المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 282 - بتاريخ: 28 - 11 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٨٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 282

- بتاريخ: 28 - 11 - 1938

ص: -1

‌إصلاح الصحافة

للأستاذ عباس محمود العقاد

من وعود خطاب العرش الأخير أن (تعني الحكومة بما يرفع مستوى الصحافة ويحفظ كرامتها، ويكفل في حدود القانون حريتها، وأن تعرض على البرلمان مشروعاً لهيئة الصحافة ينظم ما لها ولرجالها من حقوق وامتياز، وما عليهم من تكاليف وواجبات)

وهذا عمل واجب، ولكن كيف يكون؟

إصلاح الصحافة والصحفيين أمر محمود مطلوب، ولكن من هم الصحفيون قبل كل شيء؟

هذه أول صعوبة في المسألة، لأن إنشاء هيئة للصحفيين ليس كإنشاء هيئة للمحامين أو للأطباء أو للمهندسين؛ إذ كل طائفة من هذه الطوائف لها شروط محدودة ومؤهلات معلومة لا يقع الخلاف عليها. أما الصحفيون فليس من السهل تعريف الصحفي الذي يجب أن يحسب منهم على وجه يبطل فيه الخلاف

فهل الصحفي هو مالك الصحيفة؟ أو هو المحرر في مكتبها؟ أو هو المراسل لها من الخارج، أو هو مدير أعمالها؟ أو هو الكاتب أو المحصل أو الوكيل أو متعهد البيع الذي يتصل بها؟

كل أولئك يعملون في الصحافة وينتظمون تحت عنوانها، وليست مصالحهم مع ذلك متفقات في جميع الأحوال؛ فما هو من مصلحة مالك الصحيفة قد يكون إجحافاً بمحرريها وموظفيها، وما هو من مصلحة المحررين قد يكون إجحافاً بمالكها أو متعهد بيعها، وقد تتسع المشكلة بين الفريقين حتى تتناول المشكلة (الأبدية) القائمة بين العمال وأصحاب الأموال

فأما إذا قلنا إن الصحفي هو الكاتب أو المشرف على مادة الكتابة فما هو شرط الكاتب في صحيفة يومية؟ وما هو شرط الكاتب في مجلة من المجلات على اختلاف أغراض هذه المجلات؟

قد تكون الصحيفة قانونية فهي في حاجة إلى كفاءة محام، أو طبية فهي في حاجة إلى كفاءة طبيب، أو مدرسية فهي في حاجة إلى كفاءة معلم. وقس على ذلك سائر الصناعات والموضوعات

ص: 1

بل ربما كانت كفاءة الطبيب حين يكتب في صحيفة طبية ألزم من كفاءة الطبيب حين يعالج المرض في مستشفاه، لأن الكفاءة في الرجل الذي ينشر علمه على الألوف ألزم منها في الرجل الذي يقصد أفراد مسؤولون عن الثقة به والذهاب إليه. وإذا سهل الاتفاق على صفة المحرر الذي يتصدى للكتابة الطبية أو الفقهية، فما هي الصفة التي تشترط في السياسي وفي الأديب؟

لا نقول إن حصر المرشحين للكتابة في الموضوعات الفقهية أمر ميسور مأمون العواقب، فان المتفق عليه أن طائفة من رؤساء المذاهب القانونية لم يكونوا من أهل القانون في التربية والنشأة، وإن كان هذا الحكم لا يسري على كبار الشراح والمفسرين

ولكننا نريد أن نقول إن الاتفاق ميسور على الصفة الواجبة في الفقيه، غير ميسور على الصفة الواجبة في السياسي والأديب

فثلاثة من كبار ساسة العالم الآن كان أحدهم نقاشاً والثاني حداداً والثالث ابن أسكاف أخفق في صناعة أبيه

وغير هؤلاء وزراء ورؤساء وزارات كان منهم الاقتصادي والمحامي والمعلم والصانع الصغير

فإذا كانت هذه شروط قادة الأمم فما هي شروط الكاتب في صحيفة سياسية؟ وما هي شروط الكاتب في صحيفة أدبية؟

على أننا ندع الكفاءة للمادة التي يكتبها الصحفي، وننظر إلى الكفاءة التي لا غني عنها لمن يمارس الصناعة الصحفية

فليس كل قانون ضليع بقادر على ترويج صحيفة قانونية ولو كان أقدر الباحثين في مذاهب التشريع، لأن صناعة الصحافة غير صناعة الفقه القانوني، وغير وضع الشرائع وتطبيق الأحكام، فإذا اكتفيت بالصنعة العلمية فقد تستثنى بذلك صنعة الصحفي التي لابد منها لترويج الصحيفة ولفت الأنظار إليها وتنظيم إدارتها وبيعها، وقد تقضى على الصحافة وأنت تريد لها الكرامة والارتقاء

ونحن هنا في مصر لم نعرف بعد مدارس الصحافة، ولم نبلغ بعد ما بلغته الأمم الأوربية من شيوع التعليم وذيوع الثقافة العامة، فكيف تكون الصعوبة عندنا إذا كانت صعوبة

ص: 2

الاهتداء إلى (الصحفي المطبوع) لا تزال قائمة في أمة كالأمة الإنجليزية؟ وأين تذهب صحافتنا إلى جانب الصحف الإنجليزية التي تطبع الملايين وتجمع من الموارد ما يضارع موارد بعض الدول الصغار ويقرأها أناس كلهم أو جلهم متعلمون مثقفون؟

قال ويكهام ستيد الصحفي الذي زاول الكتابة في أكبر صحف العالم: (لن تخرج صحيفة من الصحف بغير مجهود مكتب التحرير أي مجهود الصحفيين الخبيرين فمن هم الصحفيون الخبيرون؟ لقد بذلت شتى المساعي لتدريب الصحفي على صناعته، وقامت مدارس للصحافة، ثم لا يزال مشهوراً مقرراً بين الكثيرين أن الناجح في الصحافة لا يجوز امتحان نجاح ولا يحصل على درجة مدرسية ولا على رخصة من رخص الحرف والصناعات، ولعله هو يشتغل بجلب الأخبار وبيع الأخبار لا يبدو في مرتبة أرفع من مرتبة البائع الجوال الذي يجمع الدريهمات في الطرقات بالنداء والصياح، إلا أن (الوظيفة) التي يؤديها الصحفيون تخولهم مكانة اجتماعية فوق مكانة أناس ينحصر همهم كله في اصطياد العيون والأسماع. فمن أين لهم هذه المكانة؟. . . أحسب أن مرجعها الأخير إلى إدراك الجمهرة العامة بالبداهة الفطرية أن عمل الصحافة الحق إن هو إلا رسالة أو مهمة، وأنها شيء فوق الحرف وغير الصناعة، وسط بين الفن وبين دعوة التبشير، وأن الصحفي الحق موظف غير رسمي وظيفته أن يخدم مصالح الجماعة الإنسانية، فهو بهذه المثابة يولد ولا يصنع، وقد يفتقر إلى التدريب والاختبار ولكنه لا يوجد في الدنيا تدريب أو اختبار يجعله صحفياً صالحاً ما لم تكن في نفسه تلك الشرارة الحية التي تميز بين الصحفي الحق والآلة الصحفية. . . وليس أحمق بل ليس أفجع في بعض الحالات من تخيل بعض الناشئين أنهم متى أفلحوا في المدرسة أو الجامعة وأنسوا من نفسهم قدرة على صوغ الكلمات فهم خلقاء أن يفلحوا في الصحافة إذا ظفروا بعمل من أعمالها، ولعلهم يضيعون سنوات من أعمارهم قبل أن يعلموا أنهم أخطئوا الطريق ولم يدركوا (المهمة التي بغيرها لا يكون العمل في الصحيفة إلا مذلة خاوية من السلوى القلبية)

هذا ما يقوله خبير من أكبر خبراء الصحافة الإنجليزية عن مؤهلات الصحفي بين أناس فيهم من أبناء الجامعات والمدارس العامة والفنية عداد من عندنا من عارفي الحروف الأبجدية، فكيف يكون الحال بيننا يوم نأخذ في انتقاء الأعضاء الصالحين (لهيئة) الصحافة؟

ص: 3

وما هي شروط العلم والاختبار التي تفصل بين الأصلاء والأدعياء؟ وما هو ضمان البقاء في تلك الهيئة مع ضمان حرية الآراء، وحرية الإغضاب والإرضاء؟

في البلاد (الفاشية) قانون صريح يجيز للوزير المختص أن يصدر قراراً حكومياً بفصل الصحفي فإذا هو مطرود من جميع صحف البلاد، محرم عليه استئناف ذلك القرار إلى مراجع القضاء

وفي البلاد الديمقراطية يباح لمن يشاء أن يكتب وان ينشئ الصحف وأن يشتغل بأعمال الصحافة دون احتياج إلى إذن من الحكومة أو رخصة بإصدار الصحيفة

فأين نقع نحن بين الطرفين النقيضين؟! أصحفيون موظفون في دواوين الحكومة؟ أم صحفيون لا يحسبون حساباً لغير قانون الأخلاق الذي يدين به جمهرة القراء؟

لسنا فاشيين ولسنا بالغين من الحرية الديمقراطية مبلغ الولايات المتحدة وبلاد الإنجليز، فلنكن وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، ولنترك بقية من درجات الارتقاء يرتقيها الصحفيون مع ارتقاء القراء أجمعين، حتى يكون القراء هم الحكم الفاصل في آداب الكتابة الصحفية فلا نحتاج في كل شيء إلى نصوص القانون وزواجر المحاكم، إذ ليس من الأنصاف أن تطلب من الصحفي أدباً فوق أدب قرائه مجتمعين، فإذا كان أدبهم كافياً ففيه الغني عن الزواجر الحكومية، وإذا كان به نقص أو تخلف فالأولى علاج هذا النقص والتخلف قبل كل شيء، لأن علاج الصحافة وحدها ليس باليسير وليس بالمفيد

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌انحني

للشاعرة أيلا هويلر ولككس

بقلم الآنسة الفاضلة (الزهرة)

انحني وتسامي بي عن هذا المربأ يا جوزفين

انحني وأشرفي من المرتفعات الدهرية، والهضاب السرمدية. أو لست ترين كيف أجاهد لأدراك القمم السنية، ولكن لافتقاري إلى الأجنحة أراني عاجزاً عن بلوغ تلك الانجد التي أتوق إلى الجري في غلاء أمجادها بكل قوى نفسي

إني ألتمس طريقي، دون أن استشعر الحزن والوحشة. لأن عوامل الشباب والأمل والصحة تجعلني أظل سعيداً. ولكن وهج الأشعة الساطعة كثيراً ما يبتلى أعيننا بالجهَر والبهَر فلا ننظر، وإذا نظرنا كنا عميان لا نبصر. وأنا أتعسعس التلاع والروابي، محاولاً تصور يفاع رفيعة، لا أستطيع الاهتداء إليها، ولذا أود أن تعلمي أن حاجتي القصوى تهيب بك أن. . . تنحني وتتسامي بي عن هذا المربأ

لم يمض وقت بعيد مذ كنا نطأ معاً يفاع هذه الطريق عينها. وأنت تعلمين كيف كانت تلك الصغائر المغوية تنفه نفسينا بل كيف كانت تلك المنحدرات التي حسبناها سهلة قريبة تعقل أقدامنا بالتعب المعيي والمزاولة المؤجلة، وتصدف بنا عن الجادة. فأنحني وتسامي بي عن هذا المربأ.

أما أنت فلم يعوقك احتفال تشمير، ولم يلبثك تأهب معاد، بل واصلت سيرك إلى الأمام في رصانة، وصعدت إلى فروع العلى في هدوء وأمن، وتركتني هنا - غير مختارة - يا حبيبتي جوزفين وسأقنع إلى النهاية باللبث في هذا المكان لأن الحياة تفيض بالوعود. . ولكن يا صديقتي، ألا تحققين غايتي القصوى فتنحني وتتسامى بي عن هذا المربأ؟ لقد غدوت قوية حكيمة مع أنك كنت ضعيفة ساذجة وقد أوتيت دقة في الحس، وصرت تدركين كل مطالب النفس، وتشعرين بأدق خوالجها وحاجاتها.

وأعرف أن العام الذي قضيته في جوار خالقك، قد جعلك خطيرة النفس، رفيعة الأهواء، مبرورة المقاصد، شريفة المساعي؛ وأوقن أنك تشهدين كفاحي، وتبصرين ما يصهر نفسي من حنين وتوق إلى تفرع ذرى المعالي وتوقل معارج المكارم.

ص: 5

فانحني وارفعيني إلى القمم السرمدية

(الزهرة)

ص: 6

‌الحقائق العليا في الحياة

الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب

(ألفاظ إذا نطقتها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)

للأستاذ عبد المنعم خلاف

3 -

الإيمان

الإيمان والفلسفة:

قالت عقلية القرن التاسع عشر المزهوة بالكشوف العلمية والناقمة على قضايا بعض الأديان وقيودها وخرافاتها التي تراكمت عليها بتوالي العصور: إن العلم والإيمان لا يجتمعان. وقد سارت في تفسير كل شيء خارج عن حدود المادة والمخابير والمعامل، بتأويل مادي وآلي، وطغت الفلسفة المادية على الفلسفات التجريدية، وأفرغت الطبيعة من (الإرادة، والعقل) وجعلتها رهينة بالصدفة وأعطت للزمن حكم التصفية والتوجيه، وأعطت القوى العمياء قوة الاختيار حتى قالت (إن الوظيفة تخلق العضو!)

وكفرت بحقيقة (السببية) والارتباط بينها وبين (المسببية). . . إلى آخر ما زخرت به كتب هذه الفلسفات مما يصل في بعض الأحيان إلى درجة الهذيان.

وقد كان يجوز أن نقبل هذه الفلسفات التي تسند إلى القوى العمياء بعض (الفاعلية) لو أنها جعلت وراء هذه القوى إرادة واحدة منظمة مختارة موجهة. ولكنا لا نقبل بحال أن تكون هذه القوى فاعلة بذاتها مستقلة عن ذلك النظام العام الموضوع بتدبير محكم، وإلا رجعنا بعقولنا إلى درجة أشبه بطور الوثنيات القديمة التي كانت تعبد بعض القوى قصوراً من عقولها عن إدراك قوة كلية عامة تدبرها جميعها)

وإن أول سؤال يرد على عقل متوسط هو: ما هو العامل الموفق بين فاعليات هذه القوى المتضادة العمياء هذا التوفيق الدائم المطرد البديع لو أن الأمر كان كما يزعمون من تسلط تلك القوى العمياء على الكون؟

والغلط الفاحش المغرور الذي لا يقبله العقل العام المتزن، أن تتخذ حياة الأرض، وهي ما هي من الصغر والضآلة، مقياساً للحكم على العالم كله فرشه وحشوه وعرشه!

ص: 7

وقد وصل هذيان هذه البلبلة إلى حد فظيع من الرجم بالغيب باتخاذ الفروق التي تساق في الأصل لملء بعض الفجوات التي بين حقائق العلوم كأساس مسلم للحكم عليه، مثلما اتخذوا الأثير، وليس هو أكثر من فرض فرضه بعض العلماء ليحل به بعض مشاكل الطبيعة، ولا يزال هذا الفرض بين رفض وإثبات إلى اليوم.

ويتعجب العقل البسيط السائر مع أبجديات الطبيعة من أن يصل تفكير بعض الناس - بله كبار الفلاسفة - إلى مثل ما وصل إليه من هدم الحقائق بالفروض!

ليس المقصود من الحياة الفكرة ألا يرضي العقل بالأوليات الظاهرة المسلمة وأن يمعن في الغوص والتعقيد ليخرج بفروض غريبة شخصية ليحل بها ما لا يفهمه من قضايا الكون كما هو الطابع الغالب على الفلسفات، وإنما المقصود من الحياة الفكرية أن يكون التأمل فيها ممهداً للإثبات والعلم اليقيني. فلا يفلت الخيال في حالة الصحو كما يفلت في حالة النوم أو التخدير. . . وما من شك في أن عصور الفلسفة كلها لم تفد الإنسانية بمقدار ما أفادتها الطريقة التجريبية التي دعا إليها فرنسيس بيكون فإنها الطريقة التي قفزت بالإنسانية إلى أسباب رقيها السريع في القرنين الأخيرين، لأنها تركت عالم الأحلام والبدوات والفروض الشخصية التي قد لا تفهم إلا في رءوس القائلين به وقد لا تكون ناضجة الفهم في رءوسهم أيضاً. . . واتخذت البديهيات البسيطة والمركبة أساساً بنت عليه صرح العلم الحديث

ولقد كان جزاء هؤلاء الذين يسرفون في اتباع الظنون والفروض ويتركون البسائط المعقولة بالبديهية إلى الأوهام، أن يعيشوا منكدين أشقياء متشائمين مرضى مضروبين بالشك والألم والبلبلة والشذوذ منفيين من الحياة! وهاهم أولاء أبو العلاء وشوبنهاور ونيتشه أمثلة تضرب في ذلك. . .

إن شوبنهاور قد كذب كذبة بلقاء، وخرف خرفاً عبقرياً! حين زعم أن العالم معدوم لا وجود له إلا في تصورات الإنسان. . وحين أسند العمى والهوج إلى (روح الوجود) وحين زعم أنها لم تدرك نفسها إلا في عقل الإنسان وشعوره، ولذلك أراد أن يغيظها بتمرده عليها وترك ملذاته التي هي ملذاتها في واقع فلسفته. . وكان الأولى بشجاعته هذه أن يقضي على جسمه جملة واحدة حتى يغلق باب المتاع الذي فيه أمام روح الوجود المتعطشة إلى إدراك

ص: 8

نفسها فيه وتمتعها بذلك الإدراك. . .

إن أقل ما يجب عقلياً (لروح الوجود) وخالق هذا الكون العجيب أن يتصف بصفات الإنسان العادي المتوسط المحترم بين الناس - بله السوبرمان - فكيف يسلبون المشيئة الغالبة على الكون الصفات الضرورية لبعض ما أوجدته؟! كيف يعطى الخالق ما لا يملك هو من صفات التدبير؟

مهما فلسف الإنسان فلن يستطيع أن يهدم الإيمان العام بحقيقة (السببية) البديهة المستقرة في كل نفس إنسانية أو حيوانية استقرار وجود تلك النفس.

ومنذ عهد (طاليس) إلى الآن ما استطاع فيلسوف أن يغزو فطرة الإنسانية في إيمانها بهذه الحقيقة وينتزعها من إلهامها؟ ولئن كان بعض الشذوذ والانحراف يحمل بعض المتأملين على الاعتقاد بأنه هدمها في نفسه هو، فلن يحكم العقل العام عليه إلا بالجنون!

إن الطفل حين يلتقم ثدي أمه لأول مرة بعد ولادته ليحس الشبع لأعظم مفحم لأكبر فيلسوف يهدم تلك الحقيقة. . . بل إن إدراك البذرة للإنبات في الظلام والثرى المبلل لأدعى إلى اعتبار تلك الحقيقة من الإلهامات الفطرية في كل الكائنات الحية.

والذي يزعم نفسه عاقلاً قادراً على أن يحكم على (روح الوجود) بما يريد ثم في الوقت نفسه يسلبه - عز وتعالى عمال يصفون! - قوة الحكم والتدبير والإدراك فجزاؤه. . . ما جزاؤه؟ إن اللغة تضيق عن نعت له يرضي غيظ السموات والأرض من دعواه! جزاؤه أنه قال ما قال وذلك حسبه لعنة. . .

(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)

(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ)

فما بالك بمن ينكره بتاتاً أو يرميه بالطيش والهوج!

وما يجب أن يلتفت إليه أن أجرأ الناس على الشك في الخالق أو الإلحاد في ذاته وصفاته كان مبعث جرائتهم السكر والتخدير. . والسكر نوعان كما بينا في مقالنا (حنظل وتفاح): سكر باللذة وسكر بالألم. وجرأة السكارى باللذة جرأة سطحية، جرأة طيش وسخرية واندفاع كجرأة الخيام والنواسي. ولكن جرأة السكارى بالألم جرأة غيظ وحقد وعناد وتمرد وقنوط

ص: 9

وتحد. وهؤلاء هم أثقل شراً وأكبر لعنة

فالمعري وشوبنهاور ونيتشه غضبوا على الحياة ونظامها وأدمنوا الآلام، وصاروا يناقشون الخالق مناقشة الند للند. . . فلا الخير خيره ولا الشر شره كما رسمهما هو في الطبيعة والشريعة وإنما الخير والشر شر ما يرسمون هم وإضرابهم

وقد أطفأ الأولان شعلة الحياة في جسديهما، ودعوا إلى إطفائها في أجساد الناس جميعاً، حتى تخرب الأرض وتفنى إنسانيتها

وماذا كانت تكون النتيجة لو أن الناس كلهم كانوا رهبان تمرد وعصيان كالمعري وشوبنهاور؟ وكاني بالإنسانية وقفت موقفهما قائلة للخالق: هاك الحياة التي أحييتنا مردودة عليك منطفئة الشعلة! دونك الأرض بحيوانها وشجرها ومرافقها لا نريد. لا نريد! وهانحن أولا رهبان شر أيها الآله إلى أن تموت!

ولكن الإنسانية التي فطرتها وإلهامها الإيمان والطاعة والعبادة لا تنفك تطرد من حياتها هذه الدعايات الشاذة السامة كما يطرد أفرداها عن أجسادهم البثور والقروح والدمامل، ولا تزال سامعة مصغية واعية لذلك الصوت الذي يدوي بهذه الكلمة:(يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا!). ولا تزال سائرة مأخوذة إلى غايتها في سلاسل من الضروات والرغائب. بل لا تزال جنّانُ الحياة وأناسيّثها تنشد قائلة وهي سائرة على الطريق:

(وأن ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً)

(وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به؛ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً)

(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا)

ما هي حدود الإيمان فلسفياً؟ إنها في رأيي هذه:

أنا إنسان صحا من غيبوبة عدم لا يعرف مبتداها، فأدرك نفسه وفتح حواسه على ذلك البيت الهائل البديع: الدنيا، فتساءل بما فيه من إبهام السببية البديهية: من خلفني هكذا بديعاً كامل الأدوات لحياتي في هذا البيت؟

ثم تساءل: ومن خلق هذا البيت العجيب الهائل بأرضه وسمائه وهوائه ومائه وإنسانه وحيوانه وقواه وقوانينه الدائمة الصيانة له؟

ص: 10

ثم تساءل: ومن أدخلني في هذا البيت من غير أن يستشيرني؟

ثم تساءل: ومن سيخرجني من هذا البلد من غير إرادة مني كذلك؟

تلك الأسئلة الأربعة هي أبواب الإيمان بخالق. ومن بين الأجوبة عرف الإنسان صفات هذا الخالق من وحدة وعلم وحكمة وقدرة وقهر وقدم وبقاء وإرادة وغيرها من الصفات، ثم أحس الإعجاب بذلك الخالق المبدع، ثم أحس الحب كل الحب له، لأنه أكرمه ونعمه حين أخرجه من العدم وأسبغ عليه الحياة مع أدوات الإطلاع عليها، ثم أدام الفكر فيه. ومن الحب والفكر نشأت العبادة. . .

أما كنه ذات الخالق وزمانه ومكانه وشئونه وغاياته وأسرار صنعته، فأولئك أمور يستطيع الإنسان أن يدركها حين تستطيع النملة الصغيرة أن تدرك المحيط الهادي! ولله المثل الأعلى. .

تلك هي حدود الإيمان بخالق، في تفكير بسيط متزن لا لجوء فيه إلى غيبيات وسمعيات، وإنما إلى مقدمات عقلية هي (قدر مشترك) في عقل الفيلسوف وعقل الفلاح، والمتمدن والمتوحش وهي ما يمكن سلوكه من الطرق إلى تبيين جذور الإيمان، بالتفكير. ولا داعي بعد ذلك إلى ما لا يفهمه العقل العام المشترك بين زنوج أفريقية وأقزام الإسكيمو وفلاسفة الشرق والغرب. ولكن ما هو مصير الإنسان؟

ذاك سؤال يكاد يكون له قيمة الأسئلة الأولى عند كثير من الناس غير أن هناك فارقاً كبيراً بين قيمة الجواب عليه وقيم الأجوبة على الأسئلة الأربعة. ذلك لأن الجواب عليه متفرع من الأجوبة السابقة ولا يصح إلا إذا صحت هي. بل قد يكفي بعض العقول ويريحها من حيرتها أن تؤمن بالخالق وبالحياة الدنيا فقط ولم يكن هناك مصير آخر يحيا فيه الإنسان. لأننا لا نستطيع أن نبحث في غايات الخالق لعجزنا عن ذلك البحث (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً)(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)

وتكفي الحياة والأنعام بها على من خرج إليها وأحسها، سواء كان على نعمى أو بؤسي، وازعاً للإيمان وحبه والتقرب إليه. أما الحساب على الخير والشر، فالخير جزاؤه فيه والشر جزاؤه فيه.

وهذه نزعة صوفية متطرفة تشذ عن العقل العام، والقدر المشترك ولا تتحاكم إلى سنن

ص: 11

الخالق وقوانينه في الفطرة ولا تطلب منه أن ينفذ ما كتبه على نفسه وقد كتب ربكم على نفسه الرحمة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)

ذلك استطراد لجأنا فيه إلى الاستشهاد بالقرآن مخالفين ما اتبعناه في بحثنا تسليم وخير مطلق عن تلك النفوس التي ترى أن تفنى في إرادة الخالق (إيما إلى جنة إيما إلى نار)

ونعبده من غير شيء من الهوى

ولا للنجا من ناره وعذابه

(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه)

ونعود فنقول: إن كل ما في الأرض من قرائن يدل على أن الإنسان هو المقصود بالخلقة فيها، وما عداه فمخلوق له لينتفع به. وله من حياته الفكرية والنفسية ما يشعره بها القصد. فأنها حياة سامية غاية السمو معقدة غاية التعقيد فيها جانب عظيم غير خاضع للحياة الحسية الأرضية، ويكفي في سموها أنها حياة متيقظة لنفسها ومتيقظة للدنيا كلها باحثة عن أسرارها المخبوءة فيها وراء الأجرام والكثافات، حالمة بصورة علوية لكمالها هي وكمال الدنيا، تزعم أنها قادرة على تنقيح الطبيعة، وإعادة الخلقة كلها على وجه آخر أكمل! وقد وصلت بالفعل إلى بعض مفاتيح الطبيعة عن طريق العلم وهي تفكر الآن بجد للوصول إلى المفاتيح الأخرى، وستصل

والقرآن يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق. في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقد ابتدأت الآيات في عالم الآفاق وعالم الأنفس بأعاجيب، فما بالك بما تنتهي إليه؟ ويقول:(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها صيداً) وتأمل في قوله (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) فإذا عرفت أن (الظن) هو الأفق الذي تحت العلم والجزم مباشرة تبين لك مقدار ما ستصل إليه قدرة الإنسان في الآباد الآتية حتى يتوهم أنه قادر على الأرض. فهل من المعقول بعد تلك القيمة العظيمة للإنسانية أن تمضي من الحياة كما تمضي الحشرات والبذور من غير مصير علوي يتحقق فيه القصد من حياتها الأرضية التي خلق فيها كل ما في الأرض؟ إن سنة التطور والترقي التي يقول بها العالم الحالي تأبى التسليم بهذه الخاتمة الأليمة لتلك الحياة الإنسانية الرفيعة. . .

تقول بعض الفلسفات: إن الحل لهذه المشكلة هو في القول بالرجعة المستمرة إلى الأرض بالحياة في الأفراد الآتين من النوع. فالكمال الذي ينشده الأفراد ويحملون به سيتحقق في

ص: 12

النوع. وكان الإنسانية في خيال هؤلاء هي المعنى الواحد في الأفراد. أما أجسام الأفراد فهي أثواب تنضوها الإنسانية في الأجيال المتعاقبة وتلقيها جثثاً ميتة على طريقها إلى غايتها. . .

ولكن في هذه الفلسفة إهداراً تاماً للفرد وارتداداً بالإنسانية إلى أفق واطئ جداً هو أفق النيات والبذور، دع عنك أفق الحيوان. ونظرة واحدة إلى إخراج الأفراد من الأرحام بصور متعددة الوجوه وشكول مختلفة في العقول والنفوس - وهذا في الإنسان فقط - تحملك على الجزم والاعتقاد بأن القصد في الطبيعة متوجه إلى خلق الفرد بالذات وإحساسه على انفراد بالحياة التي فيه هو، وأنه مخاطب وحده من (إرادة الحياة)

وإن هذه الفلسفة لتبعث القنوط في الفرد لأنه يشعر معها كأنه مسمار في نعل الإنسانية! وإنها لتبعث فيه الشرود والجموح في الحياة لأنه لا غاية فردية له من حياته، ولا هو يدري الغاية من وجه الإنسانية كلها. . .

وإذا كانت الشيوعية لم ترضها الإنسانية في الغايات الاقتصادية فتنفي فيها جهود الأفراد للمجموع فناء مطلقاً فكيف ترضاها في غايات الحياة؟

وفي قنوط الأفراد وفي جموعهم دواع إلى خسة النفس ودناءتها وثورتها على الحياة بحيث لا يرجى للإنسانية بعدها ترق ولإصلاح للحياة الجمعية.

الحق أن الفرد مقصود بالخلق، مخاطب من واهب الحياة رأساً بما فيه من الإدراك مراعي فيه تمييزه بصورته ونفسيته ليشعر بفرديته وغايته الأنانية أولاً. والقدر المشترك الذي بينه وبين الإنسانية لا يحمله مطلقاً على الاعتقاد بأنه فيها كبذرة في نوع من الشجر، ولا كمسمار في نعل، ولا هو يشبه أخاه كما يشبه الغراب الغراب، والنملة النملة. . . فالفروق بين أفراد الأنواع الأخرى فروق ضئيلة لا تكاد تميز في الصورة ولا في الإدراك بخلاف الإنسان فان تنوع صوره الظاهرة والباطنة أمر محير!

(وبعد) فإني لأتساءل دائماً: ما الذي أوجد في نفوس الإنسانية ذلك الشعور الثابت بأنها لا تفني ولا تنتهي حياتها بدخولها المقبرة؟ ولماذا لم تحملها إرادة الحياة، على غير هذا الشعور لو أن الأمر كان غير ذلك؟

ثم لماذا نجد في خيالنا صورة لحياة كاملة لا قيود فيها للجسم ولا للروح؟ من أين لنا هذه

ص: 13

الصورة؟ إن كل شيء قد حظي بكماله في دنياه بغير نزوع منه إلى حياة أكمل. مما يدل على أنه قد خلق للحياة هنا فقط، بخلاف الإنسان فأنه يشعر كأنه طير مقصوص الجناحين لا يزال يحلم بالجو الذي خلق ليعيش فيه.

وكيف يؤمن مثل (أديسون) أو (ماركوني) بأنه يفني فناء لا رجعة بعده بينما الأرض مملوءة بآثاره في الكشف والاختراع؟

إن العلم يقول إن الأرض ستفنى بفناء الشمس أو انطفائها فأين يصير ما هنا من الفكر والعلم؟ وماذا يفيد كمال النوع الإنساني لو أن الحياة كانت للنوع لا للأفراد كما يقول نيتشه وأصحاب مذهب (الرجعة)؟

ألا إن الموت (ولادة ثانية) كما يعبر الإنجيل

هذا ولا يزال الحديث الآخرة بقية نرجئها الآن بعد ما طال الحديث. . .

(الرستمية)

عبد المنعم خلاف

ص: 14

‌في غار حراء

للدكتور عبد الوهاب عزام

هذا يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف، ونحن في البلد الأمين مكة وقد قضينا مناسك الحج. . .

قلت لبعض الرفقاء: هلم إلى غار حراء. فأخذنا سمتنا صوب الشمال ضحوة النهار، منا الراكب ومنا الراجل، وملء القلوب اشتياق وسرور، وعلى الوجوه التهلل والبشر

بلغنا جبل النور - جبل حراء - بعد أربعين دقيقة. وملنا مع الدليل ذات الشمال فإذا امرأة تنحدر من السفح مسرعة تصيح: (أنتم غادين؟) فقلنا: ما تبغين؟ قالت: هنا الطريق. فاتفقنا على أن تهدينا السبيل إلى الغار. ونظرنا إلى الجبل فإذا السفح ينتهي إلى قمة شاهقة ملساء، قطعة واحدة من الصخر قاتمة

سارت فاطمة أمامنا مصعدة خفيفة سريعة لا تبالي الشوك والحصى وأطراف الصخور الحديدية كأنها أروى ترتع على السفح

سارت في طريق معلمة يبين فيها بين الحين والحين تمهيد الإنسان؛ هنا حجارة مرصوصة يرتقي عليها الصاعد، وهناك جدار صغير من حجارة مركومة أو مبنية تعصم المرتقى أن يزل عن الطريق

تتابعنا صاعدين جاهدين منحنيين على المرتقى الصعب، وما في النفوس من رفعة الذكرى أجل وأرفع، وما يبهر النفس من رهبة المكان أبهر وأروع، مما يثقل الجسم في توقل هذا الطود العظيم. وكأنما نرتقي في التاريخ وعبرته، ونصعد في جلال الحق وعظمته، ونطمح إلى السماء، لا إلى قنة حراء. ألسنا مقدمين على مشرق النور، ومطلع الحق، ومهبط الوحي، وملتقى السماء والأرض؟ لكأن هذه الأشعة المرتدة عن هذه القمة الملساء العالية بقية من نور الحق تتألق في حراء، أو آي من القرآن لا تزال ترددها الأصداء

صعدنا ثم صعدنا حتى انتهينا إلى صخرة مُظلة، فأوينا إليها قليلاً نستجم ونمسح العرق. ثم رقينا تتلوى بنا الطريق ذات اليمين وذات الشمال حتى بلغنا مستوى فيه حوض كبير طوله ثمانية أمتار وعرضه ستة وعمقه أربعة، بعض جوانبه الصخور، وبعضها جدار من الحجر، تجتمع فيه مياه المطر. وقد صادفنا فيه ماء صافياً بارداً فشرب من شرب وتوضأ

ص: 15

من شاء، وجلسنا هناك جلسة شربنا فيها الشاي واسترحنا، وجمعنا قوانا لبلوغ القمة

على ذروة الجبل بقية جدار تحيط بمستوى ضيق في وسطه صدع في الصخر. يزعم العامة أن عند هذا الصدع شُقَّ صدر الرسول. وللعامة في الأمكنة المقدسة أوهام يصلونها بمواضع من الأرض والجبال والأبنية والأشجار. وكأن السلطان عبد العزيز رحمه الله صدَّق هذا الزور فأمر أن تبنى على المكان قبة عالية كان ارتفاعها ثمانية أمتار. فلما جاء الوهابيون هدموا القبة والجدار إلا بقية

وقفنا على الذروة نسرح العيون حولنا بين جبال وأودية ونرى مكة وجبالها وقلاعها ودورها

هذه قمة حراء فأين الغار؟ جنوبي هذه القمة درجات هابطة على السفح منحوتة ومبنية، هبطنا زهاء ثلاثين درجة ثم سرنا فملنا نحو اليمين إلى صخرة هائلة مائلة على الجبل، وتخللنا مسلكاً ضيقاً قصيراً بينها وبين السفح إلى مستوى صغير، فإذا أمامنا سفح منقطع ينحدر إلى أرض سحيقة، وعلى يميينا قمة حراء التي كنا فوقها، وعلى يسارنا الغار: غار حراء العظيم! فجوة ضيقة تميل على مدخلها صخور تدعم بعضها حجارة مبنية. فأما سعة الغار فمرقد ثلاثة متجاورين، وأما علوه فقامة رجل، وفي نهايته صدع ترى منه الأرض والجبال إلى مكة.

هنا فر محمد بن عبد الله بنفسه - فر إلى ربه من ضوضاء الحياة وأكاذيبها، من مظالم الناس ومفاسدهم، من باطل العقائد وزورها - أوى إلى هذا الجبل، إلى هذا الغار، إلى قلب الخليقة! هنا طود أشم يطل على أودية ألحت عليها الشمس المحرقة ليس بها من معنى الحياة إلا نبت ضئيل، وليس بها من ذكرى الحياة إلا أثر السيل بعد المطر. ووراء الأودية جبال شامخة تتداول عين الرائي؛ وعلى بعد مكة، بين هذه الأودية والجبال وتحت هذه السماء الصاحية حقائق لا يشوبها تمويه ولا تزوير، ولا يلحقها تبديل ولا تغيير، ولا يمسها رياء ولا نفاق.

فرّ محمد إلى هذه الحقائق لا فرار الراهب يترك الناس لينجو بنفسه، ولكن كما يلجأ إلى الشاطئ من يحاول إنقاذ إخوانه الغرقى. هنا جمع محمد نفسه وفتح قلبه وناجى ربه، وهنا تجلى الله لهذه النفس الزكية، وأضاء على هذا القلب الطاهر، هنا جاء الوحي ونزلت الآية:

ص: 16

(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وهي فاتحة القرآن، وغرة الإسلام، ومسجلة سعادة الإنسان. لله ما وعى هذا الغار من آيات! ويا عجباً كيف ثبت على هذه الرجفات، و (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله!). قلت من قبل في شعر الصبا:

لعل جبال مكة لا يزال

يجلجل فوقها هذا المقال

ويخفض رأسها ذاك الجلال

وما نسيت بغار حراء ذكرى

والآن أقول: ألا يسمع هنا ذلك الصوت مدوياً مردّداً؟ ألا يرى هنا هذا النور طائفاً بحراء متلألئاً؟ ألا يجد الواقف هنا روحا من الإيمان، ويسمع وحياً من القرآن؟

خرج محمد صلوات الله عليه من هذا الغار، من حضن هذه الخليقة وهو أشبه شيء بها؛ خرج حقيقة من حقائق الله نقيّة جليّة صريحة، لا تبديل ولا تزوير، ولا لبس ولا تغرير، ولا خفاء ولا اضطراب. خرج قانوناً من قوانين الله التي تسّير الشمس والقمر والنجوم، وتمسك السماء والأرض، يمضي قُدماً إلى الغاية المقدورة مضى النجوم في حبكها، والشمس في فلكها

تمثل الرسول هابطاً من حراء وقد حمل عبء النبوة واضطلع بأمانة الرسالة، وأفضى الله إليه بوحيه وكلفه هداية خلقه

ليت شعري أهبط ونفسه قريرة هادئة كما ينزل النور من الشمس والقمر، أم نزل ونفسه جائشة مجلجلة كما ينزل الغيث بين الرعد والبرق؟ لست أدري، ولكنه نزل ديناً جديداً، وعصراً وليداً، وتاريخاً مديداً، وإصلاحاً شاملاً، وهدى كاملاً، ورحمة للعالمين

أيها الغار! يا مولد الحق، ومطلع النبوة، ومأوى محمد! لولا أن محمداً الكريم نهانا لقبلت أحجارك واكتحلت بترابك

أيها الغار! من لي فيك بخلوة، من لي بخلوة فيك!

ناداني صحبي: هلم فقد حان الرجوع، فعدنا إلى مكة

عبد الوهاب عزام

ص: 17

‌على الخبير سقطت

للأستاذ قسطاكي بك الحمصي

أطلعني بعض الأصحاب الأفاضل على العدد 277 من مجلة الرسالة الوضيئة، وقد رأوا فيها اسم هذا العاجز مذكوراً في مقالة على كتاب المبشرين جاء في حاشية منها استشهادي بأخلاق ونزائع الأخ الحبيب بل أستاذي الجليل الشيخ إبراهيم اليازجي رحمه الله فلم أر بداً من إجابة طلب الأستاذ العلامة صاحب المقالة، وقد دلني قوله على يقين حضرته بما كان بين الإمام وبيني من متين الود والإخلاص ومستسر الأحاديث واتصال المكاتبة مدة ربع قرن أو تزيد

ولقد أورد حضرة الصديق الفاضل صاحب الرد على المفترين ما نشره في الضياء الإمام اليازجي رداً على صديقه وصديقي الإمام صاحب المنار - طاب ذكرهما - ما فيه بلاغ

على أني وفاء بعهدي عند الوداع الأخير لذلك الإمام الجليل بترديدي قول الشريف:

لا دَرَّ دَرِّى إن مطلتك ذمة

في باطن متغيب أو بادي

وكرامة لتحقيق بغية هذا الأستاذ الجليل أشفع الحجة بالحجة فأقول:

إن الشيخ اليازجي لفرط شغفه بلغته العربية كان منصرفاً عن جميع الملاذ الدنيوية لا يطرب لشيء كطربه لأحاديث اللغة والفنون، وقد جذبه ذلك الشغف إلى إجلال القرآن واحترامه إجلالاً واحتراماً لا يفوقه فيهما أكابر أئمة المسلمين، لأنه هو عماد اللغة العربية وركنها الشديد، وهي التي أفنى أيام حياته كلها في حبها. وكان رحمه الله يقول: لولا القرآن لماتت اللغة العربية، وبموتها تنقرض الأمة العربية وتتداخل في أصول جيرانها الأقوياء والعياذ بالله. وقال لي يوماً في عرض الحديث عن الطاعنين في لغة القرآن كلاماً أذكر معناه وإن تبدلت الألفاظ:

من المعلوم أن القرآن أنزل لدعوة قوم إلى عبادة الله والإيمان برسالة محمد، وكانوا هم وكثير غيرهم من قبائل العرب عباد أصنام، وهم أهل لغاتها، ولم يكن لهم يومئذ كتب لغة وقواعد نحو وصرف، ولا يعرفون من ذلك سوى أشعارهم وأحاديثهم وما يرونه من أقوال خطابائهم وفصحائهم، فلو رأوا في لغة القرآن عوجاً أو أمتاً ومحمد يتحداهم بفصاحة لغة كتابه وفيه: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله

ص: 18

ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) وكثير من أمثال هذه الآية. أقول لو رأوا فيها أغلاطاً تخالف متداول لغاتهم لأنكروها عليه وهم لم يقفوا في معاداته وإنكار رسالته عند حد، فقد قالوا عنه أوله؛ إنه شاعر مفتون وساحر ومجنون، وأمثال هذا من القحة والشتم فما الذي صدهم عن المجاهرة في الطعن على لغة الكتاب بعد كل التحدي المؤلم الذي كان يتكرر في آياته؟ فان زعم الطاعنون اليوم أن أولئك قد طعنوا ولم يصل إلينا كلامهم أجبناهم أن الكتاب ذكر قولهم فيه إنه مجنون، وهل هناك نعت يعد أشد إيلاماً من هذا النعت؟

وجملة القول أن الإمام الشيخ إبراهيم اليازجي كان يرى في المطاعن المذكورة نقص اطلاع أصحابها على علوم اللغة وقواعدها وتشعبها في القبائل الكثيرة من العرب. والكتاب كما هو معلوم لم ينزل لأهل قبيلة أو قبيلتين من أفصح القبائل العربية بل لجميع العرب، كما أن واضعي القواعد العربية وجامعي لغاتها لم يحيطوا في كتبهم بكل ما تداولته جميع تلك القبائل، بل اقتصروا على الأفصح تارة وحيناً على الأشهر والأعم لتكون اللغة في ميسور المتعلمين، وهم مع كل احتياطهم وأخذهم بالأحزم لم يجمعوا إلا نحو الثلث من ألفاظ اللغة كما روي كثير من أكابر العلماء كأبي عمرو بن العلاء وابن سيرين وغيرهما. وقل مثل ذلك في قواعدها. قال ابن جني: أخبرني فلان عن فلان عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في القراءات قال: قرأ علي أعرابي بالحرم (طيبي لهم وحسن مآب) فقلت له طوبى، فقال طيبي، فأعدت فقلت طوبى فقال طيبي، فلما طال علي قلت طوطو قال طي طي. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء ولم يؤثر فيه التلقين؟

وقال: سألت يوماً محمد بن العساف كيف تقول ضربت أخوك. فقال أقول ضربت أخاك. فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول ضربت أخوك أبداً

وحكى الكسائي أن قضاعة تقول مررت بّهْ والمالُ لِهْ وأنه فاش في لغتها

ونحن نعلم أن بعض العرب قالوا مررتُ بأخواك وضربت أخواك، وكل هذه وغيرها لغات كثيرة موثوق بها وردت عن العرب. والقرآن ورد على سبع لغات منها، فالطعن في لغته أو لغاته ضعف وقوف على لغات العرب وأقوال العلماء والشراح وهو أمر مفروغ منه

وقال أبن جني: قلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي رحمه الله وقد أفضنا في ذكر أبي

ص: 19

علي ونبل قدره ونباوة محله: أحسب أن أباً عليّ قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا. فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول

فإذا كان ابن جني وهو الإمام الجليل بين العلماء المتقدمين والمتأخرين يقول عن أستاذه أبي علي الفارسي وما أدراك من هو؟ إنه انتزع من علل العلم ثلث ما وقع لجميع العلماء إلى عهده وهو يخشى أن يكون قد اشتط في هذا الحكم، فما عسى أن يبلغ علم هؤلاء الطاعنين في لغة القرآن من علم أبي علي الفارسي وابن جني وأمثالهما من المتقدمين وفلاسفة الإسلام وشراح القرآن؟

هذا الكلام وأمثاله دار كثيراً بيني وبين الشيخ إبراهيم اليازجي، وكل من نقل عنه وأذاع حرفاً مخالفاً لما رويته من مذهبه أعلاه أعده كاذباً مختلقاً مفترياً يستوجب اللعنة من الله والناس

وفي الختام أكرر الشكر لحضرة الأستاذ العالم الأجل الذي استشهدني فوفقني لنفي الافتراء البحت وأشكر لصاحب الرسالة الأديب الفاضل إفساحه صفحة منها لكلامي. لا برح خير معوان لنشر الفضائل، ولا زالت رسالته لأفصح اللغات أم الرسائل

(حلب)

قسطاكي الحمصي

ص: 20

‌ليلى المريضة في الزمالك

للدكتور زكي مبارك

صديقي. . .

سألتني أن أكتب كلمة عن ليلى المريضة في الزمالك، فأثرت في صدري لوعة محرقة كنت أرجو أن تصير بفضل الكتمان والتناسي إلى الخمود

وماذا يهمني من أمر تلك الإنسانة الظلوم؟

إن الدنيا كلها سخفٌ في سخف، والحب كله بلاء في بلاء فلتمض تلك الذكريات إلى جحيم النسيان والجحود

وقد تعلمت في حياتي أشياء، وكان أثمن ما تعلمت هو اليأس من وفاء القلوب

وأقسم بالله وبالحب ما خططت هذه العبارة إلا وأنا أقاوم طغيان المدامع، فمن الحسرة واللوعة أن أنْفُضَ يدي من العواطف بعد أن جعلت الكتابة في العواطف مذهباً أدبياً أنصار وأشياع في سائر الأقطار العربية

ولكن خيبتي في الحب لها أسباب

وآه ثم آه، من الاعتراف بالخيبة!

ليت ضلالي في هواي كان دام حتى أخرج من دنياي وأنا موصول العطف على الملاح!

فان سألتَ عن أسباب القطيعة بيني وبين ليلى المريضة في الزمالك فإني أحدثك بأن تلك الأسباب ترجع في جملتها إلى سبب واحد هو العظمة الحقيقية التي فطر الله عليها قلبي

ومعاذ الأدب أن أكون من المفتونين أو المخدوعين، فلي قلب ما عرف الناس مثل جوهره النفيس في قديم أو حديث

هو قلب فطر على الحب والعطف والوفاء

وقد شاء هذا القلب أن يبسط حنانه على ليلى المريضة في الزمالك.

فماذا صنعت تلك الحمقاء؟

لا تسأل كيف كنا إلى خريف سنة 1937

كنا عاشقين

وما أسعد العشاق!

ص: 21

كنا نعرف أطايب الخلوات على شواطئ النيل

وما أسعد من يستصبحون بظلام الليل على شواطئ النيل!

كان قلب ليلى أصغر من قلبي

ولكنها مع ذلك كانت تملأ قلبي، وهو قلبٌ يرضى بالقليل في بعض الأحيان

وكنت أتلقى القليل من عطف ليلى بالحمد والثناء

والذوق كل الذوق أن تفرح بالقليل من الملاح

كانت ليلى تَعِد وتخلف وكنت أرى إخلافها من الدلال

وكنت أروضها بنفسي على الإخلاف، لأني كنت أحب أن أخلق منها دُمْيَةً روحانيةً أعاقر في محياها كؤوس النبل والصفاء

وكان ما أردت وأراد الحب العذريُّ حيناً من الزمان

أردنا مرة أن نؤلف رواية. . .

فهل ألفنا الرواية؟

ليتنا ألفنا الرواية!

آه من ليلى ومن زماني!

ودامت دنيانا في قَبض وبَسط وبُؤس ونعيم، إلى مساء اليوم الثامن عشر من الشهر التاسع سنة 1937

ففي ذلك المساء تفضلتْ ليلى فدعتني إلى تناول العشاء لتمنحني القبلة الموعودة قبل رحيلي إلى العراق

وكانت لحظة من الحياة لن أنساها ما حييت، وإن كدَّرتها ليلى بعد ذلك

أحبك يا ليلى، أحبك لتلك اللحظة التي بلبت نجوم المساء

أحبك يا ليلى وأن صيَّرتِ حياتي بؤساً في بؤس، وشقاءً في شقاء

أحبك يا صغيرة القلب، ويا ضعيفة العقل، ويا قليلة الوفاء

أحبك يا مثال النزق والطيش والجنون

أحبك لتلك اللحظة القصيرة التي بددت أضواؤها ظُلمات قلبي

وفي اليوم التالي رحلتُ إلى بغداد وأطياف الزمالك تؤنس روحي

ص: 22

ثم سمعتْ ليلاي في الزمالك أني تعرفت إلى ليلى المريضة في العراق

فماذا صنعت الحمقاء؟

أرادت أن تنتقم مني ففتحت أبواب قصرها للواغلين من أدعياء الأدب والبيان

ولم تكتف بذلك، بل أعلنت غضبها عليّ في رسائل نشرتها في مجلة الصباح

وأسرفت الشقية في الحمق فنشرت في مجلة المصور أخبار سهرة تناول فيها السامرون عندها أكواب الصهباء

وكانت الشقية تعلم أن ذلك سهمٌ سيصيب صدر حبيبها في العراق

ولكني تجلدت وتماست، وكتبت إليها أعتب في رفق ولطف فأجابت الحمقاء:

(هل كنت تنتظر أن أضع يدي على خدي إلى أن ترجع من بغداد؟)

خبر أسود!

خبر أسود!

خبر أسود!

كذلك هتفتُ كما يهتف الفلاح المصري حين ينزعج، وعبارات الفلاحين تسبق إلى لساني حين يثور غضبي

إن ليلى المريضة بالزمالك لا تريد أن تضع يدها على خدها حتى أرجع من بغداد، وهي تعرف أني هاجرت إلى العراق لغرض نبيل هو توثيق علائق المودة بين مصر والعراق

وهل تفهم المرأة هذه المعاني؟

آمنتُ بالله، وكفرتُ بالحب!

أما بعد فقد انتهى ما بيني وبين ليلى المريضة في الزمالك، وقد حرمتُ على نفسي رؤية الزمالك إلى أن أموت، فحدثوني يا رفاقي عن أضواء الزمالك وأيام الزمالك وليالي الزمالك، حدثوني كيف يغني الكروان في الزمالك. حدثوني كيف تكون أشجار الزمالك في الليل. حدثوني كيف يثب النيل ليقبل أقدام الزمالك، حدثوني كيف تصبر عني ليلاي في الزمالك. حدثوني كيف تغيب الشمس عن الزمالك. وكيف يطلع القمر على الزمالك. وكيف تثور عواصف الحب والبغض في الزمالك

حدثوني، حدثوني، حدثوني

ص: 23

انتهى حُلم الحب، وانتهت أيام الزمالك، وانقضت ليالي الزمالك

تلك الزمالك لم تكن إلا قطعة من وطني، ولو شئتُ لقلت إنها قطعة من كبدي

في الزمالك تعلمت طب الأرواح والقلوب

وبالزمالك شقيّ روحي ومرض قلبي

فأين السبيل إلى الرجاء؟ بل أين السبيل إلى اليأس؟

أحبك يا غادة الزمالك، أحبك يا غادرة، وأعشق ضلالي في هواك النبيل وهواك الأثيم

ليلاي، ليلاي

ما زال روحي الظامئ يحوم على وَرْدك النمير، فارحمي الطائر الذي يرفرف حول حماك في السَّحر والضحى والأصيل، ويخفق بقلبه وجناحيه كلما لذَعه الشوق إلى صهباء الرضاب

أنا مشتاق إلى الكوثر الممنوع الذي كانت قطراته تُسكر روحي وتعقر فؤادي

أنا مشتاقٌ إلى النار التي كوتْ كبدي، فمتى أواجه تلك النار العَصُوف؟

سأقبَّل قدميك حين أراك يا شقية، ولكن متى أراك؟ متى أراك؟

أفي الحق أننا تخاصمنا إلى آخر الزمان؟

أفي الحق أن عربدة الهوى لن تعود؟

لقد شمت فينا الشامتون، فمتى يندحر الشامتون؟

إنني واثق بطهارة قلبك يا شقية، ولولا ذلك لأصليتك نار العقوق.

فحدثيني متى ترجعين إليّ؟ متى ترجعين؟ متى ترجعين؟

ليلى، ليلاي التي خرجت من حماها كما خرج آدم من الفردوس، ليلاي أجيبي

مضت أعوام وأنا أتلقى منك تحية رمضان، فأين تحية رمضان؟

إن الناس يذكرون موتاهم في هذه الأيام يا معبودتي، وأنا قتيل الهوى، فمن يذكرني إذا اصدفت عني؟

لا تؤاخذيني بما جنيت في حب ليلى المريضة في العراق، فما كانت ليلاي هناك إلا صورة من صور الطهر والنبل والعفاف

أحب ليلاي في العراق، وإن تأذيت بذلك فاصنعي ما تشائين

ص: 24

أيتها الحمقاء في الزمالك

لا أحب أن أراك إلا يوم تعرفين أني صاحب الفضل على الجميع الملاح، فلولا قلمي ولولا بياني لصارت الصبابة ألعوبة من الألاعيب

أنا أنتظر الجزاء الحق على وفائي وإخلاصي

أنتظر أن تكون دنيا الصباحة والملاحة طوع يدي

فان لم تفعلي - وستفعلين - فودعي دنيا الرفق والحنان

ليلى، ليلاي

إلى صدري يا عروس الزمالك

إلى صدري يا جارة النيل

إلى صدري العاشق الوفي الأمين

زكي مبارك

ص: 25

‌من دموع القلب!

(مهداة إلى الأستاذ أنور العطار)

للأستاذ علي الطنطاوي

(هل تذكر يا أنور، يوم جزنا بمقربة الدحداح ونحن طفلان يتيمان في طريقنا إلى المنزلين الصغيرين المتجاورين في (السمانة) فوقفنا ساعة على القبرين المتدانيين نزور أبوينا. . . ثم ذهبنا مسرعين لنودع آلامنا صدر الأم؟

أتذكر ما قلت لي يومئذ عن حبك أمك وتعلقك بها، وما قلت لك؟ أتذكر أننا اتفقنا على أن الحياة مستحيلة علينا بعد الأمهات وأننا سنبقى معهن أبداً وشملنا جميع وعقدنا متصل؟

لقد كان ما ظنناه مستحيلاً يا أنور. . لقد ماتت أمي وأمك واحتواهما ذلك القبر الذي حوى أبوينا من قبل وعشنا بعدهما. . . لم نعد نملك منهما يا أنور إلا دموعاُ حرى في العين وحسرات لاذعات في القلب. . . لقد غابتا إلى الأبد!)

(علي)

لست أدري ما الذي يحملني على ذكر الماضي ونبش عظامه النخرة؟ وما الذي يغريني بأن أتلمس مكان أحلامي من الواقع. . . وأنا أعلم أن الماضي قد ذهب بمسراته وأحزانه ولم يبق في يدي منه إلا هذه الذكريات التي طالما حاولت أن ألقي بها في الزاوية المظلمة من نفسي لتنام فيها إلى الأبد، فكانت تستفيق كلما أردت نسيانها فتسود صفحة الحياة في ناظري حتى لا أرى فيها جميلاً ولا بهيَّاً. . . وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي، وأنقاض أيامي، ورويت رياضها بدمع عيني، قد جف زهرها، وصوح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة، كما ينهار بيت من ورق اللعب ضربته كف إنسان. . . فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكاومة، فأضحك وأمزح حتى ليظنني الناس أسعد الناس وأنا أشقاهم وأخيبهم أملاً، وأشدهم ألماً. . .

فلماذا أعود الليلة إلى الماضي التي ماتت أيامه، وماتت أحلامه ومات ناسه؟

كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة، بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد أجدى عليك في فهم الحياة من دراسة عشر سنين في هذه الكتب. . .

ص: 26

وماذا في الكتب إلا الحيرة والضلال؟ ومنذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدعى أنه فهم الحياة من الكتب؟ أنا أحد صرعى هذه الكتب وضحاياها فسلوني عن خيبتي وخساري؟

قالت الكتب: إن المستقيم أقصر الخطوط فأسلكه تصل، واستقم تبلغ غايتك، فسرت قدماً فاصطدمت بأول جدار لقيته فشج رأسي وقعدت مكاني، واستدار غيري والتوى كما تستدير طرق الحياة وتلتوي فوصل

قالت الكتب: كن فاضلاً واحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل، فوجدت أهل الرذيلة هم الذين يصلون، ورأيت أسفل الناس أخلاقاً صار أستاذاً للأخلاق في أكبر مدرسة، فعجبت من سخر الحياة!

وقالت الكتب: الحق، وقالت الحياة: القوة. . . وقالت الكتب: الفضائل. وقالت الحياة: الشهوات. وقالت الكتب. . . ولكن لم يكن إلا ما قالت الحياة!

ونظرت إلى شارع الرشيد، فإذا السيارات من كل جنس ولون، والعربات من كل شكل ونوع، والدراجات والعجلات، كلها يعدو يريد أن يصل أولاً، وكلها يزاحم، وكلها يزأر ويصيح ويهدد، ولكنها إذا بلغت الغاية رأت أنها لم تصل إلى شيء فعادت أدراجها تزاحم وتعدو وتصيح. . .

فقلت: كذلك الحياة. . . سباق وتزاحم، ولن ما هي الغاية؟ لا شيء. . .!

ودخلت الغرفة وأغلقت عليَّ بابي، وأردت أن أفيء إلى عزلة أسكن فيها نفسي، وأجد فيها راحتي، ولكن الباب قرع، وجاء السيد حيدر الجوادي، الرجل الذي ملك على الدكتور زكي مبارك أمره، وأطربه وأعجبه حتى غدا لا يصبر عن سماعه حيثما رآه، وحتى اضطره إلى الغناء في المكتبة العامة، وقال له: غنّ هاهنا فوالله لتحدثن بها الناس وليقولن إن زكي مبارك ابتدع الغناء في المكتبات. . . جاءني فغناني (أبوذية) من (أبوذيات العراق) التي ما أظن أن إنسياً أو جنياً عرف نغمة أشجى منها وأسرع إلى القلب وصولاً، وأشد للألم تصويراً. هي قطرات من الدمع صورت نغماً. هي خفقات القلب صيغت نشيداً. هي. . . هي خلاصة الفن العبقري الذي يصور الألم العبقري. . . فهز نفسي هزاً عنيفاً، فتح صفحاتها جميعاً ووصل ماضيها بحاضرها، وأسلمها إلى ذهلة عميقة - لذة ممتعة - ولكنها

ص: 27

أليمة موجعة، ذكرت (العتابا) تلك الأغنية التي ترن بها أبداً أودية لبنان، وتنحدر أصداؤها على سفوحه وحدوره، ولا يدري أحد من هو الذي وضعها ونظم مطلعها وألف لحنها، (العتابا) الخالدة التي يشترك في تأليفها العصر الجديد والعصر الغابر، ويزيد فيها كل جيل أدواراً فيكون منها الصورة الصادقة لعواطف الشعب وهواجسه وأمانيه وذكرياته، تلك التي تعيش في ترنيمة السواقي المتكسرة على الشعاف والصخور لتبلغ قرارة الوادي، وفي نشيد الرياح في الأودية البعيدة، وفي همس الأوراق في غابات الصنوبر الضاحكة، وفي عطر كل زهرة، وصمت كل صخرة، وأشعة الشمس المطلة من وراء الذرى للسلام، والمشرفة من آخر الأفق للوداع، وفي نور القمر الذي يغمر لبنان بفيض من الشعر والحب والسحر، وتعيش في كل ذروة من لبنان!

رجعتني هذه (الأبوذية) إلى سالفات أيامي، فذهبت أعرض صور حياتي فيها وهي تمر بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما ملتفة بضباب الماضي، فأرى مآسيها المغسولة بالدموع وفواجعها الدامية ولكني لا أرى منظر بهجة ولا سرور. . . فهل أرى البهجة والسرور بعد أن أشرفت على الثلاثين؟

كنت أفكر دائباً في المستقبل، وأنتظر المستقبل، فها هو ذا المستقبل قد صار حاضراً، فهل وجدت فيه إلا الخيبة والألم؟

لقد جربت الصناعات والفنون وطوفت في البلدان، فما أفدت من ذلك كله إلا أني تركت في كل بلد قبراً لأمل من آمالي. لقد أضعت الحب والمال، وأضعت المجد الأدبي، حتى هذه الألحان التي تدور في نفسي ضاعت مني. . . فلم أستطع أن أسمعها الناس أغاني وأصواتاً، ما سمع الناس إلا أقصر أغاني وأقبحها، وتلك هي مقالاتي التي نشرتها، فمتى يسمعون أجمل ألحاني وأطولها؟

في المستقبل!

يا ويح نفسي! هل بقي لي مستقبل إلا الموت الذي غدوت أحبه وأناديه لو كان يسمع النداء؟

لقد وجدت المستقبل عدماً فهل عليَّ من لوم إذا عدت إلى ماضي أعيش فيه؟

في هذا الماضي دفنت أمي، وفيه دفنت أبي، وفيه دفنت أحلامي. . . لقد أحببت كثيراً

ص: 28

وتألمت أكثر مما أحببت، ولكن الحب الحقيقي الواحد الذي انطوى عليه قلبي، والألم الفرد الصادق الذي عرفه، هو حبي أمي، وألمي لموتها، وكل ما عداهما حب كاذب، وألم عارض

إني لأنسى البلاد كلها حتى منازل حبي، وربوع هواي، ولكني لا أنسى أبداً ذلك الزقاق الضيق الذي يمتد من العقيبة في دمشق إلى رحبة الدحداح، لأن سعادتي ولدت في أول هذا الزقاق، وماتت في أخره حين مات أبي وأمي. . .

فيا رب ارحمني بالنسيان، وأين مني النسيان؟

إني لأنظر إليها الآن وهي مريضة على فراشها، كأنما كان ذلك منذ ساعة، فيبكي قلبي ولا أستطيع أن أكتب عنها حرفاً. لا أحب أن أنشر أحزاني حتى لا تلوكها ألسنة الناس، فليبق الألم في صدري أحمله وحدي. . . أنا لا أصدق أن هذه السنين السبع قد مرت على ذلك الحادث. . . أأنا أعيش سبع سنين لا أرى فيها أمي، وقد كنت آلم إن غبت عنها يوماً؟ أأعيش وهي نازحة لا تعود بعد عام ولا عشرة، لا تعود قبل يوم القيامة؟

اللهم صبراً فإني والله ما أطيق الصبر!

يقولون إن المصيبة تبدأ صغيرة ثم تكبر، ولكن مصيبتي بأمي تنمو في نفسي كل يوم!

لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها، ويرغبني فيها؟ وماذا في الحياة؟ كل لذة فيها مغشاة بألم، فيها الربيع الجميل، ولكن فيه بذور الصيف المحرق، والشتاء القاسي. وفيها الحب، ولكن لذة الوصال مشوبة بمخافة الهجر. وفيها الصحة والشباب، ولكنهما يحملان الهرم والمرض. فيها الغنى، ولكني ما عرفته وما احسبني سأعرفه أبداً.

لقد كرهت الحياة، وزادها كراهة إلي هؤلاء الناس، فلم يفهمني أحد ولم افهم أحداً. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلاً بأحزاني قالوا، متكبر، وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا، شرس، وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا، فاسق، وإن قلت كلمة الدين قالوا، جامد، وإن نطقت بمنطق العقل قالوا، زنديق، فما العمل؟ إليك يا رب المشتكي فما لي في الدنيا بعد أمي صديق!

تلك هي التي كانت تقبلني على علاتي، والناس لا يقبلون إلا محاسني. تلك التي كانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيّ. تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون، تلك

ص: 29

هي دنياي، فو أسفي، إن دنياي قد احتواها التراب!

لم يبق من آثار هذا العالم الحافل بالإخلاص والحب إلا قبر منعزل وساقية صغيرة، تميل عليها شجرة صفصاف، وهذا كل شيء. . .

إني لأقدس ذكرى هذه الشجرة، وأخشع لها. إن حركات غصونها لتحرك في نفسي عالماً كاملاً، ولكنها لا تبالي ذكرياتي ولا تحفلها. إنه قائمة تحنو على اللص الفاتك، كما تحنو على المحب الثاكل، وتؤوي المجرم الهارب، كما تؤوي الشاعر المتغزل، فما أضيع ذكريات المحبين عند الطبيعة، وما أضيعها عند الناس!

لقد انصرف عني السيد حيدر الجوادي، ونام عني أصحابي، وتركوني أتجرع غصص آلامي وحيداً، فمن هو الذي يعطف علي، ويشاركني حمل الآلام؟ لقد أيست من الطبيعة ومن الأصحاب، فهل تسعدني أنت يا أيها المحسن المجهول الذي لا أعرفه أبداً؟ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة الدحداح يزور حبيباً له طواه الرمس، هل تمن على غريب متألم فتحيى عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها، هي أعز عليه من الحياة، لأنها كانت جمال الحياة؟ هل تترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذه الرمال التي تطؤها أطلال قلب كان من قبل عامراً سليماً. . . ترفق فانك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه البقعة ما بين رمالها وترابها، بقايا قلب محطوم، بقايا دامية حزينة شاكية، ولسمعت نشيجها

ما تصدع هذا القلب من هجر الحبيب، ولا هدته أحداث الغرام، ولكن عصفت به عاصفة من موت الأم فهدت أركانه، فأسكب على بقاياه قطرة من الدمع تحيها بها ساعة، أو قل كلمة تسعد بها روحه الحزينة، ثم توجه إلى القبر المحبوب، إلى قبر أمي وأبي أيها الصديق المجهول، فاسأل الله لساكنيه الرحمة والغفران، فما بقي لي بعدهم أحباء، ولا بعده دنيا. . .

لقد تركت تحت أقدامك قلبي وحبي يا أيها المحسن المجهول، فارفق بهما. اسعد هذا اليتيم الضعيف، وإن كان الناس يدعونه شيخاً، وإن كان في الثلاثين من عمره!

رب، رحمة لهذا اليتيم الضعيف، ابن الثلاثين!

(رب أغفر لي ولوالدي؛ رب أرحمهما كما ربياني صغيرا)

ص: 30

(بغداد - المدرسة الغربية)

علي الطنطاوي

ص: 31

‌غريب اللغة في الميزان

للأستاذ عبد القادر المغربي

من مشاكل الحياة ما لا يمكن حله، أو لا يرضي الناس أن يتلقوا حلّه من شخص واحد مهما علت منزلته في العلم والفضل لما يصادم ذلك من التحزب للرأي، والمنافسات بين المتنازعين، حتى ينزلوا أخيراً على حكم الجماعات التي لا تجد النفوس (غالباً) حرجاً من التسليم لها والرضى بحكمها

ومن هذا القبيل مشكلة إيجاد كلمات جديدة نحتاج إليها في نهضتنا الحديثة، سواء أكانت تلك الكلمات أعجمية الأصل، أو عربية لكنها غير مأنوسة الاستعمال، فان ضجيج النزاع يشتد حول تلك الكلمات ويَرى كل من المتنازعين أن يُحَكّم ذوقه غالباً، وعلمه أحياناً، في قبول هذه الكلمة، وعدم قبول تلك. والتشاؤم بكلمات اللغة يرجع في الأعم الأغلب إلى أمور أربعة:

1 -

كون الكلمة من أصل أعجمي أو عامي

2 -

كون الكلمة غريبة غير مأنوسة الاستعمال

3 -

كون الكلمة مأنوسة المعنى مكروهة اللفظ ككلمة (ضيزي)

4 -

كون الكلمة على العكس مأنوسة اللفظ لكنها مكروهة المعنى كالكلمات الدالة على ما يستحي من ذكره

ويهمنا من هذه الأقسام القسم الثاني: وهو كون الكلمة غريبة لا يُعنى بها إلا المتخصصون في اللغة لكن استجدَّ في لغة حياتنا اليومية فراغ لا يسده إلا بعض تلك الكلمات الغريبة، فكيف نصنع؟ هل نستعملها غير مبالين أذواق القراء؟ أو نهجرها غير مبالين إهمال مصدر من مصادر تنمية اللغة، ولا تعطيل معدن تستخرج من شذراته مادة لتلك اللغة التي يخشى أن تقضي عليها الألفاظ الأعجمية

وعندي أن ليس كل غريب اللغة مما يحسن هجرانه وترك الانتفاع به، بل إن من كلماته ما استجمع شروط الفصاحة وإنما يعوزه الاستعمال فيُصقل ويصبح مأنوساً مألوفاً

ومرادي بالغريب هنا ما يجهله عامة متأدبي هذه الأيام. فهذا ما نريد أن نردد القول فيه، ونميز بين ما نحن في حاجة إليه وما نحن في غنية عنه

ص: 32

هذه كلمة (سياسة) لا نستعمل معها مرادفها وهي كلمة (إيلة) فان إيالة الرعية وسياسة الرعية شيء واحد؛ بل ربما كانت (الإيلة) أشهر من (السياسة) في استعمال أهل اللسان الأولين: آل البلاد والرعية أولاً وإيالةً، وتأول البلاد (من التفعل)؛ ويقلبونها أحياناً فيقولون (تألَّي) ومنه قول الشنفري في بيتيه المشهورين (وأمّ عيالٍ قد شهدت تقوتهم الخ)

وقد عني بأم العيال رفيقه في اللصوصية (تأبط شرا) إلى أن قال (أيَّ أول تألت) أي أية سياسة مشؤومة ساستنا بها تلك الأم في توزيع الزاد علينا

وقد يقال أيضاً إن فعل آل إيالةً أعرق نسباً وأشد أصالة في المعنى المراد من فعل ساس سياسة

ذلك أن السياسة تستعمل حقيقة في سياسة الدواب، ومن سياسة الدواب نقلت إلى معنى سياسة الرعية، بينا كلمة (إيالة) خاصة بسياسة الرعية وإدارة مصالح البشر، ولكن هل يشفع كل هذا بها، فترزق الحظ وتحيا بالاستعمال، أو يتشاءمون بها ويهملونها إلى حين؟

(بِزِّيزَي) بكسر الباء وبزايين معجمتين أولاهما مشددة بينهما ياء ثم ألف مقصورة، تقول العرب:(رجعت الإمارة أو الرياسة بزيزي) أي ما عادت تؤخذ بالاستحقاق والكفاية بل بالقوة فمن عز وقوى عليها بزها وسلبها مستحقها. فكلمة (بزيزي) من فعل (بز) المأنوس والمشهور لاستعماله في المثل السائر (من عز بز) أي من قوي سلب. فما أحوجنا إلى أحياء هذه الكلمة ما أكثر المقامات التي تعرض للكاتب أو الصحفي ويتفقد كلمة (بزيزي) فلا تخطر له

ولا أرى كلمة (فوضى) تسد مسد (بزيزي) إذ أن بينهما فرقاً لا يخفى على البصير

فهل يرضى كتابنا عنها ويفسحون لها المجال على أسلات أقلامهم؟ أم يتأففون بها كما تأففوا بالإيالة:

وكلمة (أبهل) ما الرأي في إحيائها من رمسها؟ يقال: أبهل الوالي رعيته إذا تركهم يفعلون ما شاءوا. وكثيراً ما أصبح الأمر فوضى في أطراف المملكة أو في بعض بواديها بسبب عجز الحاكم أو بسبب سوء إيالته (أي إدارته) فهذه الحال هي الأبهال تبهل الحكومة بلداً وتعجز عن ضبطه فتعم الفوضى فيه، ففعل (أبهل) من أجدر كلمات اللغة بالحياة وأولدها بالاستعمال

ص: 33

يقول قائل إننا نشعر بالاستغناء عن كلمة الأبهال وتصاريفها ما دام لدينا تعابير أو جمل مركبة نستعملها مكانها

نعم ولكن إذا تداولت واستعملت استجد في نفوسنا شعور وألفة لها: مثل كلمة (هيأة) في قولنا (هيأة المحكمة) و (هيأة كبار العلماء)، فان كلمة رجال القضاء والقانون كادت تجمع على أنه لا تقوم مقامها كلمة سواها مع أن الحاكم والحكام كانوا في غنية عنها أكثر من ألف ومائتي سنة. وهذا كالسيارات والتليفونات في بلاد كمصر مثلاً كانوا يعيشون من دونها، أما اليوم فلم تعد تستتب للناس حياة ولا يطيب لهم عيش إذا حصل إضراب وعطلت السيارات والتليفونات عن العمل

زارني بالأمس زائر كريم من كتاب الصحف وجرى بيننا ذكر الحاجة إلى أوضاع جديدة تقوم مقام تلك الأعجمية. فأجبته ما الفائدة من إجهاد أنفسنا في وضع كلمات عربية جديدة إذا كنتم تأنفون منها بسبب شيء من الغرابة أو الثقل تجدونه فيها فما أسهل إيجاد الأوضاع علينا. ولكن ما أصعب قبولها عليكم

قال: وما مثال ذلك؟ قلت: قد يكون للدولة جيش مختلط من وطنيين وغير وطنيين فهل تقبلون أن نطلق عليه اسماً كانت تعرفه العرب وهو (البريم)؟ وأصل معنى البريم خيط ثخين يفتل من عدة خيوط مختلفة اللون. فالعرب منذ القدم سموا الجيش المتعدد الأجناس (بريماً) تشبيهاً له بالبريم أعني الخيط المذكور.

فقال: ينبغي قبول كلمة البريم لخفتها وإحكام وضعها. أما (البزيزي) و (الأبهال) فلا. ثم اخذ يجادل ويحتج بنفسه بقول الأستاذ (أحمد أمين) وهو:

(إن علينا اليوم أن نختار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر)

قلت: وقال الأستاذ (عزام) ما ملخصه:

(إن علينا اليوم ألا نجعل الذوق حكماً في اللغة لأنه يقتصر على المألوف من الكلمات ويعد ما دعاه ثقيلاً نابياً. وعلى الكاتب ألا يجعل نفسه أسيراً تتصرف به الأذواق الخاصة، بل يستملي فطرته فتملي عليه من الكلمات ما يلائم الذوق العام. الألفاظ أجل من أن يتحكم فيها الذوق وحده. الحاجة الملحة خلاَّقة الألفاظ. وهذه الحاجة لا تبالي بالأذواق؛ فكم من كلمة أجنبية ثقيلة استعملها كتاب العرب وألفتها أذواقهم: كالبروبوغندا والأرستقراطية

ص: 34

والميتافيزيقية الخ. وما دام هناك معان شديدة وجب أن يكون إزاءها ألفاظ شديدة، ولا مندوحة لنا عن استعمال تلك الألفاظ لمعانيها كما نستعمل الألفاظ اللينة لمعانيها أيضاً. ونكون في عملنا هذا أحراراً دون أن تأخذنا رحمة بالأذواق، وكما يعالج لين الحضارة بالرياضيات الخشنة القاسية ينبغي أن يعالج لين اللغات بالألفاظ الخشنة القاسية أحياناً. وإن حاجتنا اليوم إلى الإبداع تسوغ لنا أن نتخير من الألفاظ ما نشاء ثم نطبع ذوق الأمة على مشيئتنا هذه. وما أشد حاجتنا إلى كثير من الألفاظ الجديدة التي إذا استعملناها أعانتنا في الإفصاح والإبداع. نعم إذا كان للمعنى الواحد عدة ألفاظ حق للذوق أن يختار منها أحلاها، وأرشقها لا أن يعمد إلى أسمجها وأثقلها فيؤثره على المألوف إغراباً وتنطعاً) اهـ

وقول الأستاذ عزام هذه يشبه ما قلته مراراُ: من أن كلمات اللغة في المعاجم تحكي الأدوات المنزلية في المنازل: منها اللطيف المرهف الذي يًصفف في محاريب الدار (صالونها)، ومنها الضخم الجافي الذي يخبأ في أقبيتها وسراديبها، ولكل أداة وظيفة لا تستعمل فيها الأداة الأخرى؛ فللصديق الزائر متكأ الحرير ومروحة الريش وأكواب السكر؛ وللص الدار الهراوة ويد المهراس ومشحوذ الخنجر

وشتان بين خشونة هذه ونعومة تلك، كما أنه شتان بين كلمات (الجَعْظَرِيّ) و (الجَوْاظَ) اللذين استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (أهل النار كل جَعْظَرِيّ جَوّاظ) وبين كلمات (كَيِّس فَطِن حّذِر) التي استعملها صلى الله عليه وسلم في حديث (المؤمن كيس فطن حذر)

وكلمة (ضوطار) من كلمات أو أدوات المعاجم القديمة، فهل نستثقلها ونهجرها لثقالتها؟ أم ندَّخرها كما تدَّخر الهراوة للصّ فنخبأ (الضوطار) للرجل الذي ينزل ميدان السياسة ولا سلاح له يضمن له الفوز إلا الجهل والمخرقة فنلقّبه بضوطار السياسة كما لقبه بذلك الشيخ جمال الدين أو الشيخ محمد عبده في جريدتهما (العروة الوثقى)

جاء في صحف الأخبار أن الطيار (فلان) حاول أن يبلغ بطيارته أعلى قمم جبل هملايا وهي قمة (أفرست) وبعد قيامه بما أخذه على نفسه ذكر أنه علا بطيارته في الهواء الملاقي والمحاذي لسفح الجبل عدة مئات من الأميال صعداً قبل أن يبلغ القمة المذكورة وقبل أن يبلغ الفضاء الذي فوقها. فالهواء المحاذي للجبل ماذا يسمى؟ يسمى (نفنفاً). فهذه الكلمة

ص: 35

نحتاج إليها للتعبير عن الهواء الذي لا يكون مطلقاً فوق الجبال وإنما يكون محصوراً بينها ومحاذياً لسفوحها، فلا مندوحة للطيارين عن استعمال كلمة (النفنف) في لغة الطيران ومن استثقلها كان أثقل منها لعمري.

يقول الطيار: ثم جاوزت النفنف وأصبحت في الهواء الطلق فوق قمة (أفرست) فبماذا نسمي هذا الهواء أو هذا الفضاء الذي طرت فيه؟ نسميه (اللوح) ونقول له إن طيارتكم بلغت اللوح أو أخذت تسبح في اللوح. و (اللوح) بضم اللام الهواء بين السماء والأرض.

يقول المتشائم بغريب اللغة: إن اللوح فيها غرابة فهل من كلمة غيرها تؤدي معناها؟

نعم كلمة (سُمَّهى) بضم السين وتشديد الميم وألف مقصورة في الآخر.

فيقول: هذه أشد غرابة من تلك وفيها ثقل ليس مثله في كلمة (اللوح) فلنوطن أنفسنا إذن على قبول (اللوح) وصقلها بالاستعمال.

يقول الطيار إنه عاد فارتفع بطيارته إلى أقصى مناطق الهواء بحيث أصبح التنفس عسيراً عليه. فماذا نسمي الهواء ثمة؟

نسميه (الُسكاك) بضم أوله، وفسره علماء اللغة بالهواء الذي يلاقي عَنان السماء، وفسروا (العنان) بالذي يبدو لك من السماء إذا نظرتها، والذي نراه منها هو زرقتها، والزرقة أقصى طبقات الهواء أو مناطق الهواء، في بادئ النظر، فالسكاك إذن هو الذي يكون في أعلى أو أقصى طبقة في اللوح

فيحسن أن ندخل في لغة الطيران هذه الكلمات الثلاثة

(النفْنَف) هو ما بين الجبال

(الوح) هواء الفضاء بين السماء والأرض

(السكاك) هواء أعلى طبقات اللوح

ونكون أهملنا كلمة (السُمّهى) مستغنين عنها باللوح لثقالتها التي ينفر منها المتشائمون. ويطرب لها اللغويون المخصصون.

وحاصل القول أن كلمات المعاجم أدوات كأدوات المنازل:

منها الضخم الثقيل، ومنها المرهف الخفيف. فعلى الكاتب اللبق أن يستعمل كلاً في محله اللائق به. وسلام

ص: 36

(دمشق - الشام)

المغربي

ص: 37

‌بيت المغرب في مصر

للأستاذ سيد قطب

هيأ عقد المعاهدة بين مصر وإنجلترا الدولة المصرية الحديثة، أن تنتهج سياسة شرقية عربية كانت تطمح إليها من قبل، فيحول دون انتهابها أولاً مشاغل الوطنية باستكمال الاستقلال، وثانياً تيارات السياسة الاستعمارية المضادة للوحدة العربية الشرقية

وتطرق مظاهر هذه السياسة الجديدة في التفكير المصري الآن، وتتحقق بوسائل عملية لم تكن بارزة من قبل

فالأزهر اليوم يرحب بالبعثات الشرقية عامة، وهو وإن كان من قبل مثابة طلاب هذه البلاد، إلا أنه في هذه الأيام يشملهم برعاية خاصة، تتوجها رعاية الفاروق العظيم لهذه البعوث التي تفضل جلالته فجعل الأنفاق على الكثير منهما من جيبه الخاص

والجامعة تزخر بالكثيرين من أبناء البلاد الشقيقة، وتسهل لهم الطرق لاستكمال دراستهم بها

ودار العلوم تهم بإنشاء قسم داخلي للإخوان الشرقيين بها، مبالغة في توفير أسباب الراحة والدراسة المنظمة لهم

وفي الوقت ذاته تتجه مصر إلى جاراتها العربية للنظر في توحيد البرامج أو تقريبها على الأقل، ويعقد مؤتمر في تونس للثقافة العربية قوامه الأساتذة المصريون

وكلك تمد مصر يدها بخيرة أبنائها لهؤلاء الجيران الكرام، يحملون إليهم العلم والنور والخبرة في شتى الشئون

هذا كله في عالم الثقافة، فأما في عالم السياسة فأن قضية فلسطين كانت محكا لتوثق الروابط بين مصر والبلاد العربية كلها؛ وقد نالت هذه القضية عطف كل مصري واهتمامه، وآخر مظاهر الاهتمام كانت في المؤتمر البرلماني ومؤتمر الجامعة. كما أنني أعلم من مصادر وثيقة أن الحكومة المصرية قدمت لحكومة لندن مذكرة خاصة بهذا الموضوع، ضمنتها رأيها قوياً حازماً صريحاً، وإذا كانت لم تشأ نشر هذه المذكرة، فقد اختارت بهذا أن تتبع الطرق الدبلوماسية المناسبة للمعاهدة

في خلال هذه اليقظة التي تعمر الضمير المصري تجاه البلاد العربية، افتتح (بيت المغرب

ص: 38

في مصر) فكان افتتاحه في هذا الأوان علامة من علامات التوفيق، ومظهراً من مظاهر الحيوية العربية الكامنة التي تنبثق في أفضل المناسبات

وهو دليل جديد على الثقة بمصر، والتوجه إليها من أطراف المشرق العربي والمغرب العربي، هذه الثقة التي يحق للمصريين أن يفخروا بها، وأن يعنوا باستدامة أسبابها، وتمكين روابطها

وقد أحسنت مصر استقبال (بيت المغرب) واشتركت الحكومة والشعب بالحفاوة به وبسكانه، لتفتح قلبها اليوم لمثل هذه الصلات، بعد ما خلصت من قيود الاستعمار

ولقد كان لي من قبل حظ معرفة الرجل الوطني العامل الذي يشرف اليوم على بيت المغرب بأقسامه الثلاثة (مقر البعثة، ومكتب التبادل الثقافي، ومعرض الفن المغربي) إذ كان يدرس بمصر عام 1929 وكانت وجهتنا إذ ذاك مع نخبة من أكرم الأخوان المصريين والشرقيين أن نؤلف جمعية للطلبة من هؤلاء وهؤلاء، تمكن من الروابط بين الجميع، وتعمل للمستقبل في توثيق العلاقات وتسهل للطلبة الشرقيين وسائل العلم والراحة في مصر

وكان الأستاذ المكي الناصري أشد المتحمسين للفكرة، وكنا نجتمع - غالباً - في داره بمصر للمباحثات في تحقيق هذا الأمل الكريم

فمن حسن الحظ أن يكون هذا الرجل هو الذي يتولى الآن تنفيذ فكرة (بيت المغرب) إذ هو أصلح رجل مغربي - فيما أعتقد - لتنفيذها، لسابق معرفته بالأوساط المصرية وسابق تفكيره في مثل هذه المشروعات

ورؤيتنا لبيت المغرب حقيقة ملموسة، تثير في نفوسنا التساؤل: متى يكون لكل أمة عربية بيت في مصر على مثال هذا البيت الوطيد؟

إن اليوم الذي تكون فيه لكل بلد شرقي بعثة دائمة في مصر على هذا المثال لهو اليوم الذي يتم فيه توحيد الثقافة والاتجاه بين هذه الأمم، فتتم لها العزة العربية التي تحلم بها في المستقبل القريب - إن شاء الله -

(حلوان)

سيد قطب

ص: 39

‌التاريخ في سير أبطاله

إبراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 27 -

ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس طيلة حياته. وأي شيء أشد سوءاً من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى وبخاصة حين أحس الناس أن الحرب لابد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها. وهاهو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى مسمعيه. وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فان كثيراً من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم وتذمرهم ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية. . .

وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيراً من الناس كانوا يلومونه ويرجعون سبب الهزائم إليه؛ ويغفلون في ذلك عما كان يفعل قواده وعلى الأخص ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به إحدى خطايا الجماعات

ورجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة؛ ذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان لأعدائهم من الجاريات المواخر فيه؛ ولقد استطاع أحد القواد البحريين وهو فَرَّاجُت أن يسير في تلك السنة بسفنه إلى نيوأورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله أهل الجنوب على هذا النحو مما خفف على الشماليين بعض ما كانوا يلاقونه في البر من هوان وذلة. . . ولسوف تكون تلك القوة البحرية في النهاية عاملاً من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة. . .

وبينما كانت الحرب تتأجج نارها ويتفجر بركانها، وتتواثب في البر والبحر شياطينها، كان

ص: 41

الرئيس يفكر في أمر هو أعظم ما فكر فيه من الأمر. . . ولقد كان من أجل مواهبه أنه كان يتبين الأمور على حقيقتها مهما التوت عليه سبلها واختلطت وشائجها، وهو في ذلك يلقي بنظره فيتبين حقيقة موقفه وموقف أعدائه ثم يسدد خطاه على هدى مما رأى دون أن تفوته صغيرة أو كبيرة مما تقع عليه عيناه. . .

وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قواه ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الأقدام بد؛ وليس لما عسى أن يلقي من المعارضة أي وزن عنده. . . ومتى عقد إبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو تهاون في العمل على إنفاذه. .؟

صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما انتظر أن تواتيه لها الفرصة. . . أجل، أراد الرئيس اليوم أن يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به ألا وهو تحرير العبيد! وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسمياً وفي مجال واسع ما سبقه إليه فريمونت وهنتر، ولن يتردد أن يأخذ بما رفض من قبل مهما يكن من الغرابة في موقفه، ولكن أية غرابة وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحملهم على قبول حجته؟

الحق أن الرئيس لم يغفل يوماً عن مسألة العبيد، ولم ينس ذلك النظام المنكر البغيض الذي نشأ على مقته وازدرائه والذي طالما تمنى أن تنجو البلاد من آثامه. . . ولكنه كان يحرص ألا تفسد مسألة العبيد عليه قضية الحرب، ولقد كان محور تلك القضية كما مر بنا المحافظة على الوحدة؛ فلما رأى تحرير العبيد قد أصبح عاملاً من عوامل نصرة تلك القضية وعنصراً من عناصر نجاحها، لم يتردد ولم يخف ومضى قدماً إلى غايته. . .

وكان الرئيس قد خطا خطوة في هذه المسألة في أوائل السنة الثانية من سني رياسته (6 مارس سنة 1862) وذلك أنه أرسل إلى المجلس التشريعي مقترحاً أن يصدر المجلس قراراً به تعوض الولايات التي تقضي على نظام العبيد فيها تدريجياً تعويضاً مادياً عادلاً، وأصدر المجلس ذلك القرار ولكن الولايات المحايدة عارضته ورفضته وهي المقصودة قبل غيرها به. . . ودعا الرئيس ممثليها وحاول إقناعهم ولكنهم لم يقتنعوا فمنيت الفكرة بالفشل ولم يفد الرئيس منها إلا أنه تعرض لنقد هذه الولايات ولومها ثم للوم دعاة التحرير من جهة أخرى لأنهم رأوا في الفكرة تردداً وتقاعداً وهم يريدون التحرير العاجل في غير تحفظ أو تراجع

ص: 42

وكان الرئيس لا يزال يقلب الأمر على وجوهه، فهو يخشى من التحرير العاجل الشامل أن يغضب الولايات المحايدة فتنضم إلى الاتحاد الجنوبي، وكان يعد ذلك، والحرب قائمة، كارثة؛ ثم هو يخاف أن يتهم أنه ما أثار هذه الحرب الضروس إلا من أجل نظام العبيد مع أن الدستور يقر ذلك النظام.

وهو في الوقت نفسه يرى أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على ساداتهم في الجنوب فتضعف شوكتهم، هذا إلى رفضهم العمل في فلاحة الأرض بعد ذلك فيضطر البيض إلى العمل مكانهم فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلاً عن أن التحرير من شانه أن يكسب الرئيس وحكومته عطف الدول المتمدنة في أوروبا فلا تناوئه وهو فوق ذلك جميعاً يقضي على ذلك النظام البغيض الذي تنفر منه الإنسانية وتستخذي له، والذي ما فتئ الرئيس ينتظر يوم الخلاص منه. . .

ولكن يبقى بعد ذلك حكم الدستور في الأمر، فالدستور يقر امتلاك العبيد، وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه العامل منذ اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقدسيه. . . على أنه يجد مخرجاً من ذلك فالمسألة تدعو إليها ضرورة حربية وهو مستطيع أن يحمل الممثلين بسهولة على تعديل الدستور في هذه النقطة. . .

بذلك لا يعوز الرئيس إلا الفرصة المناسبة وقد لبث يترقبها. . ولهذا كان يرفض أن يشايع دعاة التحرير قبل أن تحين الساعة فلا عجب أن يرفض في مايو من تلك السنة ما فعله القائد هنتر ولكن ليفعله هو بعد حين. . .

لبث الرئيس يترقب الفرصة، وكانت البلاد يتزايد فيها الشعور بضرورة القضاء على العبودية، ويتجلى ذلك الشعور في تلك العبارة التي كتبها قبل ذلك بنحو ثمانية شهور أحد الكتاب المؤرخين والتي جاء فيها (إن هذه الحرب الأهلية هي الأداة التي سخرها الله لاقتلاع جذور العبودية، وإن أعقابنا سوف لا يرضون بنتيجتها إلا إذا كان مما تحدثه الحرب ازدياد عدد الولايات الحرة هذا هو ما يتوقعه الجميع وهذا هو الأمل الذي ينشده جميع الأحزاب)

وكانت أولى الخطوات العملية التي جاءت مظهراً لهذا الشعور أن أصدر المجلس في أبريل

ص: 43

قراراً بالتحرير العاجل في العاصمة وما حولها؛ ولما وقع لنكولن على هذا القرار قال: (عندما تقدمت باقتراح إلى المجلس عام 1849 للقضاء على العبودية في هذه العاصمة ولم أكد أجد من يستمع إلى ذلك الاقتراح، لم أكن أحلم أنه سوف يتحقق بمثل هذه السرعة)

ولقد كان هذا القرار بمثابة مقدمة لما سيتلوه في القريب من تحرير شامل عاجل للعبيد في الولايات جميعاً، ذلك العمل الذي سوف يضاف إلى تراث الإنسانية ويعد من مآثر البشرية في هذا الوجود

وكان على ممثلي الولايات المحايدة، تلك الولايات الوسطى أن تعتبر بما جاء في هذا القرار، لكنهم ظلوا على عنادهم على الرغم من أن الرئيس قد دعاهم إلى مؤتمر آخر في يوليو سرد لهم فيه وجهة نظره وأطلعهم على حججه

أخذ الرئيس يتحين الفرصة ولكن الموقف الحربي في صيف ذلك العام كان على ما بينا من حرج وشدة، فالقائد ماكليلان في زحفه على رتشموند متلكئ متردد، ولقد تراجع في يوليو تراجعاً مهيناً مخجلاً وإنه ليرفع عقيرته بالسخط على رجال الحكومة في العاصمة كما أسلفنا، الأمر الذي تألم له الرئيس أشد الألم ووقع منه في غمة شديدة وحيرة

وأراد الرئيس أن يفرج عن نفسه فيعلن التحرير في تلك الآونة، ولكن سيوارد أشار عليه أن يتريث ويرجئ المسألة إلى حين، فانه إن فعل اليوم وأعلن التحرير عد ذلك منه ضرباً من اليأس وهو مهزوم مستضعف. . . ورأى الرئيس وجاهة رأي صاحبه فآثر التريث والصبر قائلاً: إن التحرير معناه يومئذ (آخر صرخة في الهروب)

وأخذت الأصوات ترتفع من كل جانب بمطالبة الرئيس بإعلان قرار التحرير، ومن ذلك ما جاء في جريدة نيويورك تربيون على لسان محررها جربلي وهو ذلك الصحافي العظيم الذي كانت تربطه بالرئيس صلة منذ بدأ يعظم شأنه في الحزب الجمهوري.

كتب جربلي في عبارة صارمة يأخذ على الرئيس تردده ويطلب إليه في لهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الرجاء أن يعلن تحرير العبيد. ولقد عجب الناس حين رأوا الرئيس يرد بنفسه في الصحيفة على محررها ومما جاء في رده قوله (أذا كان هناك من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يحافظوا على نظام العبيد فإني لست معهم، وإذا كان هناك من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يقضوا على نظام العبيد فأني لست معهم! إن غرضي الأسمى

ص: 44

هو أن احفظ الاتحاد وليس هو أن أحفظ أو أقضي على العبودية. فإذا تسنى لي أن أنقذ الاتحاد دون أن أحرر عبداً واحداً فعلت ذلك، وإذا كان في وسعي أن أنقذه بتحرير جميع العبيد فعلت ذلك. . . وإذا استطعت أن أحافظ عليه بتحرير بعض العبيد وترك البعض فعلت ذلك أيضاً. . .)

وكان جيش الجنوبيين يزحف على وشنجطون بقيادة لي وقد عبر نهر بوتوماك ونزل في ولاية ماري لند، وأسقط في يد الشماليين وباتت عاصمتهم في ذعر وهلع. . . وحزن الرئيس وضاق صدره بماكليلان وأقسم لئن ارتد العدو ولحقت به الهزيمة ليعلنن قرار التحرير إثر ذلك

وأخيراً التحم الجيشان في سبتمبر: جيش لي وجيش ماكليلان وارتد الجنوبيون عقب معركة أنتيتام التي أشرنا إليها وكان تراجعهم في اليوم السابع عشر من الشهر

وفي اليوم الثاني والعشرين من هذا الشهر دعا الرئيس مجلس الوزراء إلى الاجتماع عنده، ولم يكن أحد من الوزراء يعلم الغرض من هذا الاجتماع، ولما أكتمل جمعهم فتح الرئيس كتاباً كان يقرأ فيه، وأخذ يقرأ في صوت جهوري قصة فيه أعجبته وهو يضحك والوزراء يضحكون ويعجبون إلا أحدهم وهو ستانتون فكان يضيق بكثير مما يفعل الرئيس وبما يأتيه من ضروب المزاح، وهو لا يدري أن مثل هذا الرجل في تلك الشدائد أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويخفف عنها بعض ما بها. . . وإلا فكيف يستطيع أن ينهض بذلك الحمل الذي تنوء به الجبال؟ وكثيراً ما يكون ضحك بني الإنسان مغالبة منهم لما يجيش في نفوسهم مما يصبه الدهر عليهم من آلام وخداعاً منهم لأنفسهم عما بها ولو ساعة أو بعض ساعة

ولما فرغ الرئيس من تلاوة القصة غامت أسارير وجهه وبدت عليه إمارات الجد ودلائل الاهتمام والحزم، فأخرج من جيبه ورقاً طويلاً كتبه بخط يده وتلاه على الأعضاء فإذا هو قرار التحرير

أعلن الرئيس أن العبيد في جميع الولايات بعد اليوم الأول من السنة الجديدة أحرار وأن الحكومة ستعترف بحريتهم وتساعدهم على بلوغها وأنها ستقوم بتعويض الولايات الموالية عما تطلقهم من العبيد. . . وبهذا الإعلان ضرب نظام العبودية ضربة سوف تكون القاضية

ص: 45

عليه، وبه تحقق حلم طالما منى الرئيس به نفسه، ورأى ذلك النجار - الذي وقف في صدر شبابه مرة في مدينة أورليانز يشهد سوق العبيد - نفسه يقضي على ذلك النظام فيعلن باسم حكومة هو رئيسها أن عبودية بعد اليوم المحدد وأن الشعب الأمريكي جميعه شعب حر، وأن أمريكا دولة حرة وأمة حرة

أعلن الرئيس كلمته وأدى رسالته، وشهد ابن الغابة اليوم الذي يقف فيه موقف الآمر الذي ينطق باسم شعب في أمر طالما شغل باله وبال الأحرار في ذلك الشعب، ورأى العالم نوعاً جديداً من الحركات الكبرى تؤثر في تاريخه وتضاف إلى سجله، حركة من تلك الحركات التي تنقل تاريخ الشعوب من فصل إلى فصل

وهزت البلاد من أعماقها فرحة عظيمة، وراح الناس يعلنون عن ابتهاجهم بالزينات ينصبونها والليالي يقيمونها ويملئونها بأفراحهم واحتفالاتهم ومظاهر حبورهم

وانهالت على الرئيس رسائل التهنئة والإعجاب يحملها البرق والبريد من أمريكا ومن خارج أمريكا. . . فلقد تلفتت أوربا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن وتضع أسم رجلها وهدية إحراجها لنكولن إلى جانب أسم بطلها ومحررها وشنجطون الذي انتزع لها استقلالها بحد السيف من الغاصبين من أعدائها

والرئيس صامت لا يعرف البطر كما لا يعرف الخور؛ يتلقى تهاني المهنئين وكلمات المعجبين بحزمه في سكون وتواضع، وإنه ليحس ألا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد يرى مظهرهما تلك الحرب التي ما فتئ يتزايد سعيرها. . .

يتبع

الخفيف

ص: 46

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 43 -

من شئونه الاجتماعية

لم يكن الرافعي عضواً في جماعة من الجماعات، ولا منتسباً إلى حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف؛ إذ كان يؤثر الوحدة والاستقلال في الرأي. وكان من التعصب لرأيه والاعتداد بنفسه بحيث يأبى أن ينزل عن رأي يراه مجاملة لصديق أو خضوعاً لرأي جماعة ينتسب إليها؛ وكان له من علته سبب آخر نّبهتُ إليه عند الحديث عن نشأته. ثم إن الرافعي لم يكن رجلاً اجتماعياً يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوبَ الناس فيما يليق وما لا يليق؛ فهو لا يعتبر إلا رأيَه أو حاجتَه أو مصلحتَه فيما يكون بينه وبين الناس من صِلات، ولم يكن يعرف هذا (النفاق الاجتماعي) الذي يسميه الناس: التقاليدَ، أو الأدب اللائق!. . . فهو بذلك كان عالماً منفرداً يسير في نهجه إلى الهدف المؤمَّل على وحي الفطرة أو هَدْى الإيمان. سمَّ هذا شذوذاً في الخُلق، أو سمَّه استقلالاً في الرأي وأسلوباً من التعبير عن الشخصية المتميزة بخصائصها؛ فما يعنيني هنا إلا إثبات هذه الحقيقة في التاريخ كما شهدتها في معاملاته وفي صِلاته بالناس، وكما لمحتها في جملة من أحاديثه. . .

. . . هذه الأسباب هي أهمّ ما كان يباعد بين الرافعي والاشتراك في الجماعات، أو يباعد بينها وبينه!

على أن ذلك لم يكن يمنعه أن يكون هواه مع جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب في وقت ما لسبب ما، ولم يمنعه ذلك أن يكون عضواً في بعض الجماعات

وأول أمره في ذلك - على ما أعرف - أنه شرع وهو شاب لم يجاوز العشرين في تأليف جماعة من الشباب تدعو إلى نوع من الإصلاح الديني؛ وكان معه على هذا الرأي صديقان

ص: 47

من أترابه، أذكر منهما الأستاذ عبد الفتاح المرقي المحامي؛ وقد اتخذوا (مسجد البهي) في طنطا مكاناً لاجتماعهم وتبليغ دعوتهم، وطنطا، كما قد يعرف كثير من القراء، مركز هام من مراكز الثقافة في مصر، وفي أهلها حفاظ وتحرج، ولها صبغة دينية نشأت من أن فيها معهداً دينياً كبيراً في (الجامع الأحمدي) كان في وقت ما يشتد عدْواً في مسابقة الجامع الأزهر بالقاهرة. والأزهريون في طنطا، كالأزهريين في القاهرة إلى عهد قريب: أكثر أهل العلم في مصر حفاظاً على القديم، وأسرعهم إلى سوء الظن بكل إصلاح جديد، من ذلك لقي الرافعي وصاحباه في دعوتهم ما لقوا من عِداء طلبة الجامع الأحمدي وعلمائه، حتى هم الطلبة مرة أن ينالوهم بالأذى في أبدانهم. . . فلم يجد الرافعي وصاحباه في النهاية بداً من التسليم، وانحلت الجمعية الرافعية الصغيرة. . .

حدثني الرافعي حديث هذه الجمعية في خريف سنة 1932 بعد ثلث قرن مما كان؛ وكنت ذهبت إليه يومئذ في وفدٍ ثلاثة ندعوه إلى الاشتراك معنا في جماعة أنشأناها بطنطا في ذلك الوقت باسم (جماعة الثقافة الإسلامية) تدعو فيما تدعو إلى العمل على إحياء الشعور بمعنى القومية الإسلامية العربية، واتخذت لذلك وسائل وشرعت نهجاً؛ وكانت تضم فيمن تضم طائفة ممتازة من أهل الرأي والعلم والأدب، لكل منهم صوت ورأي وجاه في قومه. . .

ولبى الرافعي دعوتنا بعد تمنع، وانتظمت الجماعة على رأي واحد إلى هدف واحد، فلما استكملنا الأهبة، دعونا الشباب المثقفين في طنطا إلى اجتماع عام في ناد كبير، وكان الرافعي من خطباء الاجتماع. . .

صعد الرافعي إلى المنصة، فوقف برهة يجيل نظره في ذلك الجمع الحاشد، ثم انطلق في خطبته. . .

وعلى أن الدعوة إلى الاجتماع كانت عامة، وكان موضوعه هو الثقافة الإسلامية؛ فإنه لم يشهد هذا الاجتماع من شيوخ (الجامع الأحمدي) ومدرسيه غير ثلاثة من الشيوخ، وطائفة غير قليلة من المدرسين غير الشيوخ؛ ولم يفت الرافعي أن يلاحظ ذلك؛ فمال في خطبته إلى هذه الناحية، ينعى على شيوخ الأزهر أن يتجاهلوا واجبهم في مثل هذه الدعوة، وأن يؤثروا القعود على الجهاد لله! وكان فيما قاله: (. . . إن أدبياً كبيراً من وزراء الدولة قد قالها مرة منذ ثلاثين سنة: لو قعد حماري في الأزهر خمس عشرة سنة لخرج عالماً. وما

ص: 48

نحب أن يقولها اليوم أحد ليلحد في كفاية طائفة من أهل العلم والدين هم أكرم علينا. . .!)

قالها الرافعي في حماسة وانفعال وفي لهجة خطابية صارمة، فسمع المجتمعون همهمة عن يمينه وشماله، أما عن يمينه فكان للشيوخ الثلاثة قد آذاهم ما قال الرافعي، وأما عن الشمال فكان طائفة من المدرسين غير الشيوخ في الأزهر قد خافوا أن تؤول كلمة الرافعي تأويلاً ينالهم بالشر من إخوانهم الأزهريين. . .

وعلى أن الرافعي كان بريء الصدر فيما قال، ويعلم الأزهريون قبل غيرهم أن هواه معهم، وعلى أن صدر كلامه وخاتمته لم يكن فيه ما ينبئ عن قصد الإساءة، فان هذه الكلمة التي قالها قد أحدثت دوياً بين الأزهريين تهدد الجماعة في نشأتها

وسعى ساع إلى شيخ الجامع الأحمدي (المرحوم الأستاذ محمود الديناري) فأنباه أن الرافعي قد قال في خطبته: (لو قعد حماري في الأزهر بضع سنين لخرج أعلم من شيخ الأزهر. .!)

وكتبها كاتب في رسالة خاصة إلى الأستاذ الجليل الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر. . .!)

وتسامع بها الشيوخ على ما حكاها الراوي فراحوا يتناولون الرافعي وجماعته بما وسعهم من التجريح في أعراضهم ودينهم ومقاصدهم، وقال قائل منهم:(وما حاجتنا إلى هذه الجماعة فيما تدعو إليه؟ لقد انتشر الإسلام ومد ظلاله في العالم على حد السيف فما يغنى غناءه في هذه الدعوة كاتب يكتب أو خطيب يخطب!) وامتدت هذه المقالة الطائشة على لسان طائفة. . .

وعرف الطلاب من الأمر ما عرفوا فأعلنت طائفة منهم الحرب، وسعتْ طائفة في وفد إلى مدير المديرية تطلب إليه أن يقمع هذه الفتنة بسلطانه، واصطبغت المشكلة صبغة سياسية

كان للأزهريين يومئذ في السياسة دولة وسلطان. . .

وإذا اتصل الأمر بالسياسة فقد فزع طائفة من الموظفين المنتسبين إلى الجماعة فآثروا البراءة منها على الدفاع عنها، وأشفقت طائفة على مصير الجماعة فأوفدت وفداً إلى الأستاذ الديناري شيخ الجامع يحقق له الرواية ويبدد سوء الظن ويعتذر. . . ولكن شيخ الجامع رد الوفد رداًّ غير جميل وقال عن الرافعي ما قال. . .

ص: 49

وجاء الخبر إلى الرافعي بما أحدثت كلمته، فما أفزعه من ذلك إلا أن يصدق شيخ الأزهر ما نقل إليه منسوباً إلى الرافعي وإنهما لصديقان من زمان. . . فكتب إليه:

(. . . وإن شيخاً من علماء الجامع الأحمدي يزعم أن الإسلام قد انتشر على حد السيف، وهذا كلام، وسيبقى كلاماً ما دمت ساكتاً عنه، فإذا عرضتُ له بالمناقشة فقد تغير وجهه، لو كان وجه النهار لأسودّ!)

وعلم شيخ الأزهر حقيقة الدعوى التي ادعاها خصوم الرافعي عليه وما زادوا فيها ونقصوا، فكتب يعتذر إليه، وكتب إلى شيخ الجامع الأحمدي. . .

وكان الرافعي جالساً إلى مكتبه في المحكمة حين جاءه الرسول يدعوه إلى مقابلة شيخ الجامع الأحمدي فرده، وعاد يدعوه ثانية ويلح في الرجاء فحدد الرافعي موعداً. . .

وذهب إلى لقاء الشيخ فاستقبله العلماء بالباب في حفاوة بليغة، وسعوا بين يديه مهرولين إلى مكتب الشيخ؛ قال الرافعي:(ووجدت الشيخ في انتظاري وبين يديه (إعجاز القرآن)؛ فما لقيني حتى قال: (أتعرف يا سيدي أنني مدين لك؟ هذا كتابك لا أجد لي رفيقاً خيراً منه؛ إنه زادي وعمادي. ثم عبث في درج مكتبه قليلا فأخرج ورقة فيها شعر مكتوب، فدفعها إليّ وهو يقول: وهذه قصيدة أعددتها لأنشدها بين يدي المليك في طريق عودته إلى القاهرة من مصيفه؛ لا أجد من يصلحها خيراً منك، فأنت أنت للشعر وللبيان!)

قال الرافعي: (وبدون هذا كانت تقنع نفسي وترضى، ولكنها كانت وسيلة الشيخ إلى استرضائي بعد الذي قال عني منذ أيام؛ طاعة لأمر شيخ الأزهر. . . . . .!)

تم الصلح بين الرافعي والأزهر، ولكن الأزمة التي كانت، لم تبق على الجماعة فانحلت بعد ما طار منها أكثر أعضائها من الموظفين خشية التهمة بالسياسة، وكان للسياسية يومئذ حديث طويل. . .

ولم يشترك الرافعي على ما أعلم في غير هاتين الجماعتين

ولم تتهيأ للرافعي رحلة من الرحلات يفيد منها علماً أو تجربة طول حياته، غير رحلة أو رحلتين - لا أذكر - إلى الشام، لم يفارق مصر إلى غير الشام من بلاد الله؛ فزار طرابلس حيث ما تزال أسرة الرافعي لها ذكر وجاه، وزار لبنان حيث عرف صاحبة حديث القمر في سنة 1912

ص: 50

على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به؛ ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية؛ فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفراً بأمنية عزيزة، لأنه أتاح له أن ينتقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، فلا يكاد يستقر في بلد، فيوماً في القاهرة، ويوماً في الإسكندرية، ويوماً في بور سعيد؛ يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه. حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية فأحس شيئاً من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بور سعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد. .

وقد كان هذا الجواز هو سبب ما بينه وبين الأبراشي باشا مما فصلت مجمله في فصل سابق، حين امتنع الابراشي باشا مد أجل هذا الجواز بعد انتهائه!

وكان يغبط الذين يجدون في طاقتهم أن يقضوا الصيف من كل عام في أوربا ويتمنى لو أتيح له، ليفيد من ذلك شيئاً يجدي على أدبه. على أنه مع ذلك كان يرحل إلى أوربا أيان يريد، ولكن في السيما. . .

كان يسمى السيما: خارج القطر! ويزعم أن في ذهابه لمشاهدتها كلما سنحت له الفرصة غناء عن السفر، فسواء عنده أن يرحل إلى أوربا في قطار أو باخرة، وأن ترحل إليه أوربا بحالها في رواية يشاهدها على ستار السيما؛ فلكيهما أثر متشابه في نفسه؛ وذلك بعض مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة!

وكم كان ظريفاً أن تسمعه يتحدث إلى صديق من أصدقائه قائلاً: (هل لك أن تصحبني الليلة إلى خارج القطر؟) يلقي هذا السؤال بلا تكلف ولا قصد إلى الفكاهة، لأن كلمة (خارج القطر) كانت عنده علماً عرفياً على السيما لا يحتاج إلى تعليق!

وكان عجيبا في إيمانه بالغيب، وتناجي الأرواح، وتنادي الموتى والأحياء؛ وكان يؤمن بالسحر والعرافة؛ وكثيراً ما كنت تسمع منه:(حدثتني نفسي. . . أُلْقِي إلي. . . هتف بي هاتف) وكان يعني ما يقول على حقيقته. جلست إليه مرة في منزله، فأخذنا في حديث طويل. . . وعلى حين غفلة سكت، ثم قال:(وكيف صديقنا مخلوف؟) قلت: (لم أره من زمان!) قال: (إنه قادم الساعة. . لقد أُلْقِي إلي. . . أحسبه الآن يصعد في السلم. . .!) فما

ص: 51

كاد يتم حتى دق الجرس. وكان الأستاذ حسنين مخلوف هو القادم، وسألت الأستاذ مخلوفا: أكان على موعد مع الرافعي؟ فنفى لي كل ظنة!

وسألني مرة أخرى: (ماذا تعرف عن صديقنا م؟) قلت: (لا جديد من أخباره!) قال: يهتف بي الساعة هاتف أنه في شر!) وفي صباح اليوم التالي كان نبأ شروعه في الانتحار منشوراً في الصحف!. . . وفي الرسائل التي تبادلاها بعد هذه الحادثة ما يبعد الظن بأن الرافعي كان يعلم شيئاً!

وكان بينه وبين رجل قضية، فغاظه، وجاءني الرافعي يوماً محنقاً وهو يقول:(سينتقم الله منه! سينتقم الله منه! قلبي يحدثني بأن القصاص قريب!) وفي الغد جاءنا نعى الرجل، وكنت مع الرافعي وقتئذ، فتندت عيناه بالدمع، وتناول سبحته وأخذ يتمتم في صوت خافت وشفته تختلج من شدة الانفعال!

هذه حوادث ثلاث رايتها بعيني، ولعلها من عجائب الأخبار عند بعض القراء، واحسبني قد رأيت له غير ذلك، ولكني لا أتذكره الآن. . .

وحدثني أن أباه كان مسافراً مرة إلى بلد ما، وكان عليه صلاة، فافترش مصلى وأخذ يصلي على رصيف المحطة، وإنه لكذلك إذ جاء القطار، قال: وكان أبي حريصاً على ميعاد هذه السفرة، يخشى شيئاً لو تأخر عن موعدها، وما كان بين موعد قدوم القطار وسفره ما يتسع لصلاة الشيخ؛ ولكن الشيخ استمر في صلاته على وّنَى واطمئنان؛ وما تحرك القطار إلا بعد أن فرغ الشيخ من صلاته، واطمأن في كرسيه، وحيَّا مودِّعيه ووصّي؛ وكان سبب تأخير القطار شيئاً غير مألوف يتصل بشأن من شئون المحطة!

وأحسبه ذكر مرة في بعض ما كتب كيف ثقل نعش أمه على كتفه ثم خف!

واخبرني أنه لما مات أخوه المرحوم محمد كامل الرافعي استحضر روحه فلبت نداءه، وكان بينهما حديث لا أذكره؛ وحاول مرة أن يعلمني وسيلة لتحضير الأرواح ولكني لم أتعلم!

وكان يحفظ كثيراً من الأدعية والدعوات لأسبابها!

ولما وقع في حب (فلانة) ونال منه الوجد بها، لجأ إلى العرافين في أمل يأمله، فكتب تميمة فعلقها في خيط فربطها في سارية بأعلى الدار تتلاعب بها الريح. . . قال: ولكن أمورا

ص: 52

عجيبة مفزعة وقعت لي ولأهلي ولسكان الدار جميعاً في خلال اليومين اللذين كانت التميمة معلقة فيهما؛ فأيقنت أن ذلك من ذلك؛ فان لكل تميمة غايتين: أحدهما ما تأمل وثانيتهما مما تخاف، وكان ما وقع لي وما يتهددني من شر أكبر عندي من الأمل الذي أرجو؛ فندمت على ما كان، وتسللت إلى السطح فحللت رباط التميمة وفضضت خاتمها. . قال: فما فعلت ذلك عادت الأمور تسير على عادتها في رفق وأناة، وزال ما كنت أحذر وهدأتْ نفسي من ناحيته؛ فما كان شأني في الحالتين إلا كراكب سفينة هبتْ عليها عاصفة ثم قرت!. . . قال: وما كان الذي وقع لي في هذين اليومين مما يقع في العادة، ولا كانت نهايته، وقد فضضت خاتم التميمة، بالنهاية التي تنتظر. . .!

وكان يؤمن إيماناً لا شك فيه بأن يوماً ما سيأتي فيرتد إليه سمعه بلا علاج ولا معاناة، لأن بشيراً من الغيب هتف بهذه البشرى في نفسه وهي لابد واقعة! وقد مات وعلى مكتبه رسالة من صديقه الأستاذ فليكس فارس يشير عليه بتجربة لترد عليه سمعه الذي فقده منذ ثلاثين سنة أو يزيد، ورسالة أخرى من صديقه الأستاذ حافظ عامر فيها شيء يشبه ذلك!

وأحسبه قال لي مرة أو مرات وكنت جالساً أتحدث إليه: (ارفع صوتك بالحديث لعل الساعة الموعودة قد حانت فأسمع ما تقول!)

ولو أنني ذهبت أستقصي ما أعرف من مثل هذه الأخبار ما وسعني الوقت، وفي بعض ما قدمت الكفاية لمن يلتمس أسباب العلم

وكان الرافعي ولوعاً بالرياضة البدنية من لدن نشأته، يعالج أسبابها في أوقاتٍ رتيبة، وكان المشي الطويل أحبًّ رياضة إليه

خرجت مرة في جماعة من صحبي يوم شم النسيم للرياضة بُعيد الفجر، وكان معنا ماؤنا وطعامنا وقد عزمنا أن نقضي اليوم كله في الخلاء، فلما صرنا على بعد ميل من المدينة والشمس لم تشرق، لمحت الرافعي على بعد يخب في مشيته على حافة قناة بين زرعين؛ فلما دنوت منه رأيته يميل فيبلّل كفيه بأنداء الفجر على أوراق البرسيم فيمسح بها وجهه وهو مغتبط مبسوط؛ وأقبلت عليه أسأله، قال: هذه رياضة تحلو لي كثيراً، فما أتركها إلا لعارض، بل إني ليطيب لي أحياناً أن أخرج من البيت قبل الفطور لأجول هذه الجولة، ثم أعود لأفطر وأخرج إلى الديوان. . قلت: وهذا الندى الذي تغسل به وجهك؟ قال: إنه

ص: 53

ينِّضر الوجه ويردَ الشباب! ثم سأل: وأنتم أين تقصدون؟ قلت: هذه رياضة لا نقوم بها في العام إلا مرة، وأن معنا لطعاماً وماءً وحلوى؛ فهل تصحبنا؟

قال: وددت ولكن في غير هذا اليوم. . . أسأل الله لكم العافية! ونالنا في هذا اليوم شر لم نتوقعه، فعدنا قبل أن ينتصف النهار محزونين!. . .

وسمع الرافعي بما نالنا فقال: (هو ذلك! إن الشر ليتربص بالمسلم الذي يحتفل لهذا اليوم أكثر مما يحتفل لمطلع المحرم! هذه وصية أب!)

. . . وكان يعالج كثيراً من وسائل الرياضة غير المشي، وقد أتقن أكثر تمرينات (صاندو) الرياضي الفرنسي المشهور. وقد اجتمعت على مكتبه مرة صورتا الشيخ محمد عبده وصاندو؛ فاسترعى اجتماعهما ملاحظتي، فقال:(هذان قوتان تعمل في نفسي: قوة في روحي وقوة في جسدي!)

وكان سباحاً ماهراً، وكانت له جولات في السباحة يشهدها شاطئ سيدي بشر في الصيف، وكان يقصد هو وأسرته للاستحمام هناك جانباً من الشاطئ غير مطروق لعنفوانه وشدة موجه وكان يمزح ويسميه (بلاج الرافعي) إذ قل أن يقصد إليه للاستحمام أحد من المصطافين في سيدي بشر غير الرافعي وأسرته

ولا يطعن في قدرة الرافعي على السباحة أنه أوشك أن يغرق مرة؛ كان ذلك قبل منعاه بأشهر، وكاد يغرق معه طائفة من أولاده، لولا أن أسرع حارس الشط لنجدتهم

وللرافعي صورة طريفة تصورها منذ بضع عشرة سنة، وتمثله في زي أبطال الرياضة المشهورين: عاري الجسد بارز العضلات؛ وددت لو حصلت على هذه الصورة!

وله مقالات مشهورة عن الرياضة البدنية، نشرها مسلسلة في مجلة (المضمار) الرياضية التي كانت تصدر في القاهرة منذ بضع عشرة سنة

وكانت عنايته بالرياضة من أسباب قوته البدنية، ومن أسباب قوته العصبية أيضاً، ومن هاتين كان اصطبار الرافعي على العمل الشاق فيما يعالج من شئون الأدب

ولكنه وا أسفا. . . قد مات بغير علة، لأن القدر أقوى من احتيال البشر!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 54

‌من رحلة الشتاء

في مضارب عجيل الياور

شيخ مشايخ شمر

للآنسة زينب الحكيم

تركت بغداد في مساء الاثنين 14 من مارس سنة 1938 مستقلة القطار إلى كركوك والساعة التاسعة مساء، فوصلتها في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي، ذلك لأن المسافة من بغداد إلى كركوك زهاء 326 كيلو متراً، وخط سكة الحديد هذه يمتد على ضفة نهر ديالة اليمنى ثم اليسرى، وعرضه متر واحد، ولا تتجاوز سرعة القطار عليه 25 كيلو متراً في الساعة. لأنه بنى على أسس واهية، كالجسور الخشبية والقواعد الترابية. ولأن الأدوات التي استعملت في إنشاء السكك الحديدية هناك لم تغير منذ ذلك الوقت، فقد بليت.

وإدارة سكة الحديد هي التي تقوم برعاية هذه السكك في العراق، ولولا العناية التي تبذلها لكان سير القطر من أخطر الأمور؛ ولأصبح السفر من جهات العراق النائية إلى بعضها عسيراً.

من كركوك أخذت سيارة إلى الموصل، فقطعت 160 كيلو متراً في جادات ولو أنها معبدة إلا أن المطر الغزير قد أتلف أجزاء كبيرة منها، فكاد السير عليها يكون مستحيلاً.

بعد أن قضيت بضعة أيام في الموصل رأيت فيها معالمها التاريخية، والإنشائية، وجزءاً كبيراً من أطرافها (كبلدة تلكيف، والشيخ عدي، والعمادية وغيرها)، وبعد أن فرجني على بساتينها الغناء، ومبانيها الجديدة المشيدة، وشوارعها المرصوفة الواسعة، السيد خير الدين بك العمري رئيس بلدية الموصل، أخذت السيارة منها إلى معاقل قبائل شمر العتيدة.

كنت قد أرسلت خبراً للشيخ عجيلي الياور برغبتي في زيارتي معاقله، فلما بلغني خبر ترحيبه واستعداده لإرسال سيارة من سياراته الخاصة الفخمة تحملني من الموصل إلى خيامه، شكرت له ترحيبه، واعتذرت من قبول الذهاب في سيارته، لأن سيارتي كانت حاضرة. فقبل العذر عن هذه، ولكنه حتم أن يستقبلني رجاله في مناطق معينة من الطريق، وأن يصطحبنا دليل منهم إلى الخيام، خشية أن نضل.

ص: 56

قمنا بالسيارة صبيحة يوم الثلاثاء 22 من مارس 1938 من الموصل ووجهتنا (تل أعفر) - وتل أعفر هذه قرية في وسط الطريق الذي طوله خمسون ومائة كيلو متر بين الموصل ومضارب قبائل شمر بالشلقاط.

تقع هذه القرية على نهر دجلة الذي رأيت النساء يغسلن الأواني والثياب على ضفتيه، وأدهشتني طريقة غسل النسوة للملابس، إذ تمسك كل امرأة مطرقة خشبية لدق الثياب.

ولست أفهم الصلة بين إزالة الأوساخ من الثياب وبين دقها بذاك المضرب الخشبي وهي موضوعة على صخرة سوى تمزيقها، ما لم يكن لديهن سر لا نفهمه!!

في تل أعفر أبى مستقبلونا من رجال الشيخ عجيل الياور إلا أن نشرب الشاي فأجلسونا في شيخانة (مشرب الشاي) بسيطة، أحسن الموجود في القرية، وغير مزدحمة بالناس. بعد دقائق قدم لنا الشاي الأسود في كوبات صغيرة، وكان طعمه مثل الماء المذاب فيه (الشبة) الثقيلة جداً

ثم واصلنا المسير، ومعنا دليل الشيخ. أما عن رداءة الطريق فحدث ولا حرج، المطر المنهمر يكاد يغرق السيارة بمن فيها، أما العشب الأخضر النضر على جانبي الطريق، والأزهار البديعة الألوان، المختلفة الأنواع، فتسبح كلها في لجج متموجة. وظهر الجو كأنما خيم عليه ضباب متكلم، إذ يسمع تساقط المطر ولا ترى وحداته لغزارته وسرعته

منظر من مناظر الطبيعة العظيمة الهائلة، فضاء في فضاء لا يحجب النظر فيه إلا الأفق، ويجري الإنسان فيه بقوة العلم والاختراع. فلا ماء المطر على غزارته بمستطيع إطفاء نار السيارة، ولا السيارة تكل عن مسابقة العواصف والمطر، ولا إرادة الإنسان بمستضعفة حتى تبلغ المرمى

الطبيعة عاصفة ثائرة. والإنسان جبار لا ينثني عزمه متى عزم

هانحن أولاء نترك الطريق الطيني المبلل بعد أن سرنا عليه ساعات، ويشير الدليل بالسير على مروج خضراء غارقة في الماء، وبدأ الخفاق يدق بقوة وسرعة، فالعشب مرتفع، ولا يؤمن معه العثار، ولكن من ذا الذي يجرؤ أن يزيد من مخاوف السائق الكردي التعب، الذي هدته وعورة الطريق ورداءة الجو؟!

سيري على بركة الله أيتها الجارية، وأي بركة تحدث لها، إذا كان عليها أن تصطدم فجأة

ص: 57

بسيل جارف كون نهراً عالياً؟! إن للبادية لمخاطر ومفارقات، وإن لرجل البادية لنظرا

أشار الدليل على السائق بتحويل اتجاهه، وبشق الأنفس خرجنا من المأزق سالمين

هاهي ذي النفس تنتعش، والصدر ينشرح، فقد ظهرت بعض بيوت الشعر، وفي مقدمتها الخيام البيضاء - خيام العلم والنور، والكرم والضيافة - التابعة لشيخ المشايخ

وهاهي ذي عيون البدو ترمقنا من بعيد، وسيارة الشيخ تسرع في استقبالنا، ونصل إلى المضارب أخيراً، فيزيل عناءنا بشر الشيخ وسجاياه العربية البدوية الكريمة: أهلاً ومرحباً، هاهو ذا المطر قد كف، والسماء بدأت تتكشف، والعاصفة أخذت تهدأ. إن في مقدمكم الخير بنزول الغيث فما أكرمه من مقدم. فسلمنا عليه وجلسنا خارج الخيام، على مقاعد من قماش ذات مسندين وظهر من الخشب (مثل ما نستعمله على ظهر الباخرة أو في الحديقة) فقلت في نفسي: غريب هذا في هذه البيئة! وما أسمع إلا والشيخ صفوك بن الشيخ عجيل الياور وولي عهد ملك البادية يقول: -

(مرحباً بكم. إننا سعداء جداً برؤيتكم هنا)

قال ذلك في نطق صحيح ولهجة إنجليزية أمريكية. فذهلت! شيخ بدوي قح، يرتدي الملابس البدوية والعقال، وبينه وبين الحضر أميال وأميال، أو إن شئت فقل بينه وبين العالم والحياة أجيال، يكون هو هذا المتكلم المداعب في لباقة ولياقة!؟ يا ما في الدنيا عجايب!

وقلت: إنها مفاجأة ظريفة من رجل الصحراء، فاستدرك مسرعاً وقال: بل من رجل البادية

قلت: وما الفرق بين الصحراء والبادية أيها المعلم اليقظ؟

قال: إن الصحراء مجدبة ورمالها أخشن وتراكمها أسمك. أما الأرض هنا (أي بين النهرين دجلة والفرات - موزوبيتميا فمن أخصب بقاع العالم

حقاً لقد رأيتها كلها مغطاة بالعشب المترعرع بقوة، ونبات القمح والشعير حسن النماء، وشجر الزيتون مورق مورف. . انصرفت إلى تفكيري الخاص برهة، أعلل سبب تحول هذه الصحراء إلى بادية ممرعة. وأسعفتني معلوماتي الجغرافية، فتبينت أنه الرافدان بما امتازا به من روافد طميية سميكة إبان الفيضان، ولعدم تنظيم تصريف مياههما لقلة مشاريع

ص: 58

الري، تفيض هذه المياه المتدفقة عاماً بعد عام على المساحات الشاسعة جداً فيما بين النهرين وعلى جوانبهما الأخرى. فتتشبع الأرض سنوياً بالمياه ويمتزج رملها بالطمى، فأصبحت بقاعاً من أخصب واصلح البقاع الزراعية في العالم

ولذلك لون التربة أغبر بين الصفرة والحمرة والسمرة، فلونها مخالف لما نراه في صحراء ليبيا أو قرب غزة والعريش مثلاً

هذا تصحيح من رجل البادية عرفه بالتجربة العملية وليس من الكتب، ورجل البادية ولو أنه محدود التفكير إلى حد كبير لبيئته وظروفه، إلا أنه كما لحظت حاد البصر نافذ البصيرة متوقد الذكاء كريم، له استعداد قوي للتقدم، ولكنه شديد الرضى سريع التسليم

ومن أهم ما لفت انتباهي اعتماده على القدرة الإلهية، أو على من يتوسم فيه رعاية مصالحه؛ وكل البدو في هذه المناطق خاضعون للنظام العشائري البحت، ويأبون تدخل الحكومة في فض مشكلاتهم من أي نوع، ولو فرض وكان لبعضهم مشكلات تصل إلى المحاكم في بغداد أو غيرها مثلاً، فشيخ مشايخ شمر أو ابنه، هو الذي يمثل هؤلاء أمام الجهات المختصة ويدفع عنهم ويفض هذه القضايا. ولهذه الاعتبارات وأشباهها تخضع القبائل لرئيسهم خضوعاً تاماً، وهو يسهر على مصالحهم. ويسرني أن أذكر بعض المشروعات الإصلاحية التي بدأت فعلاً بين هذه القبائل البدوية في المقال التالي

زينب الحكيم

ص: 59

‌من روائع أدب الغرب

الإنسان

?

لشاعر الحب والجمال لامرتين

للأديب حسين تفكجي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

- 7 -

ولكن ذات يوم وقد غرقت في خضم السعادة، وأتعبت السماء بشكواي المرة، غمرني نور سماوي يبارك ما شتمت، فخضعت دون مقاومة إلى صوت أوحى إلى نشيد الحق الذي تفجر من قيثارتي:

المجد لك في الأزمان والخلود

أيها العقل الخالد والإرادة العليا

أنت الذي يعرفك الوجود

وتذكر كل صباح أسماؤك الحسنى

فنفختك للبدعة انحدرت نحوي

وظهر من كان طيات العدم لعيني!

عرفت صوتك قبل أن أعرف نفسي

فرميت بروحي حتى أبواب الوجود

هأنذا العدم يحييك قبل أن يولد

هأنذا! ولكن من أنا؟ ذرة مفكرة

من يستطيع قياس المسافة بيننا؟

أنا الذي أستوحي منك خلقه السريع

دون علم من نفسي، أدار حسب هواك

ص: 60

ماذا يجب على نحوك؟ أيها الخالق العالي؟

المجد للانهائي العظيم

الذي أبدع الكل من نفسه

لتسر أيها الخالق العظيم، لما خلقته يداك

فأنا أتيت لأتمم أوامرك العليا

ضع؛ أطلب، أفعل، في الأزمان والمكان

وسخرني لأسبح بعظمتك في يومي ومكاني

فذاتي، دون شكوى، دون أن تسألك

بسكون، تسرع لتمجد عظمتك

وكهذه الأجرام المذهبية التي في حقول الفراغ

أتبع بكل هوى ظلك الذي ينير لي الطريق

غارقاً في النور أو ضائعاً في الظلام

سأمشي حيث تدلني

مختاراً منك لأهدي العالم

وعاكساً عليهم نوراً غمرتني به

فأرتمي محاطاً بأسرى النجوم

وأقتحم بخطوة جبارة هوة السموات

أو معتزلاً وحيداً مهملاً من نظراتك

لا تبدع مني أنا المخلوق المجهول

إلا ذرة منسية على شاطئ العدم

أو نقطة من الغبار تحملها الرياح

فافخر بمصيري لأنه صنع يديك

وأذهب إلى كل مكان لأرد إليك واجباً

وبقلب مفعم بحبك أخضع لقانونك

حتى انتهي إلى درك القبر هاتفاً:

ص: 61

(المجد لك)

- 8 -

يا ابن الأرض البسيط، مصيري ونهايتي لغز

ما أشبهني بقمر الليالي، أيها السيد العالي، ينير الطرقات المظلمة، حيث تقوده يداك،

يعكس من جهة أنواراً خالدة، ومن جهة أخرى، يغمر في الظلمات القاتلة

الرجل هو نقطة مشؤومة جمعت بقدرة إلهية نهايتين

كلما تقدمت خف شقائي فأعبد دون أن أراك حكمتك البالغة

المجد لك يا من خلقتني وأبدعت أجمل الوجود

وفي هذه الأثناء، رازح تحت أثقال سلاسل الجسد، من المهد إلى اللحد تقودني الخصومة.

أسير يغمرني ظلام حالك في طريق صعبة المسالك. غير عارف أيان أحمل أثقالي، وجاهلاً أيان أحط رحالي. أردد أنشودة الطفولة التي انحدرت كمياه شلال تجتمع لتتعكر.

(المجد لك) فقد اختارني الشقاء حين قذفت على هذه الغبراء وأمسكتني يمينك، تتقاذفني

كألعوبة حية

أطعمتني مجبولاً بالدموع، خبز التعاسة وأسقيتني مزن غضبك

هتفت: (المجد لك)، ولكنك لم تنصت إلى ندائي، فأرسلت إلى الأرض نظرة حيرى،

وانتظرت في السماء يوم عدلك ولكنه قام أيها السيد العالي، ليزيد آلامي

(المجد لك)، البراءة مجرمة في ناظريك

شيء وحيد بقي لي تحت هذه السموات، مزجت بنفسك أيامنا والشجون. حياتها حياتي.

وروحها روحي، وكثمرة ما زالت ناعمة على غصنها، تأملها ناظري ترفع من حضني قبل أن تينع.

أردت أن تكون الضربة هائلة. ولكنك سددتها بهدوء، لتجعل الفؤاد مني حساساً

فكنت أقرأ في أساريرها، المتمثل فيها جلال الموت مصيري

وأرى في نظراتها، نبراس الحياة، الذي بعد عني

فكانت يد الحمام تتقاذف منها الزفرات

ولكنها أبداً، كانت تردد همسة الهيام

ص: 62

فكنت أهتف لشروق الغزالة، أيتها الشمس أمهلي يوماً

كمجرم يطلب رحمة، تحت ظلمات متكاثفة

هبط حياً، دركات اللحد

ورأى شعلة براقة تتنازعها أيدي الحياة والموت، فينحني نحوها، ليحفظها فيراها تخبو ثم

تلفظ الأنفاس

فكنت أود أن أحفظ الروح قبل أن نسير في طريق السموات

كنت أفتش عن كنهه في ناظريها المحدقين بالفضاء

هذه الزفرة، سيد الوجود، نشرت شذاها في أحضانها

وبعيداً عن هذا العالم المترع بالضوضاء رحلت قافلة آلامي

فأعف عن يائس جذف بحقك في ساعة غضب

فإني أجرؤ وأطلب الغفران

المجد للسيد العالي

من خلق الماء للخرير، والنسيم للسريان

والشمس للنور، والإنسان للألم

- 9 -

لقد كملتْ حكمتك بحقي

فالطبيعة العديمة الشعور تخضع دون إدراك

اكتشفتك وحدي عندما مستني الحاجة

فأنا أقدم لك نفسي ضحية بكل خضوع وإرادة حرة

فوحدي أطعتك بذكاء

وحدي أتممت نفسي في هذه الإطاعة

ومررت أنفذ في كل مكان، وتحت كل سماء

قانون طبيعتي وأمر إلهي

فأنا أعبد في مقدراتي، حكمتك العالية

وأخضع لأرادتك في آلام تجيش في صدري

ص: 63

المجد لك. المجد لك

صيرني إلى الذل، أو اقذفني إلى العدم

فسوف لا تسمع مني سوى كلمة:

(المجد لك أبداً)

- 10 -

وهكذا ارتفع صوتي نحو القبة الزرقاء، فقدمت المجد إلي السماء، والسماء تفي ما بقي

- 11 -

اصمتي يا قيثارتي

وأنت الذي تمسك بيديك قلب البشرية الخفاق (بيرون) تقدم وخذ منها شلالات أنغام

منسجمة فقد خلق الله العبقرية لنمجد الحقيقة

صعد نحو السماء نغماتك، يا مرتل الجحيم

فالسماء نفسها، ترسل للمعذبين، هذه النغمات

فيمكن أن تضيء من صوتك شعلة حية، تنزل حتى قرارة نفسك

ويمكن أن قلبك الحساس، تحت تنقلات مقدسة، سيسر من هذه النغمات

فيخترق ظلام الليل، برق وضاء

فتفيض علينا، من نور يغمرك

- 12 -

أواه! إذا كانت قيثارتك مجبولة بالدموع، تزفر تحت أصابعك رنات الألم، فمن أعماق

الظلال الخالدة، كالملاك الهابط من عليائه، يطوي الجناح، ويرتفع نحو نور النهار، لينصت إلى نغمات مقدسة أصداء هذه القبة الزرقاء، أصوات أوتار نار مذهية ينصت إليها الآله، وهي ترتفع من سارافان

تشجع أيها الطفل الهابط من صفوف الآلهة

فانك تحمل على جبهتك الطابع العالي

وكل رجل ينظر إليك، يرى في عينيك الشعاع الخابي لنور السموات

ص: 64

ملك الأناشيد الخالدة، أعرف نفسك بنفسك

واترك (لولد الليل) الشك والتجديف

وابغض كلمات يغشونك بها. فلا مجد حيث لا فضيلة

تعال وخذ مكانك في مجلسك الأول، بين أطفال أتقياء، من المجد والنور، الذي أراد الله

تصويرهم بزفرة مختارة

لقد أبدعهم. . .

للفناء، والدعاء، والرضاء

حسين تفكجي

ص: 65

‌يا فلسطين

للأستاذ محمد بهجة الأثري

إلى شهداء الحرية من أحفاد صلاح الدين، إلى أشبال أسود حطين، إلى المجاهدين المرابطين في سبيل الله

الأثري

اصبِري في الحادث المستفحلِ

إنما العزّةُ أَنْ تَسْتَقْتِلِي

واسألي (نيرونَ) يُذْكِي نارَهُ

في سواد البأسِ نُورُ الأَمَل

واُنْهَدِي ما قارع الحقُّ هوًى

باطلاً يوماً ولم ينْخَذِلِ

لا تُراعِي من كَمِيّ مُبْطِلٍ

قوّةُ الحقِّ سلاحُ الأَعْزَلِ

أو تُمدِّي من يدٍ ضارعةٍ

تسألينَ العدلَ من لم يَعْدِلِ

عَزَّ هذا الحقُّ إلا بدمٍ

جامحِ النَّزْوَةِ حُرٍ يَغْتَلي

فَأَريقيهِ رخيصاً هَيِّناً

يا فِلَسْطِين وإِلاّ تْؤكَلي

أحرزَ الغايةَ مَنْ حاوَلَهَا

وحوى النصرَ الذي لا يَأتَلِي

ليس ما دوّى حديثاً أولاً

عنكِ. كم مَرَّ له من مَثَل!

أيقظ الشجوَ: فمن قلبٍ هفا

واهنَ العزم، وجَفْنٍ مُسْبِلِ

غير أنّي - والهوى مختلفٌ -

سرَّني من حيث أحيَا مأملي

كنتُ أخشى، والقُرى أضحتْ قِرى

أَنْ تكوني من كريم المأكَل

فإذا الدم أَبِيَّا يغتلي

وإذا الروحُ عزيزاً يعتلي

وإذا القومُ الذي أيأسني

جامحُ الثورة ماضي المُنْصُلِ

من شبابٍ كشراراتِ الغَضا

وشُيُوخٍ كصَياصِي الْجَبَلِ

وعَقيلاتٍ كأمثالِ الدُّمى

هِجْنَ أمثالَ الأُسُودِ الْجُفَّلِ

سِرْنَ صدرَ الصفِّ سرباً باسِلاً

يتحدَّيْنَ حِرابَ الْجَحْفَلِ

أيُّ معنى عبقريّ لَاح في

خوضِهنَّ النارَ خوضَ البَطَل

يا وقاها اللهُ أنفاسَ الصَّبا

كيف قاسَيْنَ سَمُومَ الْجُهَّلِ!

أيها الجيشُ الذي ناضَلَها

قد عرفناك منيع المَعْقِلِ

ص: 66

فَتَرَنحْ نَشْوَةً أَنْ رُعْتَهَا

وهي عَزْلا من ظُبيً أو أَسَلِ

واسترِ الوجهَ أو أكشِفْهُ فلا

تَخْشَ أَنْ يغشاه عارُ الْخَجَلِ

معشرٌ مستوحشٌ ما هذَّبتْ

من حواشيهِ وصايا الرسُل

إِيه (جُونْ بولُ). وما شئتَ فخُذْ

فيهِ من مكر عَوِيصِ الْحِيَلِ

قد كشفنا كلَّ كيدٍ مُخْتَفٍ

وحللنا كلَّ عَقْدٍ مُعْضِلِ

ألصَّهايين؟ فَمنْ هُمْ في الملأ؟

أَوَ ليسُوا خَوَلاً من خَوَل؟

إنما أنت الذي ينصُرُهُمْ

يا عدوَّاً جاَء في زِيّ وَلِيّ

لن تكونَ الدهرَ من أكفائِنا

أَبَداً في هَيِّنٍ أو جَلَلِ

أبشري إِنَّ الصباحَ المُرْتجى

يا فِلَسْطِينُ أراه يَنْجَلي

كيف لم ترتقبي من فَرَجٍ

وَبنُوكِ الصِيدُ حرزُ المَوْئل؟

أنا لم أحسَبُ، وهذا روحُهُمْ

أَنْ تَظَلِّي تحت حكم السفَلِ

سنةُ الكونِ التي نعهَدُها

أن يكون النُّجْحُ حظّ الأمثل

ساعِفي (بغدادُ) أنضاَء الوغى

من بني العمّ وراَء (الكرمل)

رَحِمٌ مَوْصُولة أوشاجُها

لم يُقَطِّعُهاَ نَكاَلُ الدُّوَلِ

طالما رامُوا تفاريقَ العصا

والعصا تلقَفُ كيد الدجَل

حَيِّهَا جامِعةً مَرْجُوَّةً

من تُخُوم (الريف) حتى (المَوْصِل)

إنّي أَلْمَحُهَا ظافرةً

تستقِلُّ التاجَ مَنْضُور الْحُلِيّ

للِعدا اليوم، وهُمْ ينضُونَهُ

لا تَظَلُّ الشمسُ فوق الْحَملِ

وأرى في مَطْلَعِ الآتي لنا

منزلَ البدرِ ومَرْقَى زُحَلِ

خَلِّ عنكَ اليأسَ يَنْأَى جانباً

يا كليلَ العزمِ وأصحَبْ أَمَلي

انطوى الماضي فلا تنشُرْ له

صُحُفاً نَضَّاحَةً بالعِلَلِ

وأتى يومُكَ يسعى دائباً

فارتقِبْ شارقةَ المستقبل

(بغداد)

محمد بهجة الأثري

ص: 67

‌إلى الدكتور زكي مبارك

رداً على قصيدته (وحي بغداد) التي نشرت بالرسالة

للأستاذ إبراهيم أدهم الزهاوي

ما كنت أعلم أن ثغر المغرم

يفتر عن أمل الوجود الأعظم

حتى وجدتك في (الرسالة) منشداً

ولرب إنشاد بغير تكلم

حببت لي طعم الغرام وإنه

مرّ بثغري مثل طعم العلقم

إن التي أحببتها بسقامها

(حب) لكل مهذب لم يسقم

ما زلت أنشد في هواها شرداً

يقطرن في وجه الصحائف من دمي

ما ضر (ليلى) أن تكون سقيمة

إن كان ذاك السقم غير ميتم

فلسوف نبرئ داءها بدوائها

ونعيدها لجلالها المتقدم

ومملك يحدو بها أمثالكم

تطأ السماء بخفها والمنسم

أقلامكم متيقظات للعلى

تلقي السهاد على عيون النوَّم

يهوي أبو الحسن الرضي يراعه

فيزوره بتلطف وتبسم

نزلت حكومتك التي أصدرتها

في قلبه برءاً بقلب المسقم

لم ترض دون العبقرية للذي

هتك الحجاب على بنات الأدهم

إن (الشريف) لشاكر لك خدمة

وأبو الشريف ومن إليه ينتمي

خلدته وخلدت في تخليده

ولو أنه من همِّ كل مترجم

قد سار في الدنيا (الزكي) مباركا

وحباله عن مصر لم تتصرم

صيت كأن الشمس قد نفخت به

من روحها فسما سمو الأنجم

العقل تنهضه العقول فيستوي

كالزرع تنبته غيوث الموسم

لله در يراعة في كفه

شماء مثل شعوره المتضرم

إن العراق ترنحت أعطافه

لما لهجت بحمده المتحتم

وطن الجدود ومنتهى أمجادهم

وقصيدة الدنيا التي لم تختم

دار الخلافة كل قلب نحوها

من منجد في سيره أو متهم

وكأنما أطلالها في عينه

آماله الكبرى التي لم تنجم

ص: 69

فخراً لدجلة أن تكون مقيمة

أبداً على العهد الذي لم يخرم

وقف الزكي بيانه العالي على

إنشاء جيل بالعلاء متيّم

وكساه بالحلل الوضاء كأنما

بالنور يكتب لا بحبر أسحم

يا أيها الوادي السعيد أعدته

فأعدت خير مهذب ومعلم

كانت نوادينا تنير بنوره

تفتر عن مثل الصباح المقدم

تلك الدعابات التي يأتي بها

تشفي القلوب ولو جرت في مأتم

يدري اللبيب بأنها الجد الذي

يأبى على الدنيا أداء المغرم

شافي جراحات المآسي لم يجد

لجراحه بين الورى من مرهم

وكذلك القلب الكبير فإنه

وجدان قلب في القلوب مقسم

ولدته مصر وكم حسام قاطع

ولدته مصر وكم سنان لهذم

بلد إِذا ما أفلست أيامنا

جادت سحائبه بدرّ مغنم

طلعت شموس بيانه فتكشفت

ظلماء عاشت ضعف عمر القشعم

سل ميت الآثار من أومي له

فأتى يحدثنا بغير تلعثم

الله سدد للكنانة سهمها

فتصيب مقتل كل خطب مرزم

بلد إِذا ذكرته ألسننا صغت

كل القلوب لذكره المتبسم

للرافدين صبابة في نيله

ولنيله ضعف الشعور المضرم

قطران قد طبع الزمان هواهما

من دون أقطار الأنام بميسم

عاشا لمجد العرب إن لمجدهم

نبأ ستعلمه إذا لم تعلم

(بغداد)

إبراهيم أدهم الزهاوي

ص: 70

‌البريد الأدبي

آراء طريفة في التربية والتعليم

تواصل مجلة (دنيا المعلمين) الإنجليزية نشر إجابات زعماء الفكر على أسئلتها التسعة التي لخصنا للقراء إجابات برنردشو وبريستلي عنها، وقد أجابت مس دافني دي موريير، وهي من كبيرات الأديبات هناك ومؤلفة ريبكا، ولن أكون صغيرة مرة أخرى، وفندق جاميكا، ورحلة بوليوس. . . الخ فكانت إجاباتها متزنة وأكثر اعتدلاً من إجابات شو. . . وقد ذكرت مس دي موريير أنها لم تذهب إلى مدرسة ما، بل تعلمت في منزلها على أيدي مدرسين خصوصيين وأنها لما بلغت الخامسة عشرة كانت تقرأ أمهات الكتب الأدبية والتاريخية وتدرسها بنفسها. . . ولما سئلت عما تأسف لأنها لم تحصله ذكرت الأعمال المنزلية التي لم تخلق المرأة إلا لتتعلمها، وخصصت من ذلك الطبخ وأشغال الإبرة والخياطة ولم تجحد أثر معلمها كما فعل شو. . . وذكرت أنها قرأت أول ما شغفت بالقراءة كتب الأدب الكلاسيكي ثم شدت القصص فقرأت أحسن ما كتب أدباء قومها. . . واستنكرت عادة منح التلاميذ مكافآت اعترافاً بتفوقهم، لأن هذه المكافآت تولد في نفوس أصحابها الغرور والزهو كما تولد في نفوس الآخرين الحسد والحقد أو تجعلهم يعتقدون أنهم أقل من زملائهم ذكاء وأحط مرتبة. . . ولم تستنكر مس دي مورييه الجمع بين الجنسين في فصل واحد إلى سن الرابعة عشرة، لكنها صرحت أن الجمع بينهما بعد هذا هو منكر يؤدي إلى آفات الغريزة الجنسية ومهاترات الغزل السمج بين الجنسين. . . واستنكرت دراسة بعض المواد الجافة كاللاتينية والرياضيات المعقدة غير العملية وتعميمها في المدارس. . ثم رفضت الإجابة عن بعض الأسئلة الأخرى

المسرح الأوربي

صدر أخيراً في أمريكا كتاب ضخم عن المسرح الأوربي لمصنفه الأستاذ توماس. هـ. دكنسون تناول فيه تاريخ المسرح في أكثر الممالك الأوربية - ما عدا إنجلترا - منذ نهاية الحرب الكبرى إلى اليوم وما جد فيه من صنوف التجديد والتيارات الحديثة. ولم يكتب المصنف كل فصول الكتاب، بل قام بذلك أخصائيون ممن لهم اتصال بالحركات المسرحية في كل من الممالك الأوربية، ومن هنا قيمة الكتاب. . . ونستطيع أن نقول: إن المستر

ص: 71

دكنسون لم يكتب إلا مقدمة الكتاب التي تناول فيها شرح الاتجاهات الحديثة في المسرح الأوربي عامة والعوامل الاجتماعية التي خلقت هذه الاتجاهات. . . وقد كتب عن المسرح الروسي الأديبان يوسف جريجور وهـ. و. ل. دانا، وعن المسرح الألماني الأديب المؤرخ يوليوس باب، وعن المسرح الفرنسي العلامة أدموندسي، وعن المسرح الإيطالي سيلفيو داميكو، وكتب عن المسرح الأسباني الأديبان ديي كاندو وجون جارن. . . وفي الكتاب فصول ممتعة عن المسرح في كل من تشكوسلوفاكيا وبولندة وبوغوسلافيا والمجر ورومانيا وبلغاريا والسويد ودنمركة. . . أما لماذا لم يعقد فصل عن المسرح الإنجليزي فذلك - في رأي المصنف - أن هذا المسرح لم يجار نهضة التجديد التي عمت المسارح الأوربية وأن المقصود من الكتاب أن يكون دراسة لمسارح القارة تنفع المسرح الإنجليزي - والكتاب جليل الفائدة فعسى أن يعني به ممثلونا أو أن ينقله أحدنا إلى العربية

أين كان يكتب تشيكوف قصصه

كان تشيكوف الأديب الروسي الكبير طبيباً ولم يكن أديبا ثم نسى الطب واحترف الأدب، فنبغ فيه ولم ينبغ في الطب، وهو في ذلك مثل ولز الذي درس الكيمياء والصيدلة فجذبته صناعة القلم وآثر أن يفرغ لها، ومثل هذا يقال عن مؤسس المسرح الجديد الأديب النرويجي العظيم إبسن الذي درس الكيمياء ثم نزع إلى الأدب وتفرغ له، ويكاد يكون زعماء الأدب في العصر الحديث من العلماء وليسوا من الأدباء

هذه ملاحظة عارضة بدت لنا خلال دراساتنا لحياة تشيكوف تلك الحياة الحافلة الأرستقراطية التي تختلف عما عرفناه من حياة زملائه وأنداده الأدباء الروس الذين ذاقوا من شظف العيش وهوان الأيام ما جعل آدابهم عصارة من البؤس وترجماناً للبائسين وأروع ما يلفت النظر من حياة تشيكوف هذا المنزل الريفي - أو الكوخ الهادئ المكون من غرفتين اثنتين - والمنعزل عن قرية فيسكينو - التي كان منزله الفخم بالقرب منها. . . لقد بنى تشيكوف هذا الكوخ وسط حديقة من أشجار التفاح لتكون مهبط وحيه، ومرتع خياله الخصب، الذي أنتج للعالم تلك الثروة الهائلة من القصص والدرامات

حول كلمة (أنوثة)

ص: 72

حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء

تحيات طيبات، وبعد فقد قرأنا في العدد 279 من مجلتكم الزاهرة قصيدة الأستاذ إبراهيم العريض (بين عشية وضحاها) الرائعة. ولقد لفت نظرنا كلمة (الأنوثة) في قوله

وتحت يديها يزل النصيف

عن برعمي صدرها ناحية

وملؤهما عزة بالجمال

جمال أنوثتها لغافية

وشككنا في وجود هذه الكلمة. ثم جاء (اللسان) يؤيد ما ذهبنا إليه. قال في مادة (أنث)

(ويقال تأنث الرجل في أمره وتخنث، والأنيث من الرجال، المخنث.

(والتأنيث خلاف التذكير وهي الأناثة)

أما كلمة (ذكورة) التي تقابل كلمة (أنوثة) فلم يذكر صاحب اللسان إلا في موضعين لا يقابلان في معناهما (الأنوثة) قال في مادة (ذكر):

(التذكير خلاف التأنيث، والذكر خلاف الأنثى والجمع ذكور وذكورة وذكار. . .)

وجاءت في مادة أنث أيضاً

(روي إبراهيم النخعي أنه قال (وكانوا - أي العرب - يكرهون المؤنث من الطيب ولا يرون بذكورته بأساً.

(وأما ذكورة الطيب فما لا لون له، مثل الغالية، والكافور والمسك، والعنبر والعود. .) هـ.

ومعنى ذكورة الطيب، أي ما كان منه مذكراً، ولا يوجد إذن كلمة (أنوثة) وإنما (أناثة) وهي كلمة لا باس بها، حبذا لو تقوم مقام تلك التي شاعت كثيراً، وحسب كثير من الناس أنها صحيحة.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

بين السيكلوجية والطب

أخذت بعض كليات الطب في أوربا تدخل دراسة السيكلوجية في برامجها بما لها من الفائدة في تشخيص بعض الأمراض إن لم يكن في كل الأمراض. ويجمل بكلية الطب المصرية أن تحذو حذو هذه الكليات فقد انتشر السل في مصر كما انتشرت أمراض أخرى كالجنون

ص: 73

والصرع وضعف الأعصاب، والطبيب الذي لم يدرس السيكلوجية الحديثة يعجز في اكثر الأحيان عن تشخيص هذه الأمراض، وقد أصدرت الدكتورة العالمة إليانور. ا. مونتجومري كتاباً جليل الفائدة في هذا الباب بحثت فيه عن العلاقة بين السيكلوجية والطب وهل يستطيع الطب أن يصف للعل الأخلاقية كالجبن واللؤم وتعشق الإجرام من أجل الإجرام دواء مادياً غير العلاج الذاتي الذي تصفه السيكلوجية. . . وقد تناولت المؤلفة وظائف الغدد التي تتحكم في أخلاق الشخص وتقررها وذكرت أن الطب وحده هو الذي يستطيع أن يتحكم بدوره في هذا الغدد، ومن هنا العلاقة الكبيرة بين السيكلوجية والطب

تزوير أدبي

عمد بعض المرتزقة من الناشرين إلى طبع قصة تافهة بعنوان (قتيلة الجوع) نسب تأليفها إلى الأستاذ توفيق الحكيم وكتب اسمه على غلافها، وذلك لكي يضمن رواجها بين العامة من القراء

وقراء الرسالة عامة يعرفون الأستاذ توفيق الحكيم بفنه وأدبه، ويعرفون مؤلفاته وقصصه جميعاً، فما كان بنا من حاجة إلى نص هذا الخبر لولا رغبتنا في أن يلتفت إلى مغزاه القائمون على شئوننا لعلهم يجدون في مثله ما يحفزهم للتفكير في حماية الأدباء والمؤلفين من شتى الآفات التي تنوشهم في كل جانب!

العصور

صدر العدد الأول من مجلة العصور مصدقاً لما قدرناه لها في أنفسنا من قوة التحرير وصدق الأسلوب وشرف المنزع. وقراء الرسالة يعرفون صاحبها الأستاذ محمود محمد شاكر بقوة الأدب وقوة الدين وقوة الخلق، فهيهات أن يجدوا في العصور إلا أثر هذه القوى مجتمعة في قلمه الرصين واختياره الموفق. وإنا لنرجو للأستاذ الصديق أن يوفقه الله فيما نصب نفسه له من الجهاد الصادق في خدمة الدين واللغة والثقافة

لماذا أنا مسلم؟

أخرج الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي الطبعة الثانية من كتبه (لماذا أنا مسام؟) ممتازة بكثير من الزيادات والتنقيحات. وقد وضع المؤلف هذا الكتاب على هيأة مناظرة بين قس

ص: 74

من علماء المسيحية المبشرين، وبين شاب مسلم يفهم حقائق دينه فهماً صحيحاً: يوجه القس إلى الشاب المسلم الاعتراضات والشبه التي يتصيدها المبشرون لمحاولة تشكيك المسلمين في دينهم، فيرد عليه الشاب في أدب ولباقة، ومفنداً تلك الشبهات والاعتراضات بمنطق سليم وعبارة فصيحة وحجج دامغة. وقد تناولت المناظرة أهم المسائل التي يتوهم فيها خصوم الإسلام مآخذ يأخذونها عليه

ويمتاز هذا الكتاب بحسن معالجة الموضوعات التي تناولها بأسلوب متسق وعبارة جلية وتدليل قويم

وهو يقع في (88) صفحة من الحجم المتوسط ويطلب من مكتبة الشرق الإسلامية ومطبعتها بشارع محمد علي أمام دار الكتب المصرية

ص: 75

‌الكتب

أفاعي الفردوس

ديوان الأستاذ الياس أبو شبكة

بقلم الأستاذ فليكس فارس

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وإلى الشعراء الآن نماذج من قصائد الديوان الذي أردنا أن نرسم مصغراً عنه ببعض خطوطه:

شمشون:

هي قصيدة رمز فيها الكاتب إلى كل جبار في الحياة تصرعه خدعة الضعفاء، وإلى كل شاعر تلعب الغواية بحياته دون أن تضلل قوة إلهامه فينتقم بهذا الإلهام من نفسه ومن أعدائها.

أسمع الشاعر يخاطب دليلة ليصورها بقوله الرائع:

ملقَّيه ففي أشعة عيني

ك صباحُ الهدى وليل القبور

وعلى ثغرك الجميل ثمارٌ

حجبت شهوة الردى في العصير

ملقَّيه فبين نهديك غامت

هوة الموت في الفراش الوثير

هوة أطلعت جهنمُ منها

شهواتٍ تفجرت في الصدور

ملقَّيه ففي ملاغمك الحمر

مساحيق معدن مصهور

يسرب السم من شفافتها الح

رى إلى ملبس الردى في الثغور

ثم عد فاسمع كيف يصف دليلة عندما جاءت ترقص أمام شمشون وهو مربوط إلى عمد الهيكل وقد دار به عداته الساخرون.

وإذا قينةٌ يخالجها السكر

على مشهد من الجمهور

فتثنت تضاجع الجوَّ نشوى

من تلوى قوامها المحرور

رقصةُ الموت يا دليلة هذى

أم تُراها اختلاجة في الخمور

ثم اسمعه يتكلم بلسان شمشون:

ص: 76

بددي يا زوابع النار أعدا

ء إلهي ويا جهنم ثوري

وتنفس يا موقد الثأر في صد

ري وأغرق نسلي الربا في سعيري

وامصصي يا دليلة الخبث من قل

بي فكم مرة مصصت قشوري

في هيكل الشهوات

في أحد الأبيات الأولى من هذه القصيدة ينجلي للقارئ معنى أفاعي الفردوس وهو العنوان الذي اختاره الشاعر لديوانه، قال عن النساء:

فهن من حية الفردوس أمزجة

يثور فيهن من أعقابها عصبُ

ثم يعود فيخاطب إحدى أخوات الشقاء قائلاً:

أخاف في الليل من طيف يسيل على

موجات عينيك حيناً ثم يغترب

طيف من الشهوة الحمراء تغزله

خمرُ الليالي وفي أعماقه العطبُ

ووجهك الشاحب الجذَّاب ترهبني

ألوانه يتشهى فوقها اللهب

ما زلت تغتصبين الليل في جَهَد

حتى تجمد في أجفانك التعب

وما السواد الذي في محجريك بدا

إلا بقايا من الأحشاء تغتصب

سدوم

قصيدة تعد بحق من أروع منظوم أبي شبكة وكنت ترجمتها كلها إلى اللغة الفرنسية فنشرتها مجلة (لاسيمين) فقدرها كثيرون من الأجانب قدرها فقالوا لي: إن لهذا الشعر طابعاً مستقلاً فهو وإن ضاهى شعر (بودلير) فإنه لا يمت إليه بسبب. وقلما يشهد الأجانب بروعة لنا دون أن يرجعوها إلى أسلوب من أساليب إلهامهم:

في صدرك المحموم كبريت إذا

لعبت به الشهوات فجر أضلعه

في صدرك الدامي مناجم للخنى

أورثِتها نارَ الزراري المزمعه

فبكل صقع من ضلوعك قسمة

خُلَع على لهب الشباب موزعه

ثم يتحول الشاعر بعد وصف رائع لسدوم القديمة مخاطباً مدينة هذا الزمان قائلاً:

اسدوم هذا العصر لن تتحجى

فبوجه أمك ما برحت مقنعه

كانت منكرة كوجهك عندما

هبت عليها من جهنم زوبعه

ص: 77

قذفتك صحراءُ الزنى بحضارة

ثكلى مشوهة الوجوه مفجعه

بؤرٌ مسترة الفساد بخدعة

نكراَء بالخز الشهي مرقعه

ويغير الشاعر في القصيدة نفسها الوزن والقافية مخاطباً هذه المدنية:

أسليلة الفحشاء نارك في دمي

فتضرمي ما شئت أن تنضرمي

أنا لست أخشى من جهنم جذوة

ما دام جسمي يا سدوم جهنمي

طوفت بي ميتاً بأروقة اللظى

فحملت تابوتي وسرت بمأتمي

وعصبتُ بالشبق المجمَّر جبهتي

فرفعتها في عصري المتهكمِ

علمتني لغةَ النبوة عندما

فجَّرت ألغام السموم بمنجمي

مهلاً كلانا يا سدومُ مسلحٌ

فلظاك في جسمي وثأري في فمي

الشهوة الحمراء

أنا اتحدنا ليوم واحد وغدا

يأتي فيخلفني قوم بحبهم

سيعشقونك يوماً يغنمون به

ما غدرت منك ساعاتي لليلهم

وسوف تنسين (يا أخت الدما) فمهم

كما نسيتِ على رَغم الدماء فمي

عشرون قلبا شربت الحب من دمها

وما شبعت ولم يشبعك شربُ دمي

إذن فسوف تظلُّ النفس جائعةَ

حتى يجف دم في غفلها النهم

حديث في الكوخ

أيها الفجر يا حبيب الشقيين

ويا مشعل الهوى والشباب

أيها الكوخ والعيون سكارى

بخمور لم تمتزج بعذاب

لا تجسي قلبي فلم يبق فيه

من بناء الماضي سوى أخشاب

وانصرفنا وقبل أن أتواري

عن جمال الشاطئ وعن ساكنيه

قلت للمرأة التي آلمتني

حين قالت الله ما يُشقيه

لي قلب أفرغته فاتركيه

في الهوى فارغاً ولا تملإيه

الطرح

وهي آخر قصائد الديوان

ص: 78

أسمع الشاعر يقول بلسان والد الجنين الساقط ثمرة متهرئة عن شجرة الحب:

حملت أملك القنوط إلى وجهي

وكنت الرجاء في أعماقي

جئت في سحنة المسوخ فِلمْ

حطمت حلماً نما على أحداقي

ألأني بذلت حتى ولم أطعمك

منه سوت الفتات الباقي؟

ثم يهتف بلسان الحياة قائلاً:

أهلك المائتون في رحمي الحب

وسمّوا الزلال في ترياقي

فطرحت الأقزام في أسواقي

عِبَراً للدمار في العشاق

ورأيت الفردوس لفت أفاعيه

غصوني وكمشت أوراقي

وتراءت لي الطبيعة دنيا

من كمال نسيقة الأذواق

فرأيت الجماد شبعان حباً

كل صدر عليه ثدي ساقي

إن في الحب صورة الله لكن

أين في الخلق صورة الخلاق؟

هذا هو الشعر يتغلغل في تفكيرك وشعورك وذوقك في آن واحد إلى أعماقها جميعاً؛ وكل شعر لا يتحد ثالوث الحكمة والشعور والموسيقى فيه إنما هو محاولة فاشلة

غير أن الشاعر الذي يريد أن يحكم موسيقى بيانه في الدماغ المفكر والحس المرهف تحكماً يتوازى سلطانه فيهما لا يوفق إلى إيجاد الوحدة في كل بيت من أبياته. إن هذه الوحدة وهذا الاتساق والتشابه من حيث الصياغة في كل أجزاء القصيدة إنما يوفق إليها من نظم الحكمة آيات لها ترتيبها وتسلسلها أو من نظم دموعاً وابتسامات وحقداً ونزوات لأنه لا ينقر قيثارته إلا بمضراب واحد، أما من يستنطق أوتاره بهدوء التفكير وثورة العواطف في آن واحد فليس لك أن تطالبه إلا بالاتساق في الصورة الكلمة التي يقدمها لك لأنه يجمع على لوحته بين المتنافرات من الخطوط والألوان

إن شعر أبو شبكة يوقفك منه تجاه فيلسوف ومتشرع ومؤمن وكافر وطاهر وعاهر، ويوفقك من قصائده تجاه عراك بين الفكر والشعور والبيان، فإذا ما شهدت هذه العناصر الثلاثة تتماشى على وتيرة واحدة في كثير من أجزاء قصائده فانك لترى أحدها يسطو في أماكن كثيرة على رفيقته فيخضعهما لسلطانه

إن (أبو شبكة) لا يهمه في فنه إلا أن يصور لك منعكسات الكون على نفسه، ونفسه

ص: 79

تتنازعها خلجات قلبه وخاطرات دماغه، فهو يحس بأن الحياة المضللة قد أفسدت الإنسان، ويشعر أن في الإنسان نسمة تتململ بين ما حبكت الأجيال حولها من قيود فيصور لك هذا العراك العنيف بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. وفي لوحات أبو شبكة من دقة التصوير ما لا تراه إلا نادراً في لوحات الأقدمين والمعاصرين من شعرائنا، لأن ريشته تجود على القبح من ألوانها بقدر ما تجود على الجمال، فهو لا ينزلق بها على الشر انزلاقاً بل يثبتها في مجالها حتى ينشبها في أقصر الحقيقة فيأتيك بأروع ما يصور القبح ويصف الشرور والضلال

فليكس فارس

ص: 80

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية ومديرها

(إذا وجد من هو أصلح مني لإدارة الفرقة فأني على استعداد

للنزول له عن وظيفتي مع معاونته بكل ما في طاقتي)

هو ذا لب الحديث الذي نشره حضرة مدير الفرقة في جريدة البلاغ دحضاً لإشاعة استقالته من وظيفته

فإشاعة الاستقالة هذه ليس مصدرها (أشخاصاً يلذ لهم أن يذيعوا هذه الإشاعة لأنهم يريدون فيها شفاء لمرض نفوسهم الثائرة على كل ما هو كائن في الوجود) بل مصدرها مدير الفرقة نفسه، فقد سمعتها منه في مرتين، وقد قالها لي في مناسبتين، وقد تحققت بطلانها في ساعتها كما تحققت غرضه من ترويجها وهو النيل ممن يتوهم أنهم يعملون على الحلول محله في وظيفته

لا شأن لي في الانحياز إلى هؤلاء المرضى في نفوسهم الثائرة على كل ما هو كائن في الوجود، والإشادة بكفاءتهم وجدارتهم في فهم فن المسرح وفيما يصلح لمزاج الشعب ويناسب ثقافته. ولا غرض لي في التحزب لمدير الفرقة الصحيح المعافى، المتواضع كثيراً في كل شيء، والمتواضع كثيراً جداً في فهم أبسط فنون المسرح، وإني ما أوردت هذه الحقيقة إلا لأسفر عن طرف من وجه واحد من وجوه تصريف الأمور الخاصة بمدير الفرقة أو بالفرقة نفسها، وعن الجو القاتم الذي استكثفه واستلبده هو بغيوم وسحب من أوهام وظنون صرفته عن غرض الفرقة الثقافي وجعلته يترقب برعشة الوجِل المنخلع اللب هبوب العاصفة وانقضاض الصاعقة

يخلق بي أن أعرب عن شعوري أن استقالة مدير الفرقة تعد خسارة فادحة، وأزعم أنه قد يشترك معي كثير ممن قد يعتقدون اعتقادي، إذ لابد لكل عمل مستحدث من ضحية، فالمدير الحالي خير كبش يقرب على مذبح المسرح، غير أن الأوان لم يأن بعد، ولا عيد الأضحى بقريب

قد كان يتمنى مدير الفرقة أن يكون ضحية مقدسة فعلاً للمسرح، كما هو مقدر لكل صاحب

ص: 81

رسالة، ولكن أين رسالة الفرقة القومية غير المكتوبة على الورق؟ أين رسالة مديرها وهل ظهرت براعيمها أو نبتت قرونها بعد؟

بدأت الفرقة أعمالها بلهيب حزمة القش خبا وهجها، وبردت حرارتها، وبقي من رمادها لموسمها الرابع ثلاث روايات، اثنتان معربتان وواحدة مقتبسة! ومن يدري فقد نحمد في العام القادم للفرقة القومية عملها المريض في هذا العام لأنها قد تمن علينا بإعادة تمثيل روايات مثلتها في عامها الأول، أو يطيب لها أن تتبنى الروايات التي مثلتها الفرق الأهلية كما تبنت في هذا العام رواية (مجنون ليلى) وتهمل الروايات الجديدة الموضوعة كما أهملت الكثير من الروايات التي دفعت أثمانها لمؤلفيها وقبرتها في مدافن الفرقة لعدم صلاحها فنياً أو إسكاناً لمؤلفيها الأفاضل

كل شيء ممكن الوقوع، وكل فرض في هذه الفرقة جائز، والذي يهمنا هو معرفة تشخيص العلة ثم العمل على مداواتها؛ ولذلك نسأل أين علة الفساد، أين عوامل الانحطاط؟

أهي الجهل بأصول الفن أم الغربة عن روح المسرح؟

أهي في الأمة التي لا تتذوق الآداب والفنون الرفيعة؟

أهي مرض الصحافة التي أفسدتها الفرقة بمال الإعلانات فصدت أقلام الأدباء والنقاد عن خط كلمة في غير امتداح مدير الفرقة والثناء عليه

أهي في المؤلفين الذي انصرفوا عن الفرقة أو انكمشوا وتباعدوا عنها ضناً منهم بكرامتهم الأدبية أن تكون عرضة لممثلين أعلمهم أجهل من كرّ - مع استثناء واحد أو اثنين منهم - لهم الكلمة الأولى والأخيرة في الحكم على صلاح الرواية للتمثيل أو عدم صلاحها؟

أهي في الأدباء الذين انصرفوا عن الفرقة لأنهم لا موائد لديهم كموائد هذا البربري وذاك الحبشي طافحة بكل ما يطيب للعين والفم؟

أم هي الأطماع بربح المال وجمعه من إعادة تمثيل روايات الفاكهة المحرمة، والحب والدسيسة، والمرأة المسترجلة الرائجة لفكاهتها وفهاهتها، وادخار هذا المال لبناء مسرح خاص من مال الفرقة القومية الخاص، لا من مال الأمة، كأن مسألة الفرقة مسألة تجارية أو عزبة زراعية طاب لناظرها الأمين أن يظهر لسيده ومولاه مقدار ما أدخر من ربح مدة نظارته؟!

ص: 82

قد تكون هذه العلل متجمعة هي بعض أسباب تدهور الفرقة، ولكن العلة الدفينة في نفس المدير دون سواه. هي في نفسه وحده - وإني أتعمد مؤقتاً تجاهل العلة المستوطنة في لجنة القراءة وسأعود إلى شرحها قريبا - لأن حضرة المدير يعتقد اعتقاداً راسخاً أنه لا يوجد بين الستة عشر مليوناً من الأنفس من هو أصلح منه لإدارة الفرقة، وأنه إذا فرض المستحيل ووجد هذا الذي لم تلده أمه بعد، فان حضرة المدير - حفظه الله - (على أتم استعداد للنزول له عن وظيفته) على شرط أن يبقى معه (يعاونه بكل ما في طاقته)

لست أحاول تقصي عوامل هذا الوهم الراسخ والاستمساك الأخطبوطي وتحليلها خشية أن تتفكك أو تنحل عناصر قدسية حضرة المدير المنهادية المتساندة، ولا الإيغال في استكناه بواعث الوهم واستنتاج النتائج، بل أقول: إن رجلاً كائناً من كان يقوم في ذهنه مثل هذا الوهم الباطل القائم على الإيمان المحدود لا يرجى صلاح للمسرح على يديه البتة. إن رجلاً يؤمن إيماناً محدوداً أن كل ما يقدمه للناس هو أكثر مما يتذوقون، وأدسم مما يفهمون، وكفاية على ثقافتهم التي لا تستوعب، ومداركهم التي لا تفقه سوى رواية اليتيمة، وبناتنا سنة 1937 وإضرابهما. إن رجلاً كهذا، لا حيلة معه لمائة ناقد وألف ناصح ومشفق على النهضة الأدبية، إذ ليس في وسعهم أن يجعلوا ثقباً في الماء كما يقول الفرنسيون في أمثالهم، ولا أن ينهضوا المقعد الذي قال له المسيح (قم أحمل سريرك وامش) فقام ومشى.

لسنا والحمد لله في زمن العجائب الخارقة، بل نحن في زمن لا نقبل فيه التدجيل والخرافات، ولا عبادة الأصنام، ننظر إلى الماضي لماماً، بيد أن طموحنا إلى المستقبل عظيم نستمده في طموح مليكنا الشاب الجميل، ومن روح الأدب الجميل الذي لا يقر غير الروح الشاب.

هل مدير الفرقة يعوزه الشباب؟ هل لجنة القراءة فتية ينبض دم الشباب في عروقها؟ أو هو وهي شن وطبقة رضى الله عنهما؟؟ سوف نرى.

ابن عساكر

ص: 83