الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 286
- بتاريخ: 26 - 12 - 1938
تنظيم الإحسان
الإحسان في مصر - وإن شئت قلت في بلاد الإسلام - فوضى. وإذا كان للفوضى نظام فهو أن ينال المستطيع ويدرك السريع ويظفر المُلِح. والبؤس يسلب المنة ويعقل القدم؛ فلا يغشى مساقط الندى ومهابط الرحمة إلا من اتخذ الفقر تجارة والتكفف حرفة. أما الذين واراهم التعفف وأقعدهم العجز، فهم يتضاغون من السغوب وراء الحجب، فلا تبصرهم عين، ولا تسمعهم أذن. والناس من هؤلاء العاجزين المتعففين، وأولئك القادرين المتكففين في مأساة تبكي وملهاة تضحك!
دخل علينا القهوة ذات مساء فتى ريان الجسم بالشباب والصحة؛ على رأسه طربوش، وحول عنقه كوفية، وفي يده خيزرانة؛ فحيى بأدب وضراعة، ثم أخذ يسترحم القلوب ويستندي الأكف بأسلوب يخبل العقل النير ويختل الطبع الحريص. وكان خطابه التمثيلي المؤثر يدور على عزته التي لا تألف الهون، وأسرته التي لا تصيب الدُّون، وكفايته التي لا تجد العمل. . . فأعطاه بعض من في المجلس، ثم استدناه صديق من أهل السراء وأرباب الضياع وقال له:
- لِمِلا تطلب العيش من طريق أخلق بالرجولة وأليق بالكرامة؟
- طلبت العمل يا سيدي في كل مكان فلم أجده
- أتقبل العمل عندي في المزرعة؟
فبدا على الفتى شيء من التردد والحرج لأنه أحس الجد في لهجة الرجل، ولكنه سأل:
- وماذا يعطيني ألبك إذا قبلت؟
- ثلاثة جنيهات غير طعامك وكسوتك
فابتسم الفتى ابتسامة فيها معان شتى من الدهش والعجب والتهكم، وقال وهو يدني فمه من أذنه كأنما يريد أن يساَّره:
يا سيدي، إني أسأل في اليوم الواحد ألفاً على الأقل ممن أتوسم فيهم رقة القلب وكرم المهزَّة؛ فإذا أعطاني مائة وردني تسعمائة تجمَّع لي من ذلك في الشهر خمسة عشر جنيها، أصيبها وأنا في القاهرة أتقلب بين مطاعمها ومقاهيها، وأتمتع بمناعمها وملاهيها. فكيف تريدني على أن أقبل ثلاثة جنيهات في الريف على عمل قذر متعب بين الأجلاف والبهائم؟
أرأيت خمسة عشر جنيها يجبيها من الأغرار هذا المتبطل المتعطل وينفقها في الخمر
والقمر والحشيش، ومئات من الأسر الكريمة تكابد عبث الأقدار أو خطأ الأغيار فلا تجد مواسيا في معروف الأحياء ولا في موقوف الموتى! وخمسة عشر ألف فدان يقتنيها ذلك الغنى الشره ينفق ريعها الفياض على وساوس غيه وهواجس أحلامه، ومن حوله ألوف وألوف لا يدرون من طول الحرمان لماذا شق الله لهم الأفواه وجوّف فيهم الأبطن!
هذا البليد الملحف، وذلك الجمَّاع الطماع هما اللذان أكلا نصيب العاجز من رزق الله! فلو أن السائل المحترف ترك نفحات الأيدي للفقير، والغني المنهوم عف عن فضول الرزق للعاجز، لما رأيت عليها رجلاً يشرق بالدموع بجانب آخر يشرق بالشمبانيا! ولكن النفس البشرية تؤثر الجانب الأيسر من العيش، وتطلب النصيب الأوفر من المتاع، فلابد من سلطان يقيم المعدلة بين الساعي بقوته والقاعد لضعفه. ومن ثَمَّ جعل الإسلام تنظيم العلاقة بين الغني والفقير ركناً من أركانه الخمسة، يصلح به وبالحج أمر الجماعة، كما يصلح بالصلاة والصيام أمر الفرد وكان هذا الركن الإسلامي الركين عسيّاً بعناية أولي الأمر يجعلون له (مصلحة) أو (وزارة)، تأخذ من أموال الناس صدقة تزكي النفوس من حقد الفاقد على الواجد، وتطهر المجتمع من بغي طبقة على طبقة. ولكن الأمم الإسلامية الحديثة توزعتها الجهالة والمذلة، فحسبت أن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية الغالبة؛ فتركت شريعة الله إلى شريعة نابليون، وهجرت سياسة الرسول إلى سياسة كارل مَرْكس، فلم يكن بد من قسوة الأكباد لجفاف القانون، وثورة الأطماع من شدة التنافس. وليست الرهبانية من نظم الإسلام حتى تقوم الراهبات. بما لم تقم به الحكومات من جمع الزكوات وتوزيعها على صرعى الفاقة وأسرى المرض، فكان ما لا حيلة في اتقائه من فوضى الإحسان، فحبس عن غير أهله، وحل في غير محله، وذهب كله للمتشردين في الطرق، والمحتالين في البيوت، والمتبطلين في المساجد
إن فريضة الزكاة في الإسلام هي الفرق بين الدين والقانون، وبين الشرق والغرب، وبين الإنسان الذي يعيش بالروح والإنسان الذي يعيش بالآلة. فمن المحتوم على دولة تطمح الى الخلافة أن تُلزِم بها الناس لتكون حكومتها للشعب كله. وإلا فما جَداي أن أقول إن لي دولة دستورها المساواة وقانونها العدل، ووطناً ثراه الذهب وماؤه الكوثر، وأنا محروم لا أنتفع بخير الحياة، ومهضوم لا أتمتع بحقوق الحي؟
إما أن تقولوا إن من عجز عن واجب السعي نزل عن حق الوجود، وإما أن تنصفوا بعض الناس من بعض فيشعروا أنهم عباد لإله واحد ورعايا لملك واحد. أما أن تتعدد الآلهة فيكون لكل أرض إله وهو المالك، وتتنوع الملوك فيكون لكل عمل ملك وهو المموَّل، فذلك مالا يطيب به عيش ولا يصلح عليه أمر
افرضوا الإحسان كما فرضه الله، ونظموه كما نظمته الشريعة، واجبوه كما جباه الراشدون، ووزعوه كما وزعه القرآن، تضمنوا للفقير سكون الجوف، وللغني زوال الخوف، وللأمة بأسرها السلام والوئام والمحبة
أحمد حسن الزيات
المذياع الآدمي
للأستاذ عباس محمود العقاد
حالة نفسية غير نادرة، ولاسيما في الأيام الغائمة أو الماطرة.
على الأفق البعيد رباب مسف جاثم، وفي الجو شوب من ضباب كالغبار يحجب صفاء السماء، والأشجار هنا وهنالك كأنما تتوارى من الناس، وعلى النفس سآمة قائمة لا تتحرك كأنها فرغت من النقاش والسؤال عن الأسباب، وخلصت إلى اليقين والقرار، وكل شيء عبث. . . وكل عمل عقيم. . . وما هذه الدنيا القاتمة بالباطل، وما هذا العناء في غير طائل؟ باطل الأباطيل. . . قبض الريح. . . متاع الغرور!
حالة غير نادرة
لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها فلسفة حياة وصبغت بها وجه الكون، وبسطتها على الدنيا، أو قبضت الدنيا حتى انطوت فيها، وكنت من المتشائمين
لم تكن الحالة الأولى من نوعها، فلهذا لم تكن فلسفة باقية، بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تنتزع منها زاوية صغيرة يهمس فيها هامس مسموع مستجاب: كلا! ليست الدنيا كذلك. ليست الدنيا كذلك. . . إنما هي نوبة تزول، وركود راحة بعد جهاد، أو ركود استجمام قبل وثوب
وحالة أخرى غير نادرة، ولاسيما في أيام الإشراق والنضرة والإقبال، صيفا كانت أو شتاء، وربيعا كانت أو خريفا. فهي شائعة موزعة بين جميع المواسم والفصول
لمعة الشعاع على الصخرة الملقاة تبعث الفرح من أعماق السريرة، ورجفة الورقة على الغصن رقص وانتشاء، ومشية المسرع استطارة سرور، ويمشي المتأني فكأنه يتملى متعة المشي ويستوفي نعمة الرياضة، ومنظر الشجرة كأنها باثفة تنطلق في السماء، وليست بالجاثمة المقيدة بالغبراء، وكل شيء حسن كما هو في غير حاجة إلى تفسير أو عافية منظورة، وليس في الإمكان أبدع مما كان
حالة غير نادرة
لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها كذلك فلسفة حياة ونفثتها في ضمائر الكون، ورأيت الدنيا معها فردوسا سماويا لا حدود فيه ولا انتهاء لمشاهده ومعانيه، وكنت في
عليين ولا يغنيني أن أقول: كنت من المتفائلين
ولم تكن الحالة الأولى من نوعها فلهذا لم تكن فلسفة باقية بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تملك زمامها وهي إلى جوارها فلا يزال فيها هامس مسموع مستجاب يردد في غير إلحاح ولا إعنات: كلا. لست في عليين، لست في عليين!
أإذا عرفنا أسباب الحالة الأولى جاز لنا أن نقول: إنما هي ضلالة في الحس من أثر الغيم أو من أثر السوداء أو من أثر المعدة الشاكية؟
كلا. لأن معرفة السبب الذي يريك الشيء لن تنفي وجوده، كما أن شعورك بألم الآخرين من أجل القرابة بينك وبينهم لا ينفي أنهم متألمون وأن الألم موجود هناك. ثم نقترب من المحسوسات فنقول إن رؤيتك الجراثيم بالمجهر وعلمك بأن المجهر هو سبب الرؤية لا ينفي الجراثيم ولا ينقض صحة ما تراه
وكذلك الحالة الثانية لا يدحضها أن تعلم أسبابها، وهي الإشراق والصحة وامتناع الأكدار والأحزان، فإن العلم بأسباب إحساس من الأحاسيس لا يقدح في حقيقته ولا في صواب الشعور به حيث كان.
لذلك أقول إن السريرة الآدمية كالمذياع، وإن الدنيا المحزنة والدنيا المفرحة ودنيا القنوط ودنيا الرجاء موجودة لا تظهر للنفس إلا حين يصل المفتاح الى وجهته المرسومة، وإلا فهي صمت وخفاء
في النفس الإنسانية متسع لجميع العوالم، ولكنها تتهيأ لكل عالم من هذه العوالم بحالة من الحالات، أو بمفتاح من المفاتيح، فإذا هو موجود مسموع منظور محسوس، وإذا أنت لا تسمع غيره ولا تعيش في غيره، لأن إدارة المفاتيح كلها هي الفوضى التي يبطل فيها الإحساس، ويفسد فيها التعبير المفهوم، فهو إذن لغط وأصداء
إن كنت تسمع حديث القاهرة فليس معنى هذا أن حديث باريس باطل، وإنما معناه أن المفتاح في هذا الاتجاه وليس في اتجاه غيره، وحديث باريس بعد ذلك صادق عند أناس آخرين صدق حديث القاهرة، وغيره من الأحاديث
وإن كنت في دنيا من دنياوات الإقبال والتفاؤل فليس معنى ذلك أن دنيا السآمة والقنوط عدم وضلال، وإنما معناه أن المفتاح هنا، وأنه لو تحول قليلاً لأصبح هناك!!
امتناع الحس لا يدل على امتناع المحسوس
وبهذا نفسر العبقرية التي ترى الأخيلة والشكول والمعاني والتوفيقات حيث لا يبصرها أحد ولا يسمعها أحد ولا يدري بها أحد، ولكنها تظل في صمتها وخفائها حتى تصادف من يدري بها ويستمع إليها، فهي موجودة له معدومة لسواه
وبهذا نفسر الصوفية التي تلمح من الخفايا ما ليس يلمحه المصاقبون والجيران، وتقترب من الآمال والمخاوف قبل أن يقترب منها المزاملون والرفقاء، وتبصر بعيني (حزام) والناس من حولها ضاحكون لا يصدقون، وإن قال لهم ألف قائل:
إذا قالت حزام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حزام
لأن ما يرى بالعين على مسيرة يوم سوف يرى بالعين على مسيرة ساعة. أما ما يرى بالسريرة فقد تكثر فيه المغالطة والمكابرة كلما اقترب واقترب حتى تتناوله جميع السرائر: أهذا الذي أنبأتنا به؟؟ لا. إنك أنبأتنا بغير هذا، ولن تزال في ضلالك القديم!!
ولنهبط من العبقرية والصوفية إلى المشاهد الملموسة في حياة الحيوان.
فأين من الناس من يشعر بأن ملامسة اليد للمنديل تترك فيه أثراً من الرائحة المحسوسة يشمها الأنف بعد أيام؟ وأين من يثبت لهم ذلك لولا أن شاهدوه وكرروا شهوده من بعض الحيوان؟؟
أفينقض (وجود) تلك الرائحة أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الحيوان إلا لأنه كلب يشم بحاسة الكلاب؟
أفينقض (وجود) تلك المعاني والتوفيقات أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الناظم أو ذلك الموسيقي إلا لأنه مجنون مخبول؟
فلم لا يكون الخبل المزعوم هو المفتاح الذي يوجه السريرة إلى وجهة تلك المعاني والتوفيقات؟؟ ولم ننكر (المحطة) لأننا لا نملك المفتاح وإن رأينا من يسمعها ويروي لنا ألحانها وأناشيدها في تناسق وانتظام؟
فالعالم حافل بما يحس ويشعر
حافل بالمنظورات وإن لم يشهدها كل نظر، وحافل بالمسموعات وإن لم تسمعها كل أذن، وحافل بالطعوم وإن لم يذقها كل لسان، وحافل بالحياة وإن لم تتصل بها اتصال التعاطف
والتفاهم كل حياة
فلم لا نقول على هذا القياس إنه حافل بالمعاني، وحافل بالمدركات، وحافل بالوحي والتعبير، وإن العبقري له حاسة في الروح تلتقط هاتيك المعاني والمدركات من حيث لا يحلم أحد بموقعها هناك؟؟
لم لا نفهم أن المحسوسات الذهنية التي تتناولها العبقرية لن تنفد بالتقاط الأذهان منها لأنها ليست بأجسام، وأن الشيء الذي ليست له مادة تنفد لن يرى على وضع واحد بل يرى على ألوف الألوف من الأوضاع حسب من ينظرون إليه وينفذون فيه؟
لم لا تكون الدنيا مفرحة محزنة، عادلة ظالمة، منظومة مشتتة، لأن هذه المعاني لا تتناقض في عالم الإلهام كما تتناقض السوداء والبيضاء في عالم العيان، وإنما يصعب التوفيق بينهما في إلهام واحد كما يصعب التوفيق بين مفاتيح المذياع، فنخرج إذا أدرناه جميعا من الفهم والنظام، إلى أصداء لا تقبل الفهم ولا النظام؟
إذا مرت بي حالة عابرة إلي جانب الحزن والقنوط قلت هي حالة صادقة في مفتاحها
وإذا مرت بي حالة عابرة إلى جانب الفرح والرجاء قلت هي أيضاً حالة صادقة في مفتاحها
ولم أقل إن العالم السرمدي ينحصر في هذه أو في تلك، ولكني أتلقى درساً من المذياع وأومن بأن السريرة الإنسانية أكبر - على الأقل - من صندوق الكهرباء، وإن عالم الإدراك أكبر - على الأقل - من مراكز الإذاعة، وأن الوصلة بين الطرفين أكثر على الأقل من الموجات القصار والوسطى والطوال
عباس محمود العقاد
مصر والعروبة
للدكتور طه حسين بك
(أخي العزيز
قرأت مقال الأستاذ ساطع الحصري بك في رسالة الاثنين الماضي، وأظن أن من حقي عليك أن تنشر ردي على هذا المقال، وما أرى أنك تبخل علي بهذا الحق
وهذا الرد فصل من كتاب (مستقبل الثقافة) الذي سيظهر بعد أيام، فهو إذن قد كتب وطبع قبل مقال الأستاذ الحصري. . . ولك أصدق المودة وأخلص الإخاء)
طه حسين
قد أشرت منذ حين إلى أن من الحق على الدولة المصرية للثقافة أن تذيعها في طبقات الشعب المصري من جهة، وأن تتجاوز بها الحدود المصرية إلى الأقطار التي تستطيع أن تسيغها وأن تنتفع بها من جهة أخرى
ولأمر ما قالت بعض الأقطار الشرقية لمصر إنها زعيمة الشرق العربي، ولأمر ما صَّدقت مصر ما قيل لها. فإن كان هذا حقاً فإن له نتائج يجب أن تنشأ عنه وتبعات يجب أن تترتب عليه. وإن لم يكن هذا حقاً فإن من الواجب علينا أن نحققه لأن فيه تحقيقاً لكرامتنا من ناحية، ولأن فيه ارتفاعاً عن الأثرة التي تليق بشعب كريم. والشيء الذي لا شك فيه هو أن الله قد هيأ لمصر من أسباب القدرة على إحياء الثقافة ونشرها ما لم يهيئ لغيرها بعد من الأمم العربية. فمما لا يليق بالمصريين وقد تسامع الناس بأنهم كرام، وزعموا هم لأنفسهم أنهم كرام أيضاً، مما لا يليق بهم أن يؤثروا أنفسهم بما أتيح لهم من الخير ويختصوها بما أتيح لها من النعمة، وإنما الذي يلائم كرمها وكرامتها وما تطمح إليه من المثل الأعلى أن يكون حديثها ملائماً لقديمها، وأن تكون مشرق النور لما حولها من الأقطار، وأن تكون البلد الذي تهوي إليه أفئدة الراغبين للعلم والراغبين فيه
وقد يظن المصريون أنهم يبلون في سبيل ذلك بلاء حسناً. فأحب أن أصارحهم بأنهم لم يفعلوا في سبيل ذلك شيئاً
إن الأقطار العربية تقرأ ما ينشر في مصر من الصحف والكتب والمجلات، ولكن مصر لم تصنع إلى الآن شيئاً لتيسر لهذه الأقطار قراءة كتبها وصحفها ومجلاتها. ولعل من هذه
الأقطار ما يلقى كثيراً من الجهد في الظفر بحاجته من هذه الكتب والصحف والمجلات. ولقد يسرت مصر للأقطار العربية قراءة آثارها المطبوعة لما بلغت من خدمة الثقافة إلا أيسرها وأهونها، على أن ذلك يعود عليها بالمنفعة المادية والمعنوية جميعاً
نعم، إن مصر تيسر لبعض البلاد العربية استدعاء بعض المعلمين، ولعلها تنفق في ذلك شيئاً من المال، ولعلها تجد في ذلك شيئاً من الجهد، ولكن هذا من أيسر الأمر أيضاً. وتبعات المركز الممتاز الذي أتيح لها بين الأقطار العربية تفرض عليها أكثر من ذلك. ولست أذكر إلا أمرين اثنين، أحدهما قد أخذت مصر بأسبابه ولكن في بطء وتردد، وهو فتح أبواب مدارسنا ومعاهدنا للطلاب الشرقيين والعناية بهم إذا وفدوا على بلادنا، لا بأن نيسر لهم طلب العلم فحسب بل بأن نيسر لهم حياتهم في مصر أيضاً. وإني لأوازن بين ما تصنعه البلاد الأوربية لتحقيق العناية بالطلاب الأجانب وما نصنعه نحن فأوازن بين الوجود والعدم. ومع ذلك فأوربا حين تعنى بالطلاب الأجانب إنما تنشر الدعوة لنفسها وتستقدم الأجانب لينفقوا فيها أموالهم وليعودوا منها وقد تأثروا بها وأصبحوا لها رسلاً في بلادهم. فأما نحن فلسنا في حاجة إلى نشر الدعوة لأننا لا نطمع في شيء، ولأن الدعوة المصرية تنشر نفسها في الأقطار العربية لما تقوم عليه من الحب والمودة والإخاء. وإنما يجب علينا أن نيسر لطلاب الأقطار العربية الدرس والإقامة في مصر أداء للحق ونهوضاً بالواجب ووفاء للأصدقاء وصرفاً لهؤلاء الأصدقاء عن الرحلة إلى أقطار الغرب إن وجدوا في هذه الرحلة مشقة أو عناء.
والأمر الثاني دعوت إليه سراً منذ أكثر من عشرة أعوام حين تولى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وزارة المعارف للمرة الأولى. فقد شهدت مؤتمراً للآثار عقد في سوريا ولبنان وفلسطين. فلما عدت رفعت إلى الوزير تقريراً خاصاً طلبت فيه أن تنشئ مصر مدارس مصرية للتعليم الابتدائي والثانوي في هذه الأقطار. وكان الذي أثار في نفسي هذا الاقتراح ما رأيته من السلطان العقلي للمدارس الأجنبية على هذه الأقطار. وكنت أرى أن العقل المصري أقرب إلى العقل السوري والفلسطيني وأحرى أن يتصل به ويؤثر فيه تأثيراً حسناً من العقل الأمريكي أو الفرنسي. ولكن وزير المعارف حينئذ نبهني باسماً إلى أن ذلك ليس ميسوراً، فقد تريده مصر ولكن السياسة الأجنبية ستأباه من غير شك. وكان
هذا حقاً حينئذ، فأما الآن وقد عقد بيننا وبين أوربا اتفاق مونترو، وقد ظفرت سوريا ولبنان ببعض الحرية، واستقلت العراق، فما أرى أن مصاعب سياسية تقوم دون هذا النوع من التعاون الثقافي بين الأقطار العربية التي تجمعها وحدة اللغة والدين والمثل الأعلى، والتي تشترك في منافع اقتصادية عظيمة الخطر.
ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية تحمل إلى أبنائها ثقافة عربية شرقية، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم وعرب مثلهم يتحدثون إليهم بلغتهم ويشاركونهم في الذوق والميل والشعور. وما أظن أن السياسة الأوربية تمانع في ذلك وقد تم الاتفاق بيننا وبين أوربا على أن تستقر في بلادنا مدارس أوربية وتستمتع بكل ما يمكنها من النهوض بمهمتها في حدود القوانين المصرية، وعلى أن يكون التبادل أساساً لهذا الاتفاق
وواضح أننا لا نريد أن ننشئ مدارسنا المصرية في فرنسا أو إنجلترا أو إيطاليا؛ ولكن من حقنا أن ننشئ المدارس المصرية في البلاد العربية التي تتأثر بسلطان هذه البلاد ونفوذها تأثراً قليلاً أو كثيراً
ومن المحقق أننا إذا أنشأنا المدارس المصرية في الأقطار العربية فسننشئها وسنسَّيرها على النحو الذي نحب أن تنشأ عليه المدارس الأجنبية في بلادنا وأن تسير عليه أيضاً. سننشئها على أنها معاهد للتعاون الثقافي بيننا وبين أهل هذه البلاد، لا يستأثر المصريون وحدهم بالعمل فيها، بل يستعينون بمن يقدرون على معونتهم من الوطنيين. ولا نفرض فيها الجغرافيا المصرية والتاريخ المصري دون الجغرافيا الوطنية والتاريخ الوطني، وإنما تكون معاهد ينشأ فيها الوطنيون لأوطانهم لا لمصر، وحسب مصر أنها تعين على ذلك وتشارك فيه وتؤدي ما عليها من الحق لجيرانها وشركائها في اللغة والدين والاقتصاد، وحسبها أن تظفر منهم بالحب والمودة والإخاء
وقد يقال إن أعباء الدولة المصرية أثقل من أن تسمح لها بمثل هذا التوسع في إذاعة الثقافة خارج حدودها على حين أنها في أشد الحاجة إلى إذاعة الثقافة داخل هذه الحدود. وقد يكون هذا حقاً من بعض الوجوه، ولكن من الحق أيضاً أن لحياتنا المستقلة تبعاتها، وأن التقصير في النهوض بهذه التبعات لا يلائم ما نزعمه لأنفسنا من الكرامة والزعامة
ومما لا شك فيه أن هذه المدارس إن أنشأناها ستكون أنفع لمصر وللبلاد التي تنشأ فيها من كثير من القنصليات والمفوضيات التي نبثها في أقطار الأرض ولا نكاد نجني منها، ولا تكاد البلاد التي نبثها فيها تجني منها نفعا
ومما لا شك فيه أيضاً أن العبء المالي الذي يتبعه إنشاء هذه المدارس لا ينبغي أن يقع كله على الدولة وإنما ينبغي أن يشارك فيه القادرون على هذه المشاركة من المصريين أولاً ومن الوطنيين ثانياً. وحسب الدولة أن تعينها معونة قيمة بالمال والرجال
على هذا النحو تحمل مصر تبعاتها وتنهض بواجباتها الثقافية، وتلائم بين حديثها وقديمها، فقد كانت مصر فيما مضى من العهود الإسلامية مصدر الثقافة والعلم للأقطار العربية في الشرق القريب. لم تقصر في ذلك إلا حين اضطرها السلطان العثماني إلى التقصير فيه. فأما الآن وقد استردت استقلالها فيجب أن تسترد مكانتها الثقافية في الشرق القريب. وهناك بلاد عربية لم ينشئ فيها الأجانب ولا يستطيعون أن ينشئوا فيها المدارس والمعاهد، ولا يجد أهلها فضلا من المال ينفقونه في تنمية الثقافة كما ينبغي. فالحق على مصر أن تسرع إلى معونة هذه البلاد وألا تدخر جهداً إلا بذلته في هذه السبيل، وهذه البلاد هي الحجاز وبلاد الدولة العربية السعودية بوجه عام. وما أشك في أن المصريين يرضون كل الرضى عن إنشاء مدرستين على اقل تقدير، إحداهما في مكة والأخرى في المدينة، بل ما أشك في أنهم يتجاوزون الرضى إلى البذل والإنفاق. وقد علمت أن أهل الحجاز أنفسهم يتمنون ذلك ويلحون فيه
وليس هذا كل ما ينبغي أن تنهض به مصر لنشر الثقافة في الأقطار العربية، بل هناك شيء آخر قد عم الشعور به واشتدت الحاجة إليه حتى أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد له وهو: التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة. يدعو إلى ذلك حاجة هذه البلاد إلى توحيد الجهود مادام مثلها الثقافي الأعلى واحداً؛ ويدعو إلى ذلك أن التعليم الحالي في مصر قد بلغ من الرقي درجة تدعوا إليه طلاب العلم في الأقطار العربية، وللتعليم العالي في مصر نظم دقيقة وشاقة قد تحول بين هؤلاء الطلاب وبين الانتفاع والظفر بإجازاته ودرجاته، فلابد من أن يهيأ هؤلاء الطلاب لهذا التعليم تهيئة حسنة تلائم تهيئة المصريين له. وقد اجتمع فريق من قادة الرأي الشرقي
العربي منذ أكثر من عام لجنة التأليف والترجمة والنشر وتشاوروا في ذلك كما تشاوروا في غيره من ألوان التعاون الثقافي، ورسموا لذلك خطة وشرعوا له نظاماً. ثم أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد للدعوة إلى مؤتمر عربي شرقي. والذي أرجوه أن يكون انعقاد هذا المؤتمر دورياً وأن يكون هذا المؤتمر متنقلاً في الأقطار العربية على نحو ما يسير عليه المؤتمر الطبي الذي أنشئ منذ حين.
وقد شهدت في العام الماضي - ممثلاً لوزارة المعارف - مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري، فتحدثت فيه إلى المؤتمرين بأن مصر تستطيع أن تكون مركزاً من أهم المراكز لهذا التعاون الفكري إذا نهضت بتبعاتها الثقافية نحو الأقطار العربية. ذلك لأنها بحكم مركزها الجغرافي وبحكم نهضتها الحديثة أصدق صورة لما تطمح إليه عصبة الأمم من هذا التعاون الفكري الخالص الذي يقارب بين الأمم ويلغي ما بينها من الفروق ويرتفع بحياتها العقلية عن ألوان الخصومة وضروب النزاع. فالجامعة المصرية مثلا بيئة تلتقي فيها الثقافات الإنسانية كلها تقريباً، يحملها إليها أساتذة ممتازون من المصريين ومن الأوربيين على اختلاف أوطانهم ومذاهبهم في السياسة والدين والاقتصاد. وهذه الثقافات كلها تلتقي وتمتزج وتصهر في العقل المصري الذي يسيغها ويتمثلها ويطبعها بعد ذلك شيئاً ما بطابعه المصري الخاص. وهو قادر بعد هذا على أن يذيعها في بلاد الشرق شرقية غربية عربية أوربية بريئة مما يفسد الثقافة عادة من التعصب والهوى.
وقد وقع هذا الحديث من المؤتمرين موقعاً حسناً. فهل يقع هذا الحديث من المصريين أنفسهم موقعاً حسناً، وهل يشعر المصريون بأن فرصة ذهبية كما يقال تتاح لهم الآن؟، فلكل شر أثر حسن، والشر أن حاجتنا إلى الأوربيين لا تزال شديدة في التعليم، والأثر الحسن لهذا الشر أننا نستطيع أن نكون رسل العلم والثقافة والأمن والسلم والتوفيق بين الشرق والغرب جميعاً.
فإذا أرادت مصر أن تنتهز هذه الفرصة فذلك يسير عليها لا يحتاج إلا إلى أن تعنى بتقوية الصلة بينها وبين لجنة التعاون الفكري في جنيف ومعهد التعاون الفكري في باريس من جهة، وبينها وبين البيئات والمعاهد العلمية في الشرق العربي، بل في الشرق الإسلامي من جهة أخرى.
طه حسين
الحج
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان سلفنا إذا أرادوا الحج تأهبوا لسفر شاق، وغاية بعيدة وتزودوا لشهور عدة، ووطنوا أنفسهم على ما يلقون من المشقات والشدائد والأخطار. كان المصريون يذهبون بالبر من طريق سيناء فالعقبة لا يركبون البحر، أو يسيرون إلى القصير فيجتازون البحر إلى الحجاز. ثم جاء عصر البواخر فتيسرت الغاية وقصرت المدة، ولكن بقي بعد هذا قطع المسافة بين مكة والمدينة على ظهور الإبل، وبقي سوء الأحوال الصحية في مجامع الحج، والتعرض للصوص وقطاع الطريق في كل مرحلة وكل حين. بل كان المحمل المصري وهو في حراسة الجند والمدافع لا يجتاز المسافة بين مكة والمدينة إلا بعد إرضاء القبائل الضاربة على الطريق. وكان هؤلاء يتحكمون ويشتدون في مطالبهم، فإذا لم تجب مطالبهم باغتوا الحجيج بالغارة. بل قال المرحوم إبراهيم رفعت باشا الذي تولى إمارة المحمل سنين إنه زار غار حراء سنة 1318 ومعه مائة جندي وقال (ومما ينبغي لزائري هذا الجبل أن يحملوا معهم الماء الكافي وأن يكونوا جماعاً يحملون السلاح حتى يدفعوا عن أنفسهم شر اللصوص من العربان الذين يتربصون الفرص لسلب الحجاج أمتعتهم ونقودهم خصوصاً في مكان منقطع كهذا لا يقصده إلا بعض الحجاج. وقد بلغني أن أعرابياً قتل حاجاً فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو فرح: الريال أحسن منه)
ذلكم الحج قبل سنين، وأما الحج في هذا العصر فقد تهيأت وسائله وتيسرت مسافاته وأمنت سبله. تنقل الحجاج بواخر كبيرة. وحسبك ببواخر شركة مصر التي أعدت لراحة الحجاج وتمكينهم من أداء فرائض الدين في يسر وطمأنينة. في كل باخرة مصلى تقام فيه الصلوات الخمس ويؤذّن لكل وقت. فإذا بلغ الحاج جدة وجد المطوفين في انتظاره يتكفل المطوف الذي يختاره براحته وإعداد السيارات له في كل طريق. ويجدون في مكة العناية براحة الحجيج وصحته. فالحكومة تتخذ الوسائل التي تمنع الزحام، وتراقب مساكن الحجاج وتلزم أصحابها أن يطهروها وينظفوها
فإذا حان وقت الخروج إلى منى وعرفات، احتاطت الحكومة فمنعت التزاحم في الطريق وعنيت براحة الحجاج على قدر استطاعتها. وإذا قضى الناس مناسكهم وأرادوا السفر إلى
المدينة رُخِّص لهم في السفر على ترتيب قدومهم مكة الأسبق فالأسبق حتى لا يختل النظام، ويشتد الزحام، وحتى لا تضيق بهم المدينة. وكذلك يلزم زائرو المدينة. الخروج بعد ثمانية أيام ليفسحوا لغيرهم فلا يجتمع فيها إلا وفود ثمانية أيام طول الموسم
والناس في إقامتهم بمكة، وسيرهم إلى منى وعرفات، وسفرهم إلى جدة والمدينة يرتحلون بالليل والنهار آمنين مطمئنين لا يخافون على نفس ولا مال. ويظفرون بطمأنينة لا يظفرون بمثلها في البلاد الأخرى، ولا يغلو في الحق من يقول إن الأمن في بلاد الحجاز اليوم لا يظفر به إنسان في غيره من بلاد العالم. فإذا خرج الرجل الفرد يملأ جيوبه الذهب يقطع الطريق بين مكة والمدينة نهاراً وليلاً ليس معه رفيق ولا حارس لم يخش على نفسه ولا ماله، وأحاط به الأمن في يقظته ونومه وليله ونهاره. أمر لم نسمع به ولا نسمع به اليوم في قطر من أقطار العالم المتمدن أو المتوحش
وقد حدثني أحد الحجاج ونحن بمكة أنه ذهب إلى المدينة في رفقة فوقعت منهم حقيبة في الطريق ولم يشعروا بها وتعطلت السيارة في الطريق يوماً أو يومين. فلما بلغوا المدينة افتقدوا الحقيبة فأخبروا الشرطة فردتها إليهم بعد قليل. وأُخبرت أن حاجاً آخر كان يطوف بالكعبة فسقطت منه ساعة فذهب إلى الشرطة فردوها إليه. وأعرف أن طالباً من طلبة الجامعة سقطت منه ورقة بنك قيمتها جنيه في سوق مكة ولم يفتقدها إلا بعد أن رجع إلى المدرسة السعودية التي كنا ننزل بها. فلما رجع إلى السوق وجدها حيث سقطت أمام الدكان الذي كان يشتري منه. وقد تواترت الأقوال في أمثال هذه الحوادث حتى لم يبق مكان للشك فيها، وحتى اطمأن الناس فتركوا أمتعتهم الثقيلة في مساكنهم ليرجعوا إليها بعد قضاء مناسكهم ولم يجدوا حاجة إلى أخذها معهم. فنحن تركنا بعض متاعنا في جدة أمام الفندق المصري فأرسل إلينا في أيام مختلفة لم نفقد منه شيئاً وقد تأخر متاع بعض الطلبة كثيراً فقلق؛ فقلت له: ستأتي حقائبك لا محالة فإن شيئاً لا يضيع في هذه البلاد. وكان يسكن إلى قولي حيناً ثم يعتاده القلق حتى جاءت أمتعته كاملة. وأخبرني مخبر عن رجل من الذين ذهبوا إلى الحجاز أنه كان في سيارة ضاقت بأمتعة الراكبين فأخذوا حقيبة عليها اسم صاحبها وتركوها في الطريق عمداً ليتحققوا ثم طلبوها حينما بلغوا غايتهم فردت إليهم والمسافة بين مكة والمدينة زهاء 500 كيلو كانت تقطع في أربعة عشر يوماً وقد قطعها
ركب المحمل المصري سنة 1318 من الهجرة في 125 ساعة وخمسين دقيقة في أربعة عشر يوماً. وتقطعها السيارات الكبيرة اليوم في أربعة عشرة ساعة، ولكن المسافرين يحتاجون إلى الراحة مرات على الطريق فيبيتون ليلة في بعض المراحل، والطريق كله غير معبّد، وفيه مسافة قصيرة رملية تسوخ فيها السيارات إن لم يحذر السائق
وقد خرجنا من جدة إلى المدينة بعد المغرب فبلغنا رابغاً بعد سبع ساعات، وبتنا بها ثم استأنفنا السير ضحى آملين أن نبلغ المدينة في نهارنا ولكن ساخت بعض السيارات في الطريق فآثرنا أن نبيت في مكان اسمه أبيار بني حصان. وخرجنا منها ضحى فبلغنا المدينة بعد العصر. ولكنا في رجوعنا إلى جدة خرجنا من المدينة ضحى فبلغنا رابغاً وقت العشاء بعد أن استرحنا في الطريق ساعتين ونصفاً في ثلاثة مواضع. وبتنا في رابغ وتركناها ضحى فبلغنا جدة ظهراً بعد سير خمس ساعات. فكان سيرنا من المدينة إلى جدة ثلاث عشرة ساعة ونصفاً. وإذا أصلح الطريق سهل أن تقطع المسافة كلها في عشر ساعات. وأمكن الراكب المتعجل أن يقطعها في ثماني ساعات أو سبع. وما أقرب هذا سفراً وأيسره
- 2 -
ولست أقول إن وسائل الحج بلغت من اليسر والنظام الغاية التي نرجوها؛ ولا أزعم أن الحرمين الشريفين والحجاز، في الحال التي يتمناها مفكرو المسلمين؛ فلا يزال المسلمون يرجون للحجاز نظاماً وعمراناً لا يذكر معه ما يسره الله في السنين الأخيرة من الإصلاح والتنظيم ولا يزال مفكرو المسلمين يطمعون في أن يروا في الحجاز آثار التعاون الإسلامي، وبذل المال في سبيل الله حتى تكون أحوال الحجاز مكافئة لمكانته عند المسلمين ومصورة عناية المسلمين به وتقديسهم إياه
لا يزال المسلمين يتمنون أن يروا الحجاز آخذاً من ثروة المسلمين وعلومهم وفنونهم ما تأخذه الأماكن المقدسة الأخرى من الذين يقدسونها
وما أسعد المسلم الغيور على دينه المعنيّ بإقامة شعائره يوم يذهب الى الحجاز فيرى الطرق ممهدة بين جدة ومكة فمنى فعرفات وبين جدة فالمدينة، ويرى في طريق المدينة فنادق يأوي إليها فيجد راحته وطعامه وشرابه كما يشتهي، ويجد مواضع للوضوء والصلاة
تمكنه من إقامة الشعيرة على خير الوجوه
ما أسعده يوم يجد في منى وعرفات مواضع للطهارة والصلاة ميسرة على وجه يليق بهذه البقاع المطهرة. إن المسلمين يضربون اليوم خيامهم في منى وعرفات في أمن وسلام ونظام، ولكن هذه الخيام المتفرقة تقسمهم فلا يجتمعون إلا قليلاً. فما أجمل أن يهيأ في منى وفي عرفات مكان واسع جامع يسع الناس جميعاً في صعيد واحد يرى بعضهم بعضاً فيشعر المسلم بالجماعة الإسلامية ممثلة والأخوة الإسلامية مصورة. فإذا استمع هؤلاء جميعاً إلى خطيب أو واعظ أو داع يتكلم في مجهر فيسمعهم معاً ويعظهم معاً ويدعو فيؤمنون بصوت واحد ويرفعون أيديهم جملة واحدة كان في هذا من الجمال والروعة ما لا ينساه المسلم على مر الزمان وبقيت هذه الصورة في نفسه حيثما سار تذكره بالأخوة الإسلامية
وهل أغلو إذا قلت إن من المسلمين من يرجو أن يكون في منى مدرج ينحت في الجبل يسع مئات الآلاف من الحجاج يجتمعون إذا شاءوا ويتفرقون في سكون وطمأنينة وسلام في وقت قليل وحركة يسيرة كما تفعل الأمم الأخرى في مجامعها التي تضم آلافاً كثيرة؟ ولماذا لا يكون للأمم الإسلامية بيت في مكة أو المدينة يجتمع فيه بعد موسم الحج مثلا ممثلو هذه الأمم ليتشاوروا فيما بينهم ويداولوا الآراء فيما يصلح المسلمين ويرفع أخلاقهم ويسعدهم بين الأمم؟. لماذا لا يبذل المسلمون من أموالهم وأفكارهم لإنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات في الحجاز، وفي إنشاء المكاتب ونشر الكتب الإسلامية والمجلات تبحث الأمور الإسلامية المشتركة وتقصد الى التقريب بين التربية الإسلامية والثقافة الإسلامية في العالم الإسلامي جهد الطاقة. إن الحجاز ينبغي أن يكون ملتقى الثقافات الإسلامية
ثم يرجو كل مسلم أن يصلح المسعى بين الصفا والمروة ليفصل من السوق والطريق ويجعل على شاكلة تشعر الساعي أنه في عبادة ينبغي أن تفرغ لها نفسه، ويتم لها توجهه. وما أحوج الحرمين في مكة والمدينة إلى أن تزحزح عنهما الأبنية المجاورة ويدور بهما مهبع واسع يظلله الشجر. وهناك بعد هذا إصلاح مذبح منى وحفظ لحوم الأضاحي وجلودها لينتفع بها أو بأثمانها الفقراء طول العام. ثم تعبئة ماء زمزم في أوان ترسل إلى الأقطار الإسلامية، وقد أثبت البحث أنه ماء نافع مريء فضلاً عما له في نفوس المسلمين
من حرمة. ثم إضاءة مكة والمدينة وسوق الماء إلى دورهما ومساجدهما، وأمور غير هذه كثيرة
هذا كله جدير بعناية المسلمين وتعاونهم وبذلهم من أموالهم وأفكارهم وأعمالهم. ولن يؤدوا واجبهم ويعربوا عن اهتمامهم بدينهم ويبرءوا من التقصير حتى يحققوا هذا كله بل أكثر منه
وقد تحقق الشرط الأول لكل إصلاح وهو الأمن الشامل والطمأنينة العامة يسرهما الله للحكومة السعودية واستحقت بهما مثوبة الله وشكر المسلمين كافة. فعلى المسلمين جميعاً أن يتقدموا فيتعاونوا جميعاً على خطة معينة خالصة لوجه الله يعالجون بها من أمور الحجاز ما يجعله صورة لحضارة المسلمين وتآلفهم وتعاونهم. ومن أولى من المسلمين بالتعاون والتآخي ودينهم دين الأخوة العامة والتعاون على البر والتقوى. والله يهيئ للمسلمين من أمرهم رشداً ويوفق للخير حكومات الإسلام عامة والحكومة المصرية خاصة وهي التي حملت النصيب الأوفر في أمور الحجاز منذ قرون كثيرة والتي يؤمل المسلمون فيها خيراً كثيراً في رعاية جلالة الملك الصالح (فاروق الأول) حفظه الله
فبلغنا رابغا بعد ثلاث عشرة ساعة، وقد استرحنا على الطريق ثلاث ساعات وعشرين دقيقة في ثلاثة منازل. فكان مسيرنا بين المدينة ورابغ زهاء عشر ساعات
واستأنفنا السير ضحوة الغد فبلغنا جدة بعد خمس عشرة ساعة وكان توقفنا على الطريق ساعة في منزلين، فكان مسيرنا من طيبة إلى جدة أربع عشر ساعة. والمسافة بينهما نحو خمسمائة كيلو تقطعها السيارات بالسير الوسط في عشر ساعات ويستطيع المتعجل أن يطويها في ثماني ساعات أو سبع. فماذا يشكو المسافر من سفر يقدره بالساعات لا الأيام والشهور ثم لا يمسه فيه ظمأ ولا جوع ولا حر ولا قر ولا خوف؟
عبد الوهاب عزام
الحقائق العليا في الحياة
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان والعلم:
لا حاجة بنا إلى إفاضة القول في أن العلم بمعناه الحالي - وهو اليقين والإثبات المبني على التجربة والمشاهدة الحسية - إنما هو من أدوات الإيمان بالخالق المدبر. فلو فرضنا وقالت كل الفلسفات والجدليات إنه ليس هناك خالق للكون لظل العلم وحده يقول بوجود ذلك الخالق. لأن كل ما في الطبيعة يشير ويصيح بأن له خالقاً عالماً يقف أمامه العقل العلمي حائراً دهشاً من سر صنعته وتركيبه وإعداده الأشياء للحياة!
واعتقادي أن أكبر خادم للإيمان هو العلم الكوني، وأن المختبرات والمعامل لو أنصف الناس لعدوها من أقدس المحاريب التي يعبد فيها الإله وينعت بما يليق بكماله وجلاله.
والإلحاد بين علماء الطبيعة أقل منه في أي طائفة من طوائف علماء العلوم أو الفنون الأخرى. ولذلك قال القرآن (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وصدر الآية يدل على أن العلماء هنا مقصود بهم علماء الطبيعة والمتأملون فيها إذ يقول (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى الله من عباده العلماء)
ولو أن علماء الطبيعة يدخلون معاملهم ومختبراتهم مستحضرين روح العبادة كما يفعلون إذ دخلوا إلى المعابد إذاً لتنزل عليهم إلهام وتوفيق ولذات لا تفنى.
العلم لا سلطان له على البحث في ذات الخالق لأنه ليس من مجاله فمجاله ما يقع تحت الحواس، وإنما يستطيع أن يستنتج صفات الخالق. وهو في هذا الاستنتاج يلتقي مع الفلسفة، فأرسطو الفيلسوف وأرسطو العالم الطبيعي التقيا في إثبات (السبب الأول) وكذلك اسحق نيوتن الفيلسوف والعالم التقيا في قوله (إن خالق هذا الكون على علم تام بعلم الميكانيكا!) وقل مثل ذلك في بقية العلماء الإلهيين كباستور وغيره من العلماء الذين إن
ألحدوا في إله الكنيسة فلن يلحدوا في إله الطبيعة الذي هم أقرب الناس إلى معرفته وتقدير صفاته.
ومن المؤسف أن إله الكنيسة في أغلب الأديان غير الإله كما يدركه العلماء في الطبيعة. هو إله بشري يتشكل في أجساد البشر في بعض الأديان، خاص بقبيل من الناس في بعضها الآخر، محب للدماء في البعض الثالث، محب لعذاب الناس وفناء أجسادهم في البعض الرابع، معقد فيه ناسوت ولاهوت وأقانيم متعددة في البعض الخامس. وهكذا وهكذا مما يعذر العلماء السائرون مع الفطرة البسيطة إذا كفروا به وآمنوا بمن يجدون يده في الطبيعة
وهنا يمتاز الإسلام امتيازا رائعاً في تقديم صورة للإله هي أسمى ما يمكن أن يدركه عقل علمي عن الكمال الإلهي مع بساطة واستيعاب هما سر الفطرة وطابعها الذي يأخذ بنواصي جميع الناس علمائهم المنتهين وجهالهم المبتدئين ومن بينهما في آفاق المعرفة والإدراك في القطبين وفي خط الاستواء وفي الشرق والغرب.
والواقع أن كل الأديان الإلهية قدمت هذه الصورة التي يدرسها العقل. ولكن يد التحريف وحب التأويل وتزيدات الكهان وعوامل الفناء التي لحقت الأديان وتقلبات الحوادث بنصوصها الأصلية هي التي مسخت الصورة الرائعة الكاملة التي قدمها الرسل عن الإله كما أوحى إليهم.
لقد وصف الإسلام الإله بما يرضي جميع الناس، فوصفه بأنه جبار قهار، ورحيم لطيف، ومنتقم ورؤوف، إلى آخر الأسماء الحسنى حتى يرضي أمثال زنوج أفريقيا وبرابرة التبت الذين لا يعبدون الإله إلا إذا كان جباراً، ولذلك يصورون آلهتهم كالفيلة بصور هائلة ذات عدة رؤوس وأيد وأرجل، وليرضي أمثال اليونانيين الذين كانوا يتخيلون آلهة متعددة للرحمة والجمال والتناسق والقوة والحب والحرب وغيرها.
وكأن الإسلام يقول لهؤلاء وهؤلاء: ربكم واحد فيه جميع ما تتصورون جميعا من الصفات الحسنى، فالتقوا جميعاً في رحابه بعبادة واحدة وأسلموا وجوهكم وقلوبكم إليه. (ولله المشرقُ والمغربُ فأينما تُولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم)(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (هو الله الذي لا إله إلا هو الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ
الجبارُ المتكبرُ. سبحانَ الله عمَّا يشركون، هو اللهُ الخالقُ البارئُ المصوّر له الأسماءُ الحسنى)
ولذلك حينما وصف الإسلام لنيتشه أو شوبنهاور - لا أذكر - قال لمحدثه (إذا كان الإسلام كما وصفت فنحن كلنا مسلمون!) مع أنه كان ملحداً منكراً لعقيدة الجماهير
ولبساطة العقيدة الإسلامية ووضوحها وقوتها وتمشيها مع الفطرة لم يجد الإلحاد طريقاً إلى الذين اشتغلوا قديماً بالفلسفة والعلم من المسلمين؛ لأنهم كانوا مزودين بتلك الصور الواضحة البسيطة من قضايا الدين. وكانت الفروض التي قرءوها في الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية فروضاً ناقصة أو معقدة أو مختلة لا تنهض أمام ذلك اليقين الفطري الذي يستطيع الفلاح والفيلسوف أن يفهماه ويعتقداه بكل راحة وطمأنينة في الإسلام
وعلى العكس عند غير المسلمين، فقد كان كل فيلسوف لابد أن يكون (هرطيقا) ولذلك كان كل من يدرس الفلسفة مطارداً من السلطة الدينية لأنها تعلم أن العقيدة الموروثة ستهزم أمام التفكير؛ ولما خابت المطاردة، نظرا إلى نزوع الناس وتطور الزمان وهجوم العلوم، زعموا أن الدين قلبي وجداني فقط لا أثر فيه للتفكير، وإنما يستند إلى ذلك الشعور، ليقولوا بعد ذلك إن الإنسان يستطيع أن يجمع بين متناقضين أحدهما يسكن فكره والآخر يسكن قلبه! مع أن أساس الدين قائم على التفكير وإلا ما لزمت حجة الله أحداً من خلقه مادام فكره لم يعقل ولم يفهم وهو منصف، بل مادام فكره ينقض ما يأتي به الدين في بعض الأحيان
ومن المؤسف أن المسلمين ورثوا هذه الفكرة الباطلة مؤخراُ من أرباب الأديان الأخرى، مع أن الإسلام قائم على التفكير، وحجته العقل، ومعجزته عقلية دائمة تسير مع رشد الإنسان وتقول له (لا تقْفُ ما ليس لك به علم)(والذين إذا ذُكروا بآيات ربهمْ لم يخرُّوا عليها صمّاً وعُمياناً!)
وآفة الإسلام هي جهل أكثر المسلمين بأصوله وتفاصيله، واتباعهم القضايا التي لم تمحص وتنطبق على بيئتهم وما فيها، وتسليمهم بالنظريات الغربية كما يسلمون بالمسائل العلمية المادية
وأحسب أن أكثر قادة الفكرة والمصلحين الغربيين لو أتيح لهم أن يطلعوا على الإسلام الصحيح لتغيرت أحكامهم التي أرسلوها في مسائل الخلاف بين الدين والعلم. ويكفي دليلاُ
على ذلك مقال فلتير في مارتن لوثر: (إنه لا يصلح أن يحل نعل محمد. . .) مع أن فلتير لم ينصف محمداً للسيرة المشوهة التي لم يتهيأ له أن يعرف عن محمد سواها
ومن قرأ كتاب (الزنجية تبحث عن الله) لبرناردشو يدرك أن (شو) ارتفع بمحمد والإسلام إلى قمة الأنبياء والنبوة. وسيرة (جوته) تدل على أنه افتتن بالإسلام، ولذلك شرع في تعلم العربية وفي تأليف (رواية) عن محمد. وقد مدح أسلوب القرآن وطريقته ككتاب دين. وكلمة شوبنهاور أو نيتشه التي أشرنا إليها سابقا تدل على أن أي عقل متمرد قد يجد سلامه وطمأنينته في الإسلام. ومقال كارليل عن رسول الإسلام لا يغيب عن بال أحد
وهكذا وهكذا مما لا مجال لذكره الآن، ومما يبين قوة غزو الإسلام للعقول المتمردة والآراء الفلسفية، ومما لا يصح معه إدخاله مع غيره في مسائل الخلاف بين العلم والدين
واعتقادي أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده أن يحمي الإيمان من أن تجرفه تيارات المادية والإلحاد، وهو الذي يستطيع أن يقره في كل نفس كما هو في الطبيعة البشرية بجانب (نزعة الإثبات) التي أنتجت العلم و (نزعة التأمل) التي أنتجت الفلسفة بحيث يعود الإيمان باعث فخار بين الناس كما كان وكما يفتخرون الآن بالعلم والفلسفة، لا كما يغضي بعضهم منه حياء إذا قيل عنه إنه مؤمن، وترجمة هذا القول عند الجهال بالعلم والدين معا: إنه مخرف.
وقد تراكمت عقد خفية في نفوس إنسانية هذا العصر حول الدين لأن كثيراً من الذين ينتسبون إليه حملوا عليه ميراثاً كبيراً من الخرافات ومن تضييق الواسع ومن غباوة بعض رجاله الذين لا يعرفون المهمة الأصلية فيه، ومن تحويل التدين الى نوع من الهستريا المنفعلة المغفلة عن حكمة الله في اختلاف الإنسانية في الآراء والمعتقدات.
وكم هي كبيرة جناية الرموز والطقوس وثياب رجال الدين وشاراتهم وسماتهم التي تميزوا بها من غيرهم! إنها جناية تحويل الملكية العامة إلى احتكار. . . وجناية إقامة السدود والقيود على الطريق الواسع الذي يوصل كل شخص إلى الله. . وجناية إقامة السدود والقيود على الطريق الواسع الذي يوصل كل شخص إلى الله. . . وجناية تحديد أبواب معينة لا يحل لأحد أن يجتاز إليه من غيرها، وجناية إقامة حراسة وخفارة عليها من فئة معينة ربيت تربية خاصة منفصلة عن تربية بقية الناس لا يدخل أحد إليه إلا
بإذنها. . . وجناية تحديد بقع ضيقة من الأرض لا يحل التعبد له إلا فيها، بعد بخور وعطور وطبول وزمور. كأنهم يستحضرون عفريتاً من الجن إلى حفلة زار!)
وقد أطلق الإسلام الدين من كل هذا الذي ألصقه به الأطفال والمجسمة والمشبهة، وجرد محيط العبادة من التماثيل، والصور والرموز، وجعل الأرض كلها مكان عبادة فأعاد الى الطبيعة قيمتها كمحراب دائم للصلاة. وجعل روح الدين في الشارع والسوق كروحه في المسجد: ففي السوق والشارع عبادة عملية، وفي المسجد عبادة نظرية هي موقف تصفية وجرد لشؤون الحياة كلها!
ولم يجعل طبقة معينة تحتكر شؤون الدين وتلبس زيا خاصا بها بل حتم على جميع معتنقيه أن يكونوا علماء به ما أمكنهم العلم، ورأى لأئمته ألا يتزيوا بزي خاص حتى لا يشعر الناس بانفصال حياة الدين عن حياة الدنيا.
ولو فهم الناس أن الدين في الشارع والسوق أهم منه في المعبد لتغير وجه الحياة وسير التاريخ، ولحت المشكلة التقليدية الموروثة المعنونة (الدين والدنيا)
من هنا يتبين لنا أن عبء المسلمين فادح وحسابهم عسير أمام الله والحق والبر بالإنسانية، لأن إهمالهم إصلاح نفوسهم وتثقيفها وإعدادها بما في الإسلام لأداء رسالته العالمية هو الذي يجر على الناس كل المشقات والمصائب والحيرة والضياع، وهو الذي يخرج من حظيرة الإيمان كل عقل غربي كبير بما يقرؤه من الفروض الفلسفية وبما يلمسه من وجوه الخلاف بين قضايا العلم وبعض نصوص دينه تهافته التي تدل أول نظرة صحيحة إليها أنها من غير المنبع الإلهي.
ومن الغريب المؤسف أن القائمين على الشيوعية أو الفوضوية مثلاً يجاهدون في سبيلها جهاداً مستميتاً لينشروها ويجعلوها دين الناس ويحسبون أنفسهم أصحاب رسالة يجب أن تتم وتشمل الأرض جميعها. . . بينما المسلمون الذين عندهم علاج كل نكبة في العقل أو في النفس أو في المال يجهلون مهمتهم ولا يؤدون رسالتهم كما كان أجدادهم الأقدمون يؤدونها ويموتون في سبيلها على ضفاف الكنج وأسوار الصين وشواطئ بحر الظلمات، وهم معتقدون أنهم يؤدون إلى الناس أعظم خدمة وأكبر منة تطيب بها نفوسهم عن اقتحام ديارهم وثل عروشهم وهدم أصنامهم الحسية والمعنوية!
إن إنسانية الشرق والغرب لا تزال حائرة ترسل روادها وأرصادها (للبحث عن غد) يشرق عليها ضحاه وهي في واحة السلام والطمأنينة. . . لا تزال (زنجية تبحث عن الله)! والمسلمون الذين أسعدهم الله بمعرفته وبالطمأنينة والهدى لا يشعرون بتبعاتهم الثقيلة نحوها، ولا يزالون يعيشون لأجسادهم وأنفسهم فقط. . . بل إن الثقة بما عندهم قد ذهبت عنهم. وقاتل الله الجهل وحياة الفسولة!
(الرستمية)
عبد المنعم خلاف
للتاريخ السياسي
جهود المستر تشمبرلين وما أدت إليه
للدكتور يوسف هيكل
من الممراندوم إلى مؤتمر مونيخ
ظنت الدوائر السياسية أن الأزمة الدولية قد انفرجت بقبول تشيكوسلوفاكيا مشروع لندن، وهو عبارة عن تحقيق مطالب الهر هتلر. وغادر صباح 22 سبتمبر (أيلول) المستر تشمبرلين لندن إلى ألمانيا مرتاح النفس مطمئنها. وقبل صعوده إلى الطائرة قال:(إن تسوية المشكلة التشيكوسلوفاكية تسوية سلمية تعد شرطاً أساسياً لتفاهم الشعبين الإنكليزي والألماني. وقد كان هذا الشرط أيضاً أساساً ضرورياً للسلم الأوربي الذي ترمي إليه جهودنا، وإني أرجو أن تفتح زيارتي الطريق التي تؤدي إليه)
وبعد ظهر يوم وصوله إلى (كودسبرغ) اجتمع بالمستشار الألماني، وعرض عليه ما اتفقت عليه حكومتا لندن وباريس، من التنازل عن الأقاليم السوديتية لألمانيا، وتعيين حدود جديدة لتشيكوسلوفاكيا، وضمانها ضد الاعتداء غير المحرض عليه
لم يعترض الهر هتلر على فكرة الضمان، غير أنه أبان لا يضمن الحدود الجديدة إلا إذا كانت الدول الأخرى، ومن بينها إيطاليا، ضامنة لها أيضاً؛ وأنه لا يشترك في الضمان الدولي لتشيكوسلوفاكيا إلا بعد أن تنال الأقليات الأخرى فيها مطالبها. أما الاقتراحات الثانية التي وضحها له المستر تشمبرلين، فلم يقبلها الهر هتلر، بحجة أنها لا تحقق حلاً سريعاً، وتعطي فرصاً عديدة للتشيك للتهرب منها. وقد أصر على ضرورة حل سريع للمشكلة التشيكوسلوفاكية، وأخذ يوضح للمستر تشمبرلين نوع هذا الحل الذي وضعه فيما بعد بمذكرة (ممراندوم)
كم كانت دهشة المستر تشمبرلين عظيمة عند ما وجد نفسه في وضعية لم تكن منتظرة قط. إنه كان يعتقد اعتقاد اليقين، أن ما عليه عندما يذهب إلى كودسبرغ إلا أن يبحث مع الهر هتلر الاقتراحات التي قدمها إليه، بحثا هادئاً يؤدي إلى الاتفاق السريع عليها. لأن الهر هتلر أعلم المستر تشمبرلين في برختسكادن أنه إذا قبل مبدأ حق تقرير المصير، فإنه
مستعد ليبحث معه الطرق والوسائل لتنفيذها. ولما قبل المستر تشمبرلين هذا المبدأ، وقدم مشروع لندن المبني عليه، رفضها الهر هتلر رفضاً باتاً حين ابتداء المحادثات. كان ذلك صدمة عنيفة للمستر تشمبرلين، وخيبة لآماله التي كان يعلل النفس بها. ولكي يهون عليه الهر هتلر ذلك، ويجد لموقفه المناقض مع قوله عذراً، قال لرئيس وزارة إنجلترا إنه لم يخطر على باله أنه (أي المستر تشمبرلين) يتمكن من العودة إلى ألمانيا حاملا قبول مبدأ حق تقرير المصير
كانت الصدمة عنيفة حتى أن المستر تشمبرلين شعر أنه في حاجة إلى الوقت ليفكر فيما يجب عليه عمله، فانسحب، وقبل انسحابه طلب من الهر هتلر أن يعيد له التأكيد بعدم الزحف على تشيكوسلوفاكيا أثناء المحادثات، فأكد له الهر هتلر ذلك
وكان موعد متابعة المحادثات الساعة الحادية عشرة والنصف من اليوم التالي؛ وكان المستر تشمبرلين يتأكد من أن الهر هتلر لم يفهم حق الفهم ما كان يقول له عن طريق المترجم، لهذا فكر أم من الحكمة أن يرسل إليه قبل الشروع في المحادثات، ملاحظته كتابة على مطالب الهر هتلر الجديدة. ومما قال في ملاحظاته أنه سيرسل المطالب إلى الحكومة التشيكوسلافية، وأبان الصعوبات العظيمة التي تحول دون قبولها. ولما تسلم المستشار الكتاب، أظهر رغبته في الجواب عليه كتابة. ولذلك ألغى الاجتماع لمتابعة المحادثات وأرسل الجواب بعد الظهر.
ظن المستر تشمبرلين أن التأخير في إرسال الجواب ناجم عن إجراء بعض تعديلات في مطالب الهر هتلر. وعندما تسلم الكتاب خاب ظنه، إذ وجده يحتوي على توضيحات للمطالب ولا يعدل فيها شيئاً. فطلب المستر تشمبرلين نص المطالب، وصورة من الخريطة المرفقة بها، لإرسالها إلى براغ، وعزم على العودة إلى لندن. فقدم إليه ذلك خلال اجتماعه بالهر هتلر الذي ابتدأ الساعة العاشرة والنصف من مساء 23 سبتمبر (أيلول) واستمر حتى الصباح الباكر.
وقبل أن يودع المستر تشمبرلين الهر هتلر، قال له زعيم ألمانيا إن بلاد السوديت آخر الأراضي التي يطمع فيها بأوربا، وإنه لا يرغب في أن يضم إلى الريخ شعوباً غير ألمانية. وقال أيضاً إنه يرغب في أن يكون صديقاً لإنكلترا. ثم أردف قائلاً: صحيح أن
هناك مسألة المستعمرات، ولكنها لا تولد حرباً، ولا تنتج تعبئة عامة
عاد المستر تشمبرلين إلى لندن في 24 سبتمبر (أيلول)، حاملا مذكرة الهر هتلر بدلا من الموافقة على اقتراحات لندن. وهذه المذكرة تحتوي على النقاط التالية
1 -
سحب جميع القوى التشيكية من جند وشرطة وبوليس جمارك وحراس حدود من المقاطعات التشيكوسلوفاكية المعنية في الخريطة المرفقة، والتي يجب أن تسلم إلى ألمانيا في 1 أكتوبر
وتحتل الجيوش الألمانية هذه المقاطعات دون اعتبار وجود الأكثرية التشيكية في بعض أجزاء هذه الأقاليم. وتسليم هذه الأقاليم يكون بحالتها الراهنة، أي من غير تخريب وإتلاف أي شيء من الأملاك والأموال، حتى إنه لا يجوز سحب المواد الغذائية والبضائع، والحيوانات، والمواد الخام.
2 -
إجراء استفتاء في المقاطعات التي فيما وراء المقاطعات التي ستحتل، والمبينة في الخريطة، قبل 25 نوفمبر تحت إشراف لجنة دولية. ويحق الانتخاب للأشخاص الذين كانوا يقطنون هذه المقاطعات في 28 أكتوبر سنة 1938، وكذلك للأشخاص الذين ولدوا.
3 -
تعيين لجنة ألمانية تشيكية، ولجنة دولية، للحدود الجديدة الناجمة عن الاستفتاء. . .
4 -
تشكيل لجنة ألمانية تشيكية لتسوية التفاصيل الأخرى. وعلى الحكومة التشيكية أن تسرح حالاً جميع الألمان السوديت الذين يخدمون في الجيش والبوليس، وأن تخلي جميع المسجونين من السياسيين الألمانيين.
أرسل المستر تشمبرلين المذكرة إلى حكومة براغ لدى وصوله لندن في 24 أكتوبر فوصلها مساء ذلك اليوم. وفي اليوم التالي تسلمت حكومة المستر تشمبرلين جواب حكومة الجنرال سيروفي، الذي أكدت فيه أن مطالب الهر هتلر، بصفتها الحالية، غير مقبولة بلا قيد ولا شرط، لأسباب ذكرتها، ومنها أن هذا الممراندوم يحرم تشيكوسلوفاكيا، من بلادها الصناعية، ومن تحصيناتها، ومن أموالها المنقولة، من قطارات وعربات، بل يحرم المزارعين الذين يريدون الرحيل عن وطنهم من أخذ مواشيهم وحيواناتهم وهو يدخل 836000 تشيكي تحت السيادة الألمانية. أما المقاطعات التي تريد ألمانيا إجراء الاستفتاء فيها فتحتوي على 1. 116. 000 تشيكي و 144. 000 ألماني! وهو يقصي الدول
الغربية، (أي فرنسا وإنكلترا) عن تصفية بقية المسائل ويضع تشيكوسلوفاكيا تحت رحمة ألمانيا. والممراندوم لا يذكر شيئاً عن ضمان الحدود الجديدة
ذعر الرأي العام، واضطربت الدوائر السياسية من ممراندم الهر هتلر. وأصبح الكل يعتقد أن الحرب واقعة لا محالة. وتواردت ألوف الرسائل على المستر تشمبرلين وعلى زوجته، شكر مرسلوها فيها مساعيه للسلم، وابدوا في منع الحرب وأظهروا كرههم لها. وذهب المسيو دلادييه والمسيو بونيه مساء 25 سبتمبر (أيلول) إلى لندن، لتداول الأمر، فوقفا فيها على جواب حكومة براغ. وفي اليوم التالي تابع ممثلو الحكومتين درس الموقف، فأكد مسيو دلاديبه لزملائه البريطانيين أنه إذا هوجمت تشيكوسلوفاكيا فإن فرنسا تقوم بواجباتها نحوها. فأجاب المستر تشمبرلين، أنه إذا كانت نتيجة هذه الواجبات اشتباك الجيوش الفرنسية مع القوى الألمانية، فإن الحكومة الإنكليزية تشعر بأنها مجبرة على معاضدتها. وقد صدر في اليوم نفسه بيان بهذا المعنى. وفي 26 سبتمبر (أيلول) أعلنت تشيكوسلوفاكيا التعبئة العامة، واتخذت فرنسا إجراءات حربية واسعة، وأمر وزير البحرية البريطاني، دوف كوبر، الأسطول بأن يكون على استعداد. فأصبح الرأي العام ينتظر انفجار قنبلة الحرب العامة من ساعة إلى أخرى.
(للمقال بقية)
يوسف هيكل
من رحلة الشتاء
في مضارب شمر
البادية
للآنسة زينب الحكيم
إن للبادية طابعاً خاصاً، فهي في النهار غيرها في الليل، وهي في شقشقة الفجر غيرها في غلس المساء. في الصباح الباكر تبدو الطبيعة هواؤها وماؤها، نباتها وطيورها، حيوانها وإنسانها متمالكاً قواه، على أتم استعداد للنشاط والإنتاج، يبدو الزهد على كل شيء والتضحية بكل شيء، ويظهر محيط موحد بضم هذه العناصر جميعها.
يبقى هذا المنظر لحظات سريعة المرور خطيرة الأثر. وتبكر لشمس فتمتد خيوطها الجميلة فتحيي الزهر، وتنعش العشب، وتنشط الهواء، وتداعب الندى.
وتسرع القطعان ورعاتها للسعي والتنقيب، فينكسر سكون الصباح، وتسمع هنا مواء، وهنا نباحاً، وهناك صياحاً وغناء.
ويدور الأحياء دورتهم، في شؤون الحياة العملية الصرفة، صابرين على هجير البادية وقارس بردها، وعلى جدبها وخصبها، راضين بسكونها وثورتها.
هاهو ذا المساء يتقدم، وذكاء على وشك الغروب وراء الأفق، وكذلك تسرع القطعان ورعاتها إلى حظائرها، ويدور الفلك دورته العكسية الأبدية. يا لله من أضداد الطبيعة، وهي هي بعناصرها ومحتوياتها، سكون شامل رهيب، يتلاشى فيه ثغاء الأغنام وهدير الإبل، ويرتفع فيه نباح الكلاب - ترهف فيه الأسماع وكل الحواس. قبة زرقاء صافية في الصباح الباكر، يزينها الضوء الهادئ البديع، والضباب الخفيف والنسيم العليل؛ وقبة زرقاء، قاتمة في المساء، تتلألأ فيها نجوم زاهرة، وتتماوج نسائم بليلة حائرة، وتشمل الكون بمن فيه رهبة قاهرة.
ليلة؟؟
أذهب مسرعة إلى الخيمة التي أعدت لنومي وسط هذه الطبيعة الغريبة، والبادية البعيدة، فيدخل معي الشيخ ليدلني على نظمهم، ومعه خادمان، يحمل أحدهما مصباحاً، والثاني طستاً
وإبريقاً به ماء دافئ؛ وأشكر الشيخ على شدة عنايته باستكمال وسائل راحتي، فيقول عمي مساء، وينصرف في رداء العربي الشريف، ونظرة البدوي الشجاع.
ويحملق العبد في وجهي يسألني إذا كنت أريد شيئاً قبل أن ينصرف فأشكره وآمره أن يترك المصباح عندي على المنضدة. وسألته إذا كان لديه شمعة وعلبة ثقاب. فناولني علبة الثقاب أما الشمعة فلا توجد. وضعت الكبريت على الكرسي القريب من السرير؛ وقلت للعبد: من فضلك اخرج وأقفل باب الخيمة. فبدأ يضع الحبل في الثقوب المعدة لذلك بشكل فني، وكنت واقفة أرقب ما يعمل (وهنا تذكرت خيام الكشافة، وكل ما تعلمته من حركاتها النافعة، وأوصي كل فتاة وكل فتى أن يندمج في سلكها وقتاً ما، فإنها للحياة العملية وحياة السياحة والمخاطرات من الدرجة الأولى في الأهمية)
أوشك العبد أن يتم عمله، ولم يبق إلا ثقبان بدون توثيق، فنظر إلي من بين طرفي الباب والخيمة، بحيث لم يظهر منه إلا وجهه الأسود، بأنفه الكبير المفرطح، وعينيه اللامعتين المخيفتين، وشاربه الطويل الغزير، وظهرت أسنانه الكبيرة البيضاء ولسانه الأحمر العريض عند ما قال: عمي مساء سيدتي. قلت: عم مساء وأشكرك. وفي سري قلت: (أبغض منظرك المخيف الهائل في هذه الظلمة الحالكة، والسكون الرهيب)
وأردت أن أستوثق من أن جوانب الخيمة محبوكة، فأطمئن إلى أن كائناً ما لا يمكنه دخولها، فجلست القرفصاء أختبر ذلك. وما كان أشد جزعي، وأبعد تخيلي عما توهمت! لقد وجدت طرف الخيمة يصل إلى حافة السجاد المغطي أرض الخيمة فحسب، والهواء البارد يمر من جميع نواحيها، ويستطيع أي حيوان أليف أو متوحش، الدخول بلا أدنى عائق. فاستولى علي جزع لم أعهده في حياتي، وعبثاً أحاول إقناع نفسي بالتذرع بالشجاعة، أو باستعادة الماضي. فكم من ليال نمتها في أشباه هذه الخيمة في إنجلترا، في أجواء أردأ وأشد صقيعاً ومطراً بل وثلجا.
وإن تمح من ذاكرتي أهم الحوادث الغريبة، التي حدثت لي في بعض هذه المخاطرات، فلن تمحى الحادثة الآتية التي حدثت لي مرة ونحن نخيم في البرية في جهة من جهات إنجلترا:
اتخذنا مخيمنا وسط أرض جيدة، توسمنا أنها خير ما ظهر لناظرنا صالحا لهذا الغرض. وكنا بعيدين جداً عن السكان، وكنا كلنا طالبات فتيات، متخذات من شبابنا قوة على أعمال
الكشف والتقشف. وبعد جهاد يوم شاق من الصباح الباكر إلى المساء المتأخر، أخذنا عدتنا للنوم، فدخلت كل منا في كيس نومها الذي يغطي جميع أجزاء جسمها، وتربط طرفه الأعلى حول عنقها، فلا يكون غير الوجه ظاهراً، ويغطي بغطاء خفيف يمنع الحشرات ويسمح للتنفس.
على بركة الله افترشنا الأرض والتحفنا الخيمة؛ وما كدت أسلم جفني للكرى حتى شعرت بحركة غريبة تحت جنبي، فقلت لعلني أنام على جنبي الأيسر، مما سبب للقلب قلقاً، فانقلبت على الجانب الأيمن، ولكن الحركة استمرت، بل زادت شدة، فجمد الدم في عروقي، وهدأت حركتي قسراً، إذ تصورت أن عفريتاً تحت الأرض، كأنما يقصد أن يشق بطن الأرض فيخرج منها، ويتخذ جسمي بديلا. وخطرت ببالي جميع خرافات الجن والشياطين والأرواح، وعقد الخوف لساني، فلم أستطع الاستغاثة بصديقاتي، ولا أملك تحريك أطرافي فأدفع عن نفسي ذلك العفريت الأرضي.
ولما اشتدت حركات العفريت وعنفت صرخت مستغيثة كمن أصابه مس مؤكد. فهرعت إليّ الطالبات، يستفسرن الخبر فأخبرتهن، فقالت واحدة: أسرعي (درثي) أحضري الكيس، وصاحت أخرى:(نللي) أحضري حبلا، وأسرعت ثالثة ورابعة بأيديهما سكين ومسدس، وتصورت أن الجني قد أتت ساعته، وحان حينه، وأني كنت على حق فيما أحسست، وحمدت الله على أني لم أكن مدعية، وبدأت أنشط مع الجماعة لأنتقم لنفسي من ذلك الشرير الذي طالما اختفى، وها قد حان الوقت لرؤيته وكشف سر العفريت كلها بعد كشف حاله.
وضعت الفتيات الكيس مقلوباً على المكان الذي تصورنا أن العفريت سيخرج منه، بحيث انسجمت فتحة الكيس على الموضع تماماً، واجتمعت الأيدي على تثبيتها بحيث لا يستطيع فكاكا.
وتوجهت همة الفتيات كلها إلى القبض عليه في الكيس حتما.
وأخيراً وبعد جهد شاق، قفزت عفاريت ثلاثة من باطن الأرض إلى داخل الكيس المتين، ثم انتهت الحركة في باطن الأرض، فقبضت الطالبات على فتحته، وبدأن يذبحن الشياطين الكفرة! قاتل الله الأرانب البرية! لقد كان شكلها جميلاً وطعمها لذيذاً، ولكن فعلتها كانت
شنيعة بالنسبة لي وحدي، لأنه لم تكن لي هذه التجربة من قبل، مثل باقي زميلاتي، اللاتي اعتبرن حدوثها لي حسن حظ وتوفيق أتى للجماعة الكشفية، عن طريق الساحرة المصرية، التي تعرف سر الكشف عن الكنوز في زعمهن.
هذه هي قصة الحادثة الغريبة التي سبق أن حدثت لي، وكان يجب أن أكون أكثر شجاعة مما كنت تلك الليلة في مضارب شمر. ولكن ليذكر القارئ أن شعور الأمان والنظام الذي يحسه الإنسان في بلاد الإنجليز، غير الشعور الذي يحسه في أي بلد آخر. فما بالنا بما يشعر الإنسان به بين اشد القبائل البدوية مراسا وقوة! إن تلك الحادثة على فظاعتها وما سببته لي من رعب لم تكن أشد تأثيراً في نفسي من تلك الليلة في خيمة البادية.
لم أذق للنوم طعماً طول تلك الليلة، لا خوفاً من البدو والعرب أنفسهم، ولا من عبيد الشيخ كما توهمت، بل بالتحليل النفسي الذي شغلت نفسي به، توصلت إلى التعليل الآتي، وأظنه معقولاً تماماً:
1 -
كان الطريق وعراً جداً وطويلاً متعباً إلى أقصى حد احتملته، فضعفت عندي قوة المقاومة والتعليل الوقتي المتزن.
2 -
هذا بالإضافة إلى حياة مباينة كل التباين لما سبق أن أعتدته زمناً طويلاً من النوم داخل مبان، مما جعلني أشعر أني أنام في العراء، وسبب هذا لي وحشة شديدة لم تتحملها أعصابي وجسمي المتعبان، فحدث لي الأرق والرعب.
ومع كل هذا أشهد أني قمت في الصباح، تاركة فراشي على أحسن ما يمكن من الصحة والنشاط، كما لو كنت نمت الليل كله ملء جفني، فإن الهواء هناك صحي منعش، وبذلك قد عوضني بدل النوم، ولعل هذا سبب ثالث لعدم نومي، ولعله من الأسباب المهمة أيضا في قوة بنية البدو أنفسهم.
الحياة الاجتماعية عند البدو (قبائل شمر)
لهم مجالس محادثات في الأمور المعاشية، ثم لهم مجالس الشعر والرواية. وتستعمل الربابة قليلا، والموسيقى كانت من أهم الأشياء التي افتقدتها في العراق وكردستان، وفي الجزيرة.
أما الراديو، فيعوض الآن جانبا كبيراً من هذا النقص، و (يتونس) به البدو على حد تعبيرهم بدرجة محسة كلما أداره الشيخ
وألعابهم كثيرة منها نوع يشبه الهوكي، ومطاردات الخيل (الفروسية) أما المبارزة فانقرضت الآن.
يلعبون ألعاب الورق (الكوتشينة) قليلا للتسلية فقط.
أما في أيام رمضان فيلعبون (الورسان) وهو نوع من أزلام الميسر؛ ويلعبون الضامة.
شخصية الشيخ عجيل الياور
لا يمكن وصفها أو تصويرها تماماً لعظمتها، ويكفي أن يقال فيه: إنه خبير وداهية البادية، ولو أنه أمي، إلا أنه يبز كثيرين جداً من المتعلمين.
ابنه الشيخ صفوك الياور:
ثقافته حديثة، فقد درس في الكلية الأمريكية ببيروت، ثم عاد إلى البادية لمساعدة والده في سياسة العشائر.
وسياسة رؤساء العشائر عربية كانت أو كردية، في تربية أبنائهم، هي أن يعلموهم الآن في المعاهد الحديثة لينوروهم، ويقووا عقلياتهم، لا على أن يهجروا البادية، بل ليزدادوا حبَّا لها، وعناية بمصالح البدو. وهم لذلك يحرصون الحرص كله على إبعاد كل فكرة من شأنها إفساد أبنائهم عليهم أو تنفيرهم من الحياة التي شب آباؤهم وأجدادهم عليها.
وأهم الصعوبات في سياسة العشائر هي المخاصمات بينهم، ثم الذود عن مصالحهم عند الحكومة، لأنهم جهلة، لا يستطيعون قضاء مصالحهم، أو حل مشكلاتهم بأنفسهم لقلة خبرتهم. والذي يقوم بأداء هذا كله الشيخ وابنه.
معلومات عن قبائل شمر وعددها
وهي مستقاة من ابن شيخ المشايخ:
قبائل شمر مكونة من مجموع قبائل: (1) زوبع (2) السناعيس (3) أهل الحية (4) أولاد علي.
وكل ما يعلم عن قبائل شمر أنها متنوعة ومتفرقة جداً، ولا يكاد المرء يحيط بها لكثرتها. والقبائل المذكورة اختلطت فروعها بعضها ببعض
نبذة عن قبائل شمر - من اطلاعي الخاص
تنقسم قبائل شمر إلى قسمين، قسم منها يقطن جنوبي العراق ويسمى (شمر الطوقة) وقد صاروا من القبائل المتحضرة.
ويسمى القسم الآخر (شمر الجربة) وهو يتألف من القبائل الساكنة في شمالي العراق في الجزيرة بين دجلة والفرات. وقد هاجرت هذه القبائل من جبل حائل في منتصف القرن السابع عشر.
أما الأرض التي تقطنها شمر الجربة في الجزيرة، فتمتد من شرقي دير الزور شمالاً إلى هور (عقرقوف) جنوباً، ومن الفرات غرباً إلى الموصل شرقاً، وتراها قد احتفظت بالبقعة الخصبة الواقعة في شمال شرقي الخابور، ولاسيما حوض وادي جنجغ الفياض.
وتعيش شمر على حالة البداوة، وتسكن بيوت الشعر، وتنزل أحياناً، بين شهري أبريل ومايو في شمال جبل سنجار، وتنتشر إلى جوار نصيبين ووادي السويدية.
أما في الأشهر الأخرى فتنزح إلى الجنوب، وتتحول في المنطقة الواقعة في جنوبي جبل سنجار.
وهي من أقوى العشائر مشاجرة، ولا تزال في خصام مستمر مع قبائل دليم وبقارة، وعشائر علي الكردية.
والعداء القديم متمكن بينها وبين قبائل عنزة، وهذه تملك أحسن الجياد وأكثر الجمال. ويبلغ عدد نفوس قبائل شمر من 50 إلى 65 ألف نفس.
زينب الحكيم
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة المستر كومبتون ماكينزي
للأستاذ أحمد فتحي
من المحقق أنني تبيَّت ميولي الأدبية وأنا لا أزال في دراستي الجامعية، إذ كنت أصدر مجلة خاصة في أكسفورد كانت تظهر لي فيها بعض الأشعار، كما أنني كتبت في عام 1900 أقصوصة صغيرة تافهة، ثم أتبعتها بأخرى بعد عامين. وكان أهلي على قلة تفاؤلهم يتوقعون لي شيئا من الحظ في احتراف الأدب، وتجلى ذلك في أن أبي قد اتفق معي على أن يظل خمسة أعوام يوظف لي مائة وخمسين جنيهاً في السنة. غير أن الاتفاق أوشك أن ينقض حين أقدمت على الزواج؛ فرأى أبي أن هذا الزواج أمر خارج على حدود الاتفاق. ولكنني عالجت الموضوع من ناحية أخرى، إذ جهدت غاية الجهد حتى كتبت مسرحية كاملة في أسبوعين فقط سميتها (ذو الرداء الداكن) وقدمتها إلى أبي وقام بإخراجها على المسرح الملكي في (إدنبره) في فبراير 1907 واحتجزها مدى خمسة أعوام أكبر الظن أنها مثلت خلالها مرات ومرات. وبعد ذلك انصرفت إلى الريف حيث دفعت إلى المطبعة بمجموعة من شعري قام بنشرها (بلاكويل). وفي خريف ذلك العام مضيت إلى حيث لأقضي الشتاء عند صديق قديم كان حينذاك قَسَّا في (كورنوول)، آملاً أن أوفق في وضع مسرحيات جديدة. . .
ولعل سروري بظهور هذه المجموعة الشعرية قد ترك أثره في نفسي، إذ فضلت الاشتغال بوضع الكتب على كتابة القصص للمسرح. ويخيل إلي أن الكتاب المبتدئين يؤثرون مشاهدة قصصهم تمثل وراء ستار المسرح على أن يظلوا يقلبون صفحات كتبهم بعد طبعها؛ بيد أني آثرت تأليف الكتب على أي حال. ولعل مبعث ذلك إنما هو عدم رضاي عن قيام الممثلين بأدوارهم، إذ كنت شديد الثقة بأنني أستطيع أن أقوم بتمثيل الأدوار خيراً مما يصنعون جميعاً! والعجيب أن هذا الاعتقاد نفسه قد عزف بي عن احتراف التمثيل! والحق أنني كنت أضيق بطريقة أداء الممثلين لأدوارهم، فقد كنت أتبين أن الشخصيات
التي وضعتها في مسرحيتي لم تكن تخرج على المسرح ولها الخواص والمميزات التي كنت حريصاً عليها حين وضعت أشخاص مسرحيتي قبل التمثيل.
واتفق بعد ذلك أن نضجت في ذهني فكرة قصتي الأولى (الزواج السري). وظلت صورة بطلتها تتمثل لي مع كل صباح؛ حتى كان نوفمبر سنة 1907، إذ جلست إلى منضدتي أسجل بقلم الرصاص فصول هذه القصة التي تولى نشرها (مارتن سيكر) في صيف عام 1910
مضيت في كتابة هذه القصة ببطء شديد. ولم تكن لي مرانة قصصية تذكر، غير أني مضيت في تسجيل فصولها على غرار الأساليب المعروفة في القرن الثامن عشر، وكذلك كانت هذه الفصول تدور حول حياة أشخاص عاشوا في ذلك القرن نفسه. وإني لأذكر أنني فرغت من كتابتها في عام 1909، ثم آثرت أن أبعث بها الى صديقي (جون موراي) الذي كانت لأبيه دار للنشر. على أني كنت ضعيف الأمل في أنه مستطيع أن يحمل والده على قبول نشر قصتي. ولم ألبث بعد إرسالها إليه سوى أسبوعين، كتب إليّ بعدهما يقول إن ممن يقرأون لهم اثنين نصحا لهم بعدم نشر هذه القصة، وإنه لا يستطيع أن يصنع من أجلي شيئاً!! وقد عجبت لذلك كثيراً. . .
وبعد ذلك تلقى أبي من صديقه (هنري جيمس) كتاباً يقول فيه إنه بعث بقصتي إلى الناشر (هانيمان) وطلب إليه أن يعيرها عناية خاصة. وقد كان أبي حينذاك ينظر إلى كتابتي القصصية على أنها ليست فقط مضيعة لوقتي، بل هي فوق ذلك مضيعة لنقوده أيضاً!
كان (هنري جيمس) رجلاً طيب القلب إلى أبعد حد. غير أنه لم يكن ذا ولع بأن يقرأ قصة من طراز القرن الثامن عشر؛ وقد بدا ذلك جلياً في خطابه ذاك. وإني لأقرر في هذا الصدد أنني أستطيع أن أعد على أصابع اليد الواحدة أولئك الناشرين الذين يحكمون على ما ينشرونه بمحض آرائهم الخاصة. ولعل ذلك من أشنع العيوب التي يمكن اجتلاؤها في ميدان النشر
وأكبر الظن أن القصة لم تصل إلى يدي (هانيمان) إذ بعث بها (هنري جيمس) إليه. فقد عاد بها البريد إليّ بعد ثلاثة أيام مع أن (هانيمان) كان وقتها مسافراً في مكان بعيد، كما علمت بعد ذلك. وقد أرسلت بها مرة أخرى إلى ناشر آخر لم يوافق على طبعها إلا إذا
قمت بنفقات الطباعة! فقصدت إلى ناشر غيره رفض أيضاً، ثم إلى ناشر ثالث حجزها بضعة شهور قبل أن يرفضها هو أيضاً. وهكذا تعدد عرضي إياها على الناشرين، كما تعدد إصرارهم على الرفض. وكان أبسط نتائج هذه الحالة أنني يئست من مستقبلي ككاتب قصصي، فعدت أحاول أن أعالج المسرحية من جديد، فكتبت قصة تمثيلية جديدة وقدمتها إلى والدي ولكنه رفض إخراجها! فعزف بي ذلك عن كل رغبة في احتراف القلم؛ وبدا لي أن من الأوفق أن أجرب حظي في الاشتغال بتربية الأزهار واستنباتها، وقد أصبت في هذا العمل حظاً من التوفيق فأصررت على ألا أخط بقلمي حرفاً واحداً من قصة جديدة؛ إلا إذا طبعت قصتي الأولى (الزواج السري) ورأيتها منشورة في كتاب يجثم على مائدتي!!.
وحدث بعد ذلك أن أنذرني أبي بأنه قد بر بوعده وأمضى خمس سنين وهو يعطيني مائة وخمسين جنيهاً في العام - غير أنه لا ينوي استئناف تأدية هذا المال معاونة لي على استنبات الأزهار أو كتابة القصص! وهكذا وجدتني مرغماً على احتراف التمثيل مثله. وكان هو في ذلك الحين قد أرصد قدراً من المال لإخراج مسرحية جديدة للكاتب العظيم (هول كين) في سنة 1910 وكان في هذه المسرحية الجديدة دور يلائمني، ولم تكن أمامي عقبة سوى موافقة المؤلف (هول كين) نفسه لأقوم بأداء هذا الدور في نظير أجر أسبوعي قدره عشرة جنيهات
وأخرجت المسرحية، ولعبت دوري فيها؛ وظللنا نخرجها أسبوعاً واحداً. غير أنها جلبت عليّ بعض الحظ. فإن بعض أصدقائي الفنانين قد أخبرني بأن الموسيقي (بليسييه) كان يبحث عن شاعر يضع لفرقته بعض الأناشيد، غير أني لم ألبث أن مرضت بالتهاب في الحلق، ولكن مرضي لم يحل دون قيامي بنظم ما يريده من شعر غنائي ومن حوار موسيقي. وهكذا وجدت لدى الرجل عملاً موافقاً لمدة عام واحد كتبت خلاله قصتي الثانية الشهيرة (كارنيفال)
وفي تلك الأثناء أخبرني بعض الأصدقاء بأن (مارتن سيكر) يلح في طلب قصتي الأولى (الزواج السري)، التي كان قد قرأها قبل أن يحترف النشر وأنه يحب أن يجعلها أحد كتابين يريد أن يبدأ بطبعهما حياته العلمية كناشر. فتواعدنا على اللقاء في مشرب للشاي. وفي هذا اللقاء اتفقنا على كل ما يعنيني ويعنيه من أمر النشر، بعد أن غيرت اسم القصة
فصار (الزواج السري) بعد أن كان اسمها إلى ذلك الحين (موارد الستار)، وقد سر المستر (سيكر) بهذا التغيير أيما سرور
كنت أختلس الفراغ بين مشاغلي لأقوم بمراجعة (بروفات) الكتاب حال طبعه، إذ كنت أعمل مع الموسيقي (بليسييه) كما قدمت، ولن يكن عملي معه يقتصر على تأليف الأغاني بل كان يتعداه إلى كثير من المهام الفنية المتصلة بطبيعة عمله. بل إني لم أكن أفرغ لمراجعة هذه (البروفات) إلا وقد نال مني الجهد وكدت أسقط من الإعياء، وقد سبب ذلك وقوع كثير من الأخطاء المطبعية المضحكة في الطبعة الأولى من الكتاب.
ولم يكن الناس يعتبرون (يناير) من شهور موسم النشر، ولكن بدا لي أن ظهور كتاب جديد لمؤلف مغمور في مثل هذا الوقت الخارج عن موسم النشر قد يكون تنبيهاً خاصاً إلى ظهوره. وقد أسفرت التجربة عن صحة حدسي. وكانت الصحف كريمة في استقبال كتابي غاية الكرم. وأفاد الكتاب من هذا كثيراً، إذ بيع منه خمسة آلاف نسخة قيمة كل منها ستة شلنات، وكان هذا العدد يعتبر ضخماً في ذلك العهد.
وينبغي أن أذكر هنا أنني أشرت على الناشر بأن يبذل غاية الجهد في سبيل الإعلان عن الكتاب في كل مكان. وقد أثر الإعلان كما كنت أرجو، إذ استلفت أنظار القراء إلى كتابي الأول.
كومبتون ماكينزي
مدام كوري
للدكتور محمد محمود غالي
مدام كوري مكتشفة الراديوم التي ارتفعت إلى مقام نيوتن
ودريكات وباستور، أستاذة السوريون وحائزة جائزة نوبل
للطبيعة سنة 1903 وجائزة نوبل للكيمياء سنة 1911
إن الذين يعجبون في قرارة نفوسهم إعجاباً علمياً بالراديو والتليفزيون وغيرهما ويشعرون بالدور الذي ينبغي أن تلعبه مصر والبلاد الشرقية لاستكمال الانتصارات العلمية لتقدم الإنسان يهتمون ولاشك بمعرفة أخبار المعامل العلمية، فتلك الهياكل المقدسة كما يسميها باستور، هي التي يجب أن نحميها أكثر من حمايتنا لأنفسنا، إذ فيها تنمو الإنسانية وتقوى ويزدهر التنسيق العالمي، بينما الإنسان في خارجها ينساق أحياناً لأعمال بربرية وتحمس أحمق لتحطيم نفسه وتحطيم البشر
وإنه ليحلو لي في هذه الأيام التي يهتم العالم فيها بالتسلح والتسابق للتهلكة، في هذا العهد الذي يقف فيه كل عمل إيجابي لننساق إلى ما هو سلبي، يحلو لي أن أحدث القراء في أحب سير المعامل العلمية، فأحدثكم عن مدام كيري واكتشافها للراديوم: قصة وإن لم تكن قصة اليوم، وعمل وإن لم يكن وليد هذه الساعة، إلا أنها ليست بالقصة التي ننساها مع الزمن، ولا بالعمل العادي الذي يمر ككل عمل
إن عمل كيري للنجاح لا يقف عند حد، فقد كنا أمام مادة جديدة في طبيعتها وخواصها، بل كنا أمام نشاط إشعاعي حراري كهربائي، بل كنا أمام تكوين جديد للهيليوم وتحول للعناصر وتغيير فجائي في المادة، فلا عنصر بالمعني الذي كنا نفهمه، ولا ذرة غير قابلة للتجزئة، إذ في كل ثانية تمر تطرد جسيمات الراديوم ملايين من ذرات الهيليوم بقوة كبيرة. على أن بقايا هذا الانفجار هي ذرات غازية تتحول هي أيضاً إلى جسم إشعاعي آخر، ثم يتحول هذا من جديد، وهكذا سلسلة من الأعضاء كل عضو في أسرة سلالة آبائه الذين تحولوا إليه. فالبولونيوم من سلالة الراديوم، والراديوم من سلالة الأيرانيوم، وهذه الأجسام التي تتكون في كل لحظة تنعدم من جديد وفق قانون أزلي، وهكذا في المادة الصماء التي كنا
نعتقد جمودها نجد عالماً حافلاً بالمواليد والوفيات والحوادث والاصطدامات. فيه صورة للحياة وفيه طريق للموت
هذه الحقائق الأولى التي كانت نتيجة لاكتشاف الراديوم عظيمة إلى أقصى درجات العظم، فهي تظم فلسفة جديدة وتفكيراً جديداً وعلماً يختلف عن كل ما تقدمه، ونتائج تقلب ما ألفناه، حتى كان على الفلاسفة أن يبدءوا فلسفتهم من جديد، وعلى الطبيعيين أن يعيدوا في ضوء هذه الحقائق بناء العلم الحديث
ولا يمكن في مقال واحد أن نستعرض الانقلاب الذي حدث من جراء اكتشاف الراديوم في التفكير الطبيعي أو في الناحية الرياضية أو الجيولوجية. لقد كان له في هذه العلوم أثر كبير، وكان له في الناحية الطبية معجزة أخيرة فإن الراديوم يلعب دوراً في سعادة الإنسان. وعلى حد تعبير أيف كتابها عن والدتها:(قد تحالف الراديوم مع البشر ضد المرض خبيث هو السرطان)
وقد ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها في كلية العلوم مساء الأربعاء 30 نوفمبر بمناسبة الذكرى الأربعينية لاكتشاف النشاط الإشعاعي النتائج الأولى لاكتشاف الراديوم وهي المحاضرة التي بسطتها في حديث في نفس المساء من محطة الإذاعة اللاسلكية، كما ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها في يوم الأحد 27 نوفمبر سنة 1938 في كلية الطب وهي المحاضرة الرابعة في أسبوع السرطان النتائج الأولى لفالكوف وجيزل اللذين بينا ما للراديوم من التأثير الفسيولوجي. كما ذكرت علاقة هذه النتائج بالأبحاث التي قام بها بيير كيري الذي عرض ذراعه لفعل الراديوم، وذكرت دراسته الخاصة بأثر الراديوم في الحيوان واشتراك أطباء من أعلام الطب مثل بوشار وبالتازار اللذين اقتنعا من اللحظة الأولى في (تيرابي) جديدة سموها كيري تيرابي من اسم مدام كيري، كما نوهت بأعمال دولوس ودجريه وفيكام وغيرهم، وهم الذين كانوا أسبق الأطباء إلى استعمال الراديوم بنجاح في الأغراض الطبية)
وهكذا لم يصبح الراديوم موضوعاً خاصاً بالعلوم البحتة والعلوم التجريبية فقط بل أصبح مادة لازمة ونافعة، وهكذا لم ينشأ علم جديد فحسب بل نشأت صناعة جديدة أيضاً
ولنبدأ الآن في سرد الوقائع التي أدت إلى اكتشاف الراديوم والنشاط الإشعاعي بعد أن
اكتشف رنتجن أشعة عرض هنري بوانكاريه الرياضي الفرنسي المعروف بتكهناته العديدة في جلسة بالمجمع العلمي الفرنسي أول لوح فوتوغرافي أخذ بهذه الأشعة وفكر مع بكارل فيما إذا كانت هناك أشعة أخرى غير الأشعة السينية من نوعها يكون مصدرها الأجسام الفلورية أي الـ عند تعرضها للضوء
فامتحن هنري بكارل أملاح بعض المعادن النادرة (الايران) وبدل أن يقع على الظاهرة التي يتوقعها مع زميله بوانكاريه وجد ظاهرة أخرى تختلف عن الأولى كل الاختلاف. ذلك أن ملح الايرانيوم تنبعث منه دون تأثير سابق للضوء أشعة طبيعتها غير معروفة. ومما يجدر بالذكر أن تجارب بكارل كانت تنحصر في أن يعرض الايرانيوم لضوء الشمس ثم يضعه على اللوح الفوتغرافي ليرى أثر الإشعاع الذي اكتسبه من الشمس، وقد حدث أن الجو ظل قاتماً في باريز بطريق الصدفة ثلاثة أيام متتالية (يقول سودي في كتابه ثلاثة أسابيع) في وقت كان قد نسي فيه بكارل قطعة من الايرانيوم على لوح فوتوغرافي مغطي بورقة سوداء رغم عدم تعرض هذه القطعة لضوء الشمس. وقد تأكد بكارل أن هذه الخواص لا تتعلق بتعرض سابق للشمس، بل إن هذه الإشعاع يستمر مهما طالت المدة التي تحجز فيها قطعة من الايرانيوم في الظلام. وهكذا اكتشف بكارل في الواقع الظاهرة التي أسمتها مدام كيري فيما بعد بالنشاط الإشعاعي
وكانت ماري سكلودوفسكا (مدام كيري فيما بعد) قد انتهت من حصولها على ليسانس العلوم في السوربون بباريز وشرعت تبحث عن مكان للبحث في المعامل التي يريدها في ذلك الوقت الأستاذ لبمان والتي يديرها اليوم أستاذي الكبير كوتون رئيس المجمع العلمي الفرنسي، وكانت تتجه في ذلك الوقت إلى بحث الأمواج اللاسلكية، فلم تجد مكاناً لها بالعمل وكانت تطالع النشرات الأخيرة للمجمع العلمي الفرنسي علها تجد مبحثاً آخر لا يحتاج للأدوات العديدة التي يحتاجها الموضوع الأول (الذي كما ذكر (سودي) حضرت فيه درجة أستاذ في العلوم) وإنه ليسرني أن أسرد هذه الوقائع في مصر لأول مرة هذا الشهر وهي التي استقيتها من الأستاذ الكبير جييه أثناء إقامتي الطويلة بالسوربون. وما كان أسعد حظ العالم عندما طالعت مدام كيري نشرة بكارل الخاصة بإشعاع الأيرانيوم
لفليب فرانك أستاذ جامعة براج دراسة فلسفية في مناقشة الأسباب والمسببات وكتاب لاقينا
صعوبة في دراسته، ولأميل بورل الوزير السابق وأستاذ السوربون دراسة هامة في موضوع الصدفة والاحتمالات. ولو أنهما في دراستهما للأسباب والمصادفات أرادا أن يجدا مثلاً أعلى يضربانه لحدوث المصادفة والمصادفة السعيدة للعالم، لاعتبرا الساعة التي طالعت فيها مدام كيري نشرة بكارل من الساعات السعيدة للعالم! ومن يدري فإن مركزنا العلمي اليوم وطريقة فهمنا للأشياء في العلوم الطبيعية، في نظرية الكم وغيرها، كان يتغير تغييراً كلياً، لو أن كيري لم تطالع هذه النشرة من نشرات المجمع العلمي
لقد شغلت أشعة بكارل ذهن مدام كيري: من أين هذا النشاط؟ وما هي طبيعته؟ هذا موضوع شائق للبحث. هذه تصلح رسالة تحضرها بعد أستاذية العلوم للحصول على دكتوراه الدولة في العلوم. هذه أرض عذراء للعمل والإنتاج، فأعمال بكارل حديثة لم يتعمق أحد في كل المعامل البحث في أوربا فيها، فلا كتب ولا نشرات علمية ولا مقدمات غير هذه النشرة الخالدة لبكارل التي تحمل سنة 1896 مولد الكثير من الأحياء منا
وهكذا احتوت مدام كيري حجرة خالية من وسائل التدفئة ليست بالسوربون بل بفناء مدرسة الطبيعة بشارع لوموند، ولا يهم المشتغل بالأبحاث العلمية في جامعة كبيرة كالسوربون سوى السماح له بمكان يعمل فيه، وعلى الذين يقصرون عنايتهم على المباني فينفقون عليها الأموال الطائلة أن يتذكروا أن المباني ليست كل شيء، فالجامعات لم تكن يوماً أعمدة وصالات ونواقيس وأبراج، إذ من تلك الحجرة المتواضعة خرجت أبحاث الراديوم للعالم منتصرة مؤذنة بعصر جديد، تلك الأبحاث التي استحقت عليها مدام كيري جائزة نوبل مرتين
وقد بدأت أعمالها بأن تقيس قوة إشعاع الأيرانيوم وتوصلت في المبدأ لقواعد عامة غاية في الأهمية، منها أن قوة الإشعاع تتناسب مع كمية الأيرانيوم وأن الإشعاع لا يتأثر بالتفاعل الكيميائي للأيرانيوم ولا بالعوامل الخارجية كالحرارة والضوء
يحدث كثيراً في العلوم التجريبية أن ظواهر لا تجد تفسيراً في المبدأ ويحار الباحث في تعليلها، ولكنه لا يلبث أن يجد التفسير في قوانين معروفة وسابقة فيقف التجديد في هذه الناحية عند هذا الحد. أما هذه الملاحظات الأولى وغيرها لمدام كيري فقد كانت على عكس ذلك، إذ ظهر لها أنها أمام ظواهر جديدة وأن أصل الإشعاع لابد وأن يكون خواص
جوهرية للذرة نفسها
وقد تساءلت فيما إذا كان هناك أجسام أخرى لها هذه الخاصية من الإشعاع، فتركت مؤقتاً دراسة الأيرانيوم إلى دراسة كل الأجسام الكيميائية المعروفة، فوجدت أن لمركبات مادة أخرى اسمها (التوريوم) إشعاعاً له نفس القوة
وهكذا وجدت أن ظاهرة الإشعاع لم تكن خاصة بمادة دون الأخرى، لذلك سمتها النشاط الإشعاعي وسمت الأجسام التي لها هذه الخواص عناصر مشعة
ولقد كانت مدام كيري متعطشة للمعرفة لأقصى حد، وهي صفة من صفات العلماء، فبدل أن تحصر دراستها في المركبات البسيطة بدأت تفحص جميع العينات التي كان يختارها معها بيير كيري والموجودة بطريق الصدفة في مدرسة الطبيعة فتضعها الواحدة بعد الأخرى أمام الألكتروسكوب. وقد حصرت مجهودها في جميع العينات التي تحوي فقط الأيرانيوم أو التوريوم، وهنا كانت المفاجأة الكبرى والنتيجة غير المتوقعة فقد وجدت أن الإشعاع هذه المرة أقوى بكثير جداً من الإشعاع الذي تسببه نفس الكمية الموجودة من الأيرانيوم أو التوريوم في هذه العينات
وقد اعتقدت مدام كيري أن هذه المفاجأة قد تكون وليدة خطأ في سير التجارب نفسها، ومن عادة الباحثين أن يجعلوا الشك في العمل أولى دائماً من الاعتقاد بالوصول إلى شيء جديد، ولكن كيري أعادت هذه التجارب عشرات المرات دون أن يتغير الموقف، ولم يكن للعالمة سوى مخرج واحد وتفسير واحد هو ضرورة احتواء هذه المعادن على مادة أكثر إشعاعاً من الأيرانيوم والتوريوم. ولكن ما هي هذه المادة يا ترى، ونحن نعلم أن مدام كيري كانت قد قامت بتحليل كل العناصر الكيميائية؟
لقد أجابت مدام كيري على هذا السؤال بشيء من الثقة بالنفس، إجابة هي طابع كبار العلماء، فوضعت فرضاً جديداً ورأياً جريئاً، هو أن هذه المادة عنصر جديد غير العناصر التي نعرفها ورجحت وجود عنصرين لا عنصر واحد
هكذا اكتشفت مدام كيري وقرينها عنصري البولونيوم، نسبة إلى بولونيا موطنها الأصلي، ثم الراديوم الذي يزيد إشعاعه على مليون مرة بالنسبة لإشعاع الايرانيوم الذي اكشفه بكارل، وهكذا تمت الخطوات الخمس من اكتشاف الراديوم والنشاط الإشعاعي
الخطوة الأولى: اكتشاف أشعة وملاحظة بونكاريه وبكارل
الخطوة الثانية: النشرة التي وقعها بكارل سنة 1896 عن اكتشاف خواص الايرانيوم
الخطوة الثالثة: النشرة التي وقعتها كيري بمفردها عن اكتشاف خواص التوريوم
الخطوة الرابعة: اكتشافها مع قرينها البولونيوم، على أثر ملاحظتها الشخصية عن زيادة الإشعاع في مركبات تحوي مواد مشعة إشعاعاً ضعيفاً
الخطوة الخامسة: اكتشافها مع بيير كيري وبمون الراديوم
وإذا ألقينا نظرة على ما نشر بعد اكتشاف بكارل ثبت لنا بلا جدال أن الدور الهام بين الثلاثة الذين تكاتفوا في الأيام الأولى لاكتشاف الراديوم كان لمدام كيري (ماري سكلودوفسكا في ذلك الوقت)، ولعل أعظم هذه الأيام ذلك اليوم التاريخي الذي دخلت فيه ماري معمل لبمان بالسوربون لتكتب نشرتها الخالدة للمجمع العلمي الفرنسي المؤرخة 12 أبريل سنة 1898، والتي بينت فيها زيادة الإشعاع في مادة بها ايرانيوم عن الأيرانيوم نفسه والتي استنتجت فيها العناصر الجديدة
ولقد انحصرت المسألة بعد ذلك في عمل مضن طويل لعزل هذين العنصرين البولونيوم والراديوم، حيث تطالع في النشرات الخاصة بوجودهما أسماء مدام كيري وبيير كيري وبيمون، وحيث نرى كلمة راديوم لأول مرة في نشرة وقعها الثلاثة معاً في 26 ديسمبر سنة 1898، وحيث نعلم أنه لتحضير أول ديسجرام من الراديوم قضت مدام كيري وقرينها أربعة أعوام في هذه الحجرة الخالية من وسائل التدفئة بل في هذه السقيفة المجهولة، وهي الكمية الأولى التي كانت لازمة لتواجه بها علماء الطبيعة والكيمياء والتي استطاعت أن تحسب بواسطتها الوزن الذري للمادة الجديدة التي وضعتها في جدول العناصر
ومما يجدر بالذكر أنه عندما قرر المجمع العلمي باستوكهولم إعطاء جائزة نوبل للطبيعة في نوفمبر سنة 1903 قرر منحها لبكارل ومدام كيري وبيير كيري
(للكلام بقية)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
رسالة من باريس
بعض الدكاترة الفخريين
الذين منحوا الدكتوراه الفخرية في فرنسا هذا العام
للباحث الأديب مصطفى زيور
- 3 -
العلامة تزنت جيورجي
لا يمكن أن تذكر مسألة الفيتامين دون أن يذكر اسم العلم البيولوجي والطبيب المجري تزنت جيورجي؛ فإذا علمنا أن مسألة الفيتامين كسبت في ثلاثة السنوات الأخيرة أهمية جديدة بما أحرزته البحوث فيها من تقدم كبير، وبما ألقته هذه البحوث من ضوء جديد على طائفة من أهم مسائل علم الحياة، فإننا نفهم كيف أن جائزتين من جوائز نوبل تمنحان هذا العام للعالمين هما تزنت جيورجي و (كارر) اللذان وقفا مجهوديهما على البحث في هذه المسألة، وكيف أنهما يفوزان في نفس العام بالدكتوراه الفخرية من باريس، بحيث يمكننا أن نقول إن عام 1938 هو عام الفيتامين.
ولكي نقدر مجهود هذين العالمين ونفهم خطورة أبحاثهما، أرى من الواجب أن أقدم لذلك بكلمة تاريخية قصيرة في مسألة الفيتامين، حتى يتبين كيف أن هذه المواد التي كانوا يصفونها منذ بضعة سنوات بأنها (غامضة) أو (خفية) أصبحت من الأشياء التي يحضرها الكيميائي في معمله بل يركبها تركيباً صناعياً من مواد بسيطة محاكياً في ذلك الوظائف الحية، ويضعها في أوعية يأخذها إلى الطبيب ليعالج بها مرضاه.
نشأت فكرة الفيتامين حوالي سنة 1912 على اثر ملاحظات وتجارب عديدة قام بها الأطباء من ناحية وعلماء وظائف الأعضاء من ناحية أخرى، أدت إلى فكرة وجود مواد طبيعية في الأغذية وظيفتها حفظ التوازن الحيوي ودرء أمراض معينة.
أما ملاحظات الأطباء فقد كانت في الأمراض الآتية:
(1)
- مرض البري بري: (لفظ من أصل سنغالي معناه الضعف) وهو مرض منتشر في شرق آسيا ويظهر على أحد شكلين: شكل يتميز بالشلل وضمور العضلات، وشكل يتميز
برشح المصل الدموي في الأنسجة فيحدث أوراماً مائية مصحوبة بأعراض خطيرة مختلفة لا تلبث أن تؤدي بالمريض إلى الموت.
(2)
- مرض الاسخربوط (سكوربيك): كما سماه الهولنديون (لعلها من الألمانية القديمة ويسميه الفرنسيون والإنجليز ينتاب هذا المرض المعروف منذ أبقراط سكان المدن الواقعة تحت الحصار والنوتية الذين يقلعون في أسفار طويلة، أي كلما اقتصر غذاء الإنسان على الأطعمة المحفوظة لمدة طويلة. وتبدأ أعراضه بأورام وأوجاع في المفاصل ونزيف في اللثة لا يلبث أن يشمل باقي الأعضاء فيهزل الجسم ويدنو المريض شيئاً فشيئاً من نهاية محزنة.
(3)
- مرض البلاجدا: مرض معروف في بعض أرياف مصر وفي جنوب أمريكا وبعض بقاع جنوب أوربا، يتميز بطفح جلدي خاص (ومن هنا جاء اسمه: من اللاتينية أي جلدو أي خشن) ثم باضطرابات في القناة الهضمية مصحوبة بالإسهال، وأخيراً بهزال شديد ثم باضطراب عصبياً وعقلية مصحوبة بالهذيان فالموت.
(4)
- الكساح: وهو مرض ينتاب الأطفال فيضطرب نمو عظامهم وينتج عن ذلك اعوجاج في العمود الفقري والأطراف.
(5)
- كرتومالاسي: وهو مرض في قرنية العين لدى الأطفال فلا تلبث أن يصيبها العطب وتصحبه قابلية شديدة للعدوى بالأمراض العفنة.
لم يغب عن الأطباء طويلاً أمر هذه الأمراض، فقد تبينوا منذ القرن السابع عشر أن مرض الاسخربوط يصيب من امتنع عن الخضروات والفواكه الطازجة، كما لاحظوا فيما بعد أن مرض البري بري يحل في الشعوب التي يتألف غذاؤها الرئيسي من الأرز المقشور (كما في الصين وفي اليابان)، وأن البلاجرا تنال من الجماعات التي تقتصر في غالب الأمر على الذرة (كما في بعض أرياف مصر ورومانيا وأسبانيا. الخ)، وأن الكساح يصيب من الأطفال من ساءت تغذيته وحرم ضوء الشمس. أما كرتومالاسي فينتاب من الأطفال من بودر بتغذيته غذاء قوامه دقيق الحبوب. وهكذا تبين لهم أن السبب في جميع هذه الأمراض يرجع إلى تغذية سيئة تقوم على نوع بعينه من الطعام، أو على طعام أحاله القشر وما إليه من العمليات الصناعية إلى غذاء ناقص، ومن ثم لم يكن من الصعب أن يجدوا العلاج لهذه
الأمراض: أرز كامل بدلاً من الأرز المقشور ضد البري بري، والفواكه والخضروات الطازجة ضد الاسخربوط، وغذاء متنوع ضد البلاجرا، وضوء الشمس ضد الكساح، وأخيراً زيت سمك الحوت ضد هذا المرض وضد كرتومالاسي. ويلاحظ أن الأطباء كانوا يصفون زيت السمك دون أن يعرفوا فائدته في شفاء الكساح، كما يلاحظ أن بعض وسائل العلاج لهذه الأمراض، وقعت عليها الجماعات من تلقاء نفسها بمجرد التجربة اليومية، فقد كان سكان النرويج يعالجون من أصابه مرض الاسخربوط بشيء من عصير البرتقال. ومما يلفت النظر أن مقداراً تافهاً من هذا العصير - وهذه نقطة رئيسية في فهم طبيعة عمل الفيتامين - يكفي للوقاية من هذا المرض الخطر.
أما بحوث علماء وظائف الأعضاء التي قاموا بها مستقلين عن الأطباء وأدت إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الأطباء، فقد كانت ترمي إلي دراسة غذاء الإنسان ودراسة كميتة وكيفيته لمعرفة المواد الغذائية اللازمة وحفظ توازنه الحيوي، وتحديد المقادير والصفات الكيميائية التي لا مندوحة عنها حتى يكون الغذاء كاملاً.
كان محصولنا في الكيمياء البيولوجية عند بدء هذه البحوث بحيث لم يلبث علماء وظائف الأعضاء أن تبينوا ضرورة ثلاث مواد عضوية رئيسية هي: البروتيد أي المواد الزلالية، والليبيد أي المواد الدهنية، والجلوسيد أي المواد النشوية السكرية، ثم بعض الأملاح المعدنية مثل كلورور الصوديوم أي ملح الطعام وأملاح الحديد والكلسيوم، وأخيراً مقدار من مواد غير قابلة للهضم مثل السليلوز لتنبيه الأمعاء على القيام بوظيفتها في الطرد. هذه هي المواد التي رأى علماء وظائف الأعضاء في بادئ الأمر ضرورة وجودها بمقادير خاصة في غذائنا حتى نحصل على حاجتنا من الطاقة من جهة وعلى المواد اللازمة لبناء أنسجتنا وإصلاح ما تفقده منها من جهة أخرى.
وطبقاً لمبدأ التحقيق التجريبي في البحث العلمي بادر علماء وظائف الأعضاء بتغذية بعض الحيوانات المستعملة في المعامل لهذا الغرض (مثل الفيران والأرانب وغيرها) بمقادير معينة من هذه المواد للتحقيق من قيمة النتائج التي أوصلتهم إليها البحوث الكيميائية السابقة. وإليك مثلين تاريخيين لهذه التجارب:
في سنة 1881 عمد (لونين) السويسري إلى فيران يغذيها باللبن فبقيت عدة أشهر في
صحة جيدة، حتى إذا بدأ يغذيها بالمواد العضوية الرئيسية التي يتركب منها اللبن أي الكازبين وهو زلال اللبن ثم الزبد وهو مادته الدهنية ثم اللكتوز وهو سكر اللبن وأضاف إليها المواد المعدنية التي يحتوي عليها اللبن - رأى لونين هذا الغذاء لا يلبث أن يورث الفيران انحرافاً فتضطرب صحتها وتموت، والنتيجة المنطقية من هذه التجربة أن اللبن يحتوي على مواد لازمة للحياة غير المواد المعروفة إلى ذلك الوقت.
وهاهو ذا (هبكنز) الكيميائي الإنكليزي الكبير يقوم حوالي 1906 بتجربة مشابهة فيعمد إلى فيران يطعمها غذاء مكونا من المواد الآتية: زلال اللبن والسكر والنشا وشيء من دهن الخنزير وبعض المواد المعدنية، فلا تلبث هذه الفيران أن يقف نموها وتهزل، حتى إذا أضاف إلى غذائها ثلاثة سنتيمترات مكعبة من اللبن يومياً أي ما يساوي نصف ملعقة صغيرة تقريباً، فإنها تبل مما أصابها وتتقدم صحتها. ولكن هذا المقدار من اللبن لا يمكن أن يعتبر غذاء في ذاته لقلته؛ إذن النتيجة المنطقية من هذه التجربة أن الأغذية الطبيعية تحتوي زيادة على المواد الأربعة الرئيسية المعروفة (الزلاليات والدهنيات والنشويات والمعدنيات) على مقادير صغيرة من مادة طبيعية أخرى لازمة للحياة تقوم بوظيفة (العامل المساعد) في التغذية كما يقول هبكنز، أي كما يحدث في التفاعلات الكيميائية العادية كأن يضاف قليل من ثاني أكسيد المنجنيز إلى كلورات البوتاس حتى يساعدها على التفاعل واستخلاص الأكسجين الذي تحتوي عليه.
والآن يمكننا أن نتبين كيف نشأت فكرة الفيتامين على أثر ملاحظات الأطباء وتجارب علماء وظائف الأعضاء التي لم يكن بينها علاقة في بادئ الأمر. لاحظ طبيب هولندي كان يعمل في مستشفى الحكومة في جاوة حيث كان ينتشر مرض البري بري بين الأهالي، أن الفراخ الموجودة في فناء المستشفى والتي كانت تتغذى بالأرز المقشور - وهو الغذاء الرئيسي للأهالي - كان يبدو عليها أعراض مرض يشبه مرض البري بري. فما لبث أن نشأت لديه فكرة وجود علاقة بين الغذاء المكون من الأرز المقشور وبين ظهور أعراض هذا المرض، ومن ثم بادر بإعطاء هذه الفراخ (ردة) فشفيت مما أصابها. على أثر هذه التجربة عمد كيميائي بولوني يدعى فونك حوالي سنة 1912 إلى قشر الأرز يستخلص منه (العنصر) الفعال في شفاء البري بري، فنجح في استخلاص مادة فعالة، ولو أعطيت
بمقادير صغيرة، ولما كانت هذه المادة تحتوي على وظيفة أمينية (وظيفة قلوية تحتوي على الآزوت ومنتشرة في المواد العضوية)، ثم لما كانت وظيفة هذه المادة حفظ التوازن الحيوي فقد دعاها فيتامين (فيتا اللاتينية أي حياة وأمين الخاصة الكيميائية) وهكذا وجدت كلمة جديدة في لغة العلم بل فكرة عامة جديدة لأن هذه الكلمة لم تلبث أن عمت وأطلقت على مختلف المواد العضوية الغذائية اللازمة بمقادير صغيرة لحفظ توازن الحياة.
ولكن العلم لا يدين للكيميائي فونك باكتشافه الكيميائي فحسب، بل إن هذا الاكتشاف على خطورته لم يكن نهائياً من الناحية الكيميائية، لأن المادة التي استخلصها لم تكن (العنصر) الفعال في شفاء البري بري ولكنها مادة تحتوي على ذلك العنصر كما تحتوي على عناصر أخرى استخلصت في حالة النقاء فيما بعد، ومن ثم لم يمكنه تحديد تركيبها الكيميائي. يدين العلم لفونك قبل كل شيء بإدراكه العلاقة بين ملاحظات الأطباء المبعثرة من جهة وتجارب علماء وظائف الأعضاء من جهة أخرى، كما يدين له بإدراكه خطورة اكتشافه وتعميم فكرته على مواد لم تكن بينها رابطة واضحة في بادئ الأمر.
ويمكننا الآن بعد هذه المقدمة أن نعرف الفيتامين: (بأنها مواد عضوية لازمة بمقادير صغيرة لنمو الجسم وحفظ توازنه الحيوي وقدرته على التناسل، مواد يجب أن يحتويها غذاؤنا (أو على الأقل يحتوي على المواد التي يمكن للجسم أن يؤلف منها حاجته) وإلا انحرفت الصحة ولحق الجسم أمراض معينة)
وهاهي ذي أنواع الفيتامين المختلفة التي استخلصت في حالة النقاء وتمت دراسة تكوينها الكيميائي بل ركبت تركيباً صناعياً من مواد بسيطة.
(1)
فيتامين ا: (أو: أكسروفرول) وهو مادة لا تذوب إلا في المواد الدهنية مثل زيت السمك والزبد، وتوجد فوق ذلك في كثير من النباتات على شكل مادة يدعونها (كاروتين) نسبة إلى كاروت أي الجزر لأنها المادة الملونة للجزر) يحولها الجسم إلى فيتامين ا، وأهم هذه النباتات هي الجزر ثم السبانخ والطماطم والخس والذرة ثم كثير من النباتات الخضراء ذات الكلوروفيل (أي مادة النبات الخضراء) لأن الكاروتين يوجد عادة بجانبها وإن غلب لون الكلوروفيل لون الكاروتين. يقوم هذا الفيتامين بوظيفة العامل المساعد في النمو والوقاية من الأمراض العفنة ومن مرض يصيب قرنية العين يدعى كسروفتالمي (ومنه اسم
الفيتامين ا: أكسيرفرول)
(2)
فيتامين د: (أو: كالسفيرول) وهو مادة لا تذوب كالمادة السابقة إلا في المواد الدهنية، توجد في زيت السمك واللبن وصفار البيض ولا تكاد توجد في غير ذلك من الأطعمة، وظيفتها مساعدة عنصر الكلسيوم اللازم لبناء العظام على الاندماج في هذا البناء، فإذا ما خلا الغذاء من الفيتامين د وخاصة لدى الأطفال بقي الكالسيوم الذي نحصل عليه من المواد الغذائية دون أن يدخل في بناء العظام وطرد من الجسم في النهاية مع الإفرازات وتكون النتيجة أن يصيب الأطفال اضطراب في نمو عظامهم يورثهم الكساح.
(3)
فيتامين هـ: (أو: توكوفيرول) وهو مادة لا تذوب كالمواد السابقة إلا في المواد الدهنية، توجد في بذور الحبوب وخاصة القمح ثم في الخس. ووظيفتها مساعدة القدرة على التناسل ويحدث عدمها عقماً في الذكر وفي الأنثى.
(4)
فيتامين ج: (أو: حامض آسكوربيك) وهو مادة تذوب في الماء منتشرة في النباتات وعلى الأخص في الفواكه الطازجة مثل البرتقال والليمون والعنب والموز، وفي الخضروات مثل الطماطم والخس والإسباناخ والكرنب والفاصوليا الخضراء الخ ووظيفتها كما سأبين ذلك بالتفصيل مساعدة تفاعلات الاحتراق والاختزال في الأنسجة وينتج من عدمها مرض الاسخربوط. ويتميز هذا الفيتامين بشدة حساسيته للحرارة والتأكسد بأكسجين الهواء.
(5)
فيتامين ب1: (أو: أنورين) وهو مادة تذوب في الماء لا توجد إلا بمقادير تافهة في بعض المواد الغذائية مثل بذور الحبوب وخميرة البيرة وبعض البقول وصفار البيض واللبن بعض الخضروات. وظيفتها مساعدة الأحماض الناتجة من اختمار النشويات أن يكتمل تحللها.
وينتج من عدم الفيتامين ب1 نقص في هذا التحلل فيصيب الأعصاب تسمم من هذه الأحماض يورث مرض البري بري.
(6)
فيتامين ب2: (أو: لاكتوفلافين) وهو مادة ملونة تذوب في الماء منتشرة في الفصيلتين النباتية والحيوانية، وتوجد على الأخص في اللبن ومصل اللبن (السائل الذي ينفصل عن اللبن إذا تخثر) وظيفتها مساعدة تمثيل المواد النشوية، وتدخل هذه المادة في تكوين خميرة
بيولوجية هامة تدعى الخميرة الصفراء أو خميرة التنفس وظيفتها مساعدة تفاعلات الاحتراق والاختزال في الأنسجة أي التنفس داخل الأنسجة كما يفعل فيتامين ج؛ وينتج من عدم فيتامين ب2 اضطراب في تمثيل المواد النشوية ولذلك يصفونها دواء في بعض حالات مرض السكر.
وهناك عدة أنواع أخرى من الفيتامين لم يعرف بعد تركيبها الكيميائي بالدقة وأهمها الفيتامين الواقي من البلاجرا ثم الفيتامين المدر للبن ثم الفيتامين الواقي من عطب يصيب جدار قنوات الدم الشعرية.
والآن بعد هذه المقدمة يمكننا أن نتناول بحوث تزنت جيورجي
(للكلام صلة)
مصطفى زيور
رد على باحث فاضل
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية ما نشر في العدد 284)
أن معنى النظر في العالم المنظور هو النظر الحر من أوجه العالم المشهودة بدون أن يشوب هذا النظر اتجاهات مستنزلة من النظر الغيبي، والبحث عن الخالق عن طريق الطبيعة نظرة للطبيعة ولكن مشوبة بالنظر الغيبي. إذن فمتى سبق الشرق الغرب بمثل هذه النظرة الحرة للأشياء من أوجهها المشهودة؟ أليس اليونان أول من أطلقوا العقل من عقاله وحرروه من الخضوع في اتجاهاته للنظر الغيبي، وأعادوا العقل إلى مكانه الصحيح في عالم الشهادة؟
وبعد فيظهر أن باحثنا المفضال، متأثراً بعقليته الشرقية من جهة وبعدم تفهمه ما وراء عباراتنا من معان من جهة أخرى، انساق لاعتراضات ومواقف ليست من الحقيقة في شيء. ولا أدل على ذلك من تعليقه على رأينا (من أن الجانب العلمي والفلسفي من الثقافة الإسلامية نتيجة للأخذ بأساليب الفكر اليوناني) بقوله:(ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟) ونحن إزاء هذا التساؤل لا نملك أنفسنا من السخط لا على أن باحثنا أتى بشيء ليس لنا قبل برده؛ ولكن لاعتراضه على حقيقة معروفة للجميع بمثل هذا التساؤل الذي لا يعني شيئاً غير قصور صاحبه عن الوقوف على تأثير الفكر اليوناني في نشأة الثقافة الإسلامية. يقول البروفسور نيلينو المستشرق الإيطالي المعروف في كتابة تاريخ علم الفلك عند العرب ص 141 ما نصه:
(في أواخر مدة الدولة الأموية، ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحاً أثناء المغازي المتواصلة والفتوح من أقصى بلاد ما وراء النهرين في تركستان إلى منتهى المغرب والأندلس. فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان وغلبت على ألسنتهم الأصلية فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو ملة لا يستخدمون في الإنشاء أو التأليف إلا لغة العرب. فابتدأت وحدة الدين تستوجب وحدة
اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد)
وقد قلنا في نفس هذا المعنى شيئاً في كتابنا (الرسالة الأولى من مصادر التاريخ الإسلامي) ص 37 - 83 (طبع 1936 - الإسكندرية)
(لقد فتح العرب البلاد وملكوا الأمصار عن طريق الحرب وقد نجحوا في نشر الإسلام في الأمم المغلوبة. ودخول هذه الأمم الإسلام جعلهم يخضعون لروح الإسلام الديني والاجتماعي إلى حد. إذ لم يكن هؤلاء إلا أبناء تواريخ مجيدة وحضارات تليدة فسرعان ما رأيناهم قادة المدنية الإسلامية في ساحات التفكير والحضارة. . . دخل أبناء هذه الأمم الإسلام وهم يحملون في تضاعيف عقولهم مرونة فكرية، وبين ظهرانيهم كانت مذاهب دينية متعددة في انتشارها من الوثنية إلى المسيحية في صورتيها النسطورية واليعقوبية، وكانت عقولهم تحمل في طياتها بذور المدنية اليونانية كما نقلها لهم اليعاقبة، ولم تخل أذهانهم من منازعات ستة قرون في المسائل الدينية
دخلوا الإسلام فمحا كل هذه المظاهر من عالم الشعور، ولكنه لم يمحها من طيات النفس وعالم اللاشعور، فأثرت هذه العوامل على مر الزمن عن طريق غير شعوري في تعاليم الإسلام فظهر علم الكلام
فإذا كان علم الكلام وهو من أخص العلوم الإسلامية، ظهر تحت تأثير الامتزاج الغريب بين العناصر الثقافية المختلفة في كيان الشرق العربي مع غلبة للعنصر الثقافي اليوناني في هذا الامتزاج، فلا شك أن مثل الدعوى التي يقدمها باحثنا الفاضل بأن العلم والفلسفة في تاريخ المدنية الإسلامية يرجعان إلى أصل من الإسلام في القرآن، دعوى لا تجد لها ما يسندها من حقائق التاريخ الإسلامي وفلسفة هذا التاريخ
ونقطة أخرى من نقط اعتراضات كاتبنا (باحث فاضل) فهو يعلق على قولنا (انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وانتهى الغربي إلى أنه قديم) بأن معنى حادث عند متكلمة المسلمين لا تدل على تاريخ معين، وإنما أراد بها المتكلمة أن العالم حادث بالنسبة للخالق، ونحن نقول: من ذا الذي أنبأ صاحبنا بأننا لا نعني من كلمة حادث ما يعنيه المتكلمون، ونحن ننسبها لأصحاب الكلام من المسلمين. والمسألة عندي أن الشرقي يعتقد أن العالم
حادث على الوجه الذي تكلم به الإمام الغزالي، والغربي يعتقد أن العالم قديم على الوجه الذي تكلم به ابن رشد فيلسوف قرطبة، و (تهافت الفلاسفة) و (تهافت التهافت) هو الحد الفاصل بين هذين الاعتقادين: اعتقاد في حدوث العالم من جهة المتكلمين، واعتقاد في مقدمه من جهة الغربيين انتهت إلى صورة في الفكر الإسلامي على أنها من آراء الفلاسفة الواجب تكفيرهم من أجلها. وبعد فهذه المسألة معروفة لطالب الثانوي من طلبة المعاهد الدينية في مصر، وهم يدرسونها في علم التوحيد (الكلام) فكيف بعد ذلك يسمح كاتبنا المفضال لنفسه أن يتخذ من هذه الأولية مثاراً لاعتراض؟!. . .
هذا وقد وقف الفاضل في القسم الثاني من تعليقه في الرسالة يغمز غمزات ويدير الكلام على وجه لا يتفق مع الحقيقة، من ذلك أنه علق على قولنا (انتهى الغربي إلى أن إرادة الله مقيدة بنظام الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار بعبارة من عنده قائلاً: كلام من؟ وأي كلام هذا؟. . .
أما كلام من؟ فالإجابة هينة: هو رأي الفكر الغربي إذا ما آمن بالله! وإذا أراد باحثنا الفاضل أكثر من ذلك قلنا له إنه رأي الفلاسفة من المسلمين ذلك أن هذا الرأي قائم على الاعتقاد بأن وجود العالم صادر عن الله بطريق التعليل. أما استنكار الكاتب هذا الكلام فليس لنا في هذا الكلام شيء فنحن نقرر الواقع، ولكن لنا أن نتساءل: لم هذا الاستنكار؟
أليس هذا رأيا يدرسون في كلية (أصول الدين) بالأزهر دلائله ويناقشونها مناقشة جدلية صرفة؟ أليست كتب الكلام فيها عشرات الصفحات في مناقشة هذا الرأي؟
أليس تكفير الغزالي لابن سينا والفارابي كان من أجل هذا؟ ألم يرد ابن رشد على الغزالي في تكفيره ابن سينا والفارابي من أجل هذا الموضوع في كتابه (تهافت التهافت)؟
وبعد فيظهر أن باحثنا الفاضل نسي أو تناسى كل هذا فوقف يصرخ قائلاً: من قال بأن الغربي يعتقد هذا إلا إذا نقد الجانب العلمي من قوى تكفيره؟ أما هذا القائل فهو أنا. . . ذلك أن الغربي حين نظر للأشياء نظر إليها من ناحيتها المشهودة الواقعة في العالم المنظور، فانتهى عن طريق النظر فيها إلى أن العالم مسوق في سيره بسنن وقوانين ونواميس، وهذا جعله ينتهي بتفكيره إلى اكتشاف الأسلوب العلمي
وقد جاء لنا في ذلك من بحث منشور بالمقتطف م93 ج4 (نوفمبر 1938) ما نصه:
(لقد كان الإنسان من عهد سقراط الحكيم (469 - 399 ق م) يرى غاية التفكير في إدراك الماهية، وذلك بمعنى تكوين معاني تامة الحد. وكان معين التفكير طيلة هذا المهد منحصراً في الاستقراء حيث يتدرج العقل من الجزئيات إلى الماهية المشتركة بينها راداً كل جدل إلى الحد والماهية
وفي أوائل القرن السادس عشر أخذت جماعات قليلة من مفكري الغرب يشكون في قدرة الأسلوب التجديدي وإمكان الوصول به إلى نتائج عملية تطبيقية. وأخذت هذه الجماعات تعمل على إدماج النتائج التي تسفر عنها المشاهدات والتجارب في نظام مادِّي على قاعدة الوحدة والعلاقة. . . وكان يحدوهم في تفكيرهم هذا إيمان ثابت بنظام العالم الخارجي وتجانسه ووحدته
إذن يتبين أن التفكير العلمي قام على أساس أولي هو الإيمان بنظام العالم الخارجي وثبات هذا النظام. وهذا يعني أن العالم بقوانينه ونواميسه خالد (أبدي)، فإذا انتهى رجل العلم اليوم إلى الخالق قيده بنظام هذا الكون، على اعتبار أن العالم صادر عنه بطريق التعليل
وصرخة أخرى. . . ذلك أننا قلنا: (إن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجوده) وهنا أولاً: نسبة هذه الوجهة من النظر إلى الغربي. ثانياً: ورود لفظ النواميس تجعل معنى المقدر للإنسان ما قدر له حسب نواميس الطبيعة. وهذا المقدور بطبيعة الحال يفترق عن مفهوم المقدر للإنسان في علم الله عند الشرقي. فإذا كان الأول من الممكن تغييره، وحياة الإنسان منذ بدء وجوده على الأرض تغيير للمقدرات الطبيعية له، فإن الثاني ليس في الإمكان تغييره. . . وكأني بصرخة باحثنا الفاضل قد انبعثت من عدم تفهمه كلامنا على وجهه الصحيح.
وبعد فننهي ردنا هذا بكلمة هادئة لباحثنا الفاضل، فقد وهم حين ظننا من العرب أولا ومن الشرقيين ثانياً، فلسنا من أصل عربي ولسنا شرقيين، وهذا نسبنا وتاريخ حياتنا مبسوط في شيء من الإسهاب في مقدمة دراستنا التحليلية (طه حسين) التي صدرت ربيع هذا العام. وعلى فرض أننا شرقيون ومن أرومة عربية فهل كوننا شرقيين أو عرباً يمنعنا عن قول الحقيقة إذا كانت ضدنا؟
أما ما أثاره الباحث الفاضل من اشكالات في نهاية مقاله فموعدنا بالرد عليه مقال تال،
نضمنه رداً لنا على ما أثاره من اشكالات واهية ذلك الأديب الكبير الذي حاول أن يتعرض لإحدى فكراتنا بالمناقشة بين سطور مقال كتبه في مناقشة لكتاب للبروفسور مارتن الإنجليزي.
إسماعيل أحمد أدهم
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
(تتمة)
برز جرانت إلى الميدان وفي نفسه من العزم بقدر ما في فؤاده من الأمل، وكأنما سرت عزمته إلى قواده وجنوده فما منهم إلا من وطد النفس على أن يخوض أهوال القتال إلى النصر، ونبغ من هؤلاء البواسل قائدان صار لهما في تلك الحرب خطر عظيم هما شيرمان وشريدان
وزحف جرانت بجيشه في مايو عام 1864 وكانت خطته أن يواصل الزحف ما وسعه القتال حتى يأتي رتشمند عاصمة الجنوبيين فيحصرها. ولقد لازمه النصر في هذا الهجوم على الرغم من مقاومة أعدائه، ومازال يدفعهم أمامه حتى أصبح على مقربة من عاصمتهم؛ وكانت تصل أنباء انتصاره إلى العاصمة فتهزها هزاً وكان الناس يجتمعون حول البيت الأبيض فيطل الرئيس عليهم ويخطبهم وقد سره أن ذهب عنهم الروع
وكذلك سار شيرمان مبتدئاً من الغرب، وراح يدفع أعداءه أمامه، وإنهم لينازعونه الأرض شبراً شبراً ويعركون جيشه عركاً شديداً حتى واتاه النصر عليهم في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو، فسقطت في يده مدينة أتلنتا بعد أيام، وهي موقع حصين ومركز حربي خطير، وكان على رأس الجنوبيين في تلك الجهة قائدهم هود، وهو من ذوي البأس ولقد لم شمل جيشه وخاض الحرب مرة أخرى ولكنه ما لبث أن عاودته الهزيمة، وسر الرئيس وأصحابه بانهزام هود وجنوده فلقد كانوا يوجسون منه شراً
ونشط الشماليون في البحر وضيقوا الخناق على أعدائهم فأذاقوهم لباس الجوع والخوف،
وكانت سيطرة فراجت على البحر وثيقة، فكان بذلك موقفه عاملاً من أكبر عوامل النصر
وراح جرانت يبذل كل ما في وسعه ليحيط بالقائد الكبير (لي) قائد الجنوبيين، فإنه يدرك أن تطويقه خير وسيلة لهزيمته وإجباره على التسليم؛ وكان جرانت يدرك أن عدته وجنده أوفر مما هو لدى عدوه منها، ولذلك عول أن يشد عليه الوثاق
وكان لنكولن وأصحابه يتلقون هاتيك الأنباء الطيبة فتطمئن نفوسهم، ولكن الرئيس كان لا يفتأ مهموماً ضائق الصدر؛ وكيف يطبق قلبه الكبير أن يعلم نبأ هاتيك الضحايا دون أن يتحرك؟ لقد كان يجزع أشد الجزع لمرأى الأمهات والزوجات يقفن في طريقه أو يجتمعن حول البيت الأبيض متسائلات وإنه ليسأل الله أن يجعل للناس من هذا البلاء مخرجاً. . .
وبينما كان جرانت وشيرمان يروعان بجيشيهما أهل الجنوب على هذه الصورة، زحف أحد قواد الجنوب ويدعى إيرلي زحفاً باغت به وشنجطون إذ صار منها على سبعة أميال. . . ولقد كان عمله هذا من أسوأ ما لاقته تلك المدينة في هذه الحرب، فما أقبح الخوف بعد الأمن وما أوجع الكربة بعد الفرح. ولكن جرانت لم يلبث أن أرسل شريدان فأقصى هذا العدو ورماه بالهزيمة وكان ذلك في أوائل سبتمبر عقب سقوط أتلنتا بيوم واحد. . .
وكان انتصار الجيوش على هذا النحو مما قضى على كيد الكائدين من خصوم الرئيس إذ كانت البلاد تتأهب للانتخاب؛ وكان الديمقراطيون يذيعون في الناس إن من مصالحهم أن يختاروا رئيساً غير هذا الرئيس، وراحوا تارة يقولون إن الحكومة من الوجهة الحربية قد منيت بالفشل منذ قامت الحرب ولا محيص من أن تتبع في الحرب سياسة أقوى وأسرع من سياستها، وتارة أخذوا يطالبون بمصالحة أهل الجنوب ووضع حد لهذا البلاء، وهم في ذلك يرشحون ما كليلان للرياسة ضد إبراهام، ولقد اختاره لذلك مؤتمرهم الذي انعقد في شيكاغو في أغسطس من ذلك العام
وكان بعض الجمهوريين من حزب لنكولن يدعون إلى انتخاب غيره إذ كانوا ينقمون عليه كما يزعمون ابتعاده عن مبادئ الحزب وروحه، فهم يخالفونه فيما أعلن غداة تحرير العبيد من أن ذلك كان من أجل ضرورة حربية وهم يعيبون عليه مسلكه تجاه الولايات الوسطى وتجاه أهل الجنوب، كما أنهم يقولون إن الحرب لا تسير على خير ما يرجى
وكان هؤلاء الجمهوريون يرشحون جرانت تارة، وفريمونت تارة، ولكن معظمهم كان يميل
إلى تشيس وزير المالية، وكان تشيس هذا من أكفأ الرجال، وكان الرئيس يحترم آراءه ويحرص على أن ينتفع بها كما كان يشهد له بالذكاء ويقر بفضله. . . ولكنه كان دائم الشكاوى من الرئيس وكثيراً ما ضايقه بتقديم استقالته من الحكم، وكانت أخرى تلك الاستقالات في صيف هذا العام، ولشد ما أدهش الوزير أن قبلها الرئيس في غير تردد. وكان تشيس ينفس الرئيس مركزه ويعتقد أنه أحق به منه وأجدر
وما كان الرئيس كما أسلفنا يحرص على الحكم إلا أن يكون وسيلة لتحقيق غرضه، قال ذات مرة يرد على الداعين إلى ترشيح جرانت:(إذا كان الناس يعتقدون أن القائد جرانت يكون أسرع في القضاء على الثورة إذا كان في مركزي فإني أتخلى عنه له)
وعلى الرغم من ذلك كان خصومه يدعون أنه حريص على الحكم مولع بالرياسة، وكان من أقدر هؤلاء الخصوم وأنشطهم الصحفي جريلي، ذلك الذي طالما حرص الرئيس على مودته وعمل على إرضائه. . . على أن الرئيس كان على علم بهذا كله فلم يعبأ به وذلك لأنه كان يجعل اعتماده على عامة الناس، وهل اعتمد على غيرهم منذ كان يلوح بين الإحراج؟ وجاءت بعد ذلك أنباء انتصار جنده فكان ذلك أبلغ رد على ما يزعم المخالفون والخوارج
ولقد كان مؤيدو الرئيس من الجمهوريين أعز نفراً وأعلى في البلاد صوتاً، وهؤلاء أجمعوا أمرهم على ترشيحه في مؤتمرهم الذي عقدوه في الثامن من يونيو عام 1864، وكانت حماستهم له جديرة به شديدة على خصومه وكارهيه. . . وحمل إليه نبأ ذلك فتلقاه على عادته في دعة، قال:(إنهم رشحوني لا لأنهم رأوني اعظم وأفضل رجل في أمريكا، وإنما كان ذلك لأنهم لم يروا من الحكمة أن يستبدلوا الخيل أثناء عبورهم الماء، ولأنهم رأوا بعد ذلك أني لست فرساً بلغ من السوء مبلغاً لا يمكن معه استخدامه ولو في مشقة أثناء محاولة ذلك العبور). . .
وكان المؤتمر قد عبر عن رغبته في تعديل الدستور بحيث لا يكون من مواده ما يتضمن الاعتراف بنظام العبيد حتى لا يتعارض قرار التحرير مع نصوص الدستور. ولقد وافق الرئيس على ذلك قائلا: (إن مثل هذا التعديل المقترح يجيء خاتمة مناسبة ضرورية للنجاح النهائي لقضية الاتحاد، وهذا وحده يقف رداً على كل تجن. . . وإن الذين يوافقون
على الوحدة بلا شرط من الشماليين والجنوبيين يدركون خطورته ويتعللون به، فباسم الحرية والوحدة مجتمعين دعونا نعمل على أن نكسبه صفة شرعية وأثراً عملياً). وسمع أن ولاية ماريلند قد عدلت دستورها على هذا الأساس فعلاً فاغتبط قائلاً (إن ذلك عندي يساوي انتصارات كثيرة في الميدان)
وحسب جريلي أنه واجد غميزة أخرى في سياسة الحرب فراح يندد بها وبتطاولها ويدعوا إلى الصلح قائلاً إن البلاد قد باتت على شفا جرف هار وإن السلم على شروط معقولة خير من هذه الحرب التي ضجت البلاد منها ورزحت تحت أعبائها. ومما ساقه في هذا المجال انه على صلة بقوم من الجنوب يقبلون الصلح على أساس الوحدة والقضاء على العبودية، وهنا لم يتردد الرئيس أن يرسل إليه يقول إنه على استعداد أن يلقى أي رجل أو جماعة من الجنوب يفاوضونه على هذا الأساس على شرط أن يكونوا مسؤولين وليكن جريلي شاهداً على ذلك؛ وعاد جريلي مستخذياً وقد رأى أن الذين دعوه إلى السلم من الجنوبيين قوم لا أهمية لهم. . .
وتطلبت الحرب عدداً جديداً من الرجال وأشفق أنصار لنكولن أن يدعوا البلاد إلى رجال في مثل هاتيك الظروف، ولكن هل كان مثله يحجم عن أمر يعتقد صوابه وعلى الأخص إذا كان هذا الأمر يتعلق بالحرب بله الحرب تحت قيادة جرانت؟. لم يحجم الرئيس ولم يتردد وأصدر أمره في ثبات وجرأة. . .
وجاء يوم الانتخاب فكان فوز الرئيس عظيماً كما كان تواضعه غداة فوزه عظيماً. قال وما أجمل ما قال: (إني أعرف قلبي وأرى غبطتي لا يشوبها شائبة من الفوز الشخصي، وإني لا أعترض على بواعث أيشخص ضدي. وليس مما يسرني أن أظفر على أحد ولكني أشكر الله على هذا البرهان الشاهد على اعتزام الناس أن يؤيدوا الحكومة الحرة وحقوق الإنسانية)
وكان الداعون إلى السلم ينشرون مبدأهم في العاصمة الشمالية ولم يكفوا عن ذلك منذ الصيف. وفي الشتاء وجدت دعوتهم قبولاً لدى الكثيرين في العاصمة الشمالية حتى لقد أخذوا على الرئيس أنه يصم إذنه عن هذه الدعوة. . . وحدث أن أرسل جفرسون دافز رسولاً إلى لنكولن يدعوه إلى السلم ويقترح عقد مؤتمر لتقرير ذلك. وكتب الرئيس لنكولن
رداً حمله ذلك الرسول إلى جفرسون وفيه يوافق الرئيس على عقد المؤتمر؛ واجتمع في مركز قيادة القائد جرانت ثلاثة من قبل أهل الجنوب وناب عن الشماليين سيوارد ثم لحق به الرئيس، وعرض الشماليون شروطهم فلم تحز قبولاً لدى خصومهم. ورأى الرئيس أن في الأمر خداعاً وأنهم لا يريدون سوى أن يكسبوا الوقت بالمفاوضة ريثما يعدون ما يستطيعون من قوة. . . ولذلك نراه ينصح إلى جرانت ألا يتهاون أو يخفف من وطأته وانفض المؤتمر ولم يصل إلى رأي. . .
وأوضح الرئيس سياسته في خطابه الرسمي الذي ألقاه غداة تسلمه أزمة الأمور للمرة الثانية. وإنك لتجدها واضحة في تلك العبارة الجميلة التي اختتم بها ذلك الخطاب قال: (والآن فمن غير موجدة على أحد، بل مع الإحسان للجميع، والثبات على الحق كما يطلب الله أن نرى الحق، دعونا نجهد لنفرغ من هذا العمل الذي نحن بصدده، وأن نضمد جراحات الأمة، وأن نعنى بهؤلاء الذين قاموا بالجهاد وبأراملهم وأيتامهم. وأن نبذل كل ما في وسعنا لنصل إلى السلام الدائم ونعزه بين أنفسنا وبين جميع الأمم)
وجعل الرئيس ينتظر أخبار الميادين، وكثيراً ما كان يقضي وقتاً طويلاً في غرف البرق يترقب ويتوقع. . . وكثيراً ما كان الرئيس يشخص بنفسه إلى مراكز الجنود فيزورها واحداً بعد الآخر! وجاءت البشائر بالنصر يتلو النصر. ففي الحادي والعشرين من ديسمبر أخذ شيرمان مدينة سفانا عنوة فأبرق إلى الرئيس يقول:(أرجو أن تسمح لي أن أقدم إليك مدينة سفانا كهدية في عيد الميلاد) واستمر شيرمان في زحفه فاستولى على كولومبيا وشارلستون، وما زال حتى دخل ولاية كارولينا الشمالية وأصبح على اتصال بجنود جرانت وبذلك أوشكت جنودهما أن تحيط بجيش الشماليين
وكان جرانت يثخن في أرض الجنوبيين لا يألوهم نزالا كأهول ما يكون النزال، وكانت ضحاياه كثيرة يدمي لها قلب الرئيس، ولكنه كان لا يلين وما لبث هو وأعوانه أن يهزموا الجنوبيين في كل مكان حتى لم يبق في الميدان غير لي. . .
وحاصر جرانت مدينة رتشمند ودام حصاره لها طوال أشهر الصيف من عام 1864 واشهر الشتاء من عام 1865، وفي السابع والعشرين من مارس التقى لنكولن وجرانت وشيرمان على ظهر زورق تجاري في نهر جيمس بالقرب من مركز القيادة وتداول ثلاثتهم
في الأمر. ولشد ما تألم الرئيس أن علم أنه لا يزال دون النصر معركة حامية، وراح يتساءل في جزع:(ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟ ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟)
وأمكن تجنب تلك المعركة الحامية فلقد تمكن شيريدان وكان إلى يسار جرانت أن يقطع على (لي) آخر منفذ للهرب فتم لهما تطويقه، وأصبح تسليمه أمراً لابد منه. وفي اليوم الثالث من أبريل سقطت رتشمند التي كانت طروادة هذا الصراع العنيف
وأنى للكلام أن يصف مبلغ ما كان بالعاصمة من شعور الفرح والحبور. . . لقد بات الناس وأفاقوا على مثل مظاهر العيد. وأي عيد أجمل من هذا الذي يبشر الناس فيه بانفراج الغمة واتحاد الأمة؟
وكان الرئيس في المعسكر منذ شهر مارس يبيت مع الجند ويستطلع الأنباء كل يوم ولقد نال الجهد والإعياء من جسده حتى ليبدو كالمريض وهو الرجل الذي عرف فيما سلف بقوة بدنه ووفرة حيويته. . . ولما بلغه سقوط رتشمند وصل إليها في بساطة وهدوء، وليس معه إلا بحارة قارب حربي كان يرسو على مقربة منها فلا خيل من حوله ولا جند يفسحون له الطريق. ودخل الرئيس العظيم المدينة يمسك بيده يد ابنه الصغير تاد وهو يمشي على الأرض هوناً وليس في وجهه زهو ولا تطاول
وهرع الناس من كل فج يشهدون الرجل الذي دوت البلاد باسمه، فلما رأوه شعروا جميعاً نحوه بمثل ما يشعر الأبناء نحو أبيهم، وهو بين الجموع رابط الجأش يظهر قوامه الطويل للأعين. وتلفت الرئيس فإذا جموع السود تتقاطر من كل صوب وهم يملئون الجو بهتافاتهم باسم مخلصهم ومحطم أغلالهم، وكانوا من حوله يرقصون ويقفزون في الهواء لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا المحرر الأعظم. . . ثم تقدموا متزاحمين فتلاقوا على الأرض أمامه يقبلون قدميه وهو يرفعهم بيديه ويمسح بهما على جباههم وأكتافهم والدموع تتسايل كبيرة ساخنة من عينيه الواسعتين فتجري على محياه الكريم
وحار الرئيس برهة ماذا يقول وهو الذي لم يعرف قبل عياً ولا حصراً، ثم ناداهم قائلاً (أي أصدقائي المساكين أنتم أحرار، أحرار كالهواء. إنكم تستطيعون أن تطرحوا اسم العبودية وتطأوه بأقدامكم؛ فأنكم لن تسمعوه بعد اليوم. . . إن الحرية حقكم الذي منحكم الله كما منح غيركم) وتألم الرئيس من أن يخروا سجداً على قدميه فقال: (لا تسجدوا لي، هذا ليس
بالصواب، يجب أن تسجدوا لله وحده وأن تشكروه على الحرية التي سوف تتمتعون بها منذ اليوم. . .)
وعاد الرئيس إلى وشنجطون وفي وجهه مثل ما يكون في وجوه الأبرار الصالحين، والناس حول ركابه يهتفون باسم (أبيهم أبراهام) بطل الحرية ومحطم الأصفاد ومعيد الوحدة إلى البلاد وحامي دستورها ورسول حاضرها إلى غدها. . .
وفي اليوم التاسع من هذا الشهر المشهود سلم لي جيشه للقائد جرانت وتلقت العاصمة النبأ وتلقاه الرئيس، وتنفس الناس الصعداء. وأحس ابن الإحراج بعد هذا الكفاح الطويل الشاق أن قد آن له أن يستريح ولو بضعة أيام. . . وتزاحم الناس حول البيت الأبيض وهم من فرط سرورهم يبدون كأنما طاف بهم طائف من الجنون، وأطل الرئيس عليهم وهم يتصايحون ويتواثبون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، فلم يدر ماذا يقول. ثم مسح بيده الدموع المنحدرة من عينيه وطلب إليهم أن يهتفوا ثلاثاً بحياة القائد جرانت ورجاله، وحياة القواد البحريين ورجالهم، وعاد إلى داخل حجرته. . .
وفي اليوم الرابع عشر كان على مجلس الوزراء أن يجتمع ظهراً، وكان جرانت ممن سوف يشهدون الاجتماع. وكان يبدو على محيا الرئيس قبل الاجتماع شيء من الهم، قال لبعض أصحابه: إني رأيت حلماً كريهاً لا أرى مثله إلا قبيل حادث عظيم. . واجتمع المجلس ليرى ماذا تفعل الحكومة لإصلاح ما أفسدته الحرب. وفي هذا الاجتماع عارض الرئيس القائلين بالانتقام من أهل الجنوب وصاح بهم (كفانا ما ضحينا من الأنفس. يجب أن نطفئ في قلوبنا السخائم إذا أردنا أن نقيم الوحدة والوفاق) ألا ليت أعداءه سمعوه وهو يقول ذلك، ألا ليتهم سمعوه. . .
وركب الرئيس وزوجه في نزهة عصر ذلك اليوم. وفي المساء ذهب ليشهد رواية تمثيلية في المسرح، وكانت الصحف قد نشرت اعتزامه الحضور ومعه القائد جرانت، وتخلف القائد لأمر ما، وذهب الرئيس وجلس في مقصورة هو وزوجه وقائد من القواد. وفي الساعة العاشرة والنصف تسلل إلى باب مقصورته رجل فاقتحمه وفي يده مسدس أطلقه على رأس الرئيس. . . وكانت في يده الأخرى مدية طعن بها القائد، وقفز إلى خارج المسرح وكان هو وشركاؤه قد أعدوا حصاناً ليهرب به عدوا. . .
وروعت العاصمة بالنبأ الفاجع، وتلاقت أمة تحمل شهيدها الأكبر ومحررها العظيم إلى مقره ليستريح الراحة الأبدية، وذهبوا بجثمان البطل إلى سبرنجفيلد في نفس الطريق الذي جاء منه إلى العاصمة قبل ذلك بأربع سنوات، والناس على جانبيه يشهقون اليوم ويجهشون ولا يملكون غير الدمع في هذا الخطب الفادح. ودفن الرئيس إلى جانب ابنه الصغير. . . ألا ليتهم حملوه إلى الغابة ليدفن حيث نشأ وحيث شب
(تم)
الخفيف
يوم مطير
للأستاذ عبد الرحمن شكري
نهار تَدَانَى الدَّجْنُ في عُلوِ اُفِقِه
…
مُبَلَّلَةٌ أرجاؤه ومَنَاكِبُهْ
خَبَتْ شمسه كالجمر يخبو لهيبه
…
وعاد رمادا حسنُهُ وعجائِبُهْ
دجا مثل وجه الهمِّ إلاَّ جلاله
…
فللدَجْن سحر يَحْزِنُ النفسَ خالِبُهْ
ثقيلٌ على القلب البَهيجِ عُبُوُسُهُ
…
ولكنه قد يَسْحِرُ القلب كاَرِبُهْ
كما كان بعضُ الحزنِ للنفسِ شائقا
…
تُعَاقِرُهُ في نشوة وتُقَارِبُهْ
ترى قطراتِ الغيث كالخيلِ اُطْلِقَتْ
…
لِكَسْبِ رهانٍ أحرز السبقَ كاسبه
وتحسبها كالطير تهفو تَنَزِّياً
…
تَنَزِّي الدَّبَي إن أهرقَ الغيثَ ساكبه
كأن الصِّلال الزاحفات على الثرى
…
تجوس إذا ما الغيث جاست سواربه
كما عاج حيران يمينا ويسرة
…
من الذعر، شر الذعر ما عاج صاحبه
على الأرض والجدران والدوح قطرُهُ
…
ويَدْفَعُ في وجه المُشَرَّدِ حَاصِبُهْ
أيسطوا عليه الغيث يغسل نحسه
…
أم الغيث من لَهْوٍ تراه يداعبه
كَلَهْوِ غلام مُلِّكَ القَسْوُ قَلْبَهُ
…
إذا حيوانٌ هَابَهُ فَهْوَ ضاربه
سجيةُ كل الناس من هاب شَرَّهُمْ
…
رَمَوْهُ بِبَأسِ اللؤم والخوفُ شائبه
ويعزو خيالُ المرء للكون روحَهُ
…
مناقبهُ تُجْلى به ومثالبه
إذا رَنَّقَ التربُ الهواء انبرى له
…
من الوَدْقِ طُهْرٌ يغسل الجو صائبه
ترى البرقَ فيه مُصْلِتِاً سيف نقمة
…
لها الرعد صوت يذهل اللبَّ راعُبهْ
إذا خف كان الغيث لهواً ونعمة
…
وإن لج لاحت للعيون خرائبه
ويطغى على الوادي بجيش عَرَمْرَمٍ
…
مسالكه مذمومة وعواقبه
يخف على لوح الزجاج فصوته
…
طنين فَرَاشٍ مَرَّ باللوح حاصبه
وطوراً يُلِحُّ الودق منه فصوته
…
خريرٌ كما يَسْتَحْلِبُ الدَّرَّ حالبه
ويرنو إليه المرءُ من ثقب بيته
…
كَأَنَّ غريباً يَتَّقِي منه هائبه
وطوراً ترى الغلمان تلقط طَلَّهُ
…
يداعب صِنْوَ صِنْوَهُ ويلاعبه
ترى كل لَوْنٍ بعده قد زْها به
…
كأن طِلَاءً فوقه لجَّ خاضبه
يُعَلِّقُ قُرْطاً في ذرى الدوح قطره
…
فتحسبه قد نَظمَ الدُّرَّ ثاقبه
عبد الرحمن شكري
البريد الأدبي
موعد العيد الألفي للقاهرة
سئلت كلية الآداب بالجامعة عن اليوم الذي يحسن أن يجرى فيه الاحتفال بالعيد الألفي لمدينة القاهرة. وقد أحالت الكلية هذا السؤال على أساتذة التاريخ بها. فدرسوه وأصدروا قراراً قدموه إلى مجلس جامعة فؤاد الأول في اجتماع يوم الأحد الماضي فأقره ورفعه إلى مجلس الوزراء مقدماً إليه بهذا البيان:
(دخل جوهر مدينة الفسطاط في 17 من شعبان سنة 358هـ (17يولية سنة 969م) ووضع في تلك الليلة نفسها أساس المدينة التي عزم على إنشائها لتكون حاضرة الدولة الفاطمية. وفي ليلة الأربعاء 18 من شعبان سنة 358 هـ وضع جوهر أساس القصر الذي بناه لمولاه المعز
ولما فرغ جوهر من بناء قصر الخليفة وأقام حوله السور سمى المدينة كلها بالمنصورية نسبة إلى الخليفة المنصور أبي المعز. وظلت هذه التسمية حتى قدم الخليفة المعز، فسماها القاهرة
وكانت القاهرة في عهد ولاية جوهر صغيرة ليس بها سوى قصر الخليفة والجامع الأزهر وثكنات الجنود ورجال الحاشية ودور المغاربة الذين استعان بهم الخليفة المعز في فتح مصر - ثم ظلت تتدرج في العمران حتى بلغت في نهاية عصر الفاطميين درجة كبيرة من التقدم
(وفي يوم الجمعة 24 من شعبان سنة 362هـ و30 مايو سنة 973م دخل المعز الإسكندرية وسافر منها في أواخر الشهر المذكور فوصل إلى الجيزة في 2 من رمضان - وأقام فيها أياماً - ثم عبر النيل ووصل إلى القاهرة في يوم الثلاثاء 7 من رمضان سنة 362هـ. (الأربعاء 11 يونية سنة 973م) ودخل القصر الذي بناه له جوهر. وفي اليوم التالي لوصول المعز خرج أشراف مصر وقضاتها ووجهائها ورجال العلم فيها لتهنئته والاحتفاء به. وفي يوم 15 من شهر رمضان سنة 362هـ جلس المعز في الديوان الكبير من قصره على السرير الذي أعده له جوهر، واستأثر الخليفة الفاطمي بكل ما كان يتمتع به جوهر في مصر من نفوذ. وأصبحت مصر منذ ذلك الحين دار خلافة بعد أن كانت دار
إمارة تابعة للخلفاء الفاطميين ببلاد المغرب. وغدت القاهرة - بدل المنصورية مركز الدولة الفاطمية الشاسعة الأرجاء
والأزهر أول مسجد بني في القاهرة، شرع جوهر في بنائه يوم 4 من شهر رمضان سنة 359هـ (11 يولية سنة 970م) وتم بناؤه في سنتين تقريباً. وأقيمت الصلاة فيه لأول مرة في 7 من رمضان سنة 361هـ (22 يونيو سنة 972م)
ونرى أن يقع الاحتفال الألفي بمدينة القاهرة في يوم 7 من رمضان سنة 1362هـ (7 سبتمبر سنة 1943م) أي بعد مرور ألف عام على دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة واتخاذها حاضرة للخلافة الفاطمية)
وقد علمنا أن الكلية ستساهم في هذا الاحتفال التاريخي بطائفة من الأعمال، منها إنشاء متحف تاريخي يمثل القاهرة في مختلف عصورها، وإصدار كتاب جامع عن القاهرة، وإخراج بعض النصوص التي تتصل بهذا التاريخ
افتتاح الدورة السادسة للمجمع اللغوي
افتتحت في الأسبوع الماضي الدورة السادسة لمجمع فؤاد الأول للغة العربية، فوفد على داره أعضاؤه ماعدا الأستاذ هيتمن الذي سيحضر إلى مصر في أوائل شهر يناير القادم، والأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا العضو التونسي الذي اعتذر من عدم حضور هذه الدورة لأعمال اضطرته للتخلف في تونس
وقد حضر جلسة الافتتاح كثير من الكبراء يتقدمهم أصحاب المعالي والسعادة وزير الأوقاف وعبد الرحمن رضا باشا ومحمد قاسم بك عميد دار العلوم وجاد المولى بك مفتش اللغة العربية وحسن فايق بك مراقب التعليم الثانوي وغيرهم
وحضر معالي الدكتور هيكل باشا وافتتح الجلسة بخطاب قيم
ثم وقف على أثره الدكتور محمد توفيق رفعت باشا رئيس المجمع فألقى كلمة الافتتاح. ثم وقف الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين الأستاذ بكلية أصول الدين وعضو المجمع فألقى قصيدة. ووقف الدكتور فيشر فألقى كلمة في الموازنة بين المجامع الغربية وهذا المجمع، وقد ألمع فيها إلى ما سبق في عصور التاريخ العربي من مجامع عربية كان لها الأثر المشكور في إحياء اللغة العربية ونموها
ثم ألقى الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع خطبة ضمنها الرد على ملاحظات الجمهور على أعمال المجمع وذكر الخطة التي يجب أن تتبع لإبلاغ الجمهور حاجته التي يرجوها من المجمع
وبذلك أعلن انتهاء الاحتفال ونزل معالي وزير المعارف وكبار الزوار إلى حجرة رئيس المجمع ودعي حضرات الأعضاء إلى الاجتماع في حجرة أخرى حيث عينت مواعيد الجلسات اليومية وهي الساعة الخامسة من مساء أيام السبت والأحد والاثنين والساعة العاشرة من صباح الثلاثاء والأربعاء والخميس
وذهب بعد ذلك حضرات الأعضاء وفي مقدمتهم معالي وزير المعارف إلى القصر الملكي لتسجيل أسمائهم في سجل التشريفات
المجمع اللغوي يتجه إلى الاتصال بالشعب
ظهرت أخيراً في أفق المجمع اللغوي ظاهرة طيبة وهي محاولة الاتصال بالمصالح الشعبية لتبادل الرأي معها. وقد تألفت لهذا الغرض لجنة من حضرات الأعضاء الأساتذة عبد القادر المغربي وعلي بك الجارم وماسينيون المستشرق الفرنسي. ومهمة هذه اللجنة بحث خير الطرق للاتصال بالمصالح الشعبية، تمهيداً للتعاون معها ومعرفة دوران الأساليب والمفردات الشعبية، للاهتداء بها فيما يقر المجمع من مصطلحات أو يضع من مفردات
ولكننا علمنا أن هذه اللجنة اصطدمت بقرار سابق للمجمع حظر فيه التعريب على غير العرب الأولين. وهو قرار يعرقل العمل الجدي للمجمع، ويقوم سداً بينه وبين التجديد المفيد فيحسن به أن يعيد النظر فيه
الثقافة العربية وترجمة آدابها إلى اللغة الفرنسية
تقوم الآن الجمعية الفرنسية المعروفة باسم (جيوم بادوا) بنشر الآثار العلمية والأدبية والفلسفية لليونان والرومان، ونشر ما يتصل بحضارة البحر الأبيض المتوسط من الأدب القديم والمتوسط والحديث
ولما كانت مصر تعتبر في مقدمة الدول التي أثرت منذ فجر التاريخ في حضارة العالم وهي تقع في مركز ممتاز بين دول الأبيض المتوسط رأت الجمعية أن تعنى عناية خاصة،
إلى جانب عملها عل نشر آداب اليونان والرومان، بنشر المشهور من الأدب العربي وترجمته إلى اللغة الفرنسية، ورغبت لتحقيق هذه الغاية في أن يكون لها في مصر فرع يشترك في أعمالها
وقد عرضت هذه الفكرة على صاحب المعالي وزير المعارف فأبدى ارتياحه لها. وستؤلف لهذا الغرض لجنة يكون معاليه رئيس الشرف لها وصاحب العزة وكيل الوزراء رئيسها العامل
أما أعضاء اللجنة فسيختارون من بين أساتذة الجامعة المصرية وبعض المستشرقين، على أن يشترك معهم من الموظفين الأجانب في مصر مسيو فييت مدير الآثار العربية، والمسيو دربوتون مدير المتحف المصري
مجلس الأبحاث الأهلي
كان البرلمان قد أبدى لمناسبة التفكير في تخليد ذكرى الملك فؤاد الأول رغبته في أن ينشأ لهذا الغرض معهد للأبحاث العلمية؛ وكان صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة قد قدم إلى مجلس الوزراء مذكرة بسط فيها قيمة البحث العلمي وأثره في ترقية الصناعة. واقترح أن يؤلف المجلس المصري على غرار مجلس الأبحاث الأهلية في إيطاليا.
وقد تم إعداد المشروع الخاص بهذا المجلس. وينص في أول مواده على اعتبار هيئة مستقلة تتألف من كبار العلماء والعاملين في الصناعة والمشتغلين بالبحث العلمي من الجامعيين.
ونص المشروع على ضرورة رجوع الحكومة إلى المجلس قبل إقرار التشريعات الخاصة بالإنتاج الصناعي والزراعي وغيرها من التشريعات التي يمكن أن تفيد في البحث العلمي.
ويتجه المشروع إلى تركيز البحث العلمي في الهيئة التي يتألف منها المجلس بحيث يكون كالرأس المدبرة التي تشرف على شتى مناحي التفكير والتجارب العلمية، فهو ليس معهداً نظرياً ولكنه، إلى جانب فكرة التركيز المشار إليها، يتجه في عمله إلى الإفادة من العلم وتطبيقه لما فيه مصلحة البلاد
والمجلس المقترح لا يمس الوظائف الجامعية، ولا يغض من نشاطها فالجامعة تختص بالبحث النظري الخالص. أما هذا المجلس فسيعني بالبحث العلمي الصناعي، والتطبيقات
العلمية للاستنباطات النظرية والاستفادة منها اقتصادياً.
وسيعرض المشروع على اللجنة الوزارية المؤلفة برياسة وزير المعارف وعضوية وزير الأشغال ووزير التجارة ومدير الجامعة وعميد كلية الطب ومدير مصلحة المعامل، وعمداء كليات العلوم والزراعة والهندسة.
ومتى أتمت هذه اللجنة بحث المشروع اتخذ المشروع مراحله التشريعية المعتادة.
تخليد ذكرى شاعر الهند محمد إقبال
من أنباء بمباي أن الجمعيات الأدبية والعلمية في الهند قررت تخليد ذكرى الشاعر الهندي الكبير المرحوم السير محمد إقبال فأنشأت في جايبور بولاية راجبوتانا مؤسسة باسم (مؤسسة إقبال) وانتخبت السيد جويال مديراً لها. وأصدرت المؤسسة مجلتين باسم (إقبال) الأولى باللغة الإنكليزية والثانية باللغة الأوردية.
وصدر من المجلة عددان في شهر أكتوبر الماضي. وكان العدد الأول يحتوي على مباحث باللغتين الإنكليزية والأوردية في تمجيد أعمال الشاعر الراحل وشرح مؤلفاته. وقد أعطيت جوائز للكتاب والرسامين الذين ساهموا في إصدار هذا العدد الممتاز
وقد عقد السيد رشيد أحمد مقالاً مسهباً عن الشاعر إقبال في إحدى صحف لاهور قال فيه: إن الفقيد العظيم قد أعطى الشعر الهندي أجنحة للتحليق في أسمى ارتفاع بلغه الشعر إلى الآن. وتمتاز فلسفة محمد إقبال في نظرياته الخاصة بالله عز وجل وما ينال الإنسان من نعم الخالق القدير. وقد مات محمد إقبال تاركاً للهند وللمسلمين على الخصوص أثراً قيماً بمؤلفاته التي تعد مفخرة من مفاخر الهند. وفيها عالج إقبال جميع الموضوعات من أصغرها إلى أكبرها بمقدرة لم يبلغها سواه من قبل. فهو جدير باللقب الذي أقر له به الأجانب قبل أبناء الهند وهو لقب شكسبير الهند
افتتاح المعرض السادس لفن التصوير الشمسي
افتتح الأسبوع الماضي حضرة صاحب المعالي وزير المعارف المعرض السادس لفن التصوير الشمسي
وقد أشرفت على إقامة المعرض جمعية محبي الفنون الجميلة التي يرأسها حضرة صاحب
السعادة محمد محمود خليل بك رئيس مجلس الشيوخ
وعلى الرغم من أن غالبية العارضين كانت من الأجانب فإن معروضات الفنانين المصريين كانت موضع إعجاب الزائرين من أجانب ومصريين، وعلى الأخص معروضات الدكتور أحمد موسى محرر الرسالة الفني؛ ومن بين لوحاته لوحة سماها (في رحاب الفضاء) بلغ من روعتها أن الكثيرين حسبوها خدعة لا صورة من الطبيعة، لأنها صورة فلكية أخذها الدكتور في الاتجاه الجنوبي الغربي للقبة السماوية فبدت الكواكب فيها نقطاً لامعة في السماء أخذت اتجاهين مختلفين أبدعت عدسة الفوتوغرافية في التقاطها
ولوحات الدكتور موسى الأخرى مثل عال في التصوير الفوتوغرافي وخاصة لوحاته في الطبيعة، ومنها:(الأنساق) و (أحزان الغسق)
وتبلغ لوحات المعرض حوالي 350 لوحة يلمس المشاهد فيها كثيراً من روائع الفن الفوتوغرافي في مختلف البيئات المصرية والأجنبية وفي مختلف الدراسات والاتجاهات الفنية
الخطأ في طبعات المعجمات
في البقية من نقدي (كتاب المبشرين المزور) في الجزء السابق من (الرسالة) الغراء في كلام ابن الأنباري المروي عن اللسان والتاج -: (لأن الرجل لا يذهب زاده بموت امرأته إذا لم تكن قيمة عليه)(ولا يلزمه شيء من ذلك) والصواب (إذ)(ولا يلزمها) وإذ للتعليل. وليست زيادة الألف تطبيعا بل هي خطأ في طبعتي اللسان والتاج. والتطبيع في هذين المصنفين - يا طالب العلم - كثير، وهما المرجعان العظيمان في اللغة. وما أقول ما أقول لكي أنجي سرعة قد أخطأت - مما لا نجاة منه. إنها لملومة وربها ملوم
الإسكندرية
* * *
مخطوط ثمين نادر
أضافت الجمعية الملكية الآسيوية في البنغال إلى مجموعتها الثمينة مخطوطاً فريداً. وكان هذا المخطوط الى الآن ملكا لسلطان ميسور ومحفوظاً في مكتبته. وقد اشتراه الدكتور هداية
حسين من أعضاء الجمعية الملكية الآسيوية. وعنوان المخطوط (جلزار اي ابراي) أي ورود الأبرار؛ وهو مكتوب بالفارسية ويحوي سيرة حياة الأولياء الصوفيين في الهند من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر؛ وفيه 575 سيرة كاملة. ولا يوجد في العالم غير نسخة واحدة كاملة من هذا المخطوط الثمين. وفي المتحف البريطاني في لندن جزء يسير منه. فالنسخة التي حصلت عليها الجمعية الآسيوية فريدة في العالم
الكتب
جان درك
تأليف برناردشو
وتعريب الدكتور أحمد زكي بك
الحقيقة بطبيعتها جافة ثقيلة على النفس، ولكنها إذ تمتزج بالفن يتجلى فيها الجلال والجمال، والقوة والأناقة، والبهاء والرواء، والصفاء والوضوح، فتهش لها النفس، وتهفو نحوها الروح، وينطلق العقل في رحابها الفسيح نشوان متيقظاً كالنحل يرف على رحيق الزهر
ولا غرابة إذ لم يكن للحقيقة من نفسها بعض هذا، وكان لها من الفن كل هذا، فإن مهمة الفن أن يجمل الأشياء، ويقرب الأوضاع، ويزين الواقع، ويصل الحقائق المجردة بالعواطف والأحاسيس، وغاية الرضا عند الإنسان أن يشبع ما فيه من العواطف والأحاسيس
لهذا نجدنا نجفو كثيراً من الحقائق إذ يسردها التاريخ، ولكنا نهش إليها إذ يرويها الفن، وأنا لنرددها كثيراً فلا تزيدنا إلا متاعا ولذة، ونكررها مراراً فلا تغمرنا إلا بالراحة والاطمئنان. وهانحن أولاء نحب أن نتغنى كثيراً بحروب طروادة، ونشغف بأخبارها وملامحها غاية الشغف ولكن لا كما رواها الرواة ودونها المؤرخون، بل كما أنشدها في القديم الغابر شاعر ضرير اسمه (هوميروس)
وهذه القصة التي نقدمها للقراء اليوم إنما هي حقيقة من تلك الحقائق التاريخية خرجت في إطار من الفن المهذب، فموضوعها (حياة جان درك) وهي أشهر مجاهدة قديسة في تاريخ النصرانية، وأغرب شخصية بين الكفايات الممتازة الشاذة الأطوار في القرون الوسطى، جاهدت أن تفرض نفسها ودعاواها على الناس فرضاً، فشاع اسمها وذاع في غرب أوربا، ولم تكن بلغت العشرين بعد، وقد نهضت من الحضيض إلى العلاء نهضة باغتة، فلم يكن للناس فيها إلا رأيان: رأي يقول: إنها آية من آيات الله، ورأي يقول: إنها امرأة ثقيلة الظل لا يطيقها إنسان
أما واضع القصة ومؤلفها فهو (جورج برناردشو) وهو في الأدب الإنجليزي من أكبر شخصياته إن لم نقل أكبرها في القرن العشرين، وفي أحقاب خلت. . . والقوم هناك يقدسونه إلى حد كبير، فلن تجد بينهم اسماً في عالم الأدب والسياسة ترهف له الآذان كاسمه، ولا جدلاً يهرع الناس لحضوره كجدله، ولا لساناً أقذع في النقاش وألذع في الجواب كلسانه، ولا فكاهة تنم عن صاحبها كفكاهته، فهو شخصية قوية، وعبقرية متميزة بكثير من المواهب، وإن له في فن القصة آيات بينات.
وأما المترجم فهو رجل درس العلم، واتصل بالأدب، وعالج الترجمة، فأكسبه العلم الدقة في الأسلوب، والتعقل في الاختيار، وأفاده الأدب السلامة في التعبير، والأناقة في اللفظ، وكان له من علاج الترجمة خير مران مكنه في هذه الناحية وثبت قدمه، فهو أمين في نقل غرض المؤلف، فطن في فهم إشاراته ومراميه، واضح في التعبير عن ذلك كل الوضوح. وتلك درجة قل في المترجمين من يبلغها، وهي الفرق بين ترجمة وترجمة. . . وهي التي تثبت شخصية المترجم فيما ينقل، وأنا إذ أقول سلامة التعبير، فأنا أشهد بأن المترجم قد بلغ في ذلك الغاية، فقد قرأت الرواية وأنا أراقب الرجل في أسلوبه، وحاولت جاهداً أن أحصي عليه، فلم أقع إلا على (أصواتها الداوية ص71)، (كلما داهمهم ص234)(نقص نضوجها ص268). على أن تلك من الأخطاء الشائعة في الألسن والأقلام، فقليل في الأدباء من يفطن إلى الصواب في ذلك فيقول:(مدوية. ودهمهم. والنضج). على أن الأخيرة مما يصح في القياس وإن تثبت في السماع.
ولقد كثرت الترجمة في هذه الأيام، وملأت فجاج الأرض وزادت على حاجة القراء خصوصاً في الأدب الروائي، ولكنها في الواقع ترجمة مبتذلة، لا تتصل بفن، ولا تقوم على وضع ولا تزيد في الثروة الأدبية ولكنها نقص وتدهور، فهي لا تعنى إلا بالقصص الداعر، والغراميات الحيوانية، وحوادث الإجرام واللصوصية، والسفك والانتحار، وكل ما هو على الأخلاق وقلب للأوضاع، واستهانة بالتقاليد. أما الترجمة القويمة التي نحن في أشد الحاجة إليها لتنهض بنا في مناحي العقل والتفكير والشعور والإحساس والحب والعطف والخير والكمال فذلك عندنا شيء قليل نادر كالكبريت الأحمر، وما ترجمة (جان درك) إلا من هذا الشيء القليل النادر، المفيد النافع، فهي ليست من القصص الفارغ الذي يطلبه
القارئ لقتل الوقت وتزجية الفراغ، ولكنها أثر أدبي جليل حي بموضوعه وبفنه، فترجمتها إلى العربية يد جليلة وفكرة رشيدة قد أسداها الدكتور الفاضل إلى اللغة العربية والفكرة العربية
وقد تقول: إن قصة (جان) أليمة في وقائعها قاسية على العواطف بفجائعها، وأنا أقول: أجل ولكنها مع ذلك سائغة محتملة بالفكاهة الطريفة والنكتة المستملحة، والنادرة الساخرة، والبادرة البارعة، يحرص (شو) على ذلك في كل مواقف الرواية وحوادثها، وناهيك بفكاهة (شو) وبراعته في ذلك، ولقد زاد في قوة الرواية الفنية تلك الحياة التي خلقها (شو) في كل أشخاصها فكل منهم متحرك في عمله، وكل منهم ظاهر بنفسه في تأدية دوره، فلا ظهور لشخص على حساب شخص معطل كما يفعل ذلك كثير من القصصيين، ولا نبو ولا شذوذ ولا إغراق كما صنع مارك توين في قصته عن (جان) ولكنها الحوادث تجري على الوضع الطبيعي، وتستقر على النهج المألوف
ومما يزيد في قيمة الرواية ويرفعها تلك المقدمة الحافلة التي تناول فيها المؤلف شخصية (جان درك) الغريبة، فنظر إليها من جميع جهاتها، وأبدى رأيه صريحاً في كل مظهر من مظاهرها وقارن بينها وبين الأشخاص الذين هم على شاكلتها، وأنت تعلم أن جان فرنسية، وشو إنجليزي، وجان كاثوليكية، وشو نشأ في بيئة بروتستنتية، وجان روحانية في تفكيرها وفي آرائها، وشو رجل يحترم عقله ويقدس العلم والفكر الحديث، ولكنه فيما كتبه عن جان وضع الحق فوق كل اعتبار فكان حراً صريحاً، وكان باحثا مخلصاً ينظر إلى الواقع بعقله وقلبه وروحه وشعوره وعلمه وخبرته، وقد استعرض (شو) أقوال الكتاب والروائيين الذين كتبوا عن (جان) من قلبه، فانتقد ما فيها من التهافت والإغراق، وحاول أن يظهر جان في شخصيتها الطبيعية مرتفعاً بها عن المبالغات قوم قدسوها فطاروا بها إلى مسبح الأفلاك، وتحامل قوم حقروها فانحطوا بها إلى مجرى الأسماك، وعندما يقف عقل (شو) فلا يجد له منفذاً للتأويل والتخريج تجد الرجل لا يواري ولا يداري ولكنه يصارحك بالحقيقة التي في نفسه كما يقول وهو يتحدث عن أصوات جان وأطيافها: إن العقيدة تتحصل للإنسان فيما تتحصل من أنماط عيشه وعادات بيته، فأما أنماط عيشي ففكتورية، وأما عادات بيتي فبروتستنتية، فمن أجل عاداتي وأنماطي هذه أجدني عاجزاً عن التملص من نفسي لأحكم
حكماً مجرداً بأن أطياف جان كانت أطيافاً حقة)
ففي قصة جان وفي مقدمتها اجتمع فن (شو) وعقله، وتجلت عبقريته وبراعته، وإن الدكتور أحمد زكي بك خير من يؤدي ذلك بدقته وأناقته، فلا غرابة إذا قلنا إن القصة قد جاءت في موضوعها وفي تأليفها وفي ترجمتها آية القوة والبراعة والدقة
محمد فهمي عبد اللطيف
المسرح والسِّينما
آراء أعضاء لجنة القراءة
في الفرقة القومية
نعود الآن إلى الآراء التي أبداها أعضاء لجنة القراءة لنتبيّن منها مدى معرفتهم فن الرواية، وروح المسرح، وخاصية الناقد، إذ على الإدراك الصحيح يقوم البناء الصحيح للمسرح، فأعضاء اللجنة يرى - من تكلم منهم ومن آثر الصمت - (1) شبه طفرة في الرواية المؤلفة مما يدل على أخذ الفكر الروائي في نضوج سريع (2) وأن الفرقة لم تبلغ الكمال ولم تقترب منه بعد إنما هي تمضي سراعاً إلى الكمال (3) وأن رأي النقاد المسرحيين يجب ألا يدنو من النواحي الفنية والخلقية والاجتماعية واللغوية، لأنها من اختصاص أعضاء لجنة القراءة وحدهم (4) وأن اختصاص النقاد يجب ألا يتعدى ناحية إخراج الرواية ومعدات الإخراج وطول الرواية وقصرها عن الوقت المناسب (5) وأن حكم النقاد على أن الرواية قيمة أو ليست قيمة، أو مناسبة أو غير مناسبة، فمن عمل اللجنة وحدها (6) وأن ليس في مصر الآن نقد فني قوي يستطيع أن يسقط الروايات أو يعليها (7) وأن النقد الحالي محاولات أولية قائمة على مدح مفرط من غير أسباب فنية، أو ذم مفرط لأسباب شخصية (8) وأنه أن كان هناك نقد قوي فأعضاء اللجنة نقاد أيضاً (9) وأن النقاد يبدون آرائهم في الرواية حيث يكون الأمر قد انتهى وخرج من يد اللجنة، وأن الكرامة تأبى على مدير الفرقة سحب رواية وضح فشلها (10) وأنه قد يحدث أحياناً أن ترجع اللجنة بواسطة مدير الفرقة بالضرورة إلى رأي كبار المخرجين وكبار الممثلين لترى إذا كان يمكن تمثيل الرواية على الصورة التي قدمت بها (11) وأن كبار المؤلفين لا شيء يبعدهم عن الفرقة سوى تهيبهم كتابة الرواية المسرحية ووقوفهم في صف واحد مع الكتاب الناشئين
هذه خلاصة لما يراه أعضاء لجنة القراءة وهم عمد المسرح الحقيقيون ودعامته القوية، ولكن ما قول هؤلاء الأعضاء الأجلاء إذا كان فن الرواية، وروح المسرح، والواقع المنظور المحسوس الملموس تنكر عليهم دعاواهم؟ ما قولهم إذا لم يكن في البلد أديب واحد يقرهم على أقوالهم وهي التخبط بعينه؟ ما قولهم وقد دلت أقوالهم على أنهم في درك الوادي
وأن فن المسرح والرواية في القمة الشاهقة؟ ما قولهم وقد كاد الأدباء يجمعون رأيهم يأساً وقنوطاً على ضرورة إهمال الروايات المؤلفة والالتفات إلى الترجمة فهي أقل أذى للنفوس من الروايات الموضوعة؟ ما قولهم في أن الروايات التي قبلتها الفرقة وبذلت الحكومة من أجلها من أموال الأمة مبلغ ستين ألفاً من الجنيهات هي أقل قيمة وأحط معنى ومبنى من الروايات التي كانت تمثلها فرقة السيدة فاطمة رشدي وفرقة رمسيس في بداية أعمالهما؟ ما قولهم في أن الأدب والأدباء والفن والفنانين، وكل من يشيع فيه روح الغيرة على الأدب والفن يصرخون في خمسة شيوخ جامدين، جامدين، جامدين، وغرباء جد الغربة عن روح العصر ووحي البيئة والجيل؟
أيريد هؤلاء السادة الأجلاء المعترف لهم بعلمهم وأدبهم وفضلهم وغيرتهم على الثقافة العامة أن نقول لهم: اعتزلوا أيها السادة أماكنكم قبل أن يقبض أعضاء البرلمان أيديهم عن الفرقة وهي جد عزيزة علينا؟
أيريد هؤلاء السادة الأجلاء المعترف لهم - مرة ثانية - بعلمهم وأدبهم وفضلهم وغيرتهم على الثقافة العامة أن نقول لهم بصراحة أن ليس فيهم من يعرف حدود المطلوب منه، أو المطالب به فينتحل كل واحد لنفسه السلطة التي يشتهيها، والأستاذية التي يفرضها على الناس، والحق في الطعن في ذوق الأمة وفي كفاية المثقفين
أيريدون الاطلاع على بواعث ما انتابهم أحرج الصدور وأرهف الأقلام لنقد أعمالهم؟
الباعث الأول - في اعتقادي - هو الإدارة الفوضى التي يتولها ذهن هو مثال لعداوة النظام وحب الاستئثار
فالنظام يقضي أن يتولى مدير الفرقة بذاته وبمؤازرة سكرتيره الفني فحص الروايات التي تقدم إليه والتي يكلف تراجمة أكفاء بترجمتها فيختار ما يصلح منها، أي ما يوائم (رسالة) الفرقة الثقافية
والنظام يقضي بأن يستعين مدير الفرقة بأعضاء لجنة القراءة على فحص الروايات التي تقدم إليه، لا أن يتخذ منهم أساتذة أو مستشارين أو غلالة يستر ضعفه ورائهم. والنظام يقضي أن تؤلف لجنة من الممثلين والمخرجين تكون مسؤولة عن فشل الرواية أو سقوطها لأن لهؤلاء دراية فنية تكتسب بالمران ليس للمدير نظيرها
ولكن الفوضى، بله الضعف الإداري بأوسع معانيه، وافتقار مدير الفرقة إلى معرفة فن المسرح وفن الرواية، وهو الذي جعل لأعضاء لجنة القراءة قوة غير قوتهم وسلطاناً غير سلطانهم، وسول لبعضهم أن يفضح ذاته ويعرض أقرانه للفضيحة، فاضطرنا ذلك إلى نقل مركز الثقل من على كتف المدير المسؤول لنضعه على أكتاف من تطوعوا لتحمل المسؤولية لوجه شيطان الكبر والإدعاء
يحسن الوقوف قليلا عند رواية طبيب المعجزات، أولا لأنها الرواية المصطفاة من بين الروايات التي حازت جائزة المباراة؛ ثانيا لأنها توضح بأجلى بيان مبلغ فهم القائمين على شئون الفرقة للفن المسرحي والتأليف الروائي. ورواية طبيب المعجزات هذه كما لخصتها في مقال سابق معتمداً على قراءتها قبل تمثيلها وقد استبدلت خاتمتها بسواها، تدور حول طبيب استغرقه البحث العلمي فتوصل بعد جهد ومثابرة إلى إكسير يطيل الحياة مئات من السنين؛ وإذ يبلغ الأمة خبر هذا الاختراع العجيب من الصحافة التي رصدت له أوجه صفحاتها تهلل وتكبر وتفرح بطول الحياة، ثم تشارك الحكومة الأمة في تقدير العالم الجليل فتمنحه رتبة الباشوية وألزمت الناس بالتطعم بهذا الطعم.
ينام الطبيب فتتجلى له في الحلم مضار اختراعه. فيرى الحكومة تكلفه رسميا إلقاء محاضرة يوضح فيها خواص الإكسير، ويسمع أسئلة الناس تنهال عليه.
ونسمع الطبيب يوضح خواص اختراعه فيقول إن الرضيع تدوم مدة رضاعته خمس عشرة سنة، ويبلغ سن الرشد في سن المائتين والخمسين، وهكذا تتراكم على الطبيب الخيالات في الحلم فتهدم ما بناه في اليقظة.
هذه هي، رواية الموسم، هل تجد فيها (الفكر الروائي الناضج) أم هي (كوميديا) من النوع الذي يسر بعض أوساط من الناس عائشين على هوامش الحياة؟ هل يمكن أن تكون هذه الرواية أنموذجاً للكمال الذي قال فيه أحد أعضاء لجنة القراءة (إن الفرقة تمضي سراعاً إلى الكمال)؟
ابن عساكر