل عدة أغراض، إذ نعود الطالب الاعتماد على نفسه في البحث والدرس كما نعوده تذوق الفقراء والمطالعة واعتيادها، وحصر أوقات فراغه فيها، ونغرس فيه فوق ذلك حب البطولة وتقديرها والسعي المتواصل إليها. ويا حبذا لو عملت المدرسة من ناحية أخرى على تحبيب تلاميذها في الفنون الجميلة من موسيقى وتصوير وشعر، وذلك بأن يدرس المشرف صاحب سجل التلميذ ميول التلميذ منذ بدء اتصاله بالمدرسة واتجاهه، ثم يحاول أن يقوي فيه تلك الميول حتى يتجه به إلى أحد هذه الفنون فيسير في تعلمها لأنها لا تربي في الإنسان الذوق السليم فحسب، ولكنها تصرف الشاب عن الاتجاهات الفاسدة وتجعله يعرف كيف يقضي أوقات فراغه في هويته التي جذبته إليها من غير أن يتأثر بقرناء السوء أو يفكر في غير اللهو البريء لا اللهو الفاسد الذي يجر كثيراً من الشبان إلى الدمار والهلاك

إذا قامت المدرسة بكل ذلك، ولن تقوم به إلا إذا تخلصت من قيودها الحالية، فإنها تكون قد حققت الغرض الأسمى من وجودها لأنها أحاطت أبناءها بسياج متين من الأخلاق الفاضلة وأعدتهم إعداداً حسناً للكفاح الدائم، والنضال المستمر المنتج في الحياة، ذلكم الكفاح والنضال اللذين يكونان الرجال ذوي العقول المثقفة والضمائر الحية، والأخلاق الطاهرة القويمة، ما يكفل لهم النجاح في أعمالهم والنهوض بأمتهم. وليس للأمة عدة تتكئ عليها في هذا السبيل غير المعلمين الأكفاء الأمناء الذين يقدرون واجبهم تمام التقدير ويسهرون على أدائه خير أداء تعاونهم في ذلك الأمهات المثقفات العارفات بطرق تنشئة الأطفال على الفضيلة وقيادتهم قيادة صحية إلى الحياة الفاضلة السامية. ولن يتوج هذا النجاح إلا بسهر الحكومة سهراً فعالاً على حماية أبناء البلاد وعنايتها بناشئتها ومعونتها المنزل والمدرسة معاونة صادقة في سبيل الطهر والفضيلة وواجبها المحتوم في ذلك يقضي عليها بأن تسن تشريعاً خاصاً يحرم على الأطفال والشبان قبل سن محدودة ارتياد محال اللهو والمقاهي العامة ومحال القمار وغيرها مما يفسد الأخلاق ويقضي عليها إذا كانت لا تستطيع أن تقضي على المحال المفسدة وتحمي جمهور الشعب من مفاسدها. وواجبها المحتوم يقضي عليها أن تنشئ مراكز متعددة للألعاب الرياضية في مختلف جهات المملكة يلتحق بها

ص: 17

الشبان بعد انتهائهم من المدرسة فيقضون فيها أوقات فراغهم وتكون مكاناً لتسليتهم وسمرهم وتقوية أجسامهم بدلاً من تلك المقاهي العامة التي انتشرت في كل مكان وأقل ما يقال فيها أنها تعلم الكسل وتعود الإهمال وتباعد بين الرجل المتزوج وأولاده مما له أثر أسيء جداً في حياتنا الاجتماعية والمنزلية

وإني أسأل الله أن يوفق العاملين إلى استئصال تلك الآفات الاجتماعية حتى تصبح أمتنا خير أمة أخرجت للناس

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 18

‌الفن

للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

ما هو الغرض من الفن؟ لو قدر للحقيقة أن تصطدم بحواسنا وضميرنا، ولو كان في مكنتنا لأن نتصل اتصالاً مباشراً بالأشياء وبأنفسنا، إذن لكنت أعتقد بأن الفن شيء غير ضروري. أو بعبارة أوضح لكنا نصبح جميعاً فنانين، لأن أوتار نفوسنا ستهتز حتماً بالاتحاد مع الطبيعة؛ ولكانت عيونا تؤازرها ذواكرنا، تتقطع من الفضاء آيات من روائع الفن لنثبتها على صفحة الزمن؛ ولكان نظرنا يلتقط في طريقه أجزاء من التماثيل منحوتة في رخام الجسم البشري الحي لا تقل روعة عن التماثيل الأثرية القديمة؛ ولكنا نسمع نفحات حياتنا الباطنة تتردد في أعماق نفوسنا كأنها ألحان موسيقية، تارة مرحة وأطواراً مشجية، وفي الغالب غريبة غير مألوفة. كل ذلك يوجَد حولنا، كل ذلك يوجد فينا، ومع ذلك فإننا لا نميز بجلاء شيئاً من ذلك كله. إنه يوجد بين الطبيعة وبيننا، أو بالأحرى يوجد بيننا وبين ضميرنا الذاتي وشاح مسدول، وهذا الوشاح يراه العامة من الرجال كثيفاً ولكنه في نظر الفنان والشاعر خفيفاً حتى ليكاد يكون شفافاً عارياً. فأية حورية من الجن قد حاكت خيوطه الناعمة؟ وهل نسجته خبثاً ودهاء أو مودة وتحبباً؟ إن الحياة فرض واجب لابد منه. والحياة تحتم علينا أن نتناول من الأشياء التي تكتنفنا ما نحن في حاجة إليه في علاقاتنا بها.

إن الحياة موقوفة على العمل والمثابرة. والحياة هي ألا يقبل المرء من مؤثرات الأشياء المرئية إلا ما كان نافعاً ملائماً لطبيعته بحيث يتسنى له أن يجيب على اختلاجات هذه الأشياء برجعة متناسبة. وأما ما عداها من المؤثرات فيجب أن تضمحل وتتلاشى أو لا تصل إلينا إلا مضطربة مشوشة. . . إنني أنظر وأعتقد بأنني أرى، وأصغي وأعتقد بأنني أسمع، وأدرس نفسي وأعتقد بأنني أقرأ في أعماق فؤادي. بيد أن ما أراه وما أسمعه في العالم الخارجي ليس إلا ما تستخلصه حواسي لإنارة طريق عملي. إن ما أعرفه من نفسي ليس إلا ما يتجلى للنظر، أي ما يشترك في العمل. وإذن فان حواسي وضميري لا تكشف لي إلا عن ناحية موجزة من نواحي الحقيقة العملية. ففي الرؤيا التي تمثلها لي حواسي وضميري من الأشياء ومن نفسي، تتلاشى الفروق التي لا ينتفع منها الرجل، وتتضاعف

ص: 19

المشابهات التي يستفيد منها الرجل، وتتجلى أمامي السبل التي سيطرقها عملي وهي السبل التي سلكتها الإنسانية بأسرها وقطعتها من قبلي. إن الأشياء رتبت طبقاُ للفوائد التي يمكنني أن أستخلصها منها، وهذا الترتيب هو الذي أشاهده أكثر مما أشاهد لون الأشياء وشكلها. لاشك في أن الرجل أرفع مكانة وقدراً من الحيوان من تلك الناحية، وإنه لقليل الاحتمال أن تفرق عين الذئب بين الجدي والحمل؛ فكلاهما في نظر الذئب فريسة مستساغة، وكلاهما سهل المنال، وكلاهما صالح للالتهام. أما نحن فإننا نفرق بين العنزة والخروف، ولكن هل ترانا نميز بين عنزة وعنزة وبين خروف وخروف؟ إن فردية الأشياء والكائنات تغيب عنا كلما تبين لنا أن في جلائها نفعاً مادياً، بل في الأحوال التي نتبين فيها تلك الفردية (كما في الظروف التي نتبين فيها الفرق بين رجل ورجل آخر) فان أعيننا لا تلتقط تلك الفردية بالذات أي بعض التآلف الغريب الذي يوجد بين الأشكال كما يوجد بين الألوان، ولكنها تلتقط لمحة أو لمحتين تسهيلاً للتحقق العملي من وجود الشبه بينهما

ومجمل القول أننا لا نرى الأشياء في ذاتها وإنما تقتصر في أغلب الأحيان على قراءة ما هو مكتوب على البطاقات الملتصقة بها. وهذا الميل الناشئ عن الحاجة يزداد كذلك تحت تأثير الكلام والنطق، لأن الألفاظ (فيما عدا أسماء الأعلام) تعبر كلها عن الأنواع. إن الكلمة التي لا تعبر إلا عن ماهية الشيء المألوفة العادية ولا تدل إلا على مظهره المبتذل تنساب بين الشيء وبيننا فتحجبه عنا وتخفي شكله عن أعيننا إن لم يكن هذا الشكل قد توارى خلف الضروريات التي كانت السبب في خلق تلك الكلمة. ولا يقتصر الأمر على الأشياء الظاهرة وإنما يتعداه كذلك إلى حالاتنا النفسية التي تتواري عنا وتختفي وراء جوهرها الذاتي. عندما نشعر بالحب أو بالحقد، وعندما نشعر بالسرور أو بالكآبة، فهل شعورنا بالذات هو الذي يصل إلى ضميرنا بآلاف التموجات الشاردة وآلاف الأصداء العميقة التي تجعل منه شيئاً من خصائصنا الذاتية المطلقة؟ إذن لكنا نصبح كلنا روائيين، وكلنا شعراء، وكلنا موسيقيين. ولكننا في أغلب الأحيان، لا نرى من حالتنا النفسية إلا نبسطها الظاهر. إننا لا ندرك من مشاعرنا إلا مظهرها الغريب عنا، والذي حدد اللفظ معناه كلية لأنه يكاد يكون متشابهاً دائماً، وظروفه تكاد تكون واحدة عند جميع الرجال. وهكذا فان الفردية تغيب عنا حتى في شخصنا. إننا نتحرك في وسط محيط من الاعتبارات والرموز كأننا بداخل

ص: 20

دائرة محاطة بسياج تتبارى فيه قوتنا مع سواها من القوات؛ فإذا ما سحرنا العمل وجذبنا إلى المجال الذي اختاره، في سبيل مصلحتنا، أخذنا نعيش في منطقة متوسطة بين الأشياء وبيننا، خارجة عن الأشياء وخارجة عنا كذلك. بيد أن الطبيعة توجد، على سبيل اللهو، نفوساً أكثر انفصالاً عن الحياة. إنني لا أتكلم عن ذلك الانفصال المقصود الثابت بالبرهان والناتج عن التفكير والفلسفة، وإنما أتكلم عن انفصال طبيعي يعد غريزياً في تقويم الحس والضمير، ويتجلى في الحال بطريقة بريئة للنظر والسمع والتفكير. فإذا كان هذا الانفصال تاماً، وإذا كانت النفس تكف عن الاشتراك في العمل بواسطة حاسة من حواسها، أصبحت تلك النفس نفس فنان لم ير العالم مثلها منذ الأزل. وإنها لتسمو في جميع الفنون معاً، أو بمعنى أصح تصهر جميع الفنون في بوتقة لتخلق منها فناً واحداً؛ وننظر إلى الأشياء في سذاجتها وطُهره الأول. وكذلك تكون الحال في الأشكال والأوان وأصوات العالم المادي وأدق حركات الحياة الداخلية. بيد أننا لو فرضنا ذلك لكنا نحمل الطبيعة فوق طاقتها. ثم إذا نحن دققنا النظر في الذين اختارتهم الطبيعة من بيننا لتجعل منهم فنانين فإننا لا نلبث أن نتأكد من أنها لم تأت ذلك إلا عفواً عن غير عمد، وأنها لم ترفع الوشاح الذي يسترها إلا من جانب واحد، ونسيت أن تقيد الشعور بالحاجة في اتجاه واحد. ولما كان كل اتجاه يقابله ما نسميه حاسة، فان الفنان ينقطع عادة للفن بواسطة إحدى تلك الحواس وبتلك الحاسة فقط. من هنا نشأ تنوع الفنون. ومن هنا أيضاً نشأ تخصص الميول. فمن الناس من يتعلق بالألوان والأشكال؛ ونظراً لأنه يحب الألوان لمجرد الألوان، والأشكال لمجرد الأشكال؛ ويميز كلا منها لذاتها لا لذاته، فان الحياة الداخلية لتلك الأشياء هي التي تتجلى أمام النظارة خلال أشكالها وألوانها فيدخلها رويداً رويداً في إحساسنا المضطرب القلق من تلك المفاجأة. إنه ينزع عنا، ولو لفترة قصيرة، تلك القيود التي تربطنا بأوهام الشكل واللون التي ما فتئت تعترض أعيننا وتحول بينها وبين الحقيقة. وإنه ليستطيع بذلك تحقيق أكبر مطمع للفن وهو - بالنسبة لموضوعنا - إزاحة الستر الذي يخفي الطبيعة عنا. ومنهم من ينطوون على أنفسهم ويقفون جهودهم على البحث عن الشعور وعن حالة النفس على ما هي عليه من سذاجة وطهر، خلال آلاف الأعمال المتولدة التي تعبر عن الشعور، أو من الكلمة التافهة الاجتماعية التي تعبر عن حالة نفسية فردية وتستكملها. وإنهم - لكي

ص: 21

يستحثونا على محاولة مثل هذا المجهود في أنفسنا - يجتهدون في إطلاعنا على شيء مما وقعت عليه أعينهم وبعبارات منتظمة موزونة يقولون لنا - أو بالأحرى - يوحون إلينا بأشياء لم توضع الألفاظ للتعبير عنها. وسواهم يبالغون في تعمقهم ويمعنون فيه؛ فتراهم تحت ستار هذه الأفراح وتلك الأحزان التي يمكن التعبير عنها بالألفاظ، يتمسكون بأشياء لا علاقة لها ألبتة بالكلام، أو ببعض نغمات من نغمات الحياة والتنفس هي أعمق في صدور الرجال من أدق مشاعرهم لأنها تمثل الناموس الحي الذي يختلف باختلاف الأشخاص، ويعبر عن كبتها ووجدها، وعن حسراتها وآمالها. فإذا استخلصوا تلك النغمات وضاعفوها فانهم يفرضونها علينا ويلفتوننا إليها، ويعملون على الاندماج فيها عفواً وبغير ما دافع منا كما يندمج المتفرج في حلبة الرقص دون أن يشعر، ويحملوننا بذلك على أن نهز في خبيئة نفسنا أوتاراً متحفزة ترقب من يلمسها لتصدح وترتفع نغماتها

فسواء أكان الفن رسماً أو تصويراً أو شعراً أو موسيقى فلا غرض له إلا أن يُبعد الرموز النافعة والاصطلاحات المشروعة المسلم بها في المجتمع وكل ما يستر الحقيقة عنا ليقف بنا إزاء الحقيقة بالذات وجهاً لوجه. إن الجدل بين المذهب الوجودي والمذهب المثالي في الفن نشأ من نزاع على تلك النقطة. فلا شك في أن الفن ليس إلا مظهراً جلياً مباشراً للحقيقة، بيد أن هذا السمو في الإدراك يستلزم القطيعة مع العرف المصطلح، ونزاهة غريزية محصورة في الحس أو الضمير، كما يستلزم كذلك شيئاً من اللامادية في الحياة وهي ما اصطلحوا على تسميته دائماً بالمذهب المثالي، بحيث يمكن القول، بغير ما تورية أو مجاز، بأن المذهب الوجودي هو في العمل بالذات، بينما المذهب المثالي هو في النفس، وأنه لا يمكن العودة إلى تلمس الحقيقة إلا بقوة الخيالية دون سواها

هنري برجسون

ترجمة سليم سعدة

ص: 22

‌فن القراءة

للأديب نصري عطا الله سوس

القراءة فن له قواعد وأصول. ومهما جد القارئ واجتهد فلن يحصل على ثمرة مجهوده إلا إذ اتبع تلك القواعد والأصول اتباعاً دقيقاً. وكلامنا هذا لا ينصب على كل ما يقرأ، بل على الأدب وحده باعتباره أثمن وأرفع أنواع القراءة؛ ولا على كل من يقرأ، بل على من يعتبر الكتاب صديقاً ومرشداً ومعلماً، ومن تضطرم في قلبه جذوة الشوق إلى المعرفة وفهم الحياة والتمتع بها إلى أقصى حد ممكن واكتناه أسرارها

ينبع الأدب من قدس أقداس النفس، يضمنه الأديب زبدة حياته، وصفوة اختباراته، وما يضطرم في قلبه من آلام وآمال وما يصطرع في ذهنه من آراء عن حقيقة الحياة والموت والقدر واللذة والألم والطبيعة والخالق وغيرها من مشكلات الحياة التي لن تحل أبداً. والأديب هو ذلك الشخص الدقيق الإحساس الرقيق الشعور الذي يتأثر بكل عوامل الحياة أتم التأثير وأقواه، والذي منحته الطبيعة القدرة على التعبير عن آرائه واحساساته التي دفعت به إلى الكتابة. والكتاب الجيد من أثمن النعم التي تتيحها الحياة لمن حبته الذوق الفهم، لأنه خلاصة حياة عظيمة غنية واسعة الأفاق بعيدة الغور؛ وهو ينبوع عذب، فيه ري وفيه حياة لأثمن وأرفع ناحية من نواحي الطبيعة الإنسانية. فالكتاب الجيد يعمق ويهذب شعورنا ويوسع آفاق نفوسنا ويقوي قدرتنا على التفكير ويفتح أعيننا على أنواع من الجمال لم نكن نعرفها أو نحس بها. والإنسان مفهوم بحب الحياة، ودّ لو عاش أعماراً مضاعفة وتذوق كل ما تفيض به الحياة من لذات وآلام، ولكن العمر شحيح. ومن جهة أخرى فالحياة بخيلة لا تتيح أو تسمح لكل إنسان أن يقلب أبصاره بين آفاقها ويخوض بحارها باحثاً عن دررها. لم تتح الطبيعة هذا إلا لأشخاص معدودين جعلت كل واحد منهم أشبه بقيثارة تستنطقها كل أنغامها، وهم الأدباء والشعراء. وبقراءة ما خلف هؤلاء نشبع حب الحياة في نفوسنا. فالكتب تضيف أعماراً إلى أعمارنا، وهي سياحة في المكان والزمان. فالقارئ الجالس على كرسيه في غرفة ضيقة يطوف بذهنه في فجاج الأرض كلها، بل يرقى إلى السماء ويتملى أنوارها، ويرتد إلى الماضي السحيق يحدق في كهوفه وظلماته، ويتقدم إلى المستقبل البعيد يتملى بهاءه وجلاله. فإذا كان الأدب على هذه القيمة

ص: 23

والأهمية فكيف نقرأه؟

1 -

أول شروط القراءة هو حسن اختيار الكتاب، فالعمر لا يتسع لقراءة كل ما كتب في لغة واحدة - ناهيك بأدب أمتين أو ثلاث - ولا كل ما كتب يستحق القراءة. والملاحظ أن الأدباء - وهم أحسن من يجيدون القراءة - لا يعيرون أهمية كبيرة لما يكتب في عصرهم، بل يوجهون كل اهتمامهم إلى الكتب التي أثبت الزمن قوتها وحيويتها وقدرتها على البقاء. والزمن وحده هو الذي يحكم للكتاب أو عليه؛ والزمن وحده هو الذي حفظ لنا هوميروس وأفلاطون وشكسبير وإضرابهم، لأن أدبهم يشتمل على عناصر الحياة الجوهرية التي لا حياة بدونها. وكم من أديب عاش ومات في غمرة النسيان! وكم من أديب تألق ثم خبا! وكم من أديب يعيش على فضول الكتاب والقراء. علينا أن نهمل كل هؤلاء وأمثالهم وأن ننتخب ما نقرأ من بين أحسن ما كتب. هذا إذا أردنا أن نحيا حياة ذات قيمة.

2 -

العامل الثاني هو إجادة القراءة. فهناك قراء يوجهون كل همهم إلى الإحاطة وينسون الإجادة والعنصران قلما يجتمعان إلا في القليل النادر. وقراءة كتاب واحد قراءة تفهم وإمعان أجدى من قراءة عشرة كتب قراءة سطحية. إن الكتاب - كما قلنا - هو زبدة حياة المؤلف، والقارئ النابه لا يتجه إلى مجرد القراءة العابرة، بل إلى تكوين صلات وعلاقات مع المؤلف. فلنجعل نصب أعيننا صداقة المؤلف يجب أن نفهم الكاتب كما نفهم صديقاً: نحيط بظروف حياته: آماله وآلامه، أحلامه وهمومه، فكهاً أو وقوراً، متفائلاً أو متشائماً، وهكذا. . . والخلاصة أنه يجب أن نفتح قلوبنا ليصب الكاتب فيها دمه ونترك ذلك الدم يجري حاراً في عروقنا

3 -

العامل الثالث هو نظام القراءة، فكثير من القراء يتبعون في مطالعاتهم سبيلاً ملتوية: كتاب من الشرق وآخر من الغرب؛ كتاب حديث وآخر قديم؛ وهكذا دون ضابط ولا نظام. وهذا المسلك قلما يثمر بل الواجب أن نختار كاتباً معيناً ونقرأ كل ما كتب، لأن كتب الكاتب ما هي إلا جوانب متعددة لشخصية واحدة، ولا حق لنا أن نتحدث عن كاتب أو نصدر عنه حكماً إلا إذا درسنا أدبه دراسة وافية كاملة. ويجب أن نتبع في هذه الدراسة نظاماً خاصاً، فيجب أن ندرس كتبه حسب ترتيب كتابتها، فلا نتناول إنتاجه في أوان شيخوخته، ثم في أوان شبابه الأول، ثم في أوان نضجه، بل يجب أن نبدأه بقراءة باكورة

ص: 24

إنتاجه، ثم ما تبعه، ثم ثالث كتاب أخرجه، وهكذا. . . وبهذا فقط يتاح لنا أن نعرف تأثير الحياة والتجارب في تطور شخصية الكاتب: كيف شق لنفسه طريقاً إلى فلسفته؟ وكيف خلص إلى آرائه عن مشكلات الكون؟ هل ابتلته الحياة بالفتور واليأس؟ هل شك في عدالة الكون وعاف الحياة؟ أم هل انجلت عن ناظريه عمايات الصبا وغواياته ودعا إلى الحياة الفاضلة مؤمناً بالله مبرراً سلوكه مع الإنسان؟ هل بقي ساخراً لا يعرف لنفسه فلسفة ولا يخلص إلى عقيدة حتى ذهب في طريق من ذهب؟ وما أثر ظروف حياته من فقر وغنى وصحة ومرض في نفسه؟ هل تغلب عليها واحتفظ بنضارة قلبه وسلامة روحه؟ أم تركها تتسرب إلى أدبه وتكسبه لونها الخاص؟ هل تأثر بروح عصره وجارى سلفه ومعاصريه أم أثر هو في روح العصر ووجه الأدب في طرق جديدة وتناول بالنقد والتفنيد ما استهجنه ودعا إلى مثل جديدة؟ وما أسباب كل هذه المسائل ودواعيها. . .؟ هذه كلها موضوعات يهتم بها القارئ الحصيف، ولكن لا يمكنه أن يكون رأياً عادلاً عنها إلا إذا قرأ بنظام. بهذا فقط يتأتى لنا دراسة الحياة نفسها دراسة شاملة تفهمنا روحها وطبيعتها وفلسفتها. إن التفكير المجرد قلما يخلص بالمرء إلى نتائج سليمة، وعلماء النفس في الوقت الحاضر يدرسون مخلفات الأدباء بهذه الطريقة التي أسلفنا ويكونون نظرياتهم على هدى تلك الكتب، ذلك لأنها تنبع من صميم الحياة الواقعية، والحياة أعمق وأشمل من أن يحكم المرء عليها وليس وراءه إلا تجاربه؛ والفلسفة قلما تسعف الإنسان بعقيدة تغير حياته وتجملها، بل هي غالباً تبتليه بضروب الشك في قيمة الحياة والحيرة في معناها. ولكن الأدب وحده ينبع من أعماق الحياة ويصور ما نعانيه ونحسه من آلام وآمال، وهو الصورة الحقيقة الصادقة للحياة كما هي. بعكس الفلسفة فهي سياحات (فكرية) في عالم المجهول، وما من مذهب فلسفي إلا ومذهب آخر يناقضه، وكل له دعائمه وبراهينه؛ فلا عجب إذاً أن يترك علماء النفس كتب الفلسفة إلى الأدب يهتدون بهديه في تكوين نظرياتهم

4 -

العامل الرابع هو المقارنة: كيف يمكننا بعد ذلك أن نقدر الأديب تقديراً صادقاً ونصدر حكمنا له أو عليه؟ لا يمكننا أن نفعل ذلك إلا إذا درسنا معاصريه وتبيننا أين يتفق معهم وأين يختلف عنهم، لأن ظروف الحياة التي أثرت فيهم واحدة لأنهم أبناء عصر واحد، ولكنها أثرت فيهم تأثيراً مختلفاً، وسبب هذا الاختلاف هو تباين طبائعهم ومشاربهم،

ص: 25

وبالمقارنة والموازنة بين المعاصرين يتسنى لنا أن نميز الأديب الكبير من غيره. فدراسة معاصري شكسبير مثل بن جونسون ومارلو وبومنت وفلنشر، توضح لنا عظمته وجلاله. وإذا درسنا بوروبيدس وسوفوكلس ألقى كل منهما نوراً ساطعاً على شخصية الآخر. وكذلك إذا درسنا شارلس دكنز مع وليم ثاكري، وتنسون مع بروننج، والأخطل وجرير والفرزدق، وبشار وأبو نواس، وأبو تمام والبحتري، وهكذا. . .

5 -

بقي أن نشير إلى عنصر هام من أهم العناصر التي تمكن القارئ من الاستفادة التامة مما يقرأ وهو الصبر والتجاوب مع الكاتب. وكم من قارئ يترك الكتاب بعد قراءة صفحة أو اثنتين لأن الكاتب يختلف عنه ميولاً ومشرباً، وليس أخطر على القارئ من اقتصاره على قراءة ما يتفق ونظرته إلى الحياة. ومن ملاحظات الكاتب الألماني أميل لدفيج أن القراء في العصر الحاضر يطالعون الكثير من القصص لا لغاية إلا تبرير آثامهم وزلاتهم بحجة أن أبطال القصة سلكوا نفس المسلك، وهذا جبن وخور. والواقع أن الكتاب الذي يهاجم أفكارنا وعقائدنا يفيدنا أكثر من غيره. والمعركة بين الكتاب والقارئ ليست بأقل متعة أو جدوى من معركة شريفة بين شخصين إذ يجتهد كل في تبرير رأيه بإظهار براهينه وأدلته ويحاول إفحام خصمه بتفنيد مستنداته، وفي ذلك ما فيه من إذكاء الفكر وشحذ الذهن ومعاودة النظر في الآراء والأفكار والمعتقدات وتبديلها أو تعديلها على هدى نتيجة المعركة. فلم لا نسلك المسلك نفسه مع الكتب؟ ولعل هذا يجدي مع الكتب أكثر مما يجدي مع الأشخاص، لأن النفس الإنسانية مزيج من الخير والشر، وقد يعمد الإنسان إلى هزيمة خصمه بأي ثمن - حتى التضحية بالحق - مدفوعاُ بالأثرة وحب النصر والفخر، ولكنه لا يسلك هذا السبيل مع الكتب خصوصاً إذا كان أصحابها قد ماتوا من زمن

يقول الفيلسوف الإنكليزي (باكون):

(لا تقرأ كي تناقض أو تفند، ولا كي تؤمن وتسلم جزافاً، ولا كي تجد موضوعاً للحديث والمناقشة، بل كي تتبصر وتتأمل)

والتأمل ضرب من الصلاة. . . والصلاة جنة الروح!

نصري عطا الله سوس

ص: 26

‌الأحلام

هل في حقائق الحياة الثابتة ما يفوق الحقيقة التي تؤكد لنا أن الأحلام تصح؟!

إن هذا العالم المدهش العجيب الذي يتجدد كل يوم أمام أنظارنا الحائرة؛ بل إن هذا العالم المفعم بالروائع والآيات الفائقة حد التصديق في الأمس القريب، يجيش بربوات الأحلام التي لا تلبث أن تتحقق اليوم، ويتوج تحققها هامة التفكير الطويل، والانتظار المنقب المستطلع، والكفاح الوجيع الصبور، والفشل الذي يعقب الفشل، ثم الفوز بين المبين أخيراً!

وما من معجزة تحيط بنا - فان الطائرات وآلات الصور المتحركة وأجهزة المجهر (المكرفون) والأسلاك البرقية واللاسلكية والقطارات والسفن - قد كانت في أحد الأيام حلماً تحركت به بعض الخواطر، وهمس في طائفة من الضمائر الإنسانية

ولقد كان العالم يهزأ بالحالم ويسخر ويشك في أمره أعواماً مديدة؛ إلا أن الحالم لابد أن يبوء بالفوز

وقلّ مَن جدّ في أمر يطالبه

واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

وقد يرى الحالم أن الناس سينظرون من خلال الحجر، أو يتكلمون عبر البحر، أو يحلقون فوق السحاب، أو يبصرون شيئاً على بعد عشرة آلاف ميل، فيتم ذلك جميعه. وقد يحلم أنه يتناول قطعة من الرخام ويصوغها في قالب يأسر الألباب على مر الأحقاب، أو أنه برسم صورة سيدة ذات ابتسامة رصينة مفكرة ويجعل الناس يتأملون هذا الابتسام بخشوع لا يبليه تقادم العهد وكر الأزمان

وقد يحلم أنه يكتب شيئاً يستنزف الدموع من مآقي الذين لم يولدوا بعد؛ أو أنه يؤلف قطعة من الموسيقى تدوي في أروقة الدهور. . . فيتم له ذلك كله. . .

إن المجاهد في سبيل فكرة عظيمة أو مقصد نبيل؛ والمخترع الذي يكد في معتمله والعالم الأديب الذي يستخرج ودائع الغيوب ويحل دقائق الأشكال ويزيل معترض الأشكال؛ والشعب الذي يكافح لنيل الحرية؛ إن كلا من هؤلاء لا يحلم عبثاً، كما أن الجنس البشري الذي يحن إلى الأصلح والأبقى، ويتوق في قرارة النفس الإنساني إلى حياة وادعة تفيض بالأمن والسعادة لا يحلم سدى، لأن الأحلام تصح وتتحقق

ترجمة: (الزهرة)

ص: 27

‌ولي الدين يكن

للأستاذ كامل يوسف

اطلعت على مقال الأستاذ كرم ملحم كرم عن المرحوم ولي الدين بك يكن. وبما أنني اتصلت بأسرة الشاعرة اتصالاً كلياً أثناء إقامتي بحلوان فاسمحوا لي أن أصلح ما قيل من أنه مات مسلولاً. والحقيقة أنه كما ذكر الكاتب كان يشكو الربو، وكان يلجأ إلى تخفيف وطأته عليه بحقن المورفين، وقد أدمن على تعاطيه حتى ضعفت صحته فمات من الانفزيما، وورث ابنه الشاعر الكبير فولاد يكن هذا الداء وأدمن عليه حتى قضي على صيته الأدبي الذي كان يبشر بمستقبل باهر

كان المرحوم ولي الدين بك يكن ثائراً على القديم في كل شيء، وكتاباته التي كان ينشرها في المقطم تحت اسم (زهير) وجمعت فيما بعد في مجلدين شاهد على ذلك. وتجديده في الشعر والنثر لا ينكره أحد. وله مؤلفات عدة كلها تدور كفاحه في سبيل الحرية ومناهضته الظلم. وكان أبي النفس فكان يرفض أن يبيع ضميره؛ وطالما حاول أصحاب النفوذ إغراءه بالمناصب العالية والخير الوفير نظير إيقاف حملاته عليهم، ولكنه أبى أن يبيع ضميره ورضي بحية البؤس، ولا يصدق إنسان أن أثاث منزل ولي الدين بك يكن كان كأحقر منزل رجل عادي وهو سليل أصهار العظماء، وذلك كله في سبيل تحقيق غايته من نصرة الحرية والمظلوم ومحاربة القوة الغاشمة

ولولي الدين يكن مؤلفات كثيرة طبعت، ونشرت وله مؤلفات لم تنشر، وقد جمعت السيدة زوجته (وهي أرمنية) بعض أشعاره ونشرتها على أمل أن تحصل منها على شيء يقوم بحاجة الأسرة الفقيرة، ومن مؤلفاته رواية تمثيلية تدور وقائعها في تركيا على تحرر تركيا الحديثة وإعلان الدستور وعن الدسائس والمظالم في عهد السلاطين، وهي الأشياء التي خبرها ولي الدين بك بنفسه وأجاد الكتابة فيها. وكنت اتفقت مع أسرة الشاعر على تنقيحها لتمثيلها على المسارح المصرية لولا ما حاق بالأسرة من نكبات، منها خيبة كريمته الوحيدة (وكانت تسمى فكتوريا أحياناً وزينب في أحيان أخرى) في زواجها على الدوام، ومنها النكبة التي حلت بابنه الشاعر فولاد إذ انحدر إلى هوة إدمان المخدرات

وكان مما لاشك فيه أن ولي الدين بك يكن سيخلد ذكره في شخص ابنه فولاد يكن، وهو من

ص: 29

الشعراء المصرين الأفذاذ الذين كتبوا بالفرنسية، وقد أعجبت بنبوغه الكونتس فالنتين دي سان بوا حفيدة لامارتين (وهي من كبيرات الكاتبات والشاعرات بفرنسا) فاحتضنته، وقدمته لدور النشر في باريس فنشروا له ديوانه البديع (أغاريد شاب شرقي) وهو ديوان شعر يفيض بالعاطفة والجلال والجمال، تقرأه فتجد فيه روح أهازيج شكسبير، وقد نقده كبار الكتاب في فرنسا وأعجبوا به، وقال عنه الكاتب الفرنسي المشهور (بول ريبو) إنه يفيض بالروح البيرونية نسبة إلى بيرون، ونعتَ الشاعر بأنه همزة الوصل بين مصر وفرنسا. وكان فولاد قوة هائلة في العمل الأدبي، فقد كتب تاريخ (سعد زغلول أب الشعب) في أسبوع ونشر في فرنسا. وله ديوان كبير أسمه (أغنية الأرض) وهو ملحمة كبيرة مكونة من عشرين ألف بيت عن الحياة وتطوراتها وتاريخ البشرية حتى اليوم. وقد أرسل هذا الديوان لفرنسا لنشره، ولكن منع ظهوره تخلى الكونتس دي سان بواعنه لما ساء صيته الأدبي من إدمانه على المخدرات وتركه الأدب والالتجاء إلى النسول مما أحزن قلوب جميع من لمسوا في هذا الشاب النبوغ المبكر

ومن الظريف أن يقارن الإنسان بين الشاعر الوالد والشاعر الابن، فقد نظم ولي الدين بك قصيدة عن كليوبترا، كما نظم ابنه فولاد قصيدة عنها في ديوانه (أغاريد شاب شرقي) ولا أنكر أنني أعجبتُ بخيال صديقي فولاد ومعانيه وحسن أسلوبه، ويمكنني أن أقول إن الولد بز أباه في هذا المضمار

وقد اشتغل فولاد في الصحف الفرنسية مدة طويلة، ولكنه أعلن عليها الحرب وناهض أصحابها في اعتقاداتهم الفكرية، وكانت نتيجة ذلك أن منع من التحرير في الصحف الفرنسية، وأنشأ له جريدة أسبوعية لم تعمر طويلاً. وكان له قدرة هائلة في الأدب. وكان يترجم شعر العقاد وشوقي شعراً بكل سهولة؛ وكان إذا نظم لا يترك مكانه قبل أن يكتب نحو مائتي بيت، ولكن الداء قضي على كل هذه المواهب. عزى الله الأدب عنه وعوضنا منه خيرا

كامل يوسف

عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني

ص: 30

‌من روائع أدب الغرب

الإنسان

'

لشاعر الحب والجمال لامرتين

للأديب حسين تفكجى

- 1 -

(أرسل إليك يا صاحبة السمو، قبل أن أضع رأسي على الوسادة، الكتاب الصغير الذي تفضلت بإعارتي إياه البارحة، ويكفيك أن تعرفي أنني لم أنم وبقيت ساهراً، حتى لاحت تباشير الصباح، وخرجت طيور الفجر من أعشاشها، لأتمم قراءته ولأطلع على ما احتواه بين جلدتيه، من روائع المعاني، وجميل القول. سوف لا أتنبأ لك بشدة تأثيره في أذواق الجمهور من القراء إذ يكفي أن أجعل من نفسي ذلك الشعب الذي سيطلع على هذا الكتاب لأقول: إن هناك رجلاً، وسيشغل الكثير من صفحاتنا)

(من كتاب تاليران إلى الأميرة تالمون)

- 2 -

(وعقب مدة قليلة أثار هذا الكتاب فضول الطبقات الراقية في الروسية. فان النبيلات تجادلن وتسابقن لاقتناء نسخة منه؛ فالتي خانها الحظ ولم تحظ باقتناء هذه النسخة، كانت تكتب في دفترها مقاطع من أجمل الأشعار التي قالها لامرتين، وتجبر نفسها على حفظ أشياء منها. فالسعيد من اقتنى كتاباً من (التأملات) إذ كان يحرص عليه كمن يحرص على مفتاح النجاح وطريق السعادة

(من مذكرات أتون شي)

- 3 -

يا لجريمة لامرتين الفظيعة! فهو سبب نصف جنوننا، فنساؤنا يردن أن يكن أمثال إلفير

ص: 32

(فكم أصابنا البرد وألزمنا الفراش أياماً طويلة، لأننا أردنا أن نتمثل شعره، فسرنا على شاطئ البحيرة الزرقاء، نتأمل جمال القمر في السماء، وبدائع أمواج الماء، وروائع الطبيعة على الغبراء، في الليالي الباردة التي كانت تحمل إلينا معها نسيم الليالي الغابرة التي قطعها لامرتين، بينا عوامل الأمراض تنازعنا قوانا وتسلط على أجسامنا)

(إن لامرتين واللورد بيرون، أدارا رؤوس نساء الجيل الحاضر، ولفتا أنظارهن إلي عظمة الوجود والحب)

(الكونتس داش)

- 4 -

أيها الشاعر الباكي، أيها الناظم الشاكي، أيها المؤلف الغائب عن عيني، إنك رمز الجبن والخوف

(فما أشبهك بورقة خريف جففت يد القدر خضرتها، وجردتها من رائع نضرتها، تناقلها نسمات النهار الباردة بين وديان غير معروف مداها، وجبال غير مفهوم منتهاها، تحط دون أن تعرف أين، وترقب النسيم ليرفعها من مكانها إلى حيث لا تعرف إلى أين!

ماذا يحوي شعرك من جمال؟

ما الذي يضم بين أبياته من نضرة؟

لا شيء!

ما معنى الشاعر المحتضر؟

قصيدة يأس من الحياة وخوف من النضال من أجل الوجود. أيها الحيوان الباغم، لست أول نائح على أريكة خضراء، فقد سبقك كثيرون، ولكنك كنت موفقاً في التعبير عما تكنه جوارحك

(موريس ألبر)

آراء متناقضة، سطرتها أقلام كتاب متباينين، لتقدير مزايا ومساوئ شاعر، فمنهم من تأمل في قطعة الخلود، وعرف في شعره معنى الحياة، وفهم بين أبياته مفهوم الحقيقة؛ ومنهم من حمل على هذا الشاعر الباكي الذي لا يرى فجر الحياة إلا من وراء منظار أسود، ولا يتأمل

ص: 33

وجه البسيطة إلا بالنشيج والبكاء. فكل ما يقع تحت عينيه يرمز إلى ذلك الحب الذي قضي وحل اليأس مكانه في سويداء الفؤاد

نحن لم نأت بهذه الآراء لنوازن بينها، ولنميز بين حسنها وقبيحها، بل أتينا بها لأنها تعبر عن موجة الأفكار التي اجتاحت عصره، وعن الأثر الذي أحدثه كتابه الصغير (التأملات) الذي أصدره الشاعر، فترجم قطعة من شعره سماها (الإنسان) وأهداها إلى اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي الذي قتل في حرب استقلال اليونان، والذي كان لامرتين معجباً بشعره، مأخوذاً بروعة ألفاظه إذ قال اللورد بيرون في نظري هو أكبر شاعر عرف الطبيعة في زمننا الحاضر. إن من شعره ما يسرني، وإن من بيانه ما يسحرني، إذ وجدت في أقواله خيوط أمل تربط أصواتاً تجيش في صدري، وتفور في سويدائي)

ولكن بالرغم من أن تفاؤل لامرتين يقابله شك بيرون، فان الشاعر لم يجد مانعاُ من أن يرسل هديته إلى نقيضه في أقواله لأنه أراد أن يجره إلى أفكار أقل شيطانية من أفكاره الأولى

فهل أصاب أو أخطأ؟ لا نعرف! بل نحكم عليه بعد قراءة الشعر الذي أرسله إلى الشاعر الشاك

الإنسان

- 1 -

أنت الذي يجهل العالم أسمك الحقيقي، أيها الروح الخفي الشاك. مهما كنت يا بيرون شيطاناً أو ملاكاً، عبقرية ميمونة أو مشؤومة، فإن أغانيك تصوب إلى نفسي بريق الأمل، وتحمل إلى روحي دعة الحمل

أعشق في أشعارك الخالدة أنغامها الغريبة كما أعشق ضوضاء العاصفة المحتدمة، الذي يمتزج بهدير الصاعقة ويعلوا مع أصوات الشلالات المنحدرة

إلى الليل تأوي، وإلى الرعب تلجأ

ما أشبهك بجبار الفضاء، وملك الصحاري! بالنسر الذي يكره السهول ولا يهوي سوى الصخور الوعرة، التي ألبستها يد الشتاء ثوبها الناصع، والتي تفتت تحت ضربات

ص: 34

الصواعق المتوالية. يجد لذته على شواطئ غطيت بحطام البواخر الغارقة، وملئت بأشلاء السفن المحطمة. ويذهب عنه حزنه مرأى الحقول المخضبة بدماء المعكرة. بينها البلبل الغريد، ينشد أسقامه، ويغني آلامه، وهو يبني عشه على شواطئ السواقي الجاريات، بين الحقول الزاهرات

يجد النسر لذته فوق قم الأنوس، التي تخترقها الذرى الحادة كأسنة الرماح، فيشق فضاءها بجناحيه، تاركاً ظله يرتسم فوق الهوات الفاغرة فاها. وهناك وحيداً يصيخ لصيحات الفريسة المتعالية التي تحيط به أعضاؤها المختلجة، فوق صخور تقطر زواياها دماُ. وعندما تحتدم رياح العاصفة ينام مسروراً فوق بقاياها

- 2 -

ما أشبهك بنسر السماء هذا يا بيرون!

فن أصوات اليأس أجمل أغانيك

الألم هدفك، والرجل ضحيتك

سبرت بعينك كالشيطان غور الهوة طياتها نفسك، غمرتْ بعيداً عن الإله والأضواء، بعد أن ودعت أملاً راحلاً. فأنت مثله اليوم تسيطر على الأرجاء المظلمة، والأصقاع المعتمة. فاجعل عبقريتك التي لا تقهر تعلو بلحن جهنمي، وتنشد أنشودة الظفر تحت ظلال عرش إله الشر

- 3 -

ولكن أية فائدة تجنى من نضال النهاية المحتمة؟

بأي شيء يدفع العقل العنيد القدر؟

ليس له كالعين، إلا أفق محدود!

فلا تسدد جميل أنظارك إلى أبعد من هذا المدى، ولا تقدح زناد فكرك دون نفع وسدى، فنجد كل شيء منا يفر. الكل ينطفئ كالشمع. الكل يمحى من الوجود. ولكن كيف ولم؟ من يعرف؟ فان يديه القادرتين قبضتا على الوجود والبشرية، ونشرتا في حقولنا الغبار، وجعلتا الأهواء والظلام والأنوار. فهو يعرف ما يعمل. وهذا يكفي فالكون تحت إمرته ويده، وليس

ص: 35

لنا سوى اليوم الذي نعيش فيه

إن جريمتنا هي أننا بشر، فينا فضول المعرفة.

ولكن الجهل والخضوع هما قانونا هذا الوجود.

بيرون! إن هذه الكلمات قاسية عليك.

ولكن لم التراجع أمام الحقيقة؟

إن شرفك أمام الإله هو أنك صوغ يديه، فاشعر واخضع في سجنك المقدس

أنت ذرة محمولة، تموج في هذا النظام العالمي، فتمم إرادته بطاعتك، لأنك مخلوق بارادته، وحياتك تمجد هذا الوجود الذي تموت فيه، حيث مصيرك.

أواه بعيداً عن الاتهام. قبل ذلك الرسف الذي تحاول تحطيمه، واهبط من صفوف الآلهة التي تذهب جرأتك، فالكل جيد، والكل جميل، والكل عظيم في مكانه. ففي ناظر خالق الوجود نحوي الحشرة عالماً بنفسها

- 4 -

ولكنك تقول إن هذا القانون يثير عداءك، ولا يعدو في نظرك عن هوى غريب، وشرك نصب ليكبو العقل في كل خطوة يخطوها.

لنعترف بذلك يا بيرون دون أن نحاكمه.

ما أشبهني بك. فعقلي انغمر في الظلمات، ولكن ليس علي أن أشرح لك حقيقة العالم، فالذي أبدع الوجود يلقنك الدرس الوافي.

كنت كلما سبرت عمق الهوة ضعت في فيافيها.

وفي هذه الدنيا لم أر سوى الألم يرتبط بالألم، والنهار يتبع سير النهار، والشقاء يلازم ظل الشقاء، والإنسان السخيف بطبيعته، اللامتناهي بنذوره، إله زل من عليائه، يفكر في سمائه.

حرم مجده القديم، فاحتفظ من مقدراته الضائعة بالذكرى

وغور ميوله السحيق يتنبأ عن عظمته المقبلة.

إذا علا أو سفل، فالإنسان سر عميق.

مقيد في سجن الحواس، على هذه الأرض. أسير يشعر بان له قلباً ولد يتنشق نسيم الحرية.

فياله تعساً يتعلل بالأماني.

ص: 36

ويريد سبر غور العالم، بناظريه الضعيفين

ويود أن يعشق دائماً لولا أن ما يحب سريع الفناء.

كل فان يشبه طريد جنة دعن، عندما طرده الإله من الجنة السماوية، فلمح بنظره الحدود المشؤومة التي تحيط به، فجلس باكياً على الأبواب المغلقة دونه. سمع من بعيد، من المسكن الإلهي زفرة الحب الخالدة، ونغمات السعادة، وأغاني الملائكة المقدسة، تصل إلى أحضان الإله لتمجد فضائله، فهبط من السماء، ثم أطلق نظراته من عنانها، فوقعت على مصيره المؤلم. . .

- 5 -

يا لبؤس من يسمع أناشيد عالم يهواه وهو ناء في منفى الحياة السحيق!

يرى الطبيعة تناضل خمر الخلود التي ارتشفها

يتأرجح كالحلم، عندما يرى الحقيقة ضيقة في مكانها، والمستحيل واسعاً في فضائه، والروح مثقلاً بالميول لا يجد مأوى يغرف منه حباً وعلوماً أبداً. والرجل في محيط الجبال والنور، ظمآن، لا يروي غله، فيكسر بالأحلام، كي تعذب رقدته، ويعود إلى نفسه إذا ما فاجأته يقظته

- 6 -

وا أسفاه! ما كانت أخرتك؟ وما هي مقدراتي؟

فقد شربت مثلك، كأس الشك مترعة

وعيناي كعينيك، فتحتا الأجفان دون أن تنظرا!

فعبثاً فتشت عن كلمة الوجود. طلبت أسبابه من الطبيعة. سألت أخرته من كل مخلوق. واستفهمت من القلم حتى ألم. فرجع طرفي كليلاً، ونظري حسيراً، قبل رؤية قرار هوة العالم

كشفت غطاء الأزمان التي هرعت، وأرجعت الأجيال التي مرت، ماراُ بالبحار، مردداً أقوال الفلاسفة، ولكن العالم بقى أمامي، كما هو أمام علماء اللاهوت (كتاباً مغلقاً)

ولأتبين كنه الطبيعة كنت أفر بروحي إلى أحضانها

ص: 37

وخيل إلي أني أجد معنى لهه اللغة الغامضة، فدرست القوانين التي تدور حبها، أجرام السموات، فان نيوتن يعتمد عيني في سهولها المنيرة. تأملت بقايا رفات العواهل، ورأيت رومة متدثرة في ظلمات قبورها المقدسة، والقديسين وقد أقضت مضاجعهم. وزنت بيدي رفات الأبطال، وطلبت منه معنى الخلود الذي يأمله كل البشر، ولكن لم أجد في هذا الغبار الفاني معنى الخلود

ماذا أقول؟

لازمت سرير الموتى، لتفتش نظراتي عن معناه في العيون المحتضرة

وعلى هذه الذرى التي توجتها الثلوج مدى الدهر

وفوق هذه الأمواج التي خططتها عواصف الرياح

ناديت دون مجيب

اقتحمت عثار الأحجار وظننت كالعرافة أن الطبيعة بمشاهدها النادرة سترمي إلينا بإحدى عجائبها، فأحببت أن أغمر نفسي في هذه الرغبات الصامتة التي تتوالى

ولكني، في سكوتي وهياجي، فتشت عبثاً عن كنه هذا السر العظيم، فرأيت في كل مكان إلهاً لا أفقهه. رأيت الشر أثر الخير دون خبرة، ودون هدف يسيران كالصدفة، رأيت في كل مكان الشر يختار، فجدفت بحق السماء دون معرفة، فرن صوتي ولاحق السماء كالصدى المدوي، ولكنه لم يرهب القدر، ولم يغضب المصير

(البقية في العدد القادم)

حسين تفكجي

ص: 38

‌مقدمة المنهج الجديد

لتدريس الدين في مدارس الشام

للأستاذ الشيخ بهجة البيطار

(في مصر اليوم ميل قوى إلى الاقتراب من سائر البلدان العربية، وتوحيد برامج التعليم فيها جميعاً. كما أن في مصر نهضة إسلامية قوية، امتدت إلى ديار الشام فحفزت وزير معارفها الجليل إلى إجابة طلب الأمة وتلبية نداء مؤتمر العلماء، فزاد ساعات الدروس الدينية في الدارس الابتدائية والثانوية، وأصلح مناهجها، وهذه هي المقدمة التي كتبها عالم الشام (كما كان يسميه الإمام السيد رشيد رضا) الأستاذ الشيخ بهجة البيطار بتكليف من الوزارة لمنهج الدين في المدارس الثانوية، اقترحت عليه نشرها في الرسالة لأن فيها دليلاً على حركة فكرية جديدة في بلاد الشام ومن مبدأ الرسالة تسجيل الحركات الفكرية ولأن فيها عوناً على ما نريد من توجيه برامج التعليم في الأقطار العربية، ولأنها بعد هذا كله فصل علمي قيم)

علي الطنطاوي

الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والقرآن هو الذي هدَىَ من دانوا به من الأمم إلى جميع ما تمتعوا به من صنوف النعم، وهو الذي أظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة، التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم المعاصرة. وبناءً على هذا الأساس، توجه أنظار الأساتذة الكرام وأفكارهم إلى ما يأتي: -

1 -

بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مصالح الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب الأخلاق والعبادات، عُنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدَّها الإسلام من الفروض، وأوجبها على الأمة إيجاباً لا هوادة فيه. قال تعالى:(قل انظروا ماذا في السموات والأرض) وهذا النظر علمي عملي ينتج أفضل النتائج والثمار، وقال:(وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) وهذا التسخير تسخير تمكين وانتفاع، واكتشاف واختراع، وقال:(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وهذا خطاب عام لهذه الأمة يدعوهم ويوجه نظرهم إلى ما خلق تعالى في

ص: 39

جوف هذه الأرض من الكنوز والمعادن، ويرشدهم إلى الاستفادة منها، ويثبت أن جميع ما استحدثته أمم الغرب في هذا العصر من القُوى البرية والبحرية والجوية، ومن قوى الكهرباء، وسائر ما ظهر في الوجود من المخترعات والمكتشفات، هو ما أرشد إليه الإسلام، فردُّه ردّ لنصوص القرآن، وتعطيل لأحكامه، وتجريد لهذه الأمة من كل ما يعزز قوتها وينمي ثروتها ويحمي حوزتها ويدفع عوادي الشر عنها. وأي جناية على الإسلام وأهله أشد من هذه الجناية؟

2 -

بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته، لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وأن مثل هذه الآيات الكريمة السابقة هي التي أرشدت سلفنا الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر، فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الآلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به الأرض، وساسوا به العالم سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة، ثم بيان أن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة وما فيها من فوضى الآداب والاجتماع، لا يزول إلا باتباع هداية الدين

3 -

تطبيق ما في القرآن الحكيم من المواعظ والعبر، على حال أهل هذا العصر والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وحجة القرآن الكريم عليهم

وهذا كله من موضوع علم التفسير: تذكر هذه الآيات الكريمة بمناسباتها وتفسر بالظاهر المتبادر منها، بأسلوب ينطبق على أذواق الطلاب وإفهامهم ويحملهم على العمل بها في أنفسهم وفي أمتهم

4 -

مما يجب بيانه في دروس التوحيد قولُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية) وهنا يبين أن العرب كانوا في جاهليتهم مؤمنين بوجود الله تعالى، موحدين له في أفعاله من خلق ورزق وإحياء وأمانة، وتصريف لجميع الأمور. وهذا هو المسمي (توحيد الربوبية) ويستشهد لذلك بالآيات الكريمة كقوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولُن الله) وكقوله:(قل من يرزقكم من السماء والأرض. . . الآية) وكقوله: (قل لمن

ص: 40

الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. . . الآيات)

وإنما كان شركهم في توحيد الألوهية، أي في توحيد العبادة، وهو أنهم لم يقصروا عباداتهم بأنواعها على مستحقها وهو الله وحده كالدعاء والخوف والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والذبح والنذر ليقربوهم إلى الله على عزمهم، قال تعالى:(ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. . . الآية) وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. . . الآية) فردّ الله عليهم هذا الزعم الباطل بهذه الآيات نفسها، وبالآيات السابقة في توحيد الربوبية (ولئن سألتهم)(قل من يرزقكم) وأقام عليهم الحجة بما أقروه من انفراده تعالى بأفعال الربوبية، على ما أنكروه من وجوب إفراده تعالى بالعبادة

ومن صنيعهم أنهم كانوا في الشدائد يخلصون لله في الدعاء كما قصّ علينا من شأنهم بقوله: (فإذا ركبوا في الفلك دَعَوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)

5 -

من المهم بيان أن الخوف نوعان: خوف عادة كالخوف من عدوّ أو سبع مثلاً، وهذا خوف طبيعي لا محذور فيه، وخوف عبادة، كالخوف من تصرف غائب أو ميت، بعباد الله، كتصرف الله بمخلوقاته، وهذا فيه كل المحذور لأنه يتضمن اعتقاد أن لبعض المخلوقات قدرة على التصرف بأنفس الأحياء وأموالهم، كقدرة الله تعالى، وهذا يخالف الحس والواقع، ويناقض عقيدة التوحيد بأفعال الله تعالى. وهكذا سائر الصفات منها طبيعي ومنها غير طبيعي؛ فمن الطبيعي مثلاً خوف موسى عليه السلام من عصاه لما انقلبت حيّة (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) ومن غير الطبيعي حب بعض المخلوقات حب عبادة، كما يحب المؤمن ربه، قال تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله) أو خشيتُه كما يخش المؤمن ربه، ومن شواهده قوله تعالى (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) ومن الأول أيضاً (أي الطبيعي):(أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ومن الثاني (أي دعاء العبادة): (وان المساجد لله، فلا تدعو مع الله أحداً) وهكذا الاستعانة والاستغاثة، منها ما هو عادي طبيعي كاستعانة الناس بعضهم ببعض فيما يقدرون عليه، ومنه قوله تعالى:(فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه)، فهذا داخل في دائرة الأسباب والمسببات، ومنها ما هو فوق

ص: 41

قدرة البشر، كشفاء المرضى في الدنيا وإدخال الجنة في الآخرة، فهو خاص بمن هو على كل شيء قدير؛ ومنه قوله تعالى:(إياك نعبد وإياك نستعين)؛ فيجب التمييز بين الأمور الكسبية والأمور الغيبية. فالأولى يمكن طلبها بأسبابها ومن القادرين عليها، والثانية عبادة، وهي لا تكون إلا لله وحده، فيُلجأ إليه في طلبها ويُتوكل عليه في تحصيلها. وليُنتبه لهذا الفرق فانه عظيم

6 -

بيان أن عرب الجاهلية كانوا أربع فرق: فرقة كانت تدعو الجن، والثانية الملائكة، والثالثة تعبد الرسل والصالحين، والرابعة وهي أحط الفرق الأربع كانت تعبد الأوثان التي نحتتها على مثال الصالحين. وهذا البيان، من افتراق المشركين إلى أربع فرق قد بينه القرآن، وكلّم كل فرقة بحسب ما تعتقد وردّ عليها، وإليك الآيات التي تدل على ذلك:

الأولى: الفرقة التي كانت تدعو الجن (ويوم يحشرهم جميعاً، ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون، فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضرا)؛ وقال تعالى في شأن هذه الفرقة أيضاً: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلفهم وخرقوا له (اخترعوا) بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون)؛ وقال تعالى في شأن دعاة الملائكة والرسل والصالحين وهما الفرقتان الثانية والثالثة: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذوراً) ولا يمكن لعاقل أن يزعم أن الأصنام كانت ترجو رحمة أو تخشى عذاباً

وقال تعالى في شأن الفرقة الرابعة وهم عبدة الأوثان الذين نحتوها على مثال الصالحين: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها. . . الآيات) وجميع هذه الفرق كانوا يعتقدون أن الخالق لكل شيء هو الله تعالى، وأن دعاءهم لمن يدعون ليقربوهم إلى الله زلفى، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم جميعاً بقوله:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وقد تقدم ذلك. ومن هنا يتبين خطأ من يظن أن الآيات نزلت فيمن كانوا يعبدون الأصنام وحدهم، وقد علمت أن القرآن لكريم تكلم مع كل الفرق

ص: 42

7 -

يراجع تفسير هذه الآيات الكريمة قبل إلقائها على الطلاب في كتب التفاسير المعتمدة، ليعلم سياقها وسباقها، والأسباب التي نزلت فيها وما فسرها به من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعون لهم بإحسان كتفسيري إمام المفسرين أبن جرير، والحافظ المحدث بن كثير. ثم تفسر بأسلوب سهل خال من المصطلحات، فيكون الأستاذ قد جمع في تفسيرها بين القديم والحديث على أصح الوجوه وأحسنها.

أما الآيات الكونية فيرجع فيها أيضاً إلى ما فسرها به العلماء من محققي هذا العصر.

8 -

تشرح في دروس الفقه أركان الإسلام الخمسة التي وردت في حديث (بنى الإسلام على خمس) ويبين معنى كلمة التوحيد التي هي ركن الدين وأساسه الأعظم، وأنها (أي لا إله إلا الله) مسقطة لجميع آلهتهم (أي العرب قبل الإسلام) هادمة لأنواع عبادتهم، ومثبتة لعبادة الله وحده الذي وحدوه بربوبيته (أي بأفعاله) ولم يوحدوه بألوهيته (أي بعبادتهم له كما تقدم) فمعنى (لا إله) هو نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده وهو الله تعالى، ولو كان معناها (لا خالق إلا الله) أو ما هو في معنى ذلك من أفعال الربوبية كالرزق والإحياء والأمانة لما استكبروا عن النطق بها، لأن هذه الأفعال لم يدعوها لآلهتهم، وتقدم بيان هذا في توجيهات التوحيد، فيجب على الأساتذة أن يشرحوا هذه الحقيقة لأنها أصل الأصول وحقيقة الحقائق.

9 -

بيان المقاصد الدينة والحكم الاجتماعية للصلاة والزكاة والحج والصيام، وتبين أيضاً فوائد العبادات في معترك الحياة العملي والجهاد القومي. (فالصلاة) الروحية البدنية التي هي فرض عام على كل مكلف، تنهي عن الفحشاء؛ وأشد الفواحش والمنكرات فتكاً وهتكاً هي تلك الجيوش المعنوية التي فتحت بلاد الشرق لها عقولها وجسومها وجيوبها كالخمر والميسر والزنا والربا والأنتحار، فكثير ممن أضاع الصلاة واتبع الشهوات وقع في هذا التيار الذي أسلمه إلى الجنون أو المنون، فكان ذلك من أشد المصائب على الوطن. (والصيام) الذي يدعو إلى إمساك المعدة عن الطعام، وسائر الأعضاء عن الآثام، وصرف جميع القوى والمواهب فيما خلقت له، يعلم الثبات على خلق (أي مبدأ) قويم لا محيد عنه. فالصائم الذي يغلب عقله شهوته ولا يخون دينه بالأكل نهاراً - سراً وعلانية - لا يمكن أن يخون وطنه أو يخدع في أمره فيبيعه بثمن بخس من غير أهله. (والزكاة) إعطاء نصيب

ص: 43

معلوم من المال للفقراء والمساكين الذين أقعدهم العجز عن العمل، دون الكسالى المتسولين القادرين على الأكل من كسب أيديهم (وبقية الأصناف الثمانية في آية: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. . .) فإذا حفظت الزكوات والوصايا لمستحقيها ووزعتها عليهم جمعيات التعاون على البر والتقوى، ذوات الاختصاص بتمييز المستحقين من غيرهم، كانت هذه أفضل طريقة تجمع بها الأموال من المحسنين لإطعامهم وإيوائهم وتعليم أبنائهم. (والحج) أعظم مؤتمر إسلامي حر، وأكبر نقابة في الدنيا تبحث في شؤون المسلمين ومصالحهم، وتوازن بين ماضيهم وحاضرهم، وتدافع عن حقوقهم وحرياتهم، وتؤلف بين شعوبهم وقبائلهم. ثم هو فريضة الإسلام والركن الاجتماعي للعام الذي يربط أفراد الأمة الإسلامية بعضهم ببعض، ويشد أواصر التآخي والتراحم بينهم، وينزع الضغن والحقد من بينهم فيصبحون بنعمة الله إخواناً.

10 -

المعلمون ورثة الأنبياء في تعليمهم وأخلاقهم، ومن شأن أساتذة الدين أن يكونوا من أكمل البشر وأفضلهم في آدابهم وأعمالهم ومعاملاتهم، ويجب أن تتجلى فيهم مزايا العبادات المذكورة في هذه المقدمة وفوائدها، وأن يكونوا هم صورة كاملة لها، فهم القدوة الصالحة التي ينشدها الطلاب والمدارس، والمثل العليا تستملي من صفاتهم وأعمالهم، لا من الكتب التي بين أيديهم فحسب. والرجاء في أساتذة الدين أن يصبحوا طلابهم في المصلى والمسجد (لا في المقهى والملهى) ويكونوا أئمة لهم في بعض الصلوات، ومؤتمين بهم في البعض الآخر، ولا يرى الطلاب من عملهم مأخذاً لهم يتمسكون به (كعادة التدخين الضارة مثلاً) بل يجب أن يلاحظ رؤساء المعارف كافة والمعلمون منهم خاصة، وأساتذة الدين على الأخص، أنهم ليسوا أشخاصاً عاديين لأنهم يربون أرواحاً ويصلحون إصلاحاً، فيهم يقتدي، وبهديهم ويهتدي، وليذكروا قول المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.)

محمد بهجة البيطار

عضو المجمع العلمي العربي بدمشق

ص: 44

وأحد أعضاء لجنة (تنقيح المنهج)

ص: 45

‌من الأدب المنحول

في عيد ميلاد المسيح

للمرحوم مصطفى صادق الرافعي

(قلت في العدد الماضي إن صديقاً من أصدقاء الرافعي طلب إليه مرة أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسة أجنبية في ليلة عيد الميلاد. . .

(وكتب الرافعي كلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه. وألفتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين، فكانت عند أكثرهم إنجيلا من الإنجيل. . .)

(فهذه هي الكلمة التي عنيت)

سعيد العريان

أيها السادة:

ملك من ملائكة الرحمة، يهبط من سماء الله آتياً من حدود الأبد، ولجناحيه حفيف طالما أنست به نسمات الجنة، وتعلقت بأطرافه أرواح أزهارها الخالدة، كأنها معاني الورد في لفظ عطر الورد. .

صفَّ جناحيه العظيمين ثم خفق بهما خفقة، فانزوت له سماء وسماء، وأسلمه فضاء إلى فضاء؛ فإذا هو في ذؤابة هذا الكوكب الأرضي؛ فوقف هناك عند الحد الذي أقامه الله بين المعنى الخالد والمعنى الفاني، الحد الذي يبتدئ منه ضوء الشمس رقيقاً مستشعراً من رحمة الله، فيكون للمخلوقات الأرضية نوراً وحياة معاً، وهو في أصله لهب ما حق لو ألقيت فيه كرة الأرض لاستحالت في لحظة واحدة شعلة واحدة

هناك حيث تزدحم الأقدار، على مداري الليل والنهار، وقف الملك الكريم ولا تزال على قوادم جناحيه مسحة زاهية من نعيم الخلد، ولا يزال فيها روح من ريحان الجنة. . . وقف ينظر فإذا الأرواح الإنسانية صاعدة من الأرض في زحام، منهزمة من شرور الناس أيَّ انهزام، متقهقرة إلى ربها بعد المعركة بلا نظام.

فصرف وجهة ناحية ثانية، فإذا دعوات المظلومين، وأنات المحزونين، وتأوهات المساكين، وزفرات الوالدات والوالدين

فانفتل إلى ناحية غير الناحيتين، فإذا الحياة الأرضية كأنها خيط وضع من مقراض الفناء

ص: 46

بين شفتين، أو غريق يخبط في لجة بين ساحلين، ولا يدري قبره في أي الساحلين، أو المحكوم عليه بالموت أوقف بين سيفين، ولكن الموت واحد في السيفين.

فلم يبق من الجهات الأربع إلا جهة واحدة فتحول إليها الملك، فإذا هناك في أقصى الأفق معنى الرحمة الإنسانية وقد أنكمش وتضاءل واخذ منه الهزال كأنه مريض، أو كأن الحزن على الناس قد أذابه فقطع الرجاء منهم وانزوى في ناحية ينتظر نهاية هذا القدر المنصب من السماء على الأرض.

جزع الملك من ذلك وكاد، وهو قطعة من الخلد، يداخله الخوف ويخالجه الشك وتمسه بعض آثار الحياة الفانية، فقال ما بالى قد تبللت أجنحتي من رشاش هذه الدموع وهذه الدماء، وما بال هذا لعالم الآخر ليس فيه إلا متألم لميت أو متألم لحي أو متألم لنفسه، وما بال الحياة قد أمست من شدة بؤسها وكدرها وهمومها تطحن أكثر مما يطحن الموت؟ هل بقي شيء إلا النفخة في الصور، وبعثرة من في القبور، ووقوف الفلك الدَّوار فلا يدور، وانطفاء نور الأرض فلا ظلوم ولا نور؟

وقف الملك الكريم أربع سنوات وأشهرا وهو ينتظر يوماً يرى فيه السماء مسفرة الوجه برضا الله ونعمته، بعد غضبه ونقمته، فلما سطع ذلك اليوم المضيء وأبرقت بفجره أسارير السماء هز الملك جناحيه على المشرق والمغرب وانتفض في جو الأرض انتفاضة ملائكية أطفأ بردها غيظ القلوب المتأجج الذي تشاتمت به أفواه المدافع زمناً طويلاً، وهب نسيمها الآتي من الجنة فدافع إلى ناحية الجحيم كل روائح البارود ودخان القنابل ولهب النار

ثم ضحك الملك مسروراً فانتثر من ضحكة الابتسام على كل الشفاه، وأصبح جو الأرض من مطلع الشمس إلى مغربها وهو يتلألأ كأنه ثغر طفل يضحك في وجه أمه.

وسمع الملك حمد الناس وشكرهم وتهنئة بعضهم بعضاً، ورأى الأرض وقد سكنت بعد غليانها وأقبل أهلها يصلحون ما فسد، ويبنون ما تهدم، ويديرون في الأرض حركة جديدة ويسخرون العناصر لبناء الطبيعة الاجتماعية أو لهدمها كما كانوا يفعلون

فقال: الآن أصلحت بين الناس وأصلحت الناس للناس، ثم رمى بطرفه إلى الجهات الأربع فإذا معنى الرحمة قد ملأها واستفاض عليها، فهز جناحيه صاعداً في فلك النور، وفي أذنيه تهليل الناس وصلواتهم، حتى إذا انتهى إلى أفقه الأعلى كانت الكلمة الأخيرة التي دخلت

ص: 47

معه إلى سماء الله هي نفس الكلمة الأولى التي خرجت من سماء الله

(وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة)

ص: 48

‌نظرة خاطفة

تطورات الأدب الحديث

للأستاذ فؤاد الطوخي

لو بعث أعرابي في الجاهلية وقرأ ما تفيض به أقلام الكتاب في هذا العصر لأعجزه فهم المعاني والمرامي، بل لأعجزه فهم التراكيب والأساليب، ولخرج من مطالعته وكأنه لم يقرأ ولم يفقه شيئاً. ذلك لأننا نكتب بلغة الغرب وندرك الأشياء بعقول هي أقرب ما نكون إلى عقول الغربيين، ونستمد منهم العلم ونستوحيه، ونرتوي من مناهلهم ونعترف، ولا يزال العالم العربي كله يترسم خطاهم ويلف لفهم، ويعاونه على ذلك مرونة اللغة، فهي تتسع لمختلف الأساليب وشتى التراكيب، ولا تنقصها الإبانة عن معاني الغرب كما أبانت عن معاني الشرق.

وهذا التطور الناشئ من طغيان أدب الغرب على اللغة قد ثقلت موازينه على التطورات الطبيعية التي تصيب اللغات من توالي الأجيال وما يلابسها من اختلافات في عالم الفكر وأساليب الحكم وصعود في المشاعر الإنسانية وهبوط. وما الأدب الرفيع إلا دعامة من مقومات الأمة، ومظهر من مظاهر حياتها ونزعاتها؛ بل ترجمان نهضتها يكشف عن أسرارها ويظهر ما كمن في نفسيتها وما استتر. فلما تهيأت أسبابه إبان النهضة المصرية الحديثة في عهد الخديو إسماعيل لم يكن بين المصريين من يعرف الصحافة أو يستسيغها، فنشطت جماعة من أدباء سوريا وممن كان الاستبداد التركي قد أرغمهم على الهجرة إلى أرض الفراعنة - إلى غرس بذور الأدب، فرحب بهم إسماعيل باشا وشجعهم على إصدار الصحف والمجلات وإنشاء فرق التمثيل وقرض الشعر وتأليف الكتب الأدبية. واتصلت مصر بسوريا اتصالاً أدبياً وثيقاً، ولسنا نقول إنهم أجادوا فيما أخرجوه للناس بادئ ذي بدء، ولكن معظم تلك الأقلام على اختلاف ألوانها لا يروقك منها اليوم إلا النذر اليسير. ولم ينزل المصريون إلى هذا الميدان إلا بعد فترة من الزمان. وكان الأزهر الشريف يومئذ يغط في الجمود غطيطاً حتى جاءه جمال الدين فأحيا مواته ونفخ فيه من روحه، وغادر مصر بعد قليل وقد أسلم راية النهضة إلى الأستاذ الإمام العظيم الشيخ محمد عبده، فعمل مع من التف حوله من تلاميذه الأخيار على إعلاء كلمة الأدب، وأرسل من صحن الأزهر

ص: 49

الشريف شعاعاً من النور لم يلبث أن بسط رواقه على بعض الأرجاء. ومنيت هذه النهضة بصدمات عنيفة يوم أرغم نصيرها ومحييها الخديو إسماعيل على اعتزال الحكم، وعاد الجمود ولكن لا يمكث طويلاً، وإنما يمكث إلى أن تدور دورة الأيام وتهدأ الأعصاب ويستجم الأدب قوته ويستعيد سيرته، إذ هيهات أن يحول حائل دون نمو شجرة أحكم زرعها وقوى أصلها. وما هي إلا عاصفة أثارها العرابيون حتى نفض الأدب عنه غبار الهدأة وخرج يتلمس مكانه تحت الشمس، وكان الشيخ محمد عبده فارس هذا الميدان أيضاً فجال بقلمه وصال، بل كان رئيس الوزارة نفسه البارودي شاعراً وكاتباً، وملأ عبد الله نديم الميادين والطرقات بخطبه وقصائده وأزجاله، وعالج آل المويلحي فنوناً من الأدب لا تزال بلاغتها تهز القلوب وتثير الشجون. وجاء الاحتلال فجاء معه الجمود للمرة الثالثة، ولكن لا ليستقر أيضاً وإنما يهدأ قليلاً ريثما يعود الأدب من جديد ملكاً ذا سطوة وبأس منادياً بالحرية مصوراً شعور الأمة بمقت الحكم الأجنبي.

وفي ذلك الحين بدأ نجم شوقي يعلو ويلمع، وتلاه حافظ، وتربع على دست الصحافة الشيخ علي يوسف في دار (المؤيد) ثم تلاه الأستاذ الإمام أحمد لطفي السيد في دار (الجريدة) وكانت لا تزال الصحافة السورية راجحة الكفة قوية الشكيمة. وأناخت على الأدب الحرب العظمى بكلكلها ولكن ما جاءت سنة 1919 حتى وصل الأدب ما انقطع، ولا حق ما سابق، وهب أقوى سلطاناً وأكبر نفوذا. فازدادت المجلات والجرائد المصرية دون السورية زهوراً وانتشاراً، واتسع مجال التأليف، وتعددت نواحي التفكير.

وأبرز ما يبدو في الأدب العربي الحديث هو الحيرة وعدم الاستقرار والخلو من الوحدة والتجانس والتماثل؛ فهو لم يعد بعد طور التكوين ولم تقم له شخصية جلية فهو في ذلك إنما يتمشى مع روح الأمة ومشاغلها وأمانيها، ففي مصر مثلاً كان أكبر ما يشغل الأذهان ويتغلغل في النفس هو السعي في سبيل الحرية، فانطبع الأدب بهذا الطابع وظهر أثره في الصحف والمجلات والخطب والتقارير وما إلى ذلك، فتغنى الشعراء بأناشيد وطنية تمس نواحي الأمل تارة، ونواحي الألم تارة أخرى، وكلما تطورت المواقف تطور معها الأدب وجرت بها أقلام الكتاب من حيث يشعرون أو لا يشعرون

ومن العجب العجاب أن الأدب الرفيع قد لاقي من صنوف التنكيل والمقاومة من جبروت

ص: 50

الحكومات المستبدة، ومن استهتار الجمهورية ومن إغضاء أغنيائنا عن تعضيده ما لو حدث في غير مصر لتحطمت الأقلام ونضبت الإفهام، وساد الظلام، ولكن كتابنا استبسلوا واحتملوا الفواجع في سبيل الأعراب عن آرائهم الحرة، فنالوا تقدير العارفين وخلدوا في تاريخ مصر المجاهدة صحائف من نور. على أنه لن يمر زمن طويل، ما لم تتأثر مصر بمؤثرات دولية ليست في الحسبان، حتى تهب من أقصاها إلى أقصاها إلى الأخذ بأسباب الإصلاح ويتبع ذلك تطور وتجديد في عالم الفكر وعالم القلم، وتدور رحى المعارك الصحفية على الأعمال لا على الأشخاص، وعندئذ تبرز الشخصية المعنوية للأمة وتبرز معها شخصية الكتابة والكتاب فتستقر في قرار مكين وتصبح في مأمن من زعازع السياسة ومنازع الأغراض فلا يعصف بها استبداد، ولا يلويها عن قصدها حب في سيطرة أو استبعاد

على أنه رغم تلك الاضطرابات العامة والقلائل الجمة، فان مصر بحمد الله قد ظفرت بطائفة من الكتاب لا تقل علماً وأدباً وقوة ومغامرة عن أمثالهم في أعظم الأمم المتحضرة المجاهدة، وما ذك إلا لما هم عليه من ذكاء نادر وعلم وافر ومضاء في العزيمة وقوة في الشكيمة. وإذا حق لمصر أن تفخر بأبناء الجيل الحاضر فمن الأنصاف أن تضع في مقدمتهم الأساتذة الكرام (العقاد، والزيات، وهيكل، وطه حسين، والمازني، وزكي مبارك، وسلامة موسى) وغيرهم

والظاهر أن الحكومة قد فطنت إلى ضرورة تشجيع الأدب فقررت منذ عام وبعض عام منحهم جوائز على موضوعات يتبارون فيها، فكانت فكرة موفقة، ولا نعلم لماذا لم تستمر في ذلك! ولعلها تذكر أن من أكبر الأسباب التي دعت إلى ظهور طائفة كبيرة من الأدباء والشعراء الخالدين في العالم العربي، الصلات القيمة والمنح الكريمة التي وهبها إياهم الخلفاء تقديراً لنبوغهم وتشجيعاً لغيرهم. ولسنا بملتمسين غير العدالة - إن لم يكن الحق - إذا نحن وجهنا نظر حكومتنا إلى ضرورة منح المجلات الراقية في مصر إعانات كفيلة بتوطيد دعائمها حثاً لها على الاستزادة من خدمة قرائها تعميماً للثقافة وتعضيداً للعلم، ولها في ذلك أسوة بالمدارس الحرة ودور المسارح والملاهي

فؤاد الطوخي

ص: 51

‌بين الفن والنقد

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

تدرج الطبيعة بالإنسانية في مدارج الرقي والكمال، وتنهج بها مناهج السمو والتطور، فتحرص على النافع وتختار الأصلح، وتجدد دائماً! فتنقل الناس من حال إلى حال، ونخرج بهم من وضع إلى وضع، وما أداتها في هذا إلا الشخصيات العظيمة، والنفوس الكبيرة، والإرادات القوية الوثابة، التي تحمل في أطوائها عظمة الطبيعة نفسها، فإذا هي في أعمالها وحياتها ومواهبها برامج سامية للجنس، وشرائع عالية للنوع، وعوامل ناهضة بدهماء الناس من ظلمة الخمول، وحمأة الانحطاط، ومُثل رفيعة تنير بروعتها في النفوس أعمق الخواطر، وتلهمها الإنشاء والخلق والإبداع!

وما الأدب في وضعه الشامل، ومادته المتصلة بكل شيء إلا دنيا حافلة، وإنسانية كاملة، فهو - كما يقول مكسيم غوركي - مرآة الحياة تنعكس على زجاجته المصقولة، في هدأة الحزن أو ثورة الغضب، سائر مشاكل الحياة وشعابها المترامية، وخيوطها المشتبكة، ومناحيها المتنائية، كما تنعكس كذلك على أديمه الشفاف كافة رغباتنا وشهواتنا ومشاعرنا وآمالنا، والجداول العميقة الراكدة لحماقتنا وطيشنا، وسعادتنا وشقائنا، وشجاعتنا وفرقنا، أمام الغد المجهول، والمصير المحتوم، ومعاني الحب والبغض لدينا، وسائر معايب نفاقنا وعار أكاذيبنا، ومهانة خداعنا، وركود أذهاننا، وآلامنا التي لا تنتهي منها ولا تنتهي منا، وجملة آمالنا الخفاقة الملهبة لشعورنا، المتنزية في خواطرنا. . . وبالاختصار هو كل ما يحيا به العالم وسائر ما يعتمل وينبض في قلوب البشر. . .

فدنيا الأدب هي دنيا الناس تامة كاملة، يصورها لنا الأسلوب المهذب، ويرسمها التعبير الفني الجميل، وإن النهج الذي تسلكه الطبيعة في دنيا الناس للسموّ بالإنسانية، والترقي بالعالم، هو هو بعينه النهج الذي يحتذيه النقد في دنيا الأدب لخدمته وصقله وتهذيبه واختبار الأصلح منه. . . كما تفعل الطبيعة تماماً في دنيا الناس المادية المحسوسة، وما النقد إلا رسالة من رسالات الطبيعة وعمل من أعمالها، فمن المعقول أن يحتذيها في مهمته، وأن يكون على غرارها في وضعه، فهو - على ما يجب أن يكون - إرادة قوية تكشف وتوضح، وتختار وتميز، وتنفي وتثبت، وتزجر وترشد، قد تبتر الضعيف، وقد تحابي

ص: 53

القوي، وما قصدها في ذلك إلى البطش والانتقام، ولا إلى المداهنة والمحاباة، ولكنها تقصد إلى صقل الخواطر، وتهذيب المشاعر، وتطهير الأفكار من مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فما تزال تتعهدها بذلك حتى تقيمها على الوجه الصحيح النافع، فإذا هي سمو بالإنسانية، وصلة بالحياة، ومادة للخلود، ومبعث الروعة والجلال على مدى الدهر وطول الأيام. . .

والأدب والنقد يهدفان إلى غاية واحدة، ويتعاونان في مهمة متفقة، فالأدب - كما يقول الرافعي - يقدّر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولة إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني؛ والنقد من وراء الأدب في هذا كله، يصح له هذا (التقدير) من جميع جهاته، ويسدده على طريقه القويم، ويدله على الصور الرائعة التي يصح أن تكون مثلاً أعلى لما نطلبه من جمال الحياة وجمال العواطف، ومن ثم كان النقد - كما يقل شوقي - حارس الأدب، ومكمل الكتاب والكتب، ومن ثم أيضاً كان النقد أساساً لكل نهوض أدبي مثمر، فإذا ما رأيت أدباً مهذباً يغمر أصحابه بالحياة، ويؤدي لهم غذاء العواطف والعقول، ويملأ نفوسهم باليقظة والحكمة والإحساس، ويرفعهم عالياً إلى الكمال الإنساني، ثم رحت تتلمس السبب في ذلك فلن تجده إلا النقد، ثم النقد، ولا شيء غير النقد. . .

قال لي أديب كنت أبسط له هذا الرأي: ولكنك تعلم يا صاحبي أن أهل الفن قوم خلقهم الله أحرار المواهب، فهم يطلبون حرية الفكر، وذلك عندهم كل شيء، ولعلك تذكر في ذلك قول ملتون الخالد (أعطني حرية القول، وحرية الفكر، وحرية الضمير، ولا تعطني شيئاً غير ذلك) والنقد إنما هو ضرب من ضروب الحجر على هذه الحرية وحبسها عن التحليق في سماء الفن وجو الحياة الفسيح، ولاشك أن الفنان إذا ما فقد حريته فقد فقدَ عبقريته، وتلاشت شخصيته. . . ثم أنت تعلم أن حياة الفن إعجاب وتقدير، وأن الفنان في حاجة كبيرة إلى العطف والثناء والمدد والبخور، ولكن النقد كثيراً ما يرهق أعصاب الفنانين - وهي الدقيقة المرهفة - بصلف الأستاذية، وعنت الحزازة وعبث التطفل، وكثيراً ما هوي فنانون صرعى هذا الطغيان أو قل هذا اللؤم، وكثيراً ما أحجم كرام فضلاء عن الظهور في

ص: 54

الميدان ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضراة، وصوتاً لآثارهم أن تبتلى بلئيم لا ينصف، أو جاهل يتعسف. وقديماً قيل: أحق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل! وهذا ما يجعلني أعتقد أن النقد عداوة للأدب، وتهجم على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد، يهدم ويثبط، ويندفع في جبروته واستبداده لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . وهذا ما جعلني أيضاً أرتاح لصنيع ألمانيا يوم حرمت النقد الأدبي، ووقفت به عند عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء أي رأي. ولقد كان وزير الدعاية الألمانية على حق إذ يقل في بيانه الذي أصدره في ذلك الصدد: إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار، والاحتفاظ بكرامتهم الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الصحيحة من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها!

ولقد يبدو هذا الكلام طريفاً لبعض الناس، وأذكر أني سمعت صداه في ندوة أدبية، وقرأت كلاماً بمعناه في إحدى الصحف، ولكنه في الواقع أفن من الرأي لا يصح في عقل، ولا يستقيم في منطق، فان النقد ليس مصادمة لحرية الفنان في شيء ولكنه نهوض بهذه الحرية إلى الأوج، وارتفاع بها عن العبث، وتقويم لها على المبادئ القويمة، والرغبات النافعة، وإذا كان له أن يقف بالفنان عند حدود، أو يلزمه بقيود، فليست هي إلا الحدود الفنية، والقيود التي هي معالم الفن نفسه ودعائم كيانه، وبالتزامها يسمو وينهض، وبمراعاتها ينمو ويفرع. فإذا ما أباح لنفسه أن يتعداها وأن يستهين بها، هان أمره، وهاض شأنه وذهبت شخصيته، وانتهت رسالته، كتلك القيود التي يتملص منها بعض الناس، من تفريط في حق اللغة، عدم العناية بالأسلوب، والاستهانة بأوضاع العرف والأخلاق، والتقاليد والدين!

ثم لماذا يناهض النقد الأدب؟ والنقد والأدب صنوان يجمعهما الفن إلى أصل واحد، ويربطها برباط العصبية والقرابة، أو على الأقل برباط الود والصداقة، فإذا ما نظر النقد إلى الأدب وهو ينصح له، أو يسخر منه، أو ينكر عليه، أو يعجب به، فما هو في هذا كله إلا الصديق الحدب، والرفيق المخلص، من واجبه أن يصور الأدب أمام نفسه بأغلاطه ومساوئه، وصوابه ومحاسنه، وأن يرى في ذلك الرأي الصريح المخلص، كما يفعل الأدب تماماً إذ يصور الحياة أمام نفسها بأغلاطها ومساوئها، وصوابها ومحاسنها، وأن يحكم في

ص: 55

ذلك برأيه وتقديره، ولا عيب على النقد في صنيعه هذا، كما لا عيب على القاضي إذا ما أعلن كلمة الحق، والواصف إذا ما قرر حقيقة الموصوف، والصديق إذا ما صارح صديقه بالذي فيه، ولكن العيب ألا يؤدي ذلك جهده، ويعمل له وسعه؛ وإن من خطأ الرأي أن نحسب النقد عداوة للأدب، وتهجماً على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد لا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . فأن الطبيعة ليست بقاسية من ذهابها بالزبد ليبقي ما ينفع الناس، والطبيب ليس بمتجبر ولا بمستبد إذا ما بتر العضو الفاسد لينجو المريض. والصائغ لا يقصد الشر إذا ما تناول حجر الماس بالإحراق والصهر والصقل ليخلص جوهره وتنجلي لمعته، وكذلك قل في النقد إذا ما وضع الحق في نصابه، ودافع عن الفن في نسقه الأعلى، وعمل على تخليصه من شوائب الفضول والدعوى المزورة والمآرب المتهمة، وإن من انقلاب الأوضاع والاستهانة بالحقائق أن نحسب التهذيب عداوة، والصراحة تهجماً، والتطهير هدماً وتثبيطاً، وإذا كان بعض الأدباء لا يفيدون من النقد صقلاً وسمواً وتهذيباً وإرشاداً فليس الذنب ذنب النقد، ولكنه التفريط منهم في الانتفاع بالرشد والإصاخة إلى النصيحة، وما هم إلا كالمريض، يصف الطبيب له الدواء، ويقدر عليه الغذاء، ويقر له ما يأتي وما يدع، ولكنه يستهين بهذا كله، وما يزال حتى ينوء بعلته، ويتلف بدائه، ثم يتبجح فيلحى الطبيب!!

على أننا إذ نقول النقد، فإنما نعني ذلك الفن الجليل بقواعده المقررة، وأصوله المحررة، وغايته الشريفة، وهو شيء أسمى من التقييم والتقريظ والاستجداء، وأنبل من العبث والغرور والتفيهق، وأرفع من الشتم والحسد والحزازة وكل اعتبار شخصي، وإن من اختلاط الأمر أن نحسب كل هذه من باب النقد ونعتبرها منه، وما هي إلا اعتبارات رخيصة، وسفاسف تافهة، وشرور وآثام شأنها من النقد شأن الأعشاب الضارة في الروضة المعطار. والنقد بريء منها، بل إنه ليناهضها كما يناهض كل أذى وشر. ولقد صدق شوقي إذ يقول:(من نقد على غضب أسخط الحق، ومن نقد على حقد احترق وإن ظن أنه حرق، ومن نقد على حسد لم يخف بغيه على أحد، ومن نقد على حب حابى وجمح به التشيع، وإنما النقد فن كريم، وهو آلة إنشاء، وعدة بناء، وليس كما يزعمه الزاعمون معول هدم ولا أداة تحطيم. . .)

ص: 56

ثم إننا إذ نقول الناقد فلسنا نريده من أولئك المزورين الأدعياء الذين ليس لهم أداة النقد، ولا عندهم وسائله، ولكنا نعنيه من أهل النظر المميز، والمتأمل الفاحص، أولئك الذين لهم قدرة الحكم، وفيهم قوة الصواب، وعندهم وسائل الترجيح، وغايتهم الأنصاف، وشأنهم خدمة الفن، وهم من ضميرهم في يقظة تلقى في روعهم دائماً أن الناقد مستهدف يعرض عقله وثقافته وحكمه على الناس، فإذا لم يخلص للحقيقة، ولم يفطن إلى مواقع الصواب في كل هذا عرّض نفسه للزراية والسخرية، وتدلى بعقله وفنه إلى أسفل. . .

والقوم في أوربا يفهمون النقد بهذا المعنى، ويجرون فيه على هذا الأعتبار، والناقد لا يقوم فيهم إلا بهذه القوة وعلى هذا الشرط، ولذا نجد النقد عندهم قد أزهر وأثمر، وأفاد ونفع، فهو مجلي العبقريات ودعائم النبوغ وظل التأليف، وعضد الفن، يدعن له الأدباء في ارتياح واطمئنان، ويرمقونه بالإجلال والإكبار ويصيخون لكلمته بالوعي والأنتفاع، وبهه الروح الطبية استطاع (تين) أن يخلق (ستاندال) ويرفع من (كانت)، ويدين تسعة أعشار الطبقة الراقية من الفرنسيين في القرن التاسع كما يقول بعض المؤرخين!

أما عندنا، فموعدنا بذلك بقية المقال.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 57

‌الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وقد سلك الكميت مسلكاً متقارباً في قصائده الأربع، فهو في ميميته يتخلص من مطلعها إلى ذكر بني هاشم فيقول فيهم:

بل هواىَ الذي أجنُّ وأُبدى

لبني هاشم فروعِ الأنامِ

للقريبين من ندىً والبعيدي

ن من الجور في عُري الأحكام

والمصيبين باب ما أخطأ النا

سُ ومرسى قواعدِ الإسلام

إلى أن يقول فيهم وفي خصومهم من بني مروان:

ساسةٌ لا كمن يرعى (؟) النا

سَ سواءً ورِعيةَ الأنعام

لا كعبد المليكِ أو كوليدٍ

أو سليمان بعدُ أو كهشام

رأيهُ فيهمُ كرأي ذوي الثُّلَّ

ةِ في الثائجاتِ جُنحَ الظلام

جزُّ ذي الصوف وانتقاءٌ لذي المخ

ة نعقاً ودَعدعاً بالبهام

من يمت لا يمت فقيداً ومن يح

ى فلا ذو إلٍ ولا ذو زمام

فهمُ الأقربون من كلّ خيرِ

وهم الأبعدون من كل ذام

ثم يتخلص من ذكرهم إلى ذكر جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمضي في مدحه وذكر مناقبه الشريفة:

أُسرة الصادق الحديث أبي القا

سمِ فرعِ القُدامس القدَّام

خيرُ حي وميتٍ من بني آ

دم طرَّا مأمومهم والإمام

إلى أن يقول فيه:

أبطحي بمكة استثقب الل

هـ ضياء العمى به والظلام

وإلى يثرب النحول عنها

لمقام من غير دار مقام

هجرة حولت إلى الأوس والخز

رج أهل الفسيل والآطام

غير دنيا محالفاً وأسم صدق

باقياً مجده بقاء السلام

ثم يأخذ بعد هذا في ذكر باقي أصولهم فيقول:

ص: 58

ذو الجناحين وابن هالة منهم

أسد الله والكمى المحامي

لا ابن عم يرى كهذا ولا ع

م كهذاك سيد الأعمام

والوصي الذي أمال التجوب

به عرش أمة لانهدام

كان أهل العفاف والمجد والخي

ر ونقض الأمور والإبرام

نالنا فقده ونال سوانا

باجتداع من الأنوف اصطلام

وأشتت بنا مصادر شتى

بعد نهج السبيل ذي الآرام

إلى أن يقول:

وأبو لفضل إن ذكرهم الحل

وبقيَّ الشفاء للأسقام

صدق الناس في حنين بضرب

شاب منه مفارق القمقام

وأبو الفضل هو العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الشيعة إلى عهد الكميت يداً واحدة إلى أن تفرقوا في عهد العباسيين إلى علويين وعباسيين، فعادى بعضهم بعضاً بعد أن آل الملك إليهم، واستأثر به بنو العباس كما استأثر به بنو مروان قبلهم. وقد أخذ بعد هذا كله في الحديث عن نفسه في هذا الأمر الذي أخذها به، واستسهل صنوف البلاء في سبيله، فقال:

فبهم كنت للبعيدين عما

واتهمت القريب أي اتهام

وتناولت من تناول بالغي

بة أعراضهم وقل اكتتامي

إلى أن يقول:

ولهت نفسي الطروب إليهم

ولهاً حال دون طعم الطعام

ليت شعري هل ثم هل آتيتهم

أم يحولن دون ذاك حمامي

وقد أراد أن ينتقل من ذلك إلى ذكر ناقته ووصفها على عادة الشعراء قبله، ولكنه يجعل ذلك في ختام قصيدته ولا يبدأ به في أولها كما كانوا يبدؤون به، فلا يؤثره بهذا على مقصوده الذي ملك عليه مشاعره، وفي هذا يقول:

إن تشيع بي المذكرة الوجنا

ء تنفى لغامها بلغام

عنتريس شملة ذات لوث

هوجل ميلع كتوم البغام

إلى أن يقول في الختام:

ص: 59

ما أبالي إذا تحن إليهم

نقب الخف واعتراق السنام

يقض زور هناك حق مزوري

ن ويحيى السلام أهل السلام

وكذلك يسلك الكميت ما يقرب من هذا المسلك في بائيته الأولى، فقد تخلص من مطلعها إلى ذكر حال نفسه وما يلاقيه في سبيل رأيه فقال:

بني هاشم رهط النبي فأنني

بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب

خفضت لهم مني جناحي مودة

إلى كنف عطفاه أهل ومرحب

وكنت لهم من هؤلاء وهؤلاء

مجنا على أني أذم وأقصب

إلى أن قال:

يعيبوني من خبهم وضلالهم

على حبكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابي هواه ورأيه

بذلك أدعى فيهم وألقب

على ذاك إجرياي وهي ضربتي

ولو جمعوا طرا على وأجلبوا

وأحمل أحقاد الأقارب فيكم

وينصب لي في الأبعدين فأنصب

ثم أخذ في ذلك الحجاج الذي جمع فيه بين الشعر والعلم، ولعله هذا كان أول عهد العرب بذلك الأسلوب في الشعر:

بخاتمكم غصباً تجور أمورهم

فلم أر غصباً مثله يتغصب

وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأولها منا تقى ومعرب

وفي غيرها آياً وآياً تتابعت

لكم نصب فيها الذي الشك منصب

بحقكم أمست قريش تقودنا

وبالفذ منها والرديفين نركب

وقالوا ورثناها أبانا وأمنا

وما ورثتهم ذاك أم ولا أب

ولكن مواريث ابن آمنة الذي

به دان شرقي لكم ومغرب

يقولون لم يورث ولولا تراثه

لقد شكرت فيه بكيل وأرحب

ولا كانت الأنصار فيها أدلة

ولا غيباً عنها إذا الناس غيبوا

فان هي لم تصلح لقوم سواهم

فإن ذوي القربى أحق وأقرب

إلى أن قال:

فيا لك أمراً قد أشتت أموره

ودنيا أرى أسبابها تتقضب

ص: 60

يروضون دين الحق صعباً مخرماً

بأفواههم والرائض الدين أصعب

وقد درسوا القرآن وافتلجوا به

فكلهم راض به متحزب

فمن أين أو أني وكيف ضلالهم

هدى والهوى شتى بهم متشعب

ثم اخذ في مدح بني هاشم فقال:

فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها

ويا حاطباً في غير حبلك تحطب

ألم ترني من حب آل محمد

أروح وأغدو خائفاً أترقب

أناس بهم عزة قريش فأصبحوا

وفيهم خباء المكرمات المطنب

خضمون أشراف لها ميم سادة

مطاعيم أيسار إذا الناس أجدبوا

إلى أن قال:

وقد غادروا فينا مصابيح أنجما

لنا ثقة أيان نخشى ونرهب

أولئك إن شطت بهم غربة النوى

أماني نفسي والهوى حيث يسقب

ثم ختم ذلك كله بوصف ناقته كما فعل في ميميته فقال:

فهل تبلغنيهم على بعد دراهم

نعم ببلاغ الله وجناء ذغلب

مذكرة لا يحمل السوط ربها

ولأياً من الإشفاق ما يتعصب

إلى أن قال:

كأن حصى المعزاء بين فروجها

نوى الرضخ يلقي المصعد المتصوب

إذا ما قضت من أهل يثرب موعداً

فمكة من أوطانها والمحصب

عبد المتعال الصعيدي

ص: 61

‌إلى شباب القصصين

كيف احترقت القصة

قصة المستر فرانك سونيرتن

للأستاذ أحمد فتحي

إن ثلاثين عاماً قد تصرمت بعد إخراج قصتي الأولى سنة 1909. ولذلك فإني أعتذر من عدم تذكري سوى القليل من محتوياتها

كنت في ذلك الحين أعمل في بعض مكاتب النشر، أراجع (البروفات)، وأحرر بعض الرسائل إلى المؤلفين ورجال الطباعة لقاء خمسة وثلاثين شلناً في الأسبوع

وكان من عادتي أن أتناول وجبات طعامي في بعض مشارب الشاي، أو في مطعم رخيص في (سانت مارتن لين) يقال له مطعم (سانت جورج). وبعد أن أفرغ من عشائي تتشعب بي المسالك، فأما أن أذهب إلى ملهى للتمثيل! أو أمضي إلى حيث أسمع محاضرة واحد من الأعلام، وأتوجه إلى بيتي لأكتب بعض الخواطر على منضدة تخيط عليها أمي الثياب، ويرسم عليها أخي بعض الصور لبعض المجلات التي تصدر من أجل الناشئة!

ولم تكن آمالي معلقة باحتراف القلم بل كان من ودي لو أغدو صحافياً لا قصصياً. غير أني كتبت قصة طويلة كاملة وأنا في الثامنة عشرة، ثم أحرقتها! وأتبتعها بأخرى وأنا أبن عشرين ولكنها كانت قصيرة جداً، وكان أسمها (الطريق الحق) عرضتها على ستة من رجال النشر قبل إحراقها. غير أن واحداً من هؤلاء الناشرين جميعاً لم يرفضها بطريقة تبعث على اليأس، بل أعادوها إليّ مصحوبة بكلمات التشجيع، وبعد تجربة أخرى، كتبت قصتي الأولى الناجحة (القلب السعيد)!

وكانت قصة (القلب السعيد) على ما أذكر تنتظم طائفة من الشخصيات، منها البطل، وهو شاب مرح موفق في مثل سني وشقيقته، وصديق له، وحبيبته، وأمه، وأبوه الذي كان يغشى حقيقة حاله غموض كثير. . . كما كان من الشخصيات الملحوظة كذلك فتاة خادم في مشرب، ورجل آخر غير موفق إلى خير

لم تكن لي شقيقة، ولا أب، ولم أكن أعرف - في ذلك الحين - مثل تلك الفتاة الخادم في

ص: 62

مشرب الشاي، ولا مثل ذلك الرجل الذي يخطئه التوفيق على الدوام، وأما الأم فقد كانت تختلف تماماً عن أمي، التي كانت أقل النساء إيثاراً لنفسها، وأملهن خطوة بالسعادة! وهكذا لم يكن في القصة من شيء قد استوحيته الحقيقة الماثلة سوى البطل الشاب المرح الموفق. وكذلك لا تعدم الحياة وجود أمثاله على الدوام!

كان هذا الشاب أجنبياً عن البلاد، يشتغل في وكالة لبعض الأعمال الخارجية، وقد عرفته عن طريق أخي الذي كان صديقاً له، وكان يعول أخته، ويجهد أن يعين حبيبته على أمور حياتها. وقد حدث أن خرج وإياها في نزهة، وانتهى بهما المطاف إلى مشرب الشاي، حيث اتفق أن رأته يقبل الفتاة خادم المشرب. ولقد جرت على هذه الأزمة الأخيرة - في القصة - تعنيف صديقه كانت على وشك الزواج، إذ ساءها أن بطل قصتي لم يكن على شيء من متانة الخلق ولا الثبات على حب واحد!

ولست أدري ماذا حدث لقصتي بعد ذلك من حيث تسجيل الحوادث، ولا أظنها كانت متأثرة بواحد من كتاب السلف، عدا (لويزا آلكوت) التي كنت قد قرأت له أقاصيص متتابعة منذ عام 1894

وحين التفت إلى الوراء ثلاثين عاماً، يبدو لي أن مؤلف (القلب السعيد) رجل آخر لا يحمل اسمي ولا يمت إليّ بسبب. وإن صورته الشمسية لتنطق بأنه كان ذا رأس مستطيل، غزير الشعر، وأنه كان بارز عظمتي الوجنة، قصير النظر برغم بريق عينيه، كما أنه لم يكن من النوع الذي تسهل قراءة عواطفه وخلقه من صورته ومظهره الخارجي، سوى ما كان يبدو عليه من إمارات الجد والوقار؛ التي يتميز بها علماء الشباب، ولكنه - إذا صدقت ذاكرتي - لم يكن على شيء من الجد ولا الوقار! كما أنه لم يكن من العلماء بحال!

كتبت (القلب السعيد) في الأمسية وأيام العطلات الأسبوعية، خلال أربعة شهور أو خمسة، وكما صنع (شكسبير) في قصته (بن جونسون) لم أكن أعمد إلى تجفيف سطر واحد!

وكما أن فرصة النشر لم تكن حينذاك أكثر من وهم يتأرجح ويضطرب في ذهني؛ كذلك كانت هذه الفترة من الزمن أهنأ أيام حياتي. . . فقد كان من الفكاهة المستملحة أن أخترع أناساً لا أعرفهم، وأروي عنهم قصة فضفاضة الفصول، ثم أعمد إلى تسجيل الاختراع والحديث في سطور! ولقد سمعت بعد ذلك أنني طالما ضحكت في كتاباتي ضحكاً طليقاً؛

ص: 63

ولكني كنت أضحك من غير أن أعني. . . ومن المحقق على أي حال أن كتابتي على تلك الحال لم تكن منجاة لي من الجمود أو الاستخذاء! لأن الكاتب كلما كان مرحاً، وكلما كان له أصدقاؤه وملاهي حياته، وكلما كان مستمتعاً بمحاسن أيامه إلى غير حد - كان غير ذي حاجة إلى إجهاد خياله لافتعال المفاجآت والحوادث. على أن تفكيري كان حاداً بالتأكيد، ولكنه لم يكن علمياً منظماً. وكان تكوين جسدي متيناً. غير أن سلسلة من الأمراض الموهنة قد تركتني سقيم الجسد هزيلاً، غير قادر على مباشرة الألعاب الرياضية، وكل حظي منها لم يكن - فيما سلف - أكثر من العبث بكرة صغيرة في شوارع (لندن) الخلفية! غير أني كنت كثيراً ما أتروض بالسير على القدمين، كما كنت أطلع في سعة، وأفكر في إتقان، وأغشى مدينة (لندن) وريفها بين رفقة يفوقونني خبرة بالحياة، كما كنت قليل الحفل بالمستقبل!

أستطيع أن أقرر أني لم أتوخ في كتابة (القلب السعيد) نهجاً خاصاً أدين به في الحياة الواقعة نفسها. كانت تروق لي نظرية (الاشتراكية) بيد أنني لم أكن أتحمس لها تحمساً فعلياً ولقد كنت في تلك الأيام، حين كان رزقي خمسة وثلاثين شلناً في الأسبوع، كما أنا اليوم. . . بعد أن أتسع رزقي كثيراً. . . شديد الإيمان بأن كل إنسان إنما هو الذي يصنع دنياه الخاصة! بغض النظر عن موارد رزقه. كما كنت ولم أزل شديد الإيمان بأن السعادة إنما هي ذخيرة شخصية، تصونها الطبيعة المرحة السامية أكثر مما تصونها الاعتبارات الاقتصادية! وهذه الطبيعة المرحة هي التي جلوتها في شخص بطل (القلب السعيد) فلقد شرق في الأرض وغرب في غير كبير اهتمام وفي غير ما صرع أو جهاد! ولكنه كان يتعقب الحب الذي يجده القارئ في آخر القصة، ومثله الأعلى لم يكن يعدو الزواج السعيد، وبيت الأسرة، والأطفال، في قناعة بالقليل ورضي بالواقع!

وحدث في عام 1908 أن المستر (فيشر آنون) الناشر المعروف، أعلن مسابقة قصصية عامة، أرصد للفائز الأول فيها جائزة قدرها مائة كاملة من الجنيهات. وكان هذا القدر من المال خليقاً أن يسيل له لعاب مثلى. . . ولذلك أنجزت كتابة قصتي (القلب السعيد) وتقدمت بها بين المتسابقين. وأعقبت ذلك نتيجة محتومة مرتقبة، ولقد كان يرضيني أن أكون عاشر الفائزين إلا أنني لم أربح. . وكان صدمة لي، ولكنها لم تكن شديدة القسوة، وبعد ذلك أتيح

ص: 64

لي حظ نادر. . .

كنت - كما قدمت - أعمل في ذلك الحين ببعض مكاتب النشر: أقرأ (البروفات) وأحرر بعض الرسائل، وكان رئيسي في ذلك العمل رجل أسمه (فيليب لي وارنر) كان يعمل معي قبل ذلك في مكان آخر، وكان قد قرأ لي من قبل قصتي القصيرة (الطريق الحق). وقد اتفق أن سألني بعد فشلي في المسابقة ماذا أكتب، فلما رويت له خبر المسابقة ودخولي بالقصة الأخيرة وفشلي، طلب أن أطلعه على تلك القصة، فأجبت رغبته. وبعد أن قرأها دفع بها إلى ثلاثة من أصدقائه الذين يعتد برأيهم. وإني أقرر هذا حتى لا يتوهم بعض البعيدين عن محيط النشر أن فيه سبيلاً إلى التحايل. . . وبعد أن تلقى الرجل آراء أصدقائه هؤلاء طلب إلى إحداث بعض التحوير في القصة، وأعداً بنشرها بعد ذلك. ومن عجائب المصادفات أنه كاشفني بذلك في نفس اليوم الذي كنت أحي فيه عيد ميلادي الرابع والعشرين!

تحدث كل الأصدقاء بحسن حظي، وكانوا جميعاً يشكون في نجاح قصة أنا كاتبها. وقد جاء نجاحها منافحاً عن كفايتي! والحق أنه كان لي على الدوام أصدقاء يقفون في صفي لموجهة ما يكتنفني من أخطار الغرور في النفس! ولم أكن أغضب لهذا أبداً. بل على العكس من ذلك، كنت دائماً أعترف بما كانوا يغمرونني به من صفوة المودة.

ولم يكن الكتاب (القصة) عملاً جيداً تماماً. فلقد كان مكتوباً في سرعة فائقة وفي قلة اكتراث. وكان بذلك أبعد ما يكون من صفات العمل الأدبي الجدي، وأبعد ما يكون من الجدارة بالكتابة عنه، أو مديحه، ولكنه على أي حال كانت تميزه ظاهرتان ينبغي أن يعني بهما كل شاب يريد أن يكتب قصة؛ فقد كانت فيه جدة أصيلة ملحوظة، فضلاً عن اندماج المؤلف في الشخصيات التي خلق منها أبطال قصته!

وبعد ظهور الكتاب، بهرني ما استقبلته به الصحف التي تحفل بفن القصة، والحق أنها كانت رفيقة به كريمة عليه. فقد امتدحه كأنما يتفرد كاتبه بعبقرية من طراز خاص! وقارنته بأعمال (ديكنز) الخالد! وأسرفت في التنويه بما فيه من أصالة وطرافة. بل لقد بلغ من كرم محرر (المانشستر جارديان) أنه قال: (. . . لقد بدأ المستر فرانك سونيرتن - أنا - أعماله الأدبية بإحدى الروائع. فقد جعل أبطال قصته في ارتباط وثيق، كما أقاض عليهم

ص: 65

حيوية ملحوظة؛ وكل ما في كتابه يعتبر هدية ممتازة إلى الفن القصصي من الشخصيات، والطبيعة، والحوار. وليس بعد ذلك من شيء يجعل القصة جديرة بالنشر، خليقة بالإقبال!

ونفذت سبعمائة نسخة من الكتاب في موسمه الأول ولم يكن هذا أمراً مرضياً تماماً. ولكنه لم يكن في تلك الأيام نتيجة سيئة. فقد بلغ نصيب الناشر من ثمن هذه النسخ ثلاثين جنيهاً. بينما أخرج (أرنولد بينت) كتابه الأول فلم يكسب أكثر من جنيه واحد بعد أجر من وقع فصوله على (الآلة الكاتبة)!

واستأنفت الكتابة بعد ذلك، لأن الناشر تلقى تشجيعاً كافياً لأن يتفق معي على نشر قصة أخرى. وهذه أيضاً حقيقة لها حظ من الأهمية. فان القصة الأولى للكاتب إن لم تكن أكثر من محاولة غير ناجحة، فان قصته الثانية خليقة أن تكون بداية طيبة لاحترافه هذا الفن!

وأنا الآن لا أكتب قصصي بالسهولة التي كنت أكتب بها منذ ثلاثين سنة. والواقع أن الإنسان كلما تقدمت به السن تزايد شعوره بصعوبة التمشي مع كل الأساليب! وشعوره بتضاؤل استقلاله وحقوقه كمؤلف. ولكن، حينما كنت أكتب قصتي (موسم الفكاهة)، وأنا ابن ثلاث وخمسين سنة كنت أحس بذلك النشاط الذي كان لي حين كنت أكتب (القلب السعيد) قبل ذلك بثلاثين عاماً كاملة.

وحين شرعت في كتابة هذا المقال لم أكن قد تصفحت كتابي الأول منذ ظهوره، ولكني وجدتني مضطراً إلى ذلك حين هممت بتدوين هذا الفصل، لأكتشف ذلك الموضوع الذي دارت عليه فصول كتابي الأول الذي أشعر بأني مدين له، إذ مهد لي السبيل إلى فن من الحياة لقيت فيه ألواناً من السعادة.

فرانك سونيرتن

ص: 66

‌جنون الأقوياء

للأستاذ عبد الرحمن شكري

ملكوا الأرض واستباحوِا حَماها

واستطالوا بِجِنَّةِ الأقوياء

وسعوا ينشرون في الأرض سرا

مُنْكَراً في شريعة الأتقياء

تارة في الخفاء بالمكر يَعْدُو

ن وطوراً في جهرة العظماء

أَهْوَنُ الْوِزْرِ مَا أَتَوْنْ جهاراً

من صيال وقسوة وبلاء

والذي في الخفاء أقتل للنف

س وأقسى لصوله في الخفاء

إن رأوا نقص أنفسٍ في خصوم

استزادوه بالأذى والدهاء

أفسدوا أمرهم ودسوا دُعَاةً

كي يَهِيجُوا تشاحن الأشقياء

واستمالوا سمع اللئيم بلؤْم

زاده خِسة على الأدنياء

كصيال الشعوب بالمكر والكي

د وإنْ أحرزت صفاتِ العلاء

حَلّلُوا للوشاة أن تشتفي من

لاعِج الحقد بالأذى والعداء

خدعتهم أرصادهم أم رأوا أنَّ

سماحا بشرهم كالجزاء

مَكَّنُوهُمْ مما ارادوا من الش

ر جزاءً لَخوْنِهِمْ والرياء

ذاك أنَّ العدوّ أرخصُ شأناً

مِنْ تَحَامِي الإجحاف في الإيذاء

قَرَّظُوا العلم والحضارة جهراً

وتقَاةً لله أو للقضاء

ثم ساسو بالختل في السر ما شا

ءوا وشاءت جوامح الأهواء

لا رقيبٌ على الخفاء ولا الصو

لةِ فيه ولا عديمِ الحياء

عدموه للكفر بالله والنا

س سوى ما رجوا من الآلاء

عَلْمَ العِلْمُ إنما النا

س كَنَمْلٍ سَوَاؤُهمْ كَسَواءٍ

زعموا زعمهم وسموه علماً

واستطالوا بلؤْم ذاك الذكاء

وأباحوا لِحِقْدِ كل وَلِيّ

مُثْلِجاً نار إحنة الأحشاء

ثم قالوا وسَطَّرُو في ضمير

إنه من ضرورة الأشياء

قِسْ على ما بدا من الشر جهراً

في حروب ونزوة وعداء

ما أَجَنُّوهُ وهو أبلغ في الكِذْ

ب وفي كل قسوة واعتداء

ص: 67

وقديماً جُنَّ القَوِيُّ بما طا

ع له من تزلف الضعفاء

وضعوه في منزل الله كُفْراً

فطغى واستباح سفك الدماء

ورأي الخير والفضيلة ما شا

ء وإنْ كان من أذى الأدتياء

ورأى الشر والكبائر ما عا

ف وإنْ كان سيرة الأبرياء

وكذا المرء وهو ليس وَلِي ال

حُكْم يطغى بنصرة اللؤماء

وسواءٌ شعب وفردٌ وذو السل

طان أو سادر من الدهماء

صنعوا الشر حِسْبَةً ولوجه ال

له، شاهت وجوههم من رياء

أو لحقدٍ قد مَوَّهُوهُ بخير

وتباهوا بحسن ذاك لطلاء

أو برأي الأحرار صاغوا قيوداً

واستباحوا في الناس سفك الدماء

وجنون القَويِّ أقبح من قو

ة وحش يقوى بغير ذكاء

إيهِ لغز الحياة هل دورة لل

شر والخير غير ذات انتهاء

لعبة ما أراه أم خَبَلُ الأن

فس أم نزوة من الحَمْقَاءِ

إحَنٌ في الحياة مثل خطوط

نسجوها في البُرْدَةِ السِّيرَاء

فغدت نُهْزَة الفنون هو الفَنُّ

كَنَخْلٍ يشتار أَرْىَ الشقاء

هل لِسِحْرِ الفنون أنْ دَلَفَ الده

ر وساغ الأنامُ لُؤْمَ البقاء

سحرها يترك اليَبَابَ عماراً

حافلاً بالنعيم والآلاء

ويُحِيلُ الخسيسَ من معدن العي

ش شريفاً بصنعة الكيمياء

عبد الرحمن شكري

ص: 68

‌فلسطين

للأستاذ عبد اللطيف النشار

أتلك فلسطينية الكرْم فاسقني

سلافاً غذاها بطن واد مطهر

سقاني نجيب جرعة فتمثلت

مناظر من شتى عصور وأدهر

كأني أماشي الناصريَّ وصحبه

إلى هيكل نائي الجوانب نير

فحطم ما استعلى بها من زخارف

وهوَّن أمر التائه المتجبر

تضاءلت الأحبار في ذرواته

أمام عزيز ليس بالمتكبر

وذلت أنوف شامخات إلى الذرى

وضاق الثرى منه بكنز مبعثر

فلسطين هذي لا يتيه بها الغنى

فبشر بذل كل خد مصعر

ومستضعف فيها قليل نصيره

يعود على الدنيا بنصر مؤزر

فلسطين هذي تنكر اليأس أرضها

وما هو في أرض سواها بمنكر

رأيت بها الأموات تحيا فجاءة

أأرض فناء تلك أم أرض محشر

وعينين عمياوين دنياهما الدجا

تبلجتا مثل الصباح المنور

وأبرص تؤدي العين رؤية جسمة

فقرت به العينان من حسن منظر

وما كان عهد الله فيها لينقضي

ولا كان عهد الله بالمتغير

عبد اللطيف النشار

ص: 69

‌مناجاة صورة.

.!

للأديب رفيق فاخوري

إليك أبثُّ رسيس الهوى

وأكشف عن جرحه فَأذن

لديك الضماد فَدَاوِ الجريح

ومُدَّ يد الراحم المحسن

تعهَّدْ جراحي ونحِّ الطبيب

فإن البلاسم لم تغنني

لحاظك منها تشعّ الحياة

فيا عجباً كيف لم تحيني

وهذا المحَّيا الحبيب الرواء

أثار شجوني فأشقينني

وثغرك وهو معين الظماء

أجدَّ غليلي ولم يسقني

جلالك المصوّر لي آية

حجبت سناها عن الأعين

وقلت: ألا فاسرحي في الخيال

وهبّي على قلبي المدجن

هبوب الحياة على الهامدين

وعرف الورود على المجتني

وصوني بهاءك عن لامس

وحسنك عن ناظر ممعن

نفارك أحلى فلا تركننّ

إلى الناس يوماً ولا تسكن

فإني أخشى عليك الغرام

وأشفق من دائه المزمن

على ناظريك دلال الصبا

ووجهك روض النعيم الجني

وأنت - على قدرة في الجنون -

أرقُّ وأندى من السوسن

ومثلك يغوي الخليّ البريء

ومثلي عن صبوة لا يني

تمتع بحسنك يا فاتني

فعود صبائك قد ينحني

وقد يخلق العمر هذا الجمال

وتذهبه غولة الأزمن

وتسري الكهولة في مائس

يطير له القلب إذ ينثني

(حمص)

رفيق فاخوري

ص: 70

‌البريد الأدبي

عصمت ابنونو

انتخب المجلس الوطني في أنقرة القائد (عصمت إبنونو) رئيساً للجمهورية التركية، وهو من نوابغ الترك، وقد قالت الصحف الغربية والشرقية إنه أعظم رجل عند القوم اليوم. ومما يعرف عنه أنه ذو أخلاق عالية، منها التواضع والحياء، وهو من بيت تقوى ودين، وأبوه ورع صالح، وقد ورث عنه شيئاً كثيراً، وبينه وبين أسرة عربية في فلسطين قرابة. وأذنه عن لغو الناس صماء. . ومن قول الأمير شكيب أرسلان فيه - وقد لاقاه في لوزان حين ذهب إليها رئيساً للوفد التركي بعد الانتصار وذاك الصيت الحربي وكانت له في المؤتمر تلك الشهرة السياسية:(وجدت أعضاء الوفد التركي جميعهم يحملون حقداً على العرب حاشا عصمت باشا)

فهل تتلاقى في عهد هذا الرئيس قلوب ألف بينها الإسلام وكادت تفرقها حوادث الأيام؟

ماذا يرى ج. ب. بريستلي؟

لخصنا للقارئ في الأسبوع الماضي رأي برنرد شو في شباب هذا العصر ووسائل التعليم فيه. وكان أهم ما عرض له شو أنه لا يعترف لأحد من معلميه في شرخ شبابه بفضل عليه، وأنهم كانوا آلات شيطانية لكبت غرائز التلاميذ وكف أذاهم عن أمهاتهم لا غير، وأنه لا يذكر مدرسته الأولى بخير سواء أكانت مدرسة أو جامعة، وهو يفضل تعميم المدرسة الابتدائية كمرحلة أولى لتثقيف النشء ولا يرى مانعاً من تدريس المواد الجافة لأنها تنفع في المستقبل وضرب لذلك مثلاً بجدول الضرب وأوصى بضرورة لباقة المدرس في تدريس هذه المواد، ثم تكلم عن الجمع بين الجنسين في غرفة الدرس فلم ينكره بل حتمه، وذكر الكتب التي كان لها أكبر الأثر في توجيهه الأدبي فخصص ألف ليلة وليلة الكتاب العربي الخالد ورحلة الحاج لجون بنيان وروبنصون كروزوليفو وختم حديثه بضرورة تعليم الخلط على أن يكون مادة مستقلة

وقد اطلعنا بعد ذلك على رأي ج. ب. بريستلي فرأيناه يعتذر عن الإجابة عن هذه الأسئلة (بالقطاعي!) لأن الأسئلة (القطاعي) أو التي لا رابط بينها تربكه، ثم هو لا يستطيع أن يبدي رأيه بصراحة في مدرسي المدارس إطلاقاً لأن أباه الذي ما يزال حيَّاً يرزق ما يزال

ص: 71

مدرساً في مدرسة أولية كذلك. . . وفي قوله هذا جزء من رأيه. . . وقد ذكر أن أبناءه تلاميذ في مدرسة داخلية وقد أختارها لهم لا عن تفكر وتفضيل، بل مدفوعاً بتيار العصر والعرف! أما أحسن ما يجب أن يتحلى به المدرس فهو أن يكون ذا حماسة لفنه ومقدرة طبيعية على النقد بحيث يؤثر في تلاميذه وينمي فيهم غرائز النقد والذكاء والبصر بالأشياء. ثم نعى على المدرس أن يكون متحذلقاً موحشاً. . . ولا جرم فهذا المدرس يكون قليل الثقافة قليل الخبرة، وعلى ذلك يكون أخيب المدرسين!

وبريستلي يحبذ الجمع بين الجنسين في التعليم على شريطة أن يفصل بينهما بعد الرابعة عشرة. أما ما يؤخذ على شباب هذا الجيل من الكسل والفظاظة وانعدام روح المجازفة، فهو لا يرى ذلك ولا يوافق عليه ويعزو القليل منه الملاحظ فيهم، إلى روح العصر نفسه، لأن روح العصر حببت إلى الناس الترف والعيش على هامش الحياة دون التوغل في أعماقها، ولذا لا يلومهم على أنهم قُنَّع. . . لأنهم إذا عدوا طور الشباب إلى طور الرجولة أقبلوا على مصاعب الحياة وتمرسوا بها، فلو علمناهم قليلاً من النظام لظفروا بكل ما واجههم فيها

13 نوفمبر والأدب

مما يؤسف له أن تصدر مجلاتنا الأدبية وليس في واحدة منها إشارة إلى 13 نوفمبر. ولسنا نستثنى الرسالة من تلك الملاحظة بل نحن نكاد نحصها بها لأن 13 نوفمبر هو يوم فاصل بين حياتنا ومع ذاك فقد صدرت الرسالة مساء ذلك اليوم وليس فيها إشارة إليه. . . والمجلات الأدبية تعد ثبتا للحوادث وسجلاً لتوقيعات الأمة، ولم يكن أولى من الرسالة بأن تكون كذلك. ثم نحن نبحث عن صوت الأدباء في ذلك اليوم فلا نكاد نسمع لهم ركزاً، مع أن اليوم هو يومهم قبل أن يكون يوم الساسة الذين أقاموا السرادقات ليطعن بعضهم بعضاً وليوجه بعضهم إلى بعض أقذع ألوان السباب والتشهير والشتم، وهم في ذلك ينسون أنهم قادة أمة وزعماء شعب وكان أليق بهم ألا يظهروا بهذا المظهر الزري. ولكن المسئول عن هذا هم الأدباء لأنهم سمحوا للسياسة بأن تطغى على الأدب في هذا اليوم المقدس الرهيب الذي يحمل للأمة ذكرى جهادها. . وتلك ملاحظة عسى أن تنفع في السنة الآتية

د. خ

ص: 72

دار العلوم وكلية اللغة العربية

الذي ينكر فضل دار العلوم في نهضة اللغة العربية في الشرق الحديث هو ضال جاحد قلبه، ولكن الذي ينكر أن كلية اللغة العربية هي شيء عظيم جداً في حياة الأزهر الحديث هو رجل لا يتصل بنهضة هذا البلد ولا يدري عن أطيب ثمارها شيئاً. . . فكلية اللغة العربية التي لا يدخلها إلا حامل ثانوية الأزهر والتي يدرس الطالب فيها لباب هذه اللغة وآدابها ثم يعود فيتخصص في التربية أو علم النفي أو أدب اللغة أو التاريخ على نخبة من جهابذة للعلماء المصريين من رجال الجامعتين ودار العلوم. . . هذه الكلية هي منشأة جديرة بالاحترام والفخر والعطف. . . ومصر مع ذاك في حاجة إلى المعهدين معاً، وكنا نطمع في أن تشتد أواصر المحبة والعلم بينهما بجامع الثقافة ووحدة الغرض، لا أن تدب عقارب الغيرة بينهما فينتقص أحدهما الآخر من أجل مناصب التدريس في معاهد الحكومة. . ونحن نرى أن تتدارك الحكومة هذه الحالة فتجعل مناصب التدريس الخالية في معاهدها قسمة عادلة بين المعهدين. . على أن لنا رأياً في ضم المعهدين سنبديه في حينه

عناية وزارة المعارف العراقية بحركة الترجمة والتأليف

قالت جريدة الأخبار البغدادية: -

وجهت مديرية التربية والتدريس العامة بوزارة المعارف في بغداد كتاباً إلى كل خريج مدرسة عليا من الشباب الدارس في خارج العراق يتضمن تنبيه معالي الأستاذ رضا الشبيبي وزير المعارف في تنشيط حركة الترجمة والتأليف، وقد رجت من هؤلاء الشبان المتعلمين أن يقوم كل منهم بتعريب الكتاب الذي يختاره في موضوع اختصاصه على أن يكون في نشره فائدة علمية في خدمة الثقافة في العراق والبلاد العربية عامة. على أن يقوم المترجم بأعلام مديرية التربية والتدريس بالكتاب الذي وقع عليه اختياره قبل الشروع في الترجمة.

وفيما يلي نص كتاب وزير المعارف في هذا الصدد:

لوحظ أن حركة الترجمة والتأليف العامة في البلاد ضئيلة الإنتاج، ولما كانت هذه الوزارة حريصة جداً على تشجيع الإنتاج العلمي وعضد حركة الترجمة والتأليف بجميع الوسائل

ص: 73

المستطاعة نرى أن تذيعوا على كافة خريجي الجامعات والمعاهد العلمية العالية سواء كانوا موظفين في هذه الوزارة أو غيرها أن هذه الوزارة على استعداد أن تعاضدهم في نشر ما يقومون بترجمته من الكتب القيمة كل في موضوع اختصاصه إما بشراء حق الترجمة إن قبل تقرير الكتاب في المدارس أو بغير هذه الطريقة. هذا على شرط أن تقتنع هذه الوزارة بأن العمل يؤدي إلى خدمة نهضتنا العلمية أو الفنية في العراق.

أمة عربية تزول!

كان للكلمة الموجزة التي كتبناها عن مصير طرابلس الغرب تحت حكم الدوتشي (حامي الإسلام!) صدى قوي في البلاد العربية فثارت النفوس بالاستنكار، وتحركت الألسن بالاحتجاج، وتردد ذلك كله في الصحف الحرة اليقظى، وسنقتطف منها نبذاً تدل على قوة الوحدة الشعورية في الأقطار العربية:

قالت جريدة (الرأي العام) العراقية تحت عنوان (طرابلس - برقة ضحية الاستعمار الإيطالي) بعد أن نشرت قرار المجلس الفاشستي بضم طرابلس الغرب إلى إيطاليا:

(إننا نقف موقف المتفرج على ما يراد بقوم هم من العروبة في الصميم، وقد كتبوا صفحات نضالهم ضد القوة الاستعمارية الغاشمة بدمائهم الكريمة، فأية غضبة أعلناها في سبيل طرابلس الغرب العربية وهي تتمزق إرباً؟ وأية مظاهرة قمنا بها لنعلن سخطنا ولو بالمظاهرات على هذه الهمجية التي تفرضها دولة مستعمرة هي من ألد أعداء العرب على قطر عربي استنجد بنا ألف مرة ومرة وناشدنا النجدة والمعونة؟

لحد هذا اليوم نخلع على بعض رجالات العرب صفات البطولة لمواقف مجيدة كانت لهم ضد الاستعمار الإيطالي أيام الدولة العثمانية غير العربية، أفلا يكون شيء من ذلك أثناء وجود دول عربية ذات مركز قوي إن لم تتمكن من حشد الجيوش وجمع الجموع فهي غير عاجزة عن رفع صوتها وإعلان احتجاجها على الأقل؟ أو يعيش رجال من العرب على حساب البطولة (العربية) في أيام العهد (العثماني) غير العربي وهم أتباع، بينما لا تكون لهم تلك البطولة عينها أو بعضها وهم سادة وزعماء في بلدان عربية منبعثة من جديد؟ وما معنى هذا؟ وأية قومية عربية هذه؟

لا مفهوم للوحدة العربية التي نتغنى بها إذا كانت طرابلس الغرب أول ضحايا الاستعمار

ص: 74

الوحشي من البلدان العربية لا مدلول لها في منطق (الوحدة) ولا يعنينا أمرها بشيء، ولا تهزنا مأساتها الدامية. لا مفهوم للوحدة العربية ما دمنا لا نهاجم المستعمرين والمفترسين البلدان العربية على حد سواء. إن هذا الأمر بعيد جداً عن الوحدة بل عن الوطنية (ما دمنا نقول بوطن واحد عربي) بل بعيد عن صفات العروبة ومزاياها.

وقالت في موضع آخر:

في جزء غال من أجزاء الوطن العربي المقدس يعيش شعب عربي أبي في بحران من الظلم الفادح والاستبداد العنيف.

شعب أعزل من كل شيء غير قوة الإيمان، شعب فقد كل شيء غير الشرف، لا يزال يقاوم الخطر الذي يكتسحه، ويرد عن العروبة الداهية التي تدهمها، شعب من هذا الطراز يعتقد أن على العرب واجباً نحوه يجب أن يؤدوه، وفرضاً له يجب أن يقضوه

إن تأييد الشعب العربي الطرابلسي البرقوي في نضاله ضد الاستعمار الإيطالي الفاشستي أمر محتم على كل عربي يتألم لألم إخوانه العرب ويخشى المصير الذي صاروا إليه، لأن عطف العالم العربي على المناضلين الطرابلسيين وتأييده لهم يزيدهم قوة فوق قوتهم وإيماناً على إيمانهم

ويفهم في الوقت نفسه المستعمرين أن قضية الطرابلسيين هي قضية العرب أجمعين، وأن على الذي يريد صداقة العرب أن يصادق إخوانهم الطرابلسيين لا أن يتزلف إليهم بيد ويبطش بالأخرى بإخوانهم. . .

حول مقال

سيدي الأستاذ الزيات

تحية وسلام وبعد فقد قرأت يا سيدي ضمن ما أقرأ لك ما كتبته تحت عنوان (شيطان) في عدد الرسالة الغراء رقم 279. والحقيقة أنك قد أتيت على وصف هذه المأساة أدق وصف وحللت شخصياتها أوضح تحليل. واغلب الظن بل ومما لا أشك فيه أن هذه الصورة ليست من نسج الخيال إنما هي بنت الحقيقة، وليس من الغريب أن تقع أمثال هذه المآسي في بلدنا هذا بل إنها واقعة فعلاً في معظم البيوتات المصرية سواء منها الكبيرة أو دونها كل على قدر ما نال. وقد اصبح هذا الداء هو (داء العصر) ولابد أنك يا سيدي الفاضل ترى

ص: 75

معي أنه داء عضال لا يرجى برؤه إلا إذا لحظته العناية وقيض الله له نطاسياً بارعاً يستخرج المصل الكافي لقتله - وهذا حسبنا - أو على الأقل يكون واقياً لبقى المجتمع شره الوبيل

وإني لأضع هذه الرسالة في عنقك فأنت خير من يرسل لرفع لوائها وينفث في الأمة روح المعرفة والتوازن بين عادات الغرب الضارة وبين عاداتنا الشرقية الكريمة كي تصلح الشئون ويسعد القوم

والسلام عليم ورحمة الله

قارئ

توحيد برامج التعليم في الشرق الإسلامي

نشرت الصحف مقالاً للأستاذ الجليل محمد العشماوي بك عن توحيد برامج التعليم في الشرق العربي تناول فيه تاريخ الثقافة العربية بعد الإسلام مشيراً إلى الوحدة في الأصل والطريقة والتفكير والغاية التي كان يسير عليها التعليم في مدارس بغداد والبصرة ودمشق والقاهرة وتونس، ثم ذكر نهضة العلوم الحديثة وتبدل روح العصر وما ينبغي لمصر أن تقوم به لتضطلع بحق بالزعامة التعليمية في الشرق العربي فاقترح أن أن تعي المدارس المصرية بدراسة أحوال هذا الشرق وعاداته وتاريخه ودعوة بعض أفراده من شعوبه المختلفة للدراسة في مصر على نفقة المعاهد المصرية وغير ذلك من الوسائل التي تسهل توحيد البرامج في بلدان الشرق فيما بعد، والتي لا يمكن تنفيذ المشروع بدونها. والمشروع بعد هذا جميل وليس خالياً كما يظن دعاة استقلال القومية المصرية أو المعارضون لفكرة اتحاد الشرق العربي لأنه لا يضر وطنيتنا في شيء، بل هو يقويها ويزيد في مقوماتها ويفتح أمام شبابنا ميادين فسيحة لخدمة إخواننا وبني عمومتنا في الممالك الشرقية. ونحن لا نشك في نجاح هذا المشروع ما دام قد نال عناية الرجال المسؤولين

ص: 76

‌الكتب

أفاعي الفردوس

ديوان الأستاذ الياس أبو شبكة

بقلم الأستاذ فليكس فارس

ديوان يحوي ثلاث عشرة قصيدة من شعر الأستاذ إلياس أو شبكة نشرته جريدة المكشوف البيروتية فاسترعت نبراته الأسماع، واستوقفت معانيه تفكير المتأملين

إلياس أبو شبكة نسيج وحده بين شعراء العرب اليوم. ولا أقصد بهذا الوصف أن أرفعه فوق أترابه، فهو وإن كان في الطليعة من نسور الخيال، لا يسبقهم تحليقاً، ولكنه يند عن سربهم نافراً من خطوط الأنوار في أجوائهم إلى مسارح الغيوم السوداء فلا يدور إلا في مقاصف الرعود، ولا يطوي جناحيه إلا ليحط قوادمه على أدواح الغابات الموحشة أو على فوهات البراكين

أو شبكة نسر ثائر مروع لا تستهويه سقسقة الجداول ولا عيون الأزهار ولا ناهدات الأثمار على الأماليد، وليس في إنشاده تغريد بلبل أو غناء شحرور. إن للنسر صرخات مدويات لا يأنس لها إلا من يتعشق ولولة الرياح على القمم، وهدير الأنهار في الأغوار

سمعت أبا شبكة يرسل أوائل صرخاته في القريض وأنا أحول أنين بلادي الخافت إرعاداً أطلقه من قمم المنابر، فكأنني سمعت جباراً إنشاده قرقعة سلاح، وأشعاره خطب قيودها دروع لازرد أغلال

ولو أن أبا شبكة لم يمد جناحيه إلى أفاق الدنيا ولم يطلق نظراته على مجالات الشعر في المجتمع الإنساني، لو أنه حصر تشاؤمه وثورته في حدود بلاده ولم يصطدم بالعواثر من آمال متقدميه، وقد ملأت منعطفات المصاعد كأنها أشلاء، لكان هذا الشاعر يتيه اليوم على أرض الناس لا أرض أجداده، لكان أختار له منفى أو اختير له منفى

من أوائل قصائد هذا الشاعر أبيات وجهها إلى منذ أربع عشرة سنة يشكو بها الحياة وهو لما يزل على عتبة الشباب وقد نشرتها جريدة الشعب، ويلذ لي بل أرى من دعائم بحثي أن أقتطف منها بعض أبيات:

ص: 77

قال مفتتحاً:

أشكو إلي قلبك يا سيدي

قلباً ثوى في حظي الأسود

أطلقته طفلاً ولما نما

أصبح محتاجاً إلى مرشد

وقال:

فارس، ما للحر من راحة

في وطن يرتاح للأعبد

ويل الشباب الغض من قلبه

إذا أضلوه ولم يهتد

يا شاعر الآلام هذا دمي

ذويته شمعاً على معبدي

هذي شكاتي يا خطيب العلى

أرفعها للرجل الأوحد

وجدت في نفسك ما لم أجد

في أنفس مخمدة هجد

لامست في أناتها ثورة

أخمدت النار ولم تخمد

هذه الأبيات يزفر بها صدر فتى لم يبلغ العشرين، فيها شرارات من اللهيب المندلع اليوم من كل بيت يرسله أو شبكة، وإنني لأغتفر له الآن إغراقه في وصفي بالرجل الأوحد لأنه كان وهو يتلفت إلي في ثورته يناجي ما كمن في نفسه من مُثل يهفو إليها

وقبل أن أعرض لديوان (أفاعي الفردوس) أرى أن أقف عند قصيدة الحجر الحي التي أنشدها صاحب هذا الديوان أمام تمثال المغفور له (فوزي المعلوف) في حفلة إزاحة الستار عنه في السنة الماضية، فأقتطف منها نماذج لاستقرار الإلهام وتطور البيان

أطبق جناحيك معقوداً لك الظفر

فقد وصلت وشوط المجد مختصر

ما ضر وكرك أن تأتيه منطفئاً

ما دام قلبك في جنبيه يستعر

عيناك في الحجر المصبوب ساهرة

يقظانة فيهما أحلامك الغرر

تواجه الليل هول الريح صاخبة

ما ضرك الذئب جوعاناً ولا النمر

نيران عبقر في عينك إن مردت

هوج الدجى فعلى عينيك تنصهر

مهما طغى الليل لا تشقيك زوبعة

إلا على جانبي وقبيك تنصهر

يقظان والناس عمى في مراقدهم

سيان ناموا على ذل أم احتضروا

عار علينا تنام الليل هانئة

عيوننا وعباب الليل معتكر

لم يبق من رومة إلا صغائرها

ومن قياصرها إلا دمي كسر

ص: 78

رفعت عنك ستار الناس منتفضاً

أيحجب الخلد من يفني ويندثر

هذي الستارة كانت في تشددها

عليك آخر قيد شده البشر

كأنها وهي تنضى خلعة كذبت

من الفناء لحاء عنك يقتشر

منذ ابن مريم والأكفان هاوية

عن النبوغ وصخر القبر منحدر

كم في بلادك من نفس تود على

وقاح عورتها أن تسدل الستر

وبيت الختام هو هذا:

لرب حيّ غدا في قومه حجراً

ورب ميت غدا حياً به الحجر

هذا أنموذج من شعر أبي شبكة أخذناه من الأماليد ومن الجذوع وكلاهما صلب كالأرز ينقصف عوده ولا يلتوي

وإلى الشعراء الآن مقتطفات من ديوان أفاعي الفردوس، الديوان الحامل أسلوباً لا يمكن لأحد أن ينكر جدته وروعته.

وقد جاء أبو شبكة بطابع مستحدث في الشعر العربي سيبقي هو عميده الأول حتى في الزمن لذي سيكثر فيه أشياعه ويفوقون فاتح وهاتك أستاره

لم يشأ شاعرنا أن يتقدم بديوانه دون تمهيد نثري بسط فيه رأيه في الشعر فجاء بنظرات صائبات تسلسلت في درس عميق يطل فيه من شخصية شاعر حكيم له ثقافته واطلاعه الواسع وأحكامه كشرقي مستقل في مبادئه لا يؤخذ بالتيار الغربي الذي يجتاح إلهام عدد وفير من الشعراء في هذا العهد

اسمع أبا شبكة كيف يواجه مسألة الاستلهام في أوطانه:

(وإنني لأسأل ماذا ترانا نستطيع بهذا القاموس الضيق، هذا القاموس المتورد، نتشبث به للتعبير عن أعمق حقائق النفس فترفع الكلفة بيننا وبين اللغة ولا نتورع عن سلوك مهامه غائمة كأننا في حلم؛ وقد يخيل إلينا ونحن نسلك هذه المهامه أننا نسير في الطريق الشعري السوي بينما نحن في الحقيقة لا نحاول إلا الخروج عن أنفسنا مستعبدين لنظريات خاطئة بل مضرة تحرر منها حتى مبدعوها أنفسهم)

إلى أن قال مستنتجاً:

(فالمدارس الشعرية سجون، ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا؛

ص: 79

فالطبيعة هي جوه الفسيح فكيف احساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر عن هذا الجو خرج عن نفسه وكذب على نفسه)

هذا ما يقوله أو شبكة عن المدارس الشعرية التي حسن لدى الغربيين أن يدعوها مدارس. وإنا لنرى الفرصة سانحة في معرض هذا البحث لنقول كلمة موجزة عنها وعن الخطأ في تصورها وتسميتها

إذا صح أن نطلق مدارس على المذاهب العلمية والفلسفية فهل يصح أن نطلق هذه التسمية على أساليب الشعراء في بيانهم وعلى ما تستلهمه الأنفس من سرائرها ومما حولها من المشاهد؟

إن أتباع المدارس العلمية والفلسفية ينقسمون أرهاطاً على عقائد معينة تختلف إحداها عن سائر اختلافا بيناً، فهنالك طرائق وأوليات يسلم بها أشياع كل مدرسة كأنها قانون إيمان إن جنح عنه واحد منهم خرج حتما من رهطه ليدخل في رهط مدرسة أخرى. وأين في الشعر مثل هذا الإجماع ما دامت السليقة وحدها هي المتحكمة في خواطر الشاعر وإحساسه ولهجته وطريقة بيانه؟

لذلك يقول لك أبو شبكة:

(إن بول فاليري الذي جاءنا بنظريات خلقت في الأدب الغربي جيلاً مضعضعاً لم يحد عن صراط (ماليرب) ولم يتمرد على القاعدة الكلاسيكية في النظم؛ وإني لأجد في شعر فاليري أبياتاً يستطاع دسها في شعر لامارتين)

إن التضعضع الذي يشير أبو شبكة إليه إنما تشاهده بين فئة المتأدبين والمتشاعرين في كل أمة، لأن المشتهرين في كل نوع من أنواع الفنون ينتصبون في خيال محاولي الإبداع مثلاً عليا يطالبونها بخلع العبقرية عليهم كمكافأة لتقليدهم وتصنعهم

أما الفنان الحقيقي فان طابع شخصيته يتغلب على جميع المؤثرات التي تدور به والخاطرات التي تتسرب إلى سريرته من مطالعاته، فهو يريك أبداً سماءه في إنشائه، ويسمعك نبراته في موسيقى بيانه، حتى ولو تجلت في أقوال من تقدموا وعاصروه من أهل فنه

إذن ليس في الفن - وأخص منه البيان على الإطلاق - ما يصح أن يدعى مدرسة؛ وإن

ص: 80

كان هنالك من هم بحق أساتذة فليس لهؤلاء الأساتذة تلامذة بمعنى التلمذة الصحيح، إذ ما يمكن لطالب الأدب أن يستفيد من أدب معلمه سوى تقليده والسير في ركابه إذا لم يكن لهذا الطالب شخصيته المستقلة التي تجري في مسالكها مقتبسة من كل ما يدوي في أجواء الأدب من نبرات العبقرية دون أن تجاري أحداً وأن تقلد أحداً

من الذين تستمر أذواق الشعر في النهضة الحديثة شعراء تغنى الإشارة إليهم عن ذكرهم، وقد كان لكل منهم طابعه الخاص، فما كان أسلوب حافظ ليشبه أسلوب شوقي مثلاً، غير أنك تجد عشرات من الشعراء قلدوا الأول وعشرات قلدوا الثاني فنظموا على وتيرة كل منهما دون أن يبلغ واحد منهم مرتبة أمير الشعراء أو مرتبة شاعر النيل.

وإنني لا أزال أذكر ما شاهدته من ظاهرة التقليد هذه أيام إعلان الدستور حين تسنم المنابر عدد قليل ممن استوحوا الساعة فأهملوا البيان إلهاماً، إذ لم تمض أسابيع حتى غصت المنابر بالمتتلمذين فكنت تسمع أصوات أمراء المنبر وتشهد حركاتهم تقليداً، فمنهم من هو صورة مشوهة للريحاني، ومنهم من تلبس خيال الغلابيني أو مجاعص أو. . . ولكنني لم أر واحداً من هؤلاء المقلدين الذين استنامت شخصيتهم الباهتة للاستهواء بلغ مقاماً له شأنه في مراتب الخطابة

وهنالك ظاهرة أخرى في الفن الغنائي قد تدهشك إذا أنت انتبهت لما يسمعك إياه المذياع كل يوم من أصوات عديدة لأم كلثوم تخرج من حناجر عشرات المغنيات، ومن أصوات عديدة لعبد الوهاب يسمعك إياها عدد من المغنين يتزايد يوماً فيوما.

هذه هي المدارس في الفن، وما هي إلا عبارة عن تجمع كتل من المقلدين حول الأفذاذ النابغين، فما أقل عدد الهاتفين بأصوات تعلق دماء القلوب في نبراتها، وما أكثر الصخور الصماء تدوي في فراغها الأصوات تقذف بنبرة لتخنق نبرات.

هذه كلمة أؤبد بها نظرية صاحب ديوان (أفاعي الفردوس) في إنكار المدارس في الفن، أو بالأحرى في إظهار هذه المدارس على حقيقتها. وما كان أبو شبكة إلا من الثائرين على التقليد والحدود، وهو في شعره أصل مستقل لا يعرف لشعوره حداً إلا ما ينشأ من شعور نفسه

(البقية في العدد القادم)

ص: 81

فليكس فارس

ص: 82

‌المسرح والسينما

كلمتان في الفرقة القومية

وفي رواية كرنفال الحب

ليس في الأدباء، ولا بين أكثرهم تشاؤماً من الفرقة القومية وأشدهم

يأساً من استصلاحها - من يتمنى لها الراحة الأبدية، بل بالعكس كلهم

يرجو أن تعصف بها عاصفة خريف تهيئ قابليتها لحياة جديدة في

ربيع مقبل

لتشاؤم الأدباء ويأسهم أسباب وجيهة أوضحوها في شتى المناسبات، ولكن القائمين بأمر الفرقة كانوا يختلفون الأعذار لهؤلاء (المتذمرين المستاءين) يعزونها في الغالب إلى أغراض ذاتية، في حين أن ليس هناك متذمر أو مستاء، كما طاب لمدير الفرقة أن يحرف الوصف تخفيفاً لوقع التشاؤم واليأس في النفس، أو أغراض ذاتية، بل هناك كثرة من الأدباء يائسة كل اليأس من استصلاح هذه الفرقة القومية

ليس بمستغرب أن يفيض مدير الفرقة بالأحاديث ينشرها في الصحف محشوة بالوعود الحلوة والأماني الزاهرة، بل المستغرب أن يكرر هذه الوعود على نسق واحد في مطلع كل موسم للفرقة وعند اختتامه ذاهلا عن أدباء غيورين على هذه المؤسسة الأدبية يراقبون سير أعمالها حباً لها، لا سعياً وراء غرض كما يتوهم حضرة مديرها الهمام

أما سمعته يقول في جريدة البلاغ: (يمكنني أن أؤكد أن الفرقة القومية سائرة في طريقها، ونحن نعمل لاستكمال كل نقص لاحظناه فيها؛ ونحن نعلم الآن العيوب التي فينا وسنعمل على علاجها بالقدر المستطاع حتى تصبح الفرقة قادرة على تأدية الرسالة التي تأسست من أجلها) وأنت لو ناقشته الحساب على هذه الأقوال لسمعت منه قولا في المخرجين والممثلين والمؤلفين والمعربين أشد مما قاله مالك في الخمر بأسلوب شعري يلف به اللعنات بلفائف من حرير، ويتعمد تحاشي ذكر لجنة القراءة صاحبة الرأي في إقرار الرواية قبل تمثيلها كما يتحاشى ذكر أعماله وهو المسؤول الأول والأخير عن تقديم الرواية وعن إعطاء الحساب عن وقعها في نفوس الناس ومبلغ أثرها فيهم

ص: 83

أكتفي الآن بهذه الكلمة لأقف عند الرواية التي اختارتها الفرقة لحفلة الموسم، الموسم الذي قال فيه مدير الفرقة قبل أزوفه (إننا ننظر للمستقبل أكثر ما ننظر إلى الحاضر)

الرواية واسمها (كرنفال الحب) تأليف شارل ميريه وتعريب الأستاذ محمد خالد (كذا) تدور حول فتاة ربتها في الدير أمها الممثلة رامية من وراء ذلك إلى جعلها صالحة للزوجية فالأمومة كيلا تذوق طعم الحياة التي ذاقتها هي. فلما شبت الفتاة وزايلت الدير تعرفت في بيت أمها بشاب علقت به وذهبت معه إلى أقصى حدود اندفاعات الشباب

يتقدم كهل غني في طلب يد الفتاة من أمها، فتفرح لهذه السعادة، فتستدعي ابنتها لتزف إليها بشرى الحظ السعيد فتجيبها الفتاة بأنها تحب شاباً وهو يحبها وأنه سيتزوج بها، ولكنها عندما تفاتح الحبيب بالزواج يداور ويتهرب من المسؤولية فتثور ثائرتها ثم تطرده من بيتها وقتما تصادم عن سماع اعترافها له بأنها ستصبح أمَّا وأن ابنه ينبض في أحشائها، وتعود إلى أمها تعلن لها رغبتها في الزواج من الكهل الغني مشترطة أن يتم الزواج في أسبوعين

ترقد الزوجة على جرح الحب، وتوهم الزوج أن ولدها من صلبه. وفي حفلة رقص تنكرية يظهر الحبيب فجاءة لحبيبته وهو متذرع بذرائع إذكاء العاطفة النسائية وغيرتها الدائمة الاضطرام، فتلهب فيها شعلة الحب القديم وتتخاذل فيها فروض الزوجية أمام دواعي الحب

تثور الظنون في صدر الزوج وهو كهل، وعاقل، وحكيم، وإذ يتأكد أن زوجته ما برحت تكتم الحب الأول وتحن إلى حبيب الشباب، وهي تفتديه بكل ما تملك، يعمل على استصلاح سيرة حبيبها الأفاق فينجيه من ورطة مالية كادت تؤدي به إلى السجن، ويجمع بينهما في بيت واحد، ثم يعلن إخلاء السبيل لهما يتمتعان بثمرة الحياة لأنهما شابان متحابان.

هذه خلاصة لموضوع الرواية الذي أتجنب التعليق عليه لأنه يمثل ناحية من صور الحياة الباريسية طاب للفرقة عرضها في مستهل موسمها. فاختيار الرواية منوط بمدير الفرقة، والمدير يقول إن للفرقة رسالة وإنه عامل على تحقيق الرسالة. فهل رأى ووجد في هذه الرواية (الكرنفال) جميع المزايا التي تحقق رسالة الفرقة وتوائم المزاج المصري؟ وهل هو الذي فرض ترجمتها تحقيقاً للخطة التي اختطها وأعلنها في أحد أحاديثه في جريدة

ص: 84

البلاغ إذ قال ما نصه (إن عمل الفرقة الآن يمكننا من توزيع العمل بانتظام، وترجمة الروايات بناء على طلبنا، وذلك بأن نعهد إلى شخص معين بترجمة إحدى الروايات التي نراها صالحة لأن تمثل على المسرح) أو أنها فرضت عليه فتقبلها طائعاً راضياً ليقول كعادته (والله يا سيدي هذا اختيار لجنة القراءة وليس اختياري أنا) ليتنصل من كل تبعة ومسؤولية؟؟ أرجو أن يجيب حضرة المدير على هذه الأسئلة لينير لنا السبيل.

أما المسرح فقد ظهر فيه روح جديد، وإن سرنا أنه شمل الإخراج والإضاءة وحركات الممثلات والممثلين إلا أنه ساءنا بطغيانه على طبيعة التحدث فجعلها تفتعل النسق الباريسي في كر الكلام ولفه وإطلاقه بسرعة إلى حد أنني كنت أفقد جملاً بأكملها تضيع المعاني معها.

أريد ألا أنسى أن المخرج فرنسي، والرواية فرنسية، ومزاج المدير مزاج فرنسي، فلا بدع أن تعلو السحب الفرنسية جو مسرحنا المصري. وهذا يفسر لنا معنى اقتصار الفرقة على تمثيل أربع روايات في هذا الموسم، منها اثنتان معربتان، وواحدة مقتبسة في وسع المخرج الفرنسوي استيعابها وإخراجها على وجه صحيح ووضع فني مستحب.

ابن عساكر

ص: 85