الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 285
- بتاريخ: 19 - 12 - 1938
من مآسي الحياة
يا إنسان! أين الإحسان؟
ما أطول أحاديث البؤس وأكثر حوادِثَ أهله!
كان للمقالين الذين كتبناهما في غفوة الإحسان عن مرتجيه، وقسوة الوقوف على مستحقيه، رجْعٌ شديد في أكثر النفوس. فقد غدا علينا البريد بعشرات من الرسائل الباكية كأنما كتبت بدموع العين ودماء القلوب فلا تدري أهي كلمات أم أنَّات! ولو شئت أن أنقل إليك بعض ما فيها لدهشت أن يكون في مصر - وهي البلد الذي يجري نيله بماء الحياة، ويفيض ثراه بطيبات الرزق - خَلْق من بني آدم يدمنون الصيام من الجوع، ويلبسون الظلام من العُرْى، وتصبح أمانيُّهم على الله أن ينقذهم من الحياة بالموت!!
هاك حالة واحدة من ألوف: روى الشيخ عبد الغني في رسالته الضافية ما ألخصه لك في هذه الأسطر:
طرابيشي في حي (السيدة زينب) كان يعيش من فضل الله وربح الحرفة في نعمة سابغة. كان رحْب الدكان والصدر، يجلس عنده سراة الحي فيتحادثون ويتنادرون ويفضي بعضهم إلى بعض بأسرار البيوت وأخبار الصحف، والمكاوي لا تنقطع عن الكي، والعمال لا يفتُرون عن البيع. وكان رخي البيت والأسرة، يغشى فناءه السهلَ ذوو القربى وأولو الحاجة، يتقلبون في أعطافه، وينالون من أَلطافه، ويستريحون إلى ظله. فلما تعود الناس قلة النفقات من كثرة الأزمات، ووفدت على مصر من وراء البحر بدعة العُرى، فتعرّت أرجل النساء من الجوارب، ورؤوس الرجال من الطرابيش، أخذت نار الطرابيشي تنطفئ وحركته تسكن ومورده يغيض، وأخذ الغرماء مجالس العملاء، وزاد عدد المحضرين على عدد المشترين؛ فكان الرجل يفتح دكانه يوماً ويغلقه أسبوعاً، حتى فتحه الدَّين وأعيته الحيلة فباع الملك، وركبه الهم والمرض فلزم البيت، وتفجَّرت عليه المصائب من كل جانب، فمات ولده الوحيد وكان في السنة الثالثة من كلية الطب، وتوفى أخوه البارُّ وكان موظفاً في إدارة القرعة، وتأيمت أخته الفقيرة الولود فلاذت بحماه، ووجد الداء في جسمه الواهم المنحلّ مجالاً فاستشرى، ورأف الله به أن يعاني الألم في نفسه وفي أهله طويلاً فتوفاه. وبقيت بعده زوجته المقطوعة، وأخته الأرملة، وابنتاه العانستان، يعشن على خمسين قرشاً
في الشهر! أتدري من أين تأتيهن هذه الخمسون قرشاً؟ تأتي من أجرة الدكان. فقد استأجر الصانع الذي كان يعمل فيه آلاته وأدواته وأثاثه بمائة قرش، فكن يعطين وزارة الأوقاف منها ثمانين كراء المحل، حتى سعى لهن أهل الخير لديها فجعلته خمسين.
ويتساءل الناس بعد ذلك كيف يعيش هؤلاء النساء الأربع على هذا النزر اليسير من الرزق فلا يستطيع أحد أن يجيب، لأنهن أغلقن على أنفسهن وعلى بؤسهن غرفة من غرف الغسيل في بيت متهدم من بيوت (زين العابدين) فلا يدخل عليهن إلا جارة برغيف، أو خادمة بصحن. . .!
فليت شعري أتقنع الفتاتان كما قنعت المرأتان بهذا العيش، أم تُحملان آخر الأمر على ركوب الغواية والطيش؟
ذلك سؤال كان ينبغي أن يوجه إلى وزارة الأوقاف وأغنياء الأمة؛ ولكن وزارة الأوقاف ليست بيت المال الذي كان يقوم عليه عمر، والأغنياء في مصر كلما أفعم الله جيوبهم بالمال، أفرغ جنوبهم من الرحمة. فأموالهم للأحزاب والانتخاب، وعواطفهم للخيل والكلاب، ودنياهم للغرور والأبَهة. فلم يبق لطرائد الشقاء وفرائس الفاقة غير الله. ولله في أموال هؤلاء القساة حق معلوم هو الزكاة. والزكاة ركن من أركان الإسلام كالشهادتين والصلاة. والإسلام يعيد اليوم في عهد الفاروق زمانه وسلطانه، فالأمراء والوزراء يصلون، والمترفون والمثقفون يحجون، والدين والمدنية يتعاونان على تنزيه النفس وترفيه العيش وتأمين الحياة. فلماذا يظل هذا الركن مهدوماً وهو وحده العماد القوي لبناء الأمة، والطِّباب الناجع لأدواء المجتمع؟ لقد فرضت الحكومة على الأموال الثابتة والمنقولة ضرائب العمارة والدفاع والأمن، وجبَتها على الطوع والكَره؛ فما بالها وهي الحكومة الإسلامية القوية لا تجمع بوسائلها الإدارية ما جعل الله للفقراء، في أموال الأغنياء، ثم تقسمها على من سماهم الله في كتابه، فتأمن بذلك ثورة النفوس واضطراب الأمن وسخط العدالة؟
إنها إن تفعل ذلك تُرض نفوس العامة. وفي رضا هؤلاء تكثير النسل وتوفير الإنتاج وتيسير المعيشة. ولن تجد في جباية الزكاة ما تجد في جباية الخراج من امتعاض أو اعتراض أو مشقة، فإن البذل في سبيل الله ربِا المؤمن. ومليونا جنيه من الصدقات يدخلان بيت المال في كل سنة مع الأمانة والعدل، لا يتركان في الأمة سائلاً في شارع، ولا جائعاً
في بيت، ولا جاهلاً في عمل. وكلما استبحر العمران، واستذأب الناس، واستشرت المطامع، تبين أقطاب الرأي وأصحاب الأمر أن الله الذي جعل الفساد في الدنيا، جعل الصلاح في الدين؛ فما من علة في الفرد، ولا آفة في الجماعة، إلا نبَّه إليها بنوره، وطبَّ لها في شرعه، وخفف منها بلطفه.
فهل تفكر حكومة الفاروق خليفة الله على وحيه، في إقامة الدين على وجهه، فتهدأ ضلوع، وتجف دموع، ويتذوق الناس في ظلال الإخاء، سعادة الأرض ونعيم السماء؟
أحمد حسن الزيات
مصر والعروبة
إلى الدكتور طه حسين
من الأستاذ ساطع الحصري بك
أيها الأستاذ:
نشرت مجلة المكشوف البيروتية حديثاً جرى بينكم وبين جماعة من شبان العرب، على ظهر باخرة تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، قلتم في خلال ذلك الحديث إنكم تنادون (بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل التبادل الثقافي بينها)، وترون (من المفيد أن يكون تعاوناً اقتصادياً، وحتى تحالفاً عسكرياً) بين تلك الأقطار؛ غير أنكم لا ترضون وحدة سياسية، سواء أكانت (بشكل إمبراطورية جامعة) أم على طراز (اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري). وعللتم آراءكم هذه بقولكم (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين؛ وإنها ستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى).
قرأت هذه الآراء بدهشة غريبة، لأنني استبعدت صدورها منكم كل الاستبعاد، وقلت في نفسي:(لعل الكاتب نقلها على غير حقيقتها)، وأعدت قراءتها بإمعان، ولكني لمحت في عدة نقاط منها أسلوبكم المعروف، فقلت لعل الدكتور أراد أن يمتحن هؤلاء الشبان، ويتأكد من مبلغ إيمانهم بالقضية، ويسبر غور درسهم لوجوهها المختلفة: فالآراء التي أدلى بها ربما كانت من نوع الآراء الجدلية التي ترمي إلى حمل المخاطب على التعمق في التفكير. فوجدت نفسي تجاه هذه الملاحظات بين عاملين مختلفين: عامل يدفعني إلى الإسراع في مناقشة هذه الآراء لكي لا أترك مجالاً لزعزعة إيمان بعض الشبان بتأثير سلطتكم الأدبية السامية، وأسلوبكم الأخاذ. . . وعمل يدفعني إلى التريث في الأمر لكي أتأكد من صحة الحديث المعزو إليكم. تريثت لذلك مدة من الزمن. . ولما لم أطلع على تصحيح أو توضيح صدر منكم، رأيت من الواجب علي أن أقدم على المناقشة بدون أن أنتظر مدة أطول. . .
فإذا كان في الحديث الذي نسب إليكم شيء من البعد عن الواقع، فأرجو أن تعتبروا كلمتي هذه بمثابة رد على الآراء المسرودة في ذلك الحديث، بقطع النظر عن قائلها؛ وإذا كان فيه شيء من قصد المناقشة الجدلية - كما أسلفت - فأرجو أن تعتبروا هذه الأسطر بمثابة صفحة من صفحات تلك المناقشة الجدلية. . .
قلتم للشبان الذين تحدثتم إليهم: (إن المصري مصري قبل كل شيء، فهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف. . .)
فاسمحوا لي أن أسألكم: هل الوحدة العربية تتطلب من المصريين التنازل عن المصرية؟ أنا لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي، لأني أعتقد بأن دعوة المصريين إلى الاتحاد مع سائر الأقطار العربية لا تتضمن بوجه من الوجوه حثهم على التنازل عن (المصرية). إن دعاة الوحدة العربية لم يطلبوا ولن يطلبوا من المصريين - لا ضمناً ولا صراحةً - أن يتنازلوا عن مصريتهم، بل إنهم يطلبون إليهم أن يضيفوا إلى شعورهم المصري الخاص شعوراً عربياً عاماً، وأن يعملوا للعروبة بجانب ما يعملونه للمصرية. . فهل لديكم ما يبرهن على أن ذلك من نوع (طلب المحال)؟ وهل لديكم ما يدل عل أن العروبة والمصرية ضدان لا يجتمعان، وعنصران لا يمتزجان؟
وقد قلتم لمخاطبكم: (ولا تصدق ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة. . . فالفرعونية متأصلة في نفوسهم) ثم أضفتم إلى ذلك حكماً قاطعاً، فقلتم:(وستبقى كذلك. . .)
فهل تسمحون لي أن أستوضحكم ما تقصدونه من كلمة (الفرعونية)؟ هل تقصدون منها الأخذ بحضارة الفراعنة، أم الاعتزاز بثقافة الفراعنة، أم تقصدون منها بعث اللغة الفرعونية أو الآداب الفرعونية، أو الديانة الفرعونية، أو السياسة الفرعونية؟
أنا لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا منها الحضارة أبداً: لأنكم لستم - بدون ريب - ممن يقبلون لمصر ولغير مصر - حضارة في هذا العصر غير الحضارة العلمية الحالية. . . كما لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا من هذه الكلمة (الديانة الفرعونية) أيضاً. . .
هذا ومن جهة أخرى فإنني أجد في مناداتكم (بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل التبادل الثقافي بينها) دليلاً قاطعاً على أنكم لم تقصدوا منها الثقافة الفرعونية أو اللغة الفرعونية أيضاً.
فماذا تقصدون منها إذاً؟ السياسة؟ فهل تعتقدون بأن (السياسة الفرعونية) تتطلب (الاكتفاء بحدود مصر الحالية) فترفض (التوسع) بكل أنواعه، حتى ولو كان عن طريق (قبول انضمام) الأقطار العربية؟
إنكم أشرتم في حديثكم إلى الآثار الباقية من عهد الفراعنة بشكل يستوقف الأنظار، وأردتم
أن تدعموا آرائكم بجلال تلك الآثار إذ قلتم:
(لا تطلبوا من مصر أن تتخلى عن مصريتها، وإلا كان معنى طلبكم: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام، وتغاضي عن جميع الآثار التي تزين متاحفك ومتاحف العالم، وإنسي نفسك واتبعينا. . .)
يظهر من هذه التأويلات أنكم تودون أن تخلقوا للفكرة العربية خصوماً من الآثار القديمة، وأن تضعوا في سبيل تيار هذه الفكرة سدوداً من الرموس والأطلال. فهل فاتكم أن التعارض والتصادم لا يحدثان إلا بين الأشياء التي تسير على مستوى واحد، في عالم واحد؟ وأن الفكرة العربية التي تعمل في القرن العشرين - للأجيال القادمة - لا يمكن أن تتعارض مع آثار بقيت ميراثاً من ماض سحيق، يرجع إلى أكثر من خمسة آلاف من السنين؟
إن مصر قد تباعدت عن ديانة الفراعنة دون أن تهدم أبا الهول؛ وتخلت عن لغتها القديمة دون أن تقوض الأهرام؛ وجميع آثار الفراعنة التي زينت بها متاحف مصر ومتاحف العالم لم تُولَد نزوعاً للعودة إلى الديانة التي أوجدت تلك المآثر الخالدة، ولا حركة ترمي إلى بعث اللغة التي رافقتها خلال قرون طويلة، فهل من موجب لطلب هدم الأهرام وتناسي الآثار لأجل الوحدة العربية؟
إن الأهرام - مع جميع الآثار الفرعونية - لم تمنع مصر من الاتحاد مع سائر الأقطار العربية اتحاداً تاماً - في ميدان اللغة - فهل يمكن أن تحول دون اتحادها مع تلك الأقطار في ميدان السياسة أيضاً؟
كلا أيها الأستاذ، إن التيارات القوية العميقة التي جرفت حياة مصر إلى اتجاهات جديدة منذ عشرات القرون، والتي أخرجتها من ديانتها القديمة وأنستها لغتها الأصلية - بالرغم من وجود الأهرام وقيام أبي الهول - سوف لا تحتاج إلى هدم شيء من آثارها القديمة، لتجرفها نحو السياسة التي يؤمن بها دعاة الوحدة العربية، ولا سيما أن هذه السياسة ليست إلا نتيجة طبيعية للغة مصر الحالية ووضعها العام.
إن دعاة الوحدة العربية لم يقولوا ولن يقولوا لمصر: (إنسي نفسك) بل يقولون وسيقولون لها: (استزيدي من ثروة نفسك) بالعمل على توحيد أبناء لغتك. (إنهم لم يقولوا ولن يقولوا
لها: (اتبعينا)، بل يقولون وسيقولون لها: سيري إلى الأمام، ونحن نتبعك على الدوام.
سألتم خلال الحديث: (أتريدون أن تتحقق الوحدة العربية؟ فعلى أي أساس علمي تنادون بها؟) ثم قلتم: (تعالوا معي نستعرض الروابط التي تصل مصر بالأقطار العربية الأخرى) فاسمحوا لي أن أشترك معكم في الإستعراض، لاناقشكم في أهم المواقف التي وقفتموها خلاله:
لقد وقفتم أولاً أمام قضية (الأصل والدم) وقلتم: (إن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء)
وأنا لا أود أن أتطرق - في هذا المقام - إلى مسألة أصل المصريين القدماء، ولا أن أبحث عن علاقتهم أو عدم علاقتهم بالساميين عامة وبالعرب خاصة. . . سأسلم - جدلاً - بما تقولونه في هذا الباب، مع هذا سأسألكم بدوري: هل علمتم بوجود أمة على الأرض انحدرت من أصل واحد تماماً؟ وهل تستطيعون أن تذكروا لي أمة واحدة ترتبط بروابط الدم فعلاً وحقيقة؟
إن جميع الأبحاث العلمية تدل على عكس ذلك تماماً. إنها تدل على أنه لا توجد على وجه البسيطة أمة خالصة الدم. . . حتى الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم الأوربية في طريق الوحدة والاستقرار، لا تدعي وحدة الأصل والدم. وعلماؤها يعترفون بأن الأجناس التي دخلت في تركيبها تعد بالعشرات، كما يعترفون مثلاً بأن أهالي جنوب فرنسا يختلفون عن سكان شمالها - من حيث الأصل والدم - اختلافا كبيراً. أيمكنكم أن تدعوا - والحالة هذه - أن عدم وحدة الأصل والدم، يجب أن يحول دون انضمام مصر إلى حركة الوحدة العربية؟
ثم وقفتم أمام مسألة التاريخ، وادعيتم أن (تاريخ مصر مستقل تمام الاستقلال عن تاريخ أي بلد آخر)
فاسمحوا لي أن أقول بأن هذا الادعاء افتئات صارخ على الحقائق الواقعة. . . فإن تاريخ مصر اختلط اختلاطاً عميقاً بتاريخ سائر البلاد العربية وتشابكت أوشاجه معها، خلال القرون الثلاث عشرة الأخيرة على الأقل. . . فكيف يحق لكم أن تحذفوا هذه القرون من تاريخ مصر؟. . . أنا لا أنكر أن تاريخ مصر لم يبق متصلاً بتاريخ سائر الأقطار العربية
على الدوام، غير أنني أدعي أن ذلك شأن تواريخ الأمم الأخرى بدون استثناء. فإن تواريخ الأمم تشبه الأنهر الكبيرة التي تتكون من روافد عديدة بوجه عام
إن من يلقي نظرة عامة على تواريخ الأمم المعاصرة لنا كأن يستعرض تفاصيل تاريخ الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم في طريق الوحدة القومية - كما ذكرت آنفاً - يضطر إلى التسليم بأن العلاقات التاريخية التي تربط مصر بسائر الأقطار العربية، أقوى وأعمق وأطول من العلاقات التاريخية التي تربط الأقاليم الفرنسية بعضها ببعض. . .
وإذا أظهرتم شيئاً من الريب في هذا الباب فإنني مستعد لذكر التفاصيل والأسانيد التي تبرهن على صحة دعواي برهنة قطعية.
والآن انتقل معكم إلى آخر المواقف التي وقفتموها خلال استعراض الصلات. . . لقد أنكرتم (تأثير اللغة) في تكوين (الوحدة العربية) وقلتم: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا وسويسرا، ولا أمريكا ولا البرازيل ولا البرتغال. . .)
فاسمحوا لي أن أناقشكم في هذا الموضوع المهم مناقشة طويلة:
لو كنتم أقدمتم أيها الأستاذ على كتابة بحث مثل هذا البحث للبرهنة على نظرية مثل هذه النظرية - قبل ربع قرن - لاستطعتم أن تضيفوا إلى هذه الأمثلة مثالين آخرين. . . لقلتم عندئذ: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت الإمبراطورية النمسوية، ولا السلطنة العثمانية. . .)
ولو كنتم ممن عاشوا وكتبوا قبل ذلك بنصف قرن. . . لاستطعتم أن تضيفوا إلى أمثلتكم عشرات الأمثلة الأخرى، ولأرخيتم العنان لقلمكم الجواب لينتقل من جنوب إيطاليا إلى شمال ألمانيا. . ولقلتم:(لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم. . . لما كانت ساردونيا وساكسونيا، ولا بيه ده مونته وباديرا. . .)
غير أن تقلبات الزمان، أزالت من عالم الوجود جميع تلك الأمثلة والشواهد الكثيرة، وحرمت النظرية التي تقولون بها إمكان الاستناد إليها، فحصرت الأمثلة في الأسماء التي ذكرتموها. . . أفلا ترون إليها الأستاذ إن هذه الملاحظة وحدها كافية للبرهنة على أن مثل هذه البراهين لا تخلو من مزالق كثيرة، فلا يجوز الاعتماد عليها في حل القضايا الاجتماعية؟.
أفتلومونني إذا قلت إن هذه المحاكمة لا تخلو من الشبه بمحاكمة من يقول: (لو كان لجاذبية الأرض وزن في تقرير مواضع الأجساد لما بقيت القناديل معلقة في السقوف، ولما صعدت الأدخنة إلى السماء، ولما طارت الطيور وارتفعت المناطيد.)
اسمحوا لي أن استعرض الظروف الخاصة التي تلازم كل واحد من الأمثلة التي ذكرتموها، لكي أبرهن على صحة تشبيهي هذا.
إن أول الأمثلة التي ذكرتموها للتدليل على عدم (وزن اللغة في تقرير مصير الأمم) هو وجود بلجيكا. وهل فاتكم أن بلجيكا ليست متجانسة من حيث اللغة، بل هي من المناطق التي تتلاقى وتتشابك فيها اللغات؟ ولا شك في أنكم تعلمون أن النصف من سكانها يتكلم الفرنسية، في حين أن النصف الآخر منها يتكلم الفلامندية. . . فاتحاد كل فريق من هؤلاء مع سائر أبناء لغتهم يتوقف على (تجزئة وتقسيم بلجيكا) في حين إن ذلك يصطدم بمشاكل عظيمة وموانع جسيمة من الوجهة الجغرافية والاقتصادية والسياسية.)
أولاً - إن حدود الألسن في بلجيكا لا تخلو من تشابك وتعقيد؛ فعاصمتها بروكسل - مثلاً - تقع في منطقة فلامندية مع أنها من أهم المراكز الفرنسية، يتكلم سكانها اللغة الفرنسية في حين إن سكان القرى والقصبات المحيطة بها يتكلمون الفلامندية؛ ولا شك في أن هذا التشابك يجعل أمر تجزئة هذه المملكة من المشاكل العويصة من الوجهة المادية والجغرافية.
ثانياً - إن حدود المناطق اللغوية في بلجيكا لا تتفق مع حدود المناطق الاقتصادية، مما يجعل أمر التقسيم عسيراً جداً من الوجهة الاقتصادية أيضاً. . .
ثالثاً - تشغل بلجيكا موقعاً هاماً بين ثلاث من اعظم الدول الأوربية وهي ألمانيا وفرنسا وإنكلترا، ولا حاجة لإيضاح أن تعارض منافع هذه الدول المنظمة الثلاث (جعل أمر) إبقاء المملكة البلجيكية على حالتها وعلى حيادها (من لوازم التوازن الدولي العام، ومن مستلزمات (السياسة العالية الهامة، فكيف يجوز لكم أن تعتبروا (وجود بلجيكا) دليلاً على عدم (وزن اللغة) في تقرير مصير الأمم؟ أفلم أكن محقاً فيما قلت: - إن ذلك يشبه اعتبار توازن بعض الأجسام دليلاً على عدم تأثير الجاذبية الأرضية عليها؟. . .
هذا، ومن جهة أخرى أود أن أسألكم: هل من وجه لتشبيه قضية (بلجيكا والأمم المجاورة لها) بقضية مصر والبلاد العربية المتصلة بها؟ وهل من مجال لاعتبار مصر أو الأقطار
العربية المتصلة بها من مناطق تشابك اللغات وتعقدها؟ وهل يتوقف اتحاد مصر مع سائر الأقطار العربية على تجزئتها أو تجزئة غيرها؟
ترون أيها الأستاذ أنه لا يوجد في مثال بلجيكا ما يؤيد دعواكم بوجه من الوجوه.
أما قيمة المثال الثاني الذي ذكرتموه، فلا تختلف عن ذلك كثيراً: فإن سويسرا أيضاً من مناطق تلاقي وتشابك اللغات، تتلاقى فيها اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية، كما تتلاقى فيه أهم سلاسل الجبال الأوربية. . . فلا يجوز اتخاذها دليلاً على عدم وزن اللغة في تقرير مصير الأمم بوجه من الوجوه. .
وأما المثال الثالث الذي ذكرتموه، فهو أيضاً لا يؤيد دعواكم في هذا الباب: أنا لا أرى لزوماً - في هذا المقام - إلى شرح خصائص أمريكا، ولا إلى البحث في قضية العناصر بها. . . بل سأكتفي بالإشارة إلى عظمة المحيط الاطلنتيكي الذي يفصلها عن القارة الأوربية. . . واعتقد أن هذه الإشارة وحدها تكفي للبرهنة على أن قضيتها لا تشبه قضية البلاد العربية بوجه من الوجوه. . . فإن الأقطار العربية متصل بعضها ببعض اتصالاً جغرافياً تاماً. . . والقطر المصري يشغل بين هذه الأقطار مركزاً هاماً. وأما الحدود التي تفصلها عن سائر الأقطار العربية، فتنحصر - في بعض الجهات - بخطوط وهمية تمتد فوق رمال الصحراء. . . فهل تعتقدون أن هذه الخطوط الوهمية التي تفصل مصر عن سائر الأقطار العربية بصورة اعتبارية واصطناعية، تستطيع أن تعمل عملاً مماثلاً لعمل المحيط الذي يفصل أمريكا من أوربا بصورة حقيقية وطبيعية؟. . .
بعد أن شرحتم، أيها الأستاذ، وجهة نظركم في الوحدة العربية، رأيتم أن تقدموا نصيحة إلى محدثيكم الشبان، فقلتم:
إن كان لي نصيحة أسديها إليكم فأن تتمسكوا بالواقع العلمي وتهملوا سواه، مهما كانت قوته العاطفية والخيالية. افهموا أن المنفعة تسير الشعوب. فإن لم تفهموا هذا اليوم فسترغمون على فهمه غداً. . .
أنا أضم صوتي إلى صوتكم في هذه النصيحة، من حيث الأساس؛ غير أنني أنكر عليكم النتائج التي وددتم أن تصلوا إليها تحت حماية هذه النصيحة. . .
تقولون إن المنفعة تسيّر الشعوب؛ فهل تعتقدون أن (اتحاد الأقطار العربية) مخالف لمنافعها
أو خال منها؟ وهل تدعون أن منافع كل واحد من الأقطار العربية ستحول دون اتحادها؟
أما أنا فأعتقد عكس ذلك تماماً. أعتقد أن فكرة الوحدة العربية لا تستند إلى العاطفة وحدها، بل تستند إلى المنفعة أيضاً. أعتقد أن منفعة مصر نفسها تتطلب منها الاتحاد مع سائر البلاد العربية، كما اعتقد أن منفعة مصر في هذه القضية ليست من المنافع البسيطة الطفيفة، بل هي من المنافع الهامة الحيوية. . وإذا كان الذين يقدرون أهمية هذه المنافع لا يزالون قليلين اليوم، فلا شك في أنهم سيكثرون يوماً بعد يوم.
وعلى كل حال أؤكد لكم أنني من الذين يؤمنون بالوحدة العربية ويدعون إليها، لا بتأثير العواطف فحسب، بل بملاحظة المنافع أيضاً. . ولهذا السبب عندما قرأت قولكم:(إن المنفعة تسيّر الشعوب) قلت في نفسي حالاً: (وهذه المنفعة هي التي ستسيّر المصريين نحو الوحدة العربية، عاجلاً أو آجلاً)
هذا، وأرى ألا أختم اعتراضاتي دون أن أتوجه إليكم بكلمة شكر، فإني أشكركم من صميم فؤادي على مناداتكم بتوحيد الثقافة بين البلاد العربية، لأنني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. . . فأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة.
(بغداد)
أبو خلدون ساطع الحصري
مقياس الثقافة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يرى أكثر الناس أن الحق جوهر لا يتجزأ، وانه إذا كان عند إنسان أو طائفة من الناس لم يكن عند خصومه أو خصومهم شيء منه. ومن ير هذا الرأي تضؤل ثقافته ويضؤل فكره. وهؤلاء المؤمنون بالحق قد يرون من المنكر الشنيع أن يجزئوه بين خصمين أو أكثر. وفي الناس طائفة أخرى على شيء من الثقافة تستطيع أن ترى ما للأضداد من الحق، ولكنها من أجل ذلك لا تؤمن بالحق لزعمها أن الحق لا يتجزأ، فإن تجزأ انعدم؛ وإنكارها الحق بسبب تجزئه نقص في ثقافتها ينشأ من قليل من الثقافة، فإن بعض الثقافة عن يعوِّق عن بعض. والدهماء وأشباه المتعلمين يغرون بمحاكاة هذه الطائفة في إنكار الحق، والتشبه بها في الزراية عليه من غير بصيرة ولا فهم، ويتشبهون بها في الزراية على كل ذي حق من فضل في العلم أو العمل أو الخلق، ويتشبهون بها في إظهاره بمظهر المزيف المخادع. وإذا كثر أمثال هؤلاء وأشباههم في أمة ماتت روحها وأصابها الركود وإن كانت حية ترزق. والرجل من هؤلاء إذا وجد لإنسان حقاً أنكره، وإذا وجد له نصف حق أنكره، وإذا وجد له ثلث حق أو ربع حق أنكره، لأنه في سريرة نفسه لا يرى لنفسه ذرة صغيرة من الحق تعدل اعترافه بجزء غيره من الحق أو كله. وكلما عظمت الثقافة عرف كل خصم جانب الحق الذي لخصمه، بقدر عرفانه جانب الحق الذي في ناحيته؛ وهم إذا عرفوه حقيقون أن تقل الخصومة بينهم، ولكن ربما لا تنعدم، لان كل إنسان يرى لنفسه من الحق نصيباً أكثر من نصيب غيره، فيتقاتلون على تعيين حدود أجزاء الحق إن لم يتقاتلوا على تعيين حدود الحق كله. على أن الثقافة كفيلة بأن تلطف تلك الخصومة، لأن المثقف الباحث في نفسه المفكر فيها كثيراً ما يراجعها، فإذا عادى عادى وهو يحسب في خصومته حساباً لما قد يكون من خطأ النفس الذي لم يفطن له بعد في تقدير حقها، ويحسب أنه ربما يفطن له في مستقبل أمره. أما غير المثقف فإنه لا يستطيع أن يحسب حساباً لما قد يكون من خطأ النفس الذي لم يفطن له. ولعل ألصق خصائص الثقافة وألزمها لها عرفان أوجه الحق عرفاناً ملحاً يدعو إلى الاعتراف بها ويدعو إلى حسبان سقطات الفكر من غير قصد والى إسقاط المرء الشيء ولو القليل من الثقة بالفكر كي يعدل به ما قد يكون من خطأ لم يفطن
له.
وقد ولع بعض الكتاب بالزراية على الحق زراية ليست زراية من يريد أن يقلقل المتنطسين في التشيع لجانب منه عن تنطسهم كي يدركوا الجوانب الاخرى، وإنما هي زراية الجاهل الذي يريد أن تعم الفوضى كي يكتسب فيها ومنها من غير حق، كاللص الذي ينتهز فرصة فوضى العراك كي يسرق دراهم الناس. وأمثال هؤلاء الكتاب يجدون رواجاً في أوساط التدهور حيث يصير السخر بالحق وأوجهه خطة عامة لا يستثنى منها فضل أو علم أو عمل أو خلق. فلا غرابة إذا ماتت روح أمة هذا شأنها وإن كانت حية ترزق. والحق عند الجاهل كالدنيا عند الأبله الساذج بقعة حول نفسه أو داره أو قريته. وكلما زاد المرء علماً كبرت الدنيا في نظره حتى يعرف أنها عوالم ونظم شمسية عديدة لم تحص بعد. وكلما ازداد المرء فطنة وثقافة عظم الحق في ذهنه كعظم الدنيا في رأي علماء الجغرافية والفلك. على إن عظم الحق في نظر المفكر قد يعدم الحق كما رأينا، فيقول المرء لا حقيقة في الحياة، بل كل أقوال الناس دعاوى باطلة، وإنما مَثَلُ نظر هذا المفكر إلى الحق مَثَلُ نظر المُطِلِّ في الماء وقد قذف فيه بحجر، فهو ينظر إلى دائرة موقع الحجر في الماء تتسع حتى تفنى. ولكن هناك حالة من حالات الثقافة يطمئن فيها المرء إلى أن تباين أوجه الحق لا ينفي الحق. ألم تر أن الدواء يشمل الأضداد ويشمل حتى السم، فلا ينفي ذلك أنه دواء. وحبذا لو فطن إلى ذلك أصحاب الأوهام الغريبة الذين لا يرون الخير إلا الخير المطلق الذي ليس متصلا بالشر، والحقيقة المطلقة التي لا تتصل بباطل ولا تتجزأ، فإذا وجدوا أن الخير في الحياة ممتزج بالشر قالوا أن لا خير ولا شر؛ وإذا وجدوا أن الحق ممزوج بالباطل قالوا أن لا باطل ولا حق، وإنما هي كلمات واصطلاحات، وإن كل إنسان يعد الحق والخير ما في ناحيته وما فيه نفعه، ولكن لو أن أحد الناس نظر في وجوه الناس ثم في وجوه الحيوانات والطيور ثم قال: إن اختلافها يدل على أن ليس في الكون ما يسمى وجهاً أكان يكون مصيبا في مقاله؟ وكذلك من نظر إلى الدنيا نظرة الراهب الزاهد فيها ونظرة المقبل على مباهجها وأطايبها ونظر إليها نظرة القوي ثم نظرة الضعيف وجد أن أوجه الحق مختلفة، أكان يكون مصيبا لو قال إن اختلاف أوجه الحق ينفي الحق؟ أليس قوله مثل قول من يعرف أن النور إنما يتكون من ألوان عدة، ويقول إن اختلاف مظاهر
الألوان التي يتكون منها شعاع النور ينفي وجود النور. وإنما دفعه إلى إنكار الحق أن نغاير وجوه الحق قد يجعله عند الناس كمقياس من الجلد القابل للتمدد يتخذونه لقياس الأقمشة وهم تارة يمطونه إلى نصف مط، وتارة يمطونه إلى آخر ما يستطاع فيه من المط حسب أهوائهم. وكذلك يطيلون الحق ويقصرونه حسب أهوائهم فيصير الحق مقياس محتال وآلة خداع فتقل حماسة المرء في سبيل الحق، ويحتقر الجهاد في الحياة لنصرة الحق، ويدفعه اختلاف أوجه الحق إلى إنكار الحق، ويهيئ له العذر في نصرة الباطل لأنه يرى أن الإحساس بالحق والباطل يختلف كاختلاف الإحساس بالحر والبرد حسب الأمزجة والطبائع. وإذا نظرنا إلى اكثر الممتعضين من الحياة الراجين إصلاحها وجدناهم من أصحاب المزاج الشاذ أو من ذوي الفشل أو الفقر؛ وبالرغم من أن أساس هذا الامتعاض فردي، وأنه شعور خاص، فإنه من وسائل الرقي والإصلاح، ويؤدي إلى كثير من الخير والحق. وكذلك إذا نظرت إلى أصحاب المزاج المعتاد وأهل النجاح والسعادة وجدتهم يكرهون كل تغير، ويرون صلاح الحياة في بقاء كل قديم على حاله؛ وبالرغم من أن أساس رأيهم شعور خاص بما فيه النفع لهم فإنهم يدافعون عن الحق الكائن والخير القديم ويفطنون إلى ما في رأي الممتعضين من الحياة الراغبين في إصلاحها من وهم وباطل وشر وإن لم يفطنوا إلى ما في رأي هؤلاء من حق وخير. والرجل المثقف هو الذي يستطيع أن يجمع بين النظرتين من غير أن ينعدم الحق في نظره، والذي يعد فريضة التشبث بالقديم ليست من الباطل بل هي الحجر الذي يحتك به زناد المتطلعين إلى منازل الرقي الراغبين في إصلاح الحياة فيوري هذا الاحتكاك نور الحق ونار الحياة. وإنما ضربنا مثل هاتين الطائفتين كي نوضح أن اختلاف منازل الحق لا ينفي الحق. وليس من الصعب تطبيق هذه الفكرة بالرجوع إلى كل أمر من أمور الحياة، والى كل فريق من طوائف الفكر والعمل، والى كل مذهب من مذاهبهما. ومن أجلها كانت كل حقيقة متممة لأختها؛ ولا يتم الحق في رأي إلا بما في نقيضه من حق، كما لا يتم الباطل في رأي إلا بما في نقيضه من باطل متصل به أو قد يتصل به. والذي يحير المفكر الذي لا يجد في الثقافة عزاء ولا هو ممن يتغلب على نزعات الفكر الحر بالتعصب لجانب منه أنه يريد حياة بسيطة ولكنها ليست بسيطة، بل إنها كالخيط المعقد تلوى بعضه في بعض. فإذا
استراح المرء إلى الثقافة وجد فيها عزاء، ورحب صدره ولبه بقدر اتساع الحق في نظره، ولم يحزنه اختلاف أوجه الحق، ولم يضله إلا في ساعات كلل الذهن أو ساعات الخوف أو التعب أو السقم والتشاؤم الذي يتهيأ في هذه الحالات أو في مثلها. على أن مذهب من ينكر الحق بسبب اختلاف مظاهره هو أيضاً من الوسائل التي تستقيم بها الحياة وتستفيد منها، فالحياة تتخذ من كل مذهب وسيلة وتقبل نفعه وتدفع ضره، وبمذهب من ينكر الحق لاختلاف مظاهره تستطيع الحياة أن تداوي نقيضه وهو مذهب المتعصب لجانب واحد من جوانب الحق. وإن المفكر ليرى في العقل البشري على العموم خصيصة تمكنه في بعض حالاته من قبول أي رأي أو معتقد سواء أكان قريباً أم بعيداً، متزناً أم غير متزن، جليلاً أم غير جليل. وهذه الخصيصة قد تدعو إلى الباطل، ولكن من الثقافة ألا ييأس المفكر من أجلها لأنها دليل على أن العقل البشري قادر على أن يرى كل جانب من جوانب الحق في الأمور في أثناء التخبط في جوانب الباطل منها. وما دام الرأي لا يصير عادة أو قيداً وسجناً أو ألفاظاً ميتة مستحبة أو شيئاً لا يصح الرجوع عنه بطريق الثقافة، فالأمل معقود في التخبط والتهدي حتى ولو قبل العقل البشري من الآراء في بعض الأماكن والأزمنة والحالات ما قبلته عقول زنوج الغابات ونفوسها وما قبلته عقول القبائل البشرية من آراء رهيبة يصف أمثالها السير جيمس فريزر وسجموند فرويد. وأشد منها رهبة وخطراً على العقول البشرية أن يحرم محرم في أرقى الدول الحديثة حضارة وفكراً على العقل البشري أن يفكر إلا فيما تسمح بالتفكير في تلك الدول، لان الأمل معقود بتخبط الفكر البشري وتهديه ما دامت الثقافة رائدة، وما دام الرجل المثقف يفسح صدره لرأي خصومه، لان كل جانب من جوانب الحق قد يتصل بجانب من جوانب الباطل، إذ بينهما تقارب وتناسب؛ فالرغبة في بلوغ الكمال وولوع الفكر به وبتحقيقه مما يوطد سبل التقدم، ولكنها أمور قد تدفع إما إلى اليأس إذا فشلت، وإما إلى الإجرام في أثناء محاولة تنفيذ أغراضها، فتكون داعية إلى الحق من ناحية. وإلى الباطل من ناحية أخرى، وكذلك الرأي القائل بإنكار استطاعة رقي الإنسانية وكما لها قد يؤدي إلى الحق الذي في جانب الاتزان والتؤدة والمحافظة على الحق المستطاع بدل لفظه في سبيل الحق المنشود. ولكنه قد يؤدي من ناحية أخرى إلى الأثرة وتبرير الفساد الموجود لأنه موجود في وجود أنكر هذا الرأي
إمكان إصلاحه. والرأي القائل بالإيثار له جانب حق كما أن للأثرة جانباً آخر يُنشد في تهيئة الآحاد والأفراد بالقوة والإقدام، وفي قوتهم وإقدامهم قوة للمجتمع الإنساني وإقدام له.
وعمل الثقافة في الحياة هي أن تؤسس الحياة على أساس صالح يوفق بين جوانب الحق في الأضداد، وأن تفصل بين كل جانب من جوانب الحق وما يلائمه من جوانب الباطل.
عبد الرحمن شكري
صور من الحياة في بغداد
للدكتور زكي مبارك
يظن فريق من الناس أن الحياة متشابهة الألوان، وإن اختلفت البلاد. وحجة هذا الفريق أن الناس متقاربون أشد التقارب في الغرائز والميول. ويشهد بصحة هذه الحجة أن مذاهب الناس في ملاعبهم وملاهيهم قد تقترب في هذه الأيام مما كانت عليه قبل آلاف السنين. وكذلك تقترب مذاهبهم في فهم الحقائق الأخلاقية والاجتماعية، بحيث يمكن القول بأن حكماء مصر وبابل والهند والصين في العصر القديم عبروا عن آراء وأفكار ليست بعيدة كل البعد عما نعرف في العصر الحديث.
وقد دهشتُ حين زرت مدينة رُوَان في سنة 1927 فقد رأيت بعض الأحياء القديمة هناك تشبه بعض الأحياء القديمة في القاهرة من حيث تخطيط الشوارع وهندسة البيوت.
وكذلك دهشت حين زرت بغداد في السنة الماضية، فقد رأيت فيها أحياء تشبه بعض الشبه حيّ الداوودية بالقاهرة، من حيث إقامة الرواشن وزخرفة الأبواب.
والحق أن هناك موجات مدنية تغمر العالم من حين إلى حين فتوحد مذاهبه في العيش بعض التوحيد. ويوضح ذلك ما نراه من طغيان المدنية الأوربية في هذا العصر: فهي تكاد تحوّل العالم إلى شكل واحد في الملابس والعادات والمذاهب المعاشية، وكذلك كان الحال يوم سادت المدنية المصرية والمدنية الرومانية والمدنية العربية.
ولكن تشابه الناس في بعض مناحي التفكير وخضوعهم لطغيان بعض المدنيات لا يمنع من وجود خصائص أصيلة يمتاز بها بلد عن بلد، وشعب عن شعب.
وهل يمكن القول بأن الوحدة السياسية في قطر من الأقطار تفرض أن يتْسم بوحدة اجتماعية؟
إننا نعرف أن أهل مصر يختلفون في كثير من العادات والتقاليد باختلاف المناطق، ولو شئت لقلت أن عندنا مِصرَين: مصر الشمالية، ومصر الجنوبية؛ ولكل ناحية من هاتين الناحيتين خصائص ومميزات تتمثل في أشياء كثيرة منها طرائق التعبير وأساليب الغناء.
ونعرف أيضاً أن فرنسا تنقسم إلى أمم وشعوب بالرغم من وحدتها السياسية، ولكل أمة من تلك الأمم مذاهب في العيش والتعبير، ولها كذلك أذواق خاصة في الطعام والشراب.
فإذا انتقلنا إلى العراق الذي نخصه بهذا الحديث لم نجده بدعاً بين الأمم والشعوب، وإنما نجده يتأثر في عاداته وتقاليده بما يخضع له من تيارات جوية واجتماعية واقتصادية.
وهل يمكن أن يتم التشابه بين أهل البصرة وأهل الموصل في كل شيء؟
إن الذي يطلب ذلك يصح في ذهنه أن يتشابه (الصعايدة) و (البحاروة) في كل شيء، وذلك غير معقول.
تقدَم الموصل فتروعك سنابل الحِنطة وهي تتموج في واسعات الحقول، وتقدَم البصرة فيروعك النخيل الذي يعد بألوف الألوف.
وتدخل بغداد فترى فيها سمات من الشَّمال وسمات من الجنوب.
فهل نستطيع بعد هذا التمهيد أن نجد صوراً خاصة من صور الحياة في بغداد؟
إن الصور التي تنفرد بها بغداد كثيرة جداً، ولكن كيف نبرز الملامح من تلك الصور الخصوصية؟
هنا أشعر بأن الوصف أصعب ضروب البيان، ولكني سأحاول رسم ما رأت عيناي من الصور البغدادية.
وأبدأ بالحديث عن أذواق أهل بغداد في تنظيم السهرات.
وكلامي في هذه القضية يحتاج إلى سناد مما قرأتم في كتب الأدب والتاريخ، وأنتم قد قرأتم أن البغداديين كانوا مولعين بالموسيقى والغناء. فاعرفوا اليوم أن هذه النزعة لا تزال حية في بغداد، ومن النادر أن تقوم سهرة بلا غناء.
ويظهر جمال هذه العادة اللطيفة إذا تصورتم ما يقع في دجلة أيام الصيف. ولدجلة من هذه الناحية منظر أخاذ حين تمسي ملعباً للسفائن الخفيفة الروح التي تحمل أفواج اللاهين واللاعبين وبأيديهم آلات الطرب وفي قلوبهم مشاعل الوجد المشبوب.
وأنتم تذكرون أن الجاحظ نص على استكراه المغنّي الوَسط فاعرفوا اليوم أن لذلك صلة بالحياة العراقية. فكل إنسان في العراق يرى من حقه أن يغني، وكان الأمر كذلك لان جو العراق يهيج الشجون. وقد حدثتكم مرة بأن العراق هو البلد الوحيد الذي لا تنقطع فيه الحمائم عن النواح.
ومن أجل هذا أيضاً نص أدباؤهم وفقهاؤهم على آداب الوجد والسماع والشراب، لأن
السهرات الوجدانية لها في ماضيهم وحاضرهم مكان ملحوظ؛ وهم يشدون إليها الرحال من أرض إلى أرض، وقد يتحملون في سبيلها ما لا يطاق.
ولكن ما هو الغناء الذي يميل إليه البغداديون في هذه الأيام؟
عندهم فن من الغناء يسمى الأبوذية، وهو في أغلب أحواله غناء حزين، ولكنهم مع ذلك يصطنعونه في الأفراح، والحجاز بين الفرح والحزن حجاز دقيق عند من يعرف أن العراقي حين يطرب قد تجود عيناه بالدمع السخين.
وقد كلفوا في الأعوام الأخيرة بأغاني أم كلثوم، كلفوا بها كلفاً شديداً جداً، وهم يعلنون عن سهراتها في جرائدهم بالمجان. ولشعرائهم في الهيام بأغاني أم كلثوم قصائد جياد.
ولا يبعد عندي أن يدّعوا نسبتها إلى العراق بعد حين، فأم كلثوم فيما يظهر سرقت حنجرتها من الحمائم الموصلية. والله أعلم!
ولم يكن أهل بغداد يطربون لاغاني عبد الوهاب. ولذلك سبب تحسن روايته في هذا الحديث.
كان عبد الوهاب زار بغداد في عهد الملك فيصل، طيب الله ثراه، وكان وقع في غلطة ذوقية ثار لها البغداديون، كان لقيهم بمظهر من الأرستقراطية لا يرتاحون إليه فانصرفوا عن أغانيه كل الانصراف.
ولكن تغير الحال حين رأوا فلم (يحيا الحب) فأحبوه إلى حد الجنون.
ويظهر إن السيدة التي غنت أنشودة البرتقال هي السبب في انجذاب البغداديين إلى عبد الوهاب، فتلك السيدة عراقية الملامح وهي تشبه ليلى في تقاسيم الوجه ورخامة الصوت.
أترك هذا وأنتقل إلى صورة ثانية
قلت مرة إن أنهار العراق مسمكة جداً، فاعرفوا اليوم أن عندهم لوناً من الطعام هو السمك المسقوف.
والسمك المسقوف مشهور جداً في بغداد، وينص عليه في الدعوات كأنه من غرائب الأشياء.
ولكن السمك المسقوف له تقاليد يعرفها أهل بغداد، فهو لا يؤكل في كل وقت وفي كل
مكان، وإنما يؤكل بالليل وفي الفضاء.
وإنما سمي مسقوفاً لأنه يوضع فوق قضبان من الحديد ثم تشب من حوله النار فينضج بالحرارة، كما يصنع من يشوون اللحم في محل (الدهان) إن كنتم رأيتموه.
وفي دجلة جزيرة صغيرة ينحسر عنها الماء بعد الفيضان، وهم يسمونها جزرة، وأهل بغداد يختارون هذا المكان لأكل السمك المسقوف في ليالي الصيف، ويظهر أنه كان مجال اللهو والطرب منذ أجيال طوال، فهو يواجه الكرادة، والكرادة فيما يظن كثير من البغداديين محرفة عن كِلْواذ التي قال فيها أبو نواس:
قالوا تنسك بعد الحج قلت لهم
…
أرجو الإله وأخشى طير ناباذا
أخشى قُضيِّب كرم أن ينازعني
…
رأس الخطام إذا أسرعت إغذاذا
فإن سلمتُ وما نفسي على ثقة
…
من السلامة لم أسلم ببغداذا
ما أبعد الرشد ممن قد تضمنه
…
قطرُّ بلٌ فقرى بنَّا فكلواذا
والتي دعا عليها مطيع بن إياس فقال:
حبذا عيشنا الذي زال عنا
…
حبذا ذاك حين لا حبذا ذا
زاد هذا الزمان شرا وعسراً
…
عندنا إذ أحلنا بغداذا
بلدة تمطر الثراب على النا
…
س كما تمطر السماء الرذاذا
خُرِّبت عاجلاً وخرَّب ذو الع
…
رش بأعمال أهلها كلواذا
وقد دعيت ليلة لأكل السمك المسقوف في تلك الجزرة، وكانت سهرة لطيفة في ليلة قمراء، ويظهر أن النسيم أراح أعصابي فغلبني النوم ونحن عائدون في السفينة، ثم استيقظت مذعوراً على صراخ النساء فظننت أن السفينة أشرفت على الغرق، ثم ظهر أنها اصطدمت بالارض، فضحكت وحمدت الله على النجاة!
وإنما نصصت على هذه الصورة لتعريفكم بأن لأهل بغداد ألواناً من الطعام تغاير الألوان المصرية، والفرق بعيد جداً بين ألوان الطعام في القاهرة وألوان الطعام في بغداد. والظاهر أن المائدة المصرية الحديثة منقولة عن المائدة التركية، ولا كذلك المائدة العراقية فلها مذاق خاص بأهل العراق، وربما كان لها اتصال بما يتذوق الفرس والهنود.
قد تقولون: ولكن أكل ما تختص به بغداد هو الطعام والشراب والغناء؟
إن قلتم ذلك فإني أجيب بأن لبغداد خصائص غير هذه الخصائص، منها الجد الرصين الذي يتمثل في تناول الحياة من نواحيها العنيفة في الكفاح والجهاد.
وأؤكد لكم أن البغداديين صبروا على ما لم يصبر عليه أصدق الرجال.
صبر البغداديين على بلايا كثيرة أخفها الأوبئة والطواعين، وصبروا على مكاره الدهر وتصاريف الزمان.
والبغدادي له لحظات بؤس يواجه فيها نفسه وهمومه ورزاياه، والشعور بالكرب هو أخص ما يلازم البغدادي حين يجلس وحده في المقهى أو في البيت، وهذا الحزن القاتل الذي يساور أهل بغداد من حين إلى حين هو الذي يجعلهم أقرب الناس إلى الغريزة الإنسانية، وهل يسيطر الحزن إلا على كبار القلوب؟
وأعيذكم أن تظنوا ذلك الحزن علامة من علامات اليأس. لا فالبغدادي يأنس بحزنه ليتخذ منه ذخيرة لمواجهة الخطوب. وما عرف البغداديون مواقع النصر في التاريخ إلا في أعقاب الأحزان.
وتفسير ذلك سهل: فالحزن الموجع هو الذي يحمل الرجل على أن يستيئس فيستقتل ويستميت.
والحق أن البغدادي يسرف في الفرح ويسرف في الحزن، ومن هذه الطبيعة المزدوجة استطاع البغداديون أن يكونوا من أسمح الناس وأشجع الناس.
وما وقع بصري على رجل من أهل بغداد إلا تألمت وحزنت، لأني أرى الدهر طبع على وجوههم سمات الحزن الدفين، ثم يخف ألمي وحزني حين أتذكر أن تلك الوجوه الشواحب تعرف كيف تصبر على مواجهة الخطوب.
وما كانوا جميعاً مكروبين ولا محزونين، ولكن الأقدار أبت أن تسبغ عليهم ثوب الصفاء، ليكونوا كأشجار البادية التي تقاوم العواصف وتصبر على الضمأ والقيظ بلا توجع ولا أنين.
ولكن ما هي الصور التي يدفع بها العراقيون تلك الموجعات؟
للعراقيين أساليب كثيرة في جلب المسرات إلى قلوبهم، منها الاشتغال بالفروسية والتأهب للحرب، فمن أعظم الملاهي عند الشبان العراقيين في هذه الأيام أن يكونوا طيارين وجنوداً
وضباطاً في الجيش، ويظهر هذا اللون من اللهو في أجمل مظاهره حين يُستعرَض الجيش أو حين يقوم سباق الطيران.
وما أقول إن هذا النوع من أنس النفس بمظاهر القوة خاص بالعراق، لا، فهو موجود في كل أرض، ولكن إقبال العراقيين عليه يتْسِم بسمات من الروعة توحي إلى من يراه أنه من خصائص أهل العراق.
ومن كان في ريب من صدق هذه الحقيقة فليتصل بالراديو العراقي مرة ليسمع بعض الأناشيد الوطنية أو العسكرية، فإن فعل فسيعرف أن الحماسة في صدور الشبان العراقيين حماسة رائعة جداً، وأنها صادقة كل الصدق لا تكلف فيها ولا افتعال.
ومن هذه النزعة نشأ عند العراقيين عيب جميل هو الغرور القومي، فالعراقيون يعتقدون اليوم أن جيشهم أقوى جيش في الشرق، ويندهشون حين يسمعون أن مدرسة الحربية في القاهرة أعظم من المدرسة العسكرية في بغداد. وقد نشرت إحدى جرائدهم مرة أن مصر أوفدت أربعة شبان ليتعلموا في المدرسة العسكرية عندهم، فصدقوا الخبر وعلقوا عليه في المجالس والأندية والجرائد.
وترجع هذه السذاجة الطريفة عند الجمهور العراقي إلى منزع جميل هو قوة الروح المعنوي هناك.
وهذا الروح تمده روافد كثيرة في العراق يصدر بعضها عن المدارس وبعضها عن الجمعيات والأحزاب.
ويجب أن أنص في هذا الحديث على ظاهرة نفسية كاد ينفرد بها العراق، وهي إلحاحه على وجوب الإسراع في تكوين الوحدة العربية، فهم يتكلمون ويخطبون ويكتبون كل وقت في تأييد هذه القضية، ويتمنون على أسلوبهم في السرعة أن يتم ذلك بعد يوم أو يومين.
وهذه الظاهرة تفسر ظاهرة أخرى لا يفطن إليها كثير من الناس.
وبيان ذلك أن الصحافة العراقية لا تملك حرية التعبير في كثير من الأحيان.
والذي تصل إلى أذنه أخبار القيود التي تعانيها الصحافة العراقية يتوهم أن العراق يعيش في ظل الجور والاستبداد.
والواقع غير ذلك. الواقع أن الحكومة العراقية تعرف الفورات التي تصطرع في أنفس
الشبان، وتعرف أنهم يتسامون إلى أغراض لا تتحقق في عام أو عامين، فترى من الواجب أن تحمي أولئك الشبان من النزعات المتطرفة التي يخرج لهيبها من الجرائد والمجلات.
والواقع أيضاً أن حرية الصحافة في مصر تؤذي كثيراً من أهل الشرق، فهم يتوهمون أننا صرنا أعظم منهم لأننا نملك من الحرية الصحفية ما لا يملكون، ولو أنهم تدبروا لعرفوا أن حرية الصحافة في مصر لا تؤذي أهل مصر إلا قليلاً، لأن المصريين عرفوا مصايرهم السياسية والاجتماعية منذ أعوام، وهم لا يستوحون الجرائد في كل وقت، ولا ينزعجون حين يقرءون غرائب الاتهامات في الجرائد والمجلات بفضل ما درجوا عليه من نقد الأخبار والأحاديث.
وهذا الذي أقوله يفسر الخبر الذي قرأته في جرائد العراق منذ أسابيع، فقد أصدرت وزارة المعارف العراقية منشوراً يحرم على المدرسين أن يتعرضوا لغير الشؤون العلمية في ساعات الدروس.
وليس في هذا المنشور شيء من الغرابة، لأن المدرسين ممنوعون من الخوض في السياسة في جميع البلاد، ولكن تأكيد هذا المعنى من وقت إلى وقت شيء يحتاج إليه المدرسون في العراق.
قد سمعتم أشياء كثيرة عن العراق في هذا الحديث، منها الجِد الصارم ومنها المزاح المقبول، فاسمحوا لي أن أضيف إلى الصور السوالف صورة أجمل وأروع، وهي اهتمام أهل العراق بأخبار أهل مصر وشغفهم بأن يسمعوا ما يسرهم عن هذه البلاد.
فمن تقاليد الشبان والكهول في العراق أن يقرءوا المجلات المصرية وأن يستمعوا ما يلقى في الإذاعة المصرية، ومنهم من يعرف تخطيط القاهرة وإن لم يرها مرسومة في خريطة لكثرة ما يتأثر بالأوصاف المبثوثة في الجرائد والمجلات.
إن الشبان في العراق يتأثرون خطوات إخوانهم في مصر ويتمنون لهم المزيد من نعمة الصحة والعافية.
فيا أبناءنا في المدارس المصرية، تذكروا، ثم تذكروا
تذكروا أن لكم إخواناً في الأقطار العربية والإسلامية، وهؤلاء الإخوان يسألون عنكم في كل وقت، ويتمنون أن تتسع آفاق أذهانكم فتعرفوا أنكم لستم غرباء في الشرق، وأن الفتى
منكم إذا شرَّق وجد أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان.
إن الشرق يدعوكم إلى أن تتعرفوا إليه كما يتعرف اليكم، فليكن من أمانيكم أن تزوروا الحواظر العربية والإسلامية وأن تعقدوا صلات المودة والإخاء مع إخوانكم في الشرق.
تذكروا يا أبناءنا في المدارس المصرية أن الوطنيَّ الصادق هو الذي يخلق لوطنه صداقات ومودَّات، فكونوا أوفياء لهذه المعاني في خدمة الوطن الغالي.
والله يتولاكم برعايته، ويسبغ عليكم ثوب العافية في العزائم والضمائر والعقول.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
-
الحقائق العليا في الحياة
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان
بقية الحديث في مصير الإنسانية
إن مصير الإنسانية ليس بالأمر الذي يمر عليه القلم بدون إلحاح في تركيزه في العقول وتبيين آثاره في الحياة وفي النفس. إنه الحياة كلها في رأي الدين، والعدم كله في رأي الإلحاد. وشتان بين الحياة كل الحياة، والعدم كل العدم فيما وراءهما من آثار! شتان بين أن يعتقد الإنسان أنه جنين في بطن الدنيا سيولد منها ولادة ثانية، وبين أن يعتقد أنه سيخرج منها سقْطاً مَسْبُوتاً هالكاً إلى غير رجعة! إنها مسألة عظمى في قيمة الإنسان وفي سكينته واطمئنانه إلى مركزه في الحياة.
إن الإنسان العادي غير الصوفي لا يحتمل أن يتلقى القول بأنه مخلوق للحياة هنا فقط، دون أن يثور على الحياة أو يقنط قنوطاً قاتلاً لحيويته.
لقد وصل القول عند بعض الفلسفات إلى اعتبار الإنسان مظهر الإلهية أو شرارة من روحها! فكيف إذاً ينطمس هذا المظهر، أو تنطفئ تلك الشرارة؟
ثم لنرجع إلى ما يثبته العقل للخالق من حكمة وعدل تقتضيهما ضرورة الكمال الإلهي الذي لا يستطيع العقل أن يستغني عنه كصفة ثابتة للإله، فنتساءل: هل في الدنيا مع آلامها وشرورها عدل مطلق؟ يجيب المؤمن والملحد عن ذلك جواباً واحداً: كلا! ثم يفترقان، فيذهب المؤمن إلى أن كمال العدل المطلق وراء هذه الحياة، في تلك الحياة المثالية التي فيها كل خيالات الكمال وأطياف السعادة التي طافت بأحلام كل الناس وسكنت رؤوس الفلاسفة والحكماء، أوجدها في نفس الإنسان إلهام عميق خفي لتتم الصورة العقلية للكمال الإلهي. وفي هذه المقدمات وفي نتائجها المستمدة من منطق الطبع ومنطق التجريد راحة النفس المؤمنة وسكونها وطمأنينتها.
أما النفس الملحدة فماذا عساها أن تصنع غير طيران خواطرها في فراغ لا قرار له؟ إنها
لا تملك أن تسقط على قرار حتى تتحطم فتستريح! ومِلاكُ ما تنتهي إليه إن حياتها كحياة تلك الحشرات والديدان التي (تعيش) على الروث والعفونة في الظلمات ثم تموت عليها وتدفن فيها! ولْتَحْيَ بعد ذلك السموات أو فلتسقط! ولتكن هذه العوالم الزاخرة بالعلوم والجمال والعجب العجاب لتراها فقط أشباح تلك الحشرات الصغيرة والكبيرة من بُعْدٍ فتقتل غيظاً كل يوم ألف مرة ثم تذهب إلى غيبوبتها الكبرى مع الجمادات كما كانت! والحياة إذاً بلا قصد أو غاية، والرؤوس الإنسانية إذاً تفرز التفكير كما تفرز الكبد الصفراء، أو كما يفرز ذيل العقرب السم!
سلام لك أيتها النفوس المعذبة مما أنت فيه وإنه لعذاب غليظ!
إن الإلهام الذي فيك من الخالق يناديك: أنت المقصودة بالخلق في الأرض. . . أنت خالدة. . .
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولكم الويل مما تصفون)
ثم مادام كل ما في الفلسفة فروضاً لا تدخل في قليل أو كثير إلى العلم اليقيني، فما بالنا نترك الإيمان بوجود مصير رفيع للإنسانية على أنه فرض فلسفي؟ إنه أصح الفروض وأصلحها للحياة الدنيا وادعاها إلى الإصلاح المستمر المخلص.
وهنا دليل ينبع ويستنبطه العقل من بين ما أقول: ذلك أن أقرب الفروض إلى الحق في الدنيا هو ما يدعو إلى صلاحية النفس للحياة وإصلاحها لها، وما يحل به أكبر مقدار ممكن من المشكلات، وما صح تطبيقه على وجه الشمول بين الناس في كل مكان وزمان. ذلك مبدأ تسلم به الفلسفة والعلم ومذاهب الأخلاق.
ومصير الإنسانية إلى حياة أخرى أسمى من هذه الحياة هو ذلك الفرض الذي ينطبق عليه ذلك التعريف السابق، هو لا غيره.
وقد عودتنا الحياة المدنية أنها لا تحترم ولا تبقى إلا ما يتفق مع حفظ قوانينها ويضمن اطراد تقدمها. فمتى خلينا الدنيا من هذا الفرض أمام الإنسان فهنالك تكون الحالفة: حالفة
العمران. وإذا كانت معرفة مثل الزهاوي أن الإنسان لا يأتي إلى هذه الدنيا مرتين قد حملته على أن يطلق لنفسه العنان في اقتراف اللذات ويدعو إلى ذلك فيقول:
لا تقف في وجه لذا
…
تك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دني
…
اك هذى مرتين
فما بالنا لو عرف الناس أنهم لا يأتون إلى دنياهم ولا يذهبون إلى مصير آخر؟ إنهم يفعلون كل جريمة للذة وانتهاز فرصة الوجود الواحد في هذه الحياة التي ليست حينذاك إلا وليمة أدبها لنا القدر لنتلذذ ونتشهى فيها كما قال الأول:
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار
وحق لهم أن يفعلوا ذلك!
ينبغي أن تعلم وتتذكر دائماً أن (إرادة الحياة) إنما تحفل غاية الاحتفال بعقليات أكثرية الإنسانية لا بعقليات هؤلاء الفلاسفة المسرفين، وقطيع الإنسانية يسير بإلهام مركب كما تسير قطعان الحيوانات الأخرى بالهام بسيط، وإذا كانت قطعان الحيوان لا تحتاج في حياتها إلى فلسفة لأنها تسير بنظام أشبه بالنظام الآلي فإن الإنسانية تحتاج في سيرها في الحياة إلى الفلسفة ولكن من غير إسراف. فلا يفرضن حكيم أو فيلسوف شذت فيه شعلة الخيال والذكاء وقوة الافتراض عقله وطريقة إدراكه للأشياء على جميع عقليات الإنسانية المرهونة بالبسائط والسجينة في أقفاص فولاذية من الضرورات الجسدية. وقد دلت الإنسانية بتاريخها العتيد أنها لا تستجيب لخيال الفلاسفة المسرفين إلى درجة الهذيان أحياناً. ومن مصيبة بعض الفلسفات أنها تتخذ الشك ديناً؛ والشك حسن على أنه باب إلى اليقين عند من في عقولهم محطات ورباطات تقفهم عند البديهي، لا على أنه حالة استقرار فإنه حينئذ يُجِنُّ ويشقى ويشرد العقل الإنساني وينفيه من حياة الإلهام البسيط والمركب، وكل شيء في الحياة لغز وأُحْجِية من ذرة المادة وصورها وتكوينها وطاقتها وقواها إلى الروح وأسرارها وخفاياها. كل شيء يحمل كل عقل بصير يقظ على أن يقف أمامه دائراً بأسئلة عنه لا عدد لها، وقد نقلنا في مقال (النار المقدسة) المنشور في عدد سابق من الرسالة عن (ملكن) العالم الكهربائي الكبير قوله:(خبروني ما هي المادة؟ أخبركم ما هي الروح. . .)
وقد خابت الفلسفة اليونانية في أن تخرج ديناً عاماً يتبعه جميع اليونان، دع عنك أكثر الناس. وكانت كل مدرسة من مدارسها لا تظفر إلا بعدد محدود من التلاميذ لا يلبثون أن يتفرقوا بعد موت أستاذهم أو في حياته، من غير أن تقدم إحدى تلك المدارس إلى الناس وازعاً يقوم مقام وازع الوثنية التي كانت تضج بها معابدهم. ولا يزال (العقليون) خائبين في إيجاد ذلك الوازع الأدبي الذي يحكم الجماعة من الداخل كما تحكمها القوانين من الخارج. ذلك لأن الإنسانية ممدودة بالإلهام الذي يربطها بما وراء الطبيعة. ولن تستغني عن وازعه بما تقدمه لها العقول؛ إذ هي من جهة حائرة في أي العقول تتبع، ومن جهة أخرى هي لا تؤمن بما تصنعه هي، ولا تعتمد عليه في رغبتها ورهبتها. وما تقدمه إليها العقول مصنوع مخلوق أمامها فهو أرضى ضعيف غير ممدود بما وراء الطبيعة، فلا يعزى ولا يخيف ولا يرغب.
وهذا هو ما يسلمنا إلى الحديث عن (النبوة والرسالة) ووجوبهما. والعمدة فيهما على معرفة (الوحي) وقد خرج الحديث عن الوحي من منطقة الفلسفة إلى منطقة العلم بالبحوث العلمية الأخيرة في النفس الإنسانية وقواها وأسرارها. وهي بحوث مبنية على التجارب التي هي أداة (العلم) بمعناه الاصطلاحي الآن.
الرستمية
عبد المنعم خلاف
أمر؟!!
من زينب الحكيم إلى توفيق الحكيم
هناك في حلوان على يسار الداخل إلى الجهة اليمنى (الشرقية) من الحديقة (اليابانية) يرى الزائر: جانباً من الحديقة منسقاً بفكرة خاصة؛ حيث هيئت بركة مائية على شكل حدوة الحصان من قاعها، وينتهي وسطها بزاوية حادة من أعلى حواشيها.
وأقيم كشك على شكل مظلة، على الأرض التي تتوسط البركة من الطرف المفتوح من الحدوة، وقد زين هامشها بالزهور وسياج من السلك الشائك. ووضع تحت المظلة مقاعد خشبية، جلست على مقعد منها، بحيث أتمكن من رؤية البركة كلها وما يحيط بها.
نسق هذا الجزء من أرض الحديقة، على شكل سهل يرتفع بالتدريج، إلى ربوة منحدرة خضراء، شيدت على قمتها مظلة مثل التي أجلس تحتها. أما حواشي البركة فترتفع من الجهة اليمنى، وتنخفض من الجهة اليسرى تبعاً لطبيعة ذلك الجزء من الأرض. وأقيم على حافتها من الجهة الشمالية الشرقية، عدة تماثيل طوبية اللون (أي أشبه بلون طوب البناء الأحمر الضارب إلى الصفرة).
والذي استرعى انتباهي هو اتحاد جميع التماثيل في الشكل والنوعية والفن. ولم يشذ منها إلا تمثال واحد، تبينت أنه لسيدة، وهو أكبر حجماً.
أحصيت تمثال الرجل الواحد فوجدتها ثمانية وأربعين تمثالاً، صُف ستة عشر منها على حافة البركة اليمنى، ثم يأتي تمثال السيدة، ويتبعه على الجهة ذاتها اثنا عشر تمثالاً يقع موضع آخر واحد منها في وسط هامش البركة. ثم يتبعه في اتجاه مقابل من الجهة اليسرى عشرون تمثالاً.
ما عسى أن يكون المعنى الذي يشير إليه هذا الوضع؟ إنه يشبه مجلساً ملكياً ترأسه ملكة وهؤلاء مستشاروها. لكن الغريب في هؤلاء المستشارين أنهم جميعاً سواسية في الجلسة والهيئة والسحنة والرداء وكل شيء، حتى تلك الدائرة الصغيرة البارزة الموضوعة على جباهها. ورءوسها كلها عارية خالية من الشعر، أما رأس الملكة فتغطيه جدائل سميكة من الشعر، مصففة بشكل يحيط الرأس ويغطي الجبهة حتى تلك الدائرة الصغيرة البارزة في وسطها.
عجيب هذا - وما معناه -؟ الكل يرتدي ثوباً منسدلا منسجما عليه بنظام واحد كون شبه قلادة حول العنق تتدلى إلى الجزء الأعلى من البطن، أما عند السيدة فتنحدر قليلاً إلى أسفل. ووضعت اليدان متقابلتين على الحجر فوق الركبتين، والراحتان منقبضتان في يسر، والإبهامان ملتصقين، وشكلها كما لو كان الإنسان يفكر في شيء مهم يشغل كل انتباهه وجميع حواسه. فالتماثيل كلها مسبلة الجفنين، مطبقة الشفتين، تومئ قليلاً إلى أسفل، وتتجه جميع الوجوه إلى الأمام.
عجيب هذا الأمر الذي جعل من تسع وأربعين شخصية مختلفة شخصية واحدة، كأنما تنازلت عن ذواتها في سبيل هذا الأمر الواحد، فظهرت كلها متحدة متشابهة! أو لعلها شخصية واحدة نحت لها ثمانية وأربعون تمثالا وراءها تمثال لسيدة لا يختلف عنها كثيراً!
وأنت أيتها السيدة، منصرفة إلى تفكير عميق مثلهم، لا تمتازين إلا بشيء آخر غير الشعر، وهو أن يديك وإن كانتا تشابهان باقي الأيدي في وضعها إلا أنهما شاذتان عنها في نوع القبضة وتقابل الإبهامين، حيث يدل منظرها على تمسك برأي أو بمبدأ. وكأنما تعرضين هذا الأمر على مجلسك فيقبله مستشاروك بروح سلام وإعمال فكر، بدت آثاره على محياهم، وانصرف جميعهم إلى التفكير العميق فيه بلا انقطاع؛ ويلوح أن الكل مشبع بروح الود والإخلاص والتضحية، والرأي لم يبرز نتاجه بعد، ولم يتم حكمه.
ترى ما هذا الأمر الذي لا يترك أثراً للتأفف على الوجوه، ولا على السلوك؟!
هاهي ذي الشمس تشع، ويسطع نورها على التماثيل التسعة والأربعين فيعمل اختلاف مسقط الظل عمله، فتظهر التماثيل المتحدة، بأشكال وسمات مختلفة؛ وبذلك تنعكس طبائع النفوس على حقيقتها وإن اتسمت كلها بسمة واحدة ووضع واحد ونوعية واحدة في ظاهرها. إن فن المنظور يحتم تضاؤل أو تعاظم هذه التماثيل بالنسبة لارتفاع المواضع أو انخفاضها، وبالنسبة لبعدها أو قربها. وهاهي ذي عين الإنسان، تتغير نظرتها وتتبدل، بالنسبة لهذه التماثيل مرات في وقت قصير.
الشمس تحجبها السحب، فيظهر المنظر كله من نوع آخر ومعنى آخر. وإذا ماء البركة الذي كان يتماوج ويوحي الفلسفة، ويدعو إلى التفكير ويستلهم منه مجلس التماثيل الاستشاري الصامت إلهامه من لحظات مضت - قد تسرب، وظهر قاع البركة جافاً، إلا
من بضع نقر بها أوشال من الماء هنا وهنا. ولكن التماثيل لا تزال هي هي، في وضعها وسماتها، تومئ إلى تلك البركة في رخائها وجدبها، وارتفاعها وانخفاضها، وطهرها وأسنها.
وعقلية تلك التماثيل ومنطق وضعها الدال على فكرة خاصة ومقصد مبهم، لا تزال جادة في تفكيرها وتدبيرها لذلك الأمر الواحد.
ترى ما هو؟!
الطبيعة الصامتة تكوّن بيئة فخمة لذلك المجلس الصامت. العشب الزبرجدي يكسو الربوة العظيمة التي خلف الملكة وحاشيتها من الناحية اليمنى، والشجيرات الأرجوانية الزهر، نامية رابية وراء الصف المقابل من التماثيل في الناحية اليسرى، ويهتز مع النسيم ورق وغصون الأشجار العالية خلفها جميعاً، والشجيرات الخضراء التي بين كل تمثال وآخر، تحمل قليلاً من الزهر الأبيض النقي، يضع أوسمة على صدور بعض التماثيل، وتمسح غصون لطيفة خضراء على رؤوس البعض الآخر أو تظللها.
ويحجب بعض التماثيل كلها أو أجزاء منها عن ناظري الأشجار المشذبة المتناثرة هنا وهنا؛ والطيور تحلق وتغرد، وتهبط وتصمد، والزوار يغدون ويروحون منهم المفكر واللاهي، والمستشفي والساعي، ومنهم الطفل ومنهم الكهل.
كلها مناظر وأوضاع تستدعي الانتباه واليقظة، ولكن يخرجني من هذا كله صوت ذلك الناقوس البعيد، فأنظر إلى السماء فإذا بها السماء بزرقتها وسحبها وطيورها، وانظر إلى الأرض، فإذا بها الأرض بترابها وأحجارها، ومائها ودوابها وأشجارها.
وأنظر إلى ما حولي، فإذا بي أرى المجلس الصامت بين الطبيعة الصامتة، والكل وراء أمر غامض.
ترى ما هو؟!
وأنظر أخيراً إلى ساعتي، فإذا بها الواحدة، ووقت الغداء في الفندق قد حان، فأنصرف مسرعة إلى الحياة العملية التي لا نصيب منها إلا كسرة بها نقتات، وخرقة بها نحتمي.
أما التفكير، وأما الفلسفة، وأما التصوير - فليغير هذا العالم.
زينب الحكيم
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 16 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (رداً على بولوس الذي سلم بقول سقراط) ولنأخذ الآن الحالة المضادة، ولنفرض أنه يجب أن ننزل شراً بأحد من الناس عدواً كان أم غير عدو، وإنما على شريطة ألا نكون قد أُصبنا منه بسوء - إذ يجب أن نحذر من ذلك تماماً - فإذا كان إذاً غيرنا هو الذي أُصيب منه، فيجب أن نبذل كل الجهود الممكنة من أعمال وأقوال حتى لا يعاقب ولا يمثل أمام القاضي، وإذا هو قُدِّم إلى المحكمة فيجب أن يعد السبيل لفراره وعدم عقابه، بحيث لو كان قد سرق كمية كبيرة من الذهب فإنه لا يعيدها إلى صاحبها بل يبقيها وينفقها على نفسه وأتباعه بطريقة ظالمة جاحدة، وبحيث لو كان قد استحق الموت بجرائمه فإنه ينجو منه، بل إذا أمكن ألا يموت أبداً وان يخلد برداءته وشره، أو إذا أمكن على الأقل أن يعيش إلى أطول حد مستطاع بحالته تلك - فليكن له ذلك. . .!
تلك يا بولوس هي الغايات التي يلوح لي أن البيان يستطيع أن يخدمها لأني لا أراه يقدم فائدة كبيرة لذلك الذي لا يستطيع أبداً أن يرتكب ظلامة ما، إذا صح أن يقدم له أية فائدة! وقد رأينا في مناقشتنا السابقة أنه (أي البيان) لا يصلح لشيء.
ك - أخبرني يا شيريفين! أترى سقراط جاداً فيما يقول أم هو يهذر؟
ش - يلوح لي يا كاليكليس أنه جاد كل الجد، ولكن ليس أفضل من أن توجه إليه سؤالك.
ك - وأنا أرغب في ذلك كل الرغبة وحق الآلهة! أخبرني يا سقراط: أيجب أن نعتقد أنك كنت جاداً طوال هذه اللحظة أم كنت تهذر؟ ذلك أنه إذا كان كلامك مقصوداً، وإذا كان قولك حقاً، فإن حياتنا الاجتماعية لا شك معكوسة، وإنا لنفعل - فيما يلوح - نقيض ما يجب أن يفعل!
ط - إذا لم يكن الناس يا كاليكليس خاضعين لأهواء واحدة وكان لهؤلاء اتجاه ولأولئك اتجاه آخر، بل وكان لكل منا هواه الخاص الذي لا يتصل بأهواء الغير، فإنه لا يكون سهلاً ولا ميسوراً أن نجعل الغير يدرك ويفهم ما نشعر به، وإذا كنت أقول ذلك فإنما أقوله لأني قد لاحظت أننا الآن - أنت وأنا - في نفس الحالة، فنحن الاثنين عاشقان لموضوعين اثنين، أنا (لألسبيادبن كلينياس) والفلسفة؛ وأنت (لديموس) الأثيني (ولديموس بن فيريلامب) ولذلك أتخيل دائماً أنه بالرغم من فصاحتك الخاصة، فإن كل ما يقوله موضوع غرامك وهواك وأي نحو يري به الأشياء، لن يجد منك القدرة على مناقضته! بل إنك سوف تترك نفسك كالريشة في مهب أفكاره، بحيث لو قد بسطتَ في الجمعية العمومية فكرة ما، وقام (ديموس) الأثيني يعارضها، فإنك ستتركه يفعل ما يشاء، وستعدل من لهجتك تبعاً لأهوائه؛ كما إنك قمين بأن تفعل مثل ذلك إزاء هذا الفتى الجميل ابن (فيريلامب)! ذلك لأنك يا كاليكليس في حالة لا تسمح لك بمعارضة رغبات وأقوال محور عشقك وهواك، بحيث إذا دُهِشَ بعضهم وبُهت في كل مرة تتكلم فيها، وساير أقوالك فوجدها سخيفة معتلة فإنك ستستطيع أن تجيبه - إذا أردت أن تقول الحق - بأنه إذا لم يمنع أحد (غرامك) من أن يتكلم كما يتكلم، فإنك لن تستطيع أن تمنع نفسك من أن تقول ما تقول! فقل لنفسك إذاً إنها يجب أن تنتظر نفس الإجابة من ناحيتي. ولا تعجب من الأقوال التي سأقولها، ولكن أرغم - (إذا استطعت) - موضوع حبي - (وهو الفلسفة) - على أن يكفَّ عن قول ما
يقول! إنه هو في الحقيقة يا صديقي العزيز الذي يقول من غير توقف ما تسمعني أردده في هذه اللحظة، وإنه لأقل تغيراً بكثير من موضوعات غرامي الأخرى؛ لأن (ابن كلينياس) يتكلم أحيانا بطريقة أخرى، بينما لا تتخذ الفلسفة دائماً إلا قولاً واحداً؛ إنها هي التي نطقت بالأقوال التي أدهشتك، والتي ساعدت بنفسك في مناقشتها؛ وأكرر أنها بالتالي هي التي عليك أن تناقضها، فبرهن إذاً على أن ارتكاب الظلم والعيش بعد ارتكابه دون عقاب ليس بأفدح الشرور؛ وإلا فإذا تركت ذلك القول دون أن تنقضه، فإني أقسم لك (بالكلب) إله المصريين يا (كاليكليس) أنك لا تتفق مع نفسك، وأنك تعيش معها في اضطراب دائم؛ وأنا أفضل من ناحيتي يا صديقي الحاذق أن تكون لي ربابة غير متوافقة الأوتار وكلها نشوز، أو أن أكون رئيساً لفرقة مغنين مضطربة الأصوات، أو أن أجد نفسي معارضاً ومناقضاً لأغلب الناس، على أن أكون مختلفاً فقط مع نفسي ومناقضاً لها.
ك - يبدو لي يا سقراط أنك تبدع في كلامك كما يبدع الخطيب الشعبي؛ وإنك لتخطب هكذا لان بولوس قد أصيب بنفس الغيبوبة التي قد اتهم جورجياس بإصابته بها حيال أقوالك. والحق أن بولوس كان محقاً في قوله إن اعتراف جورجياس - عندما سألته أنت هل سيعلم (العدالة) لذلك الذي سيقصد إلى مدرسته راغباً في تعلم البيان دون أن يعرف شيئاً عنها، وأجابك هو بأنه سيعلمه إياها جرياً وراء خجله الكاذب، وخوفاً من أن يصدم آراء أتباعه السابقة الذين كانت ستغضبهم أية إجابة غير هذه - أقول الحق بأن بولوس كان محقاً في قوله. إن هذا الاعتراف جعل الرجل يتناقض مع نفسه ويحقق ما كنت تبغيه منه تماماً؛ ولكن هاهو ذا بولوس قد أصبح بحق (أيضاً) موضع سخريتك فيما يلوح لي، وذاك هو السبب الذي جعله يضع نفسه موضع جورجياس: فإني لم أرض من ناحيتي عن موافقته لك على أن (الأقبح) هو ارتكاب الظلم لا احتماله: لأنك استطعت بعد ذلك التنازل منه عن رأيه أن تعرقل مناقشته بتدليلك، وأن تقفل فمه فلم يجرؤ على الكلام متابعاً رأيه، والواقع أنك في الوقت الذي تزعم فيه وتؤكد أنك تبحث عن الحقيقة وحدها نراك تسلك مسلك الخطيب الشعبي المهرج وتوجه الكلام نحو (الجميل) لا تبعاً لأحكام الطبيعة، بل تبعاً لأحكام القانون، ولكن الحق أن الطبيعة والقانون يتناقضان في أغلب الأحيان، فإذا حدث وغلب الحياء على المتكلم فمنعه من التصريح بما يراه فإنه يضطره إلى مناقضة نفسه؟
وذاك هو السر الذي اكتشفته يا سقراط لتستعمله في نصب اشراكك وفخاخك في المحاورة، حتى إذا تكلم أحدنا مشيراً إلى القانون، سألته أنت بالإشارة إلى الطبيعة، وإذا تحدث عما هو كائن في نظام الطبيعة سألته مشيراً إلى القانون، وهكذا فعلت مثلاً في الظلم المرتكب والمتحمل، إذ بينما كان بولوس يتكلم عن الأقبح تبعاً للقانون، كنت أنت تتابع المناقشة مشيراً إلى الطبيعة، لأن كل ما هو (أردأ) في نظرها هو أيضاً (الأقبح) مثل احتمال الظلم، بينما (الأقبح) تبعاً للقانون هو (الارتكاب) لا الاحتمال، والواقع أنه ليس من طبيعة الإنسان الحر أن يحتمل الظلم، وإنما ذلك من طبع العبد الذي يرى أن الموت أفضل من الحياة، والذي يؤثر ألا يدافع عن نفسه وهو محتقر مكلوم، وألا يدافع أيضاً عمن يهمه أمرهم؛ ولكني أرى أن الضعفاء والسواد الأعظم هم الذين سنوا القوانين! وهم لذلك قد جعلوها لأنفسهم ولمصالحهم! لهذا تراهم لا يوزعون ثناءهم ومديحهم، أو لومهم وعتابهم، إلا من أجل ذلك الصالح الخاص ولكيما يخيفوا الأقوياء - وهم أولئك الذين يستطيعون أن يعلوا عليهم - ولكيما يحولوا بينهم وبين ذلك العلو، تراهم يقولون أن الظلم والعار في الطمع فيما هو أكثر من نصيبك، وإن الظلم إنما يقوم في الرغبة في امتلاك شيء أكثر مما يمتلك الآخرون؛ وإني لأتخيلهم يرضون ويقنعون بأن يكونوا على قدم المساواة مع من هم أفضل منهم! وذلك هو السبب في أنهم يقررون في عالم القانون أن الطمع في إحراز ما هو أكثر من النصيب العام للأفراد ظلم وقبح! بل ذلك هو ما يسمونه (بالظلم)! ولكني أرى أن الطبيعة نفسها تعلن أن العدل إنما يقوم في أن ينال الأحسن أكثر من الأسوأ، والقوي أكثر من الضعيف، وإنها لتقدم لنا ألف مثال لتثبت أن الأمر كذلك، لا في عالم الحيوان فحسب، بل في النوع الإنساني أيضاً بين المدن والأجناس جميعاً، حيث نستطيع أن نتبين أن العدالة تبغي أن يسود (الأقوى) على (الأقل قوة) وأن ينال نصيباً أوفر من نصيبه. فمثلاً بأي حق في الواقع قام بالحرب في بلاد الإغريق؟ وبأي حق قام بها أبوه في هذا إذا تركنا الأمثلة اللانهائية التي نستطيع أن نذكرها من ذلك النوع. إنهم يعملون فيما أرى تبعاً لطبيعة (الحق)! وقسما بزيوس، تبعاً (لقانون الطبيعة) الذي ربما خالف قانون الناس!
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
التعليم والمتعطلون في مصر
عيوب التعليم الحاضر وطرق إصلاحها
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
العيوب العامة
وجهنا عنايتنا في الماضي إلى نشر التعليم فقط بدليل البيان البليغ الذي نشره معالي هيكل باشا وزير المعارف الحالي في أول عهده بهذه الوزارة في مايو سنة 1938. ولقد قمنا بما قمنا به من نشر على أساس النظم القديمة من غير أن نعمل عملاً جدياً في سبيل إقامة التعليم على أساس جديد وطيد سداه المبادئ التعليمية الحديثة ولحمته القومية المصرية والطابع القومي، فالرجل المتخرج في إحدى المدارس القائمة منذ نصف قرن من الزمان إذا دخلها اليوم يرى الطابع القديم بارزاً بها، والروح القديمة متأصلة فيها، والنظام القديم قائماً بين جدرانها؛ ولا يرى التغيير إلا في إحلال مدرسين وتلاميذ حديثين بدلاً من غيرهم من القدامى. وليس معنى ذلك الثبات على تقاليد قديمة مألوفة، ولكن معناه مع الأسف الجمود على نظم بالية معروفة؛ ومعناه كذلك أن كل مدرسة مصرية سواء أكانت في قنا أو الإسكندرية تسير على وتيرة أختها في كل شيء بدون تبديل ولا تحوير مهما بعدت الشقة بينهما ومهما اختلفت ظروفهما ومهما تفاوتت بيئتهما، مما دعا المستر مان إلى القول في تقريره: (قد سبق توجيه النظر في الفصل الثاني المختص بإدارة التعليم العامة في مصر إلى خلو نظام التعليم العام من المرونة والتنوع. رأينا بعض ما ينجم من هذا الجمود من النتائج السيئة الأثر في التربية القومية، بيد أنه يستحسن أن نعيد القول هنا بأن كل مدرسة مصرية تماثل في الوقت الحاضر كل مدرسة أخرى من درجتها كل المماثلة التي يستطاع إيجادها بواسطة اللوائح والقوانين، وبأن نظار المدارس ومدرسيها يكادون يعدون بمثابة آلات لإنفاذ ما تفرضه الإدارة الرئيسية من خطط دراسية لم يشتركوا في وضعها، ولم يؤخذ رأيهم فيه إلا في حالات لا تكاد تذكر، وهذه الخطط تطبق تطبيقاً عاماً من الشلال إلى الإسكندرية على نمط واحد بدون أية مراعاة لمصالح التلاميذ وحاجاتهم المتنوعة وبغض النظر بتاتاً عما إذا كانوا من سكان الريف أو المدن وعما إذا كانوا سيحترفون في
المستقبل الزراعة أو سيزاولون التجارة أو الصناعة في المدن. ويجب أن نؤكد مرة أخرى أن مثل هذا النظام لا يحول فقط دون الانتفاع بخبرة النظار والمدرسين الفنية ومعرفتهم للشؤون المحلية في أغراض التعليم العامة، بل يمنعهم فعلاً من استخدام مواهبهم وكفايتهم استخداماً تاماً في إدارة مدارسهم بحسب ما تقتضيه أحوال البيئة ومرامي التعليم، لأنهم مهما رأوا في المنهج العام وخطة الدراسة وعدم الملاءمة لحاجات تلاميذهم الخاصة فإن واجبهم يحتم عليهم أن يتبعوها اتباعاً دقيقاً. أعود فأذكر أن ليس معنى ذلك الثبات على تقاليد معينة، إذ ليس لإحدى مدارسنا القديمة تقليد معين كتلك التقاليد المرعية التي يعرفها خريجو المدارس في إنجلترا مثلاً، ويفخرون بها، ويحافظون عليها. هذا والمعلم القديم الذي باشر العمل في المدارس المصرية منذ عشرين سنة ولا يزال يباشره إلى اليوم يشعر بالأسف العميق يملأ جوانح قلبه مما يراه اليوم من الانحطاط العام الذي أصاب حالة التعليم فيها ومن روح التواكل والتكاسل التي عمت أرجاءها؛ وهو لا شك يشعر بالأسف العميق أيضاً إذ يحس أن روح الجد والعمل من ناحية التلاميذ قد انقلبت إلى روح استهتار وقلة اكتراث وكسل يصحبها ميل شديد إلى الأخذ بأكبر نصيب من المتعة واللذة وحياة الطراوة والهزل حتى حار فيهم المربون وضاقوا بهم ذرعاً، واستولى اليأس من إصلاحهم على قلوب الكثيرين؛ وأصبحت الحالة لا تطاق بين جدران المدارس بسبب ما يوجد من الاستهتار والرعونة والخروج على المبادئ الأساسية المرعية بين التلميذ ومعلمه. وإن الفوضى التي تنتاب المدارس أحياناً وبخاصة في الأسبوع الأخير من العام الدراسي من خروج على النظام والآداب وإتلاف لبعض أثاث المدرسة مما يتناول كرامتها وكرامة أساتذتها، ولما تحزن له النفس ويهلع له القلب. وهذه حال ستؤدي حتماً إلى تدهور خلقي أشنع مما تقاسيه البلاد الآن إذا لم تجد اليد القوية الحازمة الرادعة التي تضع الأمور في نصابها فتعيد إلى المدرسة كرامتها، وتجعل أساس المعاملة بين التلميذ وأستاذه ومدرسته الاحترام الحقيقي المشوب بالعطف الأبوي يقابله في الوقت نفسه حب بنوي. وفي هذا يقول سعادة حافظ عفيفي باشا في كتابه على هامش السياسة (إما أسباب هذه الفوضى فهي ترجع إلى عدم تنفيذ القوانين المتعلقة بنظام المدارس تنفيذاً لا استثناء فيه. والى تركيز كل السلطة في وزير المعارف نفسه والى أخذ التلاميذ بسياسة مضطربة، فهي الشدة المتناهية أحياناً واللين
المتناهي أحياناً أخرى والذبذبة بين الشدة واللين في أكثر الأحيان. الخ) وبعد كلام طويل عن تعديل القوانين بما يضمن للطالب الحرية في حدودها المعقولة، وللناظر والمعلم التمتع بالاحترام الواجب قال (. . . أما أن يشير ناظر المدرسة على وزارة المعارف بأن تتخذ نحو تلميذ بالذات قراراً معيناً فترفضه الوزارة أو تعدله فهذا هو الوسيلة لإضاعة نفوذ ناظر المدرسة. وبالتالي هو السبب لإفساد النظام نهائياً فيها. . .)
فإذا كانت المدرسة قد جمدت في نظامها فإن التلميذ قد اندفع في حريته إلى الفوضى التي لا يقرها عدل ولا نظام. وخير علاج للحالة الأخيرة هو طريق الإقناع الفردي الودي المشوب بالعطف؛ فإذا لم يجد ذلك كانت الشدة واجبة كل الوجوب. ولا بأس من استعمال العصى أحياناً بيد عاقلة حازمة كما يجري في كلية فكتوريا وفي المدارس الإنجليزية البحتة وقت اللزوم اتقاءً للخروج على الآداب ودرءاً للخطر في المستقبل، متمثلين بقول الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً
…
فليقس أحياناً على من يرحم
أما العيوب الفنية العامة الأخرى بالمدارس المصرية فتتلخص فيما يأتي:
أولاً: خلق الطبقات
الطفل المصري الراغب في التعليم الآن يجد أمامه من المدارس المختلفة المراتب والأوضاع والمزايا روضة الأطفال، والمدرسة الالزامية، والمدرسة الأولية، وفرقة تحفيظ القرآن الكريم، والمدرسة الابتدائية، والمعهد الديني، والملجأ، والمدرسة الأجنبية، والشارع وهو أهمها الآن، إذ تجد به من الأطفال حوالي مليون ونصف المليون، بينما جميع المدارس السابقة الذكر لا يبلغ عدد من يؤمها اليوم المليون عدا. فهذه المدارس الشعبية الأولى المتعددة تخلق أول تصدع في بناء الأمة الواحدة لأنها تخلق نظام الطبقات المختلفة في جسم هذه الأمة ذات الدين الواحد والعادات المتحدة، واللغة الواحدة. وخلق الطبقات بين أمة هذا حالها لا يقره دين ولا نظام، فالديمقراطية تنفر منه كل النفور لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى الاشتراك في الميول والرغبات، ولا يمكن أن يؤدي إلى الاتحاد في الفهم العام، وهو أساس التفاهم بين الأفراد، فهو إذن ينزع إلى التفرقة الشاملة بين أفراد الأمة الواحدة، ولعل قيامه بهذا الشكل السر الأول في هذه الفرقة التي نحسها في ديارنا في كل شيء، وما دام قائماً في هذه المدارس المتباينة التي نرى في كل منها اختلافاً في الطرائق والأساليب
والمذاهب وطرق التفكير فلن تكون لنا وحدة متماسكة ولن نستطيع أن نخلق من أبناء النيل أمة متحدة في الفهم والقصد ترمي إلى غرض واحد وتتعاون في طريق واحد! فإلى متى يا ترى يستمر تعليمنا عاملاً جوهرياً من عوامل التفرقة، وخلق الطبقات المختلفة المتباعدة في الفهم، المتنافرة في التفكير، مما يؤدي إلى النزاع الدائم المستمر الذي ينهى الله عنه بقوله (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ولقد كانت هذه النقطة هي الأولى التي لفت إليها نظر معالي وزير المعارف في تقريري الذي رفعته إليه من مدرسة الفيوم الابتدائية في 16 مارس سنة 1936 لأنها من الأهمية بحيث تحتل المكان الأول من الإصلاح المطلوب، فلا سبيل إلى محو تلك الفروق والتقليل من تلك النزعات المختلفة بين أفراد الشعب الواحد والتقريب بين إفهامهم إلا بجعل أساس التعليم واحداً، ألا ترى كيف تعمل الدول المختلفة على نشر ثقافتها بين الشرقيين، وكيف تجهد نفسها، وتنفق الطائل من أموالها في سبيل جعل لغتها وطرق تعليمها هي السائدة حتى تتمكن من التفاهم مع تلك الشعوب. وتفوز بكسب عطفها وتقديرها.
فالتعليم هو الطريق الفعال المؤدي إلى التفاهم والتعاون، لذلك أرى أن أساس الإصلاح هو في التوحيد بحيث لا يوجد بيننا غير نوع واحد من المدارس يبنى على أساس واحد يسمى بالمدارس الشعبية، تندمج في تكوينه كل أنواع المدارس السالفة الذكر، ويتعلم فيها أبناء النيل على السواء لا فرق في ذلك بين غني وفقير، أو عظيم وحقير، تتلوه بعد ذلك مراحل التعليم الأخرى المختلفة فيشعر أطفالنا في تلك المدارس الشعبية العامة بأنهم جميعاً أبناء شعب واحد تسري عليهم حالة واحدة كما هو الحال في سائر البلاد الأخرى، ولا تفضيل لأحدهم على الآخر إلا بالجد والعمل والأخلاق الكريمة الفاضلة، كما نشعر جميعاً ونحن في المساجد متراصين متوجهين إلى الله أن لا فرق بين صعلوك وأمير. وكبير، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). هذه الوحدة الشاملة والألفة العامة، هي التي يجب أن تكون الغرض الأساسي من التعليم، والتي يجب أن تكون المدرسة أول عامل على خلقها. قال ديوي: (ومن مفسدات الديمقراطية أن يسمح بإنشاء طبقات مستقلة في الأمة، فإن التباين في الثروة، ووجود عدد وافر من جهلة أرباب الصناعة، واحتقار العمل اليدوي والعجز عن إدارة التربية التي تمكن
من التقدم في سبيل الحياة، كل ذلك يتضافر على إحداث طبقات مستقلة متفرقة وتوسيع شقة الخلاف والتفريق. على أن في إمكان أرباب السياسة والتشريع أن يدفعوا شيئاً من هذه الغوائل، كما أن على أهل المساعي الخيرية القيام بشيء من هذا الغرض النبيل. إلا أن العامل الأكبر الأصيل في هذا السبيل هو النظام المدرسي الشامل للامة جمعاء) ثم يقول:(لا يجوز أن تكون تفرقة بين أنظمة المدارس، فلا ينبغي وجود نظام لأبناء الموسرين، وآخر لأولاد العاملين بالأجور، فإن الفصل المادي بين الفريقين بسبب هذا التنظيم لا يتفق مع ترقية روح الإخاء المتبادل)
ثانياً: عزلة المدرسة
المدرسة المصرية معزولة عن بيئتها عزلاً تماماً، فترى التلاميذ يدخلونها فينقطعون عن كل ما يحيط بهم من الأعمال، كما نرى المدرس أو ناظر المدرسة خصوصاً في الأقاليم يترفع عن الشعب الذي يزود المدرسة بأبنائه، ويحاول الابتعاد عن أولئك الفلاحين كأنهم من طينة أخرى غير طينته، لانه يعتبر نفسه موظف حكومة كمأمور المركز، عليه أن يحتفظ بينهم بمكانته وعلو مركزه كما يتوهم، وبذلك لا يختلط بهم، ولا يمكنه أن يعرف الأحوال الحقيقية لأبنائهم الذين بالمدرسة، ولا يستطيع أن يتعاون معهم التعاون الفعال على إصلاحهم بمعرفة نقط الضعف المختلفة في تكوينهم. ثم إن التلميذ يرسخ في ذهنه الاعتقاد بأن المدرسة لا صلة لها بالحياة وما يجري فيها من زراعة أو صناعة أو تجارة أو أعمال، وبأنه إنما يجيء إليها ليقضي جزءاً من وقته فيها لغير ما غرض واضح في ذهنه، اللهم إلا إعداده لأن يكون موظفاً حكومياً ولذلك يندفع في الابتعاد عن كل ما يمت إلى الحياة العلمية بسبب، حتى إن بعض التلاميذ يتعجب عندما يعلم إن المياه التي يشربها والتي تصل إلى منزله عن طريق الأنابيب أو عن طريق الترع والقنوات، ما هي إلا من مياه نهر النيل الذي يرسمه في علم الجغرافيا، فما بالك بعد هذا إذا خرج يسعى إلى الكسب في الحياة العامة؟ إنه لا شك يكون كالأعمى أو كالذي يذهب إلى ديار مجهولة لا يعلم عن أهلها وعن أعمالهم شيئاً، فيحار في أمره ويرتبك في حياته ولا يدري ما يعمل ليكسب قوته. وهذا في الحقيقة هو السبب الأساسي في خلق المتعطلين وقعودهم عن العمل لجهلهم بأحوال بيئتهم وما يحيط بهم من ظروف وأعمال. ولو أن المدرسة لم تفصلهم انفصالاً تاماً عن المزارع
والمتاجر والمصانع المحيطة بهم وجعلت بينهم وبينها صلة قوية وجعلت من نفسها وحدة تشابه بيئتها لما كان ذلك العجز عن مواجهة الحياة. فهي إذن بعزلتها هذه تقصر في تربية التلميذ وتكوينه من الوجهتين الفعالتين القويتين: وجهة الاتصال المباشر بالمنزل، إذ الواجب يقضي بتعاونهم تعاوناً عملياً على النهوض بالتلميذ وتحسين حاله الصحي والثقافي والخلقي، ووجهة فصل التلميذ عن بيئته، وما يجري فيها من أعمال يحتاج إلى مزاولتها وممارستها في مستقبل حياته. ولقد أصبح لزاماً على المدرسة المصرية كغيرها من سائر المدارس أن توجه أكبر عنايتها إلى ذلك.
عبد الحميد فهمي مطر
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 45 -
ليس الغرور لميت بمتاع؛ وما يجدي شيئاً على الرافعي أن يكون كل وفاء العربية له أن نقول: كان وكان يرحمه الله!
لقد كان الرافعي صاحبَ دعوة في العربية وفي الإسلام يدعو اليها؛ فحقُّه على العربية، وحقُّ العربية على أدبائها، وحق الإسلام على أهله، أن نجدِّد دعوته، وأن نبقي ذكره، وأن ننشر رسالته، وأن نُعنى بآثاره؛ فإذا نحن قد وُفِّقنا إلى كل أولئك فقد وفَينا له بعض الوفاء!
والآن فلننظر لنرى مقدار ما يمكن أن تصل إليه هذه الدعوة من النجاح؛ وأمامنا إلى ذلك وسيلتان:
أولاهما أن نعرف مدى تأثير الناشئة من المتأدبين اليوم بأدب الرافعي ومذهبه؛ والثانية هي البحث عن آثار الرافعي ومنشآته الأدبية وتراثه الفكري لنحرص عليه من الضياع.
فأما الأولى فإن بين الرافعي والأكثرين من ناشئة المتأدبين في هذا الجيل حجاباً كثيفاً يمنعهم أن ينفذوا إليه أو يتأثروا به لعوامل عدة:
فالرافعي أديب الخاصة، كان ينشئ إنشاءه في أي فروع الأدب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة تعلو بها وتَعِز مكاناً بين اللغات؛ ثم ليبدع أدباً يسمو بضمير الأمة ويشرع لها طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد ومجد التاريخ.
وشبابنا أصلحهم الله لا يعرفون الأدب إلا ملهاة وتسلية، لا ينشدونه للذة العقلية وسموِّ النفس ولكن ينشدونه لمقاومة الملل وإزجاء الفراغ.
فهذا سبب
والثاني أن الرافعي رحمه الله لم يكن يكتب الكتابة الصحافية التي ينشئها أكثر كتابنا ليتملقوا غرائز القراء بالعبارة المتهافتة والقول المكشوف. وعند المتأدبين من ناشئة اليوم
أن قيمة الأدب هي بمقدار انطباقه على أهواء النفس وارتياحها إليه وقدرتها على أن تسيغه بلا تكلف ولا عناء.
وثمة سبب آخر، هو طغيان السياسة على الأدب في هذا الجيل طغياناً أقحم على الأدب ما ليس فيه وعلى الأدباء من ليس منهم؛ بحيث يتحرج أكثر الأدباء أن يقولوا قلة أو رأياً أدبياً في أديب أو شاعر إلا متأثرين بما كان له من مذهب سياسي أو رأي في السياسة المصرية.
والرافعي رجل - كان - لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها، ولم يكن يعتبر له مذهباً في النقد إلا المذهب الأدبي الذي لزمه منذ نشأ في الأدب؛ فمن ذلك كانت خصوماته الأدبية تنتهي نهايتها إلى اتهامه في وطنيته وفي مذهبه السياسي؛ ورآها أكثر خصومه من كتاب الشعر فرصة سانحة لينالوا منه عند القراء، فانتهزوها، وبالغوا في اتهامه، وأغرقوا في الطعن على وطنيته وتأولوا مذهبه، حتى عاد عند أكثر القراء رجلاً لا وطنية له ولا إنسانية فيه ولا إخلاص في عقيدته. وما تزال السياسة عند أكثر شباننا ذات سلطان، وما زال الأدب يجري في غبار السياسة وهو أعلى مكاناً وأرفع منزلة. . .
ولقد يضاف إلى كل أولئك سبب أخير، هو أن أكثر ما كان يتناوله الرافعي من شؤون الأدب هو ما يتصل بحقيقة الإسلام أو معنى من معانيه. على أن الكثرة من ناشئة المتأدبين يريدون أن يفرقوا بين الأدب والدين، فلا يرون ما ينشأ في هذا الغرض لوناً من ألوان الأدب أو مذهباً من مذاهبه.
تلك جملة الاسباب، أو مجمل الأسباب، التي باعدت بين أدب الرافعي وبين الجمهور من ناشئة المتأدبين، ما بد من النظر فيها والبحث عن علاجها حين نهم بأن نجدد دعوة الرافعي وننشر رسالته، إن كان ثمة يقين بأن أدب الرافعي حقيق بالخلود؛ وإن اليقين به ليعمر قلب كل أديب يؤمن بأن الدين واللغة هما أول المقومات لقوميتنا العربية المسلمة.
ذلك شيء.
أما آثار الرافعي فلها حديث طويل.
هذه دكاكين الوراقين ليست فيها كتاب من كتب الرافعي،
وهذا مكتب الفقيد عليه كتب من كتبه لم تطبع ولا يعرفها أحد من الأدباء.
كل ما في يد العربية من منشآت الرافعي هو صدى كلمات وعنوانات كتب، أما حقيقتها ومعناها فقد انفرط الجيل الذي درسها أو كاد فلم يبق للجيل الناشئ منها غير عنوان:
ديوان الرفعي، ديوان النظرات، تاريخ آداب العرب، إعجاز القرآن، حديث القمر، المساكين، رسائل الأحزان، السحاب الأحمر، أوراق الورد، تحت راية القرآن، على السفود، وحي القلم
هذا كل ما طبع من مؤلفات الرافعي؛ فليسأل كل أديب نفسه: ماذا قرأ من هذه الكتب وماذا حصَّل وماذا أفاد؟
إنها لمكتبة حافلةٌ جديرة بأن تنشئ مدرسة جامعة لمن يريد أن يتزوَّد من العربية أَمرأ زاد وأشهى غذاء، ليكون أديباً له لسان وله بيان وله منزلته الأدبية في غد
إني لأكاد أوقن أن تسعين من كل مائة من القراء لا يعرفون من هذه الكتب إلا أسماءها، وإن منهم لَمن يتوهم أن من حقه أن يتحدث عن الأدب ويؤرخ لأدباء الجيل.
وما عيبٌ على مَن لم يقرأها أنه لم يقرأها؛ ولكن العيبَ كلَّ العيب علينا عامة نحن المشتغلين بالأدب أن يكون كل وفائنا لمن يموت من أدباء العربية أن نقول كان وكان ويرحمه الله ولا نعمل على تخليد أدبه بما ننشر من آثاره
لقد أدى الرجل واجبه ما استطاع وبقى علينا فرضٌ واجب الوفاء
على أن ما سبق طبعه من كتب الرافعي هينٌ خطبه؛ فسيأتي جيل يكون أكثر تقديراً لأدب الرافعي من هذا الجيل وسيُعيد سيرته وينشر أدبه
ولكن كتباً هناك ما تزال قصاصات من ورق على مكتب الفقيد تنتظر من يخرجها للناس قبل أن يسبق إليها العث والفيران.
فهل في أدبائنا وفي حكومتنا من العزم وحسن التقدير ما يحملهما على معرفة واجب العربية وواجب هذا الراحل؟
كم نبكي وكم نعول على ما ضاع من تراثنا الأدبي وما فقدته المكتبة العربية من منتوج أدبائها الفحول في عصر الجهل والانحطاط، وهذا تراث بين أيدينا يوشك أن يتبدد ويذروه الهواء!
لقد أورثني الرافعي بعض تبعاته، وإني لأحس بثقلها على عاتقي أكثر مما أحس بحاجتي
إلى التحدث عن ماضيه
لقد عاش الرافعي حياته يجاهد لامته ما لم يجاهده أديب في العربية منذ قرون، وقضى حياته يلقى من العقوق ونكران الجميل ما لم يلق أديب في العربية منذ كانت العربية؛ ومات فما كان حظه منا في أُخراه أحسن منه في دنياه. فهل لي أن أؤمل أن تتنبه الأمة والحكومة إلى ما ينبغي أن يكون، وفاءً لهذا الراحل الكريم؟
ليس يكفي أن يكون كل وفائنا للرافعي، حفلة لتأبينه وبضع كلمات في الصحف لرثائه، ولكن الوفاء حق الوفاء أن نعمل على تخليد ذكراه بتخليد أدبه، وتجديد دعوته، وإبقاء ذكره، ونشر رسالته، فليكن هذا الكتاب الذي أنشأته عن (حياة الرافعي) أولاً له ما بعده، لنفكر في الوسائل النافعة التي تجدي على الأدب والعربية أكثر مما تجدي رسائل التائبين وكلمات الترحم والاسترجاع!
أما هو فقد انطوى تاريخه على هذه الأرض، فلن يجدي عليه شيئاً ما نفعل وما نقول؛ ولكن ما نفعله وما نفكر فيه إنما هو لخيرنا وجدواه علينا، فلنفكر في أنفسنا وفي ذواتنا وفيما يعود علينا وعلى العربية في تجديد ذكر الرافعي، إن كان يعز علينا أن نعمل أو أن نفكر إلا فيما تكون منفعته إلينا ولنا من ثمراته نصيب!
(شبرا)
محمد سعيد العريان
في اللغة
المؤنث والمذكر في اللغات السامية
للأستاذ عمر الدسوقي
(تتمة)
ذكرت في المقال السابق أن المؤنث ليست له علاقة خاصة به من حيث كونه مؤنثاً باعتبار الجنس، وأن بعض الجموع والمصادر والصفات الدالة على المبالغة، والأمور المعنوية، تلحقها نفس العلامات التي تلحقه. وقلت أن الصلة بينها جميعاً هي الدلالة على القوة وبلوغ النهاية؛ ووعدت أن أوضح سبب نظرة الساميين إلى هذه الأشياء نظرة الإكبار والتعظيم.
أتى على الإنسان عصر كان يقدس فيه القوى الطبيعية، المنتج منها والمدمر، يتملقها بالعبادة والقرابين استرضاءَ لها واتقاءَ لشرها
كان يقدس الريح، لأنها إذا سخطت أتت صرصراً عاتية، تعبث به وبكوخه ومتاعه، وتزأر زئيراً يقشعر له بدنه، وترتجف منه أوصاله؛ وإذا رضيت أتت رخاءَ لينة، تخفف حدة القيظ، وقر الشتاء
كان يقدس الشمس، لأنها تبعث في الحيوان والنبات الحياة والقوة، وتجلب الضوء فتمكنه من السعي في مناكب الأرض والخروج للصيد، وتجعل من رمال الصحراء ناراً متقدة، ومن حرم ضوءها ذوى وذبل.
وكان ينظر إلى السماء وما حوت نظرة تقديس وإجلال، فيراها موطن الأجسام المتلألئة اللماعة، تهديه في شراه، وتمن عليه بالضوء ليلاً ونهاراً، ويتطلع إليها كأنها مصدر القوى المسيطرة على العالم.
وكان يرى في الأرض أماً يسكن إليها إذا ريع، ويعتمد عليها في طعامه، وشرابه، وحياته. درج عليها صغيراً، وجاب نواحيها كبيراً. زرع فيها الحب فآتى أكله، وغرس فيها الشجر فأثمر.
وكان يرى في السحب إله الرحمة، تنقع غلته من حياها، وتنمي زرعه من غيثها، وتدر الماء فتربو الأرض وتنتج من كل زوج بهيج.
وكان يرى النار مصدراً للخير والشر، تنضج له طعامه، وتضيء له كوخه، وتلتهم كل ما يملك.
اعتبر كل هذه القوى أشياء طبيعية، خفية، غامضة، ذات قدرة سحرية، قادرة على النفع والضر، فأشار إليها بضمير خاص مميزاً لها عن بقية الأشياء التي تقع تحت سمعه وبصره، ذلك الضمير الذي يشير به إلى الانثى، وكانت في نظره قوة منتجة ذات تأثير بين في حفظ النسل وإخراجه إلى الحياة وتعهده بالرضاعة والنمو، ولأنها لغز لم يستطع إدراكه، فهو لا يستطيع الحياة بدونها، ويجدها مصدر العطف والرحمة، واللذة والألم، والقسوة والصبر
وكان الآشوريون وهم أقدم الأمم السامية وأقربهم إلى الأمة الأصلية، يعتقدون أن المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تفهم السحر وتقوم بالأعمال السحرية، وأنها تعرف أسرار الغيب، والتكهن بالمستقبل
وكان عند العرب من العرافات والكواهن في الجاهلية عدد لا بأس به كطرْيفة الخير، وسلمى الهمدانية
وكان العرب يسمون كثيراً من آلهتهم بأسماء الإناث، ولا سيما أقدمها وأعظمها، فكانت (مناة) أعظم أصنام الأوس والخزرج، وكانوا يجلونها وتعتبر أقدم أصنامهم. وكانت (اللات) أكبر أصنام ثقيف. وكانت (العُزَّى) أعظم أصنام قريش، يزورونها، ويهدون لها، ويتقربون إليها. وقد قيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكرها مرة فقال:(لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي). وهذه الأصنام الثلاثة هي التي خصها القرآن الكريم بالذكر
تلك كانت نظرة الساميين القدماء للأنثى: اعتبروها قوة من القوى المنتجة، ونسبوا إليها القدرة على القيام بالأعمال السحرية والكهانة والعرافة.
ولذلك أنثوا كل الكلمات الدالة على القوة، والتي ترمز إلى أمر خطير ذي أثر بين في حياتهم: أنثوا الخمر لأنها تجلب إليهم المرح والسرور، وتنسيهم أحزانهم وآلامهم؛ وأنثوا الروح والنفس، لأنهما من القوى الخفية التي بها يحيا الإنسان وبدونها يصير جثة هامدة، لم يقفوا على سرهما وكنههما:(ويسألونكَ عن الرُّوحِ قل الرُّوحُ من أمر ربي). والنفس عندهم
تعني الدم والنَّفَس، ولا زال النَّفَس يعد قوة سحرية، يسلطه السحرة على الأفاعي لتسكن إليهم وتطيع أوامرهم ولا تؤذيهم. وكانوا ينفخون على الجروح لتبرأ، ولا زال هذا معمولاً به إلى اليوم
وأنثوا الحرب، لان فيها ضراً وفيها نفعاً؛ يتخذونها مورداً لأرزاقهم، فيسبون ويغنمون، وإن كانوا يعرضون أنفسهم للتهلكة؛ وتاريخ العرب في الجاهلية على ذلك شهيد
وأنثوا من أعضاء جسم الإنسان أحد عشر عضواً، كاليد والأذن والعين، لأنها أوعية القوى التي يكون بها الإنسان إنساناً؛ وكانت اليد عندهم آلة البطش والقدرة والتأثير:(يدُ الله فوقَ أَيديهم)، (بيده المُلك).
وأنثوا من الآلات أحد عشر اسماً، كالفأس والرحى والدرع، لأنها تعنيهم على الإنتاج والدفاع والقوة.
وربما قال قائل: إن كل الأسماء التي ذكرتها خالية من علامات التأنيث، وقد اعتبرها العرب مؤنثاً مجازياً. وأقول: هو ذاك؛ هي مؤنثة باعتبار الفكرة التي كانت تدور في أذهانهم، ومع ذلك فالعلامة ليست شرطاً في التفرقة بين المؤنث الحقيقي والمذكر. خذ مثلاً: الأب، ألام. والحصان والفرس، والحمار والأتان. وتجد أن الصفات التي أختص بها المؤنث لا تحتاج إلى علامة مثل: مرضع وحامل وحائض وعاقر، وثيب وعانس. وذلك لأن فكرة التأنيث عند ذكر هذه الصفات والأسماء كانت حاضرة في مخيلتهم. ويذهب العلامة برو كلمان إلى أبعد من ذلك فيقول: لم تكن الحاجة ماسة في أول الأمر للتمييز بين المؤنث والمذكر بعلامة، إذ كانت الطبيعة قد وضحت بينهما. وهذه الكلمات التي ذكرت آنفاً تعتبر من أقدم الكلمات في اللغات السامية. ووضعت علامة التأنيث فيما بعد لما أعتبره الساميون مؤنثاً لتقوية الكلمة وتشديدها وزيادة تمييزها عن غيرها
أما الأمور المعنوية، كالرحمة والقسوة، والشفقة والبغضاء، والبلواء، والسعادة والبأساء، فلأنها أمور دقيقة لم يستطع ذلك الإنسان الفطري إدراك كنهها، وإنما عرفها بآثارها الظاهرة المحسوسة، فألحقها بالمؤنث، ووضع لها العلامة لان فكرة التأنيث بها ربما كانت غامضة، أو ضعيفة فقواها
أما الجموع فأمرها هين ولا سيما جموع العقلاء، مثل عامل وعملة، وكاتب وكتبة، وصبي
وصبية، وكرماء وأشداء وعظماء وأقوياء، إذ أن الجموع قوة تستطيع أن تفعل ما لا يفعله الفرد.
أما المصدر ففكرة مجردة، ويقول العلامة (دلمان) إن الفكرة المجردة يتصورها الإنسان كقوى منتجة خالقة، ولذلك جاء الكثير منها مؤنثاً.
ويمكنك أن تدرك الفكرة التي حدت بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء والصفات في تلك النعوت التي تدل على المبالغة وبلوغ النهاية مثل: راوية ونابغة، وداهية. . . الخ.
أما أمكنة الإقامة، كالمدينة، والقبة، والدار، فلاتصالها بالأرض، وقد بينت في أول المقال كيف نظر الساميون إلى الأرض. وتسألني ما بال البيت مذكراً؟. نعم إن البيت مذكر، ولكن أثراً من آثار صيغته الأصلية المؤنثة لا يزال موجوداً في اللغة الآشورية، حيث يستعمل مذكراً تارة ومؤنثاً أخرى، كأجزاء الأرض مثل الطريق، والسبيل. ولعلك تتذكر أني بينت في المقال الأول كيف تخرج هذه الكلمات من المؤنث تدريجياً لضعف فكرة التأنيث فيها.
ولعلي أكون قد وفقت في توضيح هذه الفكرة التي حدت بالساميين لتأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر، فالغرض من علامات التأنيث هو تقوية الكلمة، والضغط عليها، وإظهارها بمظهر الشدة، لما ترمز إليه من المعنى القوي، والأمر الخفي ذي الأثر والنفوذ والقدرة السحرية.
عمر الدسوقي
رسالة من باريس
بعض الدكاترة الفخريين
الذين منحوا الدكتوراه الفخرية في فرنسا هذا العام
للباحث الأديب مصطفى زيور
- 2 -
إذا أضفنا إلى هذه المحاولات لتركيب المواد الزلالية وبالتالي المادة الحية من المواد اللاعضوية البسيطة، إذا أضفنا إلى ذلك نتائج بحوث الكيميائي الكبير (لوب) التي أثبتت بطريقة لا تحتمل الشك العلمي أن المواد الزلالية لا تختلف في قوانين تفاعلاتها الكيميائية عن قوانين تفاعلات المواد اللاعضوية، وبعبارة أخرى أن المادة الزلالية لا تنفرد بكيمياء خاصة، فإنه يبدو لنا أن هؤلاء العلماء المنكبين على دراسة المادة الحية يتخذون فرضاً لعلمهم وبحوثهم أن هذه المادة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المواد الأخرى. وليس في ذلك غرابة فإن أي تقدير من جانبهم يختلف عن ذلك كأن تعتبر المادة الحية خاضعة لسلطان ميتافيزيقي يجعل موقفهم متناقضاً، لان البحث التجريبي لا يمكن أن يتناول إلا ما يقبل التجريب وبالتالي ما يخضع لقانون طبيعي
ولكن المسألة التي استرعت اهتمام سورنس بنوع خاص هي من غير شك مسألة (مبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة) في سائل بعينه، وأهمية ذلك بالنسبة للمظاهر الحية. ويجدر بي قبل أن أبين خطر هذه البحوث أن أقدم لها بكلمة قصيرة أبين فيها ما الذي يعنونه بمبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة أو جهد الهيدروجين المكهرب
لاحظ فراداي، ذلك العبقري الإنجليزي أحد مؤسسي المغناطيسية الكهربائية في أوائل القرن التاسع عشر، أننا إذا أحدثنا فرقاً في الجهد الكهربائي بين قطبين منغمسين في محلول ملح ما فإننا نرى تياراً كهربائياً يمر يصحبه انحلال الملح إلى أجزاء تحمل شحنة كهربائية بعضها موجب يوجهها إلى السير نحو القطب السالب، وبعضها سالب يوجهها نحو القطب الموجب، وهكذا يتكون لدينا تيار من هذه الأجزاء ناقل للشحنات الكهربائية أي لكمية الكهرباء. هذه الأجزاء المكهربة هي التي يسمونها منذ فراداي باللفظة اليونانية (أيون) أي
سائرة ومتجهة. على أن (أرينبوس) بيَّن فيما بعد أن انحلال الجسم الذائب في سائل ما إلى أيون لا يحدث تحت تأثير مرور تيار كهربائي. بل إن هذا الانحلال يحدث لمجرد ذوبان الجسم في السائل؛ ذلك لأن ذرة كل جسم تتكون من نواة ذات شحنة موجبة يحيط بها كهيربات ذات شحنات سالبة يدعونها (إلكترون) تعادل الشحنة الموجبة فتصبح الذرة متعادلة لا هي موجبة ولا هي سالبة؛ فإذا ما أذيب جسم في سائل يضطرب هذا التعادل بأن تفقد الذرة كهيربا سالباً فتصبح موجبة أو تكسب كهيرباً سالباً فتصبح سالبة.
فإذا أذبنا حامضا في سائل ما، وليكن حامض الكلوريدريك المكون جزآه من ذرة من الكلور وذرة من الهيدروجين فإن بعض هذا الحامض ينحل إلى ذرات كلور ذات شحنة سالبة، وذرات هيدروجين ذات شحنة موجبة. ولكن ذرات الهيدروجين المكهربة هي التي تعين الحموضة، فكلما كانت قابلية الحامض إلى الانحلال كبيرة، وبالتالي عدد أيون الهيدروجين المنتشرة في السائل كبير، كانت درجة الحموضة كبيرة، بصرف النظر عن كمية القلوي الذي يمكن أن يعادلها ذلك الحامض، والتي تعين قوته الحامضية الكاملة. وكذلك الحال في جسم قلوي مثل الصودا الكاوية المكون جزآها من ذرة صوديوم متحدة مع مركب يدعونه هيدروكسيل يتألف من ذرة هيدروجين وذرة أوكسجين، فإذا أذيبت الصودا الكاوية في سائل فإن جزءاً منها ينحل إلى ذرات صوديوم تحمل شحنة موجبة، والى عدد من الهيدروكسيل المذكور يحمل شحنة سالبة. وكما أن عدد ذرات الهيدروجين المكهربة هو الذي يعين درجة الحموضة الحالية، فإن عدد الهيدروكسيل المنتشر هو الذي يعين درجة القلوية الحالية
ولكن ظاهرة الانحلال هذه تحدث حتى بالنسبة للماء النقي؛ فنحن نعلم أن جزئي الماء يتكون من ذرة أوكسجين يرمز لها بالحرف (أ)، (أي الحرف الأول من أوكسجين) وذرتين هيدروجين يرمز لكل منهما في العربية بذلك الرمز العجيب (يد)، (الحرفان الثاني والثالث من هيدروجين). وهنا أحب أن يسمح لي القارئ أن أترك موضوعنا لحظة لكي أعلق على هذا الرمز الغريب، فلست أشك أن المترجم المصري عندما أراد ترجمة الرمز الدولي بدء النهضة العلمية الحديثة في مصر منذ نحو ربع قرن، ظن أن الكلمة هي إيدروجين بإبدال الهاء همزة كما يحصل في النطق الفرنسي، ويدل على ذلك ما جري عليه الكيميائيون في مصر من كتابة هذا العنصر على هذا النحو الأخير أي إيدروجين. ولما كان الحرف (أ)
سبق أن اختاره المترجم المصري رمزاً للعنصر أوكسجين فلم يكن بد من اختيار الحرفين الثاني والثالث من إيدروجين بجعلهما رمزاً لهذا العنصر. ولكن الواقع أن الكلمة هي هيدروجين بصرف النظر عن نطقها في بعض اللغات. والواجب إذاً أن يتخذ الحرف (هـ) الذي يقابل رمزاً لهذا العنصر إذا كان لا بد لنا من الاستمرار فيما درجنا عليه منذ نحو ربع قرن من نقل الرموز الدولية إلى رموز عربية. فماذا يرى عالمنا الكبير الدكتور أحمد زكي؟
رأينا أن جزيئات الماء التي تتكون من ذرة من الأوكسجين وذرتين من الهيدروجين ومن ثم يرمزون لها يد 2 أينحل بعضها إلى ذرات هيدروجين موجبة يرمز لها هكذا يد + وهيدروكسيل سالبة يرمز لها هكذا أيد -؛ ولكنه من الواضح أن أيون الهيدروجين الذي يحمل شحنة موجبة لابد أن يتحد من جديد مع أيون الهيدروكسيل الذي يحمل شحنة سالبة فتتكون جزيئات مائية من جديد، بينما تنحل جزيئات مائية أخرى إلى أيون هيدروجين وهيدروكسيل، وهكذا حتى تصبح سرعة التفاعل في الناحيتين متعادلة، فينتج لدينا حالة استقرار في مبلغ تركيز الأيونات يمكن التعبير عنها بأن حاصل ضرب عدد الأيونات مقسوم على عدد الجزيئات الغير منحلة ينتج عدداً ثابتاً:
(يد +)(أيد -)
ـــــــــــ=ث (عدد ثابت يدل على حالة الانحلال وبالتالي يدل في حالة حمض أو قاعدة على قوة الحمض
(يد 2 أ)
أو القاعدة).
ولكن في حالة الماء فإن الجزيئات الغير منحلة قليلة التغير
وبالتالي فإن حاصل ضرب (يد +)(أيد -) يكون ثابتاً، وتقدر
قيمته في لتر من الماء بكسر اعتيادي مقامه الوحدة يتبعها
أربعة عشر صفراً 11014 فإذا تصورنا الماء في حالة
التعادل التام أي أن أيون الهيدروجين يساوي عدد أيون
الهيدروكسيل فإن الرقم الذي يدل على تركيز أيون
الهيدروجين يكون في هذه الحالة 1107
ولتسهيل الإشارة إلى الحموضة الحالية أي لمبلغ تركيز اليون يد + أو جهد الهيدروجين اقترح سورنسن أن يعبر عنه بمقلوب اللوغاريتم العشري أي بعدد الأصفار الذي يتبع الوحدة في مقام الكسر الاعتيادي الدال على مبلغ التركيز أي بالعدد 7 في حالة التعادل، وأن يرمز له بالحروف الدولية ما يمكن ترجمته بالحروف العربية ج يد حيث أن الحرف الأول من جهد (وليس القوة كما أشار بذلك البعض لأن لفظة القوة ترجمة فلسفية قديمة وتدل عند المشتغلين بالعلم في مصر على محدث العمل). كما كان لسورنسن الفضل في استنباط طريقة لقياس درجة الحموضة هذه بواسطة تفاعلات ملونة
أهمية مبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة أو جهد
الهيدروجين ج يد في المظاهر الحية
قد لا يكون من المبالغة أن نقرر أنه ما من ظاهرة من ظواهر الحياة لا تخضع لهذا العامل الأساسي: مقدار الحموضة الحالية أي جـ يد؛ فقد تبين أن الكائنات الحية حتى الدنيئة منها مثل الجراثيم لا يمكن أن تعيش إلا في وسط له درجة حموضة معينة خاصة بكل نوع من أنواع الكائنات لا يجب أن تتغير وإلا فقدت الحياة. ويكفي أن أشير إلى أن درجة الحموضة في دم الإنسان ثابتة ثباتاً يسترعي النظر حقاً، وتعمل على هذا الثبات وظائف لها من الدقة والانتظام ما يدل على خطورة مقدار الحموضة الحالية في بقاء الحياة. وتبدو هذه الخطورة بوضوح إذا علمنا أن تلك الصدمات العنيفة المصحوبة بهبوط شديد في ضغط الدم والحرارة وضربات القلب بحيث يصبح الموت قاب قوسين أو أدنى، والتي تحدث من إدخال بعض المواد الغريبة في الدم أو نتيجة لبعض الأمراض، هذه الصدمات يصحبها تغير في درجة الحموضة المذكورة.
وهنا يجب أن أشير إلى ما يدعونه نقطة التساوي الكهربائي في الزلاليات حتى يتم لنا هذا العرض السريع لمسألة الحموضة وأهميتها البيولوجية
سبق أن ذكرت أن المواد الزلالية تتركب من أحماض أمينية تحتوي جنباً إلى جنب على وظيفة حمضية ووظيفة قلوية؛ وعلى ذلك من السهل أن نفهم أن المواد الزلالية تنحل فتترك ذرات هيدروجين موجبة من جهة كما يحدث في الأحماض، وهيدروكسيل سالبة من جهة أخرى كما يحدث في القلويات.
فإذا ما كانت درجة الحموضة الحالية ج يد في الوسط الموجودة فيه هذه المواد الزلالية كبيرة فإن هذه المواد تسلك كما لو كانت قلوية فقط فلا تنحل إلا إلى أيونات هيدروكسيل (أو على الأقل فإن النتيجة العملية هي كذلك)، وبالعكس فيما لو كانت درجة حموضة الوسط قليلة أي قلوية؛ وبين هذين الطرفين توجد نقطة في درجة الحموضة تنحل عندها الزلاليات إلى مقدار متساو من أيون الهيدروجين وأيون الهيدروكسيل، فيحدث نوع من التساوي الكهربائي يمكن أن نرمز له هكذا ج يد س (س=الحرف الأول من الفعل الماضي أصل الاشتقاق ساوي)
والآن من السهل أن نفهم أهمية نقطة التساوي هذه إذا تذكرنا أن العامل الرئيسي في ثبات المحلولات الغروية هو وجود شحنة كهربائية تمنع الجزيئات من التهالك، ولما كانت هذه الشحنات الكهربائية تنحط إلى مقدار ضعيف عند نقطة التساوي ونتيجة لهذا التساوي، فيمكننا أن نتنبأ بقلة ثبات المحلولات الغروية وبالتالي المادة الحية وميلها إلى الانهيار عند هذه النقطة. وهذا ما يحدث بالفعل ويوضح لنا أهمية درجة الحموضة ج يد والخطر الذي ينتج من تغيرها على مظاهر الحياة.
وأخيراً فإن الفضل يرجع إلى سورنسن في بيان أهمية درجة الحموضة بالنسبة للتفاعلات الخميرية، فقد بين كيف أن الخمائر - وهي تلك المواد الخاصة بالكائنات الحية تساعدها على تحقيق التفاعلات الكيميائية - لا تقوم بعملها إلا في درجة حموضة معينة خاصة بكل خميرة؛ فنحن نعلم مثلاً أن خمائر المعدة لا تقوم بعملها في الهضم إلا في درجة حموضة معينة مرتفعة بالنسبة لدرجة الحموضة اللازمة لخمائر الأمعاء.
وفي النهاية لست أحب أن أترك القارئ يفهم أن جميع المسائل التي ذكرتها ومحصولنا العلمي فيها يرجع إلى أبحاث سورنسن وحده، فإني أكون إذن تعديت الأمانة التاريخية؛ ولكنه لم يكن في استطاعتي أن أبين قيمة أبحاثه دون أن أذكر بجانبها الأبحاث التي
أثارها، ثم الأبحاث التي سبقته حتى نقدر مجهود هذا الكيميائي الكبير. وبعد كل شيء فإني لم أقصد إلى تحقيق تاريخي فليس هنا مقام ذلك، ولكني قصدت إلى اتخاذ بحوث هذا العالم مناسبة للإشارة إلى بعض التيارات العلمية السائدة.
للكلام بقية
مصطفى زيور
أتوق
لشاعر الهند رابندرانات طاغور
بقلم الآنسة الفاضلة (الزهرة)
أتوق إلى مخاطبتك بأدق الكلمات وأملأها بالمعاني العميقة التي تجيش في حنايا قلبي،
ولكني لا أجرؤ خشاة أن تضحكي مني
لذلك أضحك من نفسي، وأشجب سري الخفيِّ بالهز والتنادر، وأذيعه في شظايا النكات
والإشارات
وأستخف بألمي لكيلا تستهيني أنت به
أتوق إلى مصارحتك بأصدق الكلمات، ولكني لا أجر خشاة ألا تصدقيها. . .
لذلك أطويها في رداء التمويه، وأضفي عليها أبراد الكذب وأقول عكس ما أبطن، وأجعل
ألمي يبدو بلا سبب ولا علة لكيلا تري أنت فيه هذا الرأي
أتوق إلى صوغ أثمن الكلمات التي أدخرها لأجلك، ولكني لا أجرؤ خشاة أن تبخسيها
حقها وتصفقيني صفقة الغبن والخسران
لذلك أنتحل لك صفات فظة، وأطلق عليك أسماء غليظة وأتبجح بقسوتي وصلابتي،
وأباهي بقوتي وأيدي، وأنالك بالأذى خشاة ألا تفقهي للألم معنى أو تذوقي لمرارته طعماً
أتوق إلى الجلوس قربك صامتاً، ولكني لا أجرؤ لئلا يقفز قلبي من بين شفتي ويترامى
تحت قدميك
لذلك أثرثر وأهذر وأتنادر لكي أخفي سر قلبي وراء ألفاظي وأتلاعب بألمي في عنف
دون هوادة ولا رفق خشاة أن تتلاعبي أنت به. . .
أتوق إلى الابتعاد عنك، ولكني لا أستطيع أن أجد إلى الفرار منك سبيلا، لئلا ينكشف
أمامك جبني، ويستعلن لك خوفي ووجلي. . .
لذلك أرفع رأسي بافتخار، وأشمخ أنفي في شمم، وأمثل أمامك غير حافل ولا مبال. مع
أن السهام المنطلقة من عينيك على الولاء تجدد ألمي باستمرار. .
(الزهرة)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 29 -
وكان لهذا القائد الذي بزغ نجمه شبه كبير بالرئيس في نشأته وفي كثير من طباعه، كلاهما واجه الحياة وهو في سن اللهو واللعب، وكلاهما شق طريقه فيها بنفسه فكان كالنبتة القوية المستقيمة التي تفلق التربة وهي بعد صغيرة، لا كتلك الألفاف الملتوية التي لا تعرف من معنى النماء إلا أن تتسلق على غيرها وهي في ذاتها هزيلة نحيلة. . .
كان جرانت كأبراهام قوة إرادة ومضاء عزيمة، وكان مثله يلم بما حوله من المشكلات إلماماً تاماً ويستوعب أجزاءها لا تفوته منها صغيرة ولا تستعصي عليه كبيرة، كما كان يعرف في كل موقف قدر نفسه لا يغتر ولا يزهى ولا يتضاءل ولا ينكص. . وهو إن لم تكن له سماحة الرئيس وعذوبة روحه، فقد توفر له الكثير من بساطته ووداعته. . .
كان جندياً في سني يفاعته، ثم انصرف عن الجندية إلى الزراعة حيناً ثم إلى التجارة بعد ذلك، وظل بضع سنين حائراً يضرب في الأرض في طلب الرزق. ولو لم تقم تلك الحرب الأهلية لما وعى التاريخ عنه إلا بقدر ما يعي عن الآلاف غيره من البشر اللذين يعبرون هذا الوجود وكأن لم يخلقوا!
وأحس لنكولن أن في هذا الرجل من الصفات ما يعد متمماً لصفاته، فهو متحمس سريع المضي إلى غايته إذا اتجه همه إلى أمر؛ وهذه الحمية يقابلها عند الرئيس الروية قبل البدء، والتمهل إذا مضى في سيره. . .
هذا هو القائد الذي أحس أبراهام أن سوف يكون على يديه النصر بعد تلك الهزائم الشائنة،
وبعد أن خذلته الظروف، وتنكر له الرجال وضايقوه على صورة لم يكن يطيقها غيره. . .
أراد الجنوبيون أن يقوموا بهجوم قوي على العاصمة الشمالية فيضربوا الاتحاد الضربة الحاسمة، فزحف قائدهم الكبير لي بجيشه فعبر نهر بوتوماك وسار حتى أصبح على بعد خمسين ميلاً أو نحوها من وشنجطون في مكان يدعى جتسبرج، وهناك التقى به جيش الشماليين بقيادة ميد وهو قائد جديد جعله لنكولن على رأس جيش البوتوماك بعد أن ضاق بتلكؤ سلفه.
ودارت في هذا المكان معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام، وقد استبسل الفريقان فيها واستقتلوا وتوالى بينهما الجزر والمد، وكأنما طاب لهم الموت فتسابقوا إليه جماعات، وانتهى الصراع بانسحاب لي ولكن في ثبات واطمئنان. فكانت هذه المعركة التي سقط فيها أكثر من عشرين ألفاً من الضحايا فاتحة الانتصارات الكبيرة لأهل الشمال. وما أن وصلت أنباؤها إلى العاصمة حتى تدفق الناس إلى حيث يجلس الرئيس وهم من فرط ما قد سرهم من النبأ لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو رجلهم، نحو هذا الحصن الحصين وهذا العتاد المتين.
وكان هذا النصر الباهر في اليوم الثالث من يوليو عام 1863 ولقد نام الرئيس ليلته ملء جفونه لأول مرة منذ قامت الحرب، وفي اليوم التالي حمل إليه البرق رسالة من القائد جرانت، وكانت له القيادة في الغرب على ضفاف المسيسبي. . . وفض الرئيس الرسالة فإذا جرانت ينبئه أن قد سقطت في يده فِكِسبرج. . . وكانت هذه المدينة تسمى (جبل طارق) المغرب، إذ كانت مفتاح النهر إلى الجنوب. ولقد جمع فيها أهل الجنوب ما استطاعوا من قوة وعدة؛ وكان جرانت قد اتجه إليها منذ فاتحة ذلك العام، وكان هو وجنوده يلقون النار الحامية من المدافعين عنها، ولكنه لم يعبأ بما كان يلقى، ولبث يعمل في صمت وهدوء حتى أحكم الخطة فأحاط بالمدينة، وأتى حاميتها من فوقهم ومن أسفل منهم وما زال بهم حتى أجبروا على التسليم تاركين في يده ثلاثين ألفاً من الأسرى وعدداً هائلاً من البنادق والأسلحة ومقداراً كبيراً من المؤونة والزاد. . .
ولا تسل عما فاض في العاصمة الشمالية من مظاهر الجذل والحبور؛ فلقد شعر الناس بقرب انكشاف الغمة والتمعت في سمائهم بوارق الأمل في النصر النهائي بعد هذا العذاب
الشديد. . .
واشتدت العزائم ورأى المستضعفون واللذين استكبروا ما كانوا قبل في عمى عنه؛ رأوا فضل رئيسهم وعاقبة ثباته وصبره، فراحوا يتوبون إليه ويهنئونه بما صبر. . .
والرئيس يشارك القوم جذلهم، ولكن نشوة النصر لا تصرف عينيه عما هو فيه، كالربان الماهر الحاذق، لن يدير عينيه عن البحر إذا هو اجتاز مكاناً تتجمع فيه الصخور، ولن يزال محدقاً متيقظاً حتى تلقى السفينة مراسيها. . .
وكان في نفس الرئيس شيء يكاد يكربه فينسيه فرحة النصر، وذلك أن ميد قد وقف فلم يتعقب لي ويجهز على جيشه لدى انسحابه، فلقد كان عليه أن يعبر النهر ليعود إلى ولاية فرجينيا، وعبور النهر ليس بالأمر الهين على جيش ينسحب؛ ولكن ميد كان يرى الجيش في حالة من الإعياء لا يستطيع معها أن يقوده إلى أي زحف مهما هان أمره، فلقد جاء نصره بشق الأنفس. . . وأحس القائد المنتصر الحرج من وقوف الرئيس حياله فطلب إليه أن يعفيه من القيادة، فرد عليه الرئيس ملاطفاً في صفح يشبه الاعتذار
وكأنما جاء انتصار الشماليين في المعركتين في تلك الأيام على قدر من الظروف، فلقد كانت تأتي الأنباء من خارج أمريكا بسوء موقف الحكومة الإنجليزية من قضية أهل الشمال! تلك الحكومة التي كان يعتقد لنكولن أنها سوف تحمد له قضاءه على العبودية فأعلن قرار التحرير وفي نفسه هذا الرجاء؛ ولشد ما آلمه بعدها أن يرى الحكومة تتذبذب وتلتوي ولا تخطو إلا على هدى من مصالحها المادية.
وكان مما يخفف وقع هذا الجحود على نفس الرئيس ما كانت تأتي به الأنباء من موقف أحرار الشمائل من الشعب الإنجليزي حياله، فلقد علم أن اجتماعات عقدت في مانشستر ولندن هتف فيها باسم الرئيس هتافاً عالياً حتى لقد وقف الناس في أحدها دقائق يلوحون بقبعاتهم في الهواء عند ذكر اسمه؛ وظل هذا موقف الأحرار في الشعب الإنجليزي حتى وصلت إليهم الأنباء بالانتصار السالف الذكر فاستخذى الطامعون وذوو الأغراض من رجال الحكومة والبرلمان، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يتخذوا من انتصار الجنوبيين ذريعة لإعلان اعترافهم بهم كأمة مستقلة، والذين بلغ بهم الحقد على لنكولن وحكومته أن جهزوا سفناً لمناوأة تجارة الشماليين في المحيط وأرسلوا بعضها فعلاً لهذا الغرض.
تلك هي نتائج الانتصار في المعركتين وأثره في الداخل والخارج. . قال لنكولن عندما قرأ رسالة جرانت: (الآن يستطيع أبو المياه أن يذهب من جديد إلى البحر وليس في سبيله عائق). . واجتمع الناس في حفل كبير في مكان معركة جتسبرج ليمجدوا ذكرى ضحاياها وطلبوا إلى الرئيس أن يخطبهم في هذا الحفل المشهود فكان مما قاله: (منذ سبعة وثمانين عاماً أقام آباؤنا في هذه القارة أمة جديدة، نشأت على الحرية وعلى ما نودى به من أن الناس خلقوا جميعاً على سواء، ونحن الآن في حرب أهلية هي بمثابة اختبار لنرى هل تستطيع هذه الأمة أو أية أمة نشأت نشأتها أن تعيش طويلاً. . . ونحن نجتمع هنا لنخلد موضعاً منها نجعله مقراً نهائياً لهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم كي تستطيع أمتهم أن تعيش؛ وهذا عمل مناسب ولائق بنا، ولكنا لن نستطيع في معنى أوسع أن نخلد أو نقدس هذه البقعة. . . إن البواسل من الرجال سواء في ذلك الأحياء والأموات الذين ناضلوا هنا قد خلدوها أكثر مما تستطيع قوتنا أن تزيد عليها أو تنقص منها وإن العالم سوف لا يهتم كثيراً وسوف لا يتذكر طويلاً ما نقول هنا ولكنه لا يستطيع أن ينسى ما فعل هؤلاء). . . ثم زاد على ذلك فقال (يجب أن نصمم على ألا ندع موت هؤلاء يذهب عبثاً وعلى أن تعطى هذه الأمة في عناية الله مولداً جديداً هو مولد الحرية، وعلى أن تكون حكومة الشعب التي قامت بالشعب وللشعب، بحيث لا تزول أبداً من فوق الأرض)
هذا هو خطاب الرئيس الذي سمعه الناس في تلك البقعة التي صبغتها دماء المجاهدين. ولقد وصلت كلماتها إلى أعماق نفوسهم فهزتها هزاً لم يتمالك معه الكثيرون أن يحبسوا دموعهم من فرط ما أحسوا من المعاني. . .
وآمن كثير من دعاة الهزيمة والتردد بما كان لثبات الرئيس من فضل، وأيقنوا أن سوف يكون مرد انتصارهم في النهاية إلى هذا الذي يحمل أثقال قومه فلا ينوء بها ولا يزداد على المحن إلا صلابة واعتزاما.
ولاحظ عليه المتصلون به أن تلك الشدائد وإن لم تنل من عزمه، قد نالت من جسده، ورأوا السنديانة يمشي إليها الذبول شيئاً فشيئاً حتى ليخافوا أن تذوى فتسقط - أجل فزع الناس أن يروا إبراهام تتجمع وتتزايد في وجهه التجاعيد وهو من صدر شبابه لم يك خلوا منها، وأن يلمحوا في صفحة هذا الوجه المحبوب إمارات الجهد، وفي نظرات تلك العينين الواسعتين
أثر السهد وطول العناء. . .
ولكن روحه أقوى واعظم من أن يتطرق إليها الوهن، أو أن تتأثر بشيء مما يصيب جسده. . . أليسوا إذا جلسوا إليه لا يزالون يستمتعون بأحاديثه العذبة ونكاته المطربة الظريفة؟ أو ليسوا يسمعون حتى في تلك الأيام ضحكاته التي قد يطلقها أحياناً فتذهب في أرجاء الحجرة مجلجلة مدوية؟ ذهب إليه أحد الرجال في أمر من الأمور الهامة فأخذ الرئيس يقص عليه من قصصه حتى لم يطق الرجل صبراً فقال وفي لهجته حدة وفي عبارته شدة:(أيها الزعيم إني ما جئت هنا هذا الصباح لأسمع قصصاً. . . إن الوقت عصيب). فاستمع إلى الرئيس يقول له في رزانة وأدب (اجلس يا أشلى، إني احترمك كرجل مخلص ذي حمية، وإنك لم يبلغ اهتمامك أكثر مما بلغ اهتمامي هذا الذي ما فارقني منذ أن بدأت تلك الحرب، وإني أقول لك الآن إنه لولا هذا الذي نفس به أحياناً عن نفسي لحاق بي الموت).
ومن أولى من هذا الرجل وأحق أن ينفس عن صدره في هذه الشدائد المتلاحقة؟ هذا إلى أنه فيما يفعل إنما يصدر عن طبيعة لا قبل له بالتخلص منها. ولقد كان مما يستعين به في ضيقه أن يقرأ، وكانت مآسي شكسبير وفي طليعتها ماكبث ما يتناوله من الكتب. وأنه يفرح ويهش لمن يشاركه عواطفه وميوله كما أنه كان يضيق بالمتزمتين اللذين يزيدون الحياة بتبرمهم وسخطهم أثقالاً فوق أثقالهم. .
وسار العام الثالث إلى نهايته والبلاد يتزايد أملها في النجاح بعد أن كاد يعصف اليأس بالقضية كلها فيأتي عليها، فلقد رأينا ما كان من دعاة أعداء الحرب وعملهم على عرقلة مساعي الرئيس ومن هؤلاء ولدنجهام الذي مر بنا ذكره. . . وهنا نشير إلى رجل آخر هو حاكم ولاية نيويورك، فلقد كان هذا الرجل من أكبر المنادين بضرورة وضع حد لهذه الحرب أن كان لا يصيب الشماليين منها إلا الهزائم. . . ولقد أدت سياسته إلى قيام ثورة عنيفة في مدينة نيويورك قام فيها المشاغبون ودعاة الفوضى بأعمال عنيفة، وبالغوا في تمردهم وعصيانهم، حتى اضطرت الحكومة أن ترسل عليهم فريقاً من الجند يقضون على الفتنة. ومن غريب أمر هؤلاء المتمردين أن قامت حركتهم التي دبروها من قبل عقب الانتصار في جتسبرج وفكسبرج، وسبب عصيانهم يرجع إلى قرار أصدره المجلس
التشريعي في مستهل ذلك العام بناء على اقتراح الرئيس يحتم على كل رجل صحيح البدن بين العشرين والخامسة والأربعين أن يحمل السلاح في سبيل قضية الاتحاد. . . ولقد كانت حركة نيويورك هذه من مآسي ذلك العام، ولولا أن جاء النصر وأشرق نور الأمل في ظلام اليأس لكان من الجائز أن تمتد الفتنة فتأنى على كل شيء.
وافتتح العام الرابع والأحزاب تتأهب للانتخاب، فلقد قرب موعد الانتخاب للرياسة، ورأى المخالفون الفرصة تواتيهم ليعلنوا ما في نفوسهم نحو الرئيس لنكولن وسياسة حكومته.
وظهرت في الصحف وتواترت على الألسن أسماء مرشحين جدد لينافسوا الرئيس؛ فإن الديمقراطيين كانوا يقدمون ماكليلان، ذلك الذي انسحب من الحرب على نحو ما رأينا؛ وكان بعض الجمهوريين، وعلى رأسهم جريلي، ذلك الذي ما فتئ ينتقد الرئيس ويسدي له النصح، يرشحون جرانت وتشيس وزير المالية، وفريق منهم رشحوا فريمونت لهذا المركز السامي.
ولبث الرئيس مطمئناً ساكناً إن خاف على شيء فليس خوفه على كرسي الرياسة، ومتى ذاق طعم الراحة في ذلك الكرسي؟ وإنما كان يخشى أن يترك قيادة السفينة لربان غيره وهي لما تزل في طريقها، ولو أنه كان موقناً أنه يوجد غيره يقودها كما يقود هو لما تردد أن يعطيها له، فحسبه أن تصل إلى المرفأ. . . وكثيراً ما كان يقول: إنه لو وجد في الرجال من يحسن إدارة الأمور خيراً منه لتنازل له عن طيب خاطر بل لقبل ذلك مبتهجاً إذ يرى فيه وسيلة من وسائل النجاح.
على أنه يترك الأمر للبلاد فهي صاحبة القول الفصل، قال في تلك الأيام لبعض جلسائه: (إن انتخابي للرياسة مرة ثانية إنما هو شرف عظيم كما أنه عبء عظيم، وإني لن أجفل منهما إذا قدر لي ذلك. . .
ولكن البلاد لم تبغ من رجلها بديلاً، وما لبث أن أدرك مخالفوه أنهم كانوا واهمين، وكيف تتخلى البلاد عن ذلك الذي تدين بنجاحها له؟ ولماذا ينصرف عنه الناس ومكانته عندهم في صميم قلوبهم؟ لأنه أبلى فاحسن البلاء، وصبر فاجتنى من الصبر الظفر، وسهر فلم يشك يوماً من السهر؟. . . لقد كان الناس يدعونه في تلك الأيام بقولهم:(أبونا إبراهام) وكانوا يخاطبونه فيقولون: يا أبانا ماذا ترى في كيت وكيت، وما كان أحلى هذا اللقب يضاف إلى
ألقابه. . .
ألا إن الناس ليحرصون على (أبيهم) لا تدور أعينهم إلى غيره ولا تتسع قلوبهم لسواه؛ فها هي ذي العرائض بترشيحه تترى على الحزب من أنحاء البلاد ومن ميادين القتال في كثرة عظيمة تليق بجلال قدره وخطورة شأنه وجليل ما قدمت يداه. . .
وندع الآن ذلك لنعود إلى الحرب وشؤونها؛ وأول ما نذكره أن الرئيس قد أتفق مع المجلس التشريعي على إسناد القيادة العليا للجيوش جميعاً إلى القائد جرانت. . ثم كتب إلى جرانت يدعوه إلى العاصمة فحضر اليها، وذهب إلى البيت الأبيض فلقى الرئيس وسمع منه عبارات الإطراء والثناء ثم تلقى منه نبأ تعيينه في منصبه الخطير.
ولقد تزاحم الناس وتدافعوا بالمناكب حول البيت الأبيض وفي قاعاته ليروا هذا القائد الذي تعلق عليه بعد زعيمهم الآمال. . . ولقد علق جرانت على هذا اللقاء العظيم بقوله (هذه معركة أشد حراً مما شهدت في الميادين من المعارك. .)
وبعد أن درس القائد خططه المقبلة مع الزعيم ورجاله، استأذن في الرحيل فطلب إليه الرئيس أن يبقى قليلاً ليحضر وليمة أعدتها زوجه تكريماً للقائد ولم يكن يعلم بها من قبل ليدعوه إليها فاعتذر شاكراً من عدم قبوله بقوله (حسبي ما لاقيته من تلك المظاهر أيها الزعيم. . .) وفرح الزعيم أن يسمع ذلك من القائد وهل يهدم الرجال إلا الغرور وحب المظاهر الفارغة؟
ورحل جرانت إلى الميدان وقد زوده الرئيس بقوله (أنت رجل همة وعزيمة، وأنا لا أريد وقد سرني ذلك أن أضع في طريقك ما عساه أن يعوقك، وإذا كان في طاقتي أي شيء يمكن أن أمدك به فدعني أعرف ذلك. . . والآن سر في عون الله على رأس جيش باسل وفي سبيل قضية عادلة).
(التتمة في العدد القادم)
الخفيف
في الأدب العراقي
ديوان الشبيبي العتيد
للأستاذ الحوماني
في الكرادة من ضواحي بغداد وعلى شاطئ دجلة بيت متواضع يسكنه الشاعر العراقي الكبير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) وزير معارف العراق.
هو في منتهى دور الكهولة ويوشك أن ينهد إلى الخمسين، يعمل عقله فيما يجيب أو يقترح، تتخلل جمله في القول فترات تنم على ذلك، رزين كل الرزانة وهو يحدث، ويميل في شعره إلى الإصلاح الأخلاقي في المجتمع. لا يحب أن يجامل ولا أن يظهر أمام زائره بمظهر العز المكسوب، يزيد التألم خديه وما أحدق بعينيه - وهو يتكلم - تجعداً يبدو لك من وراءه ومن خلال ابتساماته الضئيلة سر عميق في نفسه يبعثه البؤس والشقاء مما يكابد في قومه. وإذا لم يرقه حديث جلسائه ولم يستطع مغادرة المجلس تشاغل بمطالعة الصحف، وقد يشيح بوجهه وهو يتكلم كأنما قد ذكر أمراً قد أنسيه، ثم يمعن في التشاغل عنك حتى إذا لفته إليك أدب المجالسة عاد مقبلاً عليك تقرأ في وجهه الاعتذار لك. لا يستقر به المجلس أكثر من بضع دقائق، وإذا لفته الزهر المحدق بالمجلس رأيته على ما فيه من رزانة يستخفه النظر فيهيم في الروض مع نسيم دجلة البليل.
الروح الشاعرة إما أن يربيها الألم فينشأ صاحبها متشائماً قليل الحظ من متع الحياة، فلا تراه في شعره غير شاك أو متألم؛ وإما أن تربيها اللذة فينشأ صاحبها متفائلاً لا يعرف وجهاً للألم في الحياة.
وقد تربى الروح الأولى في النفس نقمة على المجتمع واستعداداً للانتقام منه، كما قد تربى الروح الثانية في نفس الشاعر النكتة في الأدب والاستسلام للشهوات.
وقد يتعزى الشاعر المتألم بملهى أو مقهى كما قد يثوب أخوه الغاوي ويرعوي عن غيه فيلهمانه معاً جمال الشعر النفسي في معرض الآلام، على أن الأول أكثر تألماً لما يستقبل، والثاني أمضى ألماً على ما خلف
يعجبني من النوع الأول شعر العلامة الشبيبي يقول:
هي السائل والأشعار والخطب
…
هَمٌّ عليَّ ثقيل هذه الكتب
إحدى العجائب عداً أن يثقفنا
…
قوم ثقافتهم في أرضنا عجب
من معدن الشر ما سنوا وما شرعوا
…
ومن معانيه ما خطوا وما كتبوا
في كلماته هذه صورة بالغة في الألم النفسي. وأمض ما يؤلم الشاعر الحر أن يرى الحق مهجوراً والباطل يعمل به، وآلم لديه من ذلك أن يرى ذا الباطل يتولى الحكم في الناس على أنه محق ثم يعاقب المحق على أنه مبطل.
يرى الشاعر الحر كل ذلك ثم يرى بعده أن المجتمع راض عن هذه الحكومة، أو يتجرعها على مضض وهو يستطيع أن يلفظها، فلا يلبث شاعر الإنسانية أن يقذف بركانه حجراً تفيض به نفسه شعراً.
شر العصور وفي العصور تفاوتٌ
…
عصر به تتقدم الأوغاد
أنظر إلى الأعجاز كيف تصدرت
…
وعمائم السادات كيف تُساد
ثم هو يقول وقد غادر وطنه العراق إلى دمشق فحن إلى الكرخ أحد أحياء بغداد:
ببغداد أشتاق الشام وها أنا
…
إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
هما وطن فرد وقد فرقوهما
…
رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
ويقول في التمدن العنصري مشيراً إلى الغرب:
يعيش سعيد مفرد بين معشر
…
شقي وحيٌّ واحد بين أموات
وكم جسد فوق الأخادع شاخص
…
إلى جثة تحت الاخامص ملقاة
وما الزمن الماضي بأعظم محنة
…
من الحاضر الموصول بالزمن الآني
يظنون هذا العصر عصر هداية
…
وأجدر أن ندعوه عصر ضلالات
فإن خرافات مضت قد تبدلت
…
حقائق إلا أنها كالخرافات
تلك هي نفثات شاعر المجتمع ينظر إلى أمة بعين ملؤها الحنان وقد ضغطها ظلم القوى فأهابت بشاعرها وهو مغلول اليد فأطلق فكرة من عقال الوهم والخيال، ثم أجالها فيما يقمع الظلم ويتمشى معه إلى إصلاح شعبه. ألم تره وقد لاح له بارق أمل يتلمس في أمته روح النهضة من وراءه، يثير الهمم ويشحذ العزائم حيث يقول:
نفذ الصبر فهبت فزعاً
…
وأبى السيف لها أن تضرعا
أمة خرساء كم واش وشى
…
بنواديها وكم ساع سعى
أزمعت ألا يراها حملا
…
غاصب صال عليها سبعا
إلى أن قال:
صلة الشرقي بالماضي ارجعي
…
لا تعودي سنداً متقطعا
جددي عهد على غازياً
…
وأعيدي مالكا والنخعا
ربما وقفت من الشاعر على بيت واحد علمك أنه شاعر، فلا أريد أن أشير لك إلى هذه القطع وما فيها من روح فياضة بالألم الممض مما يسمع ويرى، ولا أن أقول لك إن الروح الفياضة بالحزن أدق شعوراً بالحياة من الروح الفياضة بالسرور، وقد عرضت لإثبات ذلك مراراً مرت بك. أجل، ولا أريد أن أرجع بك في إثبات الشاعرية لهذا المصلح العراقي الكبير، إلى ما في هذه الأبيات من دقائق وقفت بالشعور الحي أن يتجاوزها إلى ما تسمع كثيراً وتقرأ كثيراً من شعرائنا الخنع في عصر النهضة.
وإنما أريد أن تعود معي إلى تصفح هذه القطع مرة ثانية لأسألك عما تشعر وأنت تقرأ عجز المطلع الأول: همٌّ عليَّ ثقيل هذه الكتب. وعما يخلقه في نفسك حنينه وهو في الشام إلى الكرخ من بغداد؟ ثم إلى ماذا يصل بك عبث الخيال وما يأتيه من فن؟
وقد يحسب العقل الواهم أن الشاعر قلما يعمل الخيال فيما تثور معه العاطفة من شعر، وكثيراً ما يقولون: إذا ثارت العاطفة كان الشعر، غالباً، خلواً من الإبداع في الفن.
أما إن عنوا بذلك خلوه من الفن اللفظي فأنا معهم، لان توجيه الفكر إلى صناعة اللفظ يحول دون فيضان الروح بما تتأثر به من مشهد يثير فيه عاطفة ما، وإذا تأثرت الروح فليس للعاطفة أن تمهل الفكر في أعمال الخيال، ضرورة أن الإبداع فعل، وثورة النفس انفعال يجيش بركانه في الصدر فيقذف حممه.
وأما أن يريدوا خلوه من الإبداع في الفن من حيث تناوله اللفظ والمعنى معاً أو المعنى فقط فلا أراني على وفاق تام معهم لما سمعت من قوله (شر العصور الخ) إلى ما جاء في القطعتين الأخيرتين فقد يبرهن لك عن اجتماع الخيال مع العاطفة فيخرج الشعر خالد الفن بين خيال يبدع وعاطفة تثور.
هذه كلمة نسوقها تمهيداً لهذا الشعر الخالد من الشعر العبقري قبل أن يخرج ولما يزل تحت الطابع؛ وسوف نعززها بكلمات بعد خروجه تكشف عن كثير من أسرار هذا الشاعر
العبقري المعجز في عالم الفن.
الحوماني
نزيل بغداد
النارنجة الذابلة في الربيع
لفقيد الشباب والأدب
المرحوم محمد الهمشري
كانت لنا عند السياج شجيرة
…
ألف الغناَء بظلها الزرزور
طفق الربيعُ يزورها متخفياً
…
فيفيض منها في الحديقة نور
حتى إذا حل الصباح تنفست
…
فيها الزهور وزقزق العصفور
وسرى إلى أرض الحديقة كلها
…
نبأ الربيع وركبه المسحور
كانت لنا. . . يا ليتها دامت لنا!
…
أو دام يهتف فوقها الزرزور
قد كنت أجلس صوبها في شرفتي
…
أو كنت أجلس تحتها في ظلتي
أو كنت أرقب في الضحى زرزورها
…
متهللا يغشى نوافذ حجرتي
طوراً ينقِّر في الزجاج وتارة
…
يسمو يزرزر في وكار سقيفتي
فإذا رآني طار في أغرودة
…
بيضاء واستوفى غصون شجيرتي
فمتى يؤوب هتافه؟ ومتى أرى
…
نوَّارك الثلجي يا نارنجتي؟!
ومتى أطير إليك. . . ترقص مهجتي
…
فرحاً. . . وآخذ مجلسي من شرفتي؟!
هيهات لن أنسى بظلك مجلسي
…
وأنا أراعى الأفق نصف مغمض
خنقت جفوني ذكريات حلوة
…
من عطرك القمري والنغم الوضي
فانساب منك على كليل مشاعري
…
ينبوع لحن في الخيال مفضض
وهفت عليك الروح من وادي الأسى
…
لتعبَّ من خمر الأريج الأبيض
هيهات. . . لن أنسى ضحى (سبتمبر)
…
والنحل يغشى نورك المتلالي
ومساء مارس كيف يهبط تلة
…
شفقية. . . ممدودة الأظلال
نزل الحديقة تحت أرهام الندى
…
وضفا عليك معطر الأذيال
فهناك كم ذهبية شغفت بها
…
روحي فتاهت في مروج خيال
وهنا تحركت الشجيرة في أسى
…
وبكى الربيعَ خيالها المهجور
وتذكرت عهد الصبى فتأوهت
…
وكأنها بيد الأسى طنبور
وتذكرت أيام يرشف نورها
…
ريق الضحى ويزرزر الزرزور
وعرائس النارنج تحلم في الندى
…
فيرف فيها طيفه المسحور
وتذكرت عند (السياج) أزاهراً
…
صفراء رفت في ظلال العوسج
(زهر القطيفة) كيف خان عهودها
…
نسى الهوى من عطرها المنبلج
وتذكرت. . في رعشة لما سبا
…
زرزورها منها ولم يتحرج
وهنا نشبت في الشجيرة خلجة
…
وبكت حنيناً للشذا المتأرج
وتذكرت شفقاً توهج حمرة
…
خلل الغيوم على ربا الآصال
وبدت غصون الجزورين كأنها
…
قلع ترفرف في بحار خيال!
وهنا تحركت الشجيرة في أسى
…
وبكى الربيع خيالها المهجور
وتذكرت عهد الصبا فتنهدت
…
وكأنها بيد الأسى طنبور
وتذكرت شجر النخيل وهدهداً
…
قد كان يقصدها صباح مساَء
وتذكرت في اليوسفي يمامة
…
كانت تنوح الليلة القمراء
وضفت على كل الغصون سحابة
…
وزكا الغصين وفتَّح النوار
وتهلل الزرزور في أوراقها
…
وزها السياج وفاحت الأعطار
حلمت بأرض في الخيال سحيقة
…
في ذلك الأفق القصى النائي
خلدت إلى صمت هناك مخيم
…
تسجوا عليه خوافق الافياء
هي جنة الأشجار والاظلال وال
…
أعطار والأنغام والأنداء
يتزاهر البشنين فوق شطوطها
…
ويغازل الدفلى زهر اللوتس
وعرائس النارنج فاح عبيرها
…
بالنخل تحلم في السكون المشمس
وهناك زرزور يغرد دائماً
…
ويقص أحلام الزهور النعس
يروى لها أسطورة سحرية
…
مما يفوح به خيال النرجس
نارنجتي! والله مذ فارقتني
…
وأنا حليف كآبة خرساء
أصبحت بعدك في انقباض موحش
…
وكأنني منه مساء شتاء
تستشرف الأعطار في آفاقها
…
روحي إليك وراء كل فضاء
وترف في دهليز كل أشعة
…
قمراء أو ترنيمة بيضاء
قد كنت أرجو أن تكون نهايتي
…
في ظل هذا السور حيث أراك
ويكون آخر ما يخدر مسمعي
…
زرزورك الهتاف فوق ذراك
ويطوف في غيبوبتي فيفيقني
…
فجر قصير البعث من رياك
والآن إذ عجل القضاء فإنما
…
سيقوم في الذكرى خيال شذاك
وسرى إلى أرض الحديقة كلها
…
نبأ الربيع وركبه المسحور
كانت لنا. . . يا ليتها دامت لنا
…
أو دام يهتف فوقها الزرزور
محمد الهمشري
البريد الأدبي
كتاب جديد في التصوف الإسلامي
محيي الدين بن العربي من كبار متصوفة الإسلام وأقطاب فلاسفته الذين تركوا ذخيرة فكرية غير ضئيلة، ولم يتعرض لدرسها غير نفر قليل من أعلام المستشرقين، فقد تناولوا بعض نواحيها بما هي جديرة به من البحث والتنقيب. وتقوم اليوم جامعة كمبردج بطبع رسالة لأستاذ مصري هو الدكتور أبو العلا عفيفي قدمها منذ بضع سنوات لنيل إجازة الدكتوراه منها وهي
وقد تناول المؤلف في هذا البحث القيم عدة نواحي جديدة في فلسفة ابن العربي، ودرسها دراسة عميقة، محللاً ومفسراً وناقداً فقسمها إلى أربعة أقسام.
تناول في القسم الأول (النظرية الوجودية) عند هذا الفيلسوف المسلم، وهي تتعلق بنظرته للوجود الإلهي وبوجود العالم؛ ثم خصص القسم الثاني منها لنظريته (المعرفة) وبحث فيه عن أنواع المعارف الإنسانية عامة والمعرفة الصوفية خاصة وكيف يتوصل إليها، والذين درسوا التصوف الإسلامي لا بد قد أدركوا (غموض المعرفة) وما يحتاج إليه دارسها من صبر طويل في تقصيها من نواحيها المختلفة.
وتناول الدكتور أبو العلا عفيفي في القسم الثالث منها (علم النفس كما يفهمه ابن عربي) وهو باب جديد في دراسة ابن العربي استطاع المؤلف فيه أن ينفذ إلى آفاق جديدة وأن يخرج منها بآراء مستجدة في هذه الناحية المجهولة.
وتناول في القسم الرابع والأخير منها آراءه في الأخلاق والجمال وفي مصير الإنسان وفي معنى الجزاء بصورتيه (الثواب والعقاب) وفي الدار الآخرة. ولا مشاحة في أن قيام جامعة كمبردج بطبع هذا السفر للمؤلف المصري دليل على أهمية الكتاب من حيث التحليل والبحث لشخصية تعد في طليعة الشخصيات التي تركت أثراً عظيماً في الفلسفة الإسلامية وفي التفكير الإسلامي ونحت به منحى خاصاً فيه كثير من العمق.
(ح. ح)
النظام والخليل في ضحى الإسلام
روى الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام (3: 106) في سياق ترجمته للنظام - عن صاحب كتاب سرح العيون - أن النظام دخل على الخليل بن أحمد وهو صغير، ثم ساق محاورة جرت بينهما لا يعنينا أمرها، وإنما يعنينا أن هذه الرواية مدخولة ظاهرة الدخل من حيث إمكان التلاقي بين الخليل والنظام. فأما النظام فقد ذكر الأستاذ في الصفحة نفسها أنه مات سنة 221 في نحو السادسة والثلاثين من عمره. ومعنى هذا أنه ولد في نحو سنة 185 وأما الخليل فقد ذكر الأستاذ أيضاً في ضحى الإسلام (2: 184) أنه مات سنة 175، كما ذكر ابن النديم أنه مات سنة 170، يعني أن بين موته وبين ميلاد النظام عشر سنوات على الأقل.
فرواية سرح العيون لم يكن من اللائق علمياً أن يعتمد عليها وخصوصاً إذا كانت هذه الرواية قد أوردها الجاحظ في الحيوان (3: 146) بصورة أخرى لم يذكر فيها اسم الخليل.
لعل الذي حمل الأستاذ على الاحتفاء برواية سرح العيون، وإغفال رواية الحيوان، هو أن الأولى مفصلة والأخرى مجملة، وليس هذا بمرجح في التحقيق العلمي، فلعل ذلك التفصيل هو من قبيل الحمل والتزيد. إن مما يحمل على العجب أن تفضل رواية ابن نباتة في القرن الثامن عن النظام على رواية معاصره الجاحظ فما بال الأستاذ إذا كانت رواية ابن نباتة على ما رأينا من فساد ظاهر؟
أبو حيان
رابطة التربية الحديثة
تنوي رابطة التربية الحديثة أن تدعو الأستاذ ادولف فربير وهو من أعلام التربية الحديثة لإلقاء بضع محاضرات عامة في هذا الشتاء.
وقد تلقت الرابطة من مركزها الرئيسي بلندن قائمة تنظيم الموضوعات التي تشغل بال رجال التربية في الوقت الحاضر وهي: -
التنافس والتعاون. المقصود من الحرية في التربية. النظام. المسؤولية والحكم الذاتي. المدرسة كمجتمع. الطرق الفردية في الفصل. علم النفس الحديث والطفل. الدين والتعليم الديني. تشغيل الأحداث وبطالتهم. آثام الأحداث. التعبير الذاتي الابتكاري. إعداد المعلم.
وستعمل الرابطة على دراسة تلك الموضوعات دراسة علمية فنية. أما أعضاء الرابطة المصريون فقد قام لفيف منهم بدراسة بعض الموضوعات في إجازة الصيف. ونذكر رؤوس تلك الموضوعات فيما يلي:
التربية الجنسية. مشروع لمدارس الحضانة. تقريرا مان وكلاباريد وما استفادته مصر وما يمكن أن تستفيده منهما. البحث العلمي في التربية. سجل التلميذ. التفرقة أو التوحيد بين الولد والبنت في التعليم. مشكلة تعليم اللغات الأجنبية في مصر. وسائل النهوض بالحياة الريفية. اتجاه جديد في دراسة الأدب العربي. حاجة مصر للتوجيه المهني. هل يقوم التعليم الصناعي على أسس صحيحة. التوفيق بين طريقة المشروع والبرامج الحالية في مصر والخارج. سياسة التعليم بمصر. الروح المدرسية.
دار العلوم وكلية اللغة العربية
كتبت في الرسالة (العدد 283) كلمة عرضت فيها بعض الحجج التي تدفع محاولة الأزهر منافسة دار العلوم في تدريس اللغة العربية بالمدارس، وتبين تفرد دار العلوم من حيث ثقافتها الشاملة ومن حيث إنها البيئة التي تعد فيها وزارة المعارف المعلم على الغرار الذي تتطلبه لمدارسها. فتعرض (أزهري) في العدد (284) لما سقته في الكلمة السابقة وناقش المسائل الآتية:
قلت: ليس من المساواة الحقيقية أن يعين الأزهريون في وظائف التدريس بالمدارس دون أن يعين أبناء دار العلوم في وظائف التدريس بالأزهر. فرد (أزهري) على هذا بأن في المعاهد الأزهرية مدرسين من أبناء الدار كثيرين. فهو يحتج بوجود كبار الأساتذة من أبناء دار العلوم الذين انتدبهم الأزهر أو عينهم حين بدء في إدخال عناصر ثقافية جديدة فيه. وأنا لم أقصد هؤلاء لان الأزهر استدعاهم لحاجته الطارئة، وإنما أعني اللذين يتخرجون في دار العلوم في الحال: هل يأخذ الأزهر منهم للتدريس في معاهده كما يأخذ من المتخرجين في كلياته؟ أم هل يجري بين هؤلاء وهؤلاء مسابقة لذلك، كما يريد الأزهريون أن يشغلوا وزارة المعارف بإجراء مسابقة - لا مقتضى لها - بينهم وبين أبناء دار العلوم للتدريس في المدارس؟
وقلت إن دار العلوم في عهدها الجديد تتفرد من بين جميع معاهد التعليم بالجمع بين
الدراسة العربية المستفيضة ودراسة اللغات الأجنبية والسامية وآدابها. فقال (أزهري) إن العهد الجديد يميل بدار العلوم إلى التعاليم الغربية الجامحة التي تباعد بين القديم الخالد وبين ناشئة الأمة. وهذه فلتة من فلتات ما وراء الشعور، فالأزهر يحرص في هذه الأيام على الدعوي بأنه يعمل على مسايرة روح العصر. وليعلم (أزهري) أن النهضة الفكرية والأدبية خاصة قامت على الجمع بين الثقافتين العربية والغربية وإنكار ذلك من قبيل إنكار البدهيات؛ وهذا ما عنيت بالتبرئة من الجمود، أبرأ الله (أزهرينا) منه.
وقال (أزهري): لو راجع الكاتب ذاكرته لذكر أن الاتفاق على حلول كلية اللغة العربية محل دار العلوم، حديث مفروغ منه. فمتى كان هذا الاتفاق؟ ولم؟ وفي أي ذاكرة يوجد غير ذاكرة الأحلام؟! والغريب أن يتمثل بعد ذلك بالبيت الذي أصلحت (الرسالة) روايته:
أريد حياته ويريد قتلي
…
عذيرك من خليلك من مراد
وهو يريد تنفيذ ذلك الاتفاق الموهوم بإلغاء دار العلوم، فكيف يريد حياتها؟!
وبعد فإن إخواننا الأزهريين في مطلبهم ذلك إما أنهم يريدون أن ينفعوا بعلمهم، وإما أنهم طلاب وظائف فحسب. أما الأولى فإن أبناء دار العلوم يقومون بالمهمة خير قيام، ولا نحسب خريجي كلية اللغة العربية أكثر كفاية من اللذين ينتدب الأساتذة من بينهم لتعليمهم، فيبقى الأمر الثاني وهو أنهم يطلبون الوظائف فحسب، وهذا ما لا حق لهم فيه، فإن في ميدان الوظائف الأزهرية ما يكفهم عن ترزيء أبناء دار العلوم فيما يضيق بهم، وما خلقوا من أجله.
(ع. ح. خ)
وفاة شاعر شاب
فجع الشباب والأدب في ليلة الأربعاء الماضي بوفاة الشاعر الوجداني الرقيق محمد الهمشري محررمجلة التعاون بوزارة الزراعة، فكان لنعيه الفاجيء وجوم شديد في أندية الأدب والصحافة، لأنه كان أملاً من آمال الشعر الحديث، ومثلاً من الأمثال الطيبة للخلق وللصداقة. وقد نشر الفقيد ملحمة بعنوان (شاطئ الأعراف) واشتهر بقصيدته (جيث الفاتنة) وكان بصدد أن يجمع من شعره ما نشر وما لم ينشر في ديوان. رحمه الله رحمة واسعة
وألهم أهله وصحبه جميل الصبر.
رواية جان دارك
الموضوع: جان دارك، والمؤلف: برناردشو، والمترجم: الدكتور أحمد زكي بك ناقل ذات الكمليا وقصة الميكروب! فالقارئ لا يدري من أية جهة يأخذه البيان والفن والسمو! أخرجتها لجنة التأليف والترجمة والنشر فيما أخرجت من عيون الأدب الغربي فكانت واسطة القلادة. نبادر اليوم بإعلان ظهورها إلى قراء الرسالة، وسنعود إلى الحديث عنها في العدد القادم.
رواية بيت
حضرة الأستاذ الأديب الكبير صاحب الرسالة الكريمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عذيرك من خليلك من مراد
…
أريد حياته، ويريد قتلي
أوردت البيت على هذه الصورة في كلمتي التي تفضلت الرسالة بنشرها في العدد (284) دار العلوم والأزهر - فعلقتم عليه بما نصه: الرسالة: (روي الأستاذ الكاتب هذا البيت على هذا النحو، وهو لدريد بن الصمة، وصوابه:
أريد حياته، ويريد قتلي
…
عذيرك من خليلك من مراد
وفي الأغاني ج14 ص32 طبعة الساسي المغربي، في أخبار عمرو بن معد يكرب ما نصه: (وكان عمرو غزا هو وأبيَّ المرادي، فأصابوا غنائم، فادعى أبيَّ انه قد كان مسانداً، فأبى عمرو أن يعطيه شيئاً، وكره أبيَّ أن يكون بينهما شر. . . فأمسك عنه. وبلغ عمراً أنه توعده، فقال عمرو في ذلك قصيدة له، أولها:
أعاذل، شكتي بدني ورمحي
…
وكل مقلص سلس القياد
إلى أن قال فيها:
ولو لاقيتني ومعي سلاحي
…
تكشف شحم قلبك عن سواد
أريد حِباءه ويريد قتلي
…
عذيرك من خليلك من مراد
وفي أخبار دريد بن الصمة ج9 ص12 من الكتاب نفسه ما نصه:
عن أبي عبيدة قال: قالت امرأة دريد له: قد أسننت، وضعف جسمك، وقتل أهلك، وفنى شبابك، ولا مال لك ولا عدة، فعلى أي شيء تعول إن طال بك العمر؟ أو على أي شيء تخلف أهلك إن قتلت؟ فقال دريد:
أعاذل، إنما أفني شبابي
…
ركوبي في الصريخ إلى المنادي
وبعد أن روى أبياتاً من هذه القصيدة قال:
هذا الشعر رواه أبو عبيدة لدريد، وغيره يرويه لعمرو بن معد يكرب، وقول أبي عبيدة أصح. إلى أن قال: (وخلط المغنون بهذا الشعر قول عمرو بن معد يكرب في هذين اللحنين:
أريد حِبَاَءه ويريد قتلي
…
عذيرك من خليلك من مراد
ولو لاقيتني، ومعي سلاحي
…
تكشف لحم قلبك عن سواد اهـ
ومثل ذلك في معاهد التنصيص ص225 ج1، الطبعة البهية المصرية.
فالبيت على رواية سيدي الأستاذ - مع استبدال حباءه بحياته - لعمرو بن معد يكرب، لا لدريد بن الصمة، كما قال حضرته، وقد كنت أجزم بذلك من قبل، بيد أن شاعراً (أنسيته) أورده على سبيل التضمين، مقلوباً في قصيدة لامية، فكانت صورته في نفسي أنسب بمضمون كلمتي، ولذلك لم أنسبه والأمر سهل، والعصمة لله وحده.
أزهري
مكتب البعث العربي
إن البسالة العربية التي أعرب عنها المجاهدون العرب في فلسطين، في مواقفهم الدامية وجهادهم الدائب لهي من الأمور التاريخية التي ترفع جبين القومية العربية عالياً وتوقظ في الشعب أحلام الوطنية الصحيحة والتفاني المجيد. ولا شك أن ثورة فلسطين التي هي ثورة الحق على الباطل، وثورة العدل على الظلم، هيأت الأسباب التحريرية الباعثة على النهوض في قابلية العرب الطبيعية اللذين منهم الأفراد المهاجرة في الأمريكتين الجنوبية والشمالية، وأفريقيا الفرنسية والإنكليزية وسائر المقاطعات الأخرى، وهؤلاء الأفراد الذين نزحوا بأجسامهم إلى ما وراء المحيطات الهائجة الصاخبة، وتركوا قلوبهم ثائرة في أقاليمهم
وطافحة بذكر الله وذكر الوطن؟!
ولذلك فإن مكتب البعث العربي - تقديراً لهذا الجهاد المشترك - يضع أمام شعراء العرب هدية نفيسة تقدر قيمتها بخمسين دولاراً أمريكياً لأحسن نشيد ينظم للمجاهدين والمهاجرين. وتفسير ذلك أن توضع قطعة نشيد للمجاهد وأخرى للمهاجر يدور محورها على استعراض ما يقوم به هؤلاء من تضحيات هائلة لم يشهدها التاريخ، على أن ترسل جميع الأناشيد بالعنوان المرقوم أسفل حيث تنظر اللجنة فيها وتقوم بإعلان النتيجة في العاشر من شهر أيار - شهر الزهر سنة 1939.
عبد الله بري
مدير مكتب الشعب العربي العام
1732
المسرح والسينما
الفرقة القومية
مديرها وسكرتيرها الفني
رواية شمشون لا رواية طبيب المعجزات
يرى المقبل على دار الأوبرا رقعة عريضة طويلة مكتوباً عليها بخط يقرؤه الأعشى عن بُعد أمتار (طبيب المعجزات) ويقرأ الناس في الإعلانات الملصقة على جدران الأوبرا وفي الشوارع وعلى مدخل غرفة بيع التذاكر ما يفيد أن هذه الرواية تمثل ابتداء من 9 لغاية 13 من الشهر الحالي.
أخذت تذكرتي على هذا الاعتبار وجلست في مكاني أنتظر مشاهدة تمثيل رواية طبيب المعجزات - درة الموسم - حائزة الجائزة في المباراة.
رفع الستار وإذا بالممثلين يمثلون رواية (شمشون). دهشت لهذه الصدمة الباردة، ثم عدت فافترضت أيسر الفروض المبررة لهذه الفعلة وأبعدها عن التعسف، افترضت مرض ممثلين هما بطلا الرواية وقلت: هل يعيق الفرقة مرض ممثلين اثنين عن تمثيل رواية ملأت الإعلانات عنها الشوارع والمنازل ومركبات الترام وصحف القاهرة؟ وسألت: أين الممثلون الاحتياطيون للطوارئ؟
قيل لي إن علاماً الممثل مريض فعلاً، فقلت: أما كان الأخلق بمدير الفرقة الفني أن يمثل رواية من روايات الموسم، أي يقدم رواية متأخرة بدلاً من تمثيل هذه الرواية التي جمع مؤلفها الفاضل جميع ألفاظ السباب والشتم المعروفة لغة وعرفاً وحشرها في هذه الرواية الفاضلة؟ يقول شمشون لخليلته دليلة:(إني أفرغ فيك شهوتي كأني أفرغها في جميع بنات قومك)، ويقول مصراييم لكهنة اليهود:(تتوهم دليلة أني خصي في حين أني. . أموت وجداً بها) ولقد سمعنا مئات من كلمات الفحش والفاسقة والمومس، والوحش والشهواني وما إليها من ألفاظ تتناثر من أحاديث شمشون ودليلة. ولعل أغرب من كل ما حوته هذه الرواية الفاضلة من تعابير لا أسمح لقلمي بتدوينها هي أن يجر شمشون خليلته دليلة إلى خبائها فنسمع من وراء الستار زمجرة الشهوة شهوة شمشون، وأنين اللذة أو آلام لذة دليلة، ثم
تخرج هي شعثاء الشعر وهو محلول الإزار. وهنا يصح أن نسأل حضرات الشيوخ الأفاضل أعضاء لجنة القراءة هل نظروا (النواحي الفنية والخلقية والاجتماعية واللغوية) في هذه الرواية الفاضلة؟
أرى الحديث يجذبني للسؤال (عن المدير الفني) وذلك بمناسبة الحديث الممتع الذي أفضى به حضرة مدير الفرقة إلى محرر مجلة الصباح بمناسبة استقالة سكرتير الفرقة والاستعاضة عنه بالقائم بأعماله الآن ما نصه: (كان بودي أن تتحقق أمنيتي، أن أخلق من الفرقة ومن بين أفرادها مديراً فنياً يتولى جميع أعمالها الفنية ويدير شؤونها من هذه الناحية وتكون له السلطة النافذة. . إلى آخره) فهل تحققت أمنيته يا ترى في إيجاد (السكرتير) الحالي القائم فعلاً بالإدارة الفنية وغير الفنية، فارتأى هذا بثاقب فنه إرجاء تمثيل رواية طبيب المعجزات لأن بطلها الممثل علام مريض والاستعاضة عنها بتمثيل رواية (شمشون) ثم روايتي فتياتنا سنة 1937 ومجنون ليلى وبطلها الممثل علام المريض! أم أن هناك باعثاً فنياً قاهراً أوجب تأجيل عرض رواية طبيب المعجزات استيفاء لأغراض فنية، أو أن هناك أسباباً غير ما ذكرنا يجهلها مدير الفرقة غير الفني ويتحدث بها الأدباء والممثلون في مجالسهم؟
السكرتير الحالي رجل فاضل يضرع رواية شمشون بالفن والفضل، ودليل ذلك أنه كان قبل أن يرقى إلى (مقامه) الحالي، يشرف على نشر الإعلانات وإلصاقها في الشوارع، وهو هو صاحب الإعلان المشهور عن رواية (الفاكهة المحرمة) فقد طبعه لوحده - على ما نقل إلي - ووزعه وألصقه على الجدران ولم ينتبه للغلطة العربية الفاضحة (تأليف الأستاذان) إلا بعد أن ضج الناس وهرعوا إلى التلفون ينبهون مدير الفرقة إلى هذه الغلطة الشانعة.
ما كنت أقصد ذكر هذه الحادثة الفردية التي تدل على مدى فضل (السكرتير الفني) الذي اصطفاه مدير الفرقة لولا اتصالها بلب موضوعي وهو الفوضى المطلقة من الجهل المطلق للفن المسرحي
عرف مدير الفرقة غلطة من اختاره ليكون خير خلف لخير سلف فهل غضب لها؟
كلا لم يغضب، بل أمر - أدام الله دولته - بطبع الإعلان صحيحاً من الغلط وأن يلصق فوق الإعلان الأول ليستر فضيحة الجهل بأبسط قواعد اللغة.
ولم الغضب، وأجرة استعادة طبع الإعلان وتوزيعه وإلصاقه لا تقل كثيراً ولا قليلاً من مبلغ الخمسة عشر ألفاً من الجنيهات المنتزعة من الأمة، المرصدة على (تكية) التمثيل وإعاشة المرتزقة. إن أجرة الإعلان المغلوط لا تساوي عشر ثمن رواية واحدة من الروايات التي فرضتها لجنة القراءة على مدير الفرقة كما يقول هو، أو التي قبلها هو ودفع ثمنها ليدفنها في أدراج مكتبه.
أعرف عشرات من هذه الروايات المدفونة، أذكر منها الأجنبية لمعربها جورج سمان، والصدر الأعظم لمصنفها شوكت التوني المحامي، ووحيد لمؤلفها حسين عفيف المحامي وغيرها لمحمود كامل المحامي صاحب مجلة الجامعة وسواه من أنداده. فما قيمة أجرة إعلان ضاعت سدى إزاء أثمان هذه الروايات التي لا تقل أدناها عن خمسين جنيهاً؟!
لست أحاول النيل من أدب الأدباء الذين أهملت رواياتهم ولا القول البات بأن مدير الفرقة دفن هذه الروايات دفناً أبدياً، بل أشعر بالواجب الأدبي يدعوني إلى السؤال عن معنى الرجوع إلى الروايات القديمة وعند مدير الفرقة عشرات من الروايات التي لم تمثل بعد. فهل في ذلك سر غير سر الوحي الذي يطيب للمدير أن يتلقاه من موح جديد يرتاح إليه كما يرتاح الشعراء إلى وحي شيطانهم؟
هل لاحظت لجنة التحقيق بوزارة المعارف هذا الضرب من الإسراف والتبذير، أو الإعانة الفردية على حساب الأمة؟ هل فكرت في حصر المبالغ التي دفعتها الفرقة ثمناً للروايات فعرفت ما مثل وما دفن منها؟
ابن عساكر