الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 287
- بتاريخ: 02 - 01 - 1939
الرسالة في عامها السابع
بلغت الرسالة - والحمد لله على تأييده وتسديده - سنتها السابعة. والسبعة في عقيدة الشرقيين عدد يدل على الكمال واليمن والكثرة. وله في الفلك والرياضة والأساطير والدين مزايا وخواص. وهو في عمر الإنسان سن التمييز وأول الفتوة. فإذا بدت على الرسالة اليوم مظاهر النشاط ودلائل الاغتباط ومصاديق التجدد، كان ذلك جارياً على سنن الطبيعة. فان الحي ينمو، والنامي يتطوّر، والمتطوِّر يخضع لضرورة الوجود وحاجة الموجود، فلا يكون إلا ما ترضاه الحياة وتريده الخليقة. والرسالة وليدة الفكر المستقل في نهضتنا الحديثة؛ تخلَّقت من أمشاجه، وتغذت على إنتاجه، ورقَتْ على أسباب رقيه. فلو أنها كانت للعامة لقتلها مللها، أو كانت للسياسة لأصابها فشلها؛ ولكنها كانت للفكرة الحرة التي تَرُود ثم تقود ثم تهيمن؛ فإن شئت قلت هي الروحية في هيكل الوطن، وإن شئت قلت هي الإنسانية في معنى الأمة.
من أجل ذلك عاشت الرسالة. ولكنها تعيش كما يعيش الجِد، وتمشي كما يمشي الحق. والجد يعيش متزايلاً ولكنه ينال؛ والحق يمشي متثاقلاً ولكنه يصل.
لقد أصبحت الرسالة بفضل ما مكن الله لها في النفوس القريبة والبعيدة
عنواناً من عناوين المجد القومي الخالد، وفصلاً من فصول الأدب
العربي الحديث. فإذا وجدت على جنبات النيل مصر العاملة المدبرة،
وجدت على صفحات الرسالة مصر الشاعرة المفكرة. وشتان بين يد
تعمل في التراب، وفكر يجول مع السحاب، فيومض في كل نفس،
ويمطر في كل بلد! وإذا فني أثر اليد مع الإنسان، بقي أثر الروح
سرمداً مع الله. فمن ذا الذي يستكثر على الرسالة منا أن نُسهر لها
العيون حتى تَعشى، ونُرهف لها العزم حتى يكل، ونحبس عليها القلب
حتى يقف؟؟ أليست هي كما ذكرنا وكررنا ديوان العرب المشترك،
جَمعت فيه الأشتات إلى الأشتات، ووفَّقت بين الأصوات والأصوات، ثم
ألفَّت من هذه الآلات المنفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع
الوجود أناشيد الخلود؟
يتساءل الذين اكتنهوا حرفة الأدب وكابدوا بلاء النفس فيها: كيف تسنى للرسالة أن تعيش على خفض الاشتراك ونقص المورد من الإعلان؟ ونحن نقول عن عقيدة وخبرة: إن وفرة المال لا تضمن النجاح، كما أن كثرة الجيوش لا تكفل النصر. إنما القوة الروحية هي المدد الإلهي الذي يهبه الله للمجاهدين متى شاء أن تدول دولة، أو تعلو كلمة، أو تبلغ رسالة. وتبليغ الرسالة جهاد. والمجاهد عتاده الإيمان وزاده الصبر؛ ومن وجد في العمل منجاه من الهم وملاذه من الناس فقد وجد الثواب عليه فيه.
على أن الرسالة مع ذلك شيدت داراً وأنشأت مطبعة. وهي ترجو في عامها الجديد أن يظاهر الله عليها المعونة حتى تقوم بإنجاز ما وعدت من توسيع الخطو وتنويع العرض وتوفير العُدة
نعم وعدت الرسالة! وكان من طبعها ألا تمالق الرغبات بالتمنية، وألا تستميل الشهوات بالوعد؛ كما كان من عقيدتها أن العمل الصامت أنطق الأدلة على توخي الحق، والماضي الواضح أضمن الوثائق للمستقبل المبهم؛ ولكنها في ميعة النشاط ونشوة الأمل تطيع سورة الشباب، فتطمح إلى الكمال مغضية عن العجز، وتثب إلى الغاية مستخفة بالعوائق. وما وعْدُها اليوم إلا فيض من الرجاء طفح مما تسر على ما (تعلن)!
شكونا من الحكومة أنها تهمل الأدب، وعتبنا على القراء أنهم يعزفون عن الجد، فما نفعت الشكوى ولا أجدى العتاب. ذلك لأن الحال التي نحن عليها اليوم من اضطراب الحكم بين رغبات الأمة وحملات المعارضة، وتوزِّع الرأي المثقف بين الأهواء المتعارضة في السياسة، لا تزال تبعدنا عن حياة الأمن والاستقرار التي تعود إلى الناس فيها لذة التفكير وشهوة القراءة. فليس لنا من سبيل إلا أن نؤدي واجبنا ونسكت، أو نقول كلمتنا على رأي المسيح ونمضي. والأديب مكتوب عليه أن يجاهد ويضحي، لا يستمد العون إلا من ربه، ولا يلتمس العزاء إلا من قلبه، ولا يبتغي الثواب إلا من سلطان ضميره.
وقد ظهر في العالم الأدبي مع هذا العام الجديد مجلتان محترمتان هما (العصور) و (الثقافة)، وسيكون لصوتهما مع صوت الرسالة دوي شديد يفتح العيون الوسْنى على
الصحائف المكتوبة بعصارة الأذهان ومهج القلوب، فيهتز الأدب الذاوي، وتنشط العقول الفاترة.
اللهم إن كنا أسرفنا في الرجاء فذلك لحسن الظن بك وقوة الأمل فيك؛ فهب لنا من لدنك ولياً يكفكف نزوات النفس، ونصيراً يكفينا عوادي القدر، ومرشداً يجنبنا مزالق الرأي، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى الناس.
أحمد حسن الزيات
سبيل الصحافة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن الكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني:
(كيف ترى الخبر الفلاني؟)
قلت: (عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم)
قال: (أنا جئت به)
قلت: (أهنئك. فمن أعطاكه؟)
قال: (قد والله سرقته!)
فضحكت وقلت: (اللص الشريف!)
وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال:(بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعتُ. وما أظن إلا أنه مغيظ محنق)
فقلت: (إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب)
وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت:
إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانينها إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارطة القديمة كان يذهب مذهباً آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارماً. والنتيجة واحدة، فان السارق الذي يستطيع أن يستر فعلته لا يصيبه شيء، وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل
ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئاً - لم يسرق خبزاً ليأكل، ولا مالاً لينفق على نفسه وعلى عياله، أو ليوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئاً في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططاً غير مقبول، وأمراً لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو -
كما تعلم - سنيٌّ متدين، غير أن كونه سنيَّاً ومتديناً لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفاً أو بيضة لكان جزاؤه ما يبينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت (معدة ثعلبها لاحسٌ، وتارة أرنبها ضاغبُ) كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع به ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحبُ عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، وسارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء، لكان المحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرئ سارق المذكرة. وقد يرى القاضي أن الفاقة (ظرف مخفف) - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده (ظرفاً مبرئاً)
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعمله، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له، بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل به من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه وينفي أن يكون عنده مثله؛ وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم انه ما أغراه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطلق العقل
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة ولست أعرف صحفيَّاً واحداً أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته به أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي (حنبليًّاً) في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف على خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذا كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم؛ ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى
الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة، فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها، مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها ما دام راغباً فيها ويحارب دونها؛ وهو الآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعاني متاعب المنافسة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره ومثاله أيضاً أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة
كذلك تفعل الصحافة. حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس. وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى (السلطة الرابعة؟). ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة. بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم - أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البغض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها. . .
وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملاً محموداً، ومن مرتكبها لصًّاً شريفاً! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبنائها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاماً، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء
إبراهيم عبد القادر المازني
من برجنا العاجي
هاأنذا أهبط إلى برجي العاجي مع الشتاء، في الوقت الذي يهبط فيه (الأب نويل) مع عيد الميلاد. إني أرى لحيته الطويلة البيضاء تمتد لتلتف حول الكوكب الأرضي. لقد كان طرفها بالأمس في بلاد الجليد، فإذا هي اليوم في بلاد الشمس والهلال. لقد طفت بالمدينة فرأيت عجباً. لقد انقلبت القاهرة رأساً على عقب. أنوار وأعلام، وزينات وأفراح، والناس جميعاً مشغولون بإعداد سهرات العيد. الشرقيون قبل الغربيين يتسابقون إلى الاحتفال بعيد ليس عيدهم، ولكنهم يريدون تقليد الأجانب. بل إني لأعرف بيوتاً وأسراً شرقية مسلمة تقيم في منازلها (شجرة الميلاد) أسوة بالأوربيين. نعم. لقد ذهبت أعياد الشرق فلم يعد أحد يأبه لعيد الأضحى أو الهجرة أو ليالي رمضان. إن أعيادنا تقبل علينا فلا نبسم لها ولا نخرج لاستقبالها. إنما نحبس أنفسنا في بيوتنا كأننا نخجل منها ومن أنفسنا. فإذا جاءت أعياد الأجانب أسرعنا فخرجنا لها باشين مهللين. نحن في بلادنا نشارك الأجنبي في أعياده، وهو على أرضنا لا يشاركنا في أعيادنا. وبذلك أفهمناه وعلمنا آلنا وأطفالنا منذ الصغر ازدراء ما هو شرقي واحترام ما هو غربي. وهكذا أثبتنا للعالم أن مجرد وطء أقدام الأوربي أرضنا كاف أن يزلزل حصوننا المعنوية. نعم ما كان الغربي يتصوَّر أن الشرقي ينبذ من أجله حتى أفراحه التاريخية العريقة بألوانها الزاهية وطابعها الأصيل. إني ليخيل إلي أن الغربي ذاته، ذلك الضنين بتقاليده، الحريص على تجميل خرافاته، يدهش لرؤيته وجه الشرقي قد انطمست ملاحمه بهذه السهولة، وضاعت معالمه من الرؤوس والنفوس، وزال رسمه الحقيقي إلا من تلك الصفحات الرائعات التي سطرها أمثال بييرلوتي وجيراردي نرفال من الأوربيين أنفسهم الذين أعجبوا بالشرق يوم كان الشرق يحتفظ برداء شخصيته فلا يخلعه ليجري عارياً كالشحاذ خلف الغرب. إني لم أر قط باعتنا المتجولين يصيحون (بعرائس مولد النبي) في الطرقات ولكنهم صاحوا البارحة بنداء شق الفضاء:(الأب نويل بقرش أبيض! الأب نويل بقرش أبيض!). وبهذا تم لذي اللحية البيضاء غزو الشرق
توفيق الحكيم
الشريف الرضي وخصائص شعره
للأستاذ عبد الرحمن شكري
الشريف الرضي لا يضارع ابن الرومي في تحليله المعنى وتقصيه إياه، ذلك التقصي الذي ساعد ابن الرومي على إجادة الوصف سواء أكان وصفاً لهمسات النفس وخطراتها أو لأوجه الطبيعة والمرئيات. ولا يضارع الشريف أبا تمام فيما يتقنه من فلتات الصنعة النادرة التي تأتي بالأبيات الفذة الخالبة الآخذة بمجامع القلوب والتي تستهوي القلوب وتشعل الخيال. ولا يضارع الشريف المتنبي وأبا العلاء المعري، ولا سيما المعري في التفكير في النفس والحياة، وأخلاق الناس. ولكن للشريف نصيباً لا يستهان به من هذه المميزات؛ وهو مع ذلك قد اختص بالشعر الوجداني. ولهؤلاء الشعراء جميعاً ولغيرهم شعر وجداني، ولكني أحسب أن الشريف بزهم جميعاً في هذا الضرب من الشعر. وهو قد أمن ما يعتور ابن الرومي في بعض الأحايين من الفتور بسبب ما قد يبدر منه من الإفراط في التقصي والتحليل وتتبع الجزئيات؛ وأمن الشريف زلل المبالغة في الصنعة الذي قد يقع فيه أبو تمام إذا أفرط في حبه للاختراع والتوليد وإتيان ما لم يأت به أحد من التشبيه أو غيره من صيغ الصنعة؛ وأمن الشريف المبالغة غير المقبولة والمعاظلة كما في بعض شعر المتنبي؛ وأمن أيضاً ما قد ترى في ديوان سقط الزند للمعري من مبالغات المتأخرين التي لا تعبر عن وجدان صادق. ولو قارنت بين شعر الشريف وشعر معاصريه لوجدت فرقاً كبيراً في الأسلوب والذوق، فإن الصنعة كانت قد انتشرت في عصره وغالى الشعراء فيها من إبعاد في التشبيه ومغالاة في المعنى من غير سيل دافق من العاطفة والوجدان يلبسها لباس صدق الإحساس، ومن ألاعيب لفظية ومعنوية. وحسبك أن حكيم الشعر العربي المعري التزم ما لا يلزم في لزومياته مجاراة لصنعة عصره، ويولع أحياناً بالجناس وغيره من المحسنات اللفظية التي لا تناسب ما هو فيه من التفكير والحكمة والجد. ولا عبرة بما يقوله بعض المطلعين على الشعر الأوربي من أن الشاعر العالمي الإنجليزي شكسبير يفعل ذلك ويغري أحياناً بتلك الألاعيب اللفظية، فإن شكسبير يفعل ذلك في غير موضع الجد المؤثر، وعلى لسان أناس من طوائف خاصة، أو لهم صفات خاصة. والشريف يترفع عن أساليب هذا التلاعب بالألفاظ. ولعل هذا هو ما ينبغي أن يكون، لأن الشريف شاعر الوجدان، والتلاعب بالألفاظ يتلف أثر الشعر الوجداني في النفس إذ لا يستقيم معه. وإن أطرب التلاعب باللفظ بعض الناس طرباً سطحياً إلا أنه ليس طرب الوجدان والعاطفة.
وهذه الألاعيب اللفظية هي نزهة ولعب يلهو به الذكاء في استنباطها واختراعها ومقارنة معانيها؛ والذكاء من العقل، فلا غرو إذا قبله المعري شاعر العقل لأنه كان سائداً في عصره، وإن كان هذا الهزل ضد جده. ولا عبرة بما يقول القائل من أنه أراد أن يلفت بعبثه هذا الناس عن حرية القول والفكر والعقيدة في بعض شعره كما فعل رابليه الكاتب الفرنسي في تغطيته نقده لعقائد رجال الدين في قصصه بالعبث الصاخب، وإن كان عبث رابليه مجوناً لا يطيقه المعري. ولا عبرة بقول من يقول إن المعري أحس من مرارة نفسه أن الحياة والخليقة وإن كانت مقدسة تدعو من أجل قداستها إلى مرارة النقد، إلا أنها مهزلة أيضاً؛ فهي مهزلة مقدسة كما سماها دانتي الشاعر الإيطالي، ومن أجل أنها مهزلة أباح هزل الألاعيب اللفظية في أثناء جد الفكر
ومن أجل أن الشريف شاعر الوجدان كان أقرب شعراء عصره إلى الأقدمين، وكان بدوي النزعة وإن كان قد أخذ بنصيب من الصنعة العباسية لإعظام أثر المناجاة أو النداء أو الاستفهام أو النفي الوجداني في شعره، فإنه يستخدم هذه الصيغ البيانية ويتعرف وسائل الصنعة في تكرارها وموقعها. ولكنها صنعة طبيعية لا تحسُّ أنها صنعة. وهي لا تنافس الوجدان بل تقوي أثره. وإذا قرأ القارئ له غزله أو رثاءه أو إخوانياته أو تحسره على انحسار الشباب أو مناجاته الديار ظهرت للقارئ آثار هذه الصيغ في إشباع الوجدان وإقناعه، فإن الشريف الرضي يشبع الوجدان ويقنعه ويطربه ويستميله بالنداء الوجداني، أو الاستفهام والسؤال، أو النفي أو الإخبار بصيغة التحقيق والتأكيد، أو الأمر أو المناجاة بأساليب أخرى. . ويفعل الشريف كل ذلك حتى ليخيل إلى القارئ أن لأدوات هذه الصيغ في شعره معنى ليس لها في شعر غيره؛ وهو إذا رأى تلك الأدوات والحروف مثل (يا) أو (الهمزة) للاستفهام أو النداء أو (أين) أو (كيف) أو (لن) أو (قد) عرف أنه يجيد استخدامها لأغراض الشعر الوجداني أكثر من إجادة غيره استخدامها، ففي رثاء أحبابه وأودائه ينادي الدهر فيقول:
(يا) دهر رَشْقاً بكل نائبة
…
(قد) انتهى العتب وانقضى العجب
(رُدَّ) يدي ما استطعت عَن أَرَبي
…
(لَمْ) يبق لي بعد موتهم أرب
ففي هذين البيتين استخدام النداء والإخبار بالتحقيق والأمر والنفي كلها بصيغة وجدانية
تؤثر في النفس. فهذه هي الصنعة اللفظية المحمودة لا الجناس والألاعيب اللفظية التي أولع بها معاصروه.
ويخاطب وينادي النظرة ويسأل مع النفي في قوله:
ذكرتكمُ ذكر الصبا بعد عهده
…
قضى وطراً منه وليس بعائد
(فيا) نظرة لا تملك العين أختها
…
إلى الدار مِنْ رمل اللوى المتقاود
(أمَا) فارق الأحباب قبلي مفارق
…
ولا شيَّع الأظعان مثليَ واجد؟
ففي هذه الأبيات استخدم الإخبار ثم النداء ثم الاستفهام المنفي، وهذه صيغ لفظية وصنعة لفظية لا يحسُّ القارئ أنها صنعة؛ وهي صنعة الطبع التي تُقْنع الوجدان، ويتفنن الشريف ويفتن في مناجاته ومناداته الوجدانية فينادي وقفة الأحباب فيقول:(يا وقفة بوراء الليل أعهدها الخ) وينادي بؤس القرب القصير من الأحباب الذي يعقبه الفراق الطويل فيقول:
فيا بؤس للقرب الذي لا نذوقه
…
سوى ساعة ثم الفراق مدى الدهر
وينادي نفسه ويشجعها على تحمل آلام الحياة ومتاعبها فيقول:
يا نفس لا تهلكي يأساً ولا تدعي
…
لَوْكَ الشكائم حتى ينقضي العُمُرُ
وينادي الشباب فيقول:
فمن يك ناسياً عهداً فإني
…
لِعَهدِكَ يا شبابيَ غير ناسي
فإن العيش بعدك غير عيش
…
وإن الناس بينك غير ناس
وينادي بؤس نفسه في الغزل فيقول:
يا بؤس مقتنص الغزال طماعة
…
ذهب الغزال بلب ذاك القانص
كالدرة البيضاء حان ضياعها
…
مِنْ بَعْدِ ما ملأت يمين الغائص
ما كان قربك غير برق لامع
…
وَلَّى الغمام به وظل قالص
أغدو على أمل كحبك زائد
…
وأروح عن حظ كوصلك ناقص
وينادي الحبيب صاحب القلب الصحيح الخالي من الهوى فيقول:
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى
…
ألم الجوى من قلبيَ المصدوع
ولاحظ أنه لم يكتف بصيغة النداء في (يا) بل قرن إليها صيغة الاستفهام المنفي في قوله (أَمَا). وهي ألفاظ إذا جاءت في كتب النحو كانت ميتة، ولكنها هنا تثبت حياة كالسمك عند
إخراجه من الماء. ويخاطب الشريف السرحة ويرمز بها إلى من يحب فيقول:
إسْلمي يا سرحة الحي وإن كنت سحيقَهْ
أَتمنَّى لك أن تبقَيْ على النأي وريقَهْ
ثَمرٌ حَرَّمَ واشيكِ علينا أَن نذوقَهْ
وينادي بالهمزة في قصيدته المطربة فيقول:
أمعيني على بلوغ الأماني
…
وشفائي من غلتي واشتياقي
وينادي طائر البان في قصيدته المشهورة فيقول:
يا طائر البان غِرِّيداً على فننٍ
…
ما هاج نوحك لي يا طائر البان!
(هل أنت مُبْلغُ من هام الفؤاد به. . . الخ)
فانظر إلى أثر (يا) و (ما) و (هل)، وإلى تلك الصنعة اللفظية التي تقنع الوجدان كل الإقناع. وقد يُقْنع الوجدان أيضاً بالمناجاة من غير أدوات النداء فيناجي الموطن والدار فيقول:
سكَنتُكِ والأيام بيضٌ كأنها
…
من الطيب في أثوابنا تتقلَّبُ
ويُعجبُنِي منك النسيمُ إذا سَرَى
…
أَلا كلُّ ما سَرَّى عن القلبِ مُعْجِبُ
ويقول:
كأنك قدمةَ الأمل المرَّجى
…
علَيَّ وطلعة الفرج القريب
ويقول:
وأهجركم هجر الخليِّ وأنتمُ
…
أعزُّ على عينيَّ من طارق الكرى
ويقول:
وإني لأقوى ما أكون طماعةً
…
إذا كذبت فيك المنى والمطامع
ويقول في قصيدة مطربة:
فإنْ لم تكن عندي كسمعي وناظري
…
فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني
وإنك أحلى في فؤادي من الكرى
…
وأعذب طعماً في فؤادي من الأمن
ويناجي أيضاً مناجاة وجدانية فيقول:
أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهم
…
مثل القذى مانعاً عيني من الوسن
ويقول:
فقلت نعم لم تسمع الأذن دعوة
…
بَلَى إن قلبي سامع وجناني
وتراه يستخدم الاستفهام استخداماً وجدانياً مطرباً كإطراب ندائه الوجداني فيقول:
هل تذكر الزمنَ الأنيقَ وعيشنا
…
يحلو على مُتَأَمِّل ومذاقِ؟
ولياليَ الصبوات وهي قصائر
…
خطف الوميض بعارضِ مبراق؟
ويستفهم بأين ويناجي في قصيدته في ديار الحيرة، وهي من الوصف الوجداني المؤثر، ومن الشعر الذي ينبغي أن يختار له كلما اختير له شعر وجداني ويقول في مطلعها:
أين بانوك أيها الحيرة البي
…
ضاء والموطئون منك الديارا؟
(للمقال بقية)
عبد الرحمن شكري
لم الفرار إلى هنالك؟
للدكتور بشر فارس
لست بسليم أية سلامة حتى إني أُعرض عن الاستشفاء، ولكني لا أرحل صيف كل سنةٍ إلى أوربة رغبة في معالجة كبد أو مراقبة قلب. ولست ممن يهوى الحر والسَّموم، ولكني لا أرحل طرباً إلى (النسيم العليل)(متى يموت هذا التعبير وأخواته، يا أيها الناس؟!). ولست من يحب أن يقال فيه: (هذا رجل يعود من أوربة)
ولكني أرحل إليها. . . بل أَفر إليها.
مما وممن؟
أتصافيني فأصارحك؟
أفر من مصر ثم مني. . . ومنك.
أفر من مصر لأنَّ لها من نفسي موضعاً عزيزاً. ألم يتفق لك (أعانك الله على مصاحبة النساء!) أن تمل صحبة المرأة التي تخصها بوثبات ودك، وترعاها بلفتات طرفك، وتحيطها بنبضات قلبك (ولعله باقٍ على خفقانه)؟ نهاية الحب بغض أو عراك. ولا بدَّ من القطيعة لصيانة الشوق؛ والشوق نشاط، والنشاط حياة
بيني وبين مصر مغاضبة. أريدها أن تقدم رِجلاً عازمة إذا مضت قُدُماً وهي تأبى إلا أن ترتاب في قدر الخطوة التي جرؤت عليها، كأن الموضع الذي تخطته فردوس (مِلتن). وكثيراً ما تنتقم من الرِجل التي تقدمت بالاستواء في وقفتها أو (معاذ الله!) بالإدبار: نُصب ماثل في عرض الطريق والخلق من خلفه يتأملون وأَعينهم يُدَغْدِغها النعاس!
لا نزال نحن المصريين نركب قطاراً يذهب بنا ويجئ من موضع منظور إلى آخر معلوم، فتارة يمهل في محطة قائمة في أول (الخط) وأخرى في محطة في آخره أو منتصفه. وأما الذي يلي الموضعين شمالاً وجنوباً فغير واقع بعد في دليل (السكة الحديدية).
هذا الصداع الذي بين التوثب والتقبض يفتح باباً عريضاً لأسباب المناقضة والتمزق، وألوان المناوأة والتشيع، ثم يروِّج البضاعة الخفيفة على صنوفها ويُدخل الغرور في أنفس أصحابها. فتضيع الموازين وتفتر العزائم الصادقة ويزيغ حكم الجمهور.
وحبي الثقافة مثل على ذلك.
الثقافة هنالك (إلا في البلدان التي يسوسها حاكم بأمره متحمس) واحدة، لأن برنامج التعليم مجرىً على منهاج واحد. فلا فرق بين قس وزنديق من حيث القابلية الذهنية، أعني من حيث إدراك الأمور. أما تأويل الأمور وحكاية رفضها وقبولها فمما يرجع إلى وجهة النظر وميل النفس. ثم لا فرق بين صانع لم يأخذ من العلم إلا طرفاً، وكاتب كشفت له الثقافة عن أدق أسرارها، سوى أن هذا ذهب في التحصيل أبعد من ذاك.
ثقافة معينة أسبابها، واضحة معالمها، تتسع الحين بعد الحين باتساع مجال العلم، ثم مرسومة على قدّ أذهان أهلها.
ومن نتائج هذه الثقافة أن الفكر يظفر بحرية لا تعرف القيد وأن القلم يجري على هواه. فإذا أصاب المنشئ عيباً عالن به، وإذا رأى رأياً بثه غير هياب. فلا تراه يداور في الكتابة أو يتنصل مما كتب. وإذا انتهى العالم ببحثه إلى حقيقة تصرع القضايا المألوفة جهر بها مطمئن الجانب. وإذا بدا لناقد أن يقول قولاً في كتاب أو عمل متصل بشئون التهذيب دونه من دون أن يرقب الرضى أو يخشى السخط.
وتعليل ذلك أن الثقافة هناك منفصلة من الدين ومنزهة عن السياسة. الثقافة مدارها العقل، أما الدين فأمر إيمان، وأما السياسة فمسألة هوى. وكلما بطشت السياسة بالثقافة ألجمتها؛ وكلما مشى إليها الدين حوّلها إلى مجراه وأرساها عند شطئه.
ومن نتائج هذه الثقافة أن برنامج التعليم يقصد إلى تهذيب ملكة التفكير لا إلى حشو خلايا الذهن. فالمتأدب هنالك يطلب القراءة المفيدة لا القراءة المسلية؛ والمنجذب إلى المسرح حقاً يرغب في المسرحيات التي تقوم عنده مقام غذاء لا تلك التي تهز أعصابه كأنها صورة من الصور المتحركة؛ والدائب على قراءة النقد ينتظر حكماً معتدلاً يبذل له شيئاً من الأمر حتى يستوي له رأي لا إطراءً مفرطاً أو ذماً مقيماً؛ وطالب العلم إنما يأخذ أساليب التحصيل والاجتهاد رجاء أن يكب على البحث فيما يأتي من الزمان وهو جد عارف أن (مائدة الثقافة لا تقبل طفيلياً).
ومن خصائص هذه الثقافة أن كل فرد من أهل الأدب يعرف ما له وما عليه. فلا ترى المطلع يهيم على الإنشاء والنقد، ولا القصصي يقبل على كتابة الرسائل الفلسفية، ولا الصحافي يتعرض لنقد المسارح ومعارض الصور، ولا الدعي يغير على مؤلفات غيره
فينتحلها أو يسلخها أو يمسخها؛ ثم لا ترى الناقد المعتز بصناعته الوفي لها يُهمل الكتب الخارجية من المطابع لأن أصحابها من المحدثين، أو لأنهم غير متعصبين له، أو لأنهم أتوا بشيء لم يتوقعه.
ومن خصائص هذه الثقافة أنها تنشئ مُثلاً عليا، فالشاعر - مثلاً - يُكرم قريحته أن تفيض بما قاله غيره سواء من باب السطو أو من باب التقليد؛ ثم إنه - إلا في النادر النادر - يعف عن النظم لرغبة أو رهبة؛ ثم إنه يحاول ما استطاع أن يميز شعره من شعر أصحابه، ولا يبلغ ذلك إلا إذا استخرج من وليجة نفسه كنوزها فلا تهويل ولا جلجلة!
تلك أمثال من صدق الثقافة هنالك. وإنما صدقها يرجع إلى وحدتها واستقرارها وسهر أصحاب الأمر عليها. ومن الأمثلة على سهر القوم عليها أن الجوائز والمكافآت الموقوفة عليها إنما تجري على طريقة مرضية. وقصة ذلك أنها مبذولة للمنشئين الحق ولا سيما المحدثين منهم على أن يؤلفوا كتباً لها شأنها لا لموظفين بينهم وبين الأدب المحض شقاق على الغالب، ولا لأصدقاء وأعوان، وأنها بين أيدي حكام لهم - على الأقل! - دراية بما يفصلون فيه.
وإليك مثلاً آخر: إن شؤون الثقافة العامة لا تُقضى بين جدران وزارة المعارف وفي بهو الجامعة فقط (كأنما الفطنة حصرت في عقول فئة من الموظفين، والعلم جُمع في صدور نفر من الأساتذة). إن حق الأدباء والمنشئين وأصحاب المجلات الرفيعة في معالجة شؤون الثقافة العامة ليس دون حق أولئك الأساتذة والموظفين.
بقي أن القوم يضعون صاحب الشأن في موضعه، ويستثمرون ما يجب استثماره، ثم ينبذون من يتوسل بغير الكفاية ويستهزئون بورم الألقاب وطنين الأسماء.
تلك صبغة الثقافة هنالك. وليس معنى هذا أنها صافية كل الصفاء، فالخلق هنالك بشر. إلا أن مبادئها سليمة ومجدية.
بشر فارس
أغرب ما رأيت في حياتي
للدكتور زكي مبارك
أنا متهمٌ بالعقل ومتهمٌ بالجنون. فمن وصفني بالعقل فهو متلطف، ومن وصفني بالجنون فهو مسرف. لأني في حقيقة أمري إنسان يعيش بثورة العواطف فوق ما يعيش بقوة العقل، وهي حالة تجعل أمري وسطاً بين العقل والجنون.
والتوفيق الذي ظفرت به في حياتي العلمية مدينٌ لحياتي الوجدانية؛ فقوة الوجدان هي التي حملتني على أن أستقتل في الدراسات الأدبية والفلسفية. وقد يأتي يوم أعترف فيه بالأسباب الوجدانية التي جعلت عقلي يتفوق إلى أبعد حدود التفوق في مثل كتاب النثر الفني أو كتاب التصوف الإسلامي.
وهذه الغرابة في تكوين عقلي وقلبي هي التي تحملني على الجرأة في تدوين هذا الحديث، وهو حديث كنت أفتضح به أشنع افتضاح لو نشرتُه قبل سنتين أو ثلاث، يوم كان لي خصوم يسرهم أن تحاط حياتي بالأقاويل والأراجيف.
أما اليوم وقد قل خصومي بحيث لا يزيدون عن ألف أو ألفين، فأنا أنشر هذا الحديث بلا تهيب ولا تخوف، وليقل من شاء ما شاء.
كنت حين انتسبت إلى جامعة باريس أقضي أربعة أشهر من كل سنة في مدينة النور، ثم أعود إلى وطني لأجمع من الصحافة والتدريس ما أستطيع به الرجوع إلى باريس من جديد. ودام ذلك بضع سنين، ثم عرفت إني لن أصل إلى غرضي إلا إذا قررت بطريقة حاسمة ألا أفارق باريس إلا في أحد حالين: النصر أو الموت.
وكانت الإقامة الدائمة في باريس تبدو من المستحيلات، لأن أبي رحمه الله لم يكن يقدر على إمدادي بكل ما أحتاج إليه. وكان ما ورثته عن أمي طيب الله ثراها لا يزيد عن بضعة قراريط. وكانت زوجتي أفقر مني؛ ولم يكن لي في الحكومة المصرية عمٌّ ولا خال.
وفي تلك الظلمات استطعت أن أتفق مع الأستاذ عبد القادر حمزة على مراسلة البلاغ من باريس بمرتب قدره خمسة عشر جنيهاً، فتوكلت على الله وقررت الاعتكاف بالقبلة القديمة في السوربون.
ولكن مراسلة البلاغ من باريس لم تكن عملاً ينفع إلا في حال واحد: هو أن يشعر صاحب
البلاغ بأني أقدم إليه محصولاً أدبياً ينقل القراء من حال إلى أحوال، فقد كان الأستاذ عبد القادر حمزة اشتهر بين أصحاب الجرائد بأنه يحسن الاعتذار إلى من يريد الاستغناء عنهم من المحررين والمخبرين والمراسلين؛ وكنت جربت اعتذاراته الرقيقة قبل ذلك حين كنت أحرر في البلاغ الأسبوعي سنة 1926. ولكن اعتذاراته في ذلك الوقت لم تكن تؤذيني لأني كنت مدرساً في الجامعة المصرية، وكنت بفضل تلك الوظيفة من المياسير.
ماذا أصنع في مراسلة البلاغ من باريس؟
كنت أستطيع أن أرسل إليه مقالات في الأدب العربي، وأنا من أقطابه بلا جدال، ولكن إرسال مقالات عن الأدب العربي من باريس كان ضرباً من السخف يقترفه من يراسل البلاغ من باريس. وهل يعيش الأديب في باريس ليحدث الناس عن ابن المقفع وابن العميد؟!.
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع لأنجو من تسلُّم خطاب رقيق من خطابات الاعتذار التي يجيدها صاحب البلاغ؟ ماذا أصنع لأظفر بخمسة عشر جنيهاً أضيفها إلى المبالغ الضئيلة التي أكسبها من الدروس الخصوصية التي أعطيها للطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية من أعضاء البعثات، والنقود التافهة التي آخذها في مقابل المساعدة التي أؤديها لبعض المستشرقين الذين يهمهم أن ينقلوا النصوص العربية إلى اللغة الفرنسية؟
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟
لم يكن أمامي إلا مسلكٌ واحد: هو الاندماج المطلق في باريس لأحدث قراء البلاغ بأحاديث منتزعة من الحياة الواقعية في باريس.
وما هي إلا أسابيع حتى عرف صاحب البلاغ أنه لن إلى رجل مثلي خطاب اعتذار، وحتى عرف قراء البلاغ أني أحدثهم بما لم يألفوه، وأن البلاغ لن يستغني أبداً عن صاحب (الحديث ذو شجون).
ولكن الانتصار في هذا الميدان له تكاليف
كان لا بد من الاتصال الدائم بأساتذة السوربون ومدرسة اللغات الشرقية لأظفر بما تساميت إليه من الألقاب العلمية
وكان لا بد من معاقرة الحياة في باريس لأنجح في مراسلة البلاغ
أما الأساتذة فالظفر بثقتهم سهل، لأني في الواقع من أصلح الناس لفهم ما أسمع من الخطب والمحاضرات، ولأني كنت بالفعل شاباً ناضجاً له في الأدب والفلسفة مذاهب وآراء
الصعوبة كل الصعوبة، والعسر كل العسر، هو في افتراع باريس لأصل إلى أوهام وحقائق أقيّد بها أذواق قراء البلاغ
وكيف أصل إلى هذا الغرض الجليل؟
هدتني الفطرة إلى قضاء أوقات الفراغ في الملاهي والملاعب والمراقص والقهوات، فكنت أقضي في هذه النزهة الطريفة ساعات من النهار وساعات من الليل
كنتُ شاباً، ورحمة الله على شبابي، الشباب الذي بددتُه في طلب الحب والمجد
كنت أذرع باريس بقدمي لأخلق لمقالاتي جوًّا من الحقيقة لا من الخيال
وأعانني على ما أسمو إليه لسانٌ مرن في اللغة الفرنسية مرونة عجيبة تقدر على جذب من أحاور من أسراب الظباء
والفرنسيون يغفرون للرجل جميع الذنوب إذا أمدته العناية الإلهية بلسان فصيح
وكان لي في باريس ثلاث قهوات: قهوة صغيرة جدّاً في بولميش بجوار (قهوة الرحيل) التي كان يجلس فيها الدكتور طه حسين يوم كان طالباً في جامعة باريس
وكانت هذه القهوة الصغيرة مخصصة للمواعيد الغرامية، والتأملات الفلسفية، فكيف صارت اليوم؟ ليتني أعرف!
أما القهوتان الأخريان فهما الروتوند والدُّوم في حي مونبارناس
كيف كنتُ أصطبح وأغتبق بهاتين القهوتين؟
كان مفهوم عندي أن لا سبيل إلى معاقرة الحياة إلا في مونبارناس
وإنما كان ذلك لأني كنت أتهيب مونمارتر تهيباً يصل إلى الفزع والرعب، فقد تشاجرت فيها مع أحد الشبان الفجار في سنة 1927 وكاد اسمي يقيد في سجلات البوليس لولا لطف الله. وكانت هذه التجربة القاسية كافيةً لأن أقنع بالضلال في حي مونبارناس
وفي قهوة الدوم وقعت المأساة أو الملهاة التي أدونها في هذا الحديث:
دخلت ذات صباح فوجدت سيدة تطالع سِفر الوجود بعينين زرقاوين يندر أن يكون لهما شبيه أو مثيل
وجلستُ بالقرب من تلك السيدة عساني أنهب منها نظرة أو نظرتين أستعين بهما على إتمام بعض الفصول من كتاب (سحر العيون) الذي أرجو أن يظهر بعد قليل
وما هي إلا دقائق حتى تلاحظْنا برفق وعطف
ثم أشارت بأن أقترب فاقتربت
رباه! متى تعود أيامي؟
وبعد أن دار كأس الحديث نحو عشرين دقيقة عرفت أنها من البغايا
أعوذ بالله؛ أعوذ بالله، أعوذ بالله!!!
أمثل هذا لحسن يكون من نصيب الفَجَرة الأوباش؟
أتكون هذه الحسناء الفتانةُ شبيهةً بالشمس ينعم بضوئها من يشاء ولو كان من الخفافيش؟
أتكون هذه التحفة الفنية شبيهةً بكرائم الأنهار يشرب منها البهائم والدواب؟
أتكون هذه العيون السواحر من نصيب من يساعده القدر المخبول فيملأ جيبه بالدراهم ولو كان من الأغبياء؟
أتكون هذه الدُّمية شبيهةً بالحجر الأصم الذي تسجل عليه حوادث الأفّاقين؟
ليتني مت قبل أن أشهد ذلك المنظر الأليم!
ليتني مت قبل أن أعرف أن مثل ذلك الحسن يباع!
ألك يا رباه حكمة في إذلال هذه الروائع الفنية التي زينت بها الوجود؟
ارفع الحجاب مرة واحدة، يا رباه، لأعرف أسرار السياسة العالية التي تسوس بها مخلوقاتك!
وهجمتُ على تلك السيدة الجميلة بعنف فقالت:
اسمع أيها السيد، ليست الغواية من همي ولا من مناي. أنا امرأة شقية خدعها شاب مثلك باسم الحب، وكانت ثمرة الحب طفلاً هو اليوم تلميذ بمدرسة (. . .) وقد هجرني الحبيبُ والدُ الطفل وتركني وحدي أربيه وأرعاه، فأنا أتسول باسم الحب لأنفق على ذلك الطفل المسكين، إلى أن يظهر أبوه، إلى أن يظهر ذلك الوغد الذي هجر معشوقته وطفله منذ سبع سنين. فإن كنت تدعي الرجولة الصحيحة فتقدم لحمايتي ورعاية طفلي، وسترى كيف أجزيك عطفاً بعطف وإخلاصاً بإخلاص
وما كدت أسمع هذا القول حتى دارت الأرض تحت قدمي
ومن أين أنفق على هذه السيدة وعلى طفلها وليس لي من جريدة البلاغ ومن الدروس الخصوصية إلا مبلغ ضئيل من المال لا يزيد على ثلاثة آلاف من الفرنكات، والحياة قاسية أشد القسوة على الغرباء في باريس؟
ثم نظرت فرأيت هذه المرأة تعرض مشروعاً نبيلاً قد يرفع روحي بعد إسفاف. فصوبت بصري إليها وقلت: وكيف أضمن أن تتوبي عن حياة الرجس؟
فقالت في استحياء: إن لغرفتي مفتاحين!
فقلت: وما معنى ذلك؟
فقالت: لك مفتاح ولي مفتاح، فخذني لنفسك وراقبني كيف تشاء، فإن استطعت أن تشهد عليَّ ما يريب بعد اليوم فاقتلني. والمهم أيها السيد أن ينجو طفلي من الجهل ومن الجوع
وفي تلك اللحظة تذكرت عبد المجيد فغلبني الدمع
تذكرت أني تركت في مصر الجديدة أطفالاً منهم عبد المجيد الذي كان يزعزع كياني حين يقول (بابا)
- وما اسم ابنك يا سيدة؟
- اسمه موريس
- هلم بنا إلى التسليم على موريس!
قد أنسى كل شيء، ولكني لن أنسى طلعة موريس
قد ينسيني الموت جميع ما حفظت من اللغة الفرنسية، ولكني سأذكر في قبري عبارة باقية في اللغة الفرنسية حين طلع موريس فقالت له أمه:
وتوهم الطفل أني أبوه فقبلني بحرارة والدموع في عينيه
-
-
واستأذنا مدير المدرسة فسلم إلينا الطفل ليقضي معنا ليلة في مباهج باريس
وسألني الطفل: أين كنت؟ فأخبرته أني توجهت إلى الشرق لزيارة القاهرة وبغداد وبيروت، واخترعت له أقاصيص تعجبه وتلهيه، ولم يفتني أن أحدثه عن أخبار الجن والعفاريت.
وفي تلك الليلة هجر الطفل صدر أمه وسكن إلى صدري لينام نوم السعداء
وفي تلك الليلة شعرت أن روحي ارتفع إلى أجواز السماء
كان موريس ورث عن أمه الفرنسية صفرة الشعر وزرقة العينين، وكان ورث عن أبيه الهولندي شمائل من السجاحة واللطف، وكان في جملته وتفصيله تحفة من تحف الوجود.
وقد وجد من عطفي وحناني كل ما يتمناه ويشتهيه، فانطلق يحدث أترابه في المدرسة بالنعيم الذي يلقاه في يومي الأحد والخميس
وفرحت مرجريت بما صارت إليه من راحة البال وصفاء النفس بعد الهيام الأثيم بأحياء باريس
ومضت تقترح ما تشاء من المغامرات فعلمتني الرقص وطوفت بي على المكنونات من صناديق الليل
وبفضل مرجريت عرفت من خبايا باريس ما لا يعرف الشياطين ولم نكتف بذلك، بل نقلتني إلى رُوَان والهافر وأطلعتني على المستور من شواطئ المانش، وأقامت معي في الضواحي النائية أسابيع
والله وحده يعلم كيف عاشرتُ تلك الحسناء، فلو أني قلت إني كنت في حبها من الأطهار لما صدقني مخلوق، لأن سمعتي تعرضتْ لأخطار كثيرة بسبب التهالك على أخبار الملاح، ولكن الواقع أني كنت في صحبة تلك السيدة رجلاً نبيلاً. وأجمل ما نلتُ منها لم يزد عن قُبلة شهية طبعْتها على جبيني حين أخبرتها أني متأهل ولي أبناء. وقد قهرتني على قبول هدية من العطر و (الكريم) لأرسلها إلى ابنتي أو زوجتي، وقد قبلت الهدية ثم ألقيتها خِفيةً في نهر السين
كانت مرجريت متعِبةً إلى أبعد الحدود
قالت ذات يوم: أنت يا دكتور معرض للسمنة لكثرة ما تشرب من البيرة
فقلت: هذا حق!
فقالت: ما رأيك في سياحة على الأقدام إلى ليون؟
فقلت: وفي كم يوم نصل على الأقدام إلى ليون؟
فقالت: في نحو أسبوع
فحملنا أثقالنا واتجهنا نحو ليون ماشيَيْن
وبعد يوم واحد تعبتُ، فحملتها على الرجوع بالقطار إلى باريس
ليتني أطعت مرجريت وذهبت ماشياً إلى ليون لأعرف كيف يعيش الناس في الأقاليم الفرنسية، ولأجدد الأنس بصحبة مرجريت يوم همنا على وجوهنا في الحقول النورمندية!
كانت مرجريت ضجرت من حياة الفتون
وكنتُ ضجرتُ من حياة الفتون
وكنا نتشهي أن نعرف معنى التصوف في الحب، وكيف لا نتصوف في الحب وقلوبنا معمورة بحب الطفل العزيز موريس؟
وبعد أن دام هذا النعيم النبيل خمسة عشر شهراً وصلتُ إلى ما أريد في امتحانات مدرسة اللغات الشرقية وامتحانات السوربون، وصممت على الرجوع إلى أهلي وأبنائي، ولم يكن بدٌّ من توديع مرجريت وموريس
وأي توديع؟!
كان من الواجب أن أردَّ المفتاح إلى مرجريت، فرفضتْ والدمع في عينيها الزرقاوين، وقالت: احفظ هذا المفتاح فقد تصل على حين غفلة إلى باريس
وكانت مرجريت لا تزال معرَّضة للفقر والبؤس فوعدتها بإرسال سبعمائة فرنك في كل شهر لتستطيع الإنفاق على نفسها وعلى ابنها الغالي، وأنا أفِي إذا وعدتُ
كانت الدنيا في ذلك العهد لا تخيفني، وهل يخاف من يرجع مزوَّداً بأعظم الألقاب من باريس؟
ولكني لم أكد أصل إلى مصر حتى عُطلت جريدة البلاغ
فأرسلت إلى مرجريت أستعفيها مما وعدتُ، فكتبت تصفح عني وتسأل الله أن يفتح لي أبواب الرزق
وما هي إلا مدة قصيرة حتى استجاب الله لدعوة مرجريت فكنت آخذ من الجامعة الأمريكية ثمانية وعشرين جنيهاً، ومن اللِيسيه اثنين وعشرين جنيهاً، ومن البلاغ خمسة عشر جنيهاً بغض المطر عما كنت آخذه من المكتبة التجارية ومن مجلة الهلال
ورأيت أن أزيد مرتب مرجريت فكنت أرسل إليها في كل شهر ألف فرنك
وعرف موريس فضل (أبيه) فكان يرسل إليَّ في كل أسبوع خطابين
حرسك الله يا موريس وكتب لك التوفيق!
وفي سنة 1933 ذهبت إلى باريس لأحضر مؤتمر (الميسيون لاييك) نائباً عن أساتذة اللغة العربية بمعهد الليسيه. ذهبت ومعي المفتاح لأزور مرجريت ولكني استكبرت عن زيارة مرجريت، وهل يفكر الأساتذة الكبار في العطف على امرأة نكبتْها المقادير؟
ولما رجعتُ من المؤتمر نقصتُ مرتب مرجريت من ألف فرنك إلى سبعمائة فرنك، واعتذرت بأن مواردي نقصتْ وأني لم أعد أملك غير التدريس بالليسيه والتحرير في البلاغ
فكتبتْ مرجريت تقول إنها ترضى مني بأن أعترف أنها استطاعت مرةً واحدة أن تدخل النور إلى حياتي
أعترف يا مرجريت بأنك بددت الظلمات في حياتي
طال العهد على لقاء مرجريت، وطال العهد على لقاء موريس وحملني لؤم الطبع على التخلص من مرجريت وموريس، وهل كانت مرجريت زوجتي؟ وهل كان موريس ابني؟ وهل كنتُ أول شاب أطاع الغواية في باريس؟ يجب أن أقطع المرتب الذي خصصتهُ لمرجريت وموريس، ولكن كيف؟
لذلك تاريخ سنراه في الأسبوع المقبل
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
وِرد الصباح
للدكتور عبد الوهاب عزام
تنفّس الصبح في غسق الليل، ولاحت غرته في جنح السَّحَر، والنور يسيل من ربى المشرق قليلاً قليلاً، ويولد اليوم الجديد
رب فأضئ عقلي بالهدى، ورغّب نفسي في الحق والخير، واملأ قلبي بالأمل، وقوّ يدي على العمل. واشرح صدري. واشدد أزري، واشحذ عزمي لليوم الجديد
ربّ! قد طُويت من عمري صفحات ونشرت اليوم صفحة، فاجعل صفحتي هذه أوعى للخير وأخلى من الشر، وزيّنها بالحق، وبرئها من الباطل، واجعل فاتحتها وخاتمتها الإخلاص لك، والعمل لوجهك
ربّ! إن عقلي يُخدع بالوهم، ويقنع بالظن، ويلبس الحق بالباطل. اللهم فاهدني وثبتني، واجعل البرهان الواضح حجتي، والحق المبين عقيدتي. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب
ربّ! إن قلبي يشوبه الهوى، ويستهويه الباطل. فخلص اللهم قلبي من الأهواء، واملأه بحب الحق إنك أنت الحق المبين
ربّ! إن نفسي تنزع إلى أن تتزيّد فيما لها، وتبخس ما لغيرها، وتُحمد بما لم تفعل، وتغمط غيرها ما فعل. اللهم فاجعل حق غيري أحبّ إليّ من باطلي، ورضاك آثر عندي من كل شيء
رب، إن الناس يركنون إلى الدعة، ويُعذّرون في الواجب، فاجعلني دائباً على العمل لا أملّ، قوّاماً بالواجب لا أعتلّ
رب، إن الناس ينزعون إلى الظلم، ويجنحون إلى المحاباة، ويرضون أنفسهم بباطل يزينونه وحق ينكرونه. اللهم فبغض إليّ الظلم والمحاباة، واجعل العدل والحق ملء نفسي وقلبي وقولي وفعلي
رب، إن نفسي تنزع إلى إرضاء الأقوياء والاستهانة بالضعفاء. اللهم فاجعل الناس سواسية عندي، واجعلني حرباً على الأقوياء المبطلين، نصيراً للضعفاء المحقين، لا تطبَّبني في الحق رغبة ولا رهبة، ولا يأخذني في الصدق خوف ولا رجاء
اللهم إن الناس استهوتهم الشهوات وعبّدتهم المطامع؛ تُضلهم الكبرياء فيصدفون عن الحق، وتضرعهم الذّلة فيخنعون للباطل. فاجعلني اللهم متواضعاً لا تزهوني نخوة، وقوياً لا تأسرني شهوة، وحراً لا يعبِّدني مطمع. واملأ قلبي كبراً على السفاسف، وأنفة من الدنايا
اللهم وقد اشتعلت القلوب أحقاداً، وامتلأت النفوس ضغائن، وتقطعت بين الناس الأواصر، وفرّق بينهم الحسد، فاملأ قلبي محبة ومودة، وبرئني من الحسد والحقد، واجعلني أطهر من أن أحقد وأكرم من أن أحسد
اللهم إِن القلوب قست، والنفوس أجدبت، والوجوه وقحت، فاملأ قلبي رحمة لكل إنسان، ونفسي شفقة على كل حيوان، وأدبني بأدبك، واجعل فكري وقولي وفعلي براً ورحمة وإحساناً
اللهم واجعلني طماحاً هماماً لا تحد طموحي في الحق غاية، ولا ينوء بهمتي في الخير مطلب
اللهم واجعلني في الحق جريئاً لا أخاف، ومقداماً لا أحجم، ومحارباً لا أجبن، واجعلني عدواً للباطل جريئاً عليه، محباً للحق خاضعاً له
اللهم اجعل لي من ذكرك قرباً وأنساً ورجاء وثباتاً. اللهم إني أستقبل يومي مؤمناً بك متوكلاً عليك، مخلصاً لك، مجاهداً فيك، راغباً إليك مستمداً منك
فأضئ عقلي بالهدى، واملأ قلبي بالأمل، ورغّب نفسي في الحق والخير، واشرح صدري، واشدد أزري واشحذ عزمي لليوم الجديد
سبحانك لا إله إلا أنت الحق المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
عبد الوهاب عزام
تحية الرسالة في عامها السابع
للأستاذ محمود الخفيف
أَشْهى مِنَ الوَرْدِ ومن نشْرِهِ
…
ولَمحَةِ الفرْدَوْس من سِحْرِهِ
ومن رُوَاءِ الكونِ مُسْتَشرِفاً
…
للرَّائع الْمنهَلِّ من فَجْرِهِ
وَمِن جبين الصُّبح في مَهْدِهِ
…
وذَائِبُ الطَّلِّ على ثَغْرِه
تُجَاوِبُ الأَنْفُسُ مَسْحُورَةً
…
سوَاجِعَ الأَبكار من طَيْرِهِ
ومن رُؤَى الحُلْمِ وأَطْيَافِهِ
…
وَيقْظَةِ الرُّوح على ذِكْرِهِ
ومن سِمَات العيد في ضَحْوَةٍ
…
تَزِيدُهُ بشْراً على بشرِهِ
صَحِيفَةُ المشْرق في جَلْوَةٍ
…
تُرِيك معنى البَهْرِ من سِرِّهِ
رِسَالةُ الجيلِ على وَمْضِها
…
يَسْتَقْبِلُ النَّابهَ من عَصرِهِ
صَبَاحُهَا اللَّمًاحُ يُوحي لَهُ
…
فَيَنْشَقُ الآمالَ في عِطْرِهِ
يَلْتَفِتُ الشرقُ إلى عيدِها
…
فيَسْتَثِيرُ العيدُ من فخره
تهزُّه من أَمْسِهِ لَمْحَةٌ
…
تَبْتَعِثُ الذَّاهِبَ من كِبْرِهِ
ويزْدَهيهِ الْجِدُّ في يومِهِ
…
وَوَثْبَةُ الْمُفْلِت من أَسْرِهِ
يسابقُ العصرَ إلى غاية
…
تُنْسِيهِ ما يلْقَاهُ في سيره
سِيري عروسَ الشرق مَوْمُوقة
…
على هُدى السَّالِفِ من دهرهِ
ثوري على الجهْلِ وأَسبَابه
…
وحَرِّرِي الأعناق من نِيرِه
وَجَنِّبي المشرِقَ ما غرَّهُ
…
من زُخْرُفَ العَصْرِ ومن زُوره
ومن سَرَابٍ ظَنَّهُ كَوْثراً
…
لو لم يكُنْ صَدْيَانَ لم يُغْرِه
ومَزِّقِي الوَهْمَ فكَمْ مَسَّهُ
…
فبَاتَ مَغْلُوباً على أمْرِهِ
ما كانَ لوْلا الذُّلُّ يرضى بما
…
أَسْدَلَهُ البَاطِلُ من سِتْرِهِ
هاتي من الشرقِ أحادِيثَهُ
…
وأَيْقِظِي الذَّاهلَ من سُكْره
قُصِّي عليه الحق كيفَ انجَلَتْ
…
آيتُهُ الكبرى لَدَى بَدْرِه
وَحَدِّثِي الغَافِلَ عن مجده
…
عن (خالِد) الشرق وعن (عَمْرِه)
ويُمْنِ (هارونَ) وإقبَالِهِ
…
ومُلْكِ هارون على بُترِه
مِئْذَنَةُ الحق على صَوْتِها
…
لم يبْق ذو وَقْر على وَقْرِه
تَرن في المشرق أَصْدَاؤُها
…
من أرْبُعِ الهند إلى مِصْرِه
بغدادُ لا تنفكُّ تَهْفُو لها
…
كما هفَا الرُّوضُ إلى قَطْرِهِ
كمْ أطْلَعَتْ آفَاقُهَا أنجُماً
…
هُمْ في سمَاء الشرق من زُهْرِهِ
وجَارَةُ الوَادِي تَصُوغُ الهوى
…
عِقداً يغَارُ الزهْرِ من طُهْرِه
شبابُهَا الأحرارُ كم بينهم
…
من عُدَّةِ الجيل ومن ذُخْرِه
صحيفةُ المشرق قد أَلَّفَتْ
…
أشبَالَه الغُرَّ على نَصرِه
دِعامَةُ الفُصْحى وبُرهَانُها
…
تَدْعو إلى اللهِ على أمرِه
ما نَسِيَ الشرقُ لها عَزْمَهَا
…
في حُلْوِ ما تَلْقى وفي مُرِّهِ
ما حفِلَتْ يوماً بغير العلى
…
ولم تُجِب غِراً على هُجْره
كمْ نابه مدَّ لها كفهُ
…
بالرائق السلسال من فكره
وناهض لولا أياد لها
…
مَرَّ به العَصرُ ولم يدْرِه
وَسَاجِعٍ في ظِلِّهَا رَقْرَقَتْ
…
روائع الآياتِ من شِعْره
وناثِرْ بنَانُهُ سَاحِرُ
…
تَرَى بديعَ الوشْى في نَثْرِه
ومُبْدِعٍ في الفن هَشَّتْ له
…
فجاَء بالمُعْجِب من بِكْره
ومُلْهَم يحكي عهود الهوى
…
فَتَسْكَر الألبابُ من خَمْرِه
صحيفةٌ يَبْسُطُهَا أرْوَعٌ
…
في سِرِّهِ الصدقُ وفي جَهْرِهِ
ألقت له الفصحى مقالِيدَهَا
…
فجاَء بالمُعْجِزِ من دُرِّهِ
كم غايَةٍ في الفن دانَتْ له
…
طوعاً وقَدْ عَزَّتْ عَلَى غيره
لا تَبلُغُ الأحْقادُ من نَفْسهِ
…
ولا ينالُ الغَدْرُ مِنْ صَبْرِهِ
لا عُسْرُهُ يثنيهِ عَن قَصدِهِ
…
ولا يُسيغُ الزَّهْوَ في يُسْرِهِ
حَيَاؤه أَجْمَلُ أوْصَافِهِ
…
ولا يَدِقُّ المكْرُ عنْ مَكْرِهِ
بيانُهُ سَمْحٌ إذا ساقه
…
لا يَنْفُذُ الغِلُّ إلى صَدْرِه
يَبْنِي عَلَى الأخْلاْقِ من مَجْدِهِ
…
ما تَعْجِزُ الأحداثُ عن قَهْرِهِ
لا زال يُولِيه الهُدى نورَه
…
وَتَرْفَعُ الأيَّامُ من قَدْرِه
الخفيف
وحي العام الجديد
إلى أين نسير
بين التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(أم ترى نحن هنا، كما يقول غرورنا لنلعب على مسرح الحياة
دورنا الخالد؟)
جوفروي
انتهى عام وبدأ عام جديد، وانتهت من قبل أعوام وبدأت أعوام جديدة، وستنتهي غداً أعوام لتبدأ من بعدها أعوام جديدة؛ فإلى أين نسير وإلى أي مصير؟ أتُرى ندور في حلقة مفرغة يتصل أولها بآخرها وآخرها بأولها، فلا يمضي عام إلا ويتلوه عام آخر، ولا ينقضي خلق إلا ويخلفه خلق آخر؟
لشد ما يحار الإنسان عندما يسأل نفسه هذا السؤال في مطلع كل عام ولشد ما يجد الحياة حوله لغزاً معضلاً يستعصي على الحل، ولا ينفرج في ناحية إلا ليتعقد ويضيق في النواحي الأخرى
ولقد وقف هذا الموقف بالأمس الأستاذ فراح يتساءل أمام تلاميذه (بالسربون) عن الغرض في حياتنا تحت الشمس، وعن معنى الدور الذي نلعبه على مسرح العالم. وراح يعدد الظروف التي تستثير في نفوسنا هذا الموضوع، والنظرات التي تلقيه على مسامعنا؛ ونحن نورد لك اليوم موجزاً لأقواله، ثم نعقب عليه بما نريد
يقول: (لا يكاد يصل الإنسان إلى هذا السؤال إلا أخيراً، ولكن مشاغل الحياة لا تلبث مع ذلك أن تصرفه عن التفكير فيه؛ والناس حياله سواء، عالمهم وجاهلهم، وغنيهم وفقيرهم، وسعيدهم وشقيهم؛ فليس من واحد منهم يصدمه حادث أليم إلا ويغيم على ذهنه ذلك السؤال المحزن (لماذا نحن هنا؟ وما معنى هذا الدور الذي نلعبه؟)
ثم نحن ندخل الدنيا ونفوسنا مليئة بالآمال والشهوات والرغبات، وتدفعنا هذه النفوس النهمة الجائعة إلى تحقيق إرادتها وسعادتها، فيقف العالم أمامنا ليحارب تلك الإرادة بكل ما
يستطيع ومن هنا نقاسي ألم الحرمان ونسخط على حياة وجدنا فيها نهمين نريد أن نشبع وتريد الأقدار أن نجوع!! ولكنا نميل مع ذلك إلى اتهام أنفسنا فنتحلى ونتخلق بالصبر والقناعة والرضى إلى أن تنحط علينا كارثة هائلة، فنفتح أعيننا من جديد لنرى آمالنا المتلاشية، ولنصرخ من أعماق قلوبنا المجروحة، وعقولنا المتزلزلة، ولنتساءل في لوعة وأنين:(ترى لِمَ نحن هنا على ظهر الأرض؟)
وليس لمآسي الحياة وحدها الإصبع الأكبر في ذلك السؤال، فإن لسعادتها أيضاً إصبعاً بل أصابع كثيرة. ذلك أنا نسعد في المبدأ عندما نحقق رغبة من رغباتنا، ولكن إذا ظلت سعادتنا وقتاً طويلاً - وقلما يحدث هذا - فسرعان ما تخبو نارها، وتنمحي روعتها، فيقل شعورنا بها شيئاً فشيئاً، وينقلب على مر الأيام إلى كره فثورة وسخط لأنا لا نجدها حينذاك كافية لمطامعنا ومحققة لجميع آمالنا، من ثَمَّ نرى الحياة عاجزة عن إشباع رغبة السعادة فينا، فنشعر بأن نشعر مسراتنا أوهام، ورغباتنا فخاخ نحن أول من يقع فيها. ولا نستطيع أن نتهم أنفسنا هنا كأن نتهمها أمام المآسي لأن السعادة بين أيدينا؟!
ثم نحن نبدو في المدن كأعظم المخلوقات فنمتلئ شجاعة وثقة وغروراً، ولكن عندما نخرج إلى الطبيعة المكشوفة، ونجد أنفسنا وحيدين أمام سماء لا نهاية، وأفق تتلوه آفاق، وجبال شامخة هائلة، ونجوم عديدة لا تحصى، وقرى تخفى في غابات، وغابات تختفي في فضاء الطبيعة، بل وعندما نرى أن هذه الدنيا تسبح في عوالم الكون مع عوالم أخرى كثيرة ونحن حيالها لا شيء، ألا ننسى حينذاك سعادتنا وشقاءنا، ونروح متسائلين:(أين نحن من العالم وما دورنا فيه؟)
وحينما ننظر في تاريخ البشرية، ونعرف أنها جاءت عارية أو شبه عارية، ثم قامت منها شعوب، وقام بين هذه الشعوب نزاع فساد الفرس أولاً ثم الإغريق، ثم الرومان، ثم البرابرة؛ بل وحينما نذهب إلى الأصقاع المجهولة في شمال آسيا وأواسط أفريقيا وأمريكا، وجزر المحيط، لنجد فيها قوماً يختلفون في اللغة والفكر ولا يعرفون مثلنا لماذا خلقوا ولا من أين أتوا؛ عندما ننظر في ذلك التاريخ البشري بليله البهيم، وفي الأجناس كفاحها وصراعها، ألا نشعر بغموض هائل يكتنفنا من كل ناحية؟ أما هذه الإنسانية التي نحن جزء منها؟ من أين أتت؟ وأيان تذهب؟ أترى هي كأعشاب الأرض وأشجار الغابات تخرج من
التراب وإليه تعود؟ أم ترى هي هنا - كما يقول غرورها - لنلعب على مسرح الحياة دورها الخالد المحتوم؟ وأي دور ذاك وما عسى أن يكون؟ لقد سقطت المدنية الشرقية تحت أقدام المدنية اليونانية، كما سقطت المدنية اليونانية تحت أقدام المدنية الرومانية، وكما سقطت هذه الأخيرة تحت أقدام المدنية الجرمانية، فترى أي مصير سيكون لهذه الأخيرة؟ أهو الانتصار المحتوم ثم السقوط كما حدث لسابقتها؟ وماذا يكون دور الإنسانية إذاً؟ أهو الدوران في حلقة مفرغة؟ أم هو الترقي والتقدم؟ وأين الترقي والتقدم من وحشية الحروب وفظاعتها؟ وهكذا يحار الإنسان كثيراً وسط هذه الغيوم فيتساءل عبثاً عن القانون الذي يسوق قطيع البشرية بهراوته من أصل مجهول إلى مصير مجهول!
ثم (العلم) بماذا يحدثنا؟ إنه يقول إننا مجرد حلقة في سلسلة المخلوقات!؛ فالأرض قد استُعمرت في المبدأ بالنباتات الضخمة التي لا تقارن بها نباتاتنا، والتي لم تكن لتظل بأوراقها الواسعة العريضة كائناً ما! ثم جاءت ثورة جارفة هدمت تلك الخليقة الأولى كما لو كان خلقها عبثاً، وأحلت محلها خليقة أخرى هي الزواحف والأسماك!! ثم جاءت من بعد هذه خليقة ذوات الأربع الهائلة فمهدت الطريق للإنسان الذي طفا أخيراً على السطح كحلقة في سلسلة سابقة! وقد عاشت كل خليقة من هذه الخلائق السابقة على الأرض كما نعيش الآن، فلم لا يأتي يوم ننقرض فيه وتصبح عظامنا أمام الخلائق الجديدة مجرد حفريات ضخمة شائهة تحويها المتاحف وتعجب منها العقول؟؟ إننا حلقة بين حلقات مجهولة ناقصة، وقد خرجت هذه الحلقة لتتحطم بدورها كما تحطمت أخوات لها من قبل، فمن نحن إذاً؟ وأي حق لنا في الأمل والغرور؟؟
في كل مكان إذاً حدود، وفي كل مكان ظلام وعجز وألغاز تتلو ألغازاً! ونحن نجد أنفسنا متسائلين وحائرين كلما وقعنا تحت تأثير هذه الظروف، وكم منا قد انتحر إزاء هذا المشكل الكبير!، وكم منا قد لجأ للعقائد التقليدية ليقنع بما فيها من أقوال ووعود، ولكن خيط حياتنا لا يفتأ يهتز ويتذبذب كلما تساءلنا في حزن وأسى عن أصلنا ودورنا ومصيرنا المحتوم!!
ولكن الأمر يبدو بالرغم من ذلك كله أهون مما نظن! وذلك لأن الحياة والموت، والسعادة والشقاء، وعِظم الخليقة وظلام التاريخ؛ كل ذلك وإن أحزن القلب والعقل والضمير فهو يتحدث إلينا بألف لسان ليثير ثورة جارفة تصد اليأس. وتذود النوم، وتدفع الإنسانية إلى
البحث الشاق الطويل!!.
إلى البحث الشاق الطويل؟ أجل إلى البحث الشاق الطويل! وإذا كانت الأديان قد وفرت علينا مشقة الحل فما ينبغي لعقولنا النورانية أن تقف عند حد أو أن تقنع بالقليل. ولن يضيرنا أن نكون حلقة في سلسلة مجهولة الأطراف، فحسبنا أننا نعيش لنلعب دورنا المحتوم في الحلقة التي نعيش فيها، ولن يضيرنا أن نتعرض في حياتنا للكوارث والآلام، فحسبنا أن نعلم أن قانون الحياة صارم على الجميع وأن مجدنا وعظمتنا في التحمل والكفاح والصراع أكثر مما هما في الدعة والسرور واللين. ومهما يكن شأننا ضئيلاً في الكون الهائل المخيف فلا شك أننا نستطيع أن نسمو بعقولنا وقلوبنا إلى عليين، وأن ندرك كل عام من أسرار الحياة والوجود ما يقيم لنا وزناً في العالم المجهول. وإذا كان العلم يشير إلى سلسلة متدرجة مترقية في المخلوقات فلنسأل أين كمالنا نحن البشر وما عسى أن يكون دورنا الحق في الوجود؟ وإذا كانت ميزتنا الكبرى قائمة في (العقل) كما يقول أرسطو فلا مندوحة لنا من جعله يمتد بأشعته إلى سر الحياة والكون ليأتينا منه كل عام بجديد في نواحي ذلك الثالوث المقدس، ثالوث الحق والخير والجمال. ومهما يكن من شأن النكوص العارض في خط السير فلا شك أننا نقدر جميعا تلك الخطوات الهائلة التي قطعتها الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى اليوم نحو التقدم والمدنية والنور. فاليوم علم بعد جهل، وديموقراطية بعد عبودية واستبداد، وسلام بعد حروب وغارات! أقول (سلام) وأعلم تماماً ما سوف تقول! وأين السلام من تلك الشعوب المتناصرة المتنابذة التي يحفر كل منها للآخر هوة سحيقة للموت الداهم الفظيع؟ ولكن رويدك فالفكرة موجودة، وتزداد بحرارة الخطر اختماراً، حتى إذا انفجر البركان وأصاب الإنسانية منه أقصى سعير استوت على عرشها وسادت سيادة أنجح وأضمن كما سادت بالأمس القريب فكرة تحرير الرقيق بعد قرون الذل والعبودية والانحطاط!
إلى الكمال إذاً نحن نسير! إلى كمال الحق والخير والجمال؛ ولا نفاضل بين الأجيال إلا على ذاك الأساس. ولا ينبغي أن تكون لنا غاية غير هذه الغاية! ولا يجوز أن نقيس حياتنا أفراداً وجماعات إلا بهذا المقياس. ولئن كان مقدراً للأجيال ألا تبلغ ذلك الكمال المثلث فإنما شاء الله ذلك لكيما تبقى للإنسانية غاية تعيش من أجلها وفي سبيلها تموت. فلننظر إذاً أي
قدر من ذلك الكمال قد تركته لنا الخلائق والأجيال الماضية تراثاً ثميناً مجيداً، ولنعرف كيف نصونه ونحافظ عليه ونسلمه لأبنائنا وديعة كريمة جميلة؛ ثم نفكر في ماذا عسانا نستطيع أن نزيد عليه من الحق والخير والجمال كما فعلت الأجيال السابقة ليبقى ما نزيده ناطقاً باسمه على مر الدهور والأجيال
أجل يجب أن نفكر في ذلك ونسعى في تحقيقه ونحاسب أنفسنا بصدده عند مطلع كل عام جديد
ويجب على هذا الأساس أن نرحب بالعام وان نتفاءل بمقدمه، وأن نرجو الله داعين منيبين أن يكشف فيه للإنسانية عن درجات أخرى من سلم ذلك الكمال المنشود.
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية الأميرية
قلت لنفسي.
. .
إن مبدأ الإسلام، إقرارَ السلام؛ ومع ذلك لجأ إلى القوة وأخذ بنظام التسلح، فشرع القتال ثم قال:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. . .) ومن قبلُ جاءت المسيحية عزوفة النفس زهيدة العين تسبل العفو عن الجارم، وتبيح الخدين للاّطم، وتترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله؛ ومع ذلك قال المسيح:(ما جئت لألقي سلاماً بل حرباً)
فهل معنى ذلك إلا أن القوة هي شريعة الله يحفظ بها سلام العالم، ويقر عليها نظام الحياة، ويدفع بها بعض الناس عن بعض حتى لا تفسد الأرض؟
لقد جأرت أوربا كلها ليلة عيد الميلاد بنشيد المسيحية الشرقية: (وعلى
الأرض السلام) حتى جفَّت الشفاه، وبُحت الحناجر، ثم أصبح الناس
فإذا إيطاليا بلد البابا تحشد الجيوش إلى حدود الصومال، وفرنسا تجيب
على التحدي بجنود السنغال، وهتلر وجون بول يقفان متحفزين
متلاحظين: هذا من وراء الديمقراطية، وذاك من وراء الدكتاتورية!!
فهل يحسب الذين يثبطون مصر عن إرصاد الأهْبة وإعداد القوة بحجة ما نكلف من المال، ونجشم من الأعمال، إنهم يطيعون الله ويخدمون الوطن؟.
ابن عبد الملك
للتاريخ السياسي
نتائج اتفاق مونيخ
للدكتور يوسف هيكل
كان يوم الجمعة 30 سبتمبر (أيلول) سنة 1938 يوماً تاريخياً هاماً مغيراً تغييراً رئيسياً لوضعية أوربا الدولية، ولاتجاه السياسة الغربية، إذ به تم اتفاق الدول الأربع (في مونيخ) على حل المشكلة التشيكوسلوفاكية حلاً لم يتوقعه أحد قبل أيام من ذلك التاريخ، فجزأ هذا الحل التشيكوسلوفاكيا وأثر تأثيراً عظيماً وسيئاً على حياتها الاقتصادية والسياسية. وأهم من ذلك أنه أدى إلى نتائج دولية خطيرة، تتصل بعلاقات ألمانيا مع دول جنوب شرقي أوربا والشرق الأدنى من جهة، وبوضعية دول أوربا الكبرى من جهة ثانية.
انتصرت فرنسا عام 1918، فعمل ساستها ورجالاتها على تأمين سلامتها، وإبعاد خطر الغزو الجرماني عنها. إذ ذاقت فرنسا مرارته مرتين في مدة أقل من نصف قرن. واستخدموا لذلك وسائل تأمين السلامة المعهودة قبل الحرب العالمية: المعاهدات والمبادئ التي تولدت عن الحرب الكبرى، والضمان المشترك ضمن نطاق عصبة الأمم
عملت فرنسا عام 1918 على تطويق ألمانيا من الجهة الشرقية بدول معادية فأوجدت بولندا وتشيكوسلوفاكيا، وربطتهما بباريس بمعاهدات دفاعية. ولتقوية مركز تشيكوسلوفاكيا الدولي، وإيجاد كتلة قوية أمام ألمانيا في جنوب شرقي أوربا، ساعدت فرنسا في تكوين التحالف الصغير بين تشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، ويوغسلافيا، وربطت هذا التحالف بنفسها بروابط ودية متينة. وفي عام 1935 وقعت فرنسا على معاهدة دفاع متبادل بينها وبين الروسيا، وتوسطت إلى إيجاد مثل هذه المعاهدة بين صديقتها تشيكوسلوفاكيا وبلاد السوفيت. ظنت الدوائر السياسية أن هذه الروابط الدولية جعلت مكان تشيكوسلوفاكيا الدولي متيناً لا يتزعزع، ويحول دون أي تفكير في الاعتداء على جمهورية مزاريك، واعتقدت هذه الدوائر أيضاً أن القوى المناهضة لألمانيا في أوربا الوسطى والشرقية قوية إلى درجة لا تجعل حكومة برلين تفكر في اختراق النطاق الذي يحيط بها في تلك الجهة.
لم تكتف فرنسا بإيجاد ربيبتها تشيكوسلوفاكيا وتقوية مركزها الدولي، بل عملت على تحصين الحدود التشيكوسلوفاكية الألمانية، وتنظيم الجيش التشيكوسلوفاكي وتقويته، لتتمكن
من صد أي هجوم حربي ألماني عنها. لهذا أقرضت باريس براغ المليارات من الفرنكات وأرسلت لها المهندسين الحربيين الأخصائيين لإنشاء حصون هائلة على الحدود الألمانية، فأنشئ (خط ماجينو التشيكوسلوفاكي) وصرف عليه ثمانون مليوناً من الجنيهات. ثم أرسلت فرنسا البعثات الحربية لتدريب الجيش التشيكوسلوفاكي وتنظيمه، فأصبح من أنظم الجيوش الأوروبية وأهمها. وزيادة على ذلك، فإن دخول تشيكوسلوفاكيا الجغرافي في قلب ألمانيا يساعد على جعل هذه البلاد مركزاً لقوة طيران عظيمة تستطيع هدم كبريات المدن الألمانية الواقعة في الجهات المختلفة. وقد ساهمت فرنسا في تقوية قوى الطيران التشيكوسلوفاكي، واعتمدت كثيراً على موقع تشيكوسلوفاكيا الجغرافي، لهذه الغاية، فكان بإمكان القوى الجوية المتجمعة في تشيكوسلوفاكيا، تهديد المدن الألمانية بسهولة وفي وقت قصير. فظنت الدوائر السياسية، بعد هذا التحصن وإيجاد هذه القوى، أن لا فائدة لألمانيا من محاولة الهجوم على ربيبة فرنسا. كما أنها ظنت أن لا أمل يرجى لألمانيا من مهاجمة فرنسا لوجود (خط ماجينو) الذي تتحصن فيه عند الحاجة الجيوش الفرنسية، وجيوش دول معاهدة لوكارنو، ولوجود القوى الهائلة المحالفة لفرنسا في أوربا الوسطى والشرقية، التي في إمكانها الانقضاض على ألمانيا من الجهة الشرقية بسرعة وسهولة
خلافاً لهذه القوى التي هي في حد ذاتها قوى فعالة لا يستهان بها إن عرف استخدامها، فإن فرنسا استعملت في تأمين سلامتها من الخط الجرماني، مبدأ (الضمان المشترك) ضمن نطاق عصبة الأمم. فكان من أقوى أنصار عصبة الأمم ومن العاملين على تنظيم الضمان المشترك وتنفيذه ومن أشد الغيورين عليه والراجين منه سلاماً. فهل منعت المعاهدات والضمان المشترك ألمانيا عن اجتياز السور الذي أقيم حولها؟ وبعبارة أخرى، هل أوصلت السياسة التي تبعتها فرنسا خلال العشرين سنة الماضية الشعب الفرنسي إلى ما يبغيه من سلام وطمأنينة؟
لم تنفذ المعاهدات، ولم يعمل بموجب الضمان المشترك. وتمكنت ألمانيا من رفض القيام بما قبلت من واجبات ومن السير بخطى واسعات للوصول إلى ما تبغي وتطمح
وكان أول ما قامت به ألمانيا امتناعها عن دفع التعويض للحلفاء، فلم ترغم على دفعه، ثم قرارها بإلغاء القيود العسكرية في معاهدة فرساي وإعادتها التجنيد الإجباري، وتجديد معامل
الأسلحة والذخيرة في بلادها، وبناؤها أسطولاً جوياً هائلاً، فلم يردها الحلفاء السابقون والحاليون عن هذه الأعمال، ثم احتلالها لمنطقة الرين التي تقضي معاهدة فرساي ببقائها مجردة من كل صبغة عسكرية. فلم تتخذ الدول المتعاقدة في لوكارنو الإجراءات العسكرية التي تقضي بها معاهدة لوكارنو لإعادة منطقة الرين إلى حالتها السابقة، ثم ضمت ألمانيا دولة قديمة برمتها إليها، فلم تحرك الدول ساكناً
أما عصبة الأمم فلم تأت بعمل فعال ضد الإجراءات الألمانية، كما أنها لم تنفذ قانونها حين احتلال منشوريا، والحرب الحبشية، والحرب الأسبانية، والحرب الصينية. تلك الحروب التي هي وليدة أنانية الدول الكبرى، وضعف عصبة الأمم المستعمرة ووجود الضمان المشترك بين طيات الأوراق فقط.
وتلا هذه الأزمات والحروب الأزمة التشيكوسلوفاكية. وبعد محادثات اتفقت فرنسا وبريطانيا العظمى على حل النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي عن طريق سلمي، فعقد مؤتمر مونيخ وسلمت بريطانيا وفرنسا فيه بمطالب الهر هتلر، وخرج زعيم ألمانيا منه منتصراً من غير حرب.
في مونيخ تم هدم ما بنت السياسة الفرنسية خلال العشرين سنة الفائتة. واتفاق مونيخ كان (ضربة الرحمة)(أي الضربة القاضية) لعصبة الأمم ولمبدأ الضمان المشترك. إذ في مونيخ مزقت تشيكوسلوفاكيا دون أن تعلم عصبة الأمم بذلك، ودون أن يأتي أحد من حلفائها لنجدتها، حتى أن والدتها وافقت على هذا التمزيق.
وتمزيق تشيكوسلوفاكيا أزال قوتها العسكرية والدولية. إذ خسرت تشيكوسلوفاكيا ما يزيد على أربعة ملايين من سكانها وفقدت حصونها وقلاعها التي وضعت فيها قوتها وأموالها كما أنها فقدت أيضاً كثيراً من مواردها الاقتصادية، وأصبحت تحت رحمة جارتها القوية.
أما نفوذها الدولي فقد زال، لزوال مصادره، إذ كانت تشيكوسلوفاكيا تستمد قوتها الدولية من تحالفها مع فرنسا والروسيا ودول التحالف الصغير. فجاء اتفاق مونيخ فألغى تحالفها مع فرنسا والروسيا، وأبطل عملياً وجود التحالف الصغير. لأن دول هذا التحالف لم تأت بحركة قبل مؤتمر مونيخ للدلالة على وجود التحالف. وهي بالطبع لا تستطيع وضع تحالفها موضع العمل بعد اتفاق مونيخ الذي سلمت فيه الدول الكبرى لمشيئة الهر هتلر.
فتحالفها هذا زالت أهميته عملياً، ولم يبق له وجود في السياسة الدولية.
(للمقال بقية)
يوسف هيكل
من الأدب الإنجليزي
دفاع الشيخ عن عرضه
للكاتب الإنكليزي سيرجون وارد
للأستاذ محمد لطفي جمعة
جلس لورد آشلي أوف بلاكبوري كاسل وهيلدا بريكفيلد وارثة بارون أوف كليرمونت، ينظران إلى الشفق، وقد توارت الشمس بالحجاب، وقد هبط عليهما وحي الحب، وسرت فيهما نشوة الغرام، إذ رآهما الشفق ضجيعي لذة وصبوة، وكان لكل منهما ما ذكره بماضي مباهج الحياة. وكانا مجتمعين خلسة في غيبة والدها بارون أوف كليرمونت الذي كان يعارض في زواجها من حبيبها لورد آشلي، الشاب الذي قضى معظم شبابه في المغامرات والفروسية، ومناصرة الملك شارل على ويليام أوف أورانج، الذي غزا البلاد، واغتصب العرش والتاج. وإذ كانت الفتاة والفتى يرتشفان كأس السعادة في تلك الخلوة التي كانت حلماً من الأحلام، فزعت واستيقظت من غفوة الهناء، على غير انتظار. وماذا رأت؟ ويا هول ما رأت! أي عينين هاتان البراقتان؟ هما حقاً عينا أبيها البارون الشيخ نصير ويليام أوف أورانج، وأحد أبطال الموقعة الحاسمة التي خضبت دماء هاستنجز بالدماء، وأقصت الملك الشرعي عن البلاد. . . ثم صرخت اللادي الشابة ناهضة وخرَّت صارخة وقد تنازعها الحزن والفرح، وتوزعها الخوف والرجاء؛ وإنها على فرط حبها أباها لم تملك أن شعرت عند رؤيته بفزع ورعب منه وهو يراها بين ذراعي حبيبها الذي يبغضه ويمقته ويتربص به الدوائر، بعد أن أقصاها عنه وحرم عليها اللقاء، فثار لورد آشلي لصيحة حبيبته وأمسكها ساقطة ثم عمد إلى الجدار، فتناول حسامه بأسرع من اللمح ليحمل على الذي سبب كل ذلك الرعب. وكان البارون المسنُّ والشيخ الهم لا يزال صامتاً، فلما رأى الفتى يجرد حسامه ويستعد لنزاله ابتسم هازئاً وقال:
(إن بأدْنى مسمع مني ألوفاً يحملون البيض المشرفية، والسمر السمهرية، فضع سيفك يا فتى، ولا تكن غراً أحمق!)
وتشبثت اللادي هيلدا بآشلي وصاحت: (إنه أبي. . . فاركع له معي، لعله يغفر لنا ويصفح
عنا - وكانت هذه علة رجائها - نعم! ما أراه إلا فاعلاً ذلك. . . نعم سيغفر لنا ويصفح عنا. . .) ثم استدارت نحو الشيخ النبيل وقالت له:
- (أبتاه! أخليق بك أن تجعل للخوف والشك في صدر ابنتك موضعاً ومجالاً؟ أخليق بك أن تدعَ الرعب يلاطم الأمل في فؤادي، وتترك الريب يزاحم الثقة في قلبي؟ أبتاه! اصنع بابنتك ما تشاء واعف عن هذا الغلام، فأنا التي أمَّنته وشجعته على هذا اللقاء!)
ولكن البارون الشيخ وقف ثابت الركن شامخ الأنف، أصيد مهيباً، وقور الجانب، محصن النفس من كل ما عساه يهجم على القلب من دواعي الحنان وعوامل الرحمة. وكان عدا ذلك المظهر قوي الصوت، سديد النظر، ساكن الأوصال - وهي علائم ضمير ليس بالساكن ولا الهادئ - وكذلك جعل يرنو إلى ابنته ولا يجيبها، ثم التفت إلى آشلي وكان الدم في وجنة الفتى يذهب ويجيء، وقد قام متأهباً للحملة على من عسى يلي دعوة الشيخ من خوله وجنوده وعسسه وأحراسه. وكانوا جميعاً أشداء ذوي بأس وأسر متين
وقال البارون كرة أخرى: ضع سيفك يا غلام، فقال الفتى: لا! مادام هذا الساعد مطلقاً! فابيضت وجنة الشيخ، لا رهبة ولا فزعاً، ثم استخرج من نطاقه مسدساً فقال:(على رأسك إذن دمك!) ثم أقبل يتأمل الزناد فألفاه صالحاً حديث العهد بالقدح. . . وبعد ذلك أقبل يُهيئه للرمية القاضية. . . وكان لتلك التهيئة صليل يخشى وقعه في الأذن وهو نذير الردى. تهيأ الشيخ للإطلاق، ولو أطلق لوقف شيئين معاً: حياة اللورد الشاب عاشق كريمته، وبراعة المؤرخ، كاتب هذه الأسطر، ولختم شيئين معاً: عمر الفتى وقصتنا التاريخية، ولكن هيلدا وهي أشد من أبيها عناداً وأنفذ صرامةً وأصعب شكيمة، ألقت بنفسها دون الغلام وصاحت:
(إذن إلى كبدي فلتسددن سهمك أو قذيفتك النارية، فتلتقي جذوتان!. فإنها خطيئتي لا خطيئته، وما كان مجيئه هذا القصر عمداً، وإنما طوح به إليه القدر، بعد المعركة التي خرجت منها ظافراً، وأوردته صروف الزمان. وقد أعطيته ذمتي وعهدي، وما كنت قط للعهد بخافرة ولا للوعد بمخلفة. وإني لأحبه فوق ذلك، وأفديه بنفسي وأقيه بمهجتي. . . إنني يا والدي أعرف صرامتك، وأردت أن أعرفك صرامة ابنتك، وإن وراثتنا لا تكذب، والدم الذي يجري في عروقك وعروقي لا يخون!)
لقد كانت الفتاة منذ لحظة كلها رحمة ورقة ولين وطفولة بريئة ونعومة طاهرة، ساجية
الطرف، خافقة الأحشاء، فإذا هي كلها جرأة وإقدام، راسخة الوطأة، سامية النظر، كأنها قدت من الصخر الأصم أو هي الطود الأشم!
وكانت هيلدا بريكفيلد بارونس أوف كليرمونت مديدة القامة، فأتلعت وتطاولت تعالياً وخيلاء. . . وصادمت لحاظ أبيها من لحظاتها بما هو أشد وأقسى، ولكنها لم تمد يداً لمنع الشيخ مما ظل يحاول، لأنها لم تخف عادية الردى، كأنها ترتاح لطارق الموت وتهش للأجل المتاح، وجعل الوالد ومن ولد يتبادلان النظر. فما كان أعجب قرب الشبه بينهما، يا لهما من أسد وفلذة كبده!
وتوقف البارون برهة، ثم رد سلاحه إلى نطاقه، ولكنه وقف يقذفها بنظراته كأنما يريد أن يفضي ببصره إلى مخبآت ضميرها ثم قال:
ما أنا من أراد بهذا الغلام سوءاً، وما أنا من جلب ما قد ترينه الآن من الشر والأذى، وقد يندر من يصاب بمثل ما نالني من انتهاك الحرمة والغدر فلا يسفك دماً ولا يزهق نفساً
بيد أني سأفعل الواجب وإن أخللت أنت به وأشأت أداءه. فليلقين حسامه وإلا ورأس أمك لأدعن رأسه على هذه الأرض تثب وتتدحرج وتصبغ الصخر باللون القرمزي
ثم رفع البارون بوقه إلى فمه فنفخ فيه، وإذا ببوق يجيبه من خارج القصر ودخل عشرون رجلاً مدججاً يعدون مسرعين على رأسهم قائد وصاح البارون (اقبضوا على الغلام أو اذبحوه. واجتذب الشيخ الفتاة إليه بأسرع من لمح البصر وحال الجند بينها وبين حبيبها فجاهدت عبثاً أن تتملص من قبضة أبيها. وكيف وقد كان التفاف ذراعيه حولها كالتفافة الأفعوان؟ وشد الجند على لورد آشلي شدة فارس واحد. ولكن آشلي حمل بالسيف على أولهم فشق كتفه وألقاه يتخبط في دمه، وعلى الثاني فشج وجنته. أما الثالث وكان سيافاً حاذقاً فقد جعل يروغ من ضربات قرنه اللورد الشاب حتى أصاب غرة منه فضربه فجندله صريعاً ينضح دماء من طعنتين إحداهما في الذراع والثانية في الرأس، ثم غَلُّوه حيث خَرَّ وأخذوه من الحجرة وأومأ لهم البارون الموتور أن امضوا به إلى الساحل حيث كانت سفن ترحل وتبحر فأودعوه زورقاً وأعملوا المجاديف حتى بلغوا السفن، وكانت منضودة صفاً فوضعوه في إحداها. أما الفتاة بعد أن رأت حبيبهاً جريحاً أسيراً، فقد غشي عليها، وما زالت في ذبول ونحول اثنتي عشرة ليلة ثم أسلمت الروح بلا أنَّة ولا زفرة.
محمد لطفي جمعة
في الأقصر
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
لا أظنني أسترسل في عزّة تأخذني بالباطل إذا قلت: إن الأقصر يجب أن تعد بحق في طليعة المشاتي العالمية العظمى، فسماؤها دائمة الزرقة، وشمسها الساطعة التي تضفي على الأجسام أبراد الصحة والحياة، ونسماتها المنعشة المحيية، وزروعها الخضراء التي لا يكفي الخريف نضرتها بصفرته الذابلة، ونيلها السعيد المنساب في أحشائها يوزع عليها هدايا الخصب والبركة، وواديها الحافل بمقابر الملوك والملكات والأمراء والنبلاء، ومقابرها التذكارية التي تجلي الإنسانية في مثلها العليا ومبادئها السامية، وأطلال هياكلها الأثرية، بل قصورها الخالدة التي تقوم إلى اليوم وسط مبانيها الفخمة والمتواضعة، وتتيح لها اتخاذ اسمها الحاضر الأقصر (القصور) - كل هذا أو بعض هذا يجعلها محط رجال أهل الفضل والثقافة والنبل، يسعون إليها من مختلف الأقطار على أخفّ من جناح الطير. ولقد تسنى لي في الأسبوع الماضي أن أتعرف إلى نخبة من هؤلاء الأعلام، وأن أضع جانباً من وقتي واهتمامي بين يدي فتاة غريبة نابهة تعنى بدراسة أحوال هذه البلاد وتتغنى بأمجاد تاريخها وبدائعها. . . على أن أروع الصور وأوقعها في النفوس لا تكاد تستغني في استتمام جلالها عن الظلال القاتمة والألوان الغدافية، التي تمسّ أوتار الألم المتنبهة أبداً فينا، فقد عرض لي أثناء تجوالي مع هذه الرفيقة الفضلى ما ضاقت له نفسي، من شؤون دعتني إلى تحريك قلمي اليوم للفت نظر من بيدهم الأمر رجاء معالجتها استكمالاً لأسباب المجد الجدير بهذا المشتى عرض الأثري الخالد كيلا يشيح عنه قاصدوه، ويروا أن ما عانوه في سبيل الوصول إليه كان ضرباً من العبث المبين والجهد المستطير، وتنزيهاً لنا عن الانحطاط الذي رسختْ نسبته إلينا في أذهان أهل الغرب ولا يصح أن نبقى فيه متورطين، ولا سيما بعد أن أبدتْ صاحبتي إعجابها بمظاهرنا كلها التي تشهد بأننا قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالنعم، ونهجنا الصراط السوي في التضامن والتكافل والكرم، بفضل ما تدره علينا بلادنا الخصبة. وقد سألتني يوماً عن أحياء الرعاع عندنا: هل فيها من مظاهر العوز ما تطير لمرآه القلوب، ويرسل في نواحي النفس جميعها لدغاً مؤلماً مسرفاً في الإيلام؛ فلم أخفِ عنها أن بالأقصر أحياء فقيرة كغيرها من بلاد الله؛ وإن كنت قد ذكرت لها أنها لا
تخلو من جماعات أهلية وحكومية، تنظم الخير، وترعى المعوزين، وتعلم صغارهم تعليماً إلزامياً وصناعياً بالمجان؛ وذكرت لها في غير تبجح، أن قلوب أهل هذه الربوع الوادعة لا تزال محتفظة بغرارة الفطرة السمحة المتآخية هي منازل للرحمة ومواطن للسخاء. ثم سألتني عن التسول وعما إذا كان مباحاً، فَوجْمتُ وقد أسرع إلينا أصحاب الأجسام المشوهة، والعيون الذابلة القذرة، والثياب الرثة المهلهلة. وأشهد الحق أني ما كدت أراهم حتى ذبت خجلاً، إذ كانت العربة قد وقفت بنا في تلك اللحظة أمام معبد الأقصر الأزليّ، القائم على شاطئ النيل في أجمل أحياء المدينة وأغناها؛ وغضضت بصري وخشيت أن أرفعه نحو صاحبتي وهي لا ترى تجاه العظمة الماثلة أمام أعيننا، سوى تلك الأيدي الممتدة بذل السؤال لتنقض ما شاهده القوم من مكرمات. ولو كنتُ من أرباب السيادة والسلطان لاتخذتُ كل الطرق كل الطرق الفعالة للقضاء على التكفف، ولكن قلة عدتي تضيق على دائرة نفوذي، وإن كانت لا تمنعني التوجه إلى أولي الشأن بإلحاحي أن تعزز القوات لمعاونة أولئك الشحاذين المساكين، فإنا لو ذكرنا أن رقيّ المجموع إنما يحسب بقدر تعدد مطالب الفرد، لرأينا أننا أبعد الأمم عن الرقي الصحيح. ولا ينتشر التسول في محيط إلا كان دليلاً على أثرة الأقوياء الأثرياء، ومقياساً لخسة مطالب الفقراء التي لا تتعدى ما تجدّ العجماوات في طلابه لسدّ الرمَق. وإنها لإحدى الكبر أن يسجل أهل بلدي العطوفون الأسخياء على ذواتهم ما تستتبعه غفلة إهمالهم، وهذه طلائعه تظهر في الجهة الواحدة بؤساً وفناء وتقلصاً وتهديماً، وفي الجهة الأخرى نمواً وازدهاراً وانبساطاً في رحاب النعم، فلا يَكْمل سناء هذا إلا باستكمال تضاؤل تلك
ثراء وبؤس كيف يلتقيان؟
…
مقيلاهما في القلب مختلفان
فليسمحوا لي أن أنبههم إلى تدارك هذا الأمر الخطير، وليعلموا أني بإلحاحي في وجوب السهر على منع الشحاذين من الانتشار في أحياء المدينة لا أبغي أن يحرموا عطفاً يخولهم إياه بؤسهم. وبأي حق يحرمونه والأزمة عضود، والأيام جديبة، وأولئك المفلوكون أحوج للعون وأجدر بالمساعدة؟ ولكني أرجو أن يتوسلوا إلى ذلك برشاد الرأي واستخدامه لوضع كل شيء في موضعه. وليعلموا أن خير وجوه الإحسان زيادة البذل من المال في سبيل تخفيف الألم العام وتنمية روح الحق والصلاح والتهذيب، وتوجيه النفوس إلى حياة العزة
والكرامة، فلا تعيش للكسل والخمول اتكالاً على كرم المحسنين
هذا ولا بدَّ لي هنا من الإشارة إلى ما حدث في اليوم التالي حين رافقت صاحبتي إلى (وادي الملوك) فقد تجمهر حولنا صغار السائلين المعتفين وتتبعوا خطواتنا، وكادوا يلزموننا أن نعطيهم شيئاً من النقود. ولعمر الحق أن دموعي تنهمر غزيرة إذ أذكر أولئك الأطفال المحرومين متاع الطفولة المقيمين في منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الجهل، ويقطن الذل في جوار القنوط، الذين يعيشون على الجانب الأيسر من النيل، في تلك الأكواخ الحقيرة، المنثورة حول مدافن الملوك الغر الميامين، كجراح عميقة في جسم كياننا الاقتصادي والعمراني، ويموتون مهملين. لهف قلبي على تلك الزهرات الأنيسة التي تذبل في ظلام الحاجة والجوع والإهمال! ونحن نمرُّ بها على الجانب الأيمن، الجانب المعمور بمدارسه دون أن نعيرهم التفاتاً. ومَنْ ذا الذي يستطيع يَسْتطيع أن يدرك كنه القوى الكامنة فيهم، التي لا تدركها النجدة والثقافة لتبرزها إلى الوجود عظمة ومجداً وفضلاً ونبلاً
إن أيديهم التي تبسط اليوم في ذل السؤال، ستبسط في الغد للسطو والنهب، إذا لم يسعفها التهذيب الصحيح، ويجعلها أمينة للغد، نشيطة عاملة لرقي البلاد. ولقد جابهتني صاحبتي ببؤس هؤلاء الصغار، وتدفقت في الدفاع عن حقوقهم، ودهشت كيف تتقاعد الحكومة عن رعايتهم اللازمة، وقالت: إن الأطفال في جميع بلاد الله يقطعون مرحلة التعليم الأولى مجاناً، ولو ذهبت تلك البلاد في أحضان العزلة والريف. وإني وإن كنت أضم صوتي إلى صوتها في وضع احتياج أولئك الصغار أمام من بيدهم الأمر، لا أقصد رجال الحكومة فقط. ومن السفه أن نوجه نظرنا إلى الحكومة في كل شيء، ونطلب منها أن تخلق خلقاً جديداً. وليس من شأن الحكومات أن تفسح للناس القادرين سبل العمل، فيسعون بكل وسيلة صحيحة لرفع الصغار الفقراء، إلى مستوى يتعاضد فيه الجميع ويتناشدون، متعاونين على حب الحياة، ومراعاة المنفعة العامة.
بقي أني لا أستطيع أن أختم كلمتي اليوم قبل أن أضمنها أمرين تفزعت لهما صاحبتي. أولهما الصياح الذي اختص به باعة التحف الحديثة التي يصوغونها على طراز العاديات الأثرية، وإلحاحهم في عرضها علينا، وإمعانهم في إظهار ما كانوا يظنونه في أنفسهم من المقدرة على أن يبتزوا منا ثمنها. . .
أما الأمر الثاني فالقسوة التي يبديها بعض حوذية المركبات في إعنات خيلهم وإنهيالهم عليها بسياطهم، حتى لقد حسبت أن بلدنا ينقصها فرع لجمعية الرفق بالحيوان، وسألتني إن كانت الحكومة تشرف على أعمال هذه الجمعية، فأجبتها بالإيجاب، ودللتها على المكان الذي تدار فيه شؤونها، وعلى مناهل الماء التي أعدتها لتخفيف وطأة الظمأ على السائمة وتكليف رجال البوليس بحمايتها من القساة الذين لا يكثر وجودهم بين الزارعين المرابعين المشهورين بعطفهم على ماشيتهم، وتعلقهم بها تعلق الوالد بأولاده المحبوبين.
فسرى عنها وقالت وفي عينيها بريق اللجاجة والحنان: (ولكن رجائي إليك أن تحمسي رجال البوليس للتشديد على الحوذية الذين يضربون خيولهم العزيزة المسكينة بغير مسوغ).
وإني لعلى ثقة بأن الخير الذي وعدتها به ستحققه همة أولي الشأن من الحازمين.
الزهرة
رسالة العلم
العالم اليوم
للدكتور محمد محمود غالي
تقدم الرسالة إلى قرائها الدكتور محمد محمود غالي محررها العلمي، وهو يحمل ألقاباً شتى في الطبيعة والرياضة، أهمها دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية بأعلى درجات الشرف من السوربون، وهي أسمى ألقاب الامتياز العلمية التي تمنحها جامعة باريس. وهذه الدرجة لكلية العلوم كالاجريجاسيون لكلية الحقوق؛ والدكتور غالي أول مصري نال هذه الدرجة. وله أبحاث قيمة أنفقت عليها السوربون ومعهد باستور مبالغ طائلة، ولعلنا نعود إلى شرحها في فرصة أخرى. وهو يرسم إلى قرائه في مقال هذا العدد المنهاج الذي سيسير عليه في عرض الحقائق العلمية والتطورات الفكرية. والرسالة وقراؤها يغتبطون كل الاغتباط بانضمام هذه الثروة العلمية العظيمة إلى ثرواتها الأخرى التي تنتجها العقول الجبارة في كل باب
(المحرر)
يا ترى هل نستطيع أن نرجع بخيالنا إلى أول عهود الإنسان لنتصوره في حالته الفطرية وحياته البدائية؟ - إن القردة اليوم لا تحاول في غاباتها أن توقد ناراً، وهي مع ذلك تتناسل وتستنشق الهواء الصافي وتمرح بين الغدران والجداول تطفئ ظمأها، وتختار من صنوف الطعام ما يشبع جوعها، ومع ذلك فإن لنا أن نتصور أننا كنا مخلوقات لا تفوقها في الإدراك ولا تزيد عليها في المعرفة. ومهما رجعنا إلى التاريخ المنقوش على الحجر الصلد أو المسطور على أوراق البردي، فمن البديهي أننا لا نصل إلى تحديد الزمن أو الحالة التي كان عليها هذا الإنسان البعيد، بل نصل إلى تاريخ قريب لا يتجاوز مائة من القرون، فنرى إنساناً قديماً في مداركه عريقاً في معارفه، وأن الطوبة وقد اخترعها أمحوتب مهندس زوسر باني هرم سقارة (إذا كان هو مخترعها حقاً) تدعو للإعجاب. وكيف لا نعجب له حين عرف أن يشيد من اللِّبن أو الحجارة أشكالاً منتظمة وأشكالاً ذات طول وعرض وارتفاع فيها كل هندسة أقليدس؛ أشكالاً استعملها في بناء سقيفة من الطوب أو حجرة تقيه الشمس إذا اشتدت، والبرد إذا قرس، والمطر إذا انهمر
إذا رجعنا بالخيال إلى هذا الحد، ووصلنا بالتفكير في هذا النوع من الإنسان مهما بعد في الزمن، نستطيع أن نعتبر أن اكتشافه للنار واستعماله إياها كان خطوة واسعة في سبيل تغيره وتقدمه ككائن بات يختلف يوماً بعد يوم عن الحيوان؛ فهو إن شابهه في أنه مخلوق له جسم يقاربه وحواس تشبهه، يولد ويعيش ويموت، ولكنه يمتاز عنه بشيء كثير من الروية والاستفادة بتفكره
إذا رجعنا بخيالنا إلى هذا المدى علمنا أن اكتشافه هذا كان خطوة هامة في سبيل المدنية ومقدمة لسلسة من الاكتشافات التي نعتبرها ميراثنا العلمي، هذا الميراث الذي ساعد اختراع المصريين للكتابة على الإفادة منه على ممر السنين، والذي تضخم باختراع الأوروبيين للطباعة حديثاً والصينيين قديماً حتى بلغ العلم من الاتساع والتقدم حداً أصبح من الصعب معه على كائن أن يستوعب ناحية واحدة منه، هذا الميراث العلمي عظيم إلى درجة يبعد معها أن تقضي عليه الحروب بين البشر.
لقد حاولنا في السنين الأخيرة أن نستعرض هذا الميراث العلمي وندرس نواحيه ونقف على ما حدث فيه من تطورات لنعرف مداها ونستخلص المهم فيها ونستنتج من تتبع هذه النواحي شيئاً عن آمالنا في المستقبل، ولعل هناك أمراً واضحاً نتفق عليه وهو الدور الخطير الذي لعبته العلوم الطبيعية في التطور نحو النور والمعرفة؛ فبينما سارت العلوم الزراعية والجيولوجية والطبية والبيولوجية وغيرها بخطوات متزنة معقولة، إذ بالعلوم الطبيعية قد طفرت في نصف القرن الأخير طفرات جديرة بالإعجاب. ولو أن أحد أسلافنا دبت فيه الحياة مرة أخرى فدخل أحد منازلنا فربما لا يبلغ تعجبه من تنسيق حديقة المنزل أو ما به من أثاث كما لا يعجب مثلاً بنوع الفاكهة التي تقدم إليه، بقدر تعجبه من الراديو أو التليفزيون
لأن تميل الزهرة إلى الحمرة أو الخضرة، وأن يكون لها العبير الذي نعرفه أو لا يكون، فلا يخرجها كثيراً عن عهده بها.
ولأن يكون المقعد من الخشب أو معدن الكروم أو من الحجارة أو من المواد الجديدة في الصناعة التي تشبه الزجاج وتفوقه بقابليتها للانحناء والالتواء لا يخرج لنا في النهاية سوى مقعد للجلوس قد لا يفوق مقعد توت عنخ أمون الذي يشعر نفوسنا حين نراه الآن في
المتحف المصري بما كان يشعر به النفوس منذ آلاف السنين من التنسيق والجمال والجلال.
أما أن ننتقل من مصابيح النفط والشمع إلى الكهرباء، ومن الخيل والحمير إلى القطار، ومن القطار إلى السيارة - أما أن تعلونا طائرة ونسمع في مصر أُوبرا من فينا وموسيقى من باريس، أما أن نرى قريباً ونحن في القاهرة شقيقاً بالإسكندرية أو بأقاصي الصعيد فإن هذا يدعو إلى الدهشة ويدفع بنا للتأمل
هذه الخطوات وغيرها نتيجة للعلوم الطبيعية التي بدأت في الماضي عهداً مجيداً باكتشاف النار، وفي الحاضر عهداً جديداً باكتشاف تهدم المادة وتحولها إلى طاقة أو إشعاع
وإنما نوهت بهذين الأمرين: اكتشاف النار قديماً، وتهدم المادة وتحول العناصر بعضها إلى بعض حديثاً، لأني أريد أن ألفت النظر إلى أن اكتشاف بكارل في سنة 1896 لخواص الإيرانيوم الإشعاعية، واكتشاف مدام كوري وقرينها بيير كيري في سنة 1898 لخواص الراديوم، يعدان اليوم في التفكير الحديث خطوة لها من الأهمية بالنسبة للإنسان القادم ما لاكتشاف النار للإنسان الأول ومعرفته لاستعمالها.
وعندما يتاح للبشر الانتفاع أكثر مما ينتفع اليوم بالظواهر الجديدة الخاصة بتهدم المادة يتغير استعمالنا للأشياء، فلا يقتصر استعمالنا للخشب أو الحديد على صنع المقاعد أو بناء القناطر بل يتعدى ذلك بكثير، وعندئذ يظل اسما بكارل وكوري على رأس العهد الجديد مثلاً أعلى في أقصى ما وصل إليه الإنسان في المعرفة.
هذه المقدمة تبين للقارئ شيئاً عن اتجاه الكلمات التي تتفضل الرسالة بنشرها لي في هذا العام، فهي ستتناول ناحية العلوم الطبيعية واتصالها بالتفكير والتقدم. وقد وقعت أول الأمر في نوع من الحيرة، بخصوص اختيار الطريق الذي أسلكه لأجتذب عدداً كبيراً من أهل الشرق إلى تتبع هذه الكلمات، عسى أن يجدوا فيها شيئاً من الفائدة والتجديد، وللقيام بهذه المهمة طريقان. أما أن نتكلم عن الاتجاهات العلمية الحديثة التي سيكون لها أثر في أعمال الإنسان، وأعني بها الاتجاهات الطبيعية والفلسفية؛ وإما أن نتكلم عن النتائج الفعلية والعملية التي كانت نتيجة للاتجاهات العلمية الجديدة. ولا شك أنه حسب اختيار إحدى الطريقتين يتغير كلية نوع الأحاديث. ولقد انتهيت إلى ضرورة التحدث في الأمرين معاً،
فتراني في الوقت الذي أصبحت النظريات الطبيعية الحديثة تمشي بخطوات سريعة، وتسيطر على شتى العلوم والمعارف، أصور في هذه الكلمات الموجزة أهم هذه الحوادث، وأصف - حسب فهمي - الكون الذي نعيش فيه، وأقدم لمتناول قراء العربية تقريراً عن المهم من الوقائع العلمية الحديثة، مستعرضاً الحقائق الرئيسية في العلوم الطبيعية وما يتصل بها من الانتصارات التي قبلت اليوم أوضاع العلم والمعرفة.
وفي الوقت الذي أطمع فيه أن أستعرض من صورة العالم معالمه الرئيسية أرجو أن يسمح لي بذكر كلمة عن غرضي، وعن الفكرة التي أوحت إلي بهذه المقالات، وعن الخطة التي سأتبعها لكي نتصل معاً بأهم ما يشغل العلماء اليوم.
إن الأبحاث العلمية وما يتم فيها كل يوم لا يمكن أن تكون موضع عناية الناس عامة كما يعني بها العلماء الذين يهبون أوقاتهم للبحث العلمي. فالعالم يعنيه ما يستجد كل يوم من إضافة، إذ أن هذه الإضافة يتوقف عليها توجيه الأعمال التي يرجو الوصول إلى نتائج جديدة فيها. أما الآخرون فإن أوقاتهم مقسمة طول اليوم بين عملهم البعيد جداً عن المسائل العلمية، وبين فترات من الراحة لتجديد نشاطهم في المنزل بين ذويهم أو في الخارج بين إخوانهم. فالطالب في كليته، والمدرس في مدرسته، والعامل بين الدينامو والموتور في مصنعه، والمحامي بين المحكمة ومكتبه، وساعي البريد انتهى من عمله وخلع محفظته والموظف والتاجر والضابط والقاضي وكل أصحاب الأعمال والمهن يصعب عليهم أن يجدوا متسعاً من الوقت لتتبع الحوادث العلمية وما يجد في طياتها من تغييرات.
ماذا يقدم العلم لهؤلاء الذين تمتصهم الأعمال المادية حتى يصبحوا جزءاً منها، والذين لم تواتهم الفرصة للتعود على التفكير العلمي الحديث وتنسم أخباره؟
في كل هؤلاء فكرت وتساءلت: هل نستطيع أن نُعبِّد لهم سبيل الارتياح لهذه العلوم؟ وهل من الممكن أن نشرح نظاماً مثل الذي أصبحت عليه العلوم الطبيعية الحديثة؟ هذه العلوم الغارقة في الرموز الرياضية التي بلغ التوسع والتسلسل فيها مبلغاً أصبح معه تتبعها عسيراً حتى على الأخصائيين؟ هل من السهل تبسيط العلوم الطبيعية التي أصبحت اليوم المفتاح لمعظم التطورات العلمية وما يتصل بها من توجيه جديد لفكر البشر؟ هل من الجائز أن نشرح هذا لإخواننا الشرقيين في سلسلة مقالات بالرسالة فنشترك معاً في أعظم
ما وصل إليه الإنسان؟ إني لأرجو أن يكون النجاح حليفي في ذلك؛ وإني لأشعر بشيء من السعادة والحماسة في القيام به.
أولاً: لأنني أميل لهذا النوع من الدراسة الخاصة بالعلوم فمن الطبيعي أن أستطيع أن أحمل فريقاً كبيراً من القراء ليتتبعوها ويميلوا إليها.
ثانياً: إنني سعيد أن أوفر على القارئ عناء كبيراً في مطالعة موضوع بات من أصعب الموضوعات العلمية وباتت رموزه للشخص غير المشتغل بهذه العلوم كالحروف الهيروغليفية لمن لا يعرفها.
ثالثاً: إن تمرين الفكر على مسائل صعبة وتتبع هذا النوع من التبسيط له أثر آخر في تكييف حياة الإنسان وتفكيره في المسائل الأخرى التي لا تتصل بالعلم وتتصل بحياة الفردية.
رابعاً: إنني بذكر بعض التطبيقات العلمية للعلوم الطبيعية قد أفيد الكثير ممن يلجئون لهذه التطبيقات لمنفعتهم الشخصية. خذ مثلاً ما يمكن أن تحدثه العين الكهربائية اليوم من التَّفَنُّن في وسائل الإعلانات التجارية مما لم يُطبق لهذه الأغراض في مصر ولا يعرفه أصحاب المحلات التجارية حتى الآن في الشرق عامة. . .
خامساً: إنني قد أصل إلى حمل بعض المشتغلين بالعلوم القديمة وبالطرق العتيقة على العدول عن طرائقهم؛ مثال ذلك أولئك الذين يضيعون أوقاتهم سدى في طلب تحويل الرصاص إلى ذهب والذين يؤملون مثلاً إيجاد نوع من الحركة الدائمة.
أما غايتي الأساسية فهي الثقافة العامة. غايتي أن أجعل من التفكير في ناحية الفلسفة الطبيعية تأثيراً في حياة الناس الخاصة، أجعلك تقف على علوم أنت لا تعرفها وليس من السهل بمفردك أن تعرفها، ولا تكفيك السنون الطويلة الباقية من العمر لتستوعبها، أجعلك تتعلق بمسائل غريبة عنك فلا تجدها صعبة عليك كما تجدها اليوم؛ أوفر عليك الوقت في أمور أصبحت أهم أمور العالم العلمي فأصبحت بهذا لازمة لك؛ أزيد في ثقافتك وذهنك وقدرتك على فهم العالم الذي يحيط بك.
محمد محمود غالي
(الرسالة) جاء مقال الدكتور الأول في ست صفحات
فاضطررنا إلى تأجيل نصفه إلى العدد القادم
رسالة الفن
تاريخ الفن
للدكتور أحمد موسى
- 1 -
لم يقتصر مجهود الجامعات والعلماء على تسجيل الحضارات عن طريق كتب التاريخ القديمة والحديثة بل وجدوا أنه لا بد لهم من الاستعانة بالإنتاج الفني في مختلف العصور، إذ أنه المرآة الصادقة التي بها يمكن الوصول إلى نتائج حاسمة في تاريخ الحضارات والمدنيات.
ولذلك كانت مهمة تاريخ الفن هي الاستعراض العلمي لتطوره على أساس التاريخ العام مع مراعاة أصول علوم أخرى أهمها علم الآثار وعلم قراءة المخطوطات والنقوش القديمة وفن الدراهم والمسكوكات وعلم وصف التماثيل والأيقونات القديمة وفن علامات وإشارات الأنساب القديمة وغير ذلك مما لا يسند فقط إلى السرد أو التاريخ الذي قد يكون متحيزاً أحياناً إلى مبادئ معينة أو غايات مقصودة حيث تدعو الحاجة إلى صبغه بصبغة قومية أو سياسية بذاتها، مما لا يفطن إليه إلا العارف الباحث في أصوله.
وإذا كان المسلك العلمي في التاريخ العام هو تقسيمه إلى قديم ومتوسط وحديث؛ فإن تأريخ الفن يرجع إلى نفس القاعدة رجوعاً كاملاً، لما لها من فائدة التبسيط وإيجاد الرابطة بين التاريخ العام وتاريخ الفن.
ويتناول تاريخ الفن القديم استعراض فن البناء (العمارة) وفن التمثيل (النحت) وفن الصناعات الدقيقة (الحلي وأدوات الزينة الرفيعة) استعراضاً يرجع في أساسه إلى التقسيم الجغرافي فيأخذ فن كل قطر على حدة ويتبع في ذلك أقدمية الحضارة. وعليه فأول الفنون جميعاً الفن المصري ويليه البابلي الآشوري والفارسي والهندي والصيني. هذا في الشرق الأدنى والأقصى. ثم يأتي بعد ذلك الفن الإغريقي الهائل ثم الفن الأتروسكي والفن الروماني والفن الإسكندري.
أما تاريخ الفن المتوسط فيتناول الفن المسيحي القديم والفن البيزنطي الذي كان له أثر
ملحوظ في كل البلاد الأوربية المتمدينة التي وجد فيها أثر للفن الروماني والقوطي.
هذا إلى جانب ناحية هامة في تاريخ الفن المتوسط وهي ناحية الفن الإسلامي الذي ظهر في أقطار متباينة وكان ولا يزال محافظاً على طابعه المميز.
أما تاريخ الفن الحديث فهو كثير التشعب صعب التقسيم لتقارب الشعوب واتصالها الذي ترتب عليه انتقال الثقافة من أمة إلى أخرى وتأثير مدنية في غيرها، ولا سيما في الفن الألماني في عهد النهضة من أوله إلى آخره (القرن الرابع عشر (إيطاليا) والخامس عشر والسادس عشر) وما كان للفن في تلك المرحلة من طرز مختلفة الوضع متشابهة الروح كما أن انقسام الفن إلى باروك وإلى روكوك كان له أثره الهام في الفن الحديث.
والإنتاج الفني بعدئذ هو ما يمكن تسميته بالفن المعاصر أو إن شئت فقل هو الفن الذي أدى إلى ما نلمسه الآن من الفنون المعاصرة، سواء ما كان منها مدرسياً أو سائراً على الأسس المدرسية، وسواء ما كان منها متجهاً إلى ما يسمونه الفن الرمزي والفن الوصفي والطابعي والاقتباسي.
وكان التقسيم المتبع في الفن الفرنسي والفن الإنجليزي هو أن ينظر إليهما تبعاً للمراحل التي مرا بها، ومميزات كل مرحلة منذ القرن السادس عشر؛ ولا سيما أن هذه المراحل كانت تسمى بأسماء الملوك والحاكمين، وهذه ظاهرة اختص بها هذان الفنان دون غيرهما.
وإلى جانب هذه الفنون الحديثة فنون شرقية حديثة أيضاً سارت في طريقها بعض الشيء وتطورت تطوراً مخالفاً لسابق فنونها، ولكنها مع هذا ظلت محافظة على طابعها الشرقي المميز. هذه الفنون هي الفن الهندي والفن الياباني والفن الصيني، التي لم يكن المؤرخ الفني يُعنى بدراستها دراسة علمية إلا في العصر الحالي.
أما مهمة تأريخ الفن نحو هذه الفنون جميعاُ فهي تكاد تكون نفس الدراسة المرتكزة على قواعد مشابهة لتلك التي اتبعت في تأريخ الأدب في العصر الأخير. وبذلك أصبح التأريخ الفني والنقد الفني والتسجيل الفني علوماً قائمة بذاتها لها أصولها وقواعدها.
ولتأريخ الفن قصته ككل علم آخر. فقد شملت كتب القدماء ما يهم المؤرخ الفني إلى حد كبير، فكتاب التأريخ الطبيعي لبلينيوس وكتاب الرحلة لبوزانياس اشتملا على بيانات وإيضاحات كثيرة وأوصاف مسهبة عن الفن في العصر القديم، ولكنها كانت أقرب إلى
مجرد الرد مع اشتمالها على أسماء الفنانين ووصف ما تم عمله على أيديهم دون نقد فني أو دراسة ذات غاية، كما خلت من بيان شاف لتطور الفن في أية مدرسة أو مرحلة زمنية معينة.
ولوحظ أن هذا المسلك في التأليف كان الغالب أيضاً في العصر المتوسط، فكل ما كتب في شأن الفن وتأريخه لم يخرج عن وصف عام للمباني الرائعة وما استنفده في تشييدها من مجهود.
أما التأريخ الفني بمعناه الحديث فلم يكن ميسوراً لأولئك ولا لهؤلاء بحال. ومنذ ذلك الحين بدأت الجهود الفردية تظهر في الأفق رويداً رويداً، ولا سيما بعد ما التفت المسافرون الراغبون في المشاهدة والمعرفة، وكذلك غيرهم ممن اشتغل بدرس اللغات القديمة، إلى وجوب معرفة آثار الأقدمين والغاية من إقامتها وما تدل عليه وعلاقتها بالحضارة، واتخاذها وسائل قيمة للتدليل على اتجاه معين في الدرس والفحص.
هنا بدأ تأريخ الفن في الظهور والتطور العلمي. وكان أول أثر لذلك هو إيضاح ما كتبه الأقدمون وما تدل عليه كتابتهم عن الآثار التي لم يكن الكثير منها موجوداً حيث كان القدم والإهمال وعدم الرعاية والتغيرات الجوية والمدنية قد طغى كل هذا على معظمها فكانت أثراً بعد عين.
فاشتغل فريق من علماء تاريخ الفن بتفسير ما كتبه فيتروفيوس على حين اشتغل فريق آخر بنبش القديم وتفسير الكتابات والنقوش التي وجدت على كثير من الآثار.
هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فقد قام فريق آخر بمعاينة آثار روما وبعمل رسومات هندسية ومساحية دقيقة عنها.
ومهما يكن نوع هذه المجهودات والكيفية التي سار عليها أصحابها، فإنه لا يمكننا أن نرجع المحاولات الصائبة في مضمار تأريخ الفن إلى أبعد من القرن السادس عشر. ولعل أول من نعتبره في مرتبة مؤرخي الفن هو فاساري بكتابه القيم الشامل لتراجم هامة لرجال الفن في إيطاليا ،
وجاء بعده كارل فان ماندر بكتابه المدهش (المشاهدات) المطبوع في هارلم سنة 1604 وفي أمستردام سنة 1618، وكان أقل أثر يذكر له الدعاية للفن ولتاريخه ولتعريف
الراغبين بعض الشيء عنه.
وجاء هولندي آخر هو آرنولد هوبراكن بكتابه (الواصف الكبير) في ثلاثة أجزاء، طبعت في أمستردام أيضاً سنة 1728، والتي كانت أساس دراسة الفن في هولندا كلها.
أما في ألمانيا فقد ألف المؤرخ يواخيم فون ساندرت كتابه الباهر (أكاديمية العمارة والنحت والتصوير) المطبوع في لومبرج سنة 1675 - 1679 للمرة الأولى، والذي كتب عنه كل المشتغلين بالفن من معاصريه كتابة ذات صفة علمية.
على أنه من الضروري أن نقول بأن الاشتغال بالتأريخ الفني كان خلال القرن السابع عشر قاصراً في الغالب على دراسة الفن القديم. هذا إلى جانب وجوب التنويه بأن بعض المشتغلين بتأريخ الفن وجهوا اهتمامهم إلى ناحية الفنون الصغرى الدقيقة كأشغال المعادن وما إليها من أدوات التحلية؛ وقد ظهر في هذا المجال كتاب قيم لبرناردي مونفاكو، وهو مكون من خمسة عشر جزءاً طبع في باريس سنة 1719 - 1724 ' طبعاً رائعاً وشمل الكثير من الصور الجيدة، ومن دون نزاع أول مؤلف أوضح في جلاء كل المخلفات في العصر القديم، والتي كانت ظاهرة للعيان في تلك الأيام.
وكان الفضل في انتشار هذا المؤلف ورواجه راجعاً إلى كتاب آخر ألفه النبيل كالوس وفيه أشاد بذكر هذا المؤلف في كتابه ' (سبعة أجزاء طبع باريس 1752 - 1767).
وظل الحال في ألمانيا على ما هو عليه منذ ساندرت إلى القرن الثامن عشر عندما أخرج يوهان فردرش كرست وزميله جينزر مؤلفهما العلمي عن الفن القديم. هنا انضم إليهما أهل العلم والفضل من مدينة درسدن الذين كانوا عاكفين على كتب الفرنسيين لأنها كانت الكتب التي يمكن الرجوع إليها في ذلك الحين لعدم وجود غيرها.
له بقية
أحمد موسى
رسالة المرأة
المرأة اليونانية
للآنسة زينب الحكيم
عندما تفضل الأستاذ صاحب الرسالة الغراء بفتح (باب للمرأة) في الرسالة، حمدت لحضرته هذا الصنيع الجميل، واعتبرت بدء الرسالة عامها السابع المبارك إن شاء الله فألاً حسنا بالنسبة لعالم المرأة - الشرقية عامة والمصرية خاصة -
وسيكون ما يكتب في هذا الباب، رسالة عالية تمس حياة المرأة من شتى نواحيها، وفق ما تقدره وتفهمه من الحياة المرأة المثقفة التي نالت قسطاً عظيماً من التعليم العالي، وتلك التي تؤهلها مواهبها الطبيعية، واستعدادها الفطري للمبدأ ذاته. كما تجد فيه ما قد تتوق إلى قراءته في سرعة: من أدب رفيع، وعلم مستساغ، وشئون تمس حياتها، بحيث لا يشغل كل هذا إلا جزءاً وجيزاً من وقتها الثمين.
هذا ونرجو ألاّ يحرم ميدان المرأة هذا في مجلة الرسالة التي امتازت من يوم أن أنشئت، بالأسلوب الراقي، والأدب الرفيع، من جولات سيدات مصر المثقفات، حتى يبرهن أن في مصر كاتبات عالمات مثقفات.
المحررة
كان من بين البلاد التي زرتها في رحلتي هذا العام: بلاد اليونان. فإذا تحدثت عنها اليوم، فإنما أتحدث عن بعض ما شهدته وخبرته بنفسي.
فأول ما لفت انتباهي عندما وصلت أتينا الشوارع الفسيحة المنظمة، والأوتوبيس الكبير الطويل الأصفر اللون، وكثرة الحركة في هدوء، فترى الترام وأنواع المركبات القديمة والحديثة، والسيارات ذات الأجرة أو الخاصة، والناس - كل يتخذ اتجاهه في يقظة وهدوء، ولا تزعجك أصوات السيارات، ولا أصوات الباعة المتجولين، ولا مشاغبات أولاد الشارع.
وباعة الجرائد والمجلات، والحلي الزائفة ونظارات التراب الخ لهم أكشاك خشبية نظيفة لطيفة؛ موضوعة على مسافات متباعدة على الأفاريز.
ومن أهم ما أعجبت به رجال البوليس باليونان، ولا سيما الموجودون منهم في مدينة أثينا:
هندام مرتب (بذلة رصاصية اللون، وتزلك من الجلد الأسود حول الساقين) يعنون أشد العناية بالقيام بواجباتهم، ويلحظون الزوار الأجانب باهتمام ورفق.
استفسرت عن السر في هذا من وزارة السياحة، فأخبرت أن رجال البوليس الذين في العاصمة، والذين هم في أماكن الاصطياف منتقون من أحسن الرجال وأحسن العائلات، وهم متعلمون، وأغلبهم يتكلمون لغات أجنبية (كالإنجليزية والفرنسية والطليانية) لقنوا كثيراً من الآداب العامة، ويحسنون تطبيقها عملياً في معاملة السياح والناس عموماً. تصدر إليهم أوامر وتعليمات مشددة من رئيس البوليس، وهو رجل مشهود له بالكفاية متمرن على هذا العمل من زمن طويل، واشتغل في سراي جلالة الملك مدة.
استطلعت رأي بعض السيدات في مقدار إقبال الأم اليونانية على إرسال أولادها إلى مدارس البوليس والتجنيد، فعلمت أنهن يفخرن أن يقوم أولادهن بهذا العمل الشريف. والإقبال على الكشافة عظيم؛ ولقد يسر المرأة المصرية أن تعلم أن ليس باليونان أولاد متسكعون في الشوارع، فإن المسيو متكساس رئيس الحكومة اليونانية أمر بانضمام جميع الأولاد المتعطلين والمتشردين إلى فرق الكشافة، وهم يتعلمون بذلك النظافة والنظام، وقضاء مصالحهم بأنفسهم، وفي الوقت نفسه يكوّنون جيشاً يسير في سبيل النظام وحماية وطنه.
الفتيات اليونانيات والكشافة
للفتيات فرق منظمة، وزيهن هو الزي الكحلي اللون مع حزام أبيض رفيع وأربطة رقبة بيضاء، وأغطية الرأس نوع يشبه الفيصلية العراقية كحلية اللون عليها دبوس ذهبي من الأمام.
أما الأحذية فكانت صيفية منوعة. وحركات الفتيات والفتيان ليست على جانب كبير من الخفة والأناقة، عكس ما اتصف به رياضيو اليونان القدماء
لا يمكن لزائر بلاد اليونان التغاضي عما يلحظه من سمات الجد على وجوه الناس هناك، وتقدير الوقت، حتى لقد يظهر على أجسامهم نوع من الإجهاد البدني والفكري في سبيل العيش. . .
إذا سار الرجل في الشارع لا يحمل عصا من أي نوع في يده وإنما يحمل بعضهم السبح،
ولم يقع نظري لا في الصباح ولا في المساء على سيدة يونانية تسير وتصحب كلباً أو يتبعها كلب، وإنما يذهبن مجدات إلى محال أعمالهن، ويعدن نشيطات إلى بيوتهن. . قلما رأيت واحدة تلبس حذاء بكعب مرتفع في الطريق، أو تتساهل في ارتداء ملابس لا تتناسب وكل وقت من اليوم؛ ولم يقع نظري على واحدة منهن تساهلت في طلاء وجهها بإسراف، وكثرة النساء اليونانيات ضنينات على العموم بأن يظهرن بمظهر الدمى أو الخلاعة.
والمجتمع اليوناني المشترك هادئ ولا (يلعبون) النرد ولا غيره من ألعاب التسلية المزعجة في الأماكن العامة. وطريقة تحدثهم لطيفة، يستخدمون أيديهم للتعبير أحياناً، ولكن بخفة وهدوء، وقلما يخلو الحديث أو النقاش من نكتة مستحبة مضحكة، ويقرئون الجرائد الخاصة وهم جلوس على المقاهي أو المطاعم أو في الحدائق العامة، ولا يتطفل أحد منهم على جرائد الغير أو ممتلكاته.
المرأة في حدائق زابيون
حدائق زابيون عبارة عن بساتين فسيحة تقسمها شوارع مرصوفة نظيفة، وبها مطاعم ومقاه كبيرة، وتحتوي على (سراي زابيو) نسبة إلى الأخوين زاباس اللذين وهباها للشعب بعد تأسيسها من خمس وخمسين سنة مضت. وبهذه السراي معرض دائم للصناعات اليونانية، من صناعات خزفية وزجاجية منقوشة وملونة باليد، وأقمشة حريرية وصوفية، وأحذية وصور زيتية وخرائط بارزة وغيرها. وبالجملة يعطي هذا المعرض فكرة تامة عن صناعات اليونان الداخلية. وتقوم بالشرح فيه سيدة يونانية.
لحظت أن رواد هذه الحدائق، والذين يجلسون على مطاعمها ومقاهيها لاستماع الموسيقى من طبقة أرقى، فالجمهور المشترك مرتب الهيئة، مهذب العادات إلى حد كبير، تجلس السيدات إلى جانب الرجال من أسرهن في وقار، ويلفت أنظارهن جميعاً مرور الزوار الأجانب ولكن نظرتهم إليهم نظرة صداقة وارتياح.
والمجتمع كله هادئ لطيف المعاملة جداً، يشوش الوجه، قوي النكتة، يغلب على أفراده اللون القمحي، وتختلف الأنوف عن طراز الأنف اليوناني القديم، بينما الذقن والفم، والمنظر الجانبي للوجه لا تزال كلها تحتفظ بالطابع اليوناني الأصيل.
وحركات هاته الفئة من السيدات وملابسهن أنيقة للغاية، والملابس غالية الثمن جداً على
بساطة نسيجها وزيها، وكذلك القبعات والأحذية مرتفعة الثمن؛ وبالاستفسار علمت أن سبب ذلك هو استيراد هذه الضروريات من الخارج ولا سيما من ألمانيا، لأن المعامل الأهلية قليلة، والصناعات الوطنية لا تزال بدائية في الوقت الحاضر.
وصف هندام سيدة جلست أمامي
تلبس قبعة حمراء اللون من القش الدنتلا، على شكل هالة من الأمام، في أذنيها قرط مستدير أحمر كلون القبعة، وفي يدها اليسرى سوار ذهبي عريض به فصوص حمراء كبيرة أقتم قليلاً من لون القرط والقبعة.
ثيابها من الحرير الجرْسيه الأبيض السكري، متقن الصنع جداً. وحلى صدره زران، أحدهما مستدير كالقرط، والذي تحته لونه كحلي قاتم، ويحلي أحد أصابع يدها اليمنى خاتم من لون الزرّ؛ وحزام الفستان أحمر من لون فصوص السوار. وحذاؤها أبيض مخرم، وقفازها من الدنتلة البيضاء، وشعرها كستنائي يصل إلى خلف أذنيها.
زينة وجهها بسيطة ومعتدلة للغاية، فلا تعدو قليلاً من الصباغ الأحمر على شفتيها (يضاهي لون القرط) وقليلاً من البودرة على وجهها. وهي ربة منزل من أسرة كريمة، يجلس تجاهها زوجها، وهو أيضاً أنيق الهندام، يلبس بذلة سكرية اللون (يشبه السكروته الفاتحة) وحذاؤه أبيض مع بني، ورباط رقبته أزرق سماوي فاتح جداً وبه نقوش بسيطة من الأحمر الفاتح والبني الفاتح.
أسود الشعر عريض الحاجبين، صغير الشارب حليق اللحية. يكون منظرهما حول المنضدة صورة متناسقة مهذبة.
فإذا صح أن هذا النموذج للأسرة اليونانية الموفقة فمما لا ريب فيه أنهما يتعاونان على الحياة المشتركة في سلام واطمئنان دل عليهما ما دار بينهما من محادثات خاصة وعامة، أثناء تناولهما القهوة، والإصغاء إلى الموسيقى.
(للحديث بقية)
زينب الحكيم
القصص
مهداه إلى الأستاذ توفيق الحكيم
الجائزة
للأستاذ محمد سعيد العريان
(القرن الثالث الميلادي، في عصر الملك (دقيانوس) الوثني الطاغية، خرج من مدينة (طرسوس) في بلاد الروم، بضعة نفر من المسيحيين المؤمنين، فراراً إلى الله بدينهم من بطش الملك، ثم لم يظهروا ولم يعلم عنهم شيء. . . وكان منهم وزير الملك. . .!)
(أهل الكهف)
. . . ومضت ثلاثمائة سنة، ومات دقيانوس، وقامت دولة على أنقاض دولة، ورفرف السلام على المدينة التي تخضب ثراها بدماء الشهداء في عصر الطاغية دقيانوس، وعاد الناس أحراراً في دينهم وفي شعائرهم؛ وعاش المسيحي إلى جانب اليهودي إلى جانب الوثني في طرسوس، إخواناً متحابين، لا يسأل أحدٌ أحداً عن دينه ولا يجادله في مذهبه؛ وانصرف كل لشأنه وحاجته.
وجلس (صهيون بن يهوذا) إلى مكتبه ذات صباح بجانب النافذة من غرفته الواسعة المشرفة على الطريق وبين جنبيه همٌّ يعالجه. . .
لقد كان صهيون كاهن اليهودية الأعظم في طرسوس، ولكن شئون طائفته لم تكن تشغله يوماً عن شئون نفسه؛ وكان مؤمناً مسموعاً بالتقوى والفضيلة، عالماً مشهوراً بالاطلاع وسعة المعرفة، مؤرخاً يروي عن السلف ويحفظ أيام الأمم ويقص ماضي التاريخ؛ ولكنه كان إلى كل أولئك يهودياً من بني إسرائيل، يحب المال ويحسن تثميره وتربيته. . . ومن ذلك كان أكثر همه حين يخلو إلى نفسه!
. . . وطال به الوقت وهو جالس إلى مكتبه يحسب ويعدّ، ويقبض أصابعه ويبسطها في حسبة لا تنتهي، ويحصي ما معه من الدراهم وما سوف يأتيه؛ ثم ابتسم راضياً، ونهض عن كرسيه لحظة، ثم عاد بكتاب مخطوط فبسطه تحت عينيه وجلس يقرأ. . .
ذلك كتاب قديم لم يقرأه أحد قبل صهيون إلا كاتبه نفسه؛ وقد عثر به منذ أيام عند يهوديّ
هرم من سدنة المعبد فاشتراه بنصف درهم. . .
وأخذ يقلِّب الكتاب صفحة صفحة وهو يقرأ عجلان غير متريث؛ ثم وقع فجأة على خبر استرعى انتباهه، وأيقظ شيئاً في نفسه، وأخذ يقرأ:
(. . . وكان (مشلينيا) وزير الملك الوثني الطاغية (دقيانوس) مسيحياً مؤمناً، ولكنه كان لا يجهر بدينه عند مولاه، وقد اتخذ في داره معبداً لا يعرف الطريق إليه إلا صديقه (مرنوش) حيث يلتقيان كل مساء لعبادة الرب الأعظم!)
وهز صهيون رأسه مبتسماً وهو يقول: (ما أبدع هذا!) ثم عاد يقرأ:
(. . . ووقف دقيانوس على سر ميشلينيا وصاحبه، فثارت ثائرته. . .:)
وخفق قلب صهيون بعنف، إشفاقاً على الفتيين من ثورة الملك الذي لا يرحم، واستمر يقرأ:
(. . . وتوعد الملك وزيره بأقصى العقاب، وضرب له أجلاً يفئ فيه إلى نفسه قبل أن يمضي فيه أمر الملك ويحل عقابه. . .!)
وازدادت خفقات قلب الكاهن عنفاً وشدة، وحضره ما يذكر من سيرة هذا الملك المتأله الذي خضب أرض طرسوس بدماء المؤمنين من رعيته كبرياء على الله، في غير رحمة ولا إحسان.
ثم عاد الكاهن يقرأ:
(. . . ولكن يد دقيانوس لم تنل ميشيلينيا وصحبه، فقد استطاعوا الفرار من بطش الملك الجبار إلى مكان لا يعلمه أحد. . . كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة. . .)
وشاع السرور في نفس صهيون حين بلغ هذا الموضع من قصة أهل الكهف، وتمتم صلاة خافتة يشكر الله؛ ولكنه استمر يقرأ:
(. . . وبلغ دقيانوس نبأ فرار ميشلينيا وصحبه فغلى غليانه، وسمى جائزة: مائة ألف درهم لمن يأتيه بميشلينيا حياً. . .!)
وبلع صهيون ريقه وأفلت الكتاب من يده؛ مائة ألف درهم! يالها من ثروة! ليته كان في عهد دقيانوس، إذن لفعل كل ما يقدر عليه ليظفر بالجائزة. . . الوثنية اليهودية، المسيحية: ما كل أولئك بازاء مائة ألف درهم؟. . . الله، المسيح، دقيانوس، ميشلينيا؛ ماذا يعنيه كل هؤلاء لو كان يملك مائة ألف درهم؟. . .
وسبح صهيون في أحلامه؛ وهو يقبض أصابعه ويبسطها، بحسب ما يمكن أن تغل عليه مائة ألف درهم، لو. . . لو أنه كان في عهد دقيانوس. . .!
وسمع في الشارع زياطاً وضجة فأطلّ من النافذة ينظر. . . ثم لم يلبث أن هبط مسرعاً إلى الشارع ليرى ويسمع. . .
يا لله! ما أسرع ما وقعت المعجزة!. . .
ولم يصدق أذنيه أول ما سمع. . . وعاد يسأل عن سر هذا الزحام والضوضاء؛ وأجابه محدّثه: (يا مولاي، إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة. . . لقد عثر بهم رجل في كهف على حدود الصحراء. . . إنهم الفتية المؤمنون الذين يتحدث التاريخ أنهم. . . منذ ثلاثمائة سنة. . .)
ولم يصبر صهيون حتى يستمع إلى بقية النبأ، لقد كان يعرف ما سيقول محدثه قبل أن ينطق؛ إنهم آية البعث لمن لا يؤمن؛ لقد ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ثم بعثهم آية. . .، ولكن ماذا يعني صهيون من ذلك؟. . . لقد كان الأمر يعنيه لو أن الله الذي بعث أهل الكهف قد بعث معهم دقيانوس، ليسعى إليه في طلب الجائزة التي سمَّاها منذ ثلاثمائة سنة لمن يأتيه بميشلينيا حياً؛ فها هو ميشلينيا، ولكن أين هو دقيانوس؟
وبرقت له بارقة: وماذا يمنعه أن يطلب الجائزة اليوم من ملك طرسوس؟ لقد مات دقيانوس، ولكن حقه في الجائزة لا يضيّعه موت دقيانوس! ومن قال إن الملوك الذين خلفوا دقيانوس قد أبطلوا الجائزة التي سماها دقيانوس لمن يدل على ميشلينيا حياً؟ إنها ما تزال حقًّا شرعياً لمن يسبق إلى بلاغ النبأ، لا يبطله أن دقيانوس قد مات ومضى على موته قرون!
ولم يتلبث صهيون كاهن اليهودية الأعظم في مدينة طرسوس، فخلّف الزحام وراءه ومضى مسرعاً إلى قصر الملك. . .
(مولاي!)
وكان وزراء الملك من حوله، فنظروا إلى صهيون يستمعون لما يقول؛ واستمر الكاهن في حديثه:
(. . . سأدلك يا مولاي على ميشلينيا، ميشلينيا وزير الملك دقيانوس الذي فر من طرسوس
منذ ثلاثمائة سنة، سآتيك به حياً، والجائزة لي. . .!)
ونظر الملك إلى وزرائه، ونظر الوزراء بعضهم إلى بعض، ثم توجهوا جميعاً بأنظارهم إلى الكاهن يسألونه بيان أمره؛ ومضى الكاهن في حديثه. . . . . . . . .
وقال وزير من وزراء الملك: (يا مولاي، إنه أمر ذو بال؛ لا أعني حديثه عن الجائزة التي يطلب، ولكن حديث الفتية الذين ناموا ثلاثمائة سنين ثم عادوا إلى الحياة؛ إنها عظة الأجيال، وآية البعث، ويقظة التاريخ الذي طوته القرون. والرأي عندي أن يطلب مولاي إلى الكاهن صهيون أن يدعو هؤلاء الفتية لنراهم رأي العين أحياء يتنفسون، ونستمع إلى حديثهم وما كان من أمرهم. . .)
قال صهيون: (والجائزة!)
قال الملك: (وتكون الجائزة لك!)
وخرج الكاهن اليهودي مسرعاً إلى الطريق يسعى إلى أمل لا يرى بينه وبين أن يبلغه غير خطوات معدودة، ولا يشغله من أمرٍ شيء إلا الثروة التي يمني نفسه بأن تكون بين يديه بعد قليل. ومضى في طريقه لا يحيي أحداً ولا ينظر إلى أحد؛ فلما بلغ حيث كان الزحام، وجد الطريق خالية ليس فيها سائل ولا مجيب؛ وأغذ السير يتبع آثار الجماعة إلى خارج المدينة وهم يثيرون الغبار وراءهم على مبعدة؛ فأدركهم بعد عناء. . .
وبدا له على مرمى قريب جبل قائم يشتد الزحام عند سفحه، ومن كثرةٍ يموج بعضهم في بعض، ويتطاولون بأعناقهم ليروا شيئاً لا يتبينه حيث يقف؛ فاستجمع عزمه وراح يشقّ الزحام بكتفي جبار، وفي نفسه شعور غامض يوحي بالحيرة والقلق. . .
وبلغ سفح الجبل، فرأى وسمع وعرف؛ هذا كهف الرقيم حيث يرقد ميشلينيا وصحبه، وحيث كانوا يرقدون منذ ثلاثمائة وتسع سنين قمرية؛ ضرب الله على آذانهم فناموا ما ناموا، حتى إذا أراد الله أن يظهر آيته أيقظهم فترة من الزمن ليكونوا رسالة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وحقيقة من التاريخ تنطق بالعبرة، وموعظة ناطقة تتحدث بما كان وبما يكون. فلما بلغ الله بهم ما أراد من بيان قدرته، ردَّهم إلى التاريخ ليكونوا خبراً من خبره تتحدث به الأجيال.
وأطرق صهيون بن يهوذا لحظة يتفكر؛ ثم لوى عنانه عائداً يشق الزحام وفي نفسه حسرة
وألم. . .
وعاد الناس جميعاً مطرقين برءوسهم يتفكرون؛ ولكن الخواطر التي كانت تصطرع في رأس صهيون، كانت تعدل ما يصطرع في رءوس الناس جميعاً أو تزيد. كانوا جميعاً يفكرون في البعث والنشور والآخرة، وكان هو وحده من دونهم يفكر في الجائزة التي لا يجد سبيلاً إليها وكانت على مدِّ يمينه، لأنه لا يجد سبيلاً بعد إلى أن يصحب ميشلينيا حياً إلى قصر الملك!
(شبرا)
محمد سعيد العريان
البريد الأدبي
دراسة عن شوقي بالفرنسية
في القاهرة تصدر مجلة رفيعة باللغة الفرنسية يديرها محمد ذو الفقار بك ويشترك في تحريرها نخبة من الكتاب المصريين والفرنسيين، وهي في سنتها الأولى، واسمها (مجلة القاهرة) وفي عدد ديسمبر من هذه المجلة مقالة نفيسة للأستاذ إدجار جلاّد صاحب (الجورنال ديجبت)، تناول فيها شاعرية أحمد شوقي، فذكر طرفاً من تاريخه وبسط أسلوبه الاتباعي وأشار إلى جزالة لفظه، ثم نقل إلى الفرنسية قصيدة من غزليّاته. وخاصيّة المقالة ما جاء فيها من الكلام على استلهام شوقي لجهاد مصر الوطني ونهضة فكرة الإسلام والاضطرابِ العمرانيّ في الشرق.
اتصال المصريين لهذا العهد بأجدادهم
نشر المستشرق الألماني الأستاذ (رودي بَرِت في (مجلة العلوم الدينية)(عدد 35ج 1و2) البارزة باللغة الألمانية في مدينة لَيْبتسِج مقالاً لطيفاً يبحث في استمرار الحضارة المصرية، ولا سيما في مصر العليا على تعاقب العصور، في الناحية المادية (مثل أدوات المأكل والمشرب والغزل والحرث) واللغوية (مثل إخراج حرف القاف) والدينية (نحو إقامة الأعياد) والاجتماعية (كالعادات والعقائد الخاصة بالمولد والموت والزواج والدفن). وذلك بالرغم من هجوم الحضارات الأجنبية كالإغريقية والرومانية والعربية والنوبية والسودانية. واعتماد صاحب المقال على كتابين: الأول بالإنجليزية وعنوانه (فلاَّحو مصر العليا) من تأليف فنفرد بلاكمان، والثاني بالألمانية وعنوانه (التراث الشعبي في مصر) لصاحبه فنكلر.
حديث عن المسرح الباريسي
أفضى الدكتور بشر فارس إلى صحيفة (الجورنال ديجبت) الصادرة في القاهرة باللغة الفرنسية عند وصوله إلى ميناء الإسكندرية عائداً من باريس بحديث عن المسرح الباريسي في هذا الخريف. ويستخلص من هذا الحديث أن التأليف المسرحي هنالك آخذ في التأخر لتغلب فن الإخراج على إبراز النص، ولانجذاب المؤلفين إلى الموضوعات الفاسقة مثل
حب أم لابنها، وغرام رجل بآخر. ولشغلهم بالمشكلات السياسية فيستهزئون بالحكم المطلق وينادون بحقوق المرأة، وينددون بالضرائب، ويقاومون الميل إلى الحرب والفتك، ثم لانصراف عامة الجمهور عن المسرحيات الناهضة على التفكير والتأثر الدفين والإيحاء إلى المسرحيات السهلة التناول، الزاخرة بالعواطف المفرطة، الفياضة بالجمل (الظريفة) أو الألفاظ الساقطة والمبتذلة.
الأسس التجريبية للنظريات الكهربائية الحديثة
ألقى الأستاذ ألبير دره عضو المعهد الأمريكي للمهندسين الكهربائيين محاضرة في 27 ديسمبر الماضي في قاعة معهد أنشئ حديثاً في القاهرة للدراسات الرياضية والطبيعية، استعرض فيها أهم الخواص الكهربائية والمغناطيسية للمادة التي كانت أساس النظريات المعروفة في أواخر القرن الماضي، وذكر ما طرأ عليها من اكتشافات حديثة تطورت بسببها أغلب النظريات الخاصة بتكوين المادة.
وكانت هذه المحاضرة تمهيداً لتوزيع العمل بين أعضاء اللجنة التي أنشئت في هذا المعهد لدراسة تطورات هذه النظريات وما بنيت عليه من وقائع تجريبية.
فابتدأ المحاضر كلامه عن ظاهرة الكهرباء التي كان القدماء يعلمون بعض خواصها البسيطة والتي تقدمت العلوم المتعلقة بها تقدماً سريعاً في خلال القرن الثامن عشر بعد أن برهن العالم الفرنسي كولومب بواسطة تجارب دقيقة أن القانون الذي تخضع له القوات بين الجسيمات المكهربة هو نفس قانون نيوتن للجاذبية بين المادة. ثم استنتج من هذا القانون أهم خواص الأجسام المكهربة وبين ما هو الفرق بين الأجسام الموصلة والأجسام العازلة.
ثم تناول المحاضر بعد ذلك ظاهرة المغناطيس التي كانت أيضاً معروفة للعلماء منذ قديم الزمن، والتي تخضع لقانون كولومب غير أنها رغم وجود نوعين من الكتل المغناطيسية لا يمكن الفصل بينهما مهما جزئ الجسم الممغطس، بخلاف الكهرباء التي يمكن عزل أحد نوعيها عن الآخر بسهولة؛ وهذا الفرق في الخواص جوهري بعث العلماء على الأخذ بنظرية أمبير التي تعتبر أن المغناطيس لا يظهر في المادة إلا بسبب حركة الجسيمات الكهربائية في باطنها.
وأخذ المحاضر يشرح خواص الكهرباء إذا تحركت وأنتجت تياراً يترتب على مروره في الأجسام الموصلة ظواهر حرارية وكيميائية ومغناطيسية وتدرج من ذلك إلى ذكر قوانين فراداي وأمبير المشهورة وقانون لنز الذي يلخص جميع قوانين التأثير المغناطيسي بأنها ظاهرة من ظواهر مقاومة المادة لتغير حالتها الكهربائية أو المغناطيسية. وإذا عممت هذه القوانين على المادة العازلة يمكن كما وضح ذلك مكسويل في معادلاته المشهورة البرهان على أن هناك تموجات كهربائية تنتشر في المادة وفي الفضاء بسرعة الضوء، بل على أن الضوء نفسه ما هو إلا نوع خاص من هذه التموجات، وقد شرح المحاضر الحسابات الرياضية الخاصة بذلك. ولقد كان العلم هرتز أول من اكتشف هذه التموجات في تجاربه المعروفة، فانتشر استعمالها في الوقت الحاضر بسبب التقدم المدهش الذي تم في فن الراديو منذ أوائل القرن الحالي.
وختمت المحاضرة بذكر الاكتشافات المدنية التي تمت منذ أواخر القرن الماضي، والتي مكنت الطبيعيين من أن يستخرجوا من المادة جسيمات مكهربة وأخرى خالية من الكهرباء، وتموجات مختلفة دلت على أنها مركبة من عناصر غاية في الصغر لا يمكن إدراك طبيعتها وتفسير تأثير بعضها على بعض إلا إذا أخذ المرء بترك ما عودته حواسه على تصوره عن العالم حوله وتبع فطاحل علماء الطبيعة الحاليين مثل إينشتين وبلانك وبوهر ودي بروجلي وهينزنبرج وشرودينجر وديراك في عالم تفكيرهم الجديد.
م م غ
الحلقة المفقودة
تلك هي حلقة العلماء الذين عرفوا الإسلام وأصوله، وعرفوا روح العصر وعلومه. ولقد كتبت مرة في افتقارنا إليها، وفقداننا إياها، فلما رأيت (الكلية الشرعية في بيروت) ودرَّست فيها قوى في نفسي الأمل بوجود هذه الحلقة المفقودة. فلما قرأت ما تفضل صاحب الرسالة فكتب عن الكلية ورحلة مديرها الفاضل صديقي الأستاذ محمد عمر منيمنة أحببت أن أطمئن إخواننا بأن ظهور هذه الحلقة المفقودة لم يبق أملاً وإنما صار حقيقة تلمس باليد. وأدلة تحقق الأمل هذه (الكلية الشرعية في بيروت) التي أقامها من العدم سماحة الأستاذ
التقي المخلص مفتي الجمهورية اللبنانية محمد توفيق خالد، والتي يديرها وينهض بها الأستاذ منيمنة والأستاذ العامل الشيخ صلاح الدين الزعيم، ويدرس فيها جماعة من الفحول كالمحدث الجليل الشيخ محمد العربي، والأديب الكبير الشاعر الشيخ عبد الرحمن سلام. ومن الأدلة (المدرسة الشرعية) في دمشق التي أنشأها من ماله الأستاذ الزعيم المعروف الشيخ محمد كامل القصاب رئيس جماعة العلماء، والتي يدرس فيها طائفة من أكابر علماء دمشق، كالعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار، والأستاذ دهمان، وآخر الأدلة وأظهرها (دار العلوم الشرعية في بغداد) التي أعاد سعادة الأستاذ الكبير حسن رضا بك مدير الأوقاف العام تأسيسها، وجعلها مدرسة عالية كالحقوق؛ والتي يديرها الأستاذ العلامة الحاج حمدي الأعظمي، ويدرس فيها الأستاذ الشيخ قاسم القيسي، والأستاذ الأديب الشيخ محمد بهجة الأثري وأضرابهم.
وهذه المدارس كلها تجمع بين الثقافة الإسلامية، وبين علوم العصر وثقافته، وذلك ما نحتاج إليه ونتمناه. فجزى الله القائمين عليها، والساعين إليها، وإلى أمثالها أحسن الجزاء، وحقق الله بها الأمل.
(بغداد)
ع ط
حول مقال
أستاذنا الكبير صاحب الرسالة الكريمة
في المقال الأخير من (الحقائق العليا في الحياة) للأستاذ النابغ المحقق عبد المنعم خلاف وردت تلك الجملة: (ولذلك حينما وصف الإسلام لنيتشه أو شوبنهاور - لا أذكر - قال لمحدثه: (إذا كان الإسلام كما وصفت فنحن كلنا مسلمون!) مع أنه كان ملحداً منكراً لعقيدة الجماهير)
والصحيح يا سيدي أن تلك الكلمة التي أوردها الأستاذ في معرض الكلام عن الإيمان والعلم لم يقلها هذا ولا ذاك، وإنما الذي قالها هو (جوته) الفيلسوف الألماني بعد أن أوقفه محدثه على حقيقة الإسلام.
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام
عبد العليم عيسى
كلية اللغة
مشروع لإحياء أدب الرافعي
إلى الأستاذ محمد سعيد العريان.
لقد كان في تقريرك أن بين أدب الرافعي (وبين الأكثرين من ناشئة المتأدبين حجاباً كثيفاً يمنعهم أن ينفذوا إليه أو يتأثروا به) للأسباب التي ذكرتها في عدد الرسالة 285، تعميم قد يكون فيه تجن على الحقيقة، وقد يصدق على القليلين الذين لا ذنب للرافعي - رضوان الله عليه - في أن تكون على بصائرهم غشاوة فلا يفقهون. والذي أعرفه - ويعرفه كل أديب ومتأدب في الأقطار الشقيقة - أن الكثرة المطلقة من هؤلاء مدينة لأدب الرافعي في توجيهها إلى طريق الأدب الصحيح، وأن الناس هنا لينزلون الرافعي من نفوسهم منزلة الأولياء والصالحين. وليس أدب الرافعي من السهولة بالمقدار الذي توهمه بعض المدرسين عندكم، فظنوا أن في إمكانهم هدمه بوسائلهم البسيطة التي تقدموا بها، بل هو أدب خالد سيكون له شأن عظيم عند الأجيال المقبلة في التاريخ.
وإن كل عربي وكل مسلم في الأقطار الشقيقة ووراء بحر الظلمات في الأمريكتين، ليحس بأثقل من التبعات التي تحس بثقلها على عاتقك، ويود من أعماق شعوره أن يجد وسيلة عملية يعبر بها عن وفائه للرافعي رضوان الله عليه؛ وإنني لأشعر بأنني أعبر عن آراء الجماهير المتأدبة في الأقطار الشقيقة، حينما أقترح عليك أن تتفق مع إحدى دور النشر الكبرى في عاصمة الفاروق على إعادة طبع جميع مؤلفات الرافعي التي نفدت طبعاتها الأولى من دكاكين الوراقين، وأن تحضر للطبع أيضاً المؤلفات الأخرى التي لما تطبع، وأن تبادر إلى الإعلان عن ذلك لتسديد نفقات الطبع عن طريق الاشتراك، بعد أن يذكر اسم كل كتاب ومقدار الاشتراك فيه، في مجلة الرسالة التي لا أشك في أن الأستاذ الزيات سوف لا يضن بفراغ في بعض صفحاتها لذلك الإعلان مدة طويلة، وأنا كفيل أنك ستجد الوفاء عملياً كيف يكون. وانتظاراً لما ستقوم به في هذه الناحية العملية، أسأل الله أن تكلأك
عنايته وأن يمدك بروح من عنده.
(فلسطين)
سعيد عودة
دراسة المخطوطات العربية في جامعة برنستون بأمريكا
تعنى جامعة برنستون عناية خاصة بدراسة اللغات السامية وآدابها وتاريخها وبنوع أخص اللغة العربية وأدبها وتاريخها. ولقد بذلت الجامعة في هذه الدراسة مجهوداً عظيماً، فقد قام الدكتور فيليب حتى أستاذ الآداب السامية فيها ومن معه من الأساتذة بنشر دراسات قيمة لنواح متعددة من تاريخ العرب وثقافتهم. وقد نالت هذه الدراسات شهرة عالمية لأنها تعتبر في المرتبة الأولى من المراجع الممتازة.
وقد درس الدكتور فيليب حتى والدكتور نبيه أمين فارس والدكتور بطرس عبد الملك مجموعة المخطوطات العربية التي يملكها المستر روبرت جَرِت من بلتيمور وهي المحفوظة في خزانة مكتبة جامعة برنستون دراسة نقدية دقيقة. وهاهم أولاء ينشرون هذه الدراسة باللغة الإنكليزية لتكون في متناول العلماء والطلاب وجميع من يهتمون بهذه الدراسات.
وقد اطلعنا على مقدمة هذا الكتاب فوجدناه على جانب كبير من الأهمية لمن يدرسون آداب العرب وعلومهم. ولعلنا نترجم هذه المقدمة في عدد قادم زيادة في التعريف بهذا الكتاب.
وهو يطلب من المطبعة الأمريكية ببيروت.
المسابقة الأدبية والرسائل التي قدمت
تقرر تأليف لجنة من حضرات الأساتذة محمد صادق جوهر بك مراقب الامتحانات، والدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، ومحمد شفيق غربال بك وكيل كلية الآداب، وأحمد أمين أستاذ الأدب العربي، وإسماعيل القباني بمعهد التربية للبنين يعهد إليها فحص الرسائل التي قدمت للوزارة في مباراة الإنتاج الفكري بين رجال التعليم وأساتذة المدارس. وقد جعل من حقها أن تستعين بمن ترى الاستعانة بهم من الأخصائيين في المواد المختلفة.
وقد تقدمت الرسائل التالية:
في الأدب: رسالة الأدب المصري في عهد الأسرة المحمدية العلوية لسيد نور الدين هلال. والبارودي لفخري أبو السعود.
وفي التربية وعلم النفس: رسالة في الشباب والمراهقة لرياض محمد عسكر. وتحليل النفس لمحمود محمد محمود. والتربية في طرق القصص لإيزيس حبيب. ورياضة النفس لفهمي إسحاق.
وفي التاريخ: رسالة في (تاريخ الثورة الفرنسية) لعباس الخردلي. ومصير الحضارة في ضوء تفسير التاريخ وتطبيقه لإبراهيم مسلم والخلافة والسياسة لفخري أبو السعود. وجامعة الإسكندرية لإبراهيم إبراهيم جمعة.
وفي الطبيعة والكيمياء: رسالة في قصص العلماء والمخترعين في الكهرباء واللاسلكي لعاطف البرقوقي، وعجائب الفيزيقيا لأحمد فهمي أبو الخير، والكيمياء ومسائل الحياة اليومية لحسن عبد السلام، والحسن ابن الهيثم وجهوده في علم الضوء لعبد الحميد حمدي مرسي، وحياة النبات ومبدأ التناظر لعبد الحليم منتصر.
وفي الرياضة: رسالة في التحويلات الهندسية لحسن رضوان.
وفي الجغرافيا: رسالة موضوعها مصر بين الزراعة والصناعة للويس اسكندر.
وفي الفلسفة: رسالة عن أحلام الفلاسفة في المدينة الفاضلة لزكي نجيب محمود، وما كان وما يكون لإبراهيم السيد إسماعيل.
وفي الاجتماع: رسالة في روح القومية مقدمة الإصلاح الاجتماعي لأحمد خاكي، وسر النجاح في العصر الحاضر لأحمد حمدي.
الأمير شكيب أرسلان في دمشق
كانت وزارة المعارف السورية قد أصدرت مرسوماً بتعيين الأمير شكيب أرسلان المقيم في سويسرا رئيساً للمجمع العلمي العربي في دمشق، وقد قبل الأمير هذا التعيين، وتقول صحف دمشق إنه ينتظر وصوله إلى سوريا في الأسبوع القادم لتسلم منصبه العلمي.
تنظيم مجمع اللغة
انتهى معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف من دراسة المشروع الجديد لتنظيم مجمع (فؤاد الأول) للغة العربية، وهو الذي وضع بعد سحب المشروع القديم من مجلس الشيوخ.
وقد أرسل المشروع الجديد إلى قلم قضايا الحكومة لوضعه في الصيغة القانونية توطئة لعرضه على مجلس الوزراء فالبرلمان.
أستاذ في جامعة فينا يزور مصر في مهمة علمية
وصل إلى القاهرة أول من أمس البارون فون فرش أستاذ أمراض الرئة في جامعة فينا، تلبية للدعوة التي وجهت إليه، لإلقاء ثلاث محاضرات في (أمراض الرئة) في الجمعية الطبية المصرية، وذلك في أيام 2 و4 و7 يناير.
الثقافة
غداً يصدر العدد الأول من مجلة الثقافة؛ والثقافة مجلة أسبوعية تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ ولجنة التأليف والترجمة والنشر تاريخها معروف في نشر المعرفة لدى القراء والأدباء منذ ربع قرن، فلا يمكن أن يصدر عنها إلا كل جليل ونبيل. والرسالة ترحب بالثقافة ترحيب الشقيقة بالشقيقة، لأن بينهما من صلة الروح والدم والفكر والغاية ما لا يؤثر فيه اختلاف الدار ولا تباين المظهر. وهي ترجو الله مخلصة أن يوفق الثقافة بمقدار نيتها في صدق الجهاد وإخلاص العمل وتوخي الحق.
عالم سويسري يزور مصر
اعتزم العالم الكبير فريير أستاذ علم التربية بجامعة سويسرا زيارة البلاد المصرية في شتاء هذا العام. وقد انتهزت وزارة المعارف هذه الفرصة ودعته لإلقاء محاضرات في علم التربية الحديثة.
استدراك
فاتنا أن نقول إن الصورتين المنشورتين في صفحة 31 وهما معركة النور والظلام، والاتساق هما من تصوير الدكتور أحمد موسى، وقد تكلمنا عنهما في العدد الماضي في باب
البريد الأدبي.
الكتب
التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق
تأليف الدكتور زكي مبارك
أمامك صورة الدكتور زكي مبارك فتفرس فيها ثم قل لي ماذا وقع في حسبانك منها. إن كنت قرأت له ما ألف وما كتب في النقد والمناظرة فستظنه خارجاً من معركة بولاقية كان فيها شدُّ الشعور، ولكم الصدور، ونطح الرءوس، وتمزيق الملابس. وما هذا الرواء البادي على وجهه وهندامه إلا خداع النظر أو فن المصور.
وإن كنت قرأت له التصوف الإسلامي فستتخيله لا يزال في سنتريس (مريداً) للشيخ الطماوي الشاذلي يعكف على الأوراد ويشارك في الإنشاد، ويحمل الإبريق، وينقر الدف؛ فهو أشعث أغبر ضاوٍ من أثر الذكر والصوم والعبادة.
وإن كنت قرأت له هذا وذاك غلب على ظنك أن الرجل قامت به حال نفسية جديدة دل عليها هذا المظهر الجديد؛ فإن إرسال الشعر وتشعثه من سمات الفلسفة والتصوف والفن. وأنت واجد في كتاب التصوف الإسلامي صفات وخطرات من كل أولئك جميعاً. وفي رأينا أن هذا الكتاب يؤرخ طوراً جديداً من حياة صديقنا الدكتور، هو طور التأمل والتعمق والنفوذ إلى صميم الجد في الموضوع. وهو خليق بأن يسبل على ما تقدمه من مغامراته الجريئة في الرأي والفعل ستاراً من الصفح الجميل. وإذا كان الله قد عود الشعراء والأدباء أنه يغفر لهم من ذنوبهم ما تقدم وما تأخر ببيت من الشعر أو خاطرة من الرأي فما أحرى زكي مبارك أن يدخل معه الجنة على حساب كتابه ألفاً من الأدباء المحرومين!
الحق أن كتاب التصوف الإسلامي بناء شامخ الذرى في تاريخ الأدب. وأقوى ما يروعك منه الجهد والاطلاع والفهم. وهذه الخصائص الثلاث هي ميزة الكتاب الجليل والبحث الجامع. وإذا كان المؤلف قد نجح في (إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية) فانه نجح كذلك في كشف ناحية من الأدب العربي والفكر الإسلامي كان الأدباء المؤرخون يمرون عليها معرضين، كما يمر السائح الغفلان على منجم الذهب فلا يرى إلا صخوراً وحجارة. والصوفية هي النزعة الوجدانية الصافية في الفطر السليمة، ولها في الأدب والخلق والفلسفة والحياة إشعاع هادٍ كإِشعاع الحق، وكان لابد لهذا العنصر الباهر المجهول
من (مدام كوري) في زٍيّ زكي مبارك تنهك الجسم والعِصب، وتنفق الوقت والذهب، في سبيل كشفه.
لا أريد أن أعرض لك الكتاب ولا أطيق الآن أن أحلله وأنقده، فهو يقع في نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؛ وعرضه وتحليله لا يغنيانك عن مطالعته شيئاً. وكل ما أقوله لك إنك ستجد زكي مبارك فيه رجلاً آخر غير الشاب الذي عرفته في سائر كتبه.
وزكي مبارك - إن أردت فيه كلمة الحق - مجاهد باسل من المجاهدين القلال الذين شقوا طريقهم في الحياة بالقوة، وأخذوا نصيبهم من المعرفة بالكد، وأحلوا أنفسهم محلهم اللائق بالصراع. وهو أحد الأدباء الذين لم يقم مجدهم الأدبي على الظروف والحظ. وإذا كان الحظ قد وقع في حياته فهو الحظ المنكود. لأنه تعلم بكدح قلمه، وتقدم بفضل جهاده، ثم كانت الظروف التي تساعد غيره تلح عليه بالنكران والحرمان من غير هوادة.
ومن أثر ذلك كان هذا الإعلان المستمر عن نفسه وعن عمله. وهي صفة لا تتفق كثيراً مع وقار العلم وجلال الخلق. ولكنها آتية إليه من وراء الوعي على ظن أن الناس ينكرون عليه فضله وينفسون عليه مكانه.
ولو استطاع زكي مبارك أن يتملق الظروف ويصانع السلطان ويحذق شيئاً من فن الحياة - لاتقى كثيراً مما جرته عليه بداوة الطبع وجفاوة الصراحة. ولكن هذه الأعراض النفسية ستفنى فيه وفي الناس، ويبقى ذلك المجهود العلمي الضخم الذي قدمه إلى الأدب العربي في شتى مناحيه شاهداً على صدق خدمته للأدب ورفيع مكانته في النهضة.
الزيات
فيض الخاطر
مجموع مقالات أدبية واجتماعية للأستاذ أحمد أمين
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذه مقالات بعضها نشر في مجلة (الرسالة) وبعضها نشر في مجلة (الهلال)، والبعض الأخير لم ينشر في هذه ولا تلك؛ جمعها كاتبها أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية، في كتاب إجابة لدافع غريزة حب البقاء، لأنها - مجموعة - أدل منها متفرقة، وفي كتاب أبين منها في أعداد.
والأستاذ أحمد أمين من كبار المؤرخين المعاصرين في العربية، يدين له تاريخ الحياة العقلية في القرنين الأول والثاني للهجرة بأحسن ما كتب في دراسته من سبل التحقيق في التاريخ. غير أن كتابة الرجل وإن ظهرت عليها مسحة من التدبر العلمي في استقصاء الأسباب وربط النتائج لها كمظهر تحليلي، فان التقرير دون التحليل هو طابع دراساته. ولكن تقرير الحوادث والوقائع عنده خاضع لمحكمة النقد العليا التي تستنزل أولياتها من المنطق التاريخي، ومن هنا جاء ما لدراسات الرجل من قيمة.
والرجل يمتاز بكل سمات العالم في بحثه، من سلامة النظر وسعة الاطلاع والنزاهة وهدوء الطبع. غير أنه ينقصه التحليل في عمقه. وطابع التقرير يوقفه كثيراً عند ظواهر الأشياء دون أن يستجلي بواطنها. ولا أدل على ذلك من نظرة سريعة لموضوعات مقالاته التي نشرها بعنوان (فيض الخاطر)؛ فهو في المقال الأول يتكلم عن (الرأي والعقيدة)، ويرى الرأي شيئاً والعقيدة شيئاً آخر، وهو يذهب في كلامه مولياً وجهة من النظر تذكرنا بوجهة الفنان توفيق الحكيم في المقال الأول من كتابه (تحت شمس الفكر).
يرى الأستاذ أحمد أمين مكان الرأي الدماغ؛ أما العقيدة فمكانها القلب. والواقع أن هذه التفرقة اعتبارية محض، فضلاً عن أن القسمة غامضة، فنحن لا نعرف من القلب معنى غير الشعور والإحساس الباطني، ومثل هذا الشعور والإحساس الباطني ليس الرأي ببعيد عنه. وكم من رأي هو وليد الشعور الباطن والإحساس الداخلي.
وفي هذا المقال يرى الكاتب أن الإيمان بالشيء يستتبع العمل على وفقه لا محالة؛ غير أننا نلاحظ أن الإيمان شيء والعمل شيء آخر، وليس الإيمان بالشجاعة أو الكرم من الأسباب
التي تجعل المرء كريماً أو شجاعاً؛ فالكرم عادة وخلة تغلب على الطبع، والشجاعة قوة للتغلب على المكاره مردّها النفس، وليس للعقيدة دخل فيها، وإن كانت العقيدة تتلون بها.
وفي المقال الثاني يتكلم الكاتب عن (الكيف والكم) ويقدر أن تقدير الأشياء بالكم شيء يرتبط بالطفل في نشأته والأمة في طفولتها. ولما كان كل إنسان مر في طور الطفولة، والأمم جميعها مرت بهذا الطور، لهذا علق بالذهن الإنساني تقدير الأشياء بكمِّها. وهذا كلام صحيح ولكن يغلب عليه التقرير دون التحليل، لأن التحليل يستلزم النظر في أسباب ارتباط تقدير الأشياء بكمها بطور الطفولة عند الإنسان.
وفي المقال الثالث عن (صديق) تجد الكاتب يولي وجهة من التقرير للأمور، فيبدع في عرضه وتصويره، ولكنه لا يتناول ببحثه وجه تحطم صديقه من التناقض الذي في نفسه. هذا. . . وهل يمكن أن يوجد إنسان ليس له وحدته النفسية إلاّ ويكون منحلاً شخصية إلى شخصيات، وإذن كان الوجه التحليلي في هذا الموضوع أن يتناول الكاتب ببحثه تداخل الشخصيات التي انحل إليها شخص صديقه، ويبين أثر هذا التدخل في إيجاد الاضطراب في نفسه حتى انتهى إلى تحطيمه.
وفي المقال الرابع كلام عن (أدب القوة وأدب الضعف) ظاهره جميل، ولكن أدب الضعف الذي يلمسه الكاتب في الأدب العربي أليس صورة صادقة من الحياة العربية؟ إذن ماذا يطلب الكاتب؟ أيريد من الخراف أن تلبس جلد الأسود؟ هذا يخرج بالمسألة عن الصدق، والصدق أساس الأدب عند الكاتب. . .
أظن هذه أمثلة وإن كانت سريعة موجزة خطوطها إلا أنها كافية لتثبت أن الكاتب يقف عند حدّ التقرير فيما يكتب. لكن سلامة النظر وسعة الاطلاع وهدوء الطبع تجعل التقريرات التي يقررها الكاتب تتسم بميسم الصدق والواقع في العموم. وهذا لا يمنع أن يتسرب في بعض الأحيان بعض الخطأ إلى تقريرات الكاتب، غير أنها قليلة في المجموعة، نذكر منها قوله إن العالم خاضع للمنطق، وأن له غرضاً يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق، وأنه محكوم بقوانين ثابتة لا تتغير.
أما كون العالم محكوماً بقوانين لا تتغير فهذا صحيح، وكونه خاضعاً للمنطق صحيح؛ أما أن يستخلص من ذلك أن العالم له غرض يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق فهذا مما لا
نوافق الكاتب عليه. فيصح أن يكون العالم سائراً حسبما اتفق وليس له غرض، ومع ذلك تراه خاضعاً للمنطق محكوماً بقوانين ثابتة لا تتغير.
أما بيان ذلك فقد استوفيناه من بحث سابق منشور بعدد أغسطس سنة 1937 من مجلة (الإمام) وفي مقال كتبناه بعدد مارس سنة 1938 من مجلة (المقتطف).
والكاتب يمتاز أسلوبه بإشراق الديباجة ودقة التعبير، غير أن أسلوبه ينقصه السرعة والهزة التي تجذب النفس، فمن هنا لا يمكن اعتباره أسلوباً أدبياً
وللكاتب في المجموع دراسات قيمة تمتاز بوجه عرضها للموضوع الذي يبلغ به الكاتب أحياناً منزلة الجودة الفنيَّة، نذكر من هذه الموضوعات (سلطة الآباء) و (من غير عنوان) و (منطق اللغة).
أبو قير
إسماعيل أحمد أدهم
المسرح والسينما
شارع عماد الدين والمسرح
كانوا قديماً يسمون شارع عماد الدين شارع الفن، وكان البعيد عنه يحسب أن فيه الفن حقاً، وما زالت تلك الصفة ملقاة عليه معروفة عنه حتى لأهله الذين يعرفون كل ما فيه. وقد كان جائزاً فيما قبل أن يسمى شارع الفن لأنه كان يضم بين جنبيه فرقتين أو أكثر تعملان وتجاهدان.
أما اليوم فماذا في شارع عماد الدين؟ فيه أربعة مراقص تلبس الإنسانية فيها أقبح الأردية. إي والله لم يعد فيه إلا المراقص تنمو وتتكاثر ويرتادها الناس وعلى المسرح السلام. .
الجمهور المثقف الذي يفهم أهمية المسرح ويقدرها قد جرى مع غيره في مجرى واحد من حيث جحود التمثيل وعدم المبالاة باحتضاره؛ وأصبح يجد في (الصالات) ما يكفل له تمضية السهرات دون حنين إلى المسرح المقهور أو شفقة عليه؛ حتى أصبح شارع عماد الدين وما حوله بقعة مجردة من الحياء، بعيدة عن روحانية الفن بعد الأرض عن السماء. . .
فهل انتهى بذلك تاريخ المسرح المصري؟ وهل انصرف أبطاله كل الانصراف إلى السينما حيث المجال المادي المربح؟. نرى هذا، ولكننا نأمل ألا يستمر؛ لأن للمسرح الحقيقي المثقَّف تأثيره في النفوس، والسينما قد تستطيع أن تحل محله، ولكنها لا تستطيع أن تكفي عنه كل الكفاية. فهو إذن ضروري، وهو لو نهض نهضة حقه سيقف إلى جانب السينما وتخلعها، وسيعيش وسيكون له شأن.
وأبطال المسرح المصري لا يزالون أحياء ولا تزال في نفوسهم الرغبة إلى محاولة الجهاد في سبيل النهوض به، ولكن يعجزهم المال، فيظلون فرادى لا جامع لكلمتهم ولا مستغل لمواهبهم. وحسب وزارة المعارف أن تهيئ (تكية) وتقيمها في دار (الأوبرا) شهراً أو شهرين من العام، وهذا عندها هو تشجيع التمثيل.
اجمعوا الجهود وقسموها إلى وحدات، فهذه للدراما وهذه للكوميدي وهذه للتراجيدي، تخلقوا جواً شريفاً للمنافسة وتروا نهضة جديدة للمسرح. . . وإلا فقد انتهى أمر التمثيل المسرحي حقاً، وأصبح (شارع الفن) بقعة موبوءة تظل تنحط وتنحط حتى لا يكون فيها موطئ لقدم
شريف.
أخيراً تزوجت
ولعل الأمل الباقي في حياة المسرح المصري منوط بعنق جمعية أنصار التمثيل والسينما، وهي وإن كانت مقلة في إنتاجها ما تزال تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بناء المسرح المنهار. وكان آخر ما قدمته الجمعية بدقة بلغت حد الإعجاب رواية (أخيراً تزوجت) في حفلة الجمعية الخيرية الإسلامية بدار الأوبرا في الأسبوع الماضي. وإنا لنتمنى لهذه الجمعية أن تواصل نشاطها حتى تكون هي الرمق الحي الذي نرتجي من ورائه للمسرح المصري بعض الخير.
وهاهي ذي الفرقة القومية لا تكاد تقضي شهراً في عمل، حتى تقضي مثله أو أمثاله في كسل. هاهي ذي تنهي دورتها الأولى بعد فترة لم تنتج فيها جديداً يذكر لتعود إلى نومها المعتاد. وهنيئاً لأفرادها هذا الجو الناعم!
فارس الميدان
فرقة الريحاني هي الفرقة التمثيلية الدائمة التي تبرهن على أن التمثيل الكوميدي لما ينعدم بعد. والريحاني يشكر هذه المثابرة. غير أننا نأخذ عليه اعتقاده بأنه هو وحده الآن فارس الميدان، وذلك ما جعله يسير الهوينا حتى لا يخرج طوال الموسم كله أكثر من أربع روايات. وذلك إنتاج لا يفي بالحاجة.
التأليف هو علة انهيار المسرح المصري وسقوط الفيلم
المصري
ينادي المهتمون بشئون السينما والمسرح في مصر بأن المسرح هنا قد اندثر أو كاد، وأن الفيلم المصري لم يظهر بعد في الثوب الفاتن الذي يجب أن يظهر فيه حتى يستطيع أن يقف إلى جانب الأفلام الأجنبية ولو في السوق المصري وحده، ويؤولون لذلك أسباباً كثيرة مبنية تارة على أساس وتارة على غير أساس، وتفكر وزارة المعارف وهي القائمة على أمر التمثيل كأداة من أدوات التثقيف تفكر في مصيره المظلم، وتجتمع اللجان وتقرِّر القرارات وترصد الإعانات وتبذل النفقات في سخاء ويؤتى بالأجانب لإنقاذ ما يمكن
إنقاذه!!
ولكن أحداً من هؤلاء لم يفكر في العلة الحقيقية لانهيار المسرح المصري وسقوط الفيلم المصري. . . العلة هي التأليف ولا شيء غيره. فالممثلون الناجحون موجودون في مصر والمخرجون البارعون موجودون في مصر، وجمهور المتفرجين موجود في مصر ولكن هناك عنصراً واحداً يكمل هذه العناصر بل يوجهها غير موجود. . . هو التأليف.
وليس معنى هذا أن مصر بلد لا ينجب المؤلفين، فالمؤلفون موجودون ولكن كأن لا وجود لهم. . . لدينا مؤلفون موهوبون في طوقهم أن يسدوا حاجة المسرح وزيادة، وهم مع الأسف يجافون التأليف وينصرفون إلى غيره من شئون القلم لأن التأليف فن ظلمه المتصرفون في أمره ولم يقدروه قدره أو بعض قدره فأصبح كالصناعة الآلية التي لا يقودها الإبداع الفني.
أصحاب الشركات السينمائية المصرية ومديروها يريدون من المؤلف أن يكتب الرواية الكاملة دون أن يأخذ ثمناً وحسبه أن يظهر أسمه على الشاشة ففي ذلك ما يكفل له الطعام وكل لوازم الحياة. . . وإلا فليأخذ بضعة جنيهات ولا لزوم لاسمه ولينسب تأليف الرواية إلى مدير الشركة أو مخرجها. . .
وأصحاب الفرق المسرحية يدعون لأنفسهم القدرة على التأليف فإذا ما قدم مؤلف رواية إلى أحدهم ردها إليه بعد أن يلمَّ بأطراف فكرتها ليكتبها بعد ذلك كيفما اتفق. . .
فلماذا إذن يؤلف المؤلف الموهوب؟ وأين ما يغريه ويشجعه على التأليف؟ إن اعتزازه بفنه يأبى عليه أن يؤلف ليكون هذا مصير ما يؤلفه، ومن هنا تتحطم الأقلام وتنزوي المواهب تاركة الميدان - إذا كان هناك ثمة ميدان - لقوم صناعيين لا يكلفهم التأليف عناء الموهبة وشقاء الفن، فهم يكتبون ويبيعون غير آسفين على بضاعتهم لأنهم كتبوا بعقولهم لا بأرواحهم.
أولئك هم الذين يسمّون اليوم بالمؤلفين وبكبار المؤلفين ولا أقصد بالمؤلفين هؤلاء النفر الذين يؤلفون (للصالات) فليس هذا تأليفاً وإنما هو هراء قوامه النكتة البذيئة والكلمة الجارحة والوضع المقلوب. اللهم إلا القليل منه. . .
وبين هؤلاء الذين يكتبون للمراقص كتابة صبيانية، وأولئك الذين يكتبون للسينما والمسرح
كتابة تجارية، يضيع المؤلف الموهوب الفنان الذي يكتب للفن. . . فالأولى إذن أن يعيش بعيداً عن التأليف.
هذا ما كان حتى اليوم وهذا ما سيكون ونظل نراه ما دام التقدير الحق معدوماً وما دامت الشركات السينمائية والفرق المسرحية تقدر التأليف آخر ما تقدر وتعتبره عنصراً هيناً قليل الخطر بينما هو أحق من كل شيء بالعناية والاهتمام والبذل.
لذلك ترى الفرقة القومية وهي تسمى (قومية) تلجأ إلى الروايات المترجمة وفوق، ما في ذلك من معرة قومية فإنه يصرف الجمهور عنها لأن الجمهور مصري ويريد أن يرى شيئاً مصرياً.
وقد تحتج تلك الفرقة القومية أو تلك المهزلة القومية بأن هذا هو ما يقدم لها وصلح أما غيره فقد كان هزيلاً. . . ولكن هل بحثت الفرقة - وهذا من شأنها - بين الموهوبين حقاً من غير أصحاب الأسماء؟ لا. . . وهل تركت الغايات والميول جانباً وراعت الحق في الاختيار؟. . . لا. . . إذن فمن أين يأتيها المؤلف الفنان المغمور الذي لا عم ولا خال. . .
أما مسألة المباراة فإنها لمهزلة تتكرر وما من ورائها فائدة حتى لو روعي فيها جانب الحياد والحق. . . وهيهات. . .
أما الطريقة العملية لتشجيع التأليف بل لخلق التأليف وإيجاد المؤلفين فهي أن تقدر وزارة المعارف ثمناً معيناً للرواية السينمائية وثمناً للقصة المسرحية وتشرف هيئة محترمة لا تعرف غير الحق إشرافاً فعلياً على طريقة اختيار الشركات لرواياتها وطريقة دفع الثمن، أو تقوم هي معملية الأخذ والاختيار والإعطاء بين المؤلفين والشركات أو المسارح. ثم تقدر من عندها فوق ذلك مكافأة مالية لكل رواية تظهر على الشاشة أو على المسرح وبذلك تكون هي المشرف النزيه فتضمن للمؤلف حقه وفوقه مكافأة فينتج ويبدع ويكون في مصر تأليف ومؤلفون
(ز)