الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 283
- بتاريخ: 05 - 12 - 1938
من مآسي الحياة
ليت للأوقاف عينا!
ليت للأوقاف عيناً تخترق الجُدُرَ وتشق الأستار فترى ماذا يصنع البؤس بأهله!! إنها وا أسفا تسمع ولا تبصر: تسمع ذلك البؤس الملحَّ الوقح الذي يغضب ويصخب ويثور، ثم يقتحم عليها الحجَّاب والأبواب ومعه فوق لسانه الملحف بطاقة من كبير أو وساطة من موظف. وهذا البؤس الذي يدع لأهله قوة السعي وبراعة الحيلة لا يكون في أكثر حالاته إلا طمعاً أو حرفة. أما ذلك البؤس الدفين الصامت الذي يستعين على ضحاياه بكبرياء نفوسهم فيسلبهم الحس والحركة، ويمنعهم الأنين والشكوى، فلا يراه إلا الله الذي فرض الزكاة، وأوجب الرحمة، وجعل على عباده خليفة منهم ينطق بلسانه، ويرى بعينه، ويحكم بأمره
إن في بعض الدور ومن وراء الستور ظلالاً من الحياة الغاربة على أمثال الخيال من بني آدم؛ تنسم أنفاسهم الضعيفة بما بقي من أرواحهم الخافتة في إسلام مؤمن واستسلام صابر. فإذا كشفتهم الحاجة للعيون حسبهم الجاهل أقوياء من الصبر، أغنياء من التجمل، حتى يستوفوا أجلهم المكتوب وتذهب بهم المنون وهم في وحدة الفقر، كما تذهب شمس الصحارى بأنداء الفجر
كان لنا جار مدرس في مدرسة شبرا الثانوية يجثم تحت جناحيه أربع بنات وثلاثة بنين وزوجة وأم، يقلبهم على ما يشتهون من لذاذات العيش الغرير، فيأكلون أكل السرف، ويلبسون لباس الترف، ويلهون لهو المجانة؛ حتى كانت غُرّف البيت من فيض النعيم ومرح العافية كأعشاش البلابل سالمتها الأحداث في جنة من الحُبّ والماء والشجر. ثم لحظتهم عين الدهر فأصيب الأب بمرض السكر؛ وعقر إصبعه الحذاء ذات يوم فأصابته قرحة ساعية. نقلوه إلى المستشفى القبطي فبتر الجراح رجله. وسعت عليه زوجه بالمال والأمل فلم تستطع أن ترد قضاء الله ولا أن تدفع عادى الموت. . . وانقلب المنزل الفرح المرح النشوان قبراً رهيباً يغشاه الحزن، ويجلله السواد، وتخيم عليه الوحشة. فلا زوار يقَدْمون الهدايا، ولا سمار يفدون بالأنس، ولا ولائم تشرق فيها النفوس والكؤوس كل جمعة
وبحثت الزوجة عما خلَّف الزوج الراحل فلم تجد غير ذلك المال الذي كان تحت يدها وقد أنفقته كله في العلاج والجنازة. ونجمت حول بيتها الحزين رموس الدائنين تندلع ألسنتها
بالمطالبة الفاضحة. ففزعت إلى وزارة المعارف تسألها أن تسرع في أداء ما لدى زوجها من الحق؛ فأعطتها بعد لأي مكافئتها على السنين السبع التي قضاها في مدارسها. فقد كان من قبل مدرساً بأحد مجالس المديريات، فلم يجتمع له الزمن القانوني لاستحقاق ورثته جزءاً من المال على سبيل المعاش. وذهب الغرماء بالمكافأة، وبقيت الزوجة وحماتها وبنوها السبعة في غشية الهم وصدمة الواقع، يتلمسون نفساً من الكرب أو شعاعاً من الرجاء يطالعهم من قريب أو صديق فلم ينالوا. وتذكرت الأيم المسكينة أن زوجها كان يعلّم ابن وزير الزراعة فلاذت به تسأله أن يساعدها بجاهه على تربية أولادها في مدارس الوزارة، فتخلص منها بخمسة جنيهات ثم أغلق من دونها بابه
كان بين الزوجين ماتة قرابة؛ وكانت أسرتهما من الأسر الريفية التي ألوى بها الدهر المديل، فلم يبقى منها إلا عجائز وأيامى يعشن على معونة الأستاذ الفقيد، ثم موظف صعلوك في شركة سنجر لم تره الأرملة إلا يوم الجنازة. وقد حملها بغروره على أن تنفق خمسين جنيهاً على ليلة المأتم، لأن أقطاب التعليم وأعيان الأدب لا يمشون إلا على الطنافس الفارسية، ولا يجلسون إلا على الكراسي الذهبية!
وكان للفتاة الكبرى خاطب غني من أصحاب أبيها، فلما وقف على حال الأسرة بعد كاسبها أنقطع خبره فكأنما غابا معاً في قبر واحد! وعجزت الأم عن دفع المصروفات المدرسية لبنيها وبناتها، فظلوا حولها في البيت يندبون الميت، ويبكون الحي، ويسدلون على مأساتهم الفاجعة ستاراً من الصمت والعزلة حذر الشامث. فما كان بابهم ينفتح إلا لتجار الأثاث القديم يخرجون منه بصفقة بعد صفقة من الفرش أو المتاع
ولبثوا على هذه الحال ستة أشهر لم يدفعوا عنها شيئاً من كراء المسكن للحاج محمود، حتى أدركته عليهم شفقة المؤمن، فنزل لهم عن الدَّين ونقلهم إلى غرفتين على سطح من سطوح منازله الكُثْر يسكنونها من غير أجرة
وتركنا حي شبرا منذ خمس سنين فلم نعد نعلم من حال هذه الأسرة المنكوبة شيئاً
وفي صباح أمس الأول كنت في ميدان باب الحديد، فتقدم إليّ صبي من باعة الصحف يحييني وهو يبتسم. فتفرسته فإذا هو إبراهيم أوسط الأخوة الثلاثة! فصحت به مستطار القلب من دهشة المفاجأة:
- ماذا فعل الله بكم يا مسكين؟
- مرضت أمي بالروماتزم فلا تنهض، وعميت جدتي من الحزن فلا تسعى، وتزوجت أختي الكبرى من أحد السعاة فلم تصبر على عشرته غير ثمانية شهور. فهي تخيط بالأجرة، وأختي الوسطى تدبر المنزل، وأختاي فلانة وفلانة تخدمان، وأخواي فلان وفلان يعملان، أحدهما صبي كواء، والآخر خادم بقال، وأنا كما ترى. وكل ما نكسبه في اليوم لا يتجاوز ثمن الخبز!
ألا ليت شعري هل تقيم الحكومة في عهد الفاروق الصالح المصلح. الركن الخامس من الدين وهو الزكاة، فتتحقق به أخوة الاسلام، وتنجلي عن الناس هذه الآثام والآلام؟
أحمد حسن الزيات
القاهرة في العيد
للدكتور زكي مبارك
لم يبقى شك في أن القاهرة أجمل مدينة في الشرق، وقد تكون فيها خصائص لا تعرفها باريس ولا برلين. وترجع تلك الخصائص التي تفردت بها القاهرة إلى ما فيها من اختلاف الألوان والأذواق؛ فهي ملتقّى للحضارات الشرقية والغربية، ومجتمعٌ للصحيح والعليل من العقائد والمذاهب. فالمسلمون ألوان، والنصارى أشكال، واليهود أخياف. وفيها مع ذلك ناس لا يدينون بغير التهالك على مطالب الشهوات والحواس
والمدنيّة العنيفة هي ذلك. هي اصطراع الشك واليقين، والغيّ والرشد، والهدى والضلال: وليست المدنيّة أن يهتدي الناس جميعاً أو أن يضلوا جميعاً؛ وإنما المدنية في تعقيد المذاهب، واشتباك العقائد، وتناحر الأجناس. هي تلك الصورة التي توجب أن تقوم الحانة بجوار المسجد، وأن تدق أجراس الكنيسة بين المواخير، وأن تكون في الجامعات أركان يخلو فيها المقامرون، كالذي كنا نراه في أروقة السوربون
تلك هي المدنيّة. فلا تعجبوا إن رأيتم من رجال الدين من يلطخها بالسواد في الخطب والعظات، لأن رجال الدين لا يتمثلون سيادة الفضيلة إلا في مكانين: الجنة والصحراء
وإنما كانت الجنة مجالاً لسيادة الفضيلة لأن أهل الجنة أعفتهم المقادير من النضال في سبيل الأرزاق. والنضال في سبيل الأرزاق هو الأصل في خلق الضغائن والأحقاد وهو الذي بلبل أهواء العالمين فأغراهم بالقتال حول المذاهب الاقتصادية، والمسالك المعاشية.
ومن فضائل الجنة أنها ستبيح الناس جميع ما يشتهون من رغائب الحواس، وبذلك ينعدم القلق الذي يساور أصحاب القلوب والأذواق. ولعل هذا هو السر في خُلوِّ الجنة من الشعراء والكتاب والمفكرين، فما سمعنا أن الجنة ستكون فيها خطب أو قصائد أو مقالات أو مؤلفات، لأن هذه الفنون الأدبية ليست في الواقع إلا صورة من ثورة العواطف والأذواق والأحاسيس، وأهل الجنة أراحهم الله من هذا الجهاد
والبادية مجال لسيادة الفضيلة في رأي أهل الدين لأنها توحي إلى القلوب معاني الزهد والتصوف فينعدم الطمع أو يكاد، وبانعدام الطمع تزول أسباب الدس والكيد والزور والبهتان
هنا القاهرة
أليس كذلك؟
بلى، وأنتم جميعاً تعرفون!
كنا نسمع في عهد الطفولة أن الشياطين تقَّيد في رمضان، ثم يحل وثاقها بعد ذلك
ولكن وزارة الأوقاف أو مشيخة الأزهر في مصر تعرف أن الشياطين تنجو من الأصفاد والأغلال في مكان واحد: هو القاهرة، ومن أجل ذلك يترك الوعاظ أعمالهم في الأقاليم التي قيدت فيها الشياطين ويفدون للوعظ في مساجد القاهرة التي لم تقيد فيها الشياطين
وإنما كان الأمر كذلك لأن القاهرة مدينة عظيمة جداً من الوجهة الاقتصادية. والعظمة الاقتصادية هي الأساس لجميع المشكلات، وهي مصدر الحروب، وهي مثابة الشياطين
وعند النظر في هذه الدقائق نعرف كيف فطنت وزارة الأوقاف إلى سَوق الوعاظ إلى القاهرة في أيام رمضان
ولكن هل شعرت الجمارك بأقوال الوعاظ في رمضان؟
وهل يسر الحكومة أن تشعر الجمارك بأقوال الوعاظ في رمضان؟
ليتني أملك حرية التعبير عما أريد أن أقول!
لو كنت أملك حرية التعبير لقلت: إن في مقدور الحكومة أن تراقب الجمارك في شهر رمضان، ولو فعلت لاستراح الوعاظ من محاربة الشياطين في رمضان
ولكن الحكومة لن تفعل، لأن هناك شيطاناً يصدها عن ذلك هو شيطان المدنية الذي يجعل حرية التجارة من الشرائع. وهذا الشيطان الأعظم هو الذي جعلنا نُزهَى ونختال كلما تذكرنا أن القاهرة أعظم مدينة في الشرق
أترك هذه الفلسفة وأشرع في كلام آخر قد ينفع بعض النفع
أنا أقضي العيد في القاهرة، وهي أول مرة أعرف فيها ملاعب القاهرة في العيد
فقد كنت في الأعوام السوالف أقضي العيد في سنتريس قبل أن يرزأني الدهر بموت أبي، ثم شاءت المقادير ألا أعرف العيد فيما عدا ذلك إلا في باريس وبغداد، فقد دخلت باريس أول مرة في يوم عيد، ثم خرجت منها بعد أداء امتحان الدكتوراه في يوم عيد، وأنا أواجه العيد في القاهرة بعد عيدين قضيتهما في بغداد. . .
فهل يكون عجيباً - وهذا حالي - أن أفرح بالقاهرة في العيد؟
أنا في عيد أيها الناس، فدعوني ألهو وألعب يوماً أو يومين!
هذا هو العيد، وتلك هي القاهرة
فاعذروني إن جننت وفتنت بالقاهرة في يوم عيد
لن أذهب إلى نادي المعارف في بغداد لأسأل عن رؤية الهلال، ولن أقضي مساء الشك بمنزلي في شارع الرشيد
وما الموجب لذلك؟ لقد صمنا رمضان ثلاثين يوماً ولم يبق إلا أن نواجه الباسمين والباسمات في شارع فؤاد
إي والله، هذا شارع فؤاد في ليلة عيد!
وهل ينتظر شارع فؤاد ليلة العيد؟
وهل رأى الناس في مشرق أو مغرب شارعاً مثل هذا الشارع في الحيوية والابتهاج والانشراح؟
إن شارع فؤاد لا ينتظر ليلة العيد، فجميع أيامه ولياليه مواسم وأعياد
وما ظن القارئ بشارع يشهد بأن القاهرة أجمل بقعة في الأرض وأنها طليعة الفردوس؟
ما ظن القارئ بشارع يتموَّج فيه الحُسن ويصطخب فيه الفُتُون؟
ما ظن القارئ بشارع يراه أصحاب الأذواق من المعارض الدولية للصباحة والملاحة والجمال؟
ما ظن القارئ بشارع هو الشاهد على أن القاهرة أصبحت أعظم مرجع من مراجع الشعر والخيال؟
وما عسى أن أقول في شارع كان ولا يزال أعظم مصدر من مصادر الوحي لشعراء وادي النيل؟
نحن في شارع فؤاد، وهذا مشربٌ كُتِب على بابه بأحرف من النور الوهاج:
رمضان ولَّى هاتها يا ساقي
…
مشتاقةً تسعى إلى مشتاق
رمضانُ ولَّى؟ رمضانُ ولَّى؟
وهو كذلك!
هاتها يا غلام!
وما أكاد أنطق بهذا اللحن الطرُوب حتى يدخل شيخ من أعلام رجال الدين فيقول: ما أتى بك ههنا يا دكتور!
فأجيب: أنا في ضيافة أبي حنيفة النعمان!
ويسارع الشيخ فيطلب كأساً من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نؤاس
ويغلبني التجمل والتوقر فأطلب كأساً من قهوة أبي الفضل وأَصدف عن قهوة أبي نؤاس
وما هي إلا لحظة حتى نشتبك في جدال مزعج، ثم يتوافد أمثاله وأمثالي، فتتحول الحانة إلى حلقة من حلقات الأزهر الشريف، وينظر إلينا غلمان الحانة مبهوتين مذعورين
كيف تنقلب الحانة إلى مثل ما انقلبت إليه في ليلة العيد؟
وكيف أعود شيخاً متعجرفاً متغطرساً لا يعرف غير جدال الفقهاء؟
أيها الشيخ
صددت نفسي، صدَّ الله نفسك!
ولكن لا بأس، فتلك هي القاهرة التي يصطرع فيها الهدى والضلال؟
خرجت من الحانة مصدوع الرأس من قهوة أبي الفضل ومن الجدال حول الحرام والحلال، فأين أذهب؟
أين أذهب؟ أين أذهب؟
هذا صديق خفيف الروح، ولكنه أيضاً معمَّم وإن كان يحمل الطربوش، ذلك بأنه يحمل فوق قلبه عمامة أضخم من عمامة الشيخ الفَضّالي، وما رأيت الشيخ الفَضّالي ولكن عمامته سارت مسير الأمثال. وكان هذا الصديق معمَّم القلب لأنه يعايش رجال الدين بالأزهر الشريف
وأين أذهب في ليلة العيد مع هذا الصديق المطربش الرأس المعمم القلب؟
هل أردّه إلى مشارب القهوة والشاي في حي سيدنا الحسين؟
أغلب الظن أنه يتشهى السهر بسقط اللوى بين شارع الألفي وشارع إبراهيم!
رباه ما هذا الذي أسمع؟
لقد سمعت أشياء لم تكن تخطر في البال. فهل أستطيع أن أصرح؟
هل أستطيع أن أقول إن حي الأزهر صار قطعة من القاهرة تشتبك فيه نوازع الرشد والغي، والهدى والضلال؟
أنا أعرف أن الأماكن التي تصطبغ بالصيغة الدينية تنتفع من الاتسام بسمة الدين. ولكني أنكر أن يصل الجشع ببعض الناس إلى الوقوع في مهالك الانتفاع.
يجيء جماعة من جاوة أو من الهند أو من الصين للاستصباح بنور الأزهر الشريف فيحيط بهم ناس لا يؤذيهم أن يستغلوا سمعة الأزهر أسوأ استغلال
ولو كان هؤلاء المستغلون تجاراً لخف الأمر وهان. ولكنهم يتصلون بناس لهم في المعاهد الدينية مكان، ولهم مع رجال الدين صلات.
فهل يعرف هؤلاء الغافلون خطر ما يجنون على الأدب والوطنية حين يستبيحون (استغفال) بعض الوافدين على الأزهر من أهل جاوة والهند والصين؟
إن من حق الحي الأزهري أن ينتفع من صفته الدينية. ولكن من واجبه أن يراعي أصول الأدب والذوق فلا يفارقه زائر إلا وهو معمور القلب بأطيب الذكريات، فمن العيب أن نشوه سمعة الأزهر وسمعة مصر لنحصل على منافع خسيسة لا ينصب لها ميزان.
وقد آن لشيخ الأزهر أن يعرف أنه مسئول عن كرامة ذلك الحي، آن له أن يفكر في تنظيم هيئة خالية من المطامع تشرف على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في الحي الأزهري، فأن لم يفعل فسيجني عواقب الإهمال بعد حين.
أيتها القاهرة
ماذا تُظهرينَ وماذا تُضمرين؟
اكشفي القناع قبل أن يمزقه القلم أقبح تمزيق
مضت ليلة العيد وجاء يوم العيد
الدنيا تموج بالمحاسن والمفاتن في كل أرجاء القاهرة، وكل مكان في القاهرة مباح إلا الحدائق
ولماذا؟ لأن النعيم بحدائق القاهرة مقصور على أطفال الملاجئ في يوم العيد
الحمد لله
(لا يزال في القاهرة مجال للطيبات)
أما بعد فقد انقضت أيام العيد، وبقيتَ يا قلبي بلا عيد
أين أيامك يا قلبي وأين لياليك؟
وما حظك من هذه المدينة التي تموج بالسْحر والفتون؟
أكل حظك أن يطوف بك العقل حول هذه الأشواك؟
ليت عهدك بالغواية كان طال، وليت الأقدار رحمتك من ثورة العقل في هذه الأيام!
كتب عليك يا قلبي أن تعيش بين أدغال المدنية، حيث لا يحنو قلب على قلب، ولا يأنس روح بروح، ولا تأتلف نفس مع نفس، إلا بروابط وثيقة من أصول المنافع، وآه ثم آه من عصف المنافع بأهواء القلوب!
أتراني غدرت بك، أيها القلب؟
أحذر أن يمرّ هذا في وهمك، فما كنت إلا أكرم صاحب وأشرف صديق
وهل غدرتُ بأحد حتى أغدر بك؟
لقد عانيتُ في سبيلك ما عانيتُ فطوَّفتُ بالمهالك والمعاطب لأروى ظمأك المشبوب، ولأريك مطالع الأهلة في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد
وما زلتُ أتلطف بك يا قلبي وأترفق، وهل صادقتُ من صادقت من كبار الكتاب والشعراء إلا لأزفْ إلى حِماك كرائم المعاني؟
ولكنك - مع فضلي عليك - تلقاني باللؤم في بعض الأحيان
وإلا فما هي حجتك في الهيام بعروس الزمالك؟
عرفتُ حجتك يا قلبي، أنت تريد أن تصدني عن الحتف الذي ينتظرني في البلد الذي أعرف وتعرف
أنت تريد أن تصدني عن (الحبيبة الوفية) التي ترسل بعض جدائلها المعطرة في كل خطاب ولم تظفر مني بجواب، شكر الله فضلها الجميل وعفا عني
عرفت حجتك يا قلبي، فأنت تريد أن تقول:
ويحسبُ نسوانٌ من الجهل أنني
…
إذا جئتُ إياهن كنتُ أريدُ
فأقسم طرفي بينهن سَوَّيةً
…
وفي الصدر بونٌ بينهن بعيدُ
أتريد أن تقول ذلك؟ وكيف وأنا أحب معك عروس الزمالك؟
أحبها من أجلك يا قلبي، وأحبها لأنها سمية الاسم الذي تعرف وأعرف
أحب التي هنا والتي هناك، وأطلع كما يطلع القمر بكل سماء، وأهيم هيام النسيم بجميع الحدائق والبساتين
ولكن متى نجيب صاحبة الجدائل المعطرة يا قلبي؟
حدثني متى نجيب، فقد يحملها اليأس على الصدود
أيها الجمال
تحدث ولا تقل غير الحق
هل عرفت قلباً أشرف من قلبي، وضميراً أطهر من ضميري؟
وأنت أيها الليل
هل عرف المحبون من أسرارك ما عرفتُ؟ وهل استصبحوا بظلامك كما استصبحت؟
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
مقالات في كلمات
للأستاذ محمود غنيم
الحياة والأمل
قالوا: إن فرعون حينما أراد أن يبلغ الأسباب، أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، هيئ له تابوت ذو أربعة أعمدة، ثم علق في أسافل تلك الأعمدة أربعة نسور خماص، وفي أعاليها أربعة حملان مسلوخة الجلود، ثم استقل فرعون التابوت فانطلقت النسور تشق أجواز الفضاء، تمني نفسها عبثاً بذلك اللحم الغريض، ثم كان من أمرها ما كان
وما أظن أننا في هذه الحياة إلا أشبه بتلك النسور، وما أظن الغاية التي نسعى إليها أقرب من تلك الحملان، مع تعديل طفيف في طرفي التشبيه، فنسور فرعون تسعى وراء أمنية لا يتسنى تحقيقها، ونحن كلما تحققت لأحدنا أمنية أسلمته إلى أخرى، وهكذا يقضي الإنسان عمره وراء سلسلة من الآمال متصلة الحلقات غير متناهية، حتى يخر صريعاً وأمانيه حوله، وقد حال بينهما من الموت سد منيع
هذا طالب ينشد شهادة، وهذا حامل شهادة ينشد راتباً، وهذا ذو راتب يريد أن يتضاعف، إلى آخر تلك السلسلة التي لا تنتهي حلقاتها
ثم هذا شاب يريد أن يتزوج، وهذا زوج يريد أن ينجل، وهذا ناجل يريد أن يرى أنجاله رجالاً، إلى أخر تلك السلسلة التي لا تنتهي حلقاتها
ثم هذا قائد يريد أن يكون وزيراً، وهذا وزير يريد أن يكون أميراً، وهذا أمير يريد أن يوطد نفوذه أو يوسع رقعة ملكه
قالوا لنابليون ذات عشية
…
إذ كان يرصد في السماء الأنجما
بعد افتتاح الأرض ماذا تبتغي؟
…
فأجاب أنظر كيف أفتتح السما؟
الحياة نار مشوبة وقودها الأمل؛ وهي قطار، وهو بمنزلة البخار، وإن للطبيعة في خداع الناس عن هذا الطريق أفانين، فهي تزين للإنسان الغاية من الغايات، فيدمى أخمصيه سعياً وراء تحقيقها، حتى إذا جاءهم لم يجدها شيئاً، فتلوح له بأخرى، وهكذا يقضي الإنسان حياته في سعي متواصل، وهي لا تتورع في هذا السبيل عن خداع الناس بالحق وبالباطل، وعندها لكل صنف من الناس صنف من الآمال يخلب لبه ويغريه ببريقه. أرأيت ذلك
الشيخ المحطم الذي يقف بإحدى قدميه على حافة القبر، والذي لا زوجة له ولا عقب يرث ماله من مال أو لقب؟ لقد اخترعت الطبيعة له شيئاً يقال له طيب الأحدوثة، وخلود الأسماء بعد الفناء، فأجهدته في شيخوخته المحطمة ولم تدعه يقضي أيامه المعدودة في أمان واطمئنان
قرأت في بعض المجلات أن الإمبراطور غليوم لا يزال يمني نفسه بالعودة إلى عرش ألمانيا، وأنه لا يزال يترقب اليوم الذي يثوب فيه الشعب الألماني إلى رشده، فيستدنيه من منفاه، ويسلم إليه مقاليد الأمور. ولعلك لا تعلم أن المحكوم عليهم بالإعدام لا ييئسون من الخلاص حتى ساعة التنفيذ، ولهم فروض لا تخطر بالبال، تنتهي كلها إلى غاية واحدة هي النجاة
إنها الطبيعة، الطبيعة التي سلحت النساء بالنعومة والجمال لإغراء الرجال، والتي سلحت الزهر بطيب العرف وألوان الطيف ليجذب الطيور فيشاطر الريح حمل حبوب التلقيح. هي هي التي حاكت لنا خيوط الآمال، لنتعلق بها فيعمر الكون، ويسير نحو الكمال
فليت شعري، ماذا يدعوها إلى ذلك كله؟ أهو شيء لا نعلمه؟ أم لا شيء؟
الأيمان بالحظ
قال صديقي في تهكم: ألم يبلغك نبأ التعينات الجديدة؟
قلت: لا، وماذا يعنيك من أمرها؟
قال: إن بين المعينين مدرساً جديداً، كان بالأمس لي من الأولاد، فأصبح الآن من الأنداد
قلت: وماذا في هذا؟
قال: فيه شيء كثير، فقد كان صاحبنا هذا هدفاً لسهام المعلمين - وأنا من بينهم - وكان المثل في كساد الذهن، وقلما وقعت عيني عليه إلا نائماً أو متثائباً. وكنت أعتبره (ترمومتر) الفصل، ما فهم أمراً إلا اعتبرته مفروغاً منه مفهوماً من الجميع
قلت: هون عليك يا صديق، وماذا أنت فاعل إذا جاءك هذا المتثائب النؤوم غداً يفحص أعمالك، ويقفك منه موقف المسؤول من السائل، تتلقى إرشاداته، وتتقبل نصحه بقبول حسن؟
إنك يا صديقي لا تؤمن بالحظ، أما أنا فإنني مؤمن قوي الأيمان به. أعتقد أن للجد (بفتح
الجيم)، المرتبة الأولى في تصريف الأمور، وللجد (بكسر الجيم) المرتبة الثانية، فلو شبهنا العالم بفلك لكان الأول بمنزلة الربان، والثاني بمنزلة السكان
لعل التربة التي أنبتت نابليون - أنبتت من أمثاله عشرات لهم مواهبه ومقدرته على تعبئة الجيوش، وتسلق الجبال، واختراق البحار، ولكن أحدا منهم لم يمهد له الحظ ما مهد لبونابرت من الأسباب. ولو أتيح له ذلك لكان نابليونا ثانيا يصرف ملوك أوربة تصريف قطع الشطرنج، ويلعب بعجينتها كما يلعب الأطفال بالصلصال
إن الحظوظ والمصادفات تلعب دوراً هاما في تاريخ الجماعات بله الأفراد. ومن يدري ماذا يكون مصير مصر لو لم يقع مارك أنطوان في حب كليوباطرة؟ وماذا يكون مصير الإسلام لو لم يتح للمسلمين التغلب في بدر؟ بل ماذا كان يكون مصير البشرية جمعاء لو لم تهف نفس حواء إلى شجرة الحنطة أو التفاح؟
إذا قلت يا صديقي: إن الرجال يسعدون أو يشقون بما يقدمون من أعمال، فما بال الأطفال، يولد أحدهم في الغربال، وتدق لثانيهم البشائر قبل مولده فإذا استهل وجد عرشا يمهد له، وأمة تراض على طاعته، وتهافتت عليه المراضع، وترامت على أقدامه الحواضن؟
إن الإنسان يا صديقي ليقضى زهرة شبابه في كد وتحصيل، ثم يسعى حتى ينتعل الدم في سبيل الوصول إلى منصب يدر عليه في عام ما يتقاضاه بعض المطربين في يوم من الأيام، فهل كون المطرب صوته، وخلق لهاته بيديه؟
وماذا عملت الفتاة تخلع عليها الطبيعة مسحة من جمال، فيتهافت على بابها من الخطاب وفود، بينما لا تجد أختها زوجا من عود؟
وبعد، فإذا قلنا: إن الملوك قادوا الجيوش فتبوؤا العروش، فعلى أي أساس شرف الله - جلت حكمته - برسالته أناسا من الدهماء، فجعلهم أنبياء، وبشر بهم قبل ميلادهم بمئات من السنوات؟
قال صديقي: الآن آمنت
قلت: إذن استرحت
الذوق والشعر
تتناول قطعة من التفاح فتحس لها طعماً لذيذاً، ثم لا يطالبك إنسان أن تقدم على لذتها دليلا،
ولو حاولت ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتشم عبير الزهر، فتقول: إنه طيب، ولو سئلت: لماذا هو طيب؟ لم تحر جواباً. وتسمع عزف الموسيقى أو خرير الغدير أو سجع الطيور، فتقول: صوت شجي، ولكن لماذا هو شجي؟ لست تدري ولا المنجم يدري. وتستطيع أن تقول مثل ذلك في كل منظر جميل يقع طرفك عليه، فلا يطالبك إنسان بتعليل جماله، ولو فعلت لطال بك البحث والتدليل، دون أن تنتهي إلى تعليل
ولكنك حين تستطيب قطعة من النظم طالبك النقاد بإيراد العلل والأسباب، كأن طيب الشعر في الذوق غير طيب التفاح في الفم، والزهر في الشم، والموسيقى في السمع، والحسن في العين
إنه الذوق، ثم الذوق وحده، الذوق الذي يجعلك تتشهى طعاماً وتعاف آخر، هو الذي يجعلك تسيغ شعراً وتغص بشعر؛ وهو الذي يقسم القافية إلى قافيتين، إحداهما تشج الجبين، والثانية أندى على الأكباد من العذب البراد؛ وهو الذي يقسم دواوين الشعراء إلى قسمين، أحدهما للخلود، والثاني للوقود
لا يخضع الشعر لمنطق النقاد، فاعتبر كل ما صح من أقيستهم في ذلك سفسطة لا طائل تحتها. وكم من شعر هوجم واستعملت في مهاجمته أسلحة الأقيسة والبراهين، وآخر ناصرته تلك الأسلحة فمات الثاني في مهده، وبقى الأول خالداً، تتداوله الرواة، وتتناوله الشفاه. . .
أرأيت لو قال لك قائل: أن صوت الحمل أشجى من صوت العصفور لأن الأول ألذ طعما وأكبر حجما، وأوفر شحما ولحماً، أو قال لك: أن ريح البصل أطيب من ريح الزهر لأن الثاني مرير الطعم، سريع الذبول، لا يصلح الطعام بخلاف الأول. أرأيت لو قال لك قائل ذلك هل تصيخ إليه؟ إنه لم يكذب ولكنه لن يجد له سميعاً
من هذا القبيل قولهم: إن هذا الشعر حافل بالمعاني الفلسفية، والنظريات الكونية و. . . و. . . ثم هو مع ذلك لا يحرك مشعراً من مشاعرك، ولا يمس وتراً من أوتار قلبك، بل يسمعه النائم فلا يستيقظ، والصاحي فينام، وهبه نافعاً كما يقولون، فما مثله مع ذلك إلا كمثل (زيت الخروع) يستعيذ من شره الإنسان، وإن صحت به الأبدان
حاول ما استطعت أن تعلل سر الجاذبية في الشعر، فسوف يعييك البحث. لن تستطيع
رجعها إلى لفظ ولا إلى معنى، فرب لفظين مترافدين أحدهما يقيم البيت، وثانيهما ينقضه من أساسه، ورب معنى واحد في بيتين؛ أحدهما يثير الإعجاب، والثاني يثير السخرية والاستهزاء
أيها القارئ، إذا تلاءم الشعر وذوقك فخذه، وإلا فدعه، فأن قبح الأول لك مقبح، أو حسن الثاني لك محسن، فاهزأ بقوله، واضحك منه ملء شدقيك، ثم استفت قلبك
إنني أومن بالذوق، ولكنني بجانب ذلك لا أجحد أن الأذواق تختلف، وأن منها الفاسد الذي لا يصلح للحكم، بيد أن الذوق على ما به من هنات لا يزال في نظري أصلح المعايير التي يقاس بها الشعر، فينبغي أن نعول عليه، وعليه وحده، حتى نهتدي إلى مقياس محسوس تقاس به المعنويات، كما تقاس الحبوب بالقدح والصاع، والأطوال بالباع والذراع
(كوم حماده)
محمود غنيم
في سبيل الإصلاح
داء الشباب!
(الخوف من الكلام في هذا الداء هو الذي أوقعنا فيه)
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . وهل داء الشباب إلا الميل الجنسي الذي يملأ نفوسهم، ويسيطر على أرواحهم، ويتراءى لهم في كل جميل في الكون، شيطاناً لعيناً يقود إلى الهاوية وإبليساً من أبالسة الرذيلة، يدعوا إلى دين الهوى، وشرع الشهوات، ويحدر عقل من يستجيب له فينزل من مكانه في الرأس إلى غير مكانه، ويجعل صاحبه عبداً للجسم، مؤتماً بالشيطان؟
وهل يأتي ممن كان إمامه إبليس، وشرعه هواه، إلا قطْ في شهر شباط. بل ما يبلغ والله أن يكونه، فان القط تشعله الشهوة شهراً في العام، وسائر أيامه للصيد والوثب والسعي للرزق وما خلق الله له القطط، وعبد الشهوة من الناس تتعبده الشهوة في كل حين. . . وللقط طريق واحد إلى بلوغ شهوته هو (الطريق) الذي (شقه) الله لبقاء الجنس، تبعاً للسنة التي سنها، أما عبيد الشهوة من البشر فلهم مائة طريق. تسعة وتسعون منها تخالف سنة الله، وقوانين الحياة، وتأباها العجماوات، ويترفع عنها الحمير، ولا يرتضيها لنفسه (صاحب اللعنات) إبليس. . . والقط في شهر الشهوة، لا ينسى قِطيته ولا يدع صيد الفار، ولا السعي للعيش، والرجل إذا تعبدته الشهوة ينسى إنسانيته، ويهمل الواجب عليه، ويقعد عن المشي في مناكب الأرض في طلب الرزق، بل لقد تبلغ به السفاهة والجهالة أن يفرَّ من الحياة منتحراً جباناً ذليلاً، لأن. . . لأن امرأة لم تعطه من نفسها الذي يريد، ولو عقل عقل القط لتركها إلى غيرها، وليس يبالي القط مادام قد قام بقسطه من حفظ النسل، أكانت صاحبته بيضاء مبرقشة أو سوداء حالكة، ولم نعهد قطاً قطع نفسه بأسنانه، أو ألقى بها في البركة، حزناً على حبيبته القطة. . . والقط (بعد ذلك) يبقى عزيزاً، يطارد القطة مرفوع الرأس، مشدود العضل، بادي القوة، والرجل إذا استعبدته الشهوة يصبح ذليلاً حقيراً، كافراً بالرجولة، فيهمل دروسه إذا كان طالباً لأن صاحبته (أو شيطانته) لم تدع له وقتاً ولا عقلاً للدرس؛ وإذا كان موظفاً أنسته عيناه أمانة العمل، وحرمة المصلحة، وواجب الشرف،
وقدسية العدل؛ وإذا كانت صاحبة سره في تجارته نسى تجارته، وأضاع الأمانة والربح، وأهمل السعي والعمل. . . فلا يكون من وراء الشهوة إلا ذل النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفل: المعلم سيد تلميذته، والمدير أمير سكرتيرته، والطالب عزيز حيال رفيقته، فإذا جاءت الشهوة، ذل المعلم فكان هو التلميذ وهي السيدة، وذل المدير فكان هو الأجير وهي الآمرة، وذل الطالب فكان من رفيقته بمثابة كليها. . . يتبعها ويبصبص لها!
أو ليس من الذل أن تكون حياتك معلقة بغيرك، وسعادتك بيد سواك، فأنت مضطر إليه، وأنت لعبة في يديه، إن أقبل عليك سعدت، وأن أعرض شقيت، وان مال إلى غيرك اسودت أيامك، وتمنيت الموت؟
هذا والله الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض، ولا. . . (ملك إنكلترا وتوابعها. . .) وهذه هي حقيقة الحب، الحب الذي ألهه الشعراء!
على أن الحب في الأصل جميل مقدس، وعلى الحب قام الوجود كله وائتلف وسار إلى غايته، والشهوة نافعة لازمة لم تخلق عبثاً، ولا أداة للشر، بل خلقت حياة للجنس وعصمة من أن يمحى أو ينقرض، ولسنا نحقر الحب ولا نذم الشهوة، وإنما نذم الغلو فيهما، وولوجهما من غير بابهما، وأخذهما على غير الوجه الذي خلق الله لهما. . . نذم منطق الشهوة، وللشهوة منطقها الذي يسلب الدين دينه والحكيم لبَّه، ويريه أن له الحق في كل النساء، وانه لم تخلق امرأة إلا للذته (هو) ومتعته، ويصنع له إبليس أدلة هذه الدعوى فيقبلها بعقله الذي انحدر من رأسه، ويتلقاها بأعصابه الهائجة المجنونة، ثم يدله إبليس على سبل تحقيقها، فيسلكها لا يبالي الدين ولا العرف ولا المروءة ولا شيئاً مما تواضع على إجلاله الناس ويتم إبليس عمله، فيدخل في رءوس نفر من الأدباء، ثم ينطق بلسانهم، ويخط بأقلامهم، هذا الأدب الوقح البذيء، أدب أبي نواس من الأولين، وآباء نواس من العصريين، الأدب الذي يستقر في أدمغة الشباب استقرار صناديق البارود في أصول البيوت، فلا يلبث أن يتفجر عند الشرارة الأولى، تخرج من عين امرأة، فينسف عقل صاحبه ودينه، وأخلاق الأمة وصيانتها، ويقطع نسلها ويؤلف (المشكلة الكبرى) التي عرضنا من أسابيع إلى وصفها. . . ولا نعدم مع ذلك من الناس من يعجب بهذا الأدب ويكبره ويسمي صاحبه بأسماء الجهابذة الأعلام من أرباب البيان وحملة الأقلام. . .
وهل في الأدب المكشوف، إلا كشف سوأة من سوءات الفكر، وعورة من عورات الضمائر، يحرص العقلاء على سترها كما يسترون عورات الجسم؟
أستغفر الله ماذا أقول إن الناس قد كشفوا عورات الجسم على السواحل وفي المصايف، وأبدوا كل سوأة، وافتخروا بها، وسموها جمالاً وكمالا، وصوروها وملئوا بها جرائدهم ومجلاتهم، أفيلام الشباب إن جن جنونه، واشتعلت في أعصابه النيران؟
اخطبوا أيها المدرسون ما وسعكم الجهد، واهرئوا ما انفسح لكم سبيل الهراء، وقولوا للشاب كن صيناً وعفيفاً. إنها لن تجدي عليه خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم؛ إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب بلغة الطبيعة الثائرة في السوق على لسان (حال) المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية المغرية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجرائد المصورة والروايات الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين. . . ولسان المدرسين حين يدرسون شعر أبي نواس المقرر رسمياً في المنهج!
إن الشاب تتعبده الشهوة فيخضع لها، لأن سهامها تنصب عليه من كل جانب، فلا يطيق أن يتقيها، فيصورها له خياله عالماً مسحوراً عجيباً، وجنة فينانة غريبة، فيتمنى دخولها، فلا يجد من دونها حجاباً، بل يجد من يسوقه إليها، ويحفزه عليها، فلا يخرج منها أبداً، ولا عليه إن ماتت الأمة أو عاشت، فهل فكر أحد من أطباء الأخلاق في هذا الداء؟
بناء الأخلاق ينهار، وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، والقادة والمصلحون وأرباب الأمر يرون ذلك كله، فلا يبالونه ولا يفكرون فيه، ولا يفتشون له عن علاج. . . مع أن العلاج هين ميسور والعقاقير دانية قريبة، لا ينقصها إلا يد تمتد إليها فتأخذها لتجرعها المريض وأين تلك اليد؟
إن الله الذي وضع الشهوة في النفوس جعل دواءها الزواج، فإذا تعذر الزواج فهنالك طرق للوقاية من الفاحشة، وهنالك السدود دونها والحجب: هنالك الدين، فإذا علمتم الشاب دينه، وعرفتموه بربه، ونشأتموه على التوحيد الخالص، والإيمان الصحيح حتى يعلم أن الله مطلع عليه، لاستحيا من الله أن يأتي الفاحشة بسمعه وبصره، كما يستحي أن يأتيها على مشهد من أبيه الذي يجله، أو أستاذه الذي يحترمه، ويعلم أن من حق الله عليه، وقد أعطاه هذه
الأعضاء وأنعم بها عليه ألا يستعملها إلا في طاعته. . . هذا أول سلاح تدرأ به المعصية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي لا يستطيع أن يزني وهو مؤمن أن الله مطلع عليه، ناظر إليه، ولمنعه الحياء من الله أن لم يمنعه الخوف من العقاب
وهنالك الشرف، فإذا ربيتم الشاب عليه، وجعلتموه يحس به ويقدره قدره، وأفهمتموه معنى المروءة وقيمة العرض، لمنعه من الفاحشة ما كان يمنع الجاهلي الشريف، من أن ينظر إلى جارته حتى يوارى جارته مأواها
وهنالك الصحة، فلو عودتموه الرياضة، وعرفتموه قيمتها، وأنبأتموه أن الله جعل مع العفاف الصحة والسلامة، ومع الفاحشة الضعف والمرض والمصائب السود لاقتصد في اتباع الشهوة، إن لم يكف عنها، ولم ينظر إليها إلا من سبيلها، وسبيلها الزواج
وهنالك طيب السمعة، وحسن الذكر في الناس، وهنالك الكثير من الأسلحة والحجبَ
والعلاج كله في يد وزارة المعارف وآباء الفتيات
أما وزارة المعارف، فتستطيع أن تعني بالأخلاق العامة، فتبذل جهدها في مراقبة الجرائد والمجلات والروايات، وتبث الوعاظ ينشرون في الناس الفضيلة ويرغبونهم عن التهتك والعري
وتستطيع قبل ذلك كله أن تهتم بأخلاق التلاميذ، فتوكل بهم من يفهمهم (قبل سن البلوغ) حقائق الحياة الجنسية بأسلوب علمي يضرب فيه المدرس المثل بتلاقح الأزهار، واجتماع الحشرات والطيور، ويبين لهم بشاعة الفاحشة على مقدار ما يتسع له القول وأضرار (العادات السرية السيئة) ويكون حكيما في بيانه، فلرب بيان مثل هذا، يخلو من الحكمة، فيقود إلى الرذيلة بدلا من أن ينصرف عنها
وتستطيع وزارة المعارف أن تعلي من شأن درس الدين، وتختار له من المدرسين من يكون قدوة في سمته وخلقه وسيرته، فان المدرس يفعل بسيرته في نفوس الطلاب ما لا يفعل بمحاضراته وتدخل هذا الدرس في الفحوص والامتحانات العامة، وتجعل الطلاب (يرسبون) إذا قصروا فيه، لأن الطلاب لا يمكن أن يعنوا بدرس لا (يرسبون) إن قصروا فيه
وتستطيع وزارة المعارف أن تلزم المدرسين بأن يكونوا مثالاً كاملاً للاستقامة والعفة والمروءة، وأن يكونوا قدوة للطلاب صالحة، فأنا قد رأينا من ليس كذلك، رأينا من يصحب طلابه إلى دور الفحشاء!
وتستطيع وزارة المعارف أن تضع القوانين الصارمة لحماية عفاف الطلاب من أنفسهم ومن غيرهم. . .
أما آباء الفتيات الذين لا يزوجوهن إلا بيعاً، فهم رأس البلاء، ولكنه لا ينفع معهم الكلام
أما أنتم يا اخوتي الذين يقرئون هذا الفصل من الشباب، فإني أنصح لكم (وأنا شاب مثلكم)، بأن تصرفوا ميولكم إلى جهة علوية، فان الميل كالبخار المتصعَّد من القدر قد يجد سبيله فيدير الآلة، ويسير القاطرة، وقد يحتبس فتنفجر به القدر، وقد يسيل على الأرض هدراً، فأنا لا أحب أن تسيل ميولكم هدراً، ولا أن تضيق بها نفوسكم حتى تنفجر، بل أحب أن تتساموا بها فتسوقوها في طريق الفن والإبداع
إن من يفكر في المرأة، ويزداد به الشوق إليها، ولا يجدها زوجة لأن الآباء يضنون ببناتهم حليلات ويبذلونهن للناس خليلات، يستطيع أن يصب شوقه في القطعة من الشعر أو القصة من القصص، أو أن يصور شوقه نغمة جديدة، أو صورة بارعة يشعر إذا صنعها بمثل ما يشعر به من بلغ - ما كان يريد - ويجد الاطمئنان، ويمشي في طريق النبوغ
وإن الشباب إذا دأب على المطالعة والبحث، ورغب في التفوق على رفاقه في المدرسة، أو الفوز على خصومه في الجري أو الملاكمة، أو استغرق في تجارة فشغلته، أو صناعة فملأت حياته لا يجد في نفسه بقية للشهوة، إنما تستبعد الشهوة من كان فارغ الرأس واليد والوقت
إن الشباب والفراغ والجدة
…
مفسدة للمرء أي مفسدة!
وبعد فهذا داء عضال فتاك، فأين أطباؤه، وأين من ينتبه إليه؟ أين الكتاب الباحثون فيه؟ أين أولو الأمر المعنيون به؟ أين الغُيُر على الدين والأخلاق؟ ألم يبقى منهم أحد؟!
(بغداد - المدرسة الغربية)
علي الطنطاوي
كتاب المبشرين
من أغلاطه في العربية
لأستاذ جليل
- 6 -
20 -
في الصفحة (70): أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك داماسوس وأورسكينوس في المشاحة على منصب الأسقفية ما أفضى إلى. . .
قلت: في القول: (من تهالكهما في المشاحة على منصب كذا) - حذلفة بل عسلطة؛ ولو قيل: كان فيها من تهالكهما على منصب كذا لاستقام الكلام؛ فتهالك على كذا اشتد حرصه عليه، والمشاحة التي أقحمت هذا الاقحام، معناها الضنة، والإحكام يقتضي في هذا المقام (التشاح) - إن أريد ذلك - لا المشاحة، ففي الصحاح: فلان يشاح على فلان أي يظن به.
وفي اللسان والتاج: تشاحا على الأمر تنازعاه لا يريد كل واحد منهما أن يفوته وتشاح القوم في الأمر؛ وعليه شح به بعضهم على بعض وتبادروا إليه حذر فوته وتشاح الخصمان في الجدل كذلك
21 -
في الصفحة (70): أسقفية رومة
قلت: في كتب التاريخ والأدب واللغة وغيرها (رومية) لا رومة، وهما روميتان إحداهما - كما قال ياقوت - بالروم، والثانية بالمدائن. وفي معجم البلدان:(ورومية من عجائب الدنيا بناء وعظما وكثرة خلق، وهي اليوم بيد الإفرنج وملكها يقال له: ملك ألَمان، وبها يسكن البابا التي تطيعه الفرنجية، وهو لهم بمنزلة الإمام متى خالفه أحد منهم كان عندهم عاصياً يستحق النفي والقتل، يحرم عليهم نساءهم وغسلهم وأكلهم وشربهم فلا يمكن أحد منهم مخالفته) وفي شعر القيسراني في نور الدين رضي الله عنه: (فؤاد رومية الكبرى لها يجب) وأما رومة فقرية بطبرية كما في القاموس وفي اللسان موضع بالسريانية. ورومة أرض بالمدينة وفيها بئر رومة كما قال ياقوت وفي كتابه: (وفي الحديث: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار بئر يقال له بئر رومة، وكان يبيع منها القربة بمُدّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعنيها بعين في الجنة،
فقال: يا رسول الله، ليس لي ولعيالي غيرها لا أستطيع ذلك. فبلغ ذلك عثمان (رضوان الله عليه) فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم)
22 -
في الصفحة (70): فيخرج (يعني أسقف رومية) في المواكب والأبهة بالمركبات والمحفات مسرفا في ترك العيش ولا إسراف الملوك
قلت: أرادوا أن إسراف الأسقف يزيد على إسراف الملوك فجاء مقصودهم معكوسا. وكان ابن الحريري قد قال في (الدمياطية) غدوت قبل استقلال الركاب، ولا اغتداء الغراب. فقال احمد الشريشي أي ولا مثل اغتدائه، فحذف مثل المنصوبة بلا وأقام اغتداء مقامها لأن (لا) لا تنصب المعارف، أراد أن اغتدائي قبل أن يغتدي الغراب، والغراب أكثر الطيور بكورا، وهذه إذا طلبت حقيقة معناه صار المشبه أقوى من المشبه به، تقول العرب: فتى ولا كمالك، يريدون أن مالكا أفضل من الفتى، ومثله مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصداء، فهذا مذهب العرب في ذكر (ولا) بين المشبهين، وكلام العرب فلان أبكر من الغراب لا الغراب أبكر من فلان ولا فائدة في ذلك فإذا حققت لفظة (ولا) في تشبيه الحريري على ما يجب لها في كلام العرب انقلب المعنى. ويستعمل أهل فاس في مغربنا لفظة (ولا) في تشبيهاتهم على حد استعمال الحريري، ولا يستعملها أهل الأندلس
23 -
في الصفحة (323) يحترزون عن التشبيه غاية الاحتراز فقلت: احترز وتحرز إنما يعديان بمن لا بعن، ففي أقوال العرب وكتب اللغة: احترز منه وتحرز أي تحفظ وتوقى كأنه جعل نفسه في حرز منه. ولم يجيء في كلام عربي مثل هذا القول: احترز غاية الاحتراز بنيابة غاية عن المصدر، ولم يذكره نحويون متقدمون ولا زاد هذا النائب أو النائبة. . . متأخرون
24 -
في الصفحة (246): فالنصارى قد حرم عليهم دينهم السكر والزنى وفيهم مع ذلك من يباهي بارتكاب الفاحشة ومن يفتخر بإدمان المسكر
قلت: لم يقصد كتابهم بقوله يباهي. . . المفاخرة بل قصد الافتخار كما قال من بعد: ومن يفتخر. . . بالصواب يتباهى بكذا أو يبتهي به؛ ففي الأساس: وأنا أتباهى به، ولي به افتخار وابتهاء قال أبو النجم:
ليس المحاذر أن يعد قديمه
…
والمبتهى بقديمه - بسواء
وفي اللسان والتاج: العرب تقول: إن هذا لبهياى أي مما أتباهى به
25 -
في الصفحة (386): وتمرن سائرهم في حمل السلاح
قلت: في اللغة مرَن وتمرن على الشيء لا تمرن فيه. قال الإمام الجاحظ: أية جارحة منعتها الحركة ولم تمرنها على الأعمال أصابها من التعقد على حسب ذلك المنع. وفي الصحاح: مرن على الشيء مروناً ومَرانة تعوده واستمر عليه، وفي الأساس: من المجاز مرنت يده على العمل، ومُرِّن وجهه على الخصام والسؤال
وفي المخصص: مرنت فلاناً على الأمر. ومثل ذلك في الجمهرة واللسان والمصباح والقاموس وشرحه، وأقوال العرب
26 -
في الصفحة (128): كان الله يستأنف بلطفه إعلانه للناس على لسان أنبياء متعددين
قلت: لا يعد من الكلام (على لسان أنبياء متعددين) قال الأساس: بنو فلان يتعددون على بني فلان أي يزيدون عليهم، وفي اللسان، قيل: يتعدون عليه يزيدون عليه في العدد ويتعادون إذا اشتركوا فيما يعاد به بعضهم بعضاً من المكارم، وفي الصحاح: وإنهم ليعادون ويتعددون على عشرة آلاف أي يزيدون على ذلك في العدد
27 -
في الصفحة (385): وهم عدد قليل في قبائل العرب العديدة
قلت: العديدة الحصة - كما في اللسان - والعديد الكثرة، والعديد العدد، والعديد الند والقرن، والعديد الرجل يدخل نفسه في قبيلة ليعد منها وليس له فيها عشيرة، وهو في عديد بني فلان أي يعد فيهم
فعديدة القوم مثل متعدديهم. . .
28 -
في الصفحة (91): وأفرغ جهده في كف محمد عن التمادي بالأمر
قلت: تمادى هو في الأمر، وتمادى به الأمر، قال المتنبي:
إلى كم ذا التخلف والتواني
…
وكم هذا التمادي في التمادي
وشغْل النفس عن طلب المعالي
…
ببيع الشعر في سوق الكساد
وفي اللسان: وتمادي فلان في غيه إذا لج فيه وأطال مدى غيه أي غايته. وفي النهاية: ومنه حديث كعب بن مالك فلم يزل ذلك يتمادى بي أي يتطاول ويتأخر
29 -
في الصفحة (216): لم يكن للقبلة من الأهمية عندهم ما صار لها بعد ذلك. وجاءت
الأهمية في الصفحة (280)
قلت: أرادوا أن يقولوا: من المنزلة أو القدر أو الخطر أو الشأن فقالوا (الأهمية) وهي لفظة منكرة عامية أو جردية لم تعرفها العربية في وقت وهي منسوبة إلى الأهم، وهو أسم تفضيل من هم، وهو في الحقيقة للفعل (أهم) إذ ليس في اللغة همه الأمر بالمعنى الذي يعرف لأهمه وإن قالت كتب فيها وهمّ كأهم، وفي كلامهم الأمر المهم، ولم يقل جاهلي أو مخضرم أو إسلامي أو مولد متقدم أو مولد متأخر: الأمر الهام كما تقول العوام وفي مفردات الراغب: وأهمني كذا حملني على أن أهتم به قال الله تعالى: وطائفة قد أهمتهم أنفسهم.
وفي الأغاني في سيرة أعشى همدان: فلم يبقى أحد في المجلس إلا أهمته نفسه وارتعدت فرائصه. وفي الصحاح: الأمر المهم الشديد. وفي الأساس: ونزل به مهم ومهمات. وقال عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد:
أبى دهرنا اسعافنا في نفوسنا
…
وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها
…
ودع أمرنا، إن المهم المقدم
فقولهم: فلان ذو أهمية، وكان لزيد عند قومه أهمية، ولم تكن لكذا أهمية - من الكلام المعتل
30 -
في الصفحة (69). يتعنت بها كل من المتناظرين على الآخر
فقلت: في اللغة تعنته أي طلب زلته لا تعنت عليه. قال الأساس: وتعنتني: سألني عن شيء أراد به اللبس على والمشقة. وفي النهاية في حديث عمر: أردت أن تعنتني أي تطلب عنتي وتسقطني. وقالوا: أعنت عليه أمره أدخل الضرر عليه فيه. وفي النهاية: فيعنتوا عليكم دينكم أي يدخلوا الضرر عليكم في دينكم. وقد قالت معجمات عصرية: وربما عدى تعنت بعلى، وهذه التعدية غير محققة.
ومن أقوالهم في النهي عن تعنت العلماء - والقول في العقد - إذا جلست إلى العالم فسل تفقها ولا تسل تعنتا
31 -
في الصفحة (438): فاضطرت هذه الشريفة أن تتزوج بالغلام ريثما يتهيأ للمولى أن ينكحها، فلما تهيأ له ذلك أظهر
قلت: ريثما في هذا الكلام للحين الطويل كما تدل القصة في كتابهم على ذلك، وهو في
العربية للمدة القصيرة، وأصله مصدر أجرى ظرفا، وأكثر ما يستعمل مستثنى في قول منفى.
ومن الأدلة على قصر المدة لهذا الحرف قول الشنفري (أو خلف الأحمر) في لامية العرب:
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي
…
على الذأم إلا ريثما أتحول
وقول أعشى باهلة في رثاء المنتشر:
لا يُصعب الأمرَ إلا ريث يركبه
…
وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
وقول بعضهم:
ولي نفس حر لا تقيم منزل
…
على الضيم إلا ريثما أتحول
وفي النهاية: فلم يلبث إلا ريثما قلت أي إلا قدر ذلك. وفي اللسان: عن الكسائي والأصمعي: ما قعدت عنده إلا ريث أعقد شسعي، ويقال: ما قعد فلان عندنا إلا ريث أن حدثنا بحديث، ثم مر أي ما قعد إلا قدر ذلك، ومثله في التاج وفي المصباح: ووقف ريثما صلينا أي قدر ما. وفي المقامات الحريرية في الصنعانية: فأمهلته ريثما خلع نعليه وغسل رجليه. وفي النجرانية: فأمسك ريثما يعقد شسع، أو يشد نسع
للكلام بقية - الإسكندرية
(* * *)
من رحلة الشتاء
في مضارب شمر
المشاريع الإصلاحية في البادية
للآنسة زينب الحكيم
1 -
بدأ الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر منذ سنة 1930 يستعمل نفوذه ليوطن البدو التابعين له في قرى، يطالب بأرضها لهم من الحكومة العراقية بحيث تكون وجهتهم احتراف الفلاحة؛ وقد تمت هذه الصفقات لبعضهم فعلا، وشجعهم الشيخ الياور بشراء بعض الآلات الزراعية من ماله الخاص، مثل المحاريث التي استجلبها من ألمانيا عندما زارها في أثناء زيارته الأخيرة لأوربا
كذلك ساعدهم بشراء بعض المواشي، وبذور النبات، وغرضه من هذا كله أن يسهل لهم احتراف الفلاحة وتحبيبها إليهم. على أني علمت أن هذه التجربة لم تسفر عن نجاح يوازي ما بذل من مساعدات وتشجيع. إذ وجد الشيخ أنه من العسير جداً استقرار البدو - ومن يستطيع أن يحد من حريتهم؟! - ومع هذا استقر كثير من رؤساء العشائر في بعض القرى التي كونوها
ولعله لا يخفى على فطنة القارئ أنه وإن كان ملك البادية يعطف على البدو من رعاياه، ويعطى لهم باليمين، فأنه يأخذ منهم باليسار أتاوات وجعولا على محاصيلهم وأغنامهم وجمالهم وغيرها. وهذا السبب عينه مما ينفر البدو في الاستيطان لكراهيتهم الخضوع للضرائب والتجنيد وما شابه ذلك
2 -
مدرسة ابتدائية
مما أثلج صدري حقيقة، وجود مدرسة ابتدائية في وسط البادية. تأسست هذه المدرسة سنة 1932، وبدأت أهلية حيث أنشأها الشيخ عجيل الياور على نفقته، وبدأت بعدد قليل من الأولاد، ولكنه عظيم بالنسبة لعوامل البيئة هناك. فافتتحت لخمسة وعشرين إلى ثلاثين ولداً من أبناء البدو، ومن بينهم أولاد المشايخ بالضرورة، يذهبون جميعاً لتلقي الدروس بالأمر المشدد من الشيخ وأمره مطاع، وإن خالف ذلك ميولهم الخاصة. وشجع الشيخ هؤلاء
بمنحهم السكن والملابس
سارت المدرسة في سبيل التقدم، وسعى الشيخ لأن تدخل تحت إشراف الحكومة العراقية حتى تفوز بمنهج منظم، وأساتذة فنيين، وفعلا في سنة 1934 أي بعد سنتين من إنشائها، صارت مدرسة حكومية تمدها وزارة المعارف العراقية بالمعلمين والأدوات المدرسية من حيث الأثاث (وهو عبارة عن خيام بيضاء كبيرة، ومناضد ومقاعد لجلوس الأولاد، وسبورات مع حواملها). أما أدوات الطلاب فلا تزال على نفقة الشيخ
وصار عدد تلامذتها الآن من 50 - 80 تلميذاً يتناقص أو يتزايد العدد بين هذين الرقمين بالنسبة لتنقل العشائر للرعي
ويوجد بين الأولاد بعض البنات، وبالمدرسة ستة صفوف (أو فصول) وتتراوح أعمار التلاميذ بين ست، وست عشرة. (وقيل لي: أحياناً يأتي إلى المدرسة أطفال في سن الرابعة أو الخامسة)
ويدرس بها على منهاج المدارس الابتدائية العراقية، واللغة الإنكليزية هي اللغة الأجنبية التي يتعلمها التلاميذ ابتداء من الصف الخامس، ويستمر تعليمها في السادس
زرت هذه المدرسة في خيامها البديعة، وكان حادثاً في حياة الأولاد وتجاربهم أن يروا سائحة مصرية، فلحظت أنه بقدر سرورهم بهذه المفاجأة، كانت دهشتهم من سفر سيدة تلك المسافات البعيدة حتى وصلت إليهم. وكان شغفهم زائداً لسؤالهم إياي أسئلة شتى، كما بدا لي على وجوههم، ولكن كيف يجرءون على مخاطبة سيدة!
كانت الدروس التي حضرتها في مختلف الفرق متنوعة، وكان أول درس حضرته:
(أ) درس حساب، فبعد أن انتهى الأولاد من حل تمرين أعطي لهم في دفاترهم، وبعد تصحيحه أيضاً، حبب أليّ أن أعطيهم بعض التمارين العقلية، فأدهشني توقد ذكائهم ونشاطهم العجيب. وفي أثناء ذلك فاجأت التلاميذ باختبار ذكاء بسيط، فقلت: تعلمون شيئاً عن الموازين مثل الرطل والأقة مثلاً؟ فقالوا: نعم. قلت: وأيهما أكثر ربحاً للشاري، أرطل من البندق مقشور أم رطل بدون قشرة؟ فرفعوا أيديهم. وسألت أحدهم واتفق أنه خلط في الاجابة، فلم يرض باقي التلاميذ عن هذه الاجابة؛ ولكنهم نظاميون جداً فلا يجاوبون بدون إذن. وفاجأني تلميذ صغير من بينهم قبل أن أسأل غيره، بالسؤال الآتي:
من فضلك، أيهما أكثر عدداً 2 + 2 أو2 2؟ قلت: لعلي لا أعرف ذلك، فلنسأل باقي التلاميذ، فقال: لا، هذه بتلك. فضحكت وسررت من جرأة البدوي النجيب، ولمست سمات الانتصار على محيا زملائه
وهل يرضى البدوي بالهزيمة ولو كان في ذلك حتفه؟!
هنا أريد أن أوجه نظر القارئ الكريم إلى أن مشروع اختبار الذكاء أو غيره من الحركات الحديثة في التربية، ليست مقصورة على عقل واحد أو جماعة واحدة، وليست من اختصاص أمة دون أخرى
إن لكل أمة مقاييسها، ولو لم يكن لدى هؤلاء البدو مقاييس ذكاء خاصة يعرفونها ويفهمونها فيما بينهم لما عاملني هذا البدوي وزملاؤه من نوع عملي وجعلوها (دقة بدقة)
(ب) كان ثاني درس رأيته درس جغرافيا. دخلت الفصل وحييت التلاميذ، وكانوا أكبر سناً من الفرقة التي رأيتها
وجدت خريطة كبيرة للقطر المصري معلقة على السبورة، وبدأ الأستاذ يناقش تلاميذه في معلوماتهم عن بلادي، فكان حسن ذوق ومجاملة لطيفة، وانتهزت الفرصة وقلت: ربما لم يسبق لكم يا تلاميذ رؤية مصرية قبلي؟! فقالوا: لا، ونحن سعداء برؤيتك. فشكرتهم، وقلت: أو كنتم تتخيلون المرأة المصرية كما رأيتم الآن؟ قالوا: لا، كنا ننتظر رؤيتها في ثياب سوداء، فإن من العيب أن تلبس المرأة الثياب الملونة، ولا سيما ما كان منها أبيض. قلت: لماذا؟ فقالوا: إن اللون الأبيض من سمات الرجل، أما المرأة فلها الثياب السود. (لم أستطع الوصول إلى التعليل المنطقي منهم لهذا التخصيص، ولعلها مجرد عادة نشأت من الاقتصاد في الغسيل لقلة الماء والصابون في الصحراء)
قلت: وهل تريدون أن تسألوني شيئاً عن مصر؟ قالوا بشوق: نعم. كيف حال فاروق الملك الشاب؟ وهل هو تقي؟ وهل هو يشبه سيدنا غازي الأول؟ وهل فرح بالزفاف الملكي؟ (قد وصلتهم أخبار الزفاف كلها وسمعوا حفلاته بالمذياع ملك شيخهم)
أجبتهم عن كل أسئلتهم، وقد أصغوا إليها في شوق زائد وسرور وغبطة
(ج) زرت التلاميذ في أثناء درس في اللغة العربية، وكان مطالعة مع شرح بعض المعاني والإعراب. فسألت تلميذاً أن يُعرب (جلس التلاميذ بنظام) وحقا كانوا قد فعلوا ذلك وأردت
أن أمتدحهم إذا ما فرغوا من إعراب الجملة، فكان أول ما وجه المعلم أنظارهم إليه نطقي الجيم في جلس غير معطشة فقال: هل لحظتم يا تلاميذي كيف تنطق السيدة المصرية الجيم في جلس؟ إنها خففتها وفق ما اتبعوه في بلادهم
طلبت إلى الأستاذ أن يسمعني التلاميذ بعض قطع شعرية مما يحفظون وبعض أناشيد، وقد فعلوا، أما الأناشيد فتلحينها ضعيف
ولما جاء دور المحفوظات استأذنت المدرس في أن أختار أنا التلميذ، وكان من بين التلاميذ شبيه لعنترة صغير، فبتوارد الخواطر، اخترت هذا الأسود ليسمعنا قطعة من محفوظاته. ولكن التلاميذ ضحكوا وتغامزوا فيما بينهم على هذا الأسود، وعلى غرابة اختياري، واتهموا ذوقي. فقلت: أيها التلاميذ النجباء لماذا تضحكون؟ ألا يذكر أحد منكم الفارس العربي المقدام الشاعر الهمام، عنترة العبسي الذي كان يقول:
(لئن أك أسوداً فالمسك لوني)؟
ويقول:
لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب
…
يوم النزال إذا ما فاتني النسب؟
ما أسرع البدوي إلى النخوة والشهامة! لقد اعترف الأولاد بخطئهم حالا، وقالوا في نفس واحد: قم يا عنتر ونحن نتبعك. وقام هذا الأسود الصغير، وألقى قطعة حماسية بالغة. ووالله لا أنسى أبداً منظر التلاميذ من خلفه ومن حوله، وهم يشتركون معه في الإلقاء الحماسي، وكأنما تتحرك القناة في أيديهم، والأصائل تكر بهم وتفر لهزم العدو، ولكسب شرف العرب. بارك الله في أبناء البدو الناهضين وقواك الله يا قبائل شمر
بعد هذه المعركة الحماسية قلت لتلميذ في طرف الخيمة، وقد شهدت على وجهه انفعالا: ماذا تريد أن تنال لو خيرت في نيل أمنية؟ قال في غير توان: فرس أصيلة، لأريك أني أبز عنترة العبسي وأباه
فتوجهت إلى الشيخ وسألته: كم ثمن الفرس الأصيلة؟ وعزمت أكيدا أن أترك للتلميذ ثمن الفرس لينال رغبته، ولكن الشيخ لم يقبل، ووعد أن يعطيه فرسا من عنده
(د) حضرت درساً إنجليزياً (مطالعة، ومحفوظات، وتركيب جمل) والتقدم الذي لحظته على التلاميذ كبير، ولفت نظري توقد ذكاء تلميذ من بينهم، وشدة لمعان عينيه، فسألت: من
يكون هذا التلميذ؟ فقيل لي: أنه أبن الشيخ عجيل الياور الذي ساح في أوربا كلها مع والده بعد حضور حفلات تتويج ملك الإنجليز
فسألته عما أعجبه أكثر غيره من البلاد الأوربية؟ فقال في إيجاز وتأكيد أعجبت بسويسرا لجمالها، وإنجلترا لتقاليدها ونظامها، وألمانيا لاختراعاتها ونظامها ونظافتها، وهذا التلميذ موجود الآن بكلية فكتوريا بالإسكندرية هو وأخوه، حيث أحضرهما إلى مصر، أخوهما الأكبر الشيخ صفوك الياور، وألحقا بهذه الكلية من بدء العام الدراسي. وكانت مفاجأته لنا بالزيارة حلماً تحقق. هذا ويجلس تلاميذ مدرسة البدو هذه لتأدية الامتحان النهائي لمرحلة التعليم الابتدائي، في الأماكن التي تخصصها الحكومة العراقية، فيرحل التلاميذ عادة إما إلى لجنة الموصل أو سنجار
وقد وجد أن أولاد البدو في مستوى أولاد الحضر، بل يفوقونهم في نسبة النجاح في الامتحانات العامة
ما دخل العلم بيئة طيبة إلا أثمر فيها وأنتج نتاجاً حسناً. وإني أعلق أهمية كبرى على هذه المدرسة في إيقاظ البدو، وأعدها أول نواة صالحة للأخذ بيدهم في مدارج الحياة الإنسانية الحقيقية
(للحديث بقية)
زينب الحكيم
للتاريخ السياسي
المفاوضات وتأثير ألمانيا فيها
للدكتور يوسف هيكل
(تعقدت المشكلة التشيكوسلوفاكية في شهر أغسطس (آب) سنة 1938 وأخذ تعقدها يزداد حتى كادت تفجر قنبلة الحرب العالمية. غير أنه لا يزال هناك أمل في إيجاد حل لهذه المشكلة عن طريق المفاوضات بين الحكومة التشيكوسلوفاكية وممثلي حزب السوديت. وبعرضنا لها نتكلم عن المناورات الحربية الألمانية ومهمة اللورد رنسيمان، ونبين تطورات المفاوضات، ونذكر تأثير خطاب الهر هتلر على مسيرها.)
غادر اللورد رنسيمان لندن إلى براغ في أغسطس (أب)، موفداً من الحكومة البريطانية بالاتفاق مع الحكومة الفرنسية، ليكون وسيطاً بين حكومة براغ وحزب السوديت. وكانت مهمته بذل الجهود لمنع فشل المفاوضات السائرة بين الدكتور هودزا رئيس حكومة تشيكوسلوفاكيا، وممثلي الهر هنلاين رئيس حزب السوديت. وفي حالة فشل هذه المفاوضات أعد اللورد رنسيمان مشروعاً من عنده، يوفق به بين وجهتي نظر الفريقين المتنازعين، ليضمن السلام ويبعد شبح الحرب العامة، الذي كان يحوم في جو أوربا الوسطى.
ولما أخذ اللورد رنسيمان يدرس الوضعية في تشيكوسلوفاكيا، جابهت ألمانيا العالم باستعداداتها الحربية الهائلة التي دعتها مناورات اعتيادية تاريخ ابتدائها 15 أغسطس (آب).
وفي الواقع كانت التعبئة، أي التجنيد، لهذه المناورات تعبئة عامة أقلقت الدوائر السياسية واضطرب منها الرأي العام. إذ صدرت الأوامر بتعبئة جميع الأطباء والممرضات. وتلقى الرجال القادرون على حمل السلاح والذين لم يدعوا إلى الخدمة حتى ذلك الوقت، الأمر بأن يكونوا في كل وقت مستعدين لتلبية أوامر السلطات، وحظر على كل ألماني دون الخامسة والستين من العمر مغادرة ألمانيا إلى بلد آخر. وألغيت جميع إجازات العمال في السكك الحديدية، وأبطلت معظم قطارات السفر لإفساح المجال للقطارات العسكرية، وصادرت السلطة معظم سيارات (الباصات)(أتوبوس). وأخذت إنشاءات الطرق نحو
الحدود التشيكوسلوفاكية تسير بسرعة عظيمة، وإقامة القلاع على ضفاف الرين وإتمام خط (سيكفريد) المواجه لخط (ماجينو) تجري بسرعة لم يسبق لها مثيل. ثم أرسلت الجيوش إلى حدود تشيكوسلوفاكيا، واحتلت القوى العسكرية قلاع الرين والثكنات المواجهة للحدود الفرنسية.
وكان الغرض من هذه الاستعدادات الحربية الهائلة، غرضاً سياسياً هو التأثير على سير المفاوضات بين حكومة تشيكوسلوفاكيا وممثلي حزب السوديت، والتهويل على حكومتي لندن وباريس، لتفسحا المجال لتحقيق المطالب الألمانية.
في هذا الجو الصاخب سارت المفاوضات بين الدكتور هودزا، والهر هنلاين. وكان الأول، أي رئيس الوزارة التشيكوسلوفاكية يستند في موقفه إلى تحالفه مع باريس وموسكو، وإلى التحالف العملي بين لندن وباريس. وكان الثاني أي رئيس حزب السوديت يستند إلى الهر هتلر. وكل منهما كان يعتقد أنه الأقوى، وكل منها كان يريد من الآخر أن يتراجع عن موقفه. ولهذه انقطعت المفاوضات مراراً، ولم تستأنف إلا بفضل جهود اللورد رنسيمان وتسامح الحكومة التشيكوسلوفاكية. ورغم ذلك كانت نهايتها فشلا تاما. وإننا لذاكرون أهم تطوراتها:
قدم حزب السوديت الألماني مذكرة إلى حكومة براغ، في 7يوليو (تموز) الفائت، وعرض فيها الدخول في مفاوضات على أساس تحقيق المطالب التي جاء ذكرها في المذكرة وهي لا تختلف عن المطالب الثمانية التي أعلنها الهر هنلاين في خطابه الذي ألقاه في كارلسباد في 23 ابريل (نيسان) سنة 1938. وكانت الحكومة حينئذ آخذة في وضع نظام الأقليات، وفي 9 يوليو (تموز) اجتمع الدكتور هودزا مع مندوبي الهر هنلاين وباشروا المفاوضات. وفي 15 منه صدر بلاغ رسمي مشترك يشير إلى أن الاتفاق تم على أن تكون مذكرة السوديت ونظام الحكومة بشأن الأقليات بمثابة أساس مفاوضات بين الحكومة والسوديت.
سارت المفاوضات، وكان يحضرها مندوبو الأحزاب البرلمانية في تشيكوسلوفاكيا، فظن الرأي العام أن الطرفين واصلان إلى نتيجة إيجابية تؤدي إلى الوفاق بينهما وزوال خطر الحرب العالمية.
ولكن بينما كانت المناورات الحربية الألمانية على أشدها، والرأي العام متجه نحوها، أعلن
مندوب السوديت، في 17 أغسطس (آب)، عدم قبولهم النظام الجديد الذي وضعته الحكومة لتحسين حالة الأقليات. وأبلغوا اللورد رنسيمان بأنهم لا يرون فائدة من مواصلة المفاوضات مع الحكومة.
اهتم اللورد رنسيمان للموضوع، وبذل جهودا في إقناع مندوبي السوديت بضرورة العدول عن رأيهم هذا، فطلب وفد السوديت مواصلة المفاوضات مع الوزارة فقط، مفاوضة الند للند في جلسات لا يحضرها مندوبو الأحزاب البرلمانية. فقبلت الحكومة طلب السوديت، بعد تدخل الدكتور رئيس الجمهورية التشيكوسلوفاكية واللورد رنسيمان في الموضوع على أثر ذلك وافق مندوبو السوديت على مواصلة المفاوضات مع الوزارة ولكنهم أصروا على رفض الاقتراحات التي عرضت عليهم.
عمدت الحكومة إلى منح السوديت الألمان امتيازات جديدة كتعيين عدد كبير من رجالهم في وظائف كبيرة مختلفة. غير أن حزب السوديت قابل هذه الامتيازات بالاستخفاف والامتعاض. وللوصول إلى اتفاق حاولت الوزارة التشيكوسلوفاكية في 25 أغسطس (آب) إيجاد قاعدة جديدة للمفاوضات، غير أنه ظهر في اليوم التالي أن الأزمة التشيكوسلوفاكية بلغت حد الخطر، إذ شقة الخلاف واسعة بين الطرفين يتعذر سدها، لوقوف حزب السوديت موقف المتصلب والمتشبث بمطالبه كاملة غير منقوصة. وكانت ألمانيا تشجعه على هذا الموقف وتحثه على عدم التساهل. وأخذت الصحف الألمانية حينئذ تحمل حملة شعواء على تشيكوسلوفاكيا من أجل حوادث تافهة لا قيمة لها ولا أهمية. وكان ذلك دليلاً على أن ألمانيا لا تريد حل مسالة السوديت بمفاوضات حرة
وبسبب خطورة الحالة الدولية ضاعف اللورد رنسيمان نشاطه بإيعاز من لندن، وبذل جهوداً لمتابعة المفاوضات، فاجتمع في 28 أغسطس (آب) بالهر هنلاين، وقصد مساء 29 أغسطس (آب) قصر الرياسة وقابل المسيو بنيش ومهد الاجتماع الهر هنلاين بالرئيس وشاع حينئذ أن ذلك الاجتماع يأخذ مكانه بعد ظهر 30 أغسطس (آب). غير أن هذا الاجتماع لم يتم، وبدلاً منه اجتمع الرئيس بنيش بالدكتورين كورندت وسبدوسكي من زعماء السوديت. وعرض عليهما اقتراحات جديدة للحكومة التي وضعت على أساس تقسيم البلاد إلى مناطق ذات حكومات مستقلة لها سلطات واسعة على مثال سويسرا. وقد أكدت
المقامات المتصلة ببعثة اللورد رنسيمان أن السوديت الألمان لا يرفضونها إذا تركوا وشأنهم. ولم يقع عليهم ضغط من جهة الألمان. وفي 2 سبتمبر (أيلول) اجتمع الدكتوران كوندت وسبيدسكي برئيس الجمهورية من جديد، وبسطا له آراء السوديت في الاقتراحات الجديدة، التي قدمها إليهم في 3 أغسطس (آب)، وهي تدل على أن حزب السوديت لم يقرر رفض اقتراحات الحكومة بل أبدى في صددها تحفظات كثيرة يتطلب الاتفاق عليها مفاوضات شاقة طويلة
وفي هذه الأثناء أي في أول سبتمبر (أيلول) كان الهر هنلاين قد ذهب إلى (برخستكادن) لمقابلة الهر هتلر بإيعاز من اللورد رنسيمان. ولدى عودته ذهب المستر جوانكين، مساعد اللورد رنسيمان إلى بلدة آش في 4 سبتمبر (أيلول) وقابل الهر هنلاين واطلع منه على ما دار بينه وبين الهر هتلر من حديث، ثم عاد وأطلع اللورد رنسيمان على ما سمع من الهر هنلاين
وبعد عودة الهر هنلاين من ألمانيا اجتمع بمندوبي السوديت الذين كانوا يفاوضون الحكومة، وعلى أثر ذلك نشر حزب السوديت في 5 سبتمبر (أيلول) بلاغاً له مغزاه، طلب فيه تحقيق مطالبه الثمانية التي أعلنت في كارلسباد، حالاً وغير ناقصة
جدت حكومة براغ في 5 سبتمبر (أيلول) في وضع اقتراحات جديدة لحل مشكلة السوديت، راعت فيها تحقيق مطالب الهر هنلاين الثمانية، حسما للنزاع، وتحقيقاً للوصول إلى اتفاق سلمي.
وفي اليوم التالي قابل الدكتور بنيش زعماء السوديت وأسلمهم الاقتراحات الجديدة، أو ما سمي (المنهاج الرابع). وهذا المنهاج محتو على تسع مواد توجز كما يلي:
1 -
تمثيل الجنسيات والعناصر بالوظائف الحالية والمستقبلية نسبة لعددها
2 -
تعيين الموظفين في الأقاليم من جنس أكثرية السكان
3 -
تجديد نظام الأمن بتقسيمه إلى بوليس الدولة وبوليس الأقاليم، ويعين للأقاليم بوليس من جنس سكانها
4 -
مساواة لغات الأقليات باللغة التشيكية
5 -
القيام بعمل واسع النطاق في سبيل إنماء الحركة الاقتصادية في المناطق الألمانية التي
أصيبت بأشد أضرار الأزمة. منها منح هذه المناطق قرضاً تبلغ قيمته خمسة ملايين جنيه بشروط متهاودة
6 -
تقسيم البلاد مقاطعات مستقلة استقلالا ذاتياً ومتساوية في الحقوق على أساس عنصرية السكان
7 -
إنشاء إدارة خاصة للأقاليم في جميع الإدارات المركزية يديرها وطنيون، لمعالجة المسائل المتعلقة بجنسياتهم
8 -
المحافظة على حقوق المواطنين القومية بقوانين خاصة، ويكون للهيئات التمثيلية المختلفة حق الاعتراض على أي تدخل في حقوق أو مصالح الجنسيات التي تمثلها. وستكون سجلات خاصة لكل جنسية
9 -
اتخاذ احتياطات حالية للوصول إلى اتفاق على هذه النقاط التي لا تتطلب احتياطات تشريعية. أما فيما يتعلق بوضع قوانين جديدة، فإن الحكومة ستحضرها بالاشتراك مع حزب السوديت الألماني. وستعرض المشروعات على البرلمان وتنفذ بأسرع وقت ممكن
قابل الألمان السوديت اقتراحات الحكومة هذه بارتياح، وقبلوها في 7 سبتمبر (أيلول) أساساً للمفاوضات، لأنهم رأوا فيها تحقيقا يكاد يكون تاما لنقاط كارلسباد الثمانية، فساد التفاؤل وعظم الأمل بالوصول إلى حل ودي. غير أنه في اليوم نفسه وصلت براغ أنباء حادث (ماهريش استراو) فأثارت غضب الألمان السوديت فقرروا قطع المفاوضات. أما حادث ماهريش استراو فيوجز فيما يلي:
وصل في 6 سبتمبر (أيلول) كثيرون من ممثلي حزب السوديت الألمان إلى ماهريش استراو لمطالبة السلطة بالتحقيق في بعض الأخبار التي يؤخذ منها أن الألمان السوديت الذين كانوا قد اعتقلوا عوملوا في السجن معاملة سيئة. ولما دخلوا دار المحافظة تجمع الأهالي الألمان خارج الدار. فأعمل البوليس الركبان فيهم الضرب بالعصي والسياط لتفريقهم. ويقال أن البوليس ضرب اثنين من نواب السوديت على الرغم من تلويحهما بشهادتيهما القانونية
اهتمت حكومة براغ لهذا الحادث، واتخذت التدابير لعدم تكرره، ولتحسين معاملة المساجين الألمان. وطلب رئيس وزارة براغ مقابلة النائبين كوندت وروش، فاجتمع بهما يوم 7
سبتمبر (أيلول) ودارت محادثة سوي على أثرها حادث مهريش استراو وانتهت بالاتفاق على استئناف المفاوضات
وبينما كانت حكومة براغ جادة في حل المشكلة التشيكوسلوفاكية بالاتفاق مع السوديت الألمان بمنحهم مطالب زعيمهم الثمانية، فاجأت جريدة التيمس، المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع حكومة لندن، العالم في 7 سبتمبر (أيلول) مقترحة في مقال رئيسي، حل المشكلة التشيكوسلوفاكية عن طريق فصل الأقاليم السوديتية وضمها إلى ألمانيا. ومصرحة ((بأن إرادة الأهالي الذين يعنيهم الأمر ستكون عاملا له أهمية فاصلة في أية تسوية يرضى أن تكون دائمة) وهذا الحل غاية ما يصبو إليه السوديت الألمان، وما يرمي إليه الهر هتلر. غير أن السوديت الألمان لم يجرءوا حتى ذلك التاريخ على طالبه، ولم يأملوا تحقيقه
وبينما كانت المفاوضات تسير في براغ بصعوبة ومشقة، ومن غير أن توصل إلى نتيجة إيجابية، قرب يوم الاثنين الموافق 12سبتمبر (أيلول) وهو تاريخ إلقاء الهر هتلر خطابه التاريخي، الذي كان ينتظره الناس في جهات الدنيا الأربع. فأحالوا نظرهم عن تشيكوسلوفاكيا، واتجهوا نحو نورمبرغ، حيث أنتقل إليها مركز النظر في المشكلة التشيكوسلوفاكية، وحيث يلقي زعيم ألمانيا كلمته الخطيرة
كان خطاب الهر هتلر شديد اللهجة عنيفاً، ولم يكن في الإمكان في أحوال دولية عصيبة كأحوال شهر سبتمبر (أيلول) الفائت، أن يلقي زعيم ألمانيا خطبة أشد لهجة من الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر نورمبرك وكان (ضربة أصابت أساس سياسة التوفيق التي سار عليها المستر نيفل تشمبرلين)، كما قالت النيويورك تايمس في 13سبتمبر
فقد حمل فيه على الحكومات الديمقراطية حملة شعواء، ملؤها السخرية والازدراء، وهاجم حكومة براغ هجوماً عنيفاً بعبارات ملؤها الإهانة والتحقير. ومما قاله بصدد المشكلة التشيكوسلوفاكية:
(. . . إني أعلن أن هذه المخلوقات المضطهدة (أي السوديت الألمان) إذا لم تحصل على حقها وعلى المساعدة التي تستطيع المطالبة بها فإنها ستنال هذا الحق وهذه المساعدة منا. . لقد سبق لي أن أعلنت أني لا أتحمل بعد الآن أن يظل هؤلاء الملايين الثلاثة مضطهدين، وأرجو من رجال سياسة الدول الأجنبية أن يعلموا أن هذا ليس كلاماً بلا
معنى). وبعد أن ذكر الفوهور أن ألمانيا ضحت كثيراً في سبيل السلم قال (إن الشعب الألماني ليس مستعداً لأن يقبل آلام ثلاثة ملايين ونصف مليون أو يشترك في تحملها. أني أستطيع أن أؤكد لساسة لندن وباريس أننا عازمون على الدفاع عن مصالحنا في جميع الظروف. وأني أفضل أن أتحمل الضيق والخطر والاضطهاد على أن أعدل عن تحقيق هذا الواجب)
وبعد أن أبان الأعمال التي قام بها منذ 28 مايو (مايس) الأخير لتعزيز قوى ألمانيا الحربية قال: (لقد بذلت هذا الجهد لأضمن السلم، ولست على استعداد لأن أشاهد اضطهاد الشعب الألماني في تشيكوسلوفاكيا بهدوء لا حد له. إنهم يريدون الشروع في مفاوضات وتسويف الأمور ولكن ذلك لا يمكن أن يدوم)
(إن ما يريده الألمان هو حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، وهذا ما يتمتع به كل شعب بدون شك. إني أريد أن ينتهي اضطهاد ثلاثة ملايين ونصف مليون من الألمان في تشيكوسلوفاكيا، فان المسألة مسألة مواطنين ألمان، ولا أرغب في أن تنشأ على الحدود الألمانية فلسطين أخرى، فألمان تشيكوسلوفاكيا لن يظلوا بدون دفاع ولن يتركوا لأنفسهم. . .)
وقد ختم الهر هتلر خطبته بقوله: (إننا لن نذعن بعد الآن لإرادة أجنبية، وإنني أقسم على ذلك وليساعدني الله)
أصر الهر هتلر في خطابه على وجوب إعطاء السوديت الألمان (حق تقرير مصيرهم) ولم يطلب صراحة فصلهم عن حكومة براغ وضمهم إلى ألمانيا، لعلمه حق العلم بأن الألمان السوديت إذا أعطوا حق تقرير مصيرهم يقررون الانضمام إلى الريخ الألماني، وليظهر للعالم بأن ألمانيا لا تريد التوسع في أوربا وإنما البلاد المأهولة بالألمان، خارج حدود الريخ، تريد الانضمام إليه
كان لخطاب الهر هتلر تأثير عظيم على نفسية الألمان السوديت وأنتج تغييرا أساسيا في مطالبهم القومية، إذ أعلنوا أن مطالبهم الثمانية المعلنة في كارلسباد لم تعد أساسا صالحا للمفاوضات. وطافت جموعهم في الشوارع طالبة الاستفتاء، وقامت مظاهرات نادى القائمون بها بالانضمام إلى ألمانيا، هاتفين:(شعب واحد ريخ واحد، زعيم واحد).
أدى هذا الهياج إلى حدوث اضطرابات ومصادمات اضطرت الحكومة إلى إعلان الأحكام العرفية. غير أن ذلك لم يرق حزب السوديت فأنذر الحكومة في 13 أيلول وقدم إليها مطالب منها إزالة هذه الأحكام. وأمهلها ست ساعات، مهددا بعدم استئناف المفاوضات. وردت الحكومة على هذا الإنذار بأنها لا ترى مانعا من قبول مطالب الحزب إذا وجه الزعماء إلى الشعب نداء يناشدونه فيه احترام القانون والنظام، وجاء وفد منهم إلى براغ للمفاوضة في هذا الشأن.
لم يأبه حزب السوديت لرد الحكومة، بل أصدر بلاغا جاء فيه (أنه لم يعد من الممكن مواصلة المفاوضات على الأسس التي اتبعت حتى الآن. ولذلك أعفى الهر هنلاين الوفد من مهمته وشكره على جهوده). وفي اليوم التالي طلب حزب السوديت رسميا من حكومة براغ أن يكون للألمان السوديت حق تقرير مصيرهم. ونقل الحزب مركزه من براغ إلى اشن ليكون قريباً من الحدود الألمانية.
وفي 16 أصدر الهر هنلاين بيانا قال فيه (إننا نريد أن نعيش عيشة الألمان الأحرار، إننا نريد أن نعود إلى الريخ). وأخذت صحف الألمان تحمل حملة عنيفة على تشيكوسلوفاكيا، ومما قالته جريدة (فولكشر بيوساختر) صباح 17 سبتمبر (أيلول)، أن الوقت قد حان لا بعاد المسيو بنيش عن مسرح السياسة الدولية الأوربية وإزالة دولة من خريطة أوربا.
إن انقطاع المفاوضات أضاع الأمل في الوصول إلى حل سلمي دون تدخل الدول الأخرى)، وقال اللورد رنسيمان في الكتاب الذي أرسله إلى المستر تشمبرلن في 21 سبتمبر (أيلول) إن مسئولية قطع المفاوضات النهائية في رأيي، تقع على الهر هنلاين والهر فوتك، وعلى هؤلاء من مؤيديهم، داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يحضون على أعمال العنف وعلى الأعمال غير الدستورية)
أقلق خطاب الهر هتلر وما تبعه من اضطرابات وقطع المفاوضات في تشيكوسلوفاكيا، الرأي العالمي وبالأخص في لندن وباريس، ودعاهما إلى بذل آخر ما لديهما من جهود في سبيل حفظ السلام. فما هي هذه الجهود؟ وماذا كانت ثمرتها؟ هذا ما سنعرضه في مقال آخر.
يوسف هيكل
المستشرقون الإيطاليون
في مؤتمر بروكسل الدولي
للدكتور أومبرتو ريتزيتانو
نشرت (الرسالة) الغراء في عددها (274) مقالا بسطت فيه أعمال مؤتمر المستشرقين الدولي العشرين المنعقد بمدينة بروكسل في الثلث الأول من سبتمبر الماضي بدار الأكاديمية البلجيكية. وقد لاحظت أن الدكتور مراد صاحب المقالة لم يذكر في حديثه عن المؤتمر إلا ثلاثاً من المحاضرات التي ألقاها المستشرقون الإيطاليون، بينما كانت لمستشرقي إيطاليا في المؤتمر المذكور بحوث قيمة في موضوعات طريفة، ولذلك أرى أن أتلافى هذا السهو على صفحات هذه المجلة المجيدة. ففي القسم الأول الخاص بالعلوم المصرية والأفريقية القديمة مثل إيطاليا الأستاذ بيننيو فراريو مدرس علم الآثار واللغات السامية والحامية في جامعة مونتيفديو عاصمة الأورجواي بأمريكا الجنوبية، وكان موضوع محاضرته (الضمير في اللغات الكوشية) المنتشرة في بلاد الحبشة. وأعقبه في هذا القسم نفسه المدير العام للشئون السياسية في وزارة أفريقيا الإيطالية بروما (وهو اسم أطلق حديثاً على وزارة المستعمرات) الذي أسهب في الكلام عن الأبحاث الإيطالية في لغات السدامة الشرقية ومركزها بين اللغات الأخرى، ولخص في نهاية خطابه النتائج التي وصل إليها الإيطاليون في هذا الميدان العلمي
أما في القسم الرابع الخاص بالهند فقد مثل إيطاليا فيه الأستاذ أمبردجيو باليني من جامعة ميلانو، والأستاذ فيتوري بيزاني مدرس تاريخ اللغات الكلاسيكية المقارن بجامعة كاليري بجزيرة سردينيا، فقرأ أولهما بحثاً من أبحاثه الطريفة استرعى الأنظار، وألقى الثاني محاضرة عن (المهابهاراتا) وهو الكتاب المشهور عند الهنود - وعن تكوينه الأول
أما القسم الثامن الخاص بالعلوم الاسلامية، فقد اشترك في الكلام فيه جم غفير من المستشرقين الإيطاليين. ومن المعروف أن إيطاليا تهتم اهتماماً متواصلا بعلوم الشرق الأدنى نظراً لما لها من المصالح السياسية والتجارية والثقافية في هذه الأصقاع. وهذا هو بلا شك السبب الأساس الذي يدفع الإيطاليين إلى الاسترسال في دراسة هذا القسط من أقساط علم الاستشراق. فتكلم الأستاذ جويدي مدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة روما
عن نشرته الحديثة عن مخطوطات الكندي المنقولة من نسخة أيا صوفيا رقم 4832، كما ألقت السيدة الدكتورة لاورا فيتشيا فالييري المدرسة بجامعة نابولي بحثاً عارضت فيه مشروع تيسير قواعد اللغة العربية وذكرت آراءها بصراحة في هذا الموضوع الخطير الذي تعني به وزارة المعارف المصرية في وقتنا هذا - كما قام الأستاذ (بوسي) القانوني الإيطالي من جامعة ميلانو، بذكر بعض الملاحظات الانتقادية في مقارنته بين الكتابين المعروفين (المجلة)(وبمرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان) للمرحوم محمد قدوري باشا
أما في الأدب العربي الأموي فقد تكلم من المستشرقين الإيطاليين الأستاذ جابربيلي من معهد نابولي الشرقي، والدكتور ريتزيتالو كاتب هذا المقال، فتكلم أولهما في خطبة فصيحة عن الشاعر الأموي (كثير عزة) وراويه جميل، والعلاقات الودية التي كانت بينهما. أما الثاني فقد تكلم عن الشاعر الأموي (أبو محجن نصيب بن رباح) وعن الضرورة القاضية بدراسة وافية لشعراء العصر الأموي العقليين لمعرفة شتى الأخبار الموجودة في شذور إنتاجهم الشعري المتفرقة في مختلف كتب الأدب والتاريخ، كما اقترحت السيدة الفاضلة (أولجابينتو) نشر دراسات عن الرحالة الإيطاليين ورحلاتهم في الشرق الأدنى. ولعمري إن هذا المشروع ليستحق كل الاهتمام لأنه سيقدم مساعدة مهمة لعلم الخرائط الجغرافية ونقدها.
كذلك عرفنا الأستاذ بومباتشي من جامعة نابولي بكتاب قد سكنت ريحه عن النحو التركي ألفه راهب يسوعي في القانون السادس عشر
ومما لا شك فيه أن علم الاستشراق في أوربا وبصفة خاصة في إيطاليا قد ازدهر ازدهار عظيما في الفترة الواقعة بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر. وإن اهتمام بلدنا بالعلوم الشرقية يرجع إلى عناصر مختلفة من بينها الروح التجارية المتواصلة، والتبشير المذهبي الديني في بلاد الشرق؛ وعلى العموم الرغبة العلمية المستمرة. ولقد التفتت النهضة الإيطالية نحو الشرق - الأدنى منه والأقصى - في دائرة الإنتاج الأدبي حوالي منتصف القرن الماضي حين ثبت أن الحاجة ماسة فعلا إلى ضرورة الاستمرار في هذه الناحية من نواحي العلم والأبحاث، وإني لا أتردد في القول بأن كل الفضل يرجع إلى المستشرقين الثلاثة ميكبلي آمارى وجرارنا ديواسكولي وانيازيو جويدي في كثير مما شرع فيه ومما تم
من التقدم وإيقاظ الهمم في هذه الفترة. كما أنه كان من أسباب إنجاح هذه الحركة العلمية الجديدة المساعي القيمة التي قام بها هؤلاء الأنصار الثلاثة الذين استوفت أبحاثهم ودراساتهم وانتشرت في العالم أجمع
دكتور أومبرتو ريتزيتانو
الكونتس فالنتين دي سان بوا
للأستاذ كامل يوسف
جرى قلمي في كلمتي عن المرحوم ولي الدين بك يكن بذكر الكونتس فالنتين دي سان بوا، وبما أنها من الدوحة الشاعرة التي أنجبت لامرتين شاعر الجمال والحب، ومؤلف عشرات الكتب التي تفيض بالشاعرية والخيال الخصيب، أحببت أن أكتب كلمة عنها لتعريف المصريين بها
فهي حفيدة لامارتين، أو على الأصح ابنة ابنة أخته، ورثت عن خال أمها الروح الشاعرية وسمو الخيال، فكانت شاعرة من الطبقة الأولى لا يشق لها غبار. ويمتاز شعرها بالروح الصوفية. وهو ككل شعر صوفي مبهم يحتاج للشرح والتعليق حتى يدرك القارئ كنهه. وقد بدت هذه النزعة في ديوانها الشعري الذي اشتهرت به؛ ويكاد يلمس القارئ لهذا الديوان روح نيتشه في كتابه (هكذا قال زرادشت)، بل إنه يسير على نمطه في الأسلوب. وقد أبديت رأيي هذا في عام سنة 1928 للأدباء الذين كانوا يحيطون بها فلقي منهم التأييد، لأن الكونتس كانت تعجب بنيتشه كشاعر فذ، خصوصاً في سفره (هكذا قال زرادشت) وكانت لا ترى فيه فيلسوفاً له مدرسة فلسفية خاصة
وهذه الروح الصوفية هي التي حدت بها إلى الإقامة بمصر، فهي زوجة وزير من وزراء فرنسا وزارت أسبانيا، وشاهدت هناك جامع قرطبة، فأعجبت بالفن العربي، واتخذ هذا الإعجاب صورة ملية فأرادت أن تلمس حياة الشمس وتختبر روحه، فتركت فرنسا بما فيها من مدنية وجاءت إلى مصر باعتبارها المركز الروحي للبلاد الشرقية، وكان هذا الولع بروح الشرق المتصوفة دافعاً لها على إصدار مجلتها الشهرية (فينكس) للدفاع عن أمم الشرق قاطبة. وقد أنفقت على هذه المجلة مالاً وفيراً، وظلت أكثر من عامين وهي تسخر قلمها البديع لهذه الغاية السامية ولكنها لم تستطع الاستمرار في إصدار مجلتها لنضوب مواردها من أملاكها بمقاطعة سان بوا بفرنسا ومن ربح مؤلفاتها الكثيرة، وذلك عند هبوط سعر الفرنك في سنة 1928
وقد بدت الروح الصوفية عند الكونتس دي سان بوا في أجلى صورها عندما لجأت إلى أسلوب مبتكر للتعبير عن المعاني الباطنية للحقائق الظاهرة، وقد أطلقت على هذا الأسلوب
لفظ (الميتاكوري) وقد جاهدت كثيراً في نشره في فرنسا وأمريكا وأنفقت المال في سبيل تقريبه للأذهان، ولكن غموضه كان عقبة كأداء في سبيل ذيوعه. وقد نشرت كثيراً من الرسوم بريشتها لإيضاح غاياتها، ولكن العالم الأدبي لم يفهم ما تريده الشاعرة من هذه الحركة الصوفية. وقد حاولت أنا وصديقي الشاعر فولاد يكن أثناء اتصالنا بها بحلوان أن نفهم هذه الحركة كما يجب، فلم نخرج منها بأكثر من أنها نوع من الرمزية في الشعر والرسم ترمى إلى إبراز المعاني الباطنة لمظاهر الأشياء. ولما رأت عدم استعداد العقول لفهم نظريتها - التي تقول إن فناني الإغريق كانوا يعملون بها - اتجهت للدفاع عن بلاد الشرق المهضومة الحق. . .
وقد أقامت الكونتس دي سان بوا بحلوان بقصر محمد بك أنسي بشارع سيد أحمد باشا. وكانت دارها ندوة للأدباء زارها فيها الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي المعروف وقدم لها ترجمته الفرنسية لكتاب (ألف ليلة وليلة) وكتب الإهداء بالعربية: (هدية من الشيخ الماردريسي). وكان أول من أتصل بها من المصريين الشاعر الكبير فولاد يكن، وحدث ذلك على أثر زواجه من مدام (س) الفرنسية (وهي زوجة أحد كبار كتاب فرنسا) التي استقدمتها وزارة المعارف لتتولى نظارة مدرسة بنات الأسر الراقية. ومع أن هذا الزواج لم يطل فقد كان سبباً في تعرف الأستاذ فولاد يكن بالكونتس؛ وقد رأت فيه الشاعرة مواهب شعرية تنبئ عن مستقبل زاهر في عالم الشعر فاحتضنته، وجعلته كابنها، وأقام بمنزلها بحلوان يأكل ويشرب ويتريض معها كأنه فرد من أسرتها. وقد أنتجت هذه الصداقة ثمارها إذ قدمته لدور النشر الفرنسية فنشرت له بعض مؤلفاته الشعرية والنثرية مقدمة بقلمها البليغ
وكان يجتمع في دارها الأدباء. وقد قدمني فولاد يكن إليها كأديب ناشئ مهتم بالأدب السكسوني وخصوصاً فن برناردشو الذي كنت أؤلف فيه في ذلك الوقت كتاباً عن آرائه في الحياة والأدب والفن والسياسة. وكانت تعرف عني هذا الاهتمام فكانت تدعوني (برناردشو الصغير). وقد قدمتني في إحدى حفلاتها الماسونية لإحدى زوجات سلطان تركيا المخلوع التي قدمت إلى مصر وألقت بنفسها في النيل عند قصر النيل. وكانت هذه الأميرة على غاية من جمال الخلق والخلق، تركت في نفسي أثراً لا يمحى، إذ تمثل لدي في هذه اللحظة
عظمة الملك ممثلة في شخص هذه السيدة الكريمة؛ وهي في رزانتها وصمتها أبلغ منها وهي في أبهة العرش. وقد حدث أن ثارت بين أديبين مناقشة عن أدب هوجو، وكان أحدهما يرى أنه فن مزخرف أجوف، وكان يعارضه الآخر بأنه أدب حي، وأبديت رأيي في هذه المناقشة بأسلوبي الفرنسي العاجز، وكنت وقتئذ لم ينضج علمي بالفرنسية لانصرافي للأدب الإنجليزي، فسخر من أسلوبي صديقي فولاد يكن، ونعته بأنه فرنسي صيني، ولم ينجني من حملته علىّ إلا السلطانة، فقد عطفت عليّ بأن قالت: إن أسلوبي كإنسان لم يدرس الفرنسية بالمدارس لا بأس به. وقد حمدت لها هذا الموقف الذي خلصني من المأزق الذي تورطت فيه
وتشاء الصدفة أن أقرأ إبان تعرفي بالشاعرة الكبيرة قصة (روفائيل) ترجمة الأستاذ الكبير احمد حسن الزيات، وأردت أن أذكر لها اهتمامنا بأدب جدها لامرتين، فذكرت لها أنني أقرأ ترجمة عربية لرفائيل تكاد في بلاغتها أن تكون صورة ثانية للأصل الفرنسي؛ وذكر الأستاذ فولاد يكن تمكن الأستاذ الزيات من لغة العرب والفرنسيين مما جعل الترجمة تحفة من التحف في أدبنا المصري الحديث، وقد أعجبت الكونتس بذلك كثيراً. ولكنها كانت لا ترى في (رفائيل) العمل الفني الذي يجب أن يخلد به أسم جدها بمصر، وقالت في ذلك إنه مؤلف يسوده الإغراق في المبالغات مما جعله في مرتبة أقل من غيره من المؤلفات الأخرى، وقد ذكر الدكتور منصور بك فهمي في مقدمته لترجمة الأستاذ الزيات مثل هذا الرأي، وأن ذلك قد دعا لامرتين نفسه إلى إعادة النظر في مؤلفه هذا في الطبعات التالية فأبعد عنه بعض المبالغات العاطفية التي أخذها عليه النقاد
والكونتس دي سان بوا رسامة ماهرة ترسم بالزيت وتحفر على الخشب ويشوب رسومها الروح الصوفية، وهي تزين دارها بهذه الرسوم. وقد بلغت براعتها في الرسم أنها كانت تحفر صورتها على الخشب فكانت ملامحها تنطق كأنها رسم فوتوغرافي. وقد انصرفت في السنين الأخيرة إلى التحرير الصحفي وتولت رياسة تحرير أمهات الصحف الفرنسية بمصر. ويمتاز أسلوبها الفرنسي بالجزالة الكلاسيكية، وقد اكتسبت أثناء إقامتها بمصر صداقة الشخصيات البارزة في المجتمع المصري
واختم كلمتي عنها بما تبديه من عطف على الشرقيين، فقد كانت تغشى حفلات العرب
الذين يعيشون في الخيام بقرية حلوان البلد الواقعة على النيل في الليالي القمرية؛ وكانت تعجب بسمرهم؛ وكانت تنثر على أطفالهم النقود، لذلك كانوا يحفظون لها هذا الجميل. وقد أعربوا عن عرفانهم لهذا الجميل فأهدوا إليها كلبا من كلابهم الضخمة، أطلقت عليه اسم (بطل) وكان هذا الكلب موضع عنايتها، وكانت توكل إليه حراسة دارها، وعندما تركت حلوان وأقامت في إحدى فنادق القاهرة الفخمة أخذته معها، وكانت تفخر به على الدوام لأنه (عربون) مودة لا يصح التفريط فيه
كامل يوسف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني
الحالمون
ترجمة السيدة الفاضلة (الزهرة)
الحالمون هم الذين أقطعونا في الدنيا جوانب العيش الخصب العريض، والخير الجم المستفيض، وأرشدونا إلى مبادرة السوانح، وفتحوا لنا أمصار الفرص البيض. ولعله لم يخطر لك ببال مطلقاً أن ما تردد فيه طرفك، وتعدّه من خاص ملكك في هذا الكون الوسيع، منتسب إلى عطاء حلم رائع تحقق، ورؤيا مجيدة صدقت. . .
أدر الطرف حولك واسأل: مَنْ ذا الذي منحنا النعم المألوفة لدينا، والصنائع الشائعة بيننا؟ ومَنْ ذا الذي أسبغ علينا النور ليلاً، وحبانا بالمقدرة على الطواف حول العالم؟ ومَنْ ذا الذي أباد الوباء ومحق الطاعون، وأعاننا على قهر جميع العلل والأدواء؟
لقد ملأت جميع هذه المواهب الكبيرة صدر العالم، وتتابعت علينا تتابع القطر على القفر، فورثناها مع الهواء الذي نستنشقه، وتلك الصيحة الظافرة تنبعث إلينا من أروقة الزمن قائلة:(وجدتها! وجدتها!)
إن أرخميدس لم يقم بمظاهر هائلة حين باح للعالم بسر الثقل النوعيً، ولكنه قفز من حمامه فجأة، وراح يركض في طرقات المدينة متهللاً، ويهيب بالناس قائلاً:(وجدتها! وجدتها!)
وكذلك كانت تلك الروح الزخارة، التي أنعشت دنيا العلم قاطبة، دون أن تضطرب بحب الكسب والمنفعة الشخصية، في كيان أي رجل ممن أثقلوا الكواهل بأياديهم التي يفرض لها الشكر ويتحتم، لأنهم بذلوها في سبيل المصلحة العامة، وأضافوها إلى حصائل العمران من فيض سجاياهم البارة، بسخاء نفوسهم الأمارة بالخير، المطبوعة على المعروف كأنه غريزة فيها تشبه غريزة التغريد في الطير، وعنصراً من عناصرها يحاكي الجمال والشذى في الزهر. . . وكانوا جميعهم سعداء مغتبطين إذ مكنوا الإنسان من حكومة نفسه، وضاعفوا قدرته على تصريف أموره والأخذ بناصيتها، وقد حملوا ألوية جهادهم، وبنود كفاحهم، وكلمات كبار (المجالدين) المستميتين من معشر الرومان، تتدفق من شفاههم، ولكن بروح من النبل الذي يبز كل ما اختلج من معانيه في حياة أولئك الرومان الغرّ الميامين وكأنهم كانوا يخاطبون الإنسانية بلسانهم قائلين:
(نحن الذين نوشك أن نموت موت الإيثار والمفاداة نحييك يا قيصر!)
حقا إن انتصاراتنا الباهرة على ويلات الحياة مسجلة في سير كثير من أولئك المجالدين البررة. ولئن لم يكن الموت في سبيل العرفان وآيات الجهاد من نصيبهم على الدوام، فان مثابرتهم الصامتة كثيراً ما كانت محفوفة بمرائر جسيمة تتحيف الصبر وتهد الأركان وتجعل الموت عذباً مستساغاً؟
وإننا لنعلم أن (وليم هارفي) حين أعلن في محاضراته المتواضعة سير الدورة الدموية في الجسم الإنساني، وفتح الأذهان لأول مرة لتفهم سر من أسرار الوجود العظيمة لم يكن يطمع في منحة أعظم من إقبال الناس على أبحاثه وقبولها بروح العطف، بيد أن العالم أبى عليه هذه المنحة. وغاليلو لم يتطلب منفعة من اكتشافاته التي جلَّت للإفهام حقائق كثيرة في الفلسفة الطبيعية، بل كان جزاءه التهديد بالتعذيب، ووجد غنمه الأكبر في نجاته من هول الخازوق والعذراء: آلة التعذيب بمطَّ الجسم!
ولقد مات (تيخوبراه) في أحضان الفاقة والشقاء لأنه قشع عن العقول البشرية غيوم الترهات والخزعبلات التي كانت تدفعها إلى الفزع من الأجرام السماوية والكواكب السيارة. وقد أحدث (دارون) وهو في مرتقاه الرفيع، فوق ذروة تلال (كنت) ثورة عظيمة في العقول لم يسبق لها مثيل في كل ما أحدثه عالم من علماء الطبيعة. بل إن الراهب (مِندل) في حديقة صومعته المشمسة، وبنحله وببازلته قد بلغ حيث لم تبلغ جهود دارون في كل ما توصل إليه لاكتشاف ناموس الوراثة. ومع ذلك فقد لاقى هذان الرجلان المناجزة والعداء (مع أن راهب برن الشيخ) قد أسبغ منناً عظيمة كفلت الغذاء الصالح للإنسان والحيوان، وأدخل على نتاج العالم الحيواني والنباتي تقدماً لم يسبقه إليه أي إنسان بل أي جيل من الناس. وكل من يبغي أن يجئ اليوم بسلالة جديدة من الماشية والأغنام، أو نوعاً جديداً من الزهر والثمر والبر والحنطة، لا بد له أن يتبع النواميس التي اكتشفها وفسرها الراهب الشيخ في حديقته ببلدة (برن) وكل ديون العالم تقصر عن الوفاء بحقوقه التي لم يتقاض لأجلها شيئاً من العالم، أو يفرض عليه أجراً لها، بل إنه لم يؤثر نفسه بامتياز من امتيازاتها أو يحتكر حقاً من حقوق اكتشافها، وذلك لأنه كان رجلاً من الرجال الذين يغتذون بالأحلام.
وكذلك كان الحال في الثروة المادية التي تنشط اليوم مئات الصناعات والحرف، وتوطد
دعائم حضارتنا، ونحن لا نستطيع بحال من الأحوال أن نحصي أياديها لأنها لا تعد، ولا تقف عند حد. على أن الاستفادة بها والتغني بذكرها هما جل ما يبغيه أولئك الأعلام الذين جدوا وسعوا دون أن يتطلبوا جزاء ولا شكورا في سبيل الإنارة والنهوض بالإنسانية.
ولقد انتقل العالم من عصر الحديد إلى عصر الفولاذ فعصر الكهرباء واللاسلكي، وجميع هذه الاكتشافات الأساسية التي غيرت وجه الوجوه من عصر إلى عصر قد أغدقها علينا رجال أفاضوا شعاب برهم وسحب معلوماتهم وذكائهم كعطايا سمحة لأهل جيلهم. فنحن نشيد عمراننا على أسس وضعها أولئكم المجاهدون الصناديد الذي اتخذوا من ميادين النزال ومعامع الكفاح مدارس للبحث والتفكير والاستقراء ومعتملات للاختبارات والتجارب العلمية. ولقد قدم نيوتن ونابير لعصرهما آلتين من افضل ما جاءت به مستحدثات العلوم الرياضية فزودوا العلم بقوة عقلية تفوق كل وصف. وقد اثبت الطبيب دالتون تلك الصورة النهائية القطعية لنظريته العجيبة - نظرية تركيب الجوهر الذريري. كما وضع العالم الإنجليزي جول الأساس الراسخ لجميع الأعمال الباهرة التي تجري الآن في دائرة (استحالة الاقتدار) وقد ورث العلامة العظيم جيمس كلارك مكسوبل ثروة طائلة من أمالي الفلسفة الطبيعية فاستغلها في التمهيد لاكتشاف التموجات الأثيرية بعد أن تمكن من إدراك أبعادها وتقدير مساحاتها ومقاييسها. وتناول هتريك هرتز الألماني أعمال ذلك العلامة الإنجليزي فتمكن من إشعاع أمواج اليكترماجنتيكيه (المغناطيسية الكهربية) بواسطة جهاز كهربائي للذبذبة وجعل العامل الأساسي لإنتاج هذه الأمواج الشرر الصغير الذي كان يظهر من ثغرة صغيرة في أداة معدنية فيعبر الغرفة دون أن تكون هناك أية حلقة للاتصال غير الهواء. ولقد انسحق قلب دافيد ادوارد هو، من جراء الفشل الذي صادفه في تجاربه اللاسلكية، ولكن جيلاً من الناس الباحثين المستطلعين أفلحوا في تحقيق أحلامهم التجريبية حتى ظهر أخيراً المخترع الإيطالي العظيم جوليلمو ماركوني وتناول أبحاث أسلافه ولم يزل بها حتى تمكن من زيادة الإشعاع وتحسينه وتنميته وضبطه، وتوصل إلى إتمام اختراعه فلم يكد يشارف السابعة والعشرين من سني حياته حتى برهن على مخترعه عملياً وأذاع إشارته اللاسلكية الأولى عبر المحيط الأطلنطيقي، وبذلك أكمل اللاسلكي أهم رحلة في حياته مثبتاً للملأ أنه كان سائراً به في الطريق الموصل إلى ذروة النجاح النهائي بعد
أن تجشم صعوبات هائلة وذلل عقبات كبيرة.
ولا شك في أن أغلبنا يعرف عظم ما ندين به لصمام الحرارة (الثرمونيكي) الذي اخترعه الأستاذ (فلمنج) ولا يخفى علينا أن ذلك الصمام ينبعث من كوكبة (هي المصباح الكهربائي) ولكن كم منا يذكر أن هذه الكوكبة لم تكن لتوجد لولا تلك الأنبوبة المفرغة التي ابتكرها سير وليام كروكس؟ على أن هذه الأنبوبة التي كانت فكرة تتردد في مخيلة ذلك الرجل المستطلع، صارت فيما بعد مهداً للخوارق التي بذت جميع ما سبقها من أعمال قوى الطبيعة الغامضة، فقد اكتشف فيها وبوساطتها أشعة (إكس)، وإن من العسير أن نذكر نصف المدهشات التي تأتت من هذه الأنبوبة العجيبة. . .
إننا نعيش كل يوم على المواهب الباهرة التي قدمها لنا (هنري كافنديش) الذي اكتشف غاز الأيدروجين، وجوزيف بريستلي الذي اكتشف الأكسجين، والكمياوي الفرنسي لفوازييه الذي علمنا وظيفة التنفس. . . ولكننا قلما نفكر في الأحلام الطويلة التي استرسل فيها جميع أولئك الفطاحل، ولعلنا ننسى أن بريستلي فر إلى أمريكا قانعاً من الغنيمة بالسلامة في سبيل كرازته عن الأكسجين، وأن الفرنسيين قضوا على حياة لفوازييه بحد المقصلة الجهنمية مجاهرين بأن الجمهورية ليست في حاجة إلى جمهرة الكيميائيين، وأن العدل يجب أن يأخذ مجراه
إن هذه الفيافي التي نجوس خلالها مترامية الأطراف وعرة المسالك ولكنها عظيمة حقاً لأن رجالاً مجدودين عظماء قد عبدوها وأخضعوها لسلطاننا حباً في العلم والعرفان، لا طمعاً في الربح والكسب:
مقاديم وصالون في الروع خطوهم
…
بكل رقيق الشفرتين يماني
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم
…
لأية حال أم بأي مكان
على أن هذا لم يكن قصارى جهدهم فان أولئك الناس الذين كانوا ينهضون للعمل مبكرين ويهجعون متأخرين ليكتسبوا من الطبيعة أدق أسرارها وغوامضها ويستغلون أعظم قوى اقتدارها من أصغر الذريرات الكائنة، قد رصدوا ساعاتهم للكد دون أن يعرفوا طعماً للراحة؛ وكانوا إذا تمت المعجزة على أيديهم وتمكنوا من استخدام الجوهر الفرد في هد الرواسي وزلزلة الجبال وفي إفادة العالم - الذي يكونون جزءاً غير منظور منه - يقدمون
هذه المعجزة دون قيد ولا شرط، ويطلعونها عليه طلوع الشمس التي تحفظ الحياة على الأرض. ونحن جميعاً نجني ثمراته ونتقاسمها دون أن نبذل في سبيل الحصول عليها فلساً واحداً. وهكذا تتتابع فصول تلك القصة العجيبة التي بدأت مذ شرقت أول شعاعة من شعاعات العلم والمحبة تبدد الظلمات الداجية والأطماع الأشعبية من العقل الهمجي والفكر المتوحش القاسي. وإننا لن نجد ما يتلو علينا فصول تلك القصة مراراً وتكراراً، بل إن أفصح من ذلك الذي تحدثنا به تواريخ الطب والجراحة الفائقة عطفاً وحباً ورحمة. فما من مصل مما يستعمل لشفاء الأمراض إلا وينتمي إلى ذلك المصل الواقي الذي منحه للعالم بسخاء دكتور جنر لحمايتنا من تبريح الجدري. ولا تجرى عملية عظيمة على يد أحد الجراحين اليوم إلا ونجد الجراح والمريض يلهجان بحمد العزة الإلهية من أجل جيمس سميسون الذي جعل القيام بالعمليات الجراحية الخطيرة ممكناً ميسوراً بفضل اكتشافه جواهر المخدرات التي تفقد الإحساس بالألم. أما لويس باستور الذي علم الناس التحرز من المرض بالتطعيم وحفظ الأغذية والسوائل العضوية بالتعقيم فلم يتقاضى على جهوده غير الثناء والشكران. وجاء جوزيف لستر واتبع أفكار باستور واستخدمها في محو الألم ودرء السموم عن الأجسام فكان عدد الذين أنقذهم من الموت أكثر من الذين أبادهم نابليون، وضفر للسلم من أكاليل المجد فوق ما ضفرته الحرب لا عظم أبطالها الظافرين. وقضي حياته وهو يكدّ ويحلم ويحقق حلمه، وبفضله أصبح ميسوراً للجراحة اليوم القيام بكافة صنوف العمليات واصبح الطبيب القادر على أداء تلك العمليات يفاخر بما أسدته إليه طريقة لستر من تفادي التسمم بل أصبح ينشرها للملأ فيكبر لها مشاهير الجراحين وينهل من فيضها جماعة الطلاب المتعطشين ويجعلونها قبلة أنظارهم
وأحسن وجه في الورى وجه محسن
…
وأيمن كف فيهم كف منعم
ولقد كان لستر يتقاضى مبلغ خمسمائة جنيه من موسر يجري له إحدى عملياته، أما الأجر الذي كان يتقاضاه من فقير لاجئ إلى أحد المستشفيات الخيرية فلم يكن يتعدى عبارة (أشكرك يا سيدي) تتدحرج على شفتي ذلك البائس بصوت مختنق متهدج؛ وكان الرجل العظيم يعود إلى بيته بقلب يطفح شكراً لله تعالى الذي آتاه القدرة على تخفيف بلاء المفلوكين
وإذا الرجال تصرفت أهواؤها
…
فهواه لحظة سائل أو آمل
ويكاد من فرط السخاء بنانه
…
حب العطاء يقول هل من سائل
بيد أن ظواهر هذا البذل الإنساني العظيم لا تقف عند هذا الحد لأن أولئك الرجال الذين يمسحون عنا أمراضنا لا يترددون في الخطار بحياتهم دون ريث ولا إمهال
مسترسلين إلى الحتوف كأنما
…
بين الحتوف وبينهم أرحام
آساد موت مخدرات مالها
…
بين الصوارم والقنا آجام
ولا يوجد علاج أو وقاية من أمراض المنطقة الحارة إلا وقد ابتاعوه لنا بأعمارهم الغالية وأنفاسهم الثمينة، فكان الواحد منهم يجرب علاجه في جسمه قبل أن يجربه في مريض. وتاريخ الطب حافل بآيات الشجاعة والولاء والبطولة التي لا تقل عما تفيض به أخبار أعظم الفاتحين
بل إننا حين نذهب بحديثنا إلى عصرنا الحالي العظيم - عصر الهندسة العملية وإقامة الجسور والقناطر العجيبة، وحفر الترع والقنوات المدهشة نجد الحالم من ورائها جميعاً، ونجد السفن تجري من محيط إلى محيط وادعة مطمئنة في قناة باناما حين كانت الحياة الإنسانية لا تساوي قيمة ريع عشرة أيام لعامل عادي، ولولا أن رجلاً اسمه رولاند روس جلس يحلم ليلة بعد ليلة من خلال منظاره المكبرّ ثم عثر على البعوضة التي تحمل جراثيم الموت وأخبر العالم أننا نستطيع أن نهزأ بالحمى الصفراء وبالحمى النافضة (الملاريا) لو فعلنا بهذه البعوضة ما فعله باستور بالطعام وليستر بالجراح لما حفرت ترعة بناما. وقد جنى مهندسوها وبناتها أرباحاً طائلة من ورائها، ولكن الرجال الذين ابتدعوها في أحلامهم ورسموا فكرتها وسعوا لتحقيقها لم يأخذوا لأنفسهم شيئاً لأنهم كانوا من ذوي الأحلام وكأن الشريف الرضي كان يعنيهم حين قال
وركب سروا والليل ملق رواقه
…
على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها
…
فصار سراهم في ظهور العزائم
ترينهم نجوم الليل ما يبتغونه
…
على عاتق الشعري وهام النعائم
وغطى على الأرض الدجى فكأننا
…
نفتش عن أعلامها بالمناسم
وهكذا كان الناس يحملون ويحققون أحلامهم فصيروا عالمنا أجمل وأعظم من عالمهم،
ومنحوا العالم قوة ليس وراءها مطلع لحالم؛ ولا فوقها منزع لأمنية ولا مرتقى لهمة، وأصبح من الميسور للإنسان الآن أن يجعل من هذه الحياة الدنيا فردوساً ينقش فيه صورة جنة الخلد ويفرش عليه محاسن النعيم الأبدي
(الزهرة)
إلى شباب القصصين
كيف احترفت القصة
قصة السيدة ستورم جيمس
للأستاذ أحمد فتحي
حين كنت في جامعة (كترنج) عام 1914، تقدمت بأطروحة عن (القصة الحديثة في أوربا) علمت أنهم سيكافئونني عليها بدرجة جامعية أخرى فوق الدرجة التي أنا متقدمة لإحرازها، وكان ذلك مدعاة لسروري بعض السرور في ذلك الحين!
وكنت طوال سني دراستي أعلق آمالي باحترافي في التدريس، وكان الأساتذة يعلمون هذه الآمال ويرعونها. ولست أدري ماذا حدث بعد فراغي من الدراسة ووداعي للجامعة؟ فقد تنكر عقلي لكل تلك الآمال العريقة! وانقلب كالوحش وقع وشيكا في الشرك! وتملكته قوة جامحة غضبي. . . وحين ألتفت إلى الوراء أراني وقد كنت بلهاء صغيرة غير مؤذية، لا تدري ماذا عساها أن تصنع، ولا تكاد تتبين سبيلها السوي في الحياة!
وتحت تأثير ظنوني الكبار بضرورات حياة يكفلها رزق ضيق لا يزيد على خمسين شلناً في الأسبوع، التحقت بنادي القراء، وكانت لي في تلك الأيام الطويلة فسحة من الوقت أنفقها في القراءة. ولأول مرة كنت أقرأ وأقرأ غير مدفوعة بإعداد أطروحة للجامعة! ولقد كان كل شيء أقرأه يتيح لي اجترار بعض ما تخزنه حافظتي. على أن القصص قلما كانت تشبع نوازع نفسي. ولقد تناولت أجزاء كتاب (تاريخ النهضة الإيطالية) واحداً فواحداً، وعشتُ بينها في تأثر وحبور لا يوصف. وعلى الرغم من جهلي بالقيمة العلمية التي يمتاز بها ذلك الكتاب، فإني مدينة له بدين لن أقوم بوفائه ما حييت!
وبعد تلك القراءات الكثيرة، وفي تلك الأيام التي لم أكن أجد فيها الراحة الكافية لاستئناف القراءة، كنت أكتب وحدي. . . وكذلك بدأت تسجيل فصول قصتي في بطء. وإني لأود الآن أن استدعي ذكريات حالتي النفسية والعقلية حين بدأت كتابة القصة، فلست أدري ماذا كان يروق لي أن اصنع! ومن المحقق أنني لم أكن أتوق إلى تأليف قصة، ولا ابتكار شخصيات؛ وفي الكناشة الضخمة - التي أحتفظ بها وحدها - صفحتان أو ثلاث تحوى
مذكرات مبعثرة متناثرة كنت قد وضعتها نواة لقصتي الأولى؛ وإن معظمها ليبدو لي الآن بلا معنى كما تحوى كذلك مذكرات قصيرة جداً عن شخصيات القصة؛ التي ألاحظ فيها شيئاً واحداً فريداً، هو أنني لم أكن قد وضعت لها فكرة تامة شاملة. . . على أن بعض هذه المذكرات كان ينتظم النظريات الحيوية التي كنت أومن بها في ذلك العهد
لا شيء يبعثني على تصفح هذه القصة الأولى لأرى كيف ائتلفت من تلك المذكرات المتناثرة فصول كتاب كامل ومن الواضح أن رغبة الطبيعة في أن تجعل مني كاتبة قصصية، لم تكن أعظم من رغبة الجامعة في أن تجعل مني مدرسة فيها! فليس في تلك القصة الأولى ثمة فكرة ناضجة؛ بل بضعة مناظر مترابطة. وليس فيها شخصيات؛ بل عظام جافة في وادي عقلي لأفكار مجتمعة لي من سني قراءتي السقيمة، مقتبسة من (العصر الحديث) متذاكرة من أحاديث التلاميذ. ولا أستثني من ذلك سوى نسمات سرت إلى قصتي من سماء الوحي. . .! إذ حدث أن تحرر ذهني مرة من صلته بأفكار الناس، متخذاً سبيله بين آمال الحرية الطليقة، مما سأذكره مفصلاً فيما بعد!
وشبت الحرب فرحت إلى (ليفربول) وكان أن أحكم على الشرك الذي ظننتني قد نجوت من أسره! إذ تزوجت وغدوت ربة بيت لم أكن أرجع عن بعض أعماله إلا وقد أنجزت كل أجزائه؛ وبقدر بغضي للخدمة أصبحت أكثر أمانة من أية سيدة يمكن كراؤها لذلك. وما كان في وسعي أن أقرأ أو أكتب في غرفة غير وثيرة إلي أبعد حد. . .! وقد كتبت النصف الباقي من قصتي في فترات الراحة التي كنت أخلو فيها من عناء الأعمال المنزلية كالطبخ والغسل وتنظيف الأثاث وغير ذلك. ولم أكن قد أنجزت هذا النصف الباقي حين وضعت طفلي في منتصف عام 1915 في (هويتبي). وبعد ذلك أهملت القصة على ركن من رف ظلت به خمسة شهور في برد من الغبار!
وفي ديسمبر عدت ثانية إلى (هويتبي) ومعي طفلي وقصتي التي أقحمتها حقيبة ثيابي في الدقيقة الأخيرة ساعة الرحيل. إذ خطر لي أنني سأكون في سعة من الوقت تهيئ لي فرصة الكتابة. وكانت الحرب حينذاك مستأثرة بأصدقائي. . . محيطة كل شيء بالمظان من كل جانب. غير أن ذهني كان صغيراً جداً وكذلك كانت سني، فلم أكن أتطلع إلى المستقبل بغير آمالي وحدها. . .
سرت عدوى (السعال) من شقيقتي إلى طفلي وهو في شهره السادس. غير أن إصابته لم تكن حادة عنيفة. على أنه كان يستيقظ مرات في الليل ليسعل. وذات ليلة كنت راكعة إلى جوار مهده أعني به وهو نائم، وأتلهى بإضافة شيء إلى قصتي. وكنت ساعتئذ أكثر ما أكون تشتت بال ورهافة سمع. فحدث أن تمثل لي شاب سميته من فوري (بوسكت)؛ بلغ من شدة تصوري وجوده أن حسبته حقيقة ماثلة لا خيالاً طارقاً؛ بل لقد خفت أن يكون من لصوص الليل، غير أني ما لبثت أن هدأت إلى هدوئه، فقد بدا لي - هو نفسه - خائفاً! بوجهه المستدير، وقسماته الغامضة المعقدة. كما تبينت للوهلة الأولى نواحي ضعفه، وغير ذلك من طباعه وعاداته! واتفق أن استيقظ الطفل ليسعل فجاءة؛ فأقبلت عليه وما زلت به أطيب خاطره حتى عاوده النوم، ثم رجعت إلى رجل خيالي (بوسكت) الذي لم يكن فارق ذهني بعد. . .! وظللت أستوحيه ما أكتب حتى صرخ الألم في ركبتي وأنا راكعة عليهما؛ وحتى تقلصت عضلات معصمي، وسرى البرد إلى جسدي فاقتادني راغمة إلى الفراش!
ولم أنجز الكتاب كله في ذلك الحين أيضاً. . . ولكني أضفت إليه بعض العبارات في أيامي الأخيرة في (هويتبي). وحدث ذات مساء أن أطفأت الأنوار الكهربائية إيذاناً بغارة جوية من مناطيد (زبلن). فالتمست في الظلام ورقة صغيرة جعلت أكتب عليها قطعة شعرية من القصة - إلى جانب أمي - على ضوء شمعة؛ وحين فرغت من نظمها كانت الأنوار قد عادت. فأخذت أقرأ الشعر لأمي، وأنا شديدة الأيمان بأنه شعر رائع، وهي تزعم كذلك أنني شاعرة مطبوعة!.
وفرغت من الكتاب عام 1916 في (كترنج) ولا أستطيع الآن أن أستدعي الكثير من الذكريات عن ذلك العهد. غير أني كنت ولم أزل قليلة الفراغ كثيرة المتاعب. وعلى أي حال فقد انتهيت من كتابة القصة، ثم وقعتها على آلة كتابية عتيقة بالية، فاستغرق ذلك حيناً. . .
وحين رحلت عن (ليفربول) في ربيع 1917، كان معي الكتاب مكتوباً بأحرف الآلة الكاتبة، بعد أن رفضه أحد الناشرين لعله (دكورث) وقد أرسلته من (ريدنج) إلى ناشر آخر. ومع أن الكتابة القصصية لم تكن تروق لي كثيراً، فقد لبثت أرتقب ماذا يقدر لكتابي الأول، الذي هو محاولتي القصصية الأولى!
وجه إلى المستر (فيشر آنون) الناشر المعروف - الدعوة للقائه، والحق أنني اضطربت لتلك الدعوة، وتهيبت ذلك اللقاء. وقبل أن تتم المقابلة آثرت أن أمر بالرجل الذي يقرأ للمستر (آنون) ما يراد نشره، وقد تلطف الرجل معي ورق حديثه، ولا أحسبه قد أشار علي بإحراق قصتي! ثم لقيت المستر (آنون) نفسه في غرفة مكتبه الأنيقة. وبعد حديث قصير اقترح علي أن اقدم إليه أعمالي القصصية (الستة) التالية! وما كان لي غير إقرار هذه الصفقة المقترحة من جانب واحد! غير أن فكرة كتابة قصة بعد أخرى - بدأت تفزعني. وحين هممت بالانصراف من حضرته شيعني إلى الباب، كأي جنتلمان مهذب رقيق الحاشية، وفي اللحظة الأخيرة قدم إلي نسخة من قصة (طريق النسر) مصحوبة بقوله (إني أعطيك هذا الكتاب لتقرئيه، ولترى كيف ينبغي أن تكتب القصة)
ومضى هذا الحادث عنيفاً. وتركت القصة في مكان لا أذكره، وافتقدتها فلم أعثر عليها إلا بعد حين، فأرسلتها إلى دار (كونستيبل) للنشر، وكنت في بعض ريف (هامشتر) حينذاك.
وتلقيت من (كونستبل) أنهم راضون عن القصة، راغبون في لقاء المؤلفة، بيد أني كنت قد زهدت في هذا اللقاء، بعد ما حدث في لقائي للناشر السابق الذي أراد أن يعطيني درساً في الفن على يدي بعض كتبه! ومن الجهة الأخرى - لم أكن أود إنفاق أجر السكة الحديدية في سفرات لا أريدها! وكذلك كتبت إلى (كونستبل) أستفهم عما إذا كانوا جادين في رغبتهم نشر قصتي؟
وأعتقد أنني سررت حين علمت أن كتابي سيطبع وينشر حقاً! والواقع أني لا أكاد أذكر شيئاً عن ذلك، ولكني أرجح أني تلقيت الأمر في قلة اكتراث. وإن ذاكرتي لتختزن القليل من مشهد جلوسي في غرفة بمنزل (ميخائيل سادلر) في لندن، وأني لأتصور الغرفة الآن وطولها ميل أو أكثر، كما أتصورني وأنا أعبر طولها ذاك حابية على كفي وركبتيّ!. وبعد أن تناولنا الطعام تناولت قلمي فأجريته فوق بعض عبارات من القصة زعم صاحبنا أنها غير ملائمة. ولقد ساعد على اقتناعي برأيه السيئ فيها زهدي في احتراف القصة. كما أنني تركته يستبعد كلمات من العنوان نفسه
وبعد أن تم التعاقد بيني وبين دار (كونستيبل) للنشر بأسابيع فجأتني حاجة عنيفة إلى المال، فكتبت إليهم أطلب نقوداً. في حين أنني لم أكن أعلم ماذا صنعوا بعد إتمام التعاقد؟
غير أنني كنت متأثرة بإحساس باطني جديد يخيل إلي أن تصرفي ذاك لم يكن أكثر من مشاكسة لا بأس بها! ثم إني قلت لنفسي إنهم قاموا بنشر كتابي. . . ولا بد أن يكون شيئاً ما؟. ولم يكن يتطرق إلى ذهني أن قبول نشر هذا الكتاب لم يكن أكثر من رغبة من الناشر في مساعدتي!. . .
وإن أي إنسان يتوهم أن الناشرين - عدا واحد أو اثنين - قوم غلاظ القلوب - لخليق أن ينكس رأسه خجلاً، فقد تلقيت بعد خطابي عشرة جنيهات، ومعنى ذلك أن دار (كونستيبل) للنشر قد زادت خسارتها مقدار هذه الجنيهات العشرة!!
وظهرت القصة في أوائل عام 1919، وعبثاً أحاول تذكر شعوري في ذلك الحين، وأنا شابة صغيرة السن خاملة الذكر. وكل ما أذكره أنني لم أصادف في الأيام الأولى بعد ظهورها أحداً من الأصدقاء أستطيع التحدث إليه في شأنها. ولعل هذا لم يكن يعنيني كثيراً. . .
ولم يسرني كثيراً - في جهالتي - أن الصحافة قد احتفت بقصتي الأولى. وهي على أي حال لم تظفر بإطراء مسرف. ولكنها لقيت اهتماماً ملحوظاً. ولقد احتفظت حيناً طويلاً بما كتب بين المدح والقدح؛ احتفظت بهذه الكتابات أربع سنين أو خمساً، في حين أنني كنت أحرق كل شيء من الخطابات والصحف وسواها، وكذلك أصنع الآن، غير أنه يندر أن أحفل بما تكتبه الصحف عني وعن كتبي. ولن أترك بعد موتي قدراً كبيراً من الأوراق، فإني أمزق خطاباتي بعد تحرير جوابها إلى أصحابها، كما أمزق المذكرات التي أصنعها لموضوعات كتبي، وكذلك اصنع بمفكراتي الخاصة. كما أني أميط كل أثر لي عن وجه هذه الأرض التي سوف أرحل عنها جِدًّ آسفة. . .!!
ومن المحقق أنه يكون من بواعث ارتياحي أن أحرق كل نسخة أعثر بها من قصتي الأولى هذه، وقد نسيت أن أذكر أن اسمها كان (الوعاء يغلي). . . ومن دواعي اغتباطي أنني موقنة من أنها لم تكن عملاً أدبياً يستحق أن يباع للقراء! ومن حسن الحظ أن حقوق الطبع بيدي، فلن يتاح لهذه القصة أن يعاد طبعها أبداً. . . إلا إذا عقدت مسابقة في أردأ القصص! والحق أنها كانت رديئة إلى حد لا يصدقه إنسان. ولكنها قد لا تكون أردأ ما كتبت أنا! وإن رداءتها المنقطعة النظير لتثبت أني لم أكن أبداً قصصية موهوبة. ولكن فيها
درساً لا ينساه كاتب مبتدئ لم ينشأ في أسرة يتكنفها جو أدبي. فلم يكن بجواري حين كنت أكتب قصتي الأولى إنسان واحد يحبوني بنصح أو تحذير. كذلك لم يكن لي من ذوق طبيعي في الأدب، غير أنه كان بي جوع شديد إلى المعرفة، شجع في أشنع أغلاطي كمؤلفة!. .
كان رأسي بمثابة (الخلية) تضم (عسل) الرجال الآخرين وكانت العلة في ذلك هي تلك البرامج الجامعية التي تنتهي بمثلي إلى نيل درجة علمية في اللغة وآدابها. فلقد لبثت ثلاث سنوات أقرأ وأقرأ وأقرأ. . . من غير تمييز! ومن غير أن أجد جواً صالحاً لكي أنضح بما استوعبت في قراءاتي المتعاقبة. وخلفت الجامعة بذهن تعصف به الأصداء! من غير أن تتهذب ملكة النقد الطبيعية في ذهني. والحقيقة أن كاتباً موهوباً لم يكن ليستطيع أن ينتج بمثل ما قدر لي من سهولة الإنتاج! فان لي لمقدرة على التفكير المنظم والصبر؛ ولكنها مقدرة قصيرة النظر! تذكرني دائماً بحصان ركبته مرة واحدة في حياتي، إحدى عينيه تالفة، ويتوهم أنه يستطيع اجتياز أي حاجز!!
وبالرغم من نسياني كل شيء عن قصتي الأولى يخيل إلي أنه كانت تبدو فيها مهارة فنية خشنة غير صقيلة؛ كانت لي في تلك الأيام ولم يتناولها أحد من الناشرين أو الصحافيين بحسبان أنها كتاب (شاب) ناشئ، مما يجعلني أعتقد أنها كانت عملا ضئيلا جدا، لا يمكن أن يجد مثله اليوم سبيلاً إلى النشر. ولو أن ناشراً أخرجه للناس لما لقي شيئاً من عناية النقد ولا التفات الصحافة
على أن الكاتب المبتدئ الآن قد اصبح عليه أن يقتحم ميداناً شديد الزحام؛ يكون حسن الحظ لو لم يختنق فيه بعد بضع دقائق!. فإذا وفق إلى استرعاء الأنظار كان خليقاً أن يأمل في نقد ينتفع ببعضه. وهذا الزحام الشديد لا يمكن أن ينكره كاتب ناشئ قليل الأنصار. وإن خير آماله ليجب أن يعقد بعقد صداقات نافعة في الجو الأدبي بأسرع ما يستطيع. فمثل هذه الصداقات خليق أن ينقذه من إضاعة وقته سدى مشتغلا بكتابة قصة لا يبلغ من أمرها أكثر من أن يسمع لأجلها بضع كلمات تافهة تلقى بعدها وهي ترسب آخر الأمر. ومتى علم ذلك الكاتب الناشئ كان جديراً ألا يرفض المشورة بعقد مثل هذه الصداقات محتجاً أن فيها تجنياً على روحه الفني ووقته. وعليه أن يذكر دائماً أنه ينبغي له اختيار أضأل الضررين. . .!
ولقد أصبح رزق مثله في ذلك الميدان وكثير غيره، أعسر مما أتيح لي منذ عشرين سنة. فان كسب المال غداً أقل يسراً مما كان عليه في ذلك الحين. ومع هذا فماذا ربحت؟ عشرة جنيهات في مقابل عمل ثلاث سنين!
بل إن هذا المبلغ لم أكسبه بالطريق العادي في الواقع. . .
وإن لآسفة حتى الآن على أني لم أحترف التدريس!
ستورم جيمس
شجرة الذكرى
للأستاذ محمود الخفيف
وَيْحَ مَن شَجَّت يداه الشجَرَه
…
وطوت أغْصَانَها المزدَهِرَه
ويح من أهْوَى بفَأسٍ لا تني
…
تَركتْ أشلَاَءها منتثِرَه
قَطَعَتْهَا سَرْحةً طَيَّبَةً
…
تَبْسُطُ الظلَّ وتؤتي الثَّمَرَه
جِئتُ والصَّيفُ على أهبته
…
ويَدُ الدُّنيا تُعَفّى أثَرَه
والخريفُ السَّمْحُ في أعقابه
…
يَتَقَصَّى في هُدُوءٍ خَبَرَه
يَسْأَلُ القَرْيَةَ عما أدَّخَرَت
…
لليالي المُرَّةِ المُعْتَكِرَه
لا يَرَى غَيْرَ فُتورٍ سَابِغٍ
…
في نواحِيها وصَمْتٍ حَيَّرَه
أتُراها لَمَحَتْ فيِ بُرْدِهِ
…
شَبَحّا لِلْكُدْرَةِ الُمنتظَرَه؟
أم تُرَى أذْهَلَهَا ما مَسَّها
…
من لظًى كانَتْ بها مُسْتعِرَه؟
جِئتُ كالحاجِّ وفي مُهْجَتِهِ
…
فَرْحَةُ الناسِكِ يقضِى وَطرَه
طفْتُ بالقرية من أركانها
…
كل حُسْنٍ أَتَمَلّى صُوَرَه
أتَقَرَّى أينما سِرْتُ يَدَ الدَّهْ
…
رِ وأحصى من قَرِيبٍ غِيَرَه
كُلّمَا أبْصَرَ طَرْفِى لِلْبلَى
…
أثَرًا دبَّ إِلَيْهَا كَدَّرَه
وإذا أبْصَرَ فِيهَا طَارِفاً
…
زادهُ العَيْشُ عليها أنْكَرَه!
كًلّ مَا غَيَّرَ من صُورَتِهاَ
…
كَمْ تَمَنَّى عِنْدَهُ لو لم يَرَه!
مِلْتُ لِلْبسُتْانِ في أطرافها
…
مَلْعَبٌ ما كان أحلى مَنْظَرَه
فَتَوَقَّفْتُ لَدى مَدْخَلِهِ
…
وتَلَفَّتُّ أُرِيدُ الشَّجَرَه
لم أجِدْ غيْرَ فَضَاءٍ بَلْقَعٍ
…
وَبَقَايَا أَغْصُنٍ مُنْتَشِرَه
شَدَّ ما أوْجَعَ نَفْسِي أن أرى
…
ذلك المنظَرَ أو أن أذْكُرَه
مَنْظَرٌ ما يَبْعَثُهُ
…
من أسًى كُلُّ فؤادٍ خَبَرَه
طاف بالبستان مِنهُ وَحْشَةٌ
…
فتَرَى الدَّوْحَ عَلَيها غَبَرَه
وترى الأطْيَارَ في أنحائه
…
سَاهِماَتٍ ساَءها ما غَيَّرَه!
سَرْحَةٌ كُنَّا نرى أيَّامَنَا
…
من جديدٍ عندها مُخْضَوْضِرَه
ولقد كنتُ إذا ما جِئْتُهَا
…
عَادَ مِن عُمْرِيَ سِنُّ العَشرَه
رُحْتُ ألْقَانِي لديها ناَشِئاً
…
لا يرى في العيشِ إلا زَهَرَه
يَعْشِقُ الرَّيفَ ويهوِى شَمْسَه
…
وينُاَجِي في الَّليَالِي قَمَرَه
إبن عشر تضحك الدنيا له
…
ليته لم يتجاوَز صِغَرَه
هذه الدوحة كانت مُلتَقًى
…
ومِقيلاً للصحاب البَرَرَه
كم جَعَلْنَا عندما موعِدَنا
…
وزمَانُ اللهو يُزْجى زُمَرَه
فَنَهَلْنا الوُدَّ عَذْبًا صافيًا
…
لم يَشُبْهُ عَنَتٌ أو أثَرَه
زَمَنٌ قد أَدْبَرَت أَنْعُمُهُ
…
هذه السَّرْحَةُ كانت مَظْهَرَه
لمسَتْ كَفِّى جناني عندها
…
وتَبَدَّت مُقْلَتي مُسْتَعْبِرَه
وَلَحَانِي صَاحِبِي مُسْتَنْكرِاً
…
وفؤادي مُنْكِرٌ أن يَزْجُرَه!
كُلُّ مَوْتٍ يترَاءى لبني المو
…
ت ترى الأعْيُنُ فِيهِ نُذُرَه
تَلْمَحُ الأنْفُسُ في غُمَّتِهِ
…
يَدَهُ العَابثَةَ الُمقْتَدِرَه
والذي تَأْلَفُهُ نَفْسُ
…
يَحْسَبُ النَّاقِصَ فِيهِ عُمُرَه
محمود الخفيف
من وحي العيد
آخر الأناشيد
للأستاذ أحمد فتحي
طابَ لِي الزُّهْدُ فاْبخَلِي أو فَجُودِي
…
لا أُبالِي بالوَصْلِ أو بالصُّدودِ
قد تَبَرَّأْتُ مِن حَمَاقَةِ عُمْرٍ. . .
…
ضاعَ بينَ السَّقاَمِ والتَّسْهيدِ
وأَسَتْ جُرْحِيَ الليالِي وأَضحَيْ
…
تُ - كما تُبْصِرِينَ - جِدَّ سَعِيِدِ
ضَاحِكاً للحياةِ، أَهْزَأَ بالأحْ
…
زانِ، في عَزْمَةٍ، وبَأْسٍ شَدِيدِ
نَاعِمَ البالِ، راضيِِاً بِخَلَاصِي
…
مِنْ فُتُونِ الهوَى وأسْرِ القُيُودِ
أتَغَنَّي كالطَّيْرِ، أَمْلأُ دُنْياَ
…
يَ. بألحانِ صَادحٍ غِرِّيدِ!
ليسَ بالطَّارِقِي خَيَالُكِ إنْ أَغْ
…
فَيْتَ يُقْصِى عن ناظِرَيَّ هُجُودِي
لا، ولا عائِدِي من الشَّوْقِ طيفٌ
…
يُلْهِبُ الحُبَّ في فؤادي العَمِيِدِ!
قد مَضَى الحبُّ؛ وانْطَلَقْتُ مِن الأسْ
…
رِ لِظِلِّ الطَّلاقَةِ المَمْدُودِ!
دُونَيِ الرَّاحَةُ التي كنتُ أرْجُو
…
نِعْمَ مِن رَاحَةٍ؛ وَعَيْشٍ رَغِيدِ
يا فَتاَتيِ: لَقَدْ صَحَا بَعْدَ ما أَسْ
…
قَيْتِهِ مِنْ سُلَافَةِ العنُقْوُدِ
ذَلكَ القَلْبُ؛ لم يَعُدْ لَكِ سُلْطاَ
…
نٌ عليهِ، فَلْتَبْخَليِ، أو فَجُودِي!
أَنْصِتِي، لو وَعَيْتِ رَجْعَ نَشِيدِي
…
أنا شَادِيكِ في غَدَاةِ العيدِ
لا تُشَيِحِي عَنِّي بِوَجْهِكِ حَتَّى
…
تَأْخُذِي من فَمِي حَدِيثَ الخلُودِ
الأَمَانِي. . . أَحَبُّها في بَياَنِي
…
والتَّحايا أَرَقُّها تَغْرِيدِي!
وأنا الكافِلُ الخُلودَ لِحُسْنٍ
…
عَبْقَرِيّ مِن مُقْلَتَيْنِ وَجِيدِ
رُبَّما رَجَّعَ الزَّمَانُ قَوَافِيَّ م
…
وأَصْغَتْ آذَانُهُ لِنَشيِدِي!
أنا شادِيِكِ في غَدَاةِ العِيدِ
…
فاْسَمعِي حِكْمَةَ الْجَوَى واسْتَعِيدِي
أَنْتِ أَطْفَأْتِ جذْوَةَ الحُبِّ إذْ أَحْ
…
بَبْتِ تذْكِينَ نَارَها بالصُّدُودِ
لا يَرُوعَنَّكِ التَّجَنُّبُ مِنِّى. . .
…
والْقِلَى بعد فَرْط شَوْقٍ أَكيدِ
غَاَيةُ الشَّوْقِ سُلْوَةٌ واصطبارٌ
…
وكذا النارُ أَمْرُهَا للخُمودِ
وكأيَّامِنا. . . تَحُولُ وَشيكاً. . .
…
بِيضُ هاِتِيكِ بَعدَ تلكِ السُّودِ
حِكْمَةُ الله لا دَوَامَ لِحالِ. . .
…
من نُحوسٍ في الحظِّ، أو مِن سُعُودِ
ولكِ الصَّبْرُ يا فتاتِي، ولي مِنْ
…
هُ كفاءُ المُؤَمِّلِ المُسْتَزيِدِ
جَانِبي الوَجْدَ، واْمرَحِي من جَدِيِدِ
…
وإلي البِشْرِ والتَّفاَؤُّلِ عُودِي
وابْسِمِي يَبْتَسِمْ لَكِ الزَّمَنُ الجَهْ
…
مُ، ويَغْشَى الحُبورُ وَجْهَ الوُجودِ
واغْنَمِي صَفْوَهُ وقد جَاَء يَسعْىَ
…
عِيدُ آمالِكِ الحِسانِ، وَعِيدِي
وانْشُدِي في الأَنامِ (قيساً) جديداً
…
علَّ أنُ تَبْعَثيِ الهوَى مِن جَديدِ
ما تزالِينَ مِن شبابِك في غَضِّ م
…
رَبيعٍ، يَحْكِيهِ عُمْرُ الوروُدِ
لا تُضِيعيِهِ في اْبِتئاَسٍ وَوَجْدٍ
…
آفَةُ الحُسْنِ لَوْعَةُ التِّنكيدِ
أو تْبالِي هوايَ حينَ تَقَضَّي
…
فهواكِ الخليقُ بالتَّجديدِ!
يا ليالي غَرَامِها: لا تَعُودِي!
…
قَدْ حَنَى الدَّهْرُ بالتَّجاريبِ عُودِي
لا رَعَى اللهُ من زَمَانٍ تَقَضَّي
…
في كِذابِ المُنَى وخُلْفِ الوُعودِ
قد أَقَرَّ السُّلُوُّ عَيْنَيَّ وارْتاَ
…
حَ فُؤَادُ المُعذَّب المعْمُودِ
فِيِمَ أذْوِي الشبابَ بالدَّمْع والسُّهْ
…
دِ وَأَرْضَى في الحُبَّ طوالَ الجُحودِ؟
إنّما الحُسْنُ فِتْنَةٌ تَتَبَدَّى
…
تَجْلِسُ اللُّبَّ من حَكيمٍ رَشيدِ
وضَلالُ الهوَى اضطرابٌ من الفِطْ
…
نَةِ بينَ التِّرْغِيب والتزهِيدِ
وسُمُوُّ الأَرْوَاحِ فَضْلٌ من الِله م
…
وَوَحْيٌ من العزيزِ الحميدِ!
حَبَّذا العُمرُ في زَهَادَةِ نَفْسٍ
…
عَزَفَتْ بي عن كُلِّ حسناَء رُودِ!
أحمد فتحي
مصرع قصيدة.
. .!
للأستاذ سيد قطب
أحسست مصرعها بنفسي
…
بين التأوه والتأسي
وسمعت حشرجة الجريح
…
تئن في أطواء حسي
هي من بنات الشعر لم
…
تولد، ولم توأَد لوكس!
جاشت لفاتنة على الشطآ
…
ن ذات رضا وأنس
نضجت محاسنها كما
…
نضجت قطوفُ جَنًي بغرس
وحسبتها صينت على الْ
…
أَنظار من قطف ومس
فهممت أدعوها دعا
…
ء الفن في خطرات همس
شعراً يسجل حسنها
…
للكون في أحناء طرس
وإذا الأيادي القاطفا
…
ت تجول في عبث وبخس!
يا ويل قطاف الجما
…
ل بغير ما ورع ونطس
بيننا نحوم عليه في
…
تقوى كما نرنو لقدس!
وإذا التي جاشت بنفسي
…
تثوى مضرجة بحسى!
(حلوان)
سيد قطب
البريد الأدبي
المركزية في التأليف
في الجامعة وفي وزارة المعارف (شركات) للتأليف، تفرض مؤلفاتها فرضاً على الوزارة وعلى المدارس وعلى التلاميذ. وهذه الشركات قد بلغت من السلطان والثقة بالنفس والحرص على الغلبة بحيث صارت مناهج التعليم مناهج التعليم موكولة إليها تغير فيها وتبدل، وتمحو وتثبت، وتنقض وتبرم، وبحيث قد أغراها ما أغرى على أن تتعارك وتتصارع وتتوسل بوسائلها لتضمن كل (شركة) لنفسها الغلبة على ما دونها من شركات التأليف والاحتكار؟
وأولى هذه الشركات هي شركة الجامعة؛ وثمة شركتان أخريان في مكتب تفتيش اللغة العربية في وزارة المعارف. وقد بلغ من تنافس هذه الشركات في التأليف ما نسجل مظاهره فيما يأتي:
1 -
وضعت لجنة تيسير قواعد اللغة العربية - وأعضاؤها من شركة الجامعة للنشر والتأليف، منهجاً جديداً للبلاغة في السنة التوجيهية، يقوم على أسس وأصول لا نعرفها من قواعد البلاغة. وإذا كان هذا المنهج جديداً في موضوعه على التلاميذ وعلى المعلمين جميعاً، كان لا بد من كتاب ولا بد من مؤلِّف. . . ونشطت (شركة الجامعة) لمهمتها؛ ولكن نبأ جاءها أن إحدى الشركتين في مكتب التفتيش تعمل ناشطة لإخراج الكتاب المرجو في وقت قريب لا تستطيع لجنة الجامعة أن تسبق إليه؛ ولكن حرص الجامعة على أن يكون كتابها أسبق ظهوراً، قد ألهم أساتذة الجامعة خطة، فأصدروا قرارهم بوقف العمل بهذا المنهج حتى تفرغ الجامعة من إصدار كتابها. ومضى شهران من السنة الدراسية قبل أن يعلم التلاميذ والمعلمون في السنة التوجيهية أن المنهج الذي أعدوا له ودرسوا منه قدراً ما قد وقف العمل به. . .
2 -
وللسنة التوجيهية منهج في الأدب وضعته كلية الآداب، وألف له فيمن ألف اثنان من خيرة المعلمين في وزارة المعارف. وراج كتابهما منذ العام الماضي رواجاً أغرى إحدى الشركتين في مكتب التفتيش على مشاركتهما في ثمراته؛ فصدرت منه الطبعة الثانية منذ قريب وعلى غلافها اسم صاحب العزة المفتش الأول إلى أسماء كثيرة منها المؤلف ومنها
صاحب التوقيع. . .
وكانت شركة الجامعة تعمل عملها لإصدار كتاب في الأدب التوجيهي حين جاءها النبأ بصدد كتاب المفتش الأول وزملائه، فسعى ساعيها إلى وزارة المعارف يستعديها على (شركة مكتب التفتيش). وفي اليوم التالي كان كتاب سري من وزارة المعارف على مكاتب نظار المدارس جميعاً يمنعهم استعمال كتاب المفتش الأول ويتوعدهم بأقصى العقاب!
واحتج التلاميذ، واحتج المعلمون؛ وحق لهم أن يحتجوا ما داموا لا يجدون أمامهم كتاباً في منهج الأدب التوجيهي غير الكتاب الذي يحمل اسم المفتش الأول. ولكن شركة الجامعة التي تحرص على الغلبة في هذا التنافس العجيب قد التمست لذلك وسيلة قريبة، فأشارت بأن يوزع كل ما طبع من كتابها على التلاميذ قبل تمامه ملزمة ملزمة، وحسب المطبعة أن تسبق التلاميذ بدرس واحد ما دام هذا يحقق الغاية ويفوت على شركة مكتب التفتيش حق الانتفاع بالكتاب الذي ظنت بإصداره أنها ستستأثر بالسوق. .
هذان مثلان حسبنا أن نذكرهما باختصار وبلا تعليق؛ ولا نظن الفضوليين بعد ذلك يلحون في السؤال: لماذا تتغير مناهج التعليم بين عام وعام قبل أن تظهر ثمرة التجربة في منهج من هذه المناهج؟ فعل لهم في هذين المثالين جواباً لما يسألون!
(م. أ)
اللغة العربية في مدارس إيطاليا
أبدت الحكومة الإيطالية أخيراً رغبتها في إدخال اللغة العربية بين برامج التدريس في معاهدها بإيطاليا، فاتصلت ببعض الجهات الرسمية في مصر وطلبت إليها إمدادها بالمدرسين الفنيين وموافاتها بالمنهج الذي تقترحه. وقد أيدت هذه الجهات رغبتها في إجابة هذا الطلب، غير أنها ترى إرجاء ذلك إلى العام المقبل، نظرا إلى ابتداء العام الدراسي الحالي في مصر
ويؤخذ من البيانات الخاصة بهذا الموضوع أن الحكومة الإيطالية شرعت في تدريس اللغة العربية في مدارسها تحت إشراف بعض المستشرقين الإيطاليين. وقد طلبت إلى الحكومة المصرية، في الوقت نفسه، تقوية التعاون الثقافي بين البلدين واقترحت لذلك أن توفد أستاذا
ليقوم بتدريس اللغة الإيطالية في كلية الآداب المصرية على أن يتقاضى مرتبه من حكومة بلاده، غير أن جامعة فؤاد الأول أبدت للحكومة الإيطالية شكرها على ذلك، معتذرة من عدم إمكانها إجابة هذه الرغبة، في الوقت الحاضر، لأن اللغة الإيطالية غير مقررة في مناهج الدراسة بكلية الآداب، ولأن أمر تقرير دراستها يرجع إلى مجلس الكلية والجامعة. ثم ذكرت أنها ستعرض الموضوع على هذين المجلسين لاتخاذ قرار فيه.
الثقافة في خدمة السياسة
نشرت الصحف خبراً قد يبدو بريئاً في مظهره، ولكنه يحمل بين سطوره نتائج سياسية خطيرة. ذاك هو الخبر الخاص بالجهود التي أخذت تبذلها إيطاليا في سبيل توثيق العلاقات الثقافية بين مصر وإيطاليا خصوصاً في ميدان التعليم. . . وبديهي أننا نتمنى مخلصين إيجاد تعاون فكري وثيق بين جميع بلاد العالم. فمثل هذا العمل إذا تم بين الأمم، سيساعد بلا شك على إزالة أسباب الخلاف وسوء التفاهم التي أحدثت وهناً ظاهرا في الروابط التي تربط بلاد العالم بعضها ببعض. ولكن فيما يختص بايطاليا، لا يسعنا إلا أن نحترس ونتحفظ. ومما يبرر موقف التحفظ الذي نقفه أن كل ما يحدث في إيطاليا من الأمور خاضع للسياسة، حتى العلم والأدب. والمعروف أن السياسة الإيطالية ترمي إلى غزو الشرق وإعادة الإمبراطورية الرومانية، بعد إخضاع الشعوب الشرقية واستعبادها. وما اقتراح إيطاليا إرسال مدرسين لتعليم اللغة الإيطالية في المدارس المصرية على حسابها الخاص، إلا مظهر من مظاهر هذه السياسة ووسيلة من شتى الوسائل التي تستخدمها الدعاية الإيطالية لتمهيد الطريق أمام السياسة الفاشية.
لقد ازدادت الأمور تحرجاً منذ قررت الحكومة الإيطالية تحويل لوبيا إلى ولاية إيطالية بحتة، وطرد أهلها العرب إلى قفار الصحراء، ليحل محلهم خمسة ملايين من الإيطاليين. وما هذه الاقتراحات الإيطالية الخاصة بالثقافة. إلا وسيلة لتخفيف وطأة الأثر السيئ الذي أحدثته في نفوسنا مطامع إيطاليا في الشرق
مبادلات ثقافية! فليكن. ولكننا لا نسمح بحال أن تكون تلك المبادلات الثقافية شركاً للمطامع السياسية
(ح. هـ)
دار العلوم وكلية اللغة العربية
نشرت الرسالة (العدد 281) في البريد الأدبي كلمة بهذا العنوان تضمنت استنكار الخصومة بين المعهدين من أجل مناصب التدريس في المدارس، والإشارة بأن تسوي الحكومة بين خريجي المعهدين في هذه الوظائف. والواقع أن دار العلوم في مستقرها الطبيعي، ومحاولة المنافسة آتية من جهة الأزهر، فليس من الحق أن يطالب الأزهريون بالتدريس في المدارس، في حين لم يطلب أبناء دار العلوم بوظائف التدريس في الأزهر. وليس من المساواة الحقيقية أن يعين الأزهريون في وظائف التدريس بالمدارس دون أن يعين أبناء العلوم في وظائف التدريس بالأزهر. هذا إلى أن الأزهر يولي بعض المدرسين من غير علمائه مهمة تدريس العلوم الحديثة بمعاهده ويهمل أبناء دار العلوم وهم أجدر بها
على أن دار العلوم في عهدها الجديد تتفرد من بين جميع معاهد التعليم بدراسة اللغات الأجنبية والسامية وآدابها، إلى جانب الدراسة المستفيضة للغة العربية وأدبها، وهذه الدراسة لها أثرها في خدمة العربية وإسباغ الجدة عليها وتجلية آدابها وتبرئتها من الجمود
وعلى أن دار العلوم أحد معهدي التربية الذين تنظمهما وزارة المعارف لإعداد المعلم الفني وتبذل الأموال والجهود لتوفير أساليب التربية الحديثة فيهما، وجعلهما البيئة الصالحة لإعداد المعلم الذي تتطلبه حاجة الأمة في نهضتها التربوية. فأن تجاوز الوزارة المعلم الذي تنشئه على عينها وتعده لمهمة خاصة إلى غيره ليس من حسن تصريف الأمور وإقرارها في قرارها. ووزارة المعارف اليوم جادة في وضع الأسس الثابتة للتعليم، وقد بدأت هذه الأسس بتنظيم دار العلوم ومعهد التربية. إذ عليهما يقوم كل بناء في التعليم
(ع. ح. خ)
البحوث العلمية في البحر الأبيض المتوسط
عقدت اللجنة الدولية للبحوث العلمية في البحر الأبيض المتوسط اجتماعها السنوي في باريس ثم أنجزت أعمالها في اجتماع ثان عقدته في موناكو برياسة الدكتور جول ريشار مدير متحف الأبحاث المائية في موناكو
وبعد أن تناول الأعضاء بعض المسائل الإدارية انتقلوا إلى البحث العلمي فعالجوا مسألة
بعض أنواع السمك وتوحيد المناهج لتحليل مياه البحر الأبيض المتوسط والقواعد العلمية لصناعة المأكولات المحفوظة في ذلك البحر
وقدم رئيس كل وفد بياناً عن الأعمال التي تمت في بلاده فتكلم الدكتور حسين فوزي مندوب مصر فقال إن المصلحة التي يديرها والتي تبحث في هذا العلم في مصر قد أطلق عليها بأمر جلالة الملك فاروق الأول اسم (معهد فؤاد الأول للأحياء المائية وصيد الأسماك) تخليداً لذكرى الراحل العظيم مؤسسها. وقد بسط الدكتور فوزي ما كان من تشجيع جلالة خليفته لهذا المعهد
واقترح الدكتور فوزي وضع الباخرة (مباحث) تحت تصرف البعثة التي ستوفدها اللجنة للقيام ببعض الأبحاث في شرف حوض البحر الأبيض المتوسط وذلك بجميع ضباطها وبحارتها مع اثنين من الاختصاصيين المصريين، وقد تقرر أن تتولى مصر مفاوضة الدول الأخرى التي تريد الاشتراك في هذه البعثة وذلك قبل الانعقاد القادم للجمعية العمومية للجنة في مدينة البندقية
مسابقة التأليف
كانت وزارة المعارف قد أعلنت عن مسابقات في مختلف العلوم والفنون والآداب، ابتغاء حث رجال التعليم على البحث والدرس والتأليف
وقد بدأت الوزارة تتلقى رسالات في هذا المضمار
وستبدأ الوزارة في الشهر القادم في تأليف لجان التحكيم لفحص هذه الرسائل توطئة لإعلان النتيجة
جيروم تارو في الأكاديمية الفرنسية
انتخب المسيو جيروم تارو عضواً في الأكاديمية الفرنسية في الدور الأول بأكثرية 19 صوتاً ضد 11 صوتاً نالها المسيو فرنان جريج. وكانت إحدى أوراق الاقتراع بيضاء
وقد ولد جيروم تارو في 11 مايو 1874 في سان جونيان بمقاطعة (فسييين العليا). وقد كان مديراً لجامعة بودابست ثم انقطع إلى الكتابة والتأليف بالاشتراك مع شقيقه جان تارو. ونال الشقيقان جائزة جونكور سنة 1906 لكتابهما (دنجلاي كاتب شهير). وقاما برحلات
كثيرة خصصا لها كثيراً من مؤلفاتهما ومنها: (في بريطانيا)، (في فلسطين)، (مراكش أو سادة الأطلس)، رباط أو الساعات المراكشية). وقد نال جيروم وجان تارو سنة 1919 الجائزة الكبرى للآداب
الكتب
عبقرية الشريف الرضي
تأليف الدكتور زكي مبارك
بقلم الأديب حسن حبشي
الدكتور مبارك من أكثر أدبائنا إنتاجا. لا يكاد يضع القلم من كتاب حتى يتهيأ لتأليف آخر. وهذه ناحية من النشاط محمودة. وإنه ليخيل لقارئ كتب الدكتور زكي أنه يضن بما يضطرم في نفسه من خواطر، وما يجول في ذهنه من أفكار وآراء ألاّ يسجلها في مؤلفات يطالعها الناس، ومن هنا كانت كثرة ما كتب، وقد اعترف هو نفسه بذلك في مؤلفه هذا (ج2 ص197) في الفصل الذي عقده عن حجازيات الشريف
وكتاب (عبقرية الشريف الرضي) والتصوف الإسلامي آخر مطبوعات الدكتور وليسا آخر مؤلفاته، وأحسب أن لن يكون ثم كتاب أخير له حتى لا يكون في الوجود زكي مبارك
والمترجم له من فطاحل شعراء العربية، وهو مغمور إن قيس بأنداده الذين ذهبوا بالذكر والشهرة، أما الرضيَّ فلم يظفر إلا ببضعه أسطر أو صفحات مبعثرة في ثنايا الكتب الأدبية، وببعض مقالات نشرت هنا وهناك، وذلك على الرغم من الدور العظيم الذي مثله على مسرح السياسة والأدب في عصره
تناول الدكتور زكي في هذا السفر صاحبه الرضي من نواح عدة، إلا في السياسة فقد مرَّ عليها سريعاً، كما ألم ببعض مواقف الشريف وحوادثه، غير أنه كان يعرض أحياناً للرواية دون بحث أو نقد، وقد يكون ظاهرا فيها الوضع. أوَ ما ترى ذلك فيما نقله عن صاحب التبيان (ج1 ص278) من أن المرتضى نظم ذات يوم أبياتا فوقف به بحر الشعر، فأشار على من يحملها إلى الرضي ليتمها فأتمها بقوله:
فردَّتْ جوابا والدموع بوادِرٌ
…
وقد آن للشْمل المشتِّ ورودُ
فهيهات من ذكرى حبيب تعرَّضت
…
لنا دون لقْياهُ مَهامِهُ بيدُ
قال أبو الحسن النحوي: (فأتيت بها المرتضي، فلما قرأها ضرب بعمامته الأرض وبكى وقال: يعزَّ عليَّ أخي يقتله الفهم بعد أسبوع) فما جاء الأسبوع إلا وجاء نعي الرضي. هذا
ما نقله صاحب التبيان، وجاء به صاحب العبقرية، فانظر ماذا كان تعليقه ونقده عليها. قال:(. . . وهذه نادرة يستبعدها الناس، ولكنها طريفة، إذ تجعل موت الشريف بالشعر شبيها بحال من يخنقه أرج الأزهار فيموت) أما كاتب هذا المقال فلا يرى فيما نقله الدكتور عن صاحب التبيان إلا قصة ظاهراً فيها الوضع، وأية دلالة على موت الشريف قد اضطم عليها البيتان السابقان؟ ثم أين نقد الدكتور لهذا الوضع الظاهر؟ أشهد لقد غلب خيال الشاعر على موقف الناقد في تعقيب المؤلف. فان في تعليق الأستاذ مبارك بهذه العبارة السابقة روحا من الشعر، وعبيقا من الفن الأدبي
ألمَّ الدكتور زكي بنواح عدة من الشريف الشاعر، وأحسب أن مقاله عن الجندي المجهول الذي أستهل به كتابه، إنما هو من المقالات التي تظهر فيها شخصية الرجل الذي يقدر كل التقدير منزلة الشريف، فهي رثاء للعبقرية الموءودة في كل زمان، ونفحة من نفحات الإجلال للنبوغ المقتول، وللذكاء المحكوم عليه بالإهمال في الشرق.
أفراد المؤلف فصلا عن (أسرار العلائق بين الرضي والصابي) مع ما بين الاثنين من اختلاف في العقيدة، وقد صور المؤلف في مستهله قوة الصلة التي كانت تجمع بين أبي اسحق الصابي وأبي أحمد الموسوي والد الشريف، ويعرض لأثر الكتاب في هذا العصر (ص49 ج2)، وإلى الألفة والتوافق في المذاهب الأدبية، وهذا من الفصول القوية التحرير، القوية العرض، الدقيقة البحث في هذا الكتاب، وحجة الدكتور في هذه الصداقة التي تجمع بين الاثنين أن الصابي كان يحبب للشريف أن يطلب الخلافة الإسلامية لنفسه، وكان الشريف شاباً والشبان (يحبون أن يصلوا إلى قمم المجد في يوم وليلة، ويبحثون عمن يزكيهم ويؤيدهم ويدعى لهم التفوق، وقد تلفت الشريف وهو طفل فرأى شيخاً جليلاً يتنبأ له بمستقبل جليل فأحبه كل الحب) وفي هذا الفصل بالذات إيماءات خفيفة للنوازع والحوافز السياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر. ولكم كنت أحب أن يعقد المؤلف فصلا أو فصلين يتناول فيهما الشريف الشيعي، وما هما بالكثير على شاعر اختلف المؤرخون - العرب والأوربيون على السواء - في مسألة تشيعه، ثم هي تتصل اتصالا وثيقاً بالحركة السياسية في عصره، وتصور ميل الشريف للفاطميين في مصر بقولة:
أحمل الضيم في بلادي الأعادي
…
وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي، ومولاه مولا
…
ي إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيدا النا
…
س جميعاً محمدٌ وعليُّ
لقد جاءت هذه الأبيات عفواً في كتاب (عبقرية الشريف) وكان الأمثل أن يتناول المؤلف مسألة تشيع الرضي، وقد عدها الكثيرون) ومنهم ابن الأثير في الكامل (ص8 ج8)، والمقريزي في اتعاظ الحنفا (ص15) اعترافاً صريحاً من الشريف الرضي بصحة نسب الفاطميين إلى علي بن أبي طالب.
وفي كتاب الشريف مقدمة، وللمقدمات عندي أهمية قصوى فهي عرض موجز للكتاب، ولربما كانت المقدمات في بعض الكتب كتباً بذاتها لها قيمتها الأدبية والفنية والنقدية، كهذه التي يكتبها برناردشو وألدوس هكسلي وغيرهما. أما مقدمة كتاب اليوم فهي إشادة بالكتاب والكاتب، وإن كانا في غير حاجة إلى ذلك، إذ أن المؤلف عد الرضي أعظم شاعر عرفته العربية لأنه كتب عنه، ولا يدانيه في مرتبته المتنبي الذي يرى الدكتور زكي أنه سيكون أعظم شاعر - هو الآخر - يوم أن يكتب هو عنه
وإني لأسأل الدكتور ماذا يكون موقفه إن هو أبصر هذه المقدمة في كتاب لشاب؟ أكبر الظن أنه كان يتناوله بسيف المحارب ومبضع الجراح
هذه أوجه النقد في كتاب (الشريف الرضي) الذي ألفه الدكتور وطلع به على أهل العراق في محاضرات سمعوها ثم قرأها من بعدهم الناطقون بالضاد في كل صقع وناد
وأسلوب صديقنا الدكتور أسلوب عربي قوي، لا عوج فيه ولا التواء، ينساب في كثير من المواضع كالجدول الصافي، كما أن مطالع جزئيه هذين يندر ألا يقع على تعابير ذاتية مبتكرة، فليقرأ الأدباء كتابه أنه سفر بحث ونقد وأدب
حسن حبشي
المسرح والسينما
الفرقة القومية
(مجنون ليلى) المدير ولجنة القراءة
لا مرية في أن لعزة النفس، وحب المجد، والأطماع الذاتية أثرا جميلا
في حياة الرجل؛ ولا ريب في أن نصف العبقرية، هو الصبر يكال
هامة الرجل العامل الدءوب بإكليل الظفر. فنحن إن كنا لا نغالط ولا
نتهاون في تسمية أعمال مدير الفرقة بأسماء لا تقبل أكثر من معنى
واحد، فلأننا نرمى إلى دغدغة عزة نفسه وتشبثه بالمجد الذي يطمع أن
يختتم فيه سفر حياته في الفرقة القومية، وإلى مداعبة صبره الدال على
نصف عبقرية - كما يقولون - لم نر بعضها في أعماله بهذه المؤسسة
الأدبية، نفعل ذلك لنستثير كوامن النخوة فيه فتدفعه - برغم شيخوخته
- إلى العمل الكامل الذي يرضي النفس الأدبية ويغذي الروح الأدبي
العام. ولهذا نعد اختيار رواية (مجنون ليلى) وتمثيلها على مسرح
الأوبرا مأثرة طيبة نذكرها لحضرة المدير بالخير الكثير، على رغم
أن له في هذه الرواية رأياً خاصاً كان ينفثه في المجتمعات الأدبية
والأرستقراطية، فيقول فيها إنها مجموعة أناشيد تختلف بالأوزان
والقوافي، وإن الحوار فيها هزيل سقيم، وإن الباعث على تأليفها نزوة
قامت في رأس شوقي بك في أيامه الأخيرة لتأليف الروايات الشعرية
البعيدة عن بساطة الطبيعة أو شيء من هذا المعنى. فإغضاء المدير
عن رأيه وتنازله عن النقد الفني لروح الروايات ومبناها، وسعيه إلى
إبرازها على المسرح بعد إدخال بعض محسنات زخرفية عليها
بالإنشاد، وإظهار جهود الفرقة بالإخراج البديع والأضواء المتناسقة، قد
أفاء على الرواية ظلا فنياً بارعاً لا أحسبه خالصاً لوجه الفن والأدب؛
وأكاد أسمع وسوسة شيطاني تقرر أسباباً نفسية خاصة بحضرة المدير
وهي:
أولاً: الإفلاس الأدبي. وثانياً: الكسل العبقري. وثالثاً: حب الوقوع تحت تأثير أدبي ومعنوي إرضاء لطبيعة الشعراء في الوحي والإلهام؟!
ولما كان تبيان ذلك قد يستغرق منا صفحة قد يكون في كتابتها الآن ما يقطع سلسة الكلام عن إظهار علل انحطاط الفرقة وتدهورها، فإنا نرجئ هذا الإيضاح إلى ما بعد. أما الآن فلا ينبغي أن يفوتنا أن نهنئ الممثل أحمد علام الذي استطاع بلباقة وكياسة أن يبعث هذه الرواية من مرقدها، وأن يجيد إجادة موفقة تقمص روح المجنون إلى حد حسبناه قد مسَّه طيفُ جنةٍ مثله، كما نمتدح اقتدار الممثل الألمعي عباس فارس على إيفاء كل دور يمثله حقه الأكمل، وأن نطمئن حضرة مدير الفرقة بأن رواية المجنون خير رواية تدر الجنيهات لا القروش تترع خزانة الفرقة وتغمرها بالربح
حصرت، في مقال سابق، علة انحطاط الفرقة وتدهورها في مديرها الفاضل نفسه لاعتقاده أن ليس في الأمة المصرية من هو أصلح منه لادارتها، واستنتجت من هذا الزعم أن لا وسيلة في صلاح يرجى من رجل محدود العقيدة، وتعمدت تجاهل علة مستوطنة مستعصية في لجنة القراءة إلى حين. وهأنذا أقول إن علة هذه اللجنة هي من ذات نوع علة المدير، أو هي جرثومة واحدة تقسمها قسمة عادلة خمسة أشياخ اكليريكيين ذهناً وعقلا، لم يدخل (بعضهمْ) مسرحاً ولم ير تمثيلا أو داراً للسينما إلا في القليل النادر
أردت استطلاع آراء هؤلاء السادة الإجلاء واحداً بعد واحد فأجاب الأول على سؤالي قائلاً ما نصه: (مهمة اللجنة تنحصر في قراءة الروايات التي تقدمها الفرقة، وإصدار الحكم عليها إما بالقبول كما هي، وأما بالقبول بعد التعديل، وإما بالرفض)
قلت: هل تنظرون إلى الرواية إذا كانت مستكملة الخصائص الفنية المعروفة أم تستمعون
إلى رأي مدير الفرقة؟ فقال:
(قد جرت العادة بأن مدير الفرقة هو الذي يتولى تقديم الروايات مشفوعة بتقارير عنها، وهو على جلالة علمه، وضافي أدبه ونفوذ نقده يأخذ نفسه في هذا الباب بالتحفظ التام)
سألت: هل لرأي النقاد المسرحيين قيمة في نظر اللجنة؟ فأجاب:
(الواقع أن النقاد المسرحيين إنما يبدون آراءهم بعد تمثيل الرواية حيث يكون الأمر قد انتهى وخرج عن يد اللجنة، على أنه قد يحدث أحياناً أن نرجع بواسطة مدير الفرقة بالضرورة إلى رأي كبار المخرجين (؟) وكبار الممثلين (كذا) فيما إذا كان يمكن تمثيل الرواية على الصورة التي قدمت بها أو لا)
قلت: إذا أجمع النقاد على القول بعدم صلاح رواية مثلتها الفرقة فهل من الحق الأدبي والفني تحدي النقاد وتخطي أقوالهم وإعادة تمثيل الرواية؟ فقال:
(قلت إنه بمجرد إجازة رواية يخرج الأمر من يد اللجنة بتاتاً ولا تستطيع أن تعمل شيئاً)
قلت: من يكون المسؤول عن هذا إذا وقع، وقد وقع فعلا، فإعادة تمثيل روايات تزري بسمعة فرقة أهلية متواضعة فضلا عن الفرقة القومية، منها رواية اليتيمة وغيرها. . فقال:
(أرجو إعفائي من هذا السؤال)
قلت: ألا تريد أن تقول كلمة في الدفاع عن لجنة القراءة وقد قبلت هذه الروايات المشلولة، وفي الدفاع أيضاً عن مدير الفرقة وقد مثلها ثم أعاد تمثيلها؟ فكرر الرجاء بأن أعفيه من الرد ومن الخوض في هذا الموضوع، وقد تفضل فحدثني حديثاً ودياً خاصاً تناول فيه ناحية من (الأخلاق الحكومية) كما سماها لا أسمح لنفسي بنشره الآن
قلت: هل خطر للجنة أن توازن بين الروايات التي مثلتها الفرقة وبين الروايات التي تمثلها الفرق الأهلية وفرق الهواة لتعرف مبلغ تقدم الفرقة القومية على الفرق الأهلية؟ فقال:
(إننا لا نقارن بين الروايات التي تقدم للفرقة وبين غيرها، لأن المقارنة تقتضي فحص الروايات الأخرى وهي لم تقدم إلينا
قلت: أليس من واجب مدير الفرقة أن يفعل ذلك ليقدم للناس، على الأقل، أحسن ما تمثله الفرق الأخرى. فأجاب بعد هنيهة من تفكير:
(ليس لأحد سبيل على أحد، والفرقة القومية إنما نختار من بين الروايات التي تقدم لها هي،
وليس لها سلطان على من لا يقدم إليها روايته)
قلت: هل لاحظتم تقدماً في تأليف الروايات خلال السنوات الثلاث، لأني أزعم أن الروايات التي مثلتها الفرقة في عامها الثالث أحط منزلة من الروايات التي مثلت في العامين الثاني والأول؟
اعترض محدثي الفاضل على الشطر الثاني من السؤال قائلاً (إني أجيبكم عن الشطر الأول فقط: على العموم يمكنني أن أؤكد لكم أنني شخصياً كنت من بضع سنوات في شبه يأس من نجاح التأليف التمثيلي في مصر. على أنني لم يرعني، وخصوصاً في أثناء قراءة الروايات التي قدمت للمباراة في هذا العالم، لم يرعني إلا أن أرى شبه طفرة في الروايات المؤلفة مما يدل على أخذ الفكر الروائي في نضوج بل في نضوج سريع. حقيقة أننا لم نبلغ الكمال ولم نقترب منه بعد، ولكن يمكنني أن أقول إننا نمضي سراعاً إلى الكمال. ويحسن في هذا المقام أن أقول إن الجودة النسبية لم تقتصر على الروايات الست التي أجيزت، بل إن هناك روايات أيضاً، وإن لم تصل في نظرنا إلى مدى هذه، فان مؤلفيها ولا شك يستحقون الإعجاب والتقدير)
انتقلنا إلى الكلام عن أسباب صدوف كبار الأدباء من مؤلفين ونقاد عن الفرقة القومية، وعبرتُ عن هذا الرأي بصراحة تؤلم اعتداد أعضاء لجنة القراءة بأنفسهم. فقال محدثي الفاضل بشيء من الحماس المتزن:
(لاشيء يبعد المؤلفين عن الفرقة القومية سوى تهيبهم كتابة الرواية المسرحية ووقوفهم في صف واحد مع الكتاب الناشئين)
اكتفي بهذا القدر من الحديث لضيق المجال، تاركا التعليق عليه إلى المقال التالي، وبذلك يكون قد تيسر لي حضور تمثيل إحدى الروايات التي فازت بجائزة المباراة التي قال عنها وعن أخواتها حضرة محدثي الفاضل إنه رأى فيها شبه طفرة تدل على نضوج الفكر الروائي ومضيه سراعاً إلى الكمال
أبن عساكر