الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 288
- بتاريخ: 09 - 01 - 1939
من مآسي الحياة
فتون وجنون. . .
إلى الآنسة (أ. ش. ف)
نعم يا آنستي العزيزة! لَشدَّ ما لاع القلبَ وراع الضميرَ ما قصصتُ من مآسي الحياة! ولا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب ما هو أمضُّ لوعة وأشد روعة.
وعدتِني أن تقصي عليّ أنباء من تعرفين من طرائد البؤس وأنضاء الهم، وأنا أقص عليك هذه القصة ريثما تنجزين هذا الوعد:
في المنصورة بلد المال والجمال والشعر كانت تعيش أسرة من أسَرِ الريف الغنية السريّة عيش اللهو والزهو والمرح. وكانت قبل ذلك تعيش في مزارعها الواسعة في قرى مركز (شربين) تستغل أراضيها الخصبة استغلال الدَّءوب اليقظ؛ حتى أبطرها الغنى، فرأت طرق الحقول التَّرِبة لا تلائم المركبة الفخمة، والبيت القروي العتيق لا يوائم الأثاث الأنيق، والقريةَ كلها لا تصلح مجالاً للعظمة ولا مجتلى للشهرة؛ فتركت ضياعها وزروعها في ذمة النُّظار والخَوَل، وأسلمت قيادها للبذَخ والسرف: ترتبع بالمنصورة، وتصطاف بالإسكندرية، وتُشتي بالقاهرة. وتظاهر على رب هذه الأسرة الجهلُ والطيش والفراغ والغنى والعُجب، فقلبته بين الحانات والمواخير قَفاً لوجه، حتى ركبه الدين والمرض، فباع الأرض لبنك (خوريمي)، والصحة لبار (أنسطاسي). وكبر عليه أن يعود إلى قريته ذليلاً بعد العز، فقيراً بعد الغنى، فظل في المدينة ولكن في بيت غير البيت، ومظهر غير المظهر. . .
تتألف هذه الأسرة من الوالدين ومن ست بنات وابن واحد. وفي هذا الصبي الواحد انحصر مستقبلها وأملها، فأرصدت ما بقي للأم من موروث الرزق على تربيته وتعليمه. فلعله يكون كابن فلان باشا: ينال (الليسانس)، ويعين وكيلاً للنيابة فقاضياً فمستشاراً فوكيلاً للوزارة. ويومئذ يرجع المال الذاهب، ويعود المجد المضاع، وتندم الشماتة الحاقدة. وكان الفتى نحيل البدن ولكنه ذكي مجد، فلم يتخلف في سنة، ولم يرسب في شهادة، حتى نال إجازة الحقوق. وكان في مدة دراسته الطويلة شغل الأسرة الشاغل: فالوالدان همهما تدبير المال له وتوفير الصحة عليه؛ والبنات الست عملهن غسل ثيابه وكي بِذَله وتصفيف شعره وتهيئة أكله
وتهدئة نومه. وإذا فاتهن اليومَ أن يأكلن الهنيء، ويلبسن الناعم، ويجلون حسنهن للأتراب والخطاب في شارع البحر بالمنصورة، فسيعوضهن الله غداً بفضل أخيهن الموظف خيراً من كل أولئك في القاهرة.
وكانت الأم تبيع في كل سنة من سِنِي دراسة ولدها فداناً من أرضها، تنفق نصفه على المدرسة ونصفه على البيت حتى خرج هو من كلية (حقوقه)، وخرجت هي من كل حقوقها.
أصبحت الأسرة الفقيرة مُعدمة: فلا في الأرض ولا في البيت ولا في اليد. فهي تعيش على ما يبقى من مرتب أملها وكاسبها (فؤاد)، فقد وظف بأحد مراكز طنطا وعاش وحده. وظل الأبوان الشيخان والبنات النواهد في المنصورة على ضيق وقلق ينتظرون اتساع الرزق وامتداد الجاه فيجتمع الشمل ويرفُه العيش.
أتدرين يا آنستي بماذا أجاب القدر دعاء هذه الأسرة، وعمَّ أسفر الأمل في هذا الولد؟
كان فؤاد رقيق البدن والشعور والعقل، فأغرم بالأدب، وفُتن بالجمال، وكلِف بالرُّواء. وحياة الأقاليم لا تقضي حاجة النفس النزاعة الرغيبة من كل ذلك. فكان في مكان عمله بالنهار، وفي مجالي القاهرة بالليل، حتى افتتن بمطربة معروفة، فاضطرب أمره وانتكس حاله.
كان فؤاد عُذْري الهوى، لأن حياءه أقوى من طموحه، وشاعريته اشد من شهوته. وهو إلى ذلك فقير، ومعبودته من ذوات الثراء والمجد، فلا يدخل قصرها إلا غني أو فنان أو مهرِّج. فكان يقنع بالجلوس أمام تختها إذا غنت، وبالطواف حول بيتها إذا استراحت، حتى خبَله العشق وأضناه السهر. وبان أثر ذلك في عمله، فغاب طويلاً عن مكتبه، وأخطأ كثيراً في تصرفه، واختلف دائماً مع رئيسه؛ فانتهى الأمر وهو لا يزال في عهد التجربة بفصله!
لم يشعر فؤاد بهذه الصدمة الصاعقة كما شعر بها أهله؛ فإن حياته كانت في الحب، وحياة أهله كانت في الوظيفة. فلما انجلت غشاوة الهوى قليلاً عن عينيه رأى نفسه خالياً من العمل والأمل، يُزجي فراغه الثقيل الذليل بالهيام في الطرقات، والنظر في (الفترينات)، والاختلاف إلى (الصالونات)، والوقوف بباب المطربة أكثر النهار والليل، يحادث الخدم، ويرقب الزوَّار، ويرصد السيارة الحبيبة حين تذهب وحين تؤوب.
وأسرع إليه أبوه على كبره ووهنه يستكشف سر النكبة ويعالج مقطوع الرجاء، فوجده نفساً
يتهافت في جسد ضارع وهيئة زرية؛ فما زال يتلطف به ويهاويه حتى كشفه عن أمره، وعاد به إلى الأسرة المفجوعة في ولدها الوحيد، وأملها الفرد، وملجئها الأخير، وشرفها الباقي. . .
ليس في طاقتي يا آنستي أن أقص عليك خاتمة هذه المأساة. ولو كان وصفها في إمكاني، لما كان استماعه في إمكانك. فإني أعرف رقة قلبك ووهن جَلدك في مثل هذه الحال. . . وليس من العسير على فطنتك استنتاج ما حدث. فالفتى من تباريج الجوى أصيب بالسل فمزَّق رئتيه وشفَّ جسمه، فهو في السرير عظم هامد ينتظر النهاية المحتومة. والأم من هول النكبة أخذها الفالج؛ فهي سطيحة على الفراش لا تُمر ولا تُحلى. والأب من فقد الرجاء اعتراه الخبال فمات قتيلاً في حادث محزن.
والبنات؟ البنات بقين بعد المخبول والمسلول مع الأم الكسيحة لا كاسبٌ ولا خاطب. فتصوري يا آنستي كيف يعشن! لو كان للإسلام أديرة صوفية لدخلن في حمى الدين؛ ولو كان للحكومة مدارس خيرية لاعتصمن بقوة العلم؛ ولو كان للأوقاف ملاجئ نسوية لعشن في ظلال الخير. ولكنهن يا آنستي يعشن العيش الكريه الضنك على فضلات الأقارب الأباعد. ومثل هذا العيش لا يثبت عليه إيمان ولا أمان. والبيت البائس إذا لم يدخله الملَك دخله الشيطان. . .
أحمد حسن الزيات
الفكاهة والطغيان
للأستاذ عباس محمود العقاد
ملَكة الفكاهة نعمة من نعم الحياة، وخاصة من خواص الإنسان، وعلامة من علامات الارتقاء. ولكنها خليقة أن تعدَّ في النقم إذا هي سوغت ما لا يساغ وأباحت ما لا يباح، كالإذعان لحكم طغيان، والاجتراء على حقوق أو حرمات.
سمعت من سعد زغلول رحمه الله أن (أحمد زيور) في الوزارة أخطر من عبد الخالق ثروت ومَن على طرازه، لأن أحمد زيور لا يثير الغضب في المصريين بل يحفز فيهم ملكة الفكاهة ويقلب الأمر من جد إلى مزاح؛ وهم لا يكرهون ذلك، وقد يستمرئونه ويمضون فيه، فيقبلون على يديه ما لم يقبلوه على أيدي الآخرين، ويأتي الخطر من هذا الباب.
وذكرت هذا وأنا أقرأ الفكاهات التي يرويها الرحالون والناقدون الاجتماعيون عن الألمان والروس والطليان وسائر الأمم التي يحكمها أصحاب السلطان المطلق في هذه الأيام.
فينبغي أن نعلم أن هذه الأمم تصنع ما يصنعه المصريون أحياناً من مقابلة الطغيان بالفكاهة، ومن مجازاة السطوة بالنكتة، فيصول عليها الحاكم وهي تضحك منه، وتتفكه بالأحاديث عنه، وتظن أنها أخذت منه بمقدار ما أخذ منها، فتستريح إلى هذا القصاص!
قيل أن القائد جورنج يحب النكتة البارعة، ويطرب للفكاهة الجيدة، ويود لو يسمع ما يتداوله الناس من أقاويل السخر والمزاح عن الحكومة الحاضرة في البلاد الألمانية، ولكنه لا يصل إليها لخوف الناس من كتابتها أو الجهر بها، فاتفق وسائق سيارته على أن ينقلها إليه كلما سمع شيئاً منها، وله خمسة قروش على كل نكتة مقبولة.
قال الراوي: فطاب المورد للسائق المحروم وحرص على احتكار البضاعة كلها في هذه السوق. ثم جاء إلى القائد يوماً بحفنة صالحة من النوادر اللاذعة، فداخل القائد شيء من الغيظ وأشفق من ذيوع هذا الضرب الأليم من التنكيت، وقال كأنما يحدث نفسه:(ليضحكوا ما شاءوا. . . إنهم لا ينسون على كل حال أنهم أعطونا تسعة وتسعين في المائة من أصواتهم في الانتخابات الأخيرة. . .!)
فصاح به السائق وقد خاف على مورده المحتكر:
سيدي القائد! من الذي باعك هذه النكتة؟!
وروى الراوون أيضاً أن زوجة شابة انتظم زوجها في إحدى الفرق العسكرية الحديثة فطال غيابه عن المنزل وامتدت ساعات التدريب إلى ما بعد الهزيع الأول من الليل، حتى تعودت أن تنام ولا تنتظر أوبته حين يؤوب. وتمادى على ذلك فترة طويلة، فأحبت أن تنبهه بعض التنبيه عسى أن يحتال للخلاص من هذا التدريب أو من تلك المواعيد، فتركت على الموضع الخالي من السرير ورقة كبيرة أشبه شيء باللوحة التي تكتب للتذكار، على بعض الأنصاب والآثار، وكتبت عليها:(هنا!. . . حيث كان يرقد زوجي قبل التحاقه بالفرقة العسكرية). . . فضحك حين رآها. وسمع الجيران بالخبر فضحكوا وتناقلوا الورقة بينهم بضعة أيام. . . وسرى الخبر إلى مكتب الاستطلاع فضحك أيضاً ولكنه اعتقل الزوجة أياماً في معتقل التأديب أو العقاب).
أما في الروسيا فالفكاهات التي يخترعها الظرفاء للضحك من النظام القائم فيها لا تحصى، ولا تقل في الرواج عن الفكاهات الألمانية.
قيل إن مندوباً من مندوبي الحكومة أراد أن يستطلع طِلْع الفلاحين الذين يطوفون أو يساقون إلى الطواف بضريح لينين وهو معروض فيه مكشوفاً للأنظار.
فسأل واحداً منهم: ما رأيك فيه. .؟ أي في الزعيم لينين.
فأجاب على البديهة: حاله مثل حالنا. . . ميت ولكنه لا يدفن!
ووقف فلاح على مقربة من آلة المذياع وهم يركبونها، فسمع المهندس يقول: إن كل كلمة تلفظ هنا تدوي في جوانب العالم كله. فهل منكم من يريد أن يقول (كلمة واحدة) باسم الروسيين؟ فأومأ الفلاح أن نعم. . . وتقدم إلى بوق المذياع فصاح: (النجدة!)
وقفزت جماعة من الأرانب من الحدود الروسية إلى الحدود البولونية، فدهش الحراس البولونيون لكثرتها وسألوها: ما الخبر؟ فقال واحد منها: إن مكتب الاستطلاع قد أصدر أمراً بالقبض على جميع الزرافي التي في الأقطار الروسية. . . قال الحارس: وما شأنكم أنتم وأنتم أرانب ولستم بزرافي؟! فقال الأرنب: (صحيح! ولكن هل لك أن تثبت ذلك لمكتب الاستطلاع؟!)
وعمت الشكوى من مكتب الاستطلاع هذا فأشاع الظرفاء الروسيون أن الزعيم ستالين قد
أمر بتسريحه وشدد على رجاله أن يتلطفوا إلى الناس غاية التلطف لينسوهم فظاعة ماضيه.
إلا أن الفلاحين المساكين لم يسمعوا بهذا الذي أشاعه الظرفاء البلديون، فبينما كانت طائفة منهم في مركبة كبيرة إذ عطس أحدهم عطسة عنيفة سمعها من في الطريق، فأطل واحد من رجال مكتب الاستطلاع في المركبة وسأل: من الذي عطس هذه العطسة؟
فاضطرب الركب وسرى فيهم الرعب وطفقوا يلكزون العاطس المتواري أن يبرز نفسه ويحمل وحده وزر عمله ولا يجور على أصحابه جميعاً بجريرة عطاسه، فلم يسع الرجل إلا أن يعترف بالحقيقة ويقول في كثير من الوجل والتلعثم: أنا. . .!
قال الراوي: فانحنى مندوب مكتب الاستطلاع تنفيذا لأمر الزعيم ستالين وقال: يرحمك الله!
ويروي الظرفاء الروسيون أن طوفاناً من السباب والتبكيت والتعزير سمع ذات يوم في الحجرة المجاورة لمكتب الرفيق ستالين. فانتظر الحجاب حتى يفرغ الزعيم من حديثه، ثم فتحوا الباب ليسحبوا منه الرجل المنكود الذي وقعت على رأسه كل هذه الشتائم والمقذعات، فما راعهم إلا أن يبصروا المكتب خالياً وليس فيه أحد غير الزعيم.
- أين الرجل المنكود الذي كنت تشتمه؟
- فأجاب الزعيم: أنا هو. . . وقد فرغت الساعة من حصة المناجاة!
عرضت هذه النوادر و (القفشات) وعرضت معها نوادر المصريين وقفشاتهم للرومان والترك وقره قوش وسائر الحاكمين الذين نالوا من المصريين بالقسوة، ونال منهم المصريون بالنكتة، فورد على خاطري هذا السؤال العجيب: لو كنت حاكماً طاغياً ماذا أصنع لهؤلاء الساخرين؟ هل أطلق لهم العنان يرسلون النكات والقفشات حيث يشاءون؟ أو أحسب حساباً لعواقب هذه النكات والقفشات فاحجر على أصحابها ومذيعيها وأتعقبهم بالمصادرة والجزاء؟
إن النكتة تلطف وطأة الظلم وتوهم المظلوم أنه ينتقم لنفسه بعض الانتقام فتهوّن عليه الشدائد وتروضه على الصبر والانتظار، فهي من ثم معين للحكام على المحكومين.
إلا أن النكتة قد تزري بالمهابة وتعصف بالرهبة وتجعل الحاكم المخيف أضحوكة في
الأفواه ومهزلة للسامرين؛ فهي من ثم مضعف لسلطانه ومجرئ على مقامة ومحرض على الثورة والانتقاض.
هي بلسم للمظلومين فهي مقبولة
وهي سلاح للمظلومين فهي مرهوبة
فماذا يحسن بالحاكم المستبد أن يصنع مع هؤلاء المازحين؟
ليس لهذا السؤال جواب فاصل فيما أحسب، ولكني أقرر الحقيقة إذا قلت إن المحكومين لا يحاربون الظلم بالفكاهات والنكات إلا إذا كان للصبر بقية، وفي قوس الاحتمال منزع كما يقولون، وإن الحاكمين لا يتسمحون في قبول الفكاهات والنكات إلا إذا كان للقوة بقية وللثقة بدوام السلطان مجال فسيح.
أما إذا ضاقت الصدور ونفذت الحيل فالمحكومون لا يعتصمون بالفكاهة والتنكيت بل يغضبون ويثورون.
وكذاك إذا ضاعت ثقة الحاكم بدوام سلطانه لم يصبر على السخرية والمزاح، وعالج الحجر عليها عسى أن يستعيد شيئاً من المهابة والامتناع.
وبعد هذا وذاك يجب علينا أن نفرق بين الفكاهات، وأن نفرق كذلك بين الطبائع التي تتخذها وسيلة لحرب الحكومات.
فالفكاهة التي قوامها تلفيق الجناسات اللفظية والملاحظات الشكلية لا تخيف أحداً من العقلاء. أما الفكاهة المخيفة حقاً فهي تلك التي تنفذ إلى العظم وتسري إلى قرارة الأمور، ولا ينطبع على هذه الفكاهة إلا أناس يعملون حين يتفكهون، ويجترئون حين يسخرون.
عباس محمود العقاد
الشريف الرضي وخصائص شعره
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
على أن الوجدان يفيض في شعر الشريف حتى من غير الاستعانة بهذه الصيغ البيانية. أنظر إلى وصفه حبيبته في قوله:
تُحَبِّبُ أيامَ الحياةِ وإنها
…
لأَعذبُ من طعم الخلود لطاعم
وتراه يستجمع أساليبه البيانية كلها في قصائدهِ الطويلة المشهورة كرثائه للصابي وللصاحب في قصيدتيه التي يقول في مطلع واحدة:
أعلمت مَنْ حملوا على الأعواد
…
أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
وفي مطلع الأخرى:
أكذا المنون تُقَطِّرُ الأبطالا
…
أكذا الزمان يضعضع الأجْبالَا؟
وهاتان القصيدتان من أفخم قصائده في الرثاء وإن كان الحنين فيهما أقل منه في قصائده في رثاء أهل بيته. وله في رثاء الصابي قصائد أقل فخامة وإن كانت أكثر حرقة. ومن أكثر قصائد الشريف في الرثاء وجداناً قصيدته العينية المشهورة التي يقول فيها:
لله نفرة وجد لست أملكها
…
إلاّ تذكرتُ إخوان الصفاء معي
وفيها يقول:
الآن نعلم أن العيش مُخْتَلَسٌ
…
وأننا نقطع الأيام بالخُدَعِ
أُخَيَّ لا رغبت عيني ولا أذني
…
من بعد يومك في مَرْأَى ومُستَمَعِ
وقصيدته التي يقول في مطلعها:
قف موقف الشك لا يأس ولا طمع
…
وغالط العيش لا صبر ولا جزع
وهي في نظري من أكثر قصائده في الرثاء وجداناً. ومن قصائده الوجدانية في الرثاء في آل المسيّب العينية التي يقول فيها:
وفارقني مثل النعيم مفارقاً
…
ووَدَّعَني مثل الشباب موَدِّعا
ومن قصائده الحبيبة في الرثاء قصيدته في رثاء أمه وهي أكثر وجداناً من قصيدة المتنبي في رثاء جدته التي يقول فيها:
وإنْ لم تكوني بنت أكرم والد
…
لكان أباك الضخم كونك لي أمَّا
وللمعري قصيدته الطويلة الفخمة في سقط الزند في رثاء أمه التي يقول فيها:
مضتْ وقد اكْتهلت فخُلتُ أني
…
رضيع ما بلغتُ مدى الفِطام
ويقول:
سألتُ متى اللقاء فقيل حتى
…
يقوم الهامدون من الرجام
فليتَ أَذِينَ يوم الحشر نادى
…
فأجهشت الرمام إلى الرمام
ولكن قصيدة الشريف أسهل وأسلس وأكثر وجداناً وهي التي مطلعها:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي
…
وأقول لو ذهب المقال بدائي
وهي كلها ألصق بالموضوع من بعض أجزاء قصيدة المعري. ولابن نباتة السعدي قصيدة تستجاد في رثاء أمه يقول فيها:
فَقدْتُ كبيراً بِرَّ أم حَفِيَّة
…
كما فقد الثَّدْيَ المعلّل مُرضعُ
تُبادرُ نحوي تبتغي أن تسرني
…
ولم تدْرِ أني بالسرور أُرَوَّعُ
إلى أن قال:
إلى أي تعليل وأي مَبَرَّةٍ
…
وود نصيح بعد ودك أرجع
ولأَمْرٍ ما تذكرني قصيدة الشريف بقصيدة كوبر الشاعر الإنجليزي في رثاء أمه؛ ولعل الذكرى لأثرهما في الوجدان فحسب لا لشبه كبير.
وللشريف قصيدة في التعزية تستحب للتلطف في التعزية تلطفاً يجيده الشاعر الوجداني وهي التي مطلعها: (لو رأيت الغرام يبلغ عذراً).
وقصائد الشريف في رثاء جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مشهورة جيدة فخمة، ولكنها في نظري من حيث هي شعر وجداني أقل مما ذكرت من القصائد. وربما أكون مخطئاً، وهي لا ينقصها التحرق والتأسف ولكن قيمة الشعر الوجداني ليست بالتحرق والتلدد فحسب، ولا بالفخامة ولا بدقة المنطق ولا بعكسه، وقد يكون الشعر الوجداني عكس المنطق إذا كان العكس يعبر عن صدق العاطفة، فقول الشريف في تشتت قومه وآله:
ما كان ضر الليالي لو نفَسْنَ بهِم
…
على النوائب واستثناهُمُ القَدَرُ
ليس من منطق العقل ولا هو عكس المنطق الناشئ من مبالغات أهل الصنعة المزيفة بل هو منطق الوجدان الذي يعبر عن النفس؛ فإن كل نفس في الحياة تطلب أن تُسْتَثنَى من آلام الحياة وصروفها ومنطق عقل صاحبها يعلم أن هذا طلب محال. فالشعر الوجداني توفيق ويصادف هوى النفس ومنطقها حتى لكأنه يخلق لها سمعاً يصغي إليه وقلباً يطرب له. وقد يكون البيت الواحد منه ألصق بالنفس وأثمن من قصيدة فخمة سواء أكانت من شعر التلدد، أو من الشعر التعليمي المحض المستقل عن العاطفة، أو من شعر الزخارف وألاعيب الذكاء في تبذله ولهوه. أنظر مثلاً إلى أبيات الشريف التي يذكر فيها كيف أنه يدافع الهموم بذكرى النعيم الزائل بينما غيره يدفعها بالخمر أو سماع الأغاني ولكنه يفيق من نشوة الذكرى كما يفيق غيره من نشوة الخمر؛ وهي الأبيات التي أولها:
إذا ضافني هم أمَلُّ طروقه
…
ببعض الليالي أو أضيق به صبرا
إلى أن يقول بعد صحوه من الذكرى:
فما كان إلا خلسة ثم أنني
…
رأيت يدي مما علقت به صفرا
وهي أبيات ليس فيها خيال غريب ولكن قيمتها في صدق وصف حالة للنفس ووسائلها في تعللها. وللشريف قصائد شهيرة في الإخوانيات قلما تتفق لشاعر آخر في صدق قولها وبساطتها وقربها من النفس وفي مظاهر الوجدان فيها مثل قصيدته في مودة الحب، وهو موضوع قلما يطرقه شعراء العربية عند وصف الحب في أشعارهم، أنظر إلى قوله فيها:
أينعت بيننا المودة حتى
…
جَلَّلَتنا والدَّهرَ بالأوراق
أو قوله فيها:
في جبين الزمان منك ومني
…
غُرَّةٌ كوكبية الائتلاق
ومن قصائده المشهورة قصيدته التي يقول فيها لصديقه:
كأنكَ قدمة الأمل المرجى
…
عليَّ وطلعة الفرج القريب
والقصيدة التي يقول فيها:
وكم صاحب كالرمح زاغت كعوبه
…
أبى بعد طول الغمز أن يتقوما
وهي من قصائده التي ترد كثيراً في كتب المختارات، وحق لها أن تختار. والشريف إذا جُوفِيَ عبر عن شعوره بقوله:
ويُظهِرُ لي قوم بعاداً وجفوة
…
وما علموا أني بذلك أفرح
فيكون هو المعزز المكرم بقوله هذا. وأنظر إلى الوجدان في قوله:
تُحَبِّبُ أيام الحياة وإنها
…
لأعذب من طعم الخلود لطاعم
وهو لا يفحش في هجائه كما يفعل الشعراء ولكنه مع ذلك يدمغ خصومه، أنظر إلى قوله:
من كل وجه نقاب العار نقبته
…
كالعر مر عليه القار والقطر
يَصْدَى من اللؤم حتى لو تعاوده
…
أيدي القيون زماناً لا نجلي الأثر
وهي مبالغة ضرورية لأنها نكتة يراد بها السخر. وانظر إلى قوله:
تمسكوا بوصايا اللؤم تحسبهم
…
تتلى عليهم بها الآيات والسور
وقوله:
لو عِيْدَ من داء الفهاهة واحد
…
عادوه من عي إذا حضر الندى
وأشعاره في الشيب كأشعار أخيه المرتضى مشهورة، وقد عنى بشعرهما في الشيب صاحب كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) وهو باب من الشعر الوجداني أيضاً. وهذه النظرة في ديوان الشريف تثبت ما قدمناه في أول المقال من أنه أكثر نصيباً من شعر الوجدان ولكن ليس له في وصف الطبيعة كقصيدة أبي تمام التي أولها (رقت حواشي الدهر فهي تمرمر) أو كقصيدة البحتري التي يقول فيها (وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكاً) أو (شقائق يحملن الندى فكأنه) أو وصف بركة المتوكل أو وصفه آثار الفرس وغيرها من شعر الوصف التصويري. وليس له كوصف ابن الرومي غروب الشمس في قوله (وقد رنقت شمس الأصيل الخ) ولم يسر شعره في الأمثال كما سار بعض شعر المتنبي، ولم يولع بالبحث في الحياة والكون كما يفعل المعري، ولكنه مع ذلك قد أمن زلل المبالغات والتشبيهات البعيدة المرفوضة، وأمن الفتور وأمن المعاظلة والتواء القول وأمن الألاعيب اللفظية. وشعر الوجدان ليس بأقل منزلة ولا أقل أثراً في النفس من أبواب القول الأخرى التي بزه فيها منافسوه، فهو إذاً أقل منهم منزلة وله مع ذلك نظرات صائبة تدل على عقل وذكاء وذوق في اختيار ما يقول ورفض ما لا يجمل به أن يقول. أنظر إلى قوله في وصف لذة القسوة المركبة في بعض الطبائع:
يهش للمرء تغريه أظافره
…
كما تهش سباع الطير للجيف
إذا نجا من يديه غير منعقر
…
أفنى أنامله عضاً من الأسف
وقوله:
يصل الذليل إلى العزيز بكيده
…
والشمس تُظلِمُ من دخان الموقد
وقوله في أثر الأفذاذ في حياة الناس وتاريخهم:
ولولا نفوس في الأقل عزيزة
…
لَغَطَّى جميع العالمين خمول
وقوله:
رب نعيم زال ريعانه
…
بلسعة من عقرب الحاسد
وقوله:
كفى بقومٍ هجاءً أن مادحهم
…
يهدي الثناء إلى أعراضهم فَرَقاً
وكل هذه نظرات صائبة في النفس، وله أشياء كثيرة من أمثالها، ولا غرابة أن تكون للشاعر الوجداني نظرات صائبة في النفوس. وله أيضاً وصف بديع كما قال في وصف الفرس:
إذا تَوَجَّسَ كان القلبُ ناظرَهُ
…
والقلب ينظر ما لا ينظر البصر
وقال في وصف تردد الجميل في النعيم وتشبيهه بتردد القُرْط الجميل في اهتزازه على جانب الوجه الجميل بعد تشبيه تردد الحبيب في النعيم بتردد النسيم ولعبه بالأغصان:
ينأى ويدنو على خضراء مورقة
…
لعب النُّعامَى بأوراق وأغصان
كالقُرْطِ عُلِّقَ في ذِفْرَى مُبَتَّلَةٍ
…
بين العقائل قُرْطَاهَا قليقان
وهذا الوصف إذا تُؤُمِّل وجد وصفاً مطرباً
عبد الرحمن شكري
من برجنا العاجي
أمس خرجت من برجي العاجي إلى البرج الدائر. والبرج الدائر هو مرصد حلوان. دعاني إلى زيارته مديره الأستاذ مدور. وهيأ لي المنظار الكبير مسدداً إلى القمر. فذهبت يدفعني الشوق إلى استجلاء سر هذا الكوكب الجميل، الذي نظم فيه شعراء الأرض نصف شعرهم، ودان له عشاق الأرض بنصف هنائهم. ورفعت عيني إلى تلك العين الذهبية التي طالما رعت بنورها نصف حياتنا، وسهرت على مسراتنا، وسكنت من أحزاننا. نظرت، وإذا أنا أتراجع أسفاً وألماً. لا أحب أن أصف ما رأيت. ولكني أحب أن أسجد لله شكراً إذ جعل لنا عيوناً لا تبصر إلا بمقدار. إن كل الجمال المحيط بنا إنما هو من صنع عيوننا القاصرة. والويل لنا إذا أبصرت أعيننا الآدمية أكثر مما ينبغي لها أن تبصر.
ذلك شأن القمر باعث الجمال على الأرض. وكذلك شأن الشمس باعثة الحياة على الأرض. إنها تشرف علينا من مكان معين بمقدار. فإذا اقتربت منا أنملة هلكنا حرقاً، وإذا ابتعدت عنا أنملة متنا برداً. إن يد الحكمة الأزلية قد وضعتها في الموضع الذي لابد لها فيه من أن ترسل إلينا الدفء والخير والسلام.
ما أدق هندسة الكون! اللهم إني أعود إلى برجي وأنا شديد الإيمان بك، قريب الفهم لك، مدرك بعض الإدراك لمشيئتك في خلق الإنسان، مطمئن كل الاطمئنان إلى مراميك في إنشاء حواسنا الآدمية على هذا الضعف. إن ما اعتدنا أن نسميه ضعفاً وقصوراً في إدراكنا حقيقة الأشياء ليس إلا السياج الذي يحمي سعادتنا البشرية فإذا خرجنا عن نطاق هذا السياج فقد انقلبنا مخلوقات أخرى لا تتصل بالأرض ولا بجمالها ولا عواطفها. مخلوقات ليست آدمية، فقد ترى غير ما يرى الآدميون. وقد ترى أبعد مما يرون. ولكنها لن تكون من أجل ذلك أسعد ولا أسمى ولا أنبل.
اللهم إنك مع قصورنا قد صنعتنا على خير حال، ومع جهلنا قد هيأت لنا أحسن مآل.
توفيق الحكيم
أغرب ما رأيت في حياتي
للدكتور زكي مبارك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
كيف أقطع مرتب مرجريت؟
وكيف أدخل البؤس إلى صدر موريس؟
كيف؟ كيف؟
المسألة في ذاتها هينة، ولكنها مع ذلك بدت لي في غاية من التعقيد، لأن اتصالي بمرجريت كان أثار حول اسمي شبهات أذاعها فريق من أهل الفضول في باريس، وأظن - وبعض الظن إثم وبعضه غير إثم - أن ابنة صاحب البيت الذي كنت أقيم فيه كان لها دخلٌ في إذاعة الشبهات التي آلمتني في باريس.
كان ناس من المصريين يسألون عني من حين إلى حين فكانت تلك البنت تلقاهم بابتسامة خبيثة، ثم تقول: المسيو مبارك رجل لطيف، فهو لا يُلزم الخدم بترتيب غرفته غير مرة أو مرتين في الأسبوع!
ومعنى ذلك إني أبيت ليالي كثيرة في مكان مجهول.
وكان لي مع هذه البنت تاريخ جميل يغريها بأن تُلقي عليّ حقودها حين أغيب.
وكان المصريون في باريس يتعتّبون ويتلومون كلما رأوني، ويحبون أن يعرفوا أين أقضي أوقات الفراغ.
وكانت حجتي حاضرة، ولكنها لم تكن تُقنع إلا من يريد أن يقتنع. كنت أقول إني تركت في مصر خمسة عشر مليوناً وما يهمني أن أراهم مرة ثانية في باريس.
والواقع أني أحسنت كل الإحسان في هذا المسلك، فلم يكن لي أيّ نفع من تزجية أوقات الفراغ مع المصريين المقيمين في باريس، فأكثر كلامنا حين كنا نلتقي لم يكن إلا ثرثرة سخيفة باللغة العربية حول السياسة المصرية، وربما كنت المصري الوحيد الذي عاش في باريس ولم يعرف مكان السفارة المصرية في باريس.
والواقع أيضاً أن صلتي بمرجريت لم يعرفها أحد قبل اليوم غير شخص واحد هو الدكتور أمين بقطر الذي كلفتُه في إحدى السنين أن يمر على مرجريت ليحدثها عن أشياء لا يمكن
أن تكتب في خطاب، ومع خطورة هذه المهمة فرَّط الدكتور بقطر في زيارة مرجريت. . .
وهكذا يكون الإخوان في هذا الزمان!
والحاصل - كما يعبر أهل بغداد - أني كنت أحب أن أتخلص بصفة نهائية من مرجريت، لأني كنت أخشى أن أفتضح في الأندية المصرية، وتحقّ عليّ لعنة خصومي، الخصوم الذين كانوا يعرفون كيف يلطخون سمعتي بالسواد بلا تعفف ولا استحياء.
كان يجب أن أقطع صلتي بمرجريت، وهل بقيت بيننا صلة غير مئات الفرنكات التي أجود بها في كل شهر لأنقذ موريس من الجهل ومن الجوع؟
كان هذا المرتب ثقيلاً جداً، وكان إرساله يضيع علي في كل شهر يوماً أو بعض يوم، وقد اضطرني مرة إلى أن أصرخ بالفرنسية! '
وكنت في كل مرة أتعرض لمكاره كثيرة من التحليلات النفسية، كنت أقول إن لي قرابات كثيرة تعاني الضر والبؤس. وهي أولى بكرمي إن كنت من الكرماء.
وكنت أقول إن مرجريت آوتْ روحي وقلبي خمسة عشر شهراً، ومكنتني من أن أصير أباً كريماً لطفل جميل.
وكنت أقول إن لمرجريت فضلاً عظيماً في مرونة لساني باللغة الفرنسية، المرونة التي مكنتني من أن أحاور هيئة الامتحان في مدرسة اللغات الشرقية خمس ساعات، والتي مكنتني من أن أصاول هيئة الامتحان بالسوربون ثلاث ساعات، وذلك مغنمٌ ليس بالقليل.
كنت أقول إن مرجريت هي التي عرّفتني بدقائق الحياة في باريس.
كنت أقول إني لم أحسن الأكل بالشوكة والسكين إلا بفضل مرجريت
كنت أقول إن مرجريت بكت مرة وأبكتني يوم زرنا معاً مصانع ستروين، حين وقفنا ننظر إلى فتاة تطرق الحديد وهي أرق من الزهر وأكثر إشراقاً من الصياح.
قالت مرجريت: ما رأيك يا محبوبي في هذه الفتاة؟
فتلعثمت
فقالت: قل الحق، ماذا تدفع من الأموال لحديث ليلة مع هذه الحسناء التي تطرق الحديد؟
فقلت: وهل هي أجمل من مرجريت؟
فقالت: دع هذا الأدب المصقول وأجبني
فقلت: أقدم حياتي ثمناً للسمر ليلة مع هذه الفتاة
فقالت: وهل تعرف كيف زهدت هذه الفتاة في فتنة باريس لتلهو بطرق الحديد؟
فقلت: أحب أن أعرف
فقالت: هذه فتاة تستعد لتكون ربة بيت، فهي تطرق الحديد لتجمع من الأموال ما يمكنها من أن تكون زوجةً لرجل شريف مثل المسيو مبارك
ثم استغرقتْ في البكاء والنشيج
بكيتُ يومئذ لبكاء مرجريت بكيتُ بكاء لو شهدته الملائكة لأضافت اسمي إلى أسماء الشهداء والصِّديقين
وفي تلك اللحظة جذبتُ يد مرجريت بعنف وقلت: لن نفترق يا مرجريت
فقالت: وكيف؟
فقلت: سأنقلك إلى مصر، إن كان لي إلى مصر مَعاد
فقالت: وماذا أصنع في مصر؟ هل تراني أصلحُ لمعاونة مَدام مبارك على ترقيع الجوارب؟
فقلت: إن مَدام مبارك لا ترقِّع الجوارب
فقالت: كيف تقول هذا وأنت أبخل من اليهود؟!
وضحكنا ضحكاً صنع بالدموع ما تصنع الشمس بآثار الغيث
ذكريات مرجريت كلها لطيفة، ولكن يظهر حقاً أن فيّ شيئاً من أخلاق اليهود، لأني عانيت في حياتي ما يعاني اليهود، وهل يبخل اليهود بالطبع ولهم جدٌّ اسمه السموأل؟
إنما يبخل اليهود بسبب الاضطهاد، وأنا أبخل بسبب الاضطهاد
كان أجدادي من أغنى أهل المنوفية فحملتهم النخوة العربية على التبذير والإسراف إلى أن صافحوا الإفلاس
فأنا أجمع القرش إلى القرش لأصير من الأغنياء
وهل يتفق هذا مع الإنفاق على امرأة جميلة في باريس؟
يجب أن أقطع مرتب مرجريت
ولكن كيف؟
أحب أن أعرف كيف أتخلص من مرجريت
كانت مرجريت تكتب إليّ في كل أسبوع خطابين، وكانت تخاطبني بالكاف، وكنت أبخل عليها بالمخاطبة بالكاف، لأني كنت أخشى أن يكون في المخاطبة بالكاف ما يشهد بأني كنت مع تلك المرأة على صلات غرامية
وكانت مرجريت تتألم من ألا أخاطبها بالكاف وتقول: إن بخلك عليّ بالمخاطبة بالكاف يوجب أن أخفي رسائلك عن موريس، وهي كل ما في حياة هذا الطفل المسكين من عزاء.
حرسك الله يا موريس وبارك في حياتك الغالية!
وكانت مرجريت تتحدث في رسائلها عن أشياء دقيقة لا تذكر إلا في رسائل العشاق
وكنت أتغافل عن تلك الأشياء حين أكتب الجواب
وكان هذا يؤذيها أبلغ إيذاء، فكانت تتهمني بالقسوة والعنف
والله وحده يعلم كيف كنت أسيء الأدب في مراسلة مرجريت، فأنا أعيش في القاهرة وهي تعيش في باريس، أنا أحترس تخوفاً من بطش خصومي، وهي تترسل بلا تخوف لأنها تعيش بين قوم يرون صيانة الحب من الشرائع
وهل تعلم مرجريت أن محبوبها الغالي يحيا في القاهرة بلا ناصر ولا معين؟
هل تعلم مرجريت أن محبوبها يشتغل بالتدريس وهو عمل تكدره الشبهات؟
هل تعلم مرجريت أني لا أصلح أبداً لما صلح له فيكتور كوزان الذي كان أعظم أستاذ للفلسفة في باريس ولم يكن له زوجة وإنما كانت له خليلة تحرسه وترعاه؟
إن مرجريت لا تفهم أني مصريٌ يعيش في مدينة لها تقاليد غير تقاليد باريس
يجب أن أقطع مرتب مرجريت وأن أتخلص من مرجريت
وفي أثناء تلك الأزمة النفسية وقع حادث عجيب لم يهتزَّ له في القاهرة قلب غير قلبي، وقع حادثٌ لا يصدقه أحدٌ في الشرق ولكنه زعزع كياني
وقع حادث لم يعلق عليه كاتب مثل المازني أو العقاد أو الزيات، ولم يلتفت إليه مصطفى عبد الرازق ولا منصور فهمي ولا طه حسين
ولكنه زلزل قدميَّ وهدَّ بنياني
وهل يقع في الدنيا حادث أغرب وأعجب من أن يجيء المسيو ميللران رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق ليطالب في المحكمة المختلطة بالقاهرة عن حق إحدى الغواني بالميراث
في تركة أحد الأمراء؟
قد أنسى كل شيء، ولكني لا أنسى أني اعتذرت عن دروسي بالجامعة المصرية لأشهد دفاع المسيو ميللران
وماذا قال المسيو ميللران في ذلك اليوم؟
قال إن موكلته امرأة شريفة
وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى صُعِقتُ، فقد فهمتُ أن المرأة من حقها أن تحب، وقد أحبتني مرجريت فمن حقها أن تطالبني بالنفقة الشرعية حين تشاء
وماذا أملك حتى تطالبني مرجريت؟
أملك سمعتي، وهي كل شيء، وبفضل تلك السمعة أتسامى لمنصب الأستاذية في الجامعة المصرية
وقد آن أن أعترف بالخطر الذي كان يهددني في جميع أطوار حياتي، فأنا رجل من كبار العلماء، وستمرّ أجيال وأجيال قبل أن يوجد لي في البحث والاطلاع شبيه أو مثيل ولكني وا أسفاه مولعٌ بدرس سرائر النفس الإنسانية. وأغراني بذلك أني كنت أول دكتور في الفلسفة من الجامعة المصرية، وهذا المعنى هو الذي حملني على الصراحة فيما أسجّل وأقيّد من الأفكار والمعاني، وأغلب الظن أني سأكون أشرف ضحية للدراسات الفلسفية، ولا يغريني إلا شيء واحد هو الشعور بأني أنقذ الأدب العربي من كابوس الرياء والنفاق، ولكن الأدب العربي يحيا لأموت
والحاصل - مرة ثانية - أني عرفتُ وتيقنتُ أني لا أملك قطع مرتب مرجريت
وهل أستطيع الوقوف بالمحكمة المختلطة بالقاهرة أمام محام ذلق اللسان يطالبني بحقوق مرجريت؟
وما هو مبلغ السبعمائة فرنك حتى أهرب من وجه مرجريت؟
إن أصغر مبلغ أتقاضاه على المقالة الواحدة لا يقل عن جنيهين، فما الذي يمنع من أن أنفق على مرجريت مما أتقاضاه من مقالاتي في مثل مجلة الرسالة أو مجلة الهلال؟
وما الذي يمنع من أن أنقذ سمعتي بمبلغ ضئيل هو مئات من الفرنكات؟
ولي مع ذلك تعزية صغيرة هي شعور موريس بأن له أباً هو المسيو مبارك الذي استأنف
سياحاته في مصر والشام والعراق
ولي تعزية ثانية هي رسائل مرجريت التي تحدثني عن غرائب الأشياء في باريس
ولي تعزية ثالثة هي الشعور بأن لي غرفة في باريس أدخلها على غير موعد حين أشاء
ولكني مع الأسف الموجع كنت أشعر بأني قد نزلت إلى أسفل دركات الانحطاط، لأني كنت أقدم المرتب إلى مرجريت بفضل الخوف لا بفضل الوفاء
وفي صيف سنة 1937 كانت لي فرصة لزيارة باريس بمناسبة المعرض، وكانت مرجريت تلح في أن أزور ذلك المعرض لأراها وتراني، وقد شجعني سعادة محمد العشماوي بك على زيارة المعرض لأكتب عنه مقالة أو مقالتين، ولكني رفضت
رفضت فراراً من مرجريت
فماذا صنعت مرجريت؟
ماذا صنعتْ مرجريت؟
كتبت خطاباً تقول فيه:
(عزيزي مبارك
يسرني أن أخبرك أن موريس نال إجازة الدراسة الثانوية وقد وجد عملاً بمكتبة. . . بمرتب قدره ثمانمائة فرنك. وبعد أيام سأقف مع المسيو. . . بكنيسة المادلين لأداء مراسيم الزواج. فأرجوك أن تبقي المبلغ الذي تتفضل به شهرياً، فقد ينفعك في تربية أبنائك، ويهمني أن تعرف أنك أشرف رجل عرفته في حياتي، وأن تثق بأن خطيبي لا يغار منك، فقد صارحته بكل شيء، وهو في غاية الدهشة من أدبك العالي، وكل ما نرجوه أن ترسل عبد المجيد لنتولى تثقيفه في باريس)
صديقتك العزيزة جداً
مرجريت
حاشية:
(أنا أقرأ خطاباتك مع زوجي. فهل تقرأ خطاباتي مع زوجتك؟)
آمنت بالله والحب!
لقد أنقذتني مرجريت من العذاب الأليم
وفرتُ سبعمائة فرنك قبل رحيلي إلى العراق، وفرتُها وأنا لئيمٌ بخيل
وفرتُ سبعمائة فرنك لأحرم نفسي وقلبي من أبوّة موريس
وفرت سبعمائة فرنك لأرجع إنساناً سخيفاً لا يعرف الهيام بأودية المعاني
مرجريت! مرجريت!
اذكريني بالشعر يوم أموت
هل الله عاف عن ذنوبٍ تسلَّفتْ
…
أَم الله إن لم يعفُ عنها يعيدها
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
من رحلة الحجاز
حديث الحج في المدينة المنورة
للدكتور عبد الوهاب عزام
فصلنا من جُدَّة مغرب الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، متوجهين تلقاء المدينة، وهي مسافة تقطعها قوافل الإبل في 14 يوماً. وبعد مسير سبع ساعات في طريق سهلة على مقربة من البحر بلغنا رابغاً. وهي قرية ذات نخل على مسير ساعة من البحر للراجل، تجتمع فيها طرق بين جدة ومكة والمدينة، وإذا حاذاها الحجاج القادمون من الشمال في البحر الأحمر أحرموا للحج، وليست هي ميقات للإحرام ولكن الميقات الجحفة على عشرة أميال إلى الجنوب منها
واستأنفنا المسير ضحى الخميس آملين أن نبلغ طيبة عشية اليوم ولكن الرمال عوّقت بعض السيارات فبتنا في أبيار بن حصان. ثم غدونا سائرين ونزلنا بالمسيجيد بعد ثلاث ساعات. واستأنفنا السير حتى العصر فلاح لنا النخل أخضر يانعاً يبشر باقتراب الغاية؛ ونزلنا آبار علي وهي ذو الحليفة ميقات أهل المدينة. ومنه أحرم النبي صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع. ثم سرنا فلاحت لنا بعد قليل المدينة المنورة تتوجها القبة الخضراء، كأنما تباهي على صغرها السماء. . . أهذه نضرة الإيمان في هذه البقعة، أم ازدهار الآمال في هذه الساحة؛ أم كما قال عاكف بك: واحة نزلت من السماء لتأوي إليها الأرواح المتحرقة في البيداء؟
ودخلنا المدينة من الباب الشاميّ حيث محطة سكة الحديد الحجازية. وحططنا رحالنا في المدرسة السعودية وقد أعدّت لنزولنا. ثم سارعنا نتأهب للموقف الجليل، للساعة التي تعرج فيها الروح من الأرض إلى السماء. ذلكم المسجد النبوي في بهجة النور والإيمان، يدوّي بالمصلين والداعين والقارئين؛ ولكن الواقف إزاء الحجرة النبوية لا يرى من هذا الجمع أحداً ولا يحس من هذا الدويّ همساً. لا يرى إلا هذا الجلال ولا يسمع إلا هذا الوحي. وإنما هي وقفة يمّحي فيها الزمان والمكان فيتصل الأزل بالأبد والسماء بالأرض
يا لك بقعة صغيرة لا يدرك العقل مداها، ولا يبلغ الفكر منتهاها! يا لك حجرة يظل الفكر مسافراً في أرجائها، محلِّقاً في أجوائها، فيتطوّف في أرجاء التاريخ، ويحلق في أقطار
السماء والأرض؛ وكأنما طوى الزمان، وزُويت الأرض، واجتمعت الإنسانية، وحشر البرّ والحق وكل خلق طيب في هذا الضريح. يا لك بقعة كالكوكب المضيء تناله الأعين في لمحة وتحيط أشعته بالعوالم العظيمة! يا لك بقعة كمنبع النهر العظيم، متدفق بالحياة فياض بالبركة مدّاد بالخير يحيي الأجيال بعد الأجيال.
يا حيرة الوصف، وعجمة البيان! أهي عنوان كتاب انطوى على الحق والصدق، والخير والبرّ، والإحسان والمرحمة، يقرؤه القارئ جملة ثم لا يزال تروعه منه الصفحة بعد الصفحة؟ أم هي تاريخ لا يزال الدهر يكتب صفحاته وإنما أوله وحي الله وآخره غيب الله؟
أترى هؤلاء المصلين لا يفترون، وهؤلاء المرتلين القرآن لا يصمتون، وهؤلاء الداعين لا ينقطعون، أتسمع هذا الآذان وهذا السلام وما يحدث به المسلم أخاه، وما يفضي به في علانيته ونجواه؟ ليس فيما ترى إلا أناسيّ هداهم محمد، وأفعال علّمها محمد، وكلمات أملاها محمد، بل كل صوت يرتفع إلى الله في أقطار الإسلام، وكل عبارة في وضح النهار أو جنح الظلام، وكل لسان يدعو إلى الخير وكل يد تمتد بالبر، وكل كلمة حق ودعوة صدق، وكل نية محمودة وسعي مشكور، فهنا منبعه، ومن هذه البقعة وحيه؛ بل كل نزعة في المسلمين إلى سؤدد، وكل طموح إلى علاء وكل سلطان فيهم قائم بالحق، وكل شرع نافذ بالعدل، وكل دعوة إلى حرية وثورة على ظلم، وانتصار للحق، وتمرد على الباطل - كل أولئك شعاع من هذا النور، أو قطرة من هذا الينبوع
ولست تتمثل هنا مجداً ولا سلطاناً ولا سؤدداً ولا علواً إلا تمثلته تواضعاً للحق، وبراً بالخلق، ورأيته سؤدد المساكين وسلطان المستضعفين. السلطان الذي يجمع الناس على شريعة من العدل والمرحمة والمودة والسلام.
موقف يتضاءل في جلاله كل جلال، ويصفو في جماله كل جمال. لمحات تطهر فيها النفس من أرجاسها، وتبرأ من أهوائها، وتسمو على شهواتها، وتخلص من أغلالها، فتستمد الخير والحق والعلاء والتقوى والحب والسلام وتَسَع السماء والأرض وكأنما تخلق خلقاً جديداً وتفتح في أعمالها صفحات جديدة. خسر من لم يطهره هذا الموقف، وخاب من لم ترفع نفسه هذه الساعة. هنا النفس المطهرة. هنا محمد بن عبد الله. هنا رسول الله. هنا خاتم النبيين. ثم هنا اثنان من صحبه وخلفائه: أبو بكر وعمر.
المسجد النبوي في شكله الحاضر بناه السلطان عبد المجيد العثماني، استغرقت عمارته 12 سنة بين سنة 1265 وسنة 1277 ولم تُبق من الأبنية القديمة إلا قليلاً؛ وهو جميل المنظر حسن الهندسة في سقفه قباب صغيرة منيرة مزينة تحملها عمد متقاربة صبغت لوناً أحمر وزينت بالتذهيب.
كان المسجد حين بناه الرسول سبعين ذراعاً في ستين وجدرانه من اللبن وسقفه من الجريد وعمده جذوع النخل، ثم وسّعه الرسول فجعله مائة ذراع في مثلها ثم توالى التوسيع والتعمير في أيام الخلفاء الراشدين فمن بعدهم حتى انتهى إلى شكله الحاضر. ولكن حدود المسجد القديمة معّلمة بالعمد كما حددت الروضة النبوية بين القبر والمنبر.
ولا ينظر الإنسان نظرة في هذا المسجد المبارك إلا وقعت على ذكرى كريمة من رسول الله وأصحابه. فهناك سارية عائشة، وسارية أبي لبابة الصحابي التي ربط نفسه بها، وآلى ألا يبرح حتى يتوب الله عليه، وخوخة أبي بكر.
وحول المسجد مواقع الدور التاريخية: دار أبي بكر، ودار عثمان وغيرهما.
وفي المدينة مشاهد كثيرة عظيمة لا يتسع المقام لتعدادها. وحسبي أن أذكر ما شهدت في يوم واحد يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي الحجة: خرجنا إلى جبل أحد وهو شمالي المدينة قريب منها فمررنا بجبل سلع وسرنا حتى شهدنا مكان موقعة أحد ورأينا قبر حمزة أسد الله رابضاً في العراء وعلى مقربة منه جدار يحيط بمدفن شهداء أحد رضي الله عنهم.
وفي اليوم نفسه توجهنا شطر الجنوب إلى مسجد قُباء وهو أول مسجد أسس في الإسلام بناه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما هاجر من مكة فنزل في قباء على مقربة من المدينة في بني عمرو ابن عوف. وهو المسجد الذي ذكر في القرآن: (لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه. فيه رجال يحبّون أن يتطهروا. والله يحب المتطهرين) والمسجد كما يرى اليوم حسن المنظر عالي الجدران تتجلى فيه البساطة والنظافة وقد توالى عليه التعمير حتى انتهى إلى بنائه الحاضر. وفي صحن المسجد مكان يقال إنه مبرك ناقة الرسول صلوات الله عليه، وقد قرأت عليه بيتين باللغة التركية
وعلى مقربة من المسجد بئر أريس. وهي بئر عميقة ماؤها عذب غزير صاف وهي التي سقط فيها خاتم النبي من يد عثمان بن عفان أيام خلافته. ويستخرج الماء منها ومن آبار
المدينة كلها بالسواني. ترى بكرات على البئر معلقة بها غروب كبيرة وتجر حبالها الدواب من الإبل أو البقر أو الحمير. وقد تجتمع الثلاثة معاً، تسير الدابة نحو البئر فيتدلى الغرب حتى يمتلئ ثم ترجع البئر حتى يرتفع الغرب. فإذا علا الحوض جذبته الحبال فينصب ماؤه في الحوض، فمسير الدابة أو السانية في طريق مستقيمة ذهاباً وجيئة.
والمدينة جيدة الهواء في الصيف معتدلة في الشتاء، وأرضها خصبة وآبارها غزيرة وبساتينها كثيرة، وفيها النخل والكرم والرمان والبرتقال والخوخ والموز والبطيخ وفواكه أخرى. وثمرها جيد جداً وأصنافه لا تعد.
ولكن الأرض في وقتنا هذا ليست مستغلة كل الاستغلال، ولا تفي بحاجات أهلها، ويعيش كثير منهم على التجارة، ويعوِّل فقراؤهم على جدوى المسلمين
ويظهر على دور المدينة وساحاتها الفقر. وفي ذمة المسلمين أن يبروا جيران رسول الله وأن يعمروا دار رسول الله. عليهم أن يغدقوا الخيرات، ويمدوا أيديهم للأعمال الدائمة المنظمة من بناء المستشفيات والملاجئ والمصانع والمدارس. وظني إذا استثمرت أموال المسلمين في أرض المدينة وغلاتها، زادت خيراتها أضعافاً مضاعفة ووفت بحاجات سكانها أو كادت.
إن الحرم المدني والمدينة كلها أهلها ودورها ومساجدها وطرقها وساحاتها، كل أولئك يدعو المسلمين إلى التعاون على الخير والاجتماع على العمل الصالح الذي يجعل طيبة بلداً معموراً آهلاً، منسّق الدور والطرق، ميسّر الطعام والشراب، موفور وسائل الصحة والعمل الصالح الذي يجعلها مباءة علم يؤمها بعض الطلاب من أرجاء الأقطار الإسلامية لتؤلف بينهم الثقافة الإسلامية المشتركة، أو تحفزهم إلى خير الإسلام والمسلمين الآراء المتداولة، ويدرسوا تاريخ الإسلام في مواقعه. وليت المدينة تصير مقصد المسلمين من أقطار الأرض يفرون إليها في الحين بعد الحين ليجدوا سلام أنفسهم وطمأنينة قلوبهم وصحة أبدانهم، فيذهب إليها أغنياؤهم وأمراؤهم كلما ملكوا الفرصة للاستراحة قليلاً من ضوضاء الحياة ومفاسدها
لن يبر المسلمون دينهم ورسولهم وأنفسهم حتى تسخو أيديهم بالمال وتجتمع عقولهم وأعمالهم على الإصلاح. والله يهيئ لهم من أمرهم رشداً ويديهم للتي هي أقوم.
عبد الوهاب عزام
قلت لنفسي.
. .
حضر الأصمعي يوماً مجلس الفضل بن الربيع وقبالته فرس مطهم. فقال الوزير لصاحب كتاب الخيل: قم يا أصمعي وأمسك كل عضو من أعضاء هذا الفرس وسمّه، فإذا سميتها أخذته. فقام وأمسك بناصية الفرس وجعل يسميه عضواً عضواً وينشد ما قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه فأعطاه إياه. فهي يا نفس أن الجود والرق لم يُرفعا من الأرض، وأني دخلت يوماً على أمير من الأمراء البهاليل وبين يديه جارية من الغيد الحسان، ترفل في دِمَقس شِكوريل وسمعان، وقال لي هذا الأمير الأديب: إذا سميت ما على هذه الجارية من اللباس، ووصفت ما في هذه الدار من الأثاث، نزلت لك عن الجارية والدار، وزدتك عليهما ألف دينار! فماذا. ترينني يا نفس فاعلاً، وأنا الذي لا تعزب عنه مادة في اللغة، ولا قاعدة في النحو، ولا نكتة في البلاغة؟ ماذا أسمي هذا 4 المائل على الفَوْد الأيسر، أو هذا الماثل على الجبين الأزهر؟ وماذا أقول المزرّر على الصدر المشرق، وهذا المُدَار تحت الثدي الناتئ، وهذا المرسل على الكشح الهضيم، وهذا المفصّل على القدم اللطيفة؟ أنا لا أعرف من غطاء الرأس إلا القناع والخمار، ولا من لباس الجسم غير الملاءة والإزار، ولا من وقاء الرجل غير الحذاء والنعل! فهل تنطبق هذه الأسماء، على هذه الأشياء. أم تكون دلالتها عليها كدلالة الأثاث والرياش على كل (موبليات) البيت، والورد والريحان على جميع أزهار الحديقة، والجهل والعُجمة على كل أدوات السيارة؟!
لا جرم أني سأعجز على أي حال، وسأطلب من رفعت باشا الجارية
والدار والمال!
ابن عبد الملك
في مطلع العام الجديد
بين يدي الله!
للأستاذ علي الطنطاوي
الآن استهل العام الجديد
لقد أوشك فجره الأول أن يطلّ على الدنيا، وأنا حانٍ على مكتبي - أفكر منذ ساعات في أشياء لا أستطيع أن أصفها أو أعبر عنها أو أحصيها - والليل ساكن تتردد بين جوانحه أنفاس السحر وأنا أنظر من غرفتي إلى صحن المسجد (مسجد أبي حنيفة في الأعظمية) فأراه مشرقاً بالنور، مترعاً بالجلال، ولكنه خال من الناس. وأنظر إلى صحن المدرسة (دار العلوم الشرعية) وحديقتها الخالية، الحالية بأشجار الموز والنخل والورد والغرفة بينهما لها إلى كل من الصحنين باب. . . أريد أن أكتب (مقالة العام الجديد) فلا تواتيني الأفكار، ولا تتوارد عليَ الكلم، وصدري أغنى بالمعاني منه في الأوقات كلها، ولكن ازدحام المعاني على الفكر، وتكاثر الصور في الصدر، يعيق المرء عن الكتابة كما تعيقه قلّتها، كالذي يريد أن يملأ الكأس من (السبيل) إن كان جافاً أو نزراً قليلاً لم تمتلئ الكأس؛ وإن كان الماء يهدر وينحدر بقوة ويتدفق من فم الأنبوب مندفعاً، تطاير الماء إلى كل جانب، ولكنه لا يستقر في الكأس منه شئ - لأن كل قطرة تطرد أختها - كما تزيح كل فكرة في رأسي الفكرة التي قبلها لتحلّ في مكانها. . .
ولقد طالما وقفت هذا الموقف، ففكرت في الزمان وتفلسفت، وعدت إلى ماضيّ فحزنت، وفكرت في المستقبل فأيست، ثم رأيت ذلك باطلاً كلّه، كله باطل! لا الماضي يعود ولا الحاضر يدوم، ولا المستقبل يأتي. تفنى اللذاذات وتذهب الأحزان، وتمرّ الأيام بنا في طريق القبر حتى نبلغه، فتكون خاتمة المطاف هذه الآلام التي نودّع بها الدنيا، والتي تنسينا كل لذة، وكل متعة استمتعنا بها. . .
ويا ليت الموت هو الغاية!!
إن الموت بداية لذة لا آخر لها، أو ألم ماله من نهاية. . .
فأين نحن؛ وفي أي وادٍ من أودية الضلال نتخبط؟
اللهم إني أتوجه إليك في هذه الساعة لتصلني بك، وتدلني على الطريق إليك، حتى أعرفك فلقد عرفت أن كل شيء سواك باطل!
ما الحياة، ما هذه الفترة القصيرة من الزمان السرمدي؟ وما الزمان في جنب الله الباقي؟ وما الجمال الدنيوي، وما الحب الأرضي؟ وما العلم؟ أليس العلم كلّه إدراك سطر واحد من سفر الوجود؟ وكشف حفنة واحدة من رمال الصحراء؟ فما أجهل العلم إذن بالوجود! وما
أحمق العلم حين يرفع رأسه ليتكلم في الموجد وقد خرس عما أوجد، ولينظر إلى الخالق الباقي، وقد عمى عن المخلوقات الفانية!
وهل عرف العلم من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نسير؟
وفكرت في نفسي، وقديماً قال سقراط، وكتبت مقولته على باب المعبد في أثينا:(أيها الإنسان اعرف نفسك) وجاء في الأثر: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وقال الله جلّ من قائل: (وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟) نظرت في نفسي، فإذا هي قد كانت قبل أن أكون أنا، فلم أعرف أولها؛ وكل ما أعلم عنها أني أفقت يوماً من النوم فوجدت طفلاً - أبصرته في المرآة - فإذا أنا أحبه أكثر من أبي وأمي، وإذا أنا لا أفارقه أبداً، فسألت: من هذا؟ فضحكوا وقالوا، هذا أنت، هل أنت مجنون!
وكبر هذا الطفل، أو هذا الذي سمّوه (أنا)، ونظرت فإذا أنا لا أدري من أين جاء، فقلت لعلّي صنعته أنا وأنا لا أعلم، ولكن هذا (الأنا) ليس كما أريد أن يكون، لو صنعته لجعلته أبرع جمالاً، وأشد قوة، وأحدّ ذكاء، وأوسع عقلاً؛ ثم إنه قد وجد قبل أن أكون أنا، وقبل أن أعرفه، وعاش مرحلة في حياته في بقعة لا أعلم شيئاً عنها، ولا أصدق أني كنت فيها، أأنا عشت تسعة أشهر في بطن أمي؟ مستحيل!
فمن أين جاء إذن؟ هل خلق من غير شيء؟
ونظرت حولي أفتش عن هذا الخالق، فرأيت ناساً مثلي، وما هؤلاء بخالقين لأنهم يحتاجون إلى من يخلقهم، وحالهم كحالي، ورأيت جبالاً وبحاراً وكواكب، ولكن ذلك كله جامد لا حياة فيه. فهل يمنحني الحياة وهو لا يملكها؟ هذه هي الطبيعة فهل تخلق الطبيعة شيئاً؟ ثم إن معنى (الطبيعة) - كما تعلمت بعد - أنها (مطبوعة) فأين الطابع؟
فتشت عنه فإذا الإيمان به في أعماق نفسي، لا أدري من أين دخل إليها، ولعلّه من وضع الخالق الذي وضع السمع والبصر في الوجه، والقلب في الصدر، والعقل في الرأس؟ ووجدتني أعود في ساعات الشدة إلى الخالق - الذي يَرى ولا يُرى - أرجوه وأخافه، وأسأله وأعوذ به، ووجدتني أنه لا يشبه شيئاً مما أرى، ولا يحدّه مكان ولا زمان، لأن الزمان والمكان مخلوقات هو خالقها، وأنه قديم باق متصف بكل كمال مطلق، منزه عن النقائض كلها
فآمنت به إيماناً لا يزعزعه (بحمد الله) شك!
ولكني لبثت أسأل نفسي:
لماذا خلقت؟ وهل الحياة (تكليف) عليّ أن أحمله، أو أن لي الحق بالتخلي عنها وطرحها؟ فقالت النفس: بل عليك أن تحملها. إنك لست مالك نفسك ولا أنت موجدها، وإنما هي وديعة في يدك، يكافئك صاحبها إن استعملتها في الذي خلقها له، ويعاقبك إن اتخذتها وسيلة إلى لذتك، وأطعت فيها هواك، وحدت بها عن سبيلها
قلت: فما هي الغاية من الحياة، أهي الأكل والشرب واللذة؟
قالت النفس: كلا. هذه أسباب الحياة بها تقوم وتبقى، وليست هي الغاية منها
قلت: أفخدمة الناس ونفع البشر، وأن أتخذ فيهم حسناً، وأبقى فيهم ذكراً، هي غاية الحياة؟
قالت: كلا. إن الناس لا يمكن أن يحيوا للناس، وما خدمة البشر إلا عرضٌ من أعراض الحياة وليست بجوهرها. إن المسافر يحرص على راحته في سفره، فيتخذ خير المركبات، ويبتغي أطايب الزاد، ويصحب خير الرفاق، ولكن للمسافر وراء ذلك كله غاية من سفره، والحياة سفر فإلى أين المسير؟
قلت: لا أدري!
قالت: أعوذ بالله! وهل يتميز الإنسان عن الحيوان إلا بأنه يدرك غاية الحياة؟ أما من يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب، ويلد كما تلد، فهو مثلها أو أضل منها سبيلاً، وإن عاش في باريز أو نيويورك!
قلت: فخبريني أنت ما هي الغاية؟
قالت: لو سألت الجنين في بطن أمه وكان قادراً على الفهم والإجابة: ما هي دنياك، وما هي حياتك، وما غاية الحياة، لقال لك أن دنياه هذه الأحشاء الضيقة، وهذه الظلمة المستمرة، وإن حياته هذه الجلسة المتعبة، وهذا السكون الدائم، وإن غايته. . . . ليس يدري ما غايته!
ولو أفهمت هذه الجنين أن هنا دنيا واسعة، فيها شمس وقمر، وفضاء رحب، وبحر وسماء، وأن غايته أن يبلغها، وأنه سيعرفها ويراها حقاً. . .
لو أفهمته هذا لكذبك وأعرض عنك، لأنه لا يستطيع أن يتخيل إلا ما هو فيه، ولا يقدر أن يتصور ماذا يكون البحر والشمس والقمر؟
فإذا جاء إلى الدنيا وصار رجلاً، نسى حياته الأولى وكذب بها وقال: إن هي إلا دنيا فيها نموت ونحيا. . . فإذا خبره الرسل أن هناك حياة أخرى: حياة ثالثة، وأنها هي دار البقاء، وأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن غايته بلوغ تلك الحياة في طاعة الله وعبادته. . .
إذا خبر بها كذب به كذب ذلك الجنين. . .
أفتكذب أنت بذلك؟
قلت: لا
قالت: (فتلك إذن غاية الحياة) أن تتصل بالله وتعبده، وإن تعد نفسك لحياة الخلود
وعادت النفس تقول:
أن غاية الحياة تتحقق كلها في الصلاة. فالصلاة اتصال بالله، واستعداد لحياة الخلود. ثم إنها لذة لا تعدلها إذا أقيمت على وجهها لذة من لذائذ الدنيا، ولذلك عدّها النبي صلى الله عليه وسلم حين عدد اللذائذ: الطيب والنساء والصلاة، ليدل الناس على أنها من جنسها، وأنها راحة للنفس ومتعة، وليست تكليفاً شاقاً، ولا (مهمة) صعبة، وليست الصلاة ركوعاً وسجوداً، ورياضة فان ذلك جسمها، والجسم لا يقوم إلا بالروح، فإذا خلت منها الصلاة كانت صلاة ميتة، لا تنهي عن فحشاء ولا منكر، ولا تشعر بلذة. أما روح الصلاة فهي أنك إذا طهرت أعضاءك بالماء، طهرت نفسك بالتوبة، وذلك هو الوضوء الحق؛ وإذا قمت إلى الصلاة وقلت: الله أكبر، خرجت من دنياك، وارتفعت عنها كمن يرتفع في طيارة، حتى تراها - كما هي في الحقيقة - ذرة صغيرة تافهة. . . ولم تخش عدواً، ولا شغلك حب حبيب ولا ملأ نفسك هم ولا غم، ولا لذة ولا متعة، لأنك تتوجه إلى الله، والله أكبر من ذلك كله، وبيده كل شيء، فأنت كمن يتصل بالوزير أو الحاكم المطلق، (ولله المثل الأعلى) فهل يفكر بين يديه بحاجة له عند موظف صغير، ويشتغل بذلك عن حديث الحاكم أو الوزير؟
فالصلاة تحقيق لغاية الحياة، والحياة لحظات في (الحياة الأخرى)، ولكن هي اللذة التي لا يقدر لغات البشر على وصفها، ولكن الناس يرون منها بروقاً خاطفة في ساعة من ساعات السحر، ولحظة من لحظات العبادة، أو. . . أو سكرة من سكرات الحب، أو عندما يسمعون نغمة، أو يقرءون شعراً. هذه اللحظات هي التي تدلنا على ذلك العالم. هي أشعة ضئيلة من
ذلك النور الباهر، تذيق النفس حلاوة الآخرة في الدنيا لتسعى لها، وترغب فيها.
قابل بين هذه اللذائذ الروحية وبين اللذات المادية. . . الطعام والشراب. . . إنك لتشبع فتصير لذة الطعام في نظرك صفراً، والنساء. . . إنك لتتصل بهن حتى تأتي عليك ساعات، ولهن أبغض إليك من كل شيء. على أن هذه الصلة لا تروي غليلاً، ولا تشبع للنفس جوعاً. إن المحبّ ليحس وهو يعانق من يحب ويشد عليها بذراعيه أن بينه وبينها بعد المشرقين، وأنه ليس في الدنيا صلة مادية تطفئ غليل المحب. فيا بؤس من قنع بالحياة المادية، وحرم من لذائذ الروح!
ويا ويح من يفكر بما وراء المادة، وما بعد الحس، يا ويحه! أليس في أثناء نفسه ذكرى؟ أما فيها أمل؟ أليس بين جنبيه روح؟ فكيف ينكر روحه وأمله وذكراه؟ أيجحد ما دليله في نفسه (أفلا تبصرون؟)
وكان الفجر يؤذن، فخرجت إلى المسجد، وللمسجد في ساعة الفجر روعة وجلال وأثر في النفس لا يدركه البيان. ولمسجد أبي حنيفة أوفر نصيب من ذلك، وأشهد أني لم أجد في بغداد كلها مكاناً أحس فيه الاطمئنان وأشعر فيه بالخشوع والتجلي كهذا المسجد، لا لمكان أبي حنيفة منه، فان أبا حنيفة لا يضر ولا ينفع، ولا يكون مؤمناً من يرى فيه ذلك، أو يتخذ من قبره صنماً يعبده ويتمسح به، ولكن الله قد خصّ هذا المسجد بهذه الروح لإخلاص أبي حنيفة الإمام الأعظم، وعلمه وأثره في الفقه الإسلامي، وإجماع المسلمين على محبته وإجلاله!
هنالك عرفت الحقيقة الكبرى في الحياة، فلن أسأل بعد اليوم: لماذا خلقت؟ ولن أعيش في حيرة، فيا رب لا تنسني هذه الحقيقة بترهات العيش، وأحلام الأدب، وضلالات العلم. إن هذه الحقيقة شمس ساطعة، ولكن سحابة صغيرة قد تحجب الشمس عن عيني الضعيفتين. اللهم إني قد فرغت (أو كدت) من شهوة الغنى، وتلك الشهوة الأخرى، فهب لي الخلاص من شهوة الأدب، وحب الشهرة، وغرور الفكر فان ذلك أشد علي. . .
اللهم لك الحمد، وإليك المآب، وأنت الحي الباقي، فصلنا بك، ودلنا على الطريق إليك!
بغداد (الأعظمية)
علي الطنطاوي
قصة الرافعي العاشق
تعقيب
للأستاذ محمد سعيد العريان
. . . هذه قصة الرافعي وفلانة، كما رواها لي، وكما يعرفها كثير من خاصته. وإني لأعلم أن كثيراً ممن يعرفونها ويعرفونه سيدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك. وسيقول قائل، وسيدعى مدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلل؛ ولا عليَّ من كل أولئك ما دمت أروي القصة التي أعرفها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير أيُّ تأثير يُرَدُّ إليه أكثر أدبه من بعد. وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان. والسحاب الأحمر، وأوراق الورد. وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد!
على أني مسئول أن أبرئ نفسي أمام قدس الحق؛ فأعترف هنا بأن ما رويت من هذه القصة كان مصدره الرافعي نفسه؛ مما حدثني به وحدّث أصحابه، أو مما جاء في رسائل أصحابه إليه ممن كانوا يعرفون قصته؛ وما بي شك فيما روى من هذا الحديث؛ فما جربت عليه الكذب، ولا كان هناك ما يدعوه إلى الاختراع والتزيد كما يزعم من يزعم؛ ولكنها حقيقة أُثبتها للتاريخ، لعل باحثاً مدققاً يوفَّق في غد إلى إثبات ما أعجز اليوم عن التعليل له.
على أن الرافعي قد أقرأني رسالة أو رسالتين بخط (فلانة) إليه؛ وهما وإن لم تدلا دلالة صريحة على حقيقة ما رويت من قصة هذا الحب. لا تنفيانها كذلك، بل لعلهما أقرب إلى الإثبات منهما إلى النفي؛ والحذر طبيعة المرأة.
ثم إن الرافعي لم يخصّني وحدي برواية هذه الحادثة؛ فإن عشرات من الأدباء في مصر قد سمعوها منه؛ ومنهم من يعرف (فلانة) معرفة الرأي والنظر، ومنهم من كان يغشى مجلسها لا يتخلف عنه مرة؛ ومنهم من كان الرافعي يقصد بالحديث إليه أن يكون بريداً بينهما ينقل إليها حديثة شفةً إلى شفة. وفي الناس بُرُدٌ إن لم تزُد على ما سمعتْ من حديث الحب لم تنقص منه شيئاً! فلو أن الرافعي كان يتزيّد فيما روى لي ولأصحابي من حديث هذا الحب لخشي مغبّة أمره؛ وإن (فلانة) يومئذ ذات جاه وسلطان!
وثمة برهان آخر لا يتناوله الشك؛ هو رسالة من رسائلها نقلها الرافعي من كتاب من كتبها المعروفة لا أسميه، إلى كتابه أوراق الورد؛ يزعم أنها رسالة منها إليه في كتاب، جواباً على رسالة بعث بها إليها - وكانت هذه بعضَ وسائلهما في المراسلة كما رويتُ من قبل - وأوراق الورد معروف مشهور، وكتابها معروف مشهور كذلك. ومما لا يحتمل الشك أن تكون (فلانة) لم تقرأ هذه الرسالة في كتاب الرافعي ولم ينبهها أحد إليها. وأبعد من الشك أن تكون قد قرأت هذه الرسالة المنشورة قبل ذلك في كتاب يحمل اسمها ثم لم تفهم ما يعنيه الرافعي؛ ولا شيء وراء ذلك إلا أن تكون قرأتْ، وفهمتْ، وسكتتْ؛ ولا شيء بعدُ إلا أن يكون بينهما شيء يؤيد ما رواه الرافعي من قصة هذا الحب. . .!
على أن اعتراضات ثلاثة توجَّهتْ إلي ما رويت من هذه القصة لا بد من التنبيه إليها: أما أحدها فمن الأستاذ الأديب جورج إبراهيم؛ فهو ينكر عليّ أن أستند إلى هذه الرواية، ويروي لي أنه صحب الرافعي في أولى زياراته لفلانة، وشهد ما كان من تأثر الرافعي وانفعاله وجذْبته؛ ولكنه إلى ذلك ينكر أن يكون بين الرافعي وفلانة صلة بعد هذه الزَّورة، ويصحح ما رويته عن الرافعي - وكان من سامعيه - بأنه حبٌّ من طَرَف واحد، اختلطت فيه مذاهب الفكر ومذاهب النظر فشُبِّه للرافعي ما شُبِّه؛ فما يحكيه هو صورة ما في نفسه لا صورة ما كان في الحقيقة!
فالرافعي عند الأستاذ جورج إبراهيم لم يكذب ولكنه أخطأ التقدير والنظر. وعندنا أن عدم علم الأستاذ جورج بأن صلةً ما كانت بين الرافعي وفلانة بعد الزَّورة الأولى، لا ينفي أن هذه الصلة كانت حقيقةً ولم يعلم بها؛ فحديثه من ثَمّ لا ينفي شيئاً ولا يثبته، ويبقى بعد ذلك ما يستنبط من الرأي على هامش القصة.
وقريب مما يرويه الأستاذ جورج، ما تستنبطه جريدة المكشوف في بيروت، في حديث تناولت به بعض ما نشرنا من قصة حب الرافعي.
وتعقيب ثان توجه به صديقنا فؤاد صروف - محرر المقتطف - على ما رويناه، قال:
(لقد سمعت هذه القصة من الرافعي كما رويتَها؛ فما أشك في صحة ما تكتب، ولكني أسأل: هل كانت (فلانة) تبادل الرافعي الحب؟. . .
(هاك خبراً يدعوك معي إلى هذا السؤال:
(في يناير من سنة 1934 (أو سنة 1935) دعتني فلانة إلى مقابلتها؛ فلما شخصتُ إليها رأيت في وجهها لوناً من الغضب فدفعتْ إليّ رسالتين من رسائل الحب بعث بهما الرافعي إليها لأرى رأيي فيهما؛ ثم قالت: ماذا تراني أفعل لأذود عن نفسي؟ أتراني أتقدم في ذلك إلى القضاء؟
قال الأستاذ صروف: (فاعتصمت بالصمت من لا ونعم، وتركت لها أن تستشير غيري؛ ولست أدري ما كان بعد ذلك!)
قلت: وهذه رواية جديرة بأن تذكر - ومعذرة من ذكرها إلى الأستاذ صروف - على أنها لا تدل على شيء في هذا المقام أكثر من أن فلانة لم يكن يروقها في سنة 1934 أن يتحبّب إليها الرافعي؛ فماذا كان أمره وأمرها معه قبل ذلك بعشر سنين؟
أيكون لهاتين الرسالتين اللتين يتحدث عنهما الأستاذ صروف - صلة بما كان في نفس الرافعي من يقين بأنه سوف يلقى فلانة ليصل ما انقطع من حبال الود بعد عشر سنين من يوم القطيعة)
أعني: هل حاول الرافعي - بعد عشر سنين من القطيعة - أن يعيد ما كان بهاتين الرسالتين فلم يصادف قلباً يستجيب لدعائه؟
على أن هذا الخبر - أيضاً - لا ينفي شيئاً ولا يثبته؛ ولكنه يفتح باباً إلى الاستنباط والرأي
ولكنه مما لا شك فيه أن الرافعي لم يكن يعلم شيئاً عن وقع هاتين الرسالتين في نفس صاحبته؛ ولا أحسبها صنعت شيئاً يدل الرافعي على مبلغ استيائها من هاتين الرسالتين، وإلا لما ظل يتعلق بالأمل في لقائها إلى شتاء سنة 1935، وكنت معه لما همّ بزيارتها.
وثمة اعتراض ثالث يعترضه الدكتور زكي مبارك؛ وما كان لي أن أثبته هنا لولا أن أثبته هو في كتاب من كتبه نشره على الناس منذ قريب، ولولا أن أشار إليه في مقالات نشرها في مصر وفي العراق وفي بيروت!
والدكتور زكي مبارك أديب مشهور، ولكن آفته - ولكل أديب آفة - أنه يدسّ أنفه فيما يعنيه وما لا يعنيه؛ وهو قد شاء أن يحشر نفسه في هذه القصة التي لا يهمه منها إلا أن يعلن للناس - والإعلان عن نفسه بعض خصائصه الأدبية - أنه كان يجلس إلى (فلانة) جنباً لجنب في الجامعة المصرية بضع سنين!
وليس يهمنا أن يجلس الدكتور زكي مبارك جنباً لجنب إلى فلانة أو إلى نساء الأرض جميعاً - كما يريد أن يتعالم عنه الناس في أكثر ما يكتب - ولكنه يزعم أن ما كتبنا عما كان بين الرافعي وفلانة ليس من الحقيقة في شيء، لأنه كان يجلس مع فلانة جنباً إلى جنب في الجامعة بضع سنين فلم تحدثه يوماً أن حباً كان بينها وبين الرافعي. . . . . . . . .!!
فمن شاء أن يقرأ مثلاً للحجة الواضحة في أدب الدكتور زكي مبارك، فليقرأ هذه الحجة البالغة؛ على شرط أن يكون مؤمناً بأن الدكتور زكي مبارك لا يجلس إلى (فلاناتٍ) ولا يجلس إليه (فلاناتُ) إلا ليحدثنه عما كان لهن من جولات في ميادين الحب ويسألنه عن الرأي والمعونة!
وليدع القارئ بعد ذلك حديث الدكتور عن العري والعراة، وعن (الأديب العريان. . .) الذي روى هذه القصة
وعفا الله عن أهل الأدب!
هذا كل ما تلقيت من اعتراض المعترضين، من أهل الأدب أو من أهل الدعوى؛ وعلى أي الوجوه انتهى رأي الأدباء في تحقيق هذه القصة، فإنه مما لا شك فيه أن الرافعي كان يحب (فلانة)؛ وهذا حسبي؛ فما يعنيني من هذا التاريخ إلا إثبات المؤثرات التي كانت تعمل في نفس الرافعي فتلهمه الشعر والبيان؛ أما هي وما كان منها وحقيقة عواطفها، فشيء يتصل بتاريخها هي بعد عمر مديد!
محمد سعيد العريان
للتاريخ السياسي
نتائج اتفاق مونيخ
للدكتور يوسف هيكل
رأت دول وسط وشرقي أوربا، بعد أن زالت السياسة التي بنيت عليها العلاقات الدولية، أن تبني علاقاتها الدولية على أسس جديدة. فأخذت تلتف حول الريخ طلباً لوده واتقاء لنقمته. لأنه ظهر لها أن لا وجود مطلقاً للضمان المشترك. ولا فائدة ترجى من التحالف مع الدول المقاومة للهر هتلر. لأن هذه الدول لا تقوى على مد يد المساعدة لحليفتها. والدول القائلة بهذا القول تضرب مثل تشيكوسلوفاكيا لإثبات صحته.
وفي الواقع أن تشيكوسلوفاكيا نفسها قد غيرت سياستها الخارجية وأخذت تقترب من ألمانيا. فأدلى الجنرال سيروفي رئيس حكومة براغ تصريحاً قال فيه: (إن مبادئ سياستنا الخارجية واضحة جلية، وهي أن تكون علاقاتنا ودية مع جميع العالم لا سيما مع جيراننا. ويجب علينا التعاون معهم إذا أردنا أن نعيش بسلام وطمأنينة). وقد ذهبت إحدى الجرائد التشيكية إلى أبعد من ذلك قائلة: (إن أوربا الوسطى أزيلت من الوجود، وإنه يجب علينا حتى في علاقاتنا التجارية نفسها ألا نعمل مع أية كتلة تضعنا ضد ألمانيا، أو أن ندرك أن الهر هتلر والسنيور موسوليني أقوى من فرنسا وبريطانيا، فالهر هتلر يكسب المعارك معركة بعد معركة طبقاً للنظرية الواردة في كتابه كفاحي).
ولتحقيق سياسة التقرب مع ألمانيا، وتنفيذاً لرغبة الهر هتلر، استقال الدكتور بنيش من رياسة الجمهورية التشيكوسلوفاكية في أكتوبر (تشرين الأول)؛ وألغى تدريس اللغة الفرنسية في مدارسها كلغة إجبارية، واستعيض عنها باللغة الألمانية. فرحبت ألمانيا بذلك، وأخذت تساعد على إيجاد علاقات ودية بين الحكومتين
وانتشار نفوذ ألمانيا في تشيكوسلوفاكيا يضع في يدها مفتاح باب الدانوب، ويفتح أمامها باب أوربا الشرقية والشرق الأدنى. وقد قال في 4 أكتوبر (تشرين أول) إرشيبالد سنكلر زعيم الأحرار المعارضين (إننا سنعيش حتى نبكي اليوم الذي باعت بريطانيا فيه الحرية في أوربا الوسطى، وفتحت طريق توغل ألمانيا في أوروبا الشرقية)
وعملياً أخذت ألمانيا تنشر نفوذها في أوربا الشرقية وفي الشرق الأدنى، فزار الدكتور
فونك وزير الشؤون الاقتصادية الألمانية بلغراد وأنقرة وسوفيا. فعقد مع حكومة يوغوسلافيا اتفاقية تجارية جديدة، وقال بصددها إن ألمانيا في وضعية تمكنها من شراء نصف منتوج يوغوسلافيا، ومن مساعدتها على إكثار منتوجها بتقديم الآلات والمال لاستثمار المعادن. وبالإضافة إلى ذلك فإن في إمكان ألمانيا دفع أسعار مرتفعة لما تبتاعه، والمحافظة على مستوى هذه الأسعار، لأن نظامها الاقتصادي أقيم بصورة لا تؤثر عليه الأزمات. وقد أكد الدكتور فونك أن ألمانيا الآن أعظم بلاد العالم إنتاجاً بفضل نظامها السياسي. وأضاف قائلاً أن ليس في الإمكان تفريق السياسة الاقتصادية عن العامة.
وقد لقي الدكتور فونك استقبالاً حاراً في أنقرة، ونجح فيها نجاحاً باهراً، إذ عقد اتفاقاً مع الحكومة التركية أقرضتها ألمانيا بمقتضاه 150 مليون مارك (ما يقرب 13 مليون جنيه إنجليزي) لشراء الآلات الصناعية والأدوات الحربية، على أن تسدد بعد عشر سنوات. وقد أدهش ذلك الاتفاق الدوائر الدبلوماسية، لأنه في مايو السابق فقط اقترضت الحكومة التركية ستة عشر مليوناً من الجنيهات من الحكومة البريطانية.
وبعد تركيا زار الدكتور فونك بلغاريا وتباحث مع حكومتها للوصول إلى تحسين العلاقات الألمانية البلغارية التجارية. وقد قبل دعوة رومانيا واليونان لزيارة بلادهما، وفي نيته زيارة إيران وأفغانستان، غير أنه أرجأ ذلك إلى وقت آخر. ودول البلقان ترحب بتحسين علاقاتها التجارية مع الريخ، لأنها تعتقد أن تجزئة تشيكوسلوفاكيا أزالت كل مقاومة للمصالح الألمانية في أوربا الشرقية. والعلاقات التجارية المنيعة تولد الصداقة السياسية، والنفوذ الاقتصادي يوجد النفوذ السياسي.
وقد صرح الهر فونك في حديث له مع مندوب جريدة (برلين تسيتونغ)(أن في جنوب أوربا الشرقي وآسيا الصغرى كل شيء تحتاج إليه ألمانيا تقريباً. ولهذا لا يمكن أن توجد دولة أخرى قادرة على أن تشتري منها ما تشتريه ألمانيا. ونظراً لأهمية نهر الدواب لجنوب أوربا الشرقي، يجعل من هذه البلاد منطقة اقتصادية ممتدة من بحر الشمال إلى البحر الأسود، والدول القائمة فيها تستطيع أن تكون متممة إحداها للأخرى). وهذا التصريح يرمي إلى تحقيق الحلم الألماني السابق للحرب العالمية؛ حلم (همبرك - بغداد).
وتقول جريدة (آسن ناشونال زيتيغ) في عددها الصادر في 12 أكتوبر (تشرين أول) إنه
(إذا أصرت إنكلترا وفرنسا على مواصلة جهودهما للاستيلاء على جانب من التجارة تعده ألمانيا بحق أنه من نصيبها فإنها ستكون بعد عام أو عامين، أي بعد أن تتم تحصيناتها على الحدود الغربية، في مركز يساعدها على أن تعلن أنها وحدها صاحبة النفوذ الاقتصادي في جنوب شرقي أوربا)
هذا، ولا تنحصر نتائج اتفاق مونيخ في علاقة ألمانيا مع دول جنوب شرقي أوربا، بل تتعداها إلى وضعية الدول الكبرى ومجرى سياستها.
وفي مونيخ تلاشت عصبة الأمم، وذهبت البقية الباقية مما كان لها من تدخل في الأزمات الدولية؛ وتحققت فكرة السنيور موسوليني من حل المشاكل الدولية بواسطة (مؤتمر رباعي)؛ تلك الفكرة التي توافق عليها بريطانيا وفرنسا عام 1933، بل أصرتا حينئذ على وجوب حل الخلافات الدولية ضمن دائرة عصبة الأمم. وفي مونيخ عقد المؤتمر الرباعي لحل المشكلة التشيكوسلوفاكية، دون إعلام عصبة الأمم به، ودون اشتراك الروسيا فيه، فكان ذلك نصراً أدبياً سياسياً للسنيور موسوليني اتخذ منه دليل كبير على بعد نظر زعيم إيطاليا وعلى قدرته السياسية في إيجاد الأسس لتسوية المشاكل الأوربية.
وفي ذلك المؤتمر تحققت رغبة هتلر وموسوليني في عزل الروسيا عن شؤون أوربا فأصبحت الروسيا في عزلة سياسية لها نتائجها السيئة في أوربا. لأن من شأن هذه العزلة إضعاف موقف فرنسا الدولي، وبالتالي إضعاف موقف فرنسا الدولي، وبالتالي إضعاف مركز بريطانيا العظمى، مما يشجع الهر هتلر على السير في تحقيق مطامعه الواسعة
وفي مونيخ انهارت سياسة سلامة فرنسا. فزالت قوتها في تشيكوسلوفاكيا وخسرت حلفاءها وأصدقاءها في بلاد البلقان وشرقي أوربا. فكانت فرنسا الدولة الأولى التي تكبدت أكبر الخسائر ولحق بها أعظم الأضرار من جراء اتفاق مونيخ. وكأن هذا الاتفاق كان موجهاً ضدها. وزيادة على ذلك فقد حاول الهر هتلر في مونيخ تحقيق أعز آماله عليه، وهو إبعاد بريطانيا عن فرنسا لتتم عزلتها ويزول سلطانها الدولي. وهو لم يواجه هذه المسألة وجهاً لوجه، بل أتاها من طريق غير مباشر، فوقع المستر تشمبرلين تصريحاً مفاده: (إنهما ينظران إلى اتفاق مونيخ وإلى الاتفاق الإنكليزي الألماني البحري، كرمز إلى رغبة شعبيهما بألا يحارب قط الواحد الآخر. وإنهما متأكدان على أن التشاور سيكون الطريقة
المتبعة في حل المسائل الأخرى التي تتعلق ببلادهما) وتقوية لهذه السياسة ألقى السير توماس أنسكيب، وزير الدفاع الوطني خطبة في 12 أكتوبر (تشرين أول) قال فيها:(إنني أعتقد أننا سائرون في الطريق المؤدية إلى إنشاء علاقات ودية مع الشعب الألماني العظيم في وسط أوربا. وأثمن هدية نستطيع تقديمها إلى عالم متزعزع أهوج هو السلام بيننا وبين ألمانيا). ومن شأن هذه السياسة تمكين الهر هتلر من تحقيق مطامعه. لأن القوة الوحيدة في أوربا التي تجعل الهر هتلر يفكر قبل العمل على تحقيق مطامعه الواسعة هي جيش فرنسا العظيم تسنده القوى البريطانية، وتفريق هاتين القوتين بعضهما عن بعض يعوق الجيش الفرنسي عن العمل، ويمكن الهر هتلر من تحقيق ما يريد
وما يريده الهر هتلر أمر عظيم خطير، يشرحه (كتاب النازي المقدس) وتجمله جملة منه إذ يقول زعيم ألمانيا (إنه ليس من الضروري، مهما كانت النتائج، اللجوء إلى الحرب، إذا أريد حقاً الوصول إلى السلام. وفي الحقيقة أن الفكرة الإنسانية والإنشائية ربما تكون جيدة في اليوم الذي يقهر فيه الرجل المتفوق على الجميع، العالم ويسود ويصبح وحده سيد الدنيا. الحرب أولا وربما بعدها السلام).
وهذه الجملة واضحة جليلة، ترى أن الهر هتلر يطمح إلى سيادة العالم سيادة أوربا فقط. وقد مكن اتفاق مونيخ الذي كان أعظم نصر حازه الهر هتلر زعيم ألمانيا من أن يكون الرجل الأول في أوربا والمتفوق على جميع ساستها؛ ومن أن يبدأ في نشر نفوذه عليها وسيادته لها.
يستغرب المرء تسليم فرنسا وبريطانيا العظمى في مونيخ، ويجعله يتساءل كيف سلمت فرنسا بمعقلها في وسط أوربا، ولنفوذها السياسي في جنوبي أوربا وشرقيها؟ فهدمت بذلك ما بنت خلال العشرين سنة الماضية، وخسرت حلفاء وأصدقاء، وسهلت وضعهم تحت النفوذ الألماني! وكيف قبلت بريطانيا اختلال التوازن الدولي؟ ذلك التوازن الذي كانت دائماً وأبداً تبذل الجهود وتدخل الحروب في سبيل المحافظة عليه.
هذا ما نبينه في المقال المقبل.
يوسف هيكل
من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة
أخي الأستاذ الزيات:
السلام عليك ورحمة الله، وبعد فإني أحمد الله إليك وأستعينه وأسأله لك التوفيق والسَّداد. أبيت أيها الرجل إلاّ كرماً من جميع نواحيك، فما كدت تستقبل العام السابع من عمر (الرسالة) حتى عُدْتَ عليّ بفضل من ثنائك وحسن ظنك، فذكرت (العصور) ثم أثنيت فأغنيت.
لقد وافتني كلمتك، وأنا بعد أنفض عن يديّ غبار (العصور) وأتخفف
من أثقالها التي حملتها راضياً غير كاره، لأنقلب إلى هذه الغرف
العزيزة التي نشأت في حجور الشيوخ من سكانها أستخبرهم علم ما
أجهل، وأستنبئهم أخبار ما مضى، لأستوحِيَ الظن فيما يستقبل، وأجدد
بعاديِّ قوتهم قوة النفس التي لا تهدأ ولا تنام.
لا بد من كلمة - أيها الشيخ الجليل - وقد كان الصمت أولى بي وأحبّ إليّ. لا بدّ من كلمة أعتذر بها للذين استقبلوني بفرحة المحبّ أمتع باللقاء على غير ميعاد. فأنت تعلم أني اليوم عزمت على إصدار (العصور) لم أكن قد أعددت لها من مال إلا ما ادخرته في نفسي من جهد أعوام طالت في معاناة العلم والأدب، وبقية من خلق ضننت بها أن تذيع في أطرافها ونواحيها مهزعات العصر الحديث التي صرّفت الأخلاق في وجوه الغي والضلال، وأطلقت دنيات الغرائز من عقال الشرائع، وأرسلتها ترعى حمى أبى الله ورسوله أن يكون مرعى لمن آمن بالله واليوم الآخر.
ولكن لا بد من مال مسكوك معترف به، مصدّق على الاعتراف به من (محافظ البنك الأهلي)، وإن قليل ما عندي من هذا المال لا يغني غناءه في عمل أوله استهلاك بغير نتاج وأنت أخبر بهذا الأمر. فلم يبق إلا الصديق الذي يعين على نوائب الحق. . . فبدأنا إصدار (العصور) يعولها الجد من قبلي، والعون من قبل الأصدقاء الكتاب من أصحاب مذهبنا، والمدد من (جيب) الصديق الذي أبدى بشاشته، واستظهرها بعاجل البر، وسرنا على اسم الله. فما كان إلا كلا ولا حتى قلت كما قال الأول:
سعتْ نُوَب الأيام بيني وبينهُ
…
فأقلعن مِنَّا عن ظلوم وصارخ
فإني وإعدادي لدهري (محمداً)
…
كملتمس إطفاء نار بنافخ
وأبيتْ أن أخفض عن نفسي أو أرُدّ غلواءَها، فرددتُ المالَ إلى صاحبه غير منقوص ولا مهتضم. وقلتُ إن أمراً قضاهُ الله لا بُدّ له من تمامٍ وأجلٍ، وما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكنْ. وخيرُ الأمر أن ألجأ إلى الله ثم أستعين بما عندي على قضاء الحق الذي يقتضيه ما أقررت به على نفسي، وما أقررتها عليه في كلمة العدد الأول من (العصور). فلم أبخل ولم أتراجع، وأقدمتُ على إصدار العدد الثاني مستبشراً مؤملاً راجياً معتمداً على ثقتي بالله، ثم ثقتي بحسن التقدير الذي لقيته. فلم يلبث أن لقيَ العدد الثاني من (العصور) حفاوة الناس في كثير من بلاد العربية؛ ولكن هذه الحفاوة المستبينة في بيع مجلة - تكاليفها أكثر من دخلها بهذا البيع - لا يمكن أن تكونَ هي الرُّقية التي تجذب إلى رقاب المال من كهوف (البنك) فأجويها وأروضها وأتصرَّف فيها تصرُّف الناس فيما هُمْ به (ناس)!!
وقلت: عسى أن يقضي الله لأمر ضاق بالفرج، وتوجهت بقلبي إلى الله، وبوجهي إلى من أتوسم فيه سمة (الخزانة) المعدة لاحتجان المال. ولكني وجدت القفل بعد القفل على الخزانة، وافتقدت المفتاح الذي يتسنى له كل مغلق. إن هذا المفتاح ليس عندي، ولستُ أملكه، وما احسبني أرتضي - بعد أن جرَّبتُ - أن أملكه أو أَحوزه. إنه لا يملكه إلا من قدّم رهينةً، والخُلُق لا يُعترف به في باب الرَّهائن، ولستُ أملكُ غيره؛ فلا رهينةَ، أي لا قَرْضَ ولا معونة. وإنه لا يملك المفتاح بعدُ إلا اللصُّ الذي يلين له ما أعضل من قُفْل غُلِق وأنا بحمد الله لم أُخْلَق على طبيعة السارق بل سُوِّيتُ على هيأة المسروق، كلّ من شاء أن يأكلني أكلني؛ قد رضيتُ أن أحوطَ جوهري بالعَرَضِ المُضيَّع.
ومع ذلك فقد أعددت العدد الثالث للطَّبْع، وتصرَّفتُ في وجوه التدبير، ثم وُفّقت إلى من أرضى عنه ويرضى عني. . . ولكن أبى خُلُق الدُّنيا معي أن يتم جميل تستودعينه، أو معروف ترّببه عندي. فرجعت عَودي على بدئي راضياً عن الله شاكراً لله واثقاً بالله، أستعينه وأستحفظه، واشكره ولا أكفره.
لا أقول الله يظلمني
…
كيف أشكو غير مُتَّهم
وأنا لا أزال أقول: يَصنَعُ الله، يَصنَعُ الله، إن لله تدبيراً يصرّفنا به كيف شاء إلى مواقع
علمه ومنازل حكمته. وأنا مذ كنت، كنت مطية القدر حيثما وجّهني استقبلت المضيقَ والطريقَ بنَفس مسلمةٍ وجهَها لله، بأن الزمّامَ في يد الله
فإن تسأليني، كيف أنتَ! فإنني
…
صبورٌ على ريبِ الزمانِ صليبٌ
يعزُّ عليَّ أن تُرى بي كآبةٌ
…
فيشمتَ عادٍ أو يُساَء حبيبُ
وعلى ذلك فأنا منتظرٌ، و (العصور) إلى جانبي تنتظِر! وشكر الله لك، وجزاكَ خَيْراً من صديق.
محمود محمد شاكر
(الرسالة) تألم الرسالة أشد الألم أن يثبط هذا القلم البارع وهذا الفكر الرشيد مثبطات المادة، وتدعوا الله مخلصة أن يلهم أهل المال معونة أهل العلم حتى لا تتخلف (العصور) عن صفها في الجهاد إلا ريثما تواتيها العدة. وعسى أن يضن القراء بهذه الثروة الأدبية على الضياع فيعينوها على الصدور بأسلاف الاشتراك.
كلمات لهوجو
للأستاذ عبد الكريم الناصري
- 1 -
* البراءةُ أعلى من الفضيلة. البراءة جَهْلٌ مقدَّس
* في استطاعة الأسنان أن تُبصر، كاستطاعة العيون أن تَعَض
* للطيش حقوقه، ولكنه له حدوده أيضاً
* قد تدلّ الابتسامة على الموافقة. . . ولكنّ الضحكةَ - في الغالب - رَفض
* في بعض الأحايين تكون الثانوية أصعب من الأولية. وهي حينئذ تقتضي عبقرية أقل وشجاعةً أكثر. فالأول قد تُسكره الجِدَّة غير المنتظرة، وتبلبل فكره وتهيج حماسته، فيجتاز الهوَّة وهو جاهل بالخطر؛ ولكن الثاني يرى الهوة ويندفع نحوها.
* ما التاريخ؟ صدىً من الماضي في المستقبل؛ انعكاسٌ من المستقبل على الماضي.
* البخيل أعمى، فهو يرى الذهب ولا يرى الثروة. المتلاف أعمى، فهو يرى البداية ولا يرى النهاية. المستهترة في الحب عمياء، فهي لا ترى الخطوط والغضون. العالِمُ أعمى، فهو لا يرى جهله. الشريف أعمى، فهو لا يرى اللص. اللص أعمى، فهو لا يرى الله.
* ما البتولة إلا الأملُ في الأمومة
* للخوف درجة ينقلب فيها الإنسان رهيباً يملأ القلوب رعباً. إن الذي يخاف كل شيء لا يخاف شيئاً. مثلهُ حقيقٌ بأن يضرب (الاسفنكس) حقيقٌ بأن يتهددّ (المجهول) ويتحدّاه.
* الحسد مادّة صالحة لصنع الجواسيس. فإن بين تلك العاطفة الطبيعية - الحسد - وبين تلك الوظيفة الاجتماعية - الجاسوسية - لشَبهاً عظيماً. غير أن الجاسوس يصطاد لغيره، كالكلب. أما الحسود فيصطاد لنفسه، كالقط.
- 2 -
* إن للدور لأرواحاً
* الفنُّ هو فرع الطبيعة الثاني
* الفنُّ طبيعيٌّ كالطبيعة
* الطبيعة، منفاضةً إليها الإنسانية، مرفوعةً إلى القوة الثانية، تنتج الفن.
* الجلال هو المساواة. الفكر الإنساني هو الممكن الذي لا حد له.
* للفكر الإنساني ذروة. هذه الذروة هي المثل الأعلى. اللهُ يهبط إليها، والإنسان يرتفع. . .
* (أنا) الإنسان الواحد أوسعُ وأعمقُ من (أنا) شَعْبٍ بأسره.
* المثل الأعلى - مطبقاً على الحقائق الواقعة - هو المدنية
* من ميزات العبقرية اتحاد الملكات المتباعدة أشد التباعد فيها
* في الدنيا شيء يُقال له: غَضَبُ الوضاعة.
- 3 -
* الموت من شأن الله وحده. فبأيّ حق يَمَسُّ الناسُ ذلك الشيء المجهول؟
* المجتمعُ يغلق بابه - في غير رحمة - دون طبقتين من الناس: الطبقة التي تهاجمه، والطبقة التي تدافع عنه.
* ليس الموت بشيء. إنما المخيفُ ألاّ نعيش.
* إذن فلنهجمْ.
لنهجم، ولكن لنميز أولاً. إن صفةَ الحقيقة المميزة أنها لا نعرفُ الإسراف أبداً. وما حاجتها إلى الغلو والإسراف؟ هنالك أمورٌ يجب هدْمها، وأمورٌ أخرى يجب تبيُّنها وفحصها فحسب، فما ينبغي لنا - إذن - أن نحمل اللهب حيث يكفي الضوء وحده.
* ليس أخرقَ من طلاب النصر والغلبة؛ إنما المجد الحق في الإقناع.
* كل شيء قابل للنجاح، حتى النحو والصرف!
* الفرح انعكاس الرُّعب.
- 4 -
* لا بد لكل فكرة من غطاء منظور. لا بد لكل مبدأ من سكن ومأوى؛ فالكنيسة هي الله بين أربعة جدران؛ لا بد لكل مذهب من معبد.
* أنا كالأقيانوس؛ لي مدي وجزري؛ ففي الجزر تبين مواضعي الضحلة، وفي المد ترى أواذي وأثباجي.
* المجتمع هو الطبيعة في حلة من الجلال.
* حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية فرد آخر، وفي هذا السطر ينطوي قانون المجتمع البشري كله.
* التفريق بين الهياج المنبعث عن الطمع، وبين الهياج المنبعث عن المبادئ، ومحاربة الأول ومساعدة الثاني: في ذلك تستقر عبقرية كبار القادة الثوريين، وقوتهم وسلطانهم.
* إن للنفس عقيدة في النور.
* أريد الحرية في الفكر، والمساواة في القلب، والأخوة في الروح. كفى! كفانا عبودية ورقاً! ما خلق الإنسان ليجرر السلاسل، وإنما خلق لينشر أجنحته. . .
(بغداد)
عبد الكريم الناصري
استخبار صحفي (ريبورتاج)
أبو الهول يتكلم!
اكتشافات أثرية هامة
(لمخبر الرسالة)
للأستاذ الأثري سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار اكتشافات كبيرة القيمة من الناحية الفنية والتاريخية فهو الذي أماط اللثام عن سر أبي الهول كما كشف كثيراً من الآثار التي وضحت لنا النواحي الاجتماعية في عصر الأسرتين الرابعة والخامسة. وقد زرناه في بيته الصحراوي بجواز أهرام الجيزة فوجدناه منهمكا في إعداد كتاب قد تزيد صفحاته على خمسمائة صفحة عن حصر الفرعونية.
وقد سمح لنا أن نشاهد حفرياته الحديثة، ونقدم إلى قراء الرسالة أخبار هذه المكتشفات التي غيرت كثيراً من النظريات التاريخية.
خرافة الكتابة.
(كانت هناك خرافة تقول بأن أهرام ملوك الأسرة الرابعة خالية من النقوش والكتابات، وقد ظلت هذه الخرافة قائمة إلى سنة 1938 إذ ثبت خطأها في 28 نوفمبر الماضي فقد وجدنا صورة الملك خوفو باني الهرم الأكبر منقوشة بالحفر البارز على أحد أحجار معبد الهرم الجنائزي كما وجدنا رسوماً ونقوشاً أخرى).
بهذه العبارة أعلن سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار عن اكتشافاته العظيمة القيمة التاريخية والفنية.
وبهذه العبارة وهذا الاكتشاف هدم كثيراً من النظريات، كما قضى على كثير من المؤلفات التي تناولت هذا الموضوع بالبحث والتحليل. فقد لاحظ علماء الآثار خلو أهرام ملوك الأسرة الرابعة من النقوش والكتابات، مخالفة بذلك مقابر أشراف الأسرة وكهنتها الذين ذكروا كثيراً من حوادث عصرهم وعادات قومهم. فاستنتجوا أن ملوك هذه الأسرة توخوا في مقابرهم أن تكون من العظمة والضخامة بحيث تنطق بجلائل أعمالهم وتتحدث عن حالة الرخاء في عهودهم. ولذلك ظهرت الأهرام بضخامتها التي ما زالت حديث العالم دون
أن يظهر على جدرانها نقش واحد يدل على أسماء أصحابها.
الحلقة المفقودة.
ولكن هذا المنطق لم يرق لسليم بك، إذ كيف يذكر اسم الملك في مقابر الحاشية ولا يذكر في مقبرته هو؟ أضف إلى ذلك ما ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت، فقد قال إنه زار الأهرام ورأى نقوشاً على مبانيها؛ وبذلك تأكد لعالمنا المصري أن حلقة أثرية ما زالت مفقودة، وأن كثيراً من أسرار الهرم في الرمال مطمورة. . .
وبحث ونقب فوجد أن كل هرم له معبدان أحدهما جنائزي وهو إلى جوار الهرم من الناحية الشرقية، والثاني معبد الوادي وهو يبعد عادة عن المعبد الجنائزي بطريق. وعلى هذا الأساس بدأ أبحاثه فتوصل إلى الدليل القاطع بعد أن نقل رمال الصحراء من منطقة تزيد مساحتها على مائتي فدان. ففي الجانب الشرقي للهرم الأكبر وجد في معبده الجنائزي في 28 نوفمبر قطعة من الحجر الجيري الأبيض نقش عليها رسم الملك خوفو وهو يلبس تاج الوجه البحري، كما عثر على قطعة أخرى عليها رسم الملك وهو جالس على عرشه يحتفل بمرور ثلاثين عاماً على توليه العرش. وبهذه الأدلة القاطعة هدم النظرية القائلة بعدم وجود نقوش.
ويتكون المعبد الجنائزي من مساحة واسعة تقع شرق الهرم الأكبر وأرضها من حجر التولوريت الأسود الذي أحضره الملك من الفيوم. وقد نحت إلى جوار المعبد ثلاثة مراكب رمزية يستعملها الملك بعد عودته عندما يتمثل إله الشمس في طوافه حول الأرض. واثنتان منها توازيان الهرم وطول إحداهما 55 متراً وطول الثانية 50 متراً، ويختلف المركب الثالث عن سابقيه وهو فريد في نوعه. لأن الوصول إلى قاعه يكون بدرجات كثيرة مما لم يشاهد في المراكب الأخرى. وقد كانت جدران هذه المراكب مغطاة بالحجر الجيري الأبيض الذي وجدت آثاره في المنطقة. وينتظر أن يكشف رفع الرمال التي تغطي تلك المنطقة عن كثير من المعلومات والآثار. ويطمع علماء الآثار أن يجدوا تمثالاً للملك خوفو الذي لا يوجد له تمثال في كل متاحف العالم غير التمثال الصغير الذي وجد في العرابة؛ وقد وجدت تماثيل ولكنها محطمة.
كيف رفعوا أحجار الهرم.
وهناك اكتشاف آخر يكشف عن كثير من مقدرة قدماء المصريين، فإن كثيرين يظنون أنهم كانوا يرفعون الأحجار الضخمة إلى مواضعها بجرها على مستويات مائلة. وكلما تم بناء طبقة رفع المستوى المائل إلى أن يتم البناء كله فيزال ما حوله من مستويات. وقد عثر سليم بك على بكر ضخم مصنوع من الجرانيت الغرض منه رفع الأثقال ونقلها، وهذا يدل على انهم كانوا يستعملون الآلة الرافعة كما نفعل الآن.
سر أبي الهول.
وأدت الحفريات الحديثة شرق الهرم الثاني إلى كشف كثير من غموض أبي الهول حتى أصبح في حكم المقرر أن الملك خفرع باني الهرم الثاني هو الذي أمر بنحته في الصخر. وذلك لما يشاهد من اتفاق فن البناء في معبد أبي الهول والهرم. وقد وجدت حول أبي الهول أكثر من 200 لوحة أهداها إليه كبار الزوار عندما كانوا يحجون إليه مما يدل على ما كان له من مكانة مقدسة.
وكلمة (أبو الهول) محرفة عن كلمة (بوحول) وهي لفظة إسرائيلية معناها (مكان حول) و (حول) إله محلي في فلسطين. فلما نزل الإسرائيليون بأرض مصر أقاموا في جوار أبي الهول وعبدوه بدلاً من أحد آلهتهم لما بينهما من تشابه. وبمضي الأعوام صحف لفظ (بوحول) فأصبح (أبو الهول). أما اسمه الفرعوني تبعاً لنصوص أقدمها يرجع إلى الأسرة الثامنة عشرة فهو (حر أم آخت) ومعناها (هوراس الذي في الأفق). وحرفه اليونان إلى حرماخيس. ويقول سليم بك (إن الإسرائيليين أقاموا في تلك المنطقة مدة طويلة، وإنهم تركوا مصر إلى الشام من طريق بجوار الأهرام، وما زالت قرية الحرونية تحتفظ باسم الهرم إلى الآن).
فن القدماء.
وبكشف مقابر كبار موظفي الأسرتين: الرابعة والخامسة. أميط اللثام عن كثير من غوامض التاريخ، فمن مقبرة (نتربو) يمكننا أن نعرف ترتيب ملوك الأسرة الرابعة. كما بينت المقابر الأخرى أن أولاد خفرع ليسوا أربعة فقط بل هم خمسة عشر ولداً وبنتاً.
أما من جهة الفن فقد وجدت في هذه المنطقة تماثيل كثيرة حافظ فيها الفنان على تصوير
وجه صاحبه بكل ما فيه من عيوب، لأن المصريين اعتقدوا بخلود الروح والحياة الأخرى، كما اعتقدوا أن الروح تزور جثتها. ولذلك وجب حفظها بالتحنيط، وزيادة في الاحتياط رأى المصري القديم أن يلجأ إلى مادة أصلب وأقوى على مقاومة الدهر وعبث الأيدي بدلاً من جثته الهشة فنحت التماثيل لتزورها الروح إذا فقدت الجثة أو تلفت. ولذلك وجب أن تكون الصورة صورة أصلية من صاحبها حتى لا تضل الروح عنها إذا أرادت زيارتها.
وكثرة هذه التماثيل أو قلتها ترجع لسطوة الميت وغناه؛ ففي مقبرة (رع ور) مثلاً وجدت بقايا 120 تمثالاً. ويلاحظ أن تماثيل الأغنياء كانت دائماً تمثل الترف بأجلى صوره، فإذا كانت لصانع دقق الفنان في إبراز التفاصيل فيبدو كل شيء على طبيعته. فترى آثار الجهد على وجه الخباز أو العجان حتى أصبحت تلك التماثيل قطعاً حية تقود الفنان الحديث.
زيارة الأحياء للموتى
وليست زيارة الأحياء للموتى بنت اليوم، ففي مقبرة الكاهن (فيفي) سرداب به حجرة لها نافذة صغيرة أعدت ليطل منها الناس فيرون تمثال الكاهن وإلى جانبيه زوجته وابنه وابنته فترى في عينيه نظرة الاطمئنان وكأنه ينظر إليك. كما ترى جلد الذكور ملوناً بلون أحمر بينما جلد الإناث أبيض. وحتى الملابس والعقود لم ينس المثال أن يصبغها بألوانها الطبيعية التي مازالت ثابتة حتى الآن. فإذا زرت التمثال فقد زرت أصحابه. وليست هذه المقبرة هي الفريدة في نوعها بل إن الحفريات كشفت عن ثلاث مقابر بها هذه الظاهرة
ومن كشف مقابر الأشراف في تلك المنطقة عرفنا كثيراً من عادات القدماء وحياتهم الاجتماعية من سمر وغناء ورقص، ففي مقبرة (كاجوا) كاهن الملك خفرع نجد (أوركسترا) كاملاً مكوناً من ستة أزواج من الموسيقيين، ويتكون كل زوج من شخص يلعب على آلة موسيقية كالمزمار أو الناي أو القيثار وشخص آخر يصفق له تلك التصفيقة التي مازلنا حتى الآن نصفقها إذا حركت إحساسنا أوتار الموسيقى البلدية
ولأول مرة نجد فوجين من الراقصين والراقصات تتوسطهم راقصة عارية، وهي ظاهرة لم تعرف من قبل النقوش الفرعونية. وهكذا لم يترك الفراعنة شيئاً إلا وضعوا هم بذوره ليتبعهم العالم الحديث في جده ولهوه.
ولم يكن كشف هذه الآثار والوصول إلى هذه الحقائق من الأمور الهينة فقد احتاج إلى
عزيمة قوية وصبر طويل ومجهود جبار. فقد استمرت الحفريات برياسة سليم بك عدة سنوات نقلوا خلالها مقادير كبيرة من الرمال، ففي كل يوم كانت العمال تنقل ألف متر مكعب أو أكثر من الرمال، فإذا عرفنا أن العمل كان يستمر ثمانية أشهر في كل سنة قدرنا كم من المجهود احتاج إخراج هذه الآثار إلى عالم المرئيات
وإنه لمن شقاء مصر أن تطغى الأعمال المكتبية على كل شيء وتفسد على العلم كثيراً من الجهود الناجحة حتى يقول سليم بك حسن: (إن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أني قبلت منصب وكيل مصلحة الآثار)
(الشتوي)
رسالة العلم
لماذا أحاول تصوير العالم وفق الآراء الحديثة
للدكتور محمد محمود غالي
صحيح أن كل أفعالنا وحركاتنا الخاصة بحياتنا اليومية أو اتجاهاتنا الشخصية متعلقة بأحكام لا يمكن للعلم أن يكون الأساس المباشر للتصرف فيها. فإن العلوم كما يقول ريشنباخ لا تجيب أبداً على السؤال الآتي: (ماذا يجب أن أفعل؟) ومع ذلك فإن هناك اتصالاً بسيكولوجية بين درجة معرفة الرجل للعلوم وموقفه إزاء المشاكل التي تعترضه في الحياة وتقديره لبعض المسائل، وإننا نلاحظ أن كل المذاهب الفلسفية أو علم الأخلاق تبدأ بنظريات في العلوم ذاتها، نظريات تتعلق في العادة بصورة من صور العالم، والمتأمل يجد علاقة بين الاكتشافات العلمية الكبرى وأعمالنا أو نوع تفكيرنا. خذ مثلاً انقلابنا في التفكير الفلسفي من جراء اكتشاف كوبرنيك لدورة الأرض حول الشمس، هذا الاكتشاف الذي يذكر الأستاذ محمد مختار عبد الله في إحدى مقالاته الممتعة بجريدة الأهرام في العام المنصرم أنها اكتشافات بدأت من أيام العرب. ولست بصدد أن أناقش أصل الاكتشاف ونصيب كل عهد فيه ولا التحديد من موجة الرجوع عندنا بكل شيء لعهد العرب، وإنما أذكر أن الفكرة في ذاتها خارجة وغريبة عن أعمالنا اليومية - عن علاقتنا سواء بالأشياء أو الرجال أو مظاهر الحياة.
أن تدور الأرض حول الشمس، أو تدور الشمس حول الأرض، فإن هذا قد يُظن من موضوعات الفلك أو من موضوعات الترف في المعرفة. ولكن لنا أن نتأمل الناحية الفلسفية ونتأمل النتائج المترتبة عليها؛ وأولى هذه النتائج أن الأرض ليست هي جوهر العالم وما هي إلا سيار صغير جداً بين كثير من السيارات تدور كغيرها حول الشمس، وهذه الأخيرة أي الشمس ما هي إحدى إلا إحدى ملايين الشموس المماثلة وليست من أكبرها؛ وهذه الملايين تكون عالماً، وهنالك الملايين من ملايين العوالم المماثلة يتكون منها الكون. هنا وقف المرء مخذولاً في تفوقه أمام الظواهر الطبيعية؛ وهنا يتضح له شيء من العلاقة الدقيقة بين الإنسان وبين الأرض التي تحويه وبين الوجود، فالمعرفة العلمية لها أثرها على مشاعرنا وتصرفاتنا، وهذا هو الذي يحدو بالقارئ إلى تتبع مثل هذه المقالات.
إن التفصيلات العلمية بعيدة عن حياتنا اليومية ولكن لمعرفة النتائج والإلمام بالصعوبات التي اعترضت العلماء - أثرها في حياتنا الشخصية.
لذلك لم يتأخر علماء أعلام مثل فابري أستاذ الطبيعة بالسوربون وعضو المجمع العلمي الفرنسي وريشنباخ وغيرهما أن يكتبوا سلسلة من المقالات في المجلات الأسبوعية أو الشهرية أو في الكتب المبسطة. والأخير من كبار الأساتذة السابقين في ألمانيا الذين تنتفع الآن بمعلوماتهم جامعة (استنبول) وتحويهم تركيا الجديدة التي اقتنعت أن بين الذين شتتهم الظروف السياسية في العالم اليوم مواهب يمكن الاستفادة منها.
صحيح أن الشخص العادي لا يعنيه معرفة الظروف التي حدث بباستير إلى اكتشاف ميكروبات الأمراض المختلفة مثل الكلب والحمى الفحمية بقدر ما يعنيه المصل أو الطريقة المعدة للعلاج؛ وقصة اكتشاف كالمت لعلاج الدفتيريا لا تهم الجمهور بقدر ثقتهم اليوم بأن للدفتيريا مصلاً للوقاية منها، بل إن الشخص العادي لا يهمه دوران الإلكترون حول نفسه وحول مركز الذرة بقدر ما يهمه النتائج والانتصارات الفعلية للكهرباء.
ولو أن العالم صورة صادقة لما نراه في حياتنا اليومية. ولو أن مجموعة المعارف التي نُطبقها تمثل لنا صورة صحيحة لهذا العالم لما كان إلا شيئاً كالأشياء المادية التي تحيط بنا، أشياء تتأثر بالقوانين الطبيعية البسيطة التي درسها معظمنا في المدارس الثانوية أو العالية كانتشار الضوء في خط مستقيم وغير ذلك. فالمواد في هذا العالم البسيط حديد وخشب وحجارة نستخدمها لعمل الأدوات والآلات، وتجد أن المادة في هذا العالم البسيط تكون صلبة أو سائلة أو غازية كما أننا نجد فيه الحرارة والبرودة والصوت، بل تجد أيضاً الكهرباء التي لا نراها ولكنها تدخل في كثير من حاجاتنا. هذه الظاهرة ينسى الكثيرون أن يحاولوا تصورها، وكل ما نعلمه أنها تتولد من آلات خاصة وأنه من الممكن نقلها بالأسلاك. وفي هذا العالم البسيط يجري ترام وأمنيبوس، ويقهر الأرض فيه قاطرة وتحلق طائرة وتتعالى أصوات الآلات في المصانع، وتتدافع الأشخاص بالمناكب في مدن مكتظة، وتزدهر الحقول بفعل الفلاح وفعل الجو والماء، وتجري الأنهار وتقام عليها الجسور، وغير هذا على هذه الأرض السيارة والتي نشعر بما فيها وعليها بحواسنا الخمس: السمع والبصر واللمس والذوق والشم ويهيمن عليها وعي وتدبير يطلقون عليهما العقل، وفي هذا
العالم البسيط تعلونا سماء زرقاء في مصر ملبدة بالغيوم في غيرها، حيث تجري الكواكب في مجراها، وكل هذا العالم غارق في بحرين كبيرين: الزمن والحيز، هذان البحران أصبحا موضع عناية الباحثين والعلماء المدققين. الزمن والحيز، عاملان نعتقد أننا جميعاً نعرفهما أو هما في غير حاجة لدراسة معينة فقد ألم بأمرهما كل من أتيحت له الفرصة أن يجلس على مقعد بالمدرسة.
هذه الصورة البسيطة للعالم والتي عللها العلماء لنا بقوانين بسيطة سواء في الميكانيكا أو الطبيعة أو الكيمياء لم تعد بسيطة كما عهدناها.
ففي جو التفكير العلمي انقلاب شديد لم يشعر به الرجل البعيد عن الجامعات ومعامل البحث. وشعر به العلماء والجامعيون المشتغلون، والواقع أننا لو انحرفنا قليلاً عن الأوضاع البسيطة التي ذكرناها والأوصاف التي قدمناها وأردنا أن نعرف للعالم صورة أدق من الأولى صورة تنطبق على الآراء العلمية الحديثة، فلا مادة حسب التفكير الأول البسيط، بل إن المادة جسيمات صغيرة جداً في حركة دائمة، وهذه الكوبة المملوءة بعصير البرتقال مثلاً أو الماء الصافي تمثل مجموعة من ملايين الأجسام المتحركة، فهي شبه مجموعة من النحل حول خليتها في حركة دائمة، فكما أنه ليس هناك سطح معين لمجموعات النحل حول الخلية، فإنه لا سطح معيناً للماء في الكوبة بل مجموعات من الجسيمات هنا وهناك تعد بالملايين.
وفي هذا العالم الذي نعيش فيه والمملوء من هذه الجسيمات المتحركة لا ضوء هناك ولا لون ولا صوت، فكل هذه مظاهر لا تختلف إلا بعدد في الذبذبات والتردد؛ فالذي نسميه مادة أو ضوء ما هو إلا كهرباء، بل لا فارق بين الطاقة والمادة، ويمكن القول اليوم أن الاثنين شيء واحد، بل المادة نفسها كهرباء والكهرباء مادة
على أن قوانين هذا العالم المضطرب تختلف حسب صورته الجديدة اختلافاً كبيراً عن الأشياء التي تعودناها في حياتنا اليومية والتي لم تظهر القوانين التي نعدهما صحيحة لنا إلا لأنها متوسطات للقوانين الحقيقية للعالم على صورته الجديدة.
هذا الاختلاف في صورة العالم ومظاهره قد تعدى كل شيء حتى إن القوانين العادية الخاصة بالزمن والمسافة التي تحكم هذا العالم تختلف اختلافاً مبيناً عن التي تعلمناها في
المدارس، فالحيز الذي اعتدنا أن نتصور فيه طوبة أمحوتب، هذه الطوبة التي نستعملها اليوم لبناء منازلنا، هذه الطوبة ذات الطول والعرض والارتفاع، هو حيز معوج؛ والمثلث الذي اعتدنا أن نعتبر مجموع زواياه تساوي قائمتين، هو في الواقع ليس كذلك؛ والخط الذي اعتدناه مستقيماً يلتف في النهاية حول نفسه، بل إن الزمن ذاته يحمل في طياته أغرب القضايا بعدم التعيين أو المعرفة، ويتبين لنا ذلك إذا حاولنا أن نحدد زمنيّاً حادثين بعيدين الواحد عن الآخر.
فتبيان هذه الموضوعات وسرد قصة العالم بالتقرب ما أمكن من حقيقته تكون اليوم مجموعة من المعلومات الثقافية ذات الأثر في تكوين الفرد وتفكيره وحكمه على الأشياء.
هذه المجموعة الجديدة تختلف كل الاختلاف عن الصورة التي عهدها القارئ لهذا العالم التي ترتسم في ذهننا بما نراه وما اعتدناه وتعلمناه. على أن المهم في ذلك أن هذه التطورات العلمية الأخيرة التي تلزمنا كما سنرى أن نعامل الأشياء بقوانين مختلفة، كان لها تأثير في عالم الاكتشاف والاختراع مما سيكون له أثر على الجيل القادم.
ليس من السهل أن نطالب كل امرئ بتصديق كل هذه التطورات العلمية الجديدة دفعة واحدة وبدون سابق شرح، لهذا عمدت إلى هذه المقدمة التي نوهت فيها على قدر الإمكان ببعض الموضوعات التي سأتناولها
وكأني أشعر بالقارئ يسائل نفسه كيف وصل العلم لمثل هذه القضايا والتفسيرات الجديدة التي تجعله يتشكك في أبسط الأشياء، في الخط المستقيم الذي اعتاد اعتباره كذلك، في فضاء أقليدس ومحاوره الثلاثة، الذي كان نتيجة طبيعية لتصوره. كيف وصل العلم لهذه التفسيرات الجديدة التي ظاهرها غريب شاذ ولا تدل عليه أعمالنا اليومية؟ ألا تكون ضرباً من التخمين والاجتهاد العلمي الذي يراد به تفسير بعض الظواهر ولن يلبث العلماء حتى يعودوا إلى النظريات القديمة؟ ألا تكون الحال كالصور الحديثة عندما زهد الفنانون في إخراج صورة خالدة مثل (الجيوكوندا) من عمل (ليورناد دي فنسي) فمثلوا لنا وجه المرأة بدائرة داخلها نقطتان، والشجرة بخط أو خطين
ولكني أجيب القارئ أن الأمر ليس كذلك، فليس الذي يدفع بالعلماء لهذه النظريات الجديدة هو حبهم للتخمين، رغبة في جديد وهجر لقديم؛ وبينما يعرف الفنان أن الإقبال على فنه
موقوف إلى حد ما على التغيير وترك القديم للحديث، فليس هذا شأن العالم، غذ أنه مثل الرجل العادي على حد سواء يسعى دائماً لتبسيط المسائل وليس له مصلحة في التعقيد. والواقع أنه إذا كان قد وصل الآن إلى مثل هذه الصورة المقعدة للعالم فان ذلك لأنه أراد أن يعرف للعالم حقيقته ويتوغل نحو المعرفة لأقصى الحدود.
على أنه في هذا المجهود الذي يقترب فيه رويداً رويداً من حقيقة الكون وسر الوجود والذي يرسم لنا فيه صورة للعالم أكثر انسجاماً من صورته الأولى، يعمل لتقدمنا إلى الأمام كجنس سوف يختلف فيه الإنسان القادم عن الحالي، كما اختلف الإنسان الحالي عن القردة.
ألم نكشف النار وظلت تجهلها القردة؟ ألن نصنع لأنفسنا طوبة أمحوتب وظلت في الكهوف؟ ألم نكشف أخيراً الكهرباء وإشعاع المادة وتهدم الذرة؟ ألم نعرف القاطرة والطائرة، والتلفون والتلغراف، والمصباح وأنبوبة النيون، والراديو والتلفزيون؟
لقد كلفتني هذه المقدمة والتفكير في المقالات التي تليها قراءة عشرات الكتب وحضور الكثير من المحاضرات فطالعت دي بروي وبران وفابري ومليكان وسودي وإدنجتون وجن ومارسل بول وريشنباخ وغيرهم ممن حاولوا بجانب أعمالهم العلمية أن يقوموا بدور تبسيط العلوم. وقد اعتزمت أن تكون مقالاتي أكثر في التبسيط من هؤلاء، ولكني أرجو ألا أذهب في التبسيط إلى الحد الذي تُقتل فيه الموضوعات وتتهدم فيه فائدة القراء. ولا أدري ماذا كان وقع هذه الكلمات على القراء، فهم أدرى بها مني، وهم الذين يقدرون إن كان هذا التبسيط كافياً. ولا تظن بعد ذلك أنني سأتحدث في المقال القادم في أول درس في الزمن حسب ما يراه إينشتاين، أو الحيز حسب ما يفهمه ريمان، أو أحدثك عن كون يتمدد وفق آراء (دي ستير) وملاحظات هبل أو أدخل بك في الذرة وتهدمها اليوم تحت معاول العلماء مما سيكون موضوع أحاديثي القادمة، ولكني أرجو أن تسمح لي أن أتمم هذه المقدمة التي آمل أن يكون منها فائدة، فأتحدث أولاً عن الطريقة التي يشتغل بها العلماء. ما هي منابعهم؟ ما هي طرائق العلم الحديث؟ فأفرق بين العلم النظري والعلم التجريبي.
وفي هذا سأنتزع كل ما أمامي من الكتب والمؤلفات فأدعها جانباً لأني وقد قضيت زهرة العمر في المعامل، وفي معامل البحث يصح أن أتحدث عن الوسائل الحديثة التجريبية، وأفرق بين عالم التخمين وعالم الحقيقة، وأدل القارئ - كيف يسيطر العلماء اليوم على
حالة التقدم.
فإذا انتهيت من هذا في المرة القادمة يصح أن نجول معاً بعد ذلك في الكلام عن الحيز ثم الكلام عن الزمن فنكون قد اشتركنا معاً في أول درس حقيقي من دروس الفلسفة الطبيعية.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
هجرة الأسماك
بقلم رضوان محمد رضوان
الهجرة ظاهرة غريبة تشاهد في المملكة الحيوانية على وجه العموم، وهي ترى بوضوح في الأسماك، وكذلك في الطيور.
وتهاجر الأسماك لغرض التناسل، فمنها ما يهاجر من النهر إلى المحيط للبحث عن مكان تبيض فيه، والمثل المعروف لهذا النوع من المهاجرة هو ثعبان السمك.
فمن المشاهدات العديدة، وجد أن ثعابين السمك لا تتكاثر أصلاً في الأنهار التي تعيش فيها كبقية الأسماك النهرية، إلا أنه بالرغم من ذلك توجد منها كميات كبيرة لا تقل في سنة عن أخرى، وكذلك توجد منها أفراد كبيرة وأخرى صغيرة؛ وشوهد في نفس الوقت أن الثعابين الصغيرة تصعد من المحيط إلى النهر. أما الكبيرة فترحل من النهر إلى المحيط.
وعلى ذلك اتجه الرأي إلى أن الثعابين ترحل من النهر إلى المحيط للتناسل، وفعلاً أثبتت المشاهدات أنه لا يتم نمو الثعابين - ويكون ذلك في سن الخامسة أو السادسة - حتى تتحين وقت الخريف، وتترك النهر في جماعات هائلة متجهة إلى مصبه، فإذا أمسى الليل، وكان البحر هائجاً، تنزل إليه وتعوم بنشاط عجيب، وتبتدئ بذلك رحلتها القريبة، فتمر من بوغاز جبل طارق إلى المحيط الأطلنطي، وتعبره إلى جزائر برمود شمالي بحر السرجاس والتي تبعد عن شواطئ الولايات المتحدة الأمريكية بنحو ألف كيلومتر.
وقد اصطيدت حيوانات مختلفة في مناطق متعددة أثناء هذه الرحلة الطويلة، فوجد أن الغدد التناسلية تكون أقرب إلى البلوغ والنضج كلما قربت الحيوانات من بحر السرجاس مما يدل على نموها طول فترة السياحة.
تقطع إذاً الثعابين آلاف الكيلومترات لكي تصل إلى جزائر البرمود بسرعة 20 - 30 كيلومتراً في اليوم، فإذا ما انتهت إلى مكانها المقصود، تبيض الأنثى كمية كبيرة من البيض تبلغ المليون، وقد تزيد على ذلك، ثم تفرغ الذكور الحيوانات المنوية في الماء، وبهذه الطريقة يتم إخصاب البيض.
وحين يفقس البيض وتخرج منه اليرقات، تبدأ سياحتها راجعة في نفس الطريق الذي سلكه أبواها من قبل، وتتغذى في طريقها بالحيوانات المائية الدقيقة
أما مصير الأبوين بعد وضع البيض وتلقيحه فأمر مجهول تماماً إلا أن بعض العلماء يرجح موتها كما هي العادة عند بعض الحيوانات.
وعندما تعبر اليرقات المحيط إلى النهر تصل إليه في أوائل الشتاء ويعيش جزء منها بقرب مصبه، وهذه تكون في غالب الأحايين ذكور المستقبل والتي تعيش في أعالي النهر تكون الإناث. وتستغرق الثعابين في رحلتها هذه حوالي العامين.
وهناك نوع من الأسماك يهاجر من البحر إلى النهر مثل السمك الأوربي المعروف باسم (حوت سليمان) فهو يهاجر في جماعات كثيرة العدد فينزل البحر الذي يعيش فيه في أواخر الخريف وأوائل الشتاء ويتجه نحو النهر مفترساً ما يصادفه من الأسماك الأخرى، وله مقدرة غريبة على السباحة في النهر ضد التيار، كما أن لديه القدرة على القفز متخطياً بذلك أي انحدار يصادفه في مجرى الماء، وقد وصلت إحدى قفزاته إلى ارتفاع ثلاثة أمتار فوق الماء
وفي الأنهار التي بها سدود تعترض طريقه، والتي يتعذر عليه أن يقفز من أسفلها إلى أعلاها، فكر كثير من العلماء في إنشاء بناء مائل على هيئة السلم بجانب السد ينحدر عليه الماء من أعلى السد إلى أسفله، وبذلك يتاح لحوت سليمان أن يتابع سيره بدون أدنى صعوبة
فإذا ما وصل إلى مصب النهر يصوم عن غذائه وحينئذ تبتدئ الغدد التناسلية في التضخم والنضج
ولقد شوهد أن الحيوان يختار في رحلته هذه الأنهر السريعة الجريان المتدفقة المياه، ولذلك فهو يفضل دائماً أن يرحل إلى الأنهر الأوربية في أوائل الشتاء حيث تهطل الأمطار بشدة وتزداد سرعة المياه في الأنهار لدرجة كبيرة
وتبين أن الحكمة من هذا الاختيار هو أن ماء الأنهر السريعة الجريان يحتوي على كمية كبيرة من غاز الأكسجين المذاب، فإذا ما احتوى اللتر من ماء المحيط على 6 س و3 م من الأكسجين المذاب نجد أنه دائماً يتجه إلى الأنهار التي يحتوي اللتر من مائها على 8 س و3 م أو أكثر من غاز الأكسجين، كما أنه في أثناء صعوده إلى النهر يتخير دائماً الأفرع الغنية بالأكسجين إذ أنه شديد الحساسية لهذا الغاز
فإذا ما وصل إلى منبع النهر تكون الغدد التناسلية قد تم نضجها فتبيض الأنثى عدداً عظيماً من البيض ثم يلقح الذكر البيض وبذا يتم إخصابه.
وبعد ثلاثة أشهر يفقس البيض يرقات تتطور وتنمو كل واحدة منها إلى سمكة صغيرة تعيش في مكان أبويها مدة تقرب من السنتين ثم تهاجر من مكانها من النهر إلى المحيط حيث كان مقر أبويها من قبل وهي تسلك في ذلك نفس الطريق الذي سلكه الأبوان في رحلتهما الأولى
تلك كلمة موجزة عن رحلة بعض أنواع السمك، يتساءل الإنسان بعدها ما الحكمة أو ما الدافع الذي يحدو هذه الحيوانات أن تترك موطنها وتهاجر في رحلة شاقة معرضة لأشد الأخطار وكان الأحرى بها أن تبقى حيث نشأت فتتناسل وتتكاثر في أمان.
لم يعثر العلم بعد على تفسيرات شافية لهذه التنقلات العجيبة، وكل فرض قيل في هذا الباب هو من قبيل التخمين ليس إلا؛ فلا زال الإنسان يعترف بجهله أمام هذه الظاهرة الغريبة، إلا أن العلم قد أثبت بصفة لا تحتمل الشك أن هذه الهجرة صفة وراثية يكتسبها الأبناء عن الآباء، يدل على ذلك أنه عند قيام الثعابين السمك الأمريكية التامة النمو بسياحتها من الأنهار إلى المحيط فإن يرقاتها لا ترجع إلا إلى الأنهار الأمريكية التي تربى فيها أبواها فلا يوجد ثعبان السمك الأمريكي في أنهار أوربا ولا في أنهار أفريقيا؛ وكذلك الحال مع الثعبان الأوربي والأفريقي، كل يسلك سبيلاً مرسوماً لا يحيد عنه قيد أنملة، هو السبيل الذي سلكه أبواه من قبل.
رضوان محمد رضوان
بكالوريوس في العلوم الزراعية
رسالة الفن
تأريخ الفن
للدكتور أحمد موسى
2
وعندما ظهر مؤلف فردرش كرِسْت وزميله جيزنر عن الفن القديم، كان مكان اجتماعهما أشبه شيء بأكاديمية للفن التقى فيها الكثيرون من أهل العلم والفضل من أولئك الذين كانوا يقرؤون كتب الفرنسيين منذ ساندِرت لعدم وجود غيرها من المؤلفات القيمة (والحديثة نسبياً) بغير اللغة الفرنسية.
وعلى رأس هؤلاء الأفاضل يوهان يواخيم فنكلمان الذي إليه يرجع الفضل الأكبر في توجيه العقل الألماني إلى وجوب معرفة الحضارات القديمة ودراستها، إذ بها وحدها يمكن إيجاد أسس النهوض ووسائل التوجيه المنتج وتحسين الموجود وإمكان الابتكار، كما كان له فضل عظيم في إيجاد الدراسات الجامعية المنظمة لعلم الآثار وتاريخ الفن.
وإلى جانب هذا الرجل يجب التنويه برجلين هما هيني وليبرت كما نذكر فون هاجدورن وهاينكن وفون شتوخ، الذين عملوا جميعاً على ازدهار هذا العلم بدافع من أنفسهم في كل إخلاص وصدق.
ومن أهم ما نذكره في مضمار تاريخ الفن القديم على وجه الخصوص تلك الحفريات الموفقة التي أجريت في بومبي بالقرب من نابولي في أواخر القرن الثامن عشر وفي هركولانوم وكذلك الأعمال الأثرية المساحية التي قامت بها البعثة الإنجليزية في أثينا برياسة ستيوارت وريويت والتي ترتب على النتائج الباهرة التي وصلت إليها وما أوجدته من روائع الفن خلال الحفر أن تحول الميل من البحث في روما إلى البحث في بلاد الإغريق عن كل ما تحويه أرضها من كنوز يزداد الإعجاب بها والولوع بدرسها كلما ازداد العثور على شيء من محيطها الهائل. فأصبح ميل العلماء شديداً، كل في مادة تخصصه، إلى الهيلينزم أو الثروة الإغريقية في منطقة هيللاز.
عندئذ ولكثرة ما عثر عليه بدأ الأفراد العارفون يجمعون التحف، وبدأت الحكومات تشجع
على أعمال الحفر وتشرف عليها وتأخذ نصيبها مما وجد، وكان ذلك النواة الأولى لإيجاد المتاحف العامة.
ونحن وإن كنا نعلم تمام العلم أن باريس كانت القلب النابض للآثار وتجارة العاديات بالنظر إلى ما جلبه نابليون؛ إلا أن ظهور نتائج الحفريات في روما وفي بلاد الإغريق ووصول أهم ما وجد في أثينا على مرتفع أكر وبوليس من أعظم ما رأت العين من نحت الرخام وأعمال التصوير والحفر التي جمعها البارون إلجين والمجموعة الرائعة التي تمثل الفن الأجيني إلى مونيخ، ومجموعة منحوتات أفاريز معبد برجامون التي تمثل الفن البرجاموني أحسن تمثيل إلى برلين كل هذا قاسم عظمة باريس وجعل من هذه المدن مدارس للفن ولدراسته العليا.
وبتأسيس المعهد الأركيولوجي في روما (1829)، وما قام على تأسيسه من إنتاج هائل ونشاط بديع، وبإيجاد معاهد أركيولوجية لبلدان أخرى - إلى جانب الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1666 - فإن هذا مما ساعد كثيراً على إيجاد المواد العلمية لتاريخ الفن الذي لا يقتصر على ما هو قديم؛ بل يتناول كل إنتاج ففي أياً كان عصره، إلا أن الطريقة التي يسلكها في التسجيل والنقد والتقدير والتأريخ للقديم لا يمكن أن تكون مشابهة لتلك التي يستخدمها للفن المعاصر الذي شوهه ذوو الأغراض والعجزة المدعون ممن يعتمدون على تشجيع غير الدارسين، وعلى دعاية الصحافة التي تدعي حرية الفكر والعمل، لأسباب جوهرية سنذكرها في مقال خاص بفلسفة الفن الحديث
ولقد ظهر بعض الصور المحفور أصلها على لوحات من النحاس - مثّلت روائع العمارة، وأول هذه على ما نذكر، ما أخرجه جون فيليبيا في كتابه 1687. وكذلك أندريه فيليبيا في كتابه: 4 1705. اللذان سلكا فيهما مسلكاً نقديّاً علميّاً للإنتاج الفني الحديث، وكان للكتاب الأول صدى مهد السبيل لترجمته إلى اللغة الألمانية (طبع بهامبورج سنة 1711).
أما تأريخ الفن المتوسط، ولا سيما فن البناء، فقد ظهر الاهتمام به في إنجلترا أولاً وكان هذا في أواخر القرن الثامن عشر.
وفي ألمانيا اشتغل فريق من العلماء بتأريخ فن التصوير الألماني القديم (نسبيّاً) على رأسهم
فواسيريه وفون كوانت وفرانس كوجلر وهيدلوف؛ وكان لإنتاجهم ونقدهم صوت مسموع، جعل من الفنانين تلامذة يقدرون الفن القديم (نسبيّاً) ويقتبسون منه ويسيرون على ضوئه ويعملون على إحياء ما بلى منه؛ فظهر أثر الفن المتوسط لا سيما الفن الرومانتيكي.
وظهر في فرنسا مثل هذا الاتجاه على أيد فاضلة نسجل بعضها كفواليه لي دوك ولابورد وشابوي ودوسوميرار ودالي وبالوستر، وظهر في أسبانيا كافيدا، وفي إنجلترا ستريت، وبوجين وجوتر وفرجسون. وكانت النتيجة لهذا المجهود الشامل أن تأرّيخ الفن الوسيط تأريخاً جامعاً كاملاً. وهنا استطاع المؤرخ الفني المستقل أن يربط بين هذه التآريخ بعد التمهيد وتم الأمر في النهاية بوضع تاريخ الفن المتوسط على الأسس الحديثة.
ولتأريخ الفن الإيطالي في عصر النهضة قصة، فجو إيطاليا حبب الرحيل إليها، وجمال الفن الإيطالي لفت النظر إليه، هذا إلى جانب قيمة استقلال البلاد مما يبعد عنها الدهماء من الأجانب فلا يلتقي فيها سوى أهل العلم والفضل من مختلف الأمم؛ فاهتم فريق منهم بتأريخ فن عصر النهضة الإيطالي، ولا نزال نذكر جوتييه وبرسييه وفونتان وليتاروبلي. وكتاب (أبحاث إيطالية) لمؤلفه رومور (طبع برلين في ثلاثة أجزاء 1827 - 31) من خير ما ألّف لهذا العصر، ففيه تناول المؤلف طريقة النقد الفلسفي للفن. وعلى منواله نسج كل من بورشاردت الألماني ولانسي وكفالكاسيل وموريللي الإيطاليين وكروا الإنجليزي، وهؤلاء جميعاً ولا شك أئمة مؤرخي الفن المحدثين.
وفي نفس المرحلة الزمنية كان قد بدأ فريق من علماء هولندا بالاشتغال بتأريخ الفن أمثال شابس وإيمرتسيل وغيرهما؛ على حين اشتغل باسافان وفاجين بمشاهدة التراث الفني وتأريخه على أساس النقد المقارن، واجتهدا في إيجاد صلات وروابط فنية بين إنتاج الأمم المختلفة وطناً المتشابهة إنتاجاً، نتيجة لتشابه الموقع الجغرافي العام وتشابه الوسط الأوربي والعقلية والثقافة التي كانت تحيط بها العقيدة الدينية إحاطة كاملة
إلى هذه اللحظة لم تكن المؤلفات الحديثة عن تأريخ الفن العام قد ظهرت بعد، ولم يكن بد من العمل على إيجادها، فتكاتف لحسن الحظ فريق من علماء الألمان - كسابق تكاتفهم في مضمار تأريخ الفلسفة - على إخراج مؤلف شامل؛ فظهر في الأفق كتاب (شنازة) وبعده بقليل كتاب (لوبكه) وبعده الكتاب القيم (لأنطون شبرنجر) وقسمت الكتب إلى عصور
والعصور إلى مراحل والمراحل إلى شعوب فكان منها تاريخ الفن القديم بما فيه تاريخ فن ما قبل التاريخ، وتاريخ الفن المتوسط وتاريخ الفن الحديث، هذا فضلاً عن تقسيم الإنتاج الفني نفسه إلى عمارة ونحت وتصوير وفنون رفيعة وموسيقى وغيرها
وكان للتصوير الفوتوغرافي قيمة في المساعدة على إخراج الكتب مزوّدة بصور الإيضاح التي يعتمد عليها تاريخ الفن كل الاعتماد والتي بدونها يفقد المؤرخ الفني أهم مادة من مواد درسه، حتى لترى بعض الجامعات تشترط على طالب تاريخ الفن والآثار الدراية التامة بالتصوير الفوتوغرافي الذي بدونه لا يتم له العمل.
وظهرت معاجم ودوائر معارف للدراسات الفنية والآثار ننعم بها، فضلاً عن المجلات الخاصة وعن تقارير أعمال الحفر والاستكشاف الخ.
وكان للتقدم الباهر في علم الجيولوجيا قيمته وأثره في تاريخ الفن وعلم الآثار كما كان لتقدم دراسة الأنثروبولوجيا أكبر الأثر في تحديد الإنتاج الفني لكل شعب.
من كل هذا نرى أن تأريخ الفن والكتابة فيه وتناوله بالنقد ليس بالأمر اليسير وليس مما يباح في البلاد المحترمة لغير المتخصصين.
أحمد موسى
رسالة المرأة
المرأة اليونانية
للآنسة زينب الحكيم
المرأة اليونانية الحديثة المتعلمة
زرت إحدى دور الآثار يوم الجمعة 5 من أغسطس سنة 1938. والدخول إليها بأجور مرتفعة للأجانب وزهيدة جداً للأهالي
بناء الدار فخم، أمامه حديقة كبيرة منسقة. رتبت محتوياتها وجلها من التماثيل الكبيرة والصغيرة، والآنية الخزفية، والغازات المنوعة الأشكال والمادة، وكذلك الحلي، رتب كل هذا بنظام علمي تاريخي وفني ملحوظ، مما يجعل الزائر يشعر بعد تركه الدار أنه استفاد شيئاً قيماً. فإن بساطة مظاهر الحجرات إنما يرفع القيمة العلمية التي امتازت بها درجات.
لا يوجد بالدار عمال كثيرون، ولا موظفون؛ والذين يتولون الشرح للزوار علماء وعالمات بالعاديات.
وكان يلتف حول كل شارح وشارحة جماعة يفهمون اللغة التي يشرح بها، فرأيت جماعة من الألمان، وجماعة من الإنجليز انضممت إليهم، وجماعة أخرى يشرح لها بالفرنسية، وجماعة رابعة تشرح لهم سيدة يونانية باللغة اليونانية.
كان صوت هذه السيدة مرتفعاً إلى حد مزعج، شوش على جميع المتفرجين، كما ظهرت عليها سمات الغرور، وعدم المبالاة مع أنها فتاة في ريعان الشباب أنيقة الهندام جميلة الوجه، عالمة بدليل أنها تتولى الشرح لعاديات بلادها. إذن كان من أول واجباتها أن تكون أيضاً مثقفة مهذبة بمعنى أن تتذكر تطبيق ما تعلمته من آداب الحديث والاجتماع عملياً وهي في طور اليقظة وإلاّ فمن شب على شيء شاب عليه. على أن هذه الناحية من النقص قد لحظتها بين كثيرات من السيدات اليونانيات المتعلمات.
المرأة اليونانية في بيتها
زرت بعض الأسرات اليونانية الكريمة في بيوتها، وكان من بين هذه الأسر، أسرة كاتب شهير، وكذلك زوجه كاتبة ذائعة الصيت.
زرتها أول مرة، فلم تكن السيدة موجودة لارتباطها بموعد سابق، فقابلني زوجها في حجرة مكتبه - وقد تبينت أنه رجل مهذب، يمتاز بسجايا الرجل الجنتلمان. أطنب كثيراً في مدح زوجته؛ مما دل على حسن تقديره لها واعتماده عليها، إذ قال: إنها ذراعه اليمنى في إخراج المراجع التي يحتاجها من المكتبة
قدم لي تحية الزيارة. . . قهوة، ولكن وضع معها على الصينية صحناً به مربى، وحوله ثلاثة أكواب بها ماء مثلج، ووضعت على كل كوب ملعقة صغيرة. استفسرت منه عن كيفية السلوك الذي يجب أن أسلكه؟!
قال: هذه عادة يونانية. يؤكل جزء من المربى ويشرب بعض الماء البارد ثم تشرب القهوة. بعد قليل ودعت الرجل وانصرفت على أن أحظى برؤية زوجه في الزيارة الثانية.
وفي اليوم الذي سبق تحديده ذهبت لزيارة هذه الأسرة ثانية، وجلسنا هذه المرة في حجرة مكتب السيدة الزوجة، وبعد التعارف وحضور حمى الزوج أيضاً، قالت الزوجة: تريدين معرفة شيء عن الحركة الاجتماعية في اليونان؟ قلت: نعم، وأريد أن أعرف كذلك شيئاً عن الحركة التعليمية بالنسبة للمرأة اليونانية، ويهمني كثيراً أن أصل إلى معلومات صحيحة. فقاطعتها أمها قائلة: إن نسبة المتعلمات من السيدات 60 %، والرجال بين 70، 80 %.
وعادت الزوجة وأخبرتني بنتف غير واضحة عن جملة أشياء مما أردت، وقاطعتها أمها مرات، وقاطعتها هي بدورها مرات، ونسيتا نفسيهما فارتفع صوتهما، وكثرت حركات أيديهما.
وسألت عن اسم سيدة أخرى من شهيرات نساء اليونان، فذكر الزوج اسم سيدة، فقلت تفضل بكتابته لي بغير الأحرف اليونانية حتى تسهل عليّ قراءته ونطقه صحيحاً.
قام الرجل وبحث عن قصاصة من الورق على مكتب زوجته، وما كاد يرفعها ويأتي بها إلى مقعده حتى انقضت عليه الزوجة معنفة بحالة شرسة، وأعصاب ثائرة، وغضب شديد، لجرأته على التعدي على منضدة كتابتها، وأخذ تلك القصاصة المشئومة. قابلها الرجل بابتسام ورحابة صدر، وسلك سلوك الرجل السميدع الذي صمم على ستر الموقف مهما كلفه ذلك. لكن الحقيقة التي لا يمكن الهروب من ذكرها، هو أن سلوك الزوجة ذاك، إن دل
على شيء فلا يدل على أكثر من التربية الناقصة، والغرور الفاضح بمعلومات واهية لا تثمن ولا تغني إذا كان هذا هو تأثيرها في نفس تلك السيدة الجميلة الوجه الأنيقة الهندام الشرسة الطباع المغالية في تشويه جمالها الطبيعي بإسرافها في استعمال الأصباغ.
على أني أهيب بالقارئة الكريمة ألا تستخلص من هذا أن جميع سيدات اليونان المتعلمات كهذه الأمثلة التي اتفق أن رأيتها. إن من بينهن مثقفات أنيقات بحق عالمات بصدق. ولعل ذلك يتجلى في الشقيقات الثلاث الموجودة صورتهن بين هذه الصفحات.
وإن أنس لا أنس أبداً مناظر السيدات اليونانيات اللاتي اشتركن في الاحتفال بعيد الإنقاذ القومي في 4 من أغسطس 1938
لقد أتت من أجله السيدات اليونانيات من جميع أطراف بلادهن من الجزائر ومن القرى، كل فريق له طابع خاص وشخصية مميزة، ويتفق الجميع في الحسن والرقة، وحسن ذوق الأزياء التي ارتداها ممثلو وممثلات نحو مائة مكان باليونان.
وكلها يقصر دونها الوصف ويعجز عن شمولها الخيال، منها ما مثل اليونان القديمة، ومنها ما يزال يستعمل إلى الآن من تلك الأجيال السحيقة. فدعاني هذا إلى التفتيش في التاريخ اليوناني القديم، ليتسنى للقارئات استخلاص موازنة لأنفسهن بين المرأة اليونانية الحديثة والمرأة اليونانية القديمة. وموعدنا الأسبوع القادم إن شاء الله.
زينب الحكيم
رسالة الشعر
من جراح الذكرى
فاتنتي مع النهر. . .؟
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
مَرَّتْ عَلَى النَّهْرِ. . فَقَالَتْ لَهُ
…
وَمَوْجُهُ في خَشْعَةِ السَّاجِدِ:
يا نَهْرُ قاسِمْنِي الأَسَى مَرَّةً
…
وهاتِ أخْبَارَكَ عَنْ عَابِدِي!
نَبِيُّ أَحْلامي، وشَادِي الهَوَى
…
بِمُعْجِزَاتِ النَّغَمِ الْخالِدِ
طالَ عَلَيَّ الشَّجْوُ مِنْ بُعْدِهِ
…
والصَّمْتُ مِنْ قيثارِهِ الزَّاهِدِ
أَضاقَتِ الدُنْيَا بِتَغْريدِهِ
…
فَطَارَ عَنْ مَوْطِنِهِ الجَاحِدِ؟
أَمْ رَاحَ يُلْقِيهِ، فَيَمْضِي كما
…
مَرَّ الصَّدَى بِالكَفَنِ الهَامِدِ؟
يَا نَهْرُ أَسْمِعْنِي حَدِيثَ الهَوَى
…
وَهَاتِ عَنْ بُلْبُلِيَ الشَّارِدِ. .
فَغَمْغَمَ النَّهْرُ. . وَقَامَتْ لها
…
أمْوَاجُهُ تُلْقِي صَلَاةَ الحَنِينْ
وَالشَّمْسُ فَوْقَ الشَّطِّ غَرْبِيَّةٌ
…
صَفْرَاءُ كَالشَّكِّ بِوَادِي الْيَقِينْ
وَقَالَ: يا عَذْرَاءُ عِنْدِي لَهُ
…
أّسْمَارُ دَمْغٍ، وَمَغَانِي أَنِينْ!
كَمْ مَرَّ بي، تَحْمِلُ أَقْدَامَهُ
…
شُجونُ أَزْمَانٍ، وَبَلْوَى سِنِينْ
أّنْغَامُهُ مُرْتَعِشَاتُ الصَّدَى
…
وَالنَّايُ مَفْجُوعُ التَّغَنِّي حَزِينْ
لَمْ تَتْرُكِ الدُّنْيَا لَهُ فَرْحَةً
…
يَنْقِلُهَا مَوْجِيَ لِلعَاشقينْ
كَأّنَّمَا ذَوَّبَ أيَّامَهُ
…
وَعَبَّ مِنْهَا سَكَرَاتِ الجُنُونْ
سَأّلُهُ: يا ابْنَ الأسَى رَحْمَةً
…
فَالنَّوْحُ لا يُطْرِبُ سَمْعَ الصَّبَاحْ!
فَجْرُكَ رَفْرَافُ السَّنَا، والمُنَى
…
فَوْقَكَ طَيْرٌ عَبْقَرِيُّ الجَنَاحْ
مَالَكَ لا تَلْهَمُ غَيْرَ الأَسَى
…
وَلَا تُغَنِّي غَيْرَ نَارِ الجِرَاحْ!
فَقَالَ: يَوْماً سَتُلَاقِي هُنَا
…
بَيْضَاَء مِنْ حُورِ السَّماءِ المِلَاحْ
تَبْحَثُ عَنِّي. . فَأَجِبْهَا: مَضَى
…
صَبُّكِ فِي الدُّنْيَا شَرِيدَ النَّوَاحْ
أّنْتِ الَّتِي أّسْلَمْتِهِ زَوْرَقًا
…
فِي لُجَّةِ الدُّنْيَا لِهَوُجِ الرِّياحْ
فَمَرَّ كَالنِّسْيَانِ بي. . وَانْطَوَى
…
صَبَاحُهُ عَنِّي شَقِيّاً. . وَرَاحْ!
فَاتِنَتِي! سِرُّ الْهَوَى سَابِحٌ
…
فِي نُورِ عَيْنَيْكِ. . فَلَا تَسْأَلِي!
فِي زَهْرَةِ المَرْجِ شَذىً نَائِمٌ
…
أَخْشَى علَيْهِ يقْظَةَ المِنْجَلِ. . .
محمود حسن إسماعيل
في شتاء النفس
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
لم يعُدْ من بعد ما ضيعتني
…
مؤنسٌ لي غير شعري ودموعي
كلما هاج الجوي واشتعلتْ
…
لوعةٌ هوجاءُ بين الضلوع
صحتُ: يا قلبي المعنَّى غنني
…
واشفِ ما بي من جوى مُرٍّ وجيع
في شتاء النفس غني مثلما
…
كنتَ يا قلبي تغني في الربيع
غنني: واغسلْ جراحي بالدموع
…
واسكبْ السلوى على العاني الصديع
غنني: وارقص على وقع الأسى
…
كلما حَطَّمَ درعاً من دروعي
غنني: ما طال ليلي: غنني
…
وادعُ فجري - أين فجري؟ - للطلوع
غنني: جَفَّتْ أزاهيرُ المنى
…
فادعُ صيفي - أين صيفي؟ - للرجوع
غنني: حتى هجوعي ربما
…
برئت نفسيَ من بعد الهجوع!
غنني: بل لا تغني، زدتني
…
حسرةً. واهتجتَ يا قلبي ولوعي!!
عبد الحميد السنوسي
شهيد الزنبقة
للأستاذ ناجي القشطيني
نفحات زبنقة أنيقة
…
هبَّت عليَّ من الحديقة
ولفيحها مال الفؤا
…
د كأنها جذبت عروقه
فوقفت أرمقها بعي
…
ني عاشق لاقى عشيقه
وأردت أهصرها بعط
…
ف من معاطفها الرشيقة
فسمعت نغمة بلبل
…
يدعو لزنبقتي رفيقه
خليتها وخبأت نف
…
سي بين أغصان وريقة
وبقيت أنظره وأع
…
جب من شمائله الرقيقة
فهوى يقبلها وأط
…
فأ في رحيقتها حريقه
ودعا إليه صديقه
…
والحر لا ينسى صديقه
بينا يُغَني وهو نش
…
وان بخمرته العتيقة
إذ فاجأته يد المنو
…
ن فيبست في الحال ريقه
وغدا صريعاً حيث نا
…
م ونومة الموتى عميقة
فوثبت مرتاعاً وكا
…
ن رفيقه أبدى شهيقه
ملأ الحديقة بالنوا
…
ح وكيف لا يبكي شقيقه
ابن الطبيعة ما دها
…
ك وأمّك الأم الشفيقة
ماذا تحاول من حيا
…
ة كنت تحسها دقيقة
عبثاً يحاول من يفت
…
ش في الحياة عن الحقيقة
(بغداد)
ناجي القشطيني
القصص
في نهاية الطريق
مترجمة عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
أخرج الساعة من جيبه، ونظر إليها للمرة العشرين في مدة لا تتجاوز بضع دقائق، ثم أعادها إلى جيبه وأوثق عرى سترته بأنامل تدل حركاتها على الغضب. ثم مشى في الطريق الحالي المؤدي إلى البراح الريفي، وقال في نفسه وهو حانق:
(إن هذا لا يطاق! إنها وعدت بالمجيء في الساعة الحادية عشرة والنصف، والآن مضت سبع دقائق بعد الثانية عشرة ولم يبد منها أثر!)
ثم دار بلحظه في الفضاء، وكانت الريح تعصف باردة، فالتف بمعطفه وقال:(إذا لم تأت بعد خمس دقائق فإني سأعود)
ونظر في ساعته فوجد عقربها لم يتقدم غير دقيقتين، فقال: ها قد مضت أربعون دقيقة ولم تأت لوسي)
وترك الساعة في يده وأخذ يمشي ذهاباً وجيئة، وهو يخال أن دقات الساعة ضحكات سخرية واستهزاء به؛ ثم مضت المدة التي عينها للانتظار، فوضع الساعة في جيبه وعقد عرى المعطف وأصر على أن يعود، فسمع صوت طائر يغني فقال:(أزعجتني بصوتك يا طائر الجحيم)
ثم مشى مغضباً إلى منزله.
بعد يومين من هذا المساء تلقى هذا الخطاب:
(عزيزي هيوبرت. لا بد أن يكون عذرك قوياً في إخلاف موعدي مساء الثلاثاء. ولكن بما أنك وجدتني لا أستحق أن تكتب إليَّ على أثر ذلك فإني أبعث إليك بهذه طالبة إليك أن توضح لي أسباب غيابك وعدم كتابتك مشفوعة بالاعتذار. وإلا فإني أعتبر خطبتنا مفسوخة وأنا أعني ذلك وأصر عليه)
(لوسي)
غضب هيوبرت أشد الغضب عندما قرأ هذه الرسالة ولم يعرف كيف يمكن أن يطالب بالاعتذار مع قضائه ساعة ينتظر في البرد القارس.
وفي الصباح التالي كان يفكر فيما إذا كان يكتب أو لا يكتب، فوصل إليه غلاف مسجل من البريد وبه خاتم الخطبة.
وكان هيوبرت رجلاً كثير الفضائل، ولكن المرونة لم تكن من بين فضائله؛ فقال في نفسه عندما تسلم الخاتم:(هذا حسن جداً! إذا لم تبدأ لوسي بالكتابة وبالاعتذار فإني لن أكلمها بعد: نعم لن أكلمها)
مضى على هذا اليوم ثلاثون عاماً. وكان هيوبرت يمشي في حديقة جميلة في حي مونتفورد. وكان اليوم صائفاً من أيام شهر أغسطس، فالتقى فجأة بسيدة في منتصف العمر. وكان هو أيضاً قد قارب الشيخوخة، فوقف الرجل الأشيب أمام السيدة وقال:(لماذا لم تأت في موعدك؟)
فقالت: (لقد مضت أعوم كثيرة أظنها ثلاثين، ولكن لماذا لم تأت أنت يا مستر هيوبرت؟)
قال: (يظهر أنك نسيت الموعد فأرسلت إلي خطابك الذي ادعيت فيه أنك جئت، وهل تذكرين؟)
فقالت: (نعم أذكر وكنت في الساعة الحادية عشرة والنصف في المكان ولكنك لم تأت)
قال هيوبرت: (إنك لم تكوني هناك) فتحرجت لوسي وقالت: (لقد كنت تحت شجرة السرو)
قال: (ليس في هذا المكان شجرة سرو)
فاستدركت لوسي وقالت: (يظهر أنك كنت في الطرف الآخر من الطريق) وأدرك هيوبرت خطأه فقال: (ولكن الخطأ كان منك، لأن المكان الذي وقفت فيه هو الذي اتفقنا عليه)
ثم ابتسم كلاهما، وقال هيوبرت:(هل تأذنين أن أقدمك إلى زوجتي فهي معي الآن في الحديقة؟) فقالت: (نعم وسأقدمك إلى زوجي فهو هنا أيضاً)
ومشيا معاً في الحديقة فتعرفت لوسي بزوجة هيوبرت وتعرف الأخير بزوج الأولى. ثم أشار هيوبرت إلى شاب يلعب (التنيس) مع فتاة وقال: (هذا ابني جون)
فابتسمت لوسي ابتسامة سرور وقالت: (وهذه الفتاة التي تلعب معه هي بنتي نانسي)
- صحيح؟
- نعم
فتبادلا الابتسامات، ثم قالت لوسي:(أرى بينهما مودة وأظن. . .)
قال مقاطعاً: (وأظن ذلك أيضاً)
قالت: (إني سأوعز إليها. . . ولكني سأنصح لهما بأنهما إذا اتفقا على مكان يلتقيان فيه فيجب أن يعينا بالدقة في أي طرف من الطريق يلتقيان)
ثم ابتسمت، فابتسم هيوبرت.
عبد اللطيف النشار
البريد الأدبي
مقدمة ابن خلدون
صدر الجزء الثالث والأخير من مقدمة ابن خلدون باللغة الفرنسية عند الناشر الباريسي (جوتنر) ' ،
وكان قد نقل المقدمة إلى اللغة الفرنسية المستشرق (دي سلان) ونشرها في باريس سنة 1862 - 1868. فوقعت موقعاً حسناً عند أهل العلم والاستشراق حتى إن نسخها نفدت. فأخرجها مرة ثانية ذلك الناشر الباريسي من طريق التصوير الآلي للطبعة الأولى، وكلف المستشرق (جاستون بوتول) بالوقوف على الإخراج وبكتابة مقدمة لها، وبالتعليق عليها وشرح طائفة من الألفاظ الفنية، وتدوين فهرس شامل للفصول والموضوعات، وأسماء الأعلام والبلدان.
ومثل هذا العمل يدل على مكانة ابن خلدون وقدر مقدمته. وهل يغيب عن أحد من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أن ابن خلدون سبق نفراً من فلاسفة الغرب إلى آراء سديدة أو طريفة أو قلابة للمألوف؟ ومن ذلك حديثه قبل (مكيافللي) عن سياسة الملك، وقبل (فيكو) عن فلسفة التاريخ، وقبل (أوجست كونت) عن البحث في الظواهر الاجتماعية، وقبل (دروين) عن مسألة تأثير البيئة. وكل هذا مسلم به متعارف.
وعندي أنه - فوق هذا - سبق (بيكون) حيث قال: بنبذ (التشيعات) للآراء و (روسو) إذ فضل أهل البدو على أهل الحضر أي أهل الفطرة والخشونة على أهل المدنية والرفاهية، وسبق الفلاسفة (الدهريين) للقرن التاسع عشر أمثال (كارل ماركس) و (سبنسر) و (جوبينو) و (تارد) و (دركايم) حين قال (إن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه)(ص175، طبعة بيروت سنة 1900). أما (كارل ماركس) منشئ مذهب الاشتراكية المعروف - فقد سبقه ابن خلدون حيث قال (إنما اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش)(ص120). وأما (سبنسر) فقد سبقه ابن خلدون في إثبات مبدأين، أولهما: أن العصبية ثم التعاون على المعاش من الأسباب الأولى للاجتماع البشري؛ والثاني: أن هرم الدولة من الدعة والترف.
وأما (جوبينو) فقد سبقه ابن خلدون حيث أشار إلى تأثير خصائص أجيال الخلق في
الحروب والفتوحات. وأما (تارد) - الفيلسوف الفرنسي - فقد سبقه ابن خلدون إذ أعلن (أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده)(ص147). وأما (دركايم) - مؤسس (مدرسة) علم الاجتماع لهذا العهد في فرنسا - فقد سبقه ابن خلدون حين عد وجود الجماعات أمراً واقعاً ملموساً وبصر بالصلة التي بين عدد الجماعة وغنى القطر، وحين ضخم تأثير التعاون والتماسك (ارجع لهذه اللفظة إلى مقالي في مجلة مجمع اللغة العربية الملكي. ج2) وتقسيم العمل ورأي أن البحث الاجتماعي تنبسط أطرافه - من ناحية التاريخ - على جميع أحوال الأمة (مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال)(ص35). ثم إن بين ابن خلدون و (دركايم) وجهاً آخر من الشبه لا يستخف به، ذلك أن (دركايم) نزه مذهب (أوجست كونت) عن التشيعات للآراء وخلصه من وجوه الاستنباط المحض، وكلنا يعلم أن ابن خلدون عالم موضوعي كما يقولون أي عالم يتدرج من المحسات إلى النظر، ومن الخارجيات إلى الرأي.
بشر فارس
مكتب النشر العربي بدمشق
إلى جانب الجماعات التي تعنى في دمشق بالشؤون الاجتماعية والعلمية، عصبة من الشباب قامت منذ أعوام خمسة بتأسيس مكتب لنشر الثقافة والعلم أسمته (مكتب النشر العربي)؛ وتأسيس مكتب ليس له من غاية إلاّ خدمة الثقافة والعلم، ونشرهما بين الأوساط بأقوم الطرق وأكثرها فائدة ومنفعة، عمل شاق وعسير، في بلد، الثقافة فيه ضائعة حقوقها بين الذين يدعونها والذين يهملون شأنها، ويتجاهلون وجودها.
ولقد قام المكتب منذ تأسيسه إلى الآن، بنشر آثار ودراسات مختلفة لطائفة من المفكرين والأدباء سواء المتقدمون منهم والمعاصرون، فنشط بعمله هذا الحركة الفكرية في المدينة، وبرهن على أن الثقافة قيمتها عالية لا تبخس، وقدرها محفوظ لا يذل، مهما بلغ من إهمال
الناس شأنها، وجور الظروف عليها.
لست أريد إسرافاً في المديح خشية الوقوع في غلو أو مبالغة، ولا أريد أيضاً الاقتصادية خوفاً من هضم بعض ما لهذا المكتب من حقوق علينا، ولكن ما أريد هو إيفائه حقه كاملاً غير منقوص، ورفعه إلى المرتبة التي تستحقها جهود مؤسسيه ومساعيهم، فإن عملاً كعملهم لا يكافأ بجزاء غير راحة الضمير، ولا يقابل بتشجيع غير تشجيع الخلق القوي الرصين، ثم لا تستفزه حوافز غير حافز النفس ورغبتها في خدمة العلم لتعزيز شأنه ورفع مستواه، لعمل جدير حقاً بالإعجاب وأهل للتقدير.
ومن الآثار الفلسفية والعلمية التي قام المكتب بطبعها ونشرها، هذه الآتية: المنقذ من الضلال للغزالي، حي بن يقظان لابن طفيل، وقد قدم لهذين الكتابين بمقدمة ضافية مع شرح لآرائهما الدكتوران جميل صليبا وكامل عياد. ثم مجموعة من المحاضرات كان قد أذاعها في الراديو الدكتور طه حسين بمصر، فجمعها المكتب وطبعها تحت اسم: الحياة الأدبية في جزيرة العرب. ثم من أفلاطون إلى ابن سينا، ودرس وتحليل ابن سينا مع منتخبات من فلسفته للدكتور صليبا أنيتا، وقواعد التحديث لجمال الدين القاسمي، ثم أصول المحاكمات وعلم المالية للعلامة فارس الخوري، وغير هذه كثير منه ما هو مطبوع ومنه ما هو قيد الطبع.
فلك طرزي
توثيق الصلات الثقافية بين مصر وأمم الشرق
اجتمعت في الأسبوع الماضي لجنة توثيق الصلات الثقافية بين مصر وأمم الشرق برياسة صاحب العزة وكيل وزارة المعارف، وقد عرض على اللجنة خلاصة آراء الحكومات التي قبلت الفكرة، عدا السودان وتونس والجزائر، فلم تصل منها ردود بعد، وأشار إلى أن بعض الحكومات تساءلت عن معنى توحيد الثقافة، وهل يقصد منه فرض ثقافة معينة على بقية الأمم، وما هي المسائل التي تبحث في المؤتمر المزمع عقده.
وبعد أن درست اللجنة الفكرة العامة، قررت تأليف لجنة فرعية قوامها: محمد فهيم بك مراقب التعليم الثانوي المساعد، ومحمد قاسم بك عميد دار العلوم، والأستاذ علي الجارم بك
المفتش الأول للغة العربية، والأستاذ نجيب حتاتة مراقب التعليم الأولي المساعد، والدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك ناظر معهد التربية.
وعهد إلى تلك اللجنة فحص ردود الحكومات والإحاطة بمشاكل التعليم العامة في مصر وفي البلدان الشرقية، وأن تعد برنامجاً لهذه الدراسات يقوم على تفصيل أغراض المؤتمر، واقتراح بإنشاء مكتب دائم على غرار مكاتب المؤتمرات الدولية.
ويظهر أن الفكرة الغالبة هي عقد المؤتمر في فترات متباعدة إلا إذا دعت الظروف والمشاكل التعليمية فيعقد سنوياً.
وقد استقر الرأي على أن يطلق على اللجنة اسم (لجنة بحث وسائل توثيق الصلات الثقافية بين البلاد الشرقية ودراسة أهم مشكلات التعليم فيها).
ولعل في هذه التسمية ما يوضح الغرض الذي يرمي إليه المشروع.
تأبين الأستاذين السكندري ونللينو في مجمع اللغة
يقيم مجمع فؤاد الأول للغة العربية حفلة تأبين للأستاذين المرحومين الشيخ أحمد السكندري والسنيور نللينو، في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الجمعة 13 من الشهر الحاضر بدار الأوبرا الملكية.
وسيشهد الحفل مندوب من قبل صاحب الجلالة الملك ويخطب فيها الدكتور هيكل باشا وزير المعارف ورئيس المجمع الأعلى والدكتور توفيق رفعت باشا رئيس المجمع والدكتور منصور فهمي بك، والأستاذ ليتمان ثم ينشد الأستاذ علي الجارم بك قصيدة.
ويرد عليهم الأستاذ عمر الإسكندري بكلمة شكر، ويعقبه وزير إيطاليا المفوض وتنتهي الحفلة في الساعة السابعة مساء.
إنشاء أكاديمية علمية في كابل
من أنباء كابل أن المعارف العامة في أفغانستان أخذت تخطو خطوات واسعة بفضل الجهود التي تبذلها حكومتها وبحسن الإرشادات التي يقدمها الملك محمد ظاهر شاه الذي يبذل كثيراً من الجهود لنشر الثقافة الإسلامية والعلوم العصرية في البلاد، وبفضل أعمال السردار محمد نعيم خان وزير المعارف الذي عرف بجده ونشاطه.
ولقد فكرت وزارة المعارف في تخريج جيل صحيح ينهض بمهام البلاد السياسية والاقتصادية المقبلة، وذلك بتعليمهم وتثقيفهم وفق برنامج خاص في أكاديمية خاصة. وهاهي ذي الأكاديمية قد افتتحت باسم (أكاديمية العلوم السياسية) وحضر حفلة الافتتاح الوزراء وكبار الموظفين وعلى رأسهم صاحب المعالي الفيلد مارشال السردار شاه محمود خان وزير الحربية.
وأعضاء الأكاديمية هم من المتطوعين من طبقة الشباب المثقفين، والأمل وطيد في نجاح هذه الأكاديمية في إعداد شبان أكفاء لإدارة شئون البلاد السياسية والاقتصادية في المستقبل.
تمثال للنبي موسى
من أخبار لندن أن الأستاذ فرويد اليهودي النمساوي الذي أخرج من ألمانيا والموجود الآن في لندن، طلب النحات اليهودي الهنجاري لمبادا لمهمة هي صنع تمثال نصفي للنبي موسى الذي قام الأستاذ فرويد كما يقال بدرس شخصيته درساً دقيقاً على قواعده السيكولوجية. وقد وصل هذا الأستاذ بعلمه أن شكل موسى عليه السلام يجب أن يكون مصرياً، وعلى هذا الشكل سيعمل لمبادا التمثال.
ونحن وإن كنا نعلم أن هذه ليست أول مرة يعمل فيها تمثال للنبي موسى، إلا أننا نعجب للاتجاه الجديد الذي نحاه الأستاذ فرويد من وجوب تمصير هذا التمثال. والمعروف أن موسى كليم الله ولد في مصر وكانت مهمته منذ ولادته تحرير قومه الذين أذلهم المصريون وعلموا على تشتيتهم.
وما كان أجدر بالأستاذ فرويد من أن يواصل أبحاثه في علم النفس ليصلح ما أثبتت التجاريب خطأ الكثير منها ولا سيما فيما يتعلق بنظرية الفضيلة والرذيلة.
الذهب من رمال البحر.
غادر سويسرا نهائيّاً الكيماوي المعروف الأستاذ دونيكوفسكي الذي يدعي انه اخترع طريقة لاستخراج الذهب من رمال البحر. ويتجه بنظره الآن إلى جزر الفيليبين حيث يؤسس شركة رأس مالها أربعون ألف فرنك لاستخراج الذهب من رمال البحر بالرغم مما صادفه من الحظ العاثر في فرنسا وبلجيكا قبل سويسرا.
والمعروف أن العرب اشتغلوا كثيراً بالكيمياء وحاولوا مراراً تحويل المعادن، ومع كونهم فشلوا في هذا المضمار فإن آخر التجارب الكيميائية أثبتت صدق نظريتهم في إمكان تحويل المعادن بصرف النظر عما يتكلفه هذا العمل من التكاليف.
أما استخراج الذهب من رمال البحر فهذه مسألة أشبه بحلم قد يشابه حلم العرب وقد لا يشابهه، لأن الذهب إذا وجد بشكل عروق في الصخر والحجر في مناطق دون أخرى فإن العثور عليه كذرات رفيعة في الرمال لا يحتاج إلى المصاعب الهائلة التي يصادفها الباحثون عن الذهب في باطن الأرض.
ومن الغريب أن المصريين الأقدمين عرفوا كيف يبحثون عنه وكيف يستخرجونه، ولا تزال مناجمهم القديمة موضع إعجاب الجيولوجيين من أبناء هذا الجيل.
ولعلنا نسمع من الأستاذ الدكتور حسن صادق بك المدير العام لمصلحة المساحة كلمة في هذا الموضوع.
اكتشاف مدافن أثرية مهمة.
اكتشفت أخيراً مدافن واقعة على طول الطريق بين روما والمعرض الدولي الذي سيقام في وبكاستلفوزانو بالقرب من أوسينا حيث توجد آثار كركالا.
ويعود تاريخ هذه المدافن إلى القرن الأول بعد المسيح، وقد وجدت فيه جملة زهريات من الصفرة وجانب كبير من العملة الفضية وعقود ودبابيس وأدوات للزينة من بينها عقد ثمين من الزبرجد واللؤلؤ والذهب.
ووجود مثل هذه المجموعة القيمة يساعد كثيراً على تاريخ العصر الذي وجدت فيه فضلاً عن قيمتها الأثرية.
جماعة الفقيرية ويوغا بالهند.
وصل في أواخر ديسمبر الماضي إلى بمباي الضابط الفرنسي الدكتور بينيه موفداً من الحكومة الفرنسية للقيام بتحقيق علمي في الأسس والأصول التي قامت عليها أعمال جماعة الفقيرية ويوغا.
والأمل معقود على أن هذا التحقيق العلمي سيكون أوفى ما تم أجراؤه حتى الآن فتنكشف
لنا الأسرار العجيبة التي يجريها (الفقراء) كالسير على اللهب، وأنواع الرقص والرياضة البدنية الخارقة التي تقوم بها جماعة يوغا والتي يقال إنهم يتعلمونها في معبد خاص في بمباي لا يسمح بالدخول إليه إلا لأفراد هذه الجماعة.
في أكاديمية الفنون والآداب الأمريكية.
انتخب الكاتب الألماني توماس فان عضواً فخرياً في أكاديمية الفنون والآداب في أمريكا.
وقد قال فان ديك بروكسس المؤلف المعروف الذي اقترح هذا الانتخاب (إن توماس فان ربما كان أكبر مدافع في الوقت الحاضر عن الأفكار التي تقوم عليها أسس حضارتنا).
في كلية الآداب بالإسكندرية
تألفت في كلية الآداب فرع الإسكندرية جماعة أدبية بإشراف الأستاذ أحمد الشايب أستاذ الأدب العربي بالكلية، ونظمي لوقا أفندي وكيلاً، وحنفي محمود أفندي سكرتيراً، ومحمد أحمد الطويل أفندي أميناً للصندوق، وعبد العليم ناصر أفندي، والآنسة سميرة ياقوت والسيد يعقوب بكر أفندي أعضاء. وهم يكونون اللجنة الإدارية.
والغرض من هذه الجماعة العناية بالثقافة الأدبية بطرق الخطابة والمحاضرات والمناظرة والمسابقات الأدبية والتمثيل والموسيقى الخ.
والمحاضرة الأولى ألقيت أمس، في منتصف الساعة الخامسة بعد الظهر بدار الكلية باستانلي. وكان موضوعها:(بين دانت وملتون وأبي العلاء) لنظمي لوقا جرجس أفندي وكيل الجماعة.
التاريخ في سير أبطاله
ننشر ابتداء من العدد القادم للأستاذ محمود الخفيف طائفة من التراجم لعظماء التاريخ قديمة وحديثة في الشرق والغرب؛ وسيتوخى في هذه التراجم أن تلم بالتاريخ وتعنى بإبراز حوادثه، جرياً على المذهب الحديث مذهب دراسة التاريخ في سير أبطاله، كما ستكون تلك التراجم بحيث لا تعدو الواحدة ثلاث مقالات أو أربعاً. . . وسنبدأ بتقديم ترجمة محمد شريف باشا بطل الحركة القومية والدستورية في مصر الحديثة.
وفاة عالم طبيب
من أخبار لندن أن الدكتور باردسول الذي اشتغل بمرض التدرن الرئوي ومن الذين مهدوا السبيل إلى مكافحته مات في أواخر ديسمبر الفائت.
يوم طرابلس في العراق
بناء على عزم إيطاليا على إسكان الإيطاليين في طرابلس الغرب وبناء على ما يعانيه السكان العرب هناك من ظلم الاستعمار وقسوته قرر نادي المثنى في العاصمة إقامة حفلة كبرى يوم الجمعة القادم الموافق 30 الجاري في الساعة السابعة مساء يخصها بنصرة طرابلس الغرب.
إلى العالم الإسلامي كافة وإلى المصريين خاصة
لا تزال دول الاستعمار مسترسلة في سياستها الظالمة نحو البلاد العربية والإسلامية، مستخفة بشعور المسلمين غير حاسبة لهم حساباً، فتعتدي على حقوقهم، وتغتصب ديارهم، وتهين شعائرهم.
ولا يكاد ينقضي وقت دون أن نسمع بنكبة نزلت ببلد إسلامي، فبينما نحن نعالج قضية فلسطين المقدسة التي طغى فيها الاستعمار إذا بنكبة أخرى قد انقضت على طرابلس الغرب، إذ يريد الطليان بعد أن حرقوا الأخضر واليابس فيها، ودوّخوا أهلها وأفقروهم واستعبدوهم وأذلوهم، يريدون أن يجهزوا عليهم فيجعلوا من بلادهم جزءاً من الوطن الطلياني، ولا يزال يطن بآذاننا ما نشروه على العالم في خطب ساستهم، وبكل الطرق من أن إيطاليا أصبحت صديقة المسلمين والعرب وأنها تحميهم وتحمي ديارهم ومقدساتهم.
ولقد كانت مصر ولا تزال تبني سياسة دفاعها القومي عن حدودها الغربية على اعتبار أن ما وراء هذه الحدود مسكون بقبائل عربية لها في داخل حدودنا المصرية بنو عمومة وخئولة من نفس هذه القبائل أو من عصباتها، وأن الإسلام يوثق أواصر السكان بين البلدين وإن اختلفت تبعيتهما. فالدفاع الذي ترى كل أمة من أول واجباتها الاستعداد له في زمن السلم من جميع الوجوه، وعلى كل ما يتوقع من الاحتمالات، إنما كان ينظر إليه في مصر من جهة حدودها الغربية من الجهة العسكرية فقط. أما وقد صدر أخيراً القانون الإيطالي بجعل ولايات لوبيا الأربع جزءاً لا يتجزأ من مملكة إيطاليا، فقد أصبح واجباً
علينا أن ننظر إلى ذلك من الوجهة الجغرافية والجنسية أيضاً، ولاسيما أن الإيطاليين قد وجهوا عنايتهم إلى إنشاء مستعمرات لهم - حتى في الأجزاء الفقيرة التربة من لوبيا - فلم يبق عند أحد شك في أن هنالك برنامجاً عسكرياً له علاقة كبيرة بما وراء طرابلس وبرقة شرقاً وغرباً.
إن البواخر الإيطالية حملت إلى القطر الطرابلسي الشقيق في أواخر أكتوبر الماضي ألفاً وثمانمائة أسرة إيطالية تقدر نفوسها بعشرين ألفاً. فأسكنت الحكومة منهم ألفاً ومائتي عائلة في جهة طرابلس وستمائة عائلة في جهة برقة. وهذه أول دفعة من خمسة ملايين نسمة إيطالية تقرر نقلها إلى طرابلس الغرب. وقد خصصت حكومة روما لهذه الهجرة في ميزانية وزارة أفريقية مائة مليون فرنك في كل سنة لبناء القرى واستنباط المياه وإصلاح الأراضي للإيطاليين. وكان في طرابلس قبل مجيء هؤلاء نحو مائة ألف عائلة إيطالية غير الجنود ومن ينظم إلى سلك الحكومة، وهؤلاء وأولئك تحميهم الحكومة بقوتها. وقد أخذت لهم 147 ألف فدان من أفضل أراضي لوبيا دون ثمن، وأجلت العرب عن أراضيهم الخصبة في برقة الحمراء، ونقلتهم إلى الأراضي المجدبة الممتدة إلى الوادي الفارغ جنوباً وإلى المرج شرقاً وإلى شاطئ البحر شمالاً وهي أرض قليلة الآبار تزرع على المطر. أما برقة الحمراء التي تمتد من شطوط مدينة بني غازي إلى ما وراء المرج في الجنوب وتشمل الجبل الأخضر كله إلى ما وراء مدينة درنة في الجهة الشرقية، فانتزعت من أيدي أصحابها الشرعيين وهم العرب وأعطيت للمغتصبين من المستعمرين الذين جيء بهم من إيطاليا ليكونوا جيران مصر إلى الأبد، وليتاخموها في السلم والحرب، وأصبح الجبل الأخضر والأراضي الخصبة جميعاً محرَّماً دخولها على أبناء العرب.
وقد أصبح المصريون متاخمين لجهات ليست من أوطان إخوانهم عرب برقة الذين يشتركون معهم في اللغة والدين، بل لجهات ستكون عما قريب مسكونة كلها بإيطاليين، وعليهم من الآن أن ينظروا إليها كما ينظر الفرنسي إلى حدوده الألمانية والألماني إلى حدوده الفرنسية.
وإذا كانت إيطاليا لا تتورع عن إزعاج العالم الإسلامي بهذه المظالم وهي تمد عينيها إلى تونس، فماذا يكون حالها مع المسلمين إذا جاء وقت لا يهمها فيه أن تنشر دعايتها
الاستعمارية بينهم عن طريق محطات إذاعاتها اللاسلكية وما إلى ذلك.
لذلك نهيب بالمصريين وحكومتهم خاصة وبالعالم الإسلامي كافة أن يفكروا في مصير طرابلس الغرب التي يوشك أن يجلى عنها جميع أهلها العرب إلى أراضي الجنوب المحرقة حيث يقضى عليهم فيها كما قضي على ستين ألفاً من سكان الجبل الأخضر لاقوا حتفهم في الصحراء قبل بضع سنوات، هذا فضلاً عما يلحق كرامة الإسلام بسلب هذا الوطن من حظيرته وتحويله إلى بقعة إيطالية.
الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين
الدكتور عبد الحميد سعيد
الكتب
ديوان صبري باشا
تحقيق الأستاذ أحمد الزين
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
في الشعر العربي كثير من الشعراء الذين استبدت بشعرهم عوادي الزمن ومحن الأيام، فضاعت آثارهم في أجواء العصور الحالية، وذهبت دواوينهم بين سمع الأرض وبصرها. ولعل الذي ضاع من الشعر العربي أكثر من الذي بقي. ولعل الأيام لو أسعدتنا ببقاء هذه الثروة كاملة لكان للأدب العربي وجهة غير وجهته، ووضع غير الوضع الذي هو عليه اليوم. وإذا كان للقدماء العذر في ذلك من صعوبة التدوين، وندرة الكتابة، ومشقة الرحلة، فما عذرنا نحن إذا ما فرطنا في آثارنا الطيبة وتركنا نتاج أدبائنا البارزين نهب الضياع، على حين قد أصبح التدوين سهلاً ميسوراً تؤديه الآلات، ويتم بأيسر النفقات! إننا لا شك أمة جاحدة لا تقدر أدبائها، جامدة لا تحترم فنها، قاصرة إذ تفرط في الجميل النافع، بينما يذيع فيها القبيح التافه!
هذا ما كنت أقوله لنفسي إذ يجري على لساني بيت من أبيات صبري باشا السائرة؛ أو أستمع إلى مغن يغرد بأغرودة من أغاريده الخالدة، أو يرتفع صوت في الندى بأسماء الشعراء الذين نهضوا بنا في الأدب، وحفظوا علينا في الشعر كرامة النسب إلى العرب. ولقد كان الأسى يتملكني إذ أرى شعر ذلك الشاعر الممتاز في شاعريته وفي مصريته مشتتاً لا يجمعه ديوان، مهملاً لا يفي بطبعه صديق، مفقوداً لا يهزج به الأبناء ولا يدريه إلا الخاصة من المعمرين. وأخيراً وبعد خمسة عشر عاماً مضت على وفاة الشاعر سمحت الأقدار، ففزع لجمع ديوانه صهره الكريم صاحب العزة حسن رفعت بك، ونهض لتصحيحه وضبطه وشرحه وترتيبه صديقه وملازمه الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين، فكان في ذلك وفاء للشاعر، وتقدير للأدب، وإنصاف للتاريخ، ودفع للعار الذي حق علينا بتفريطنا في حق ذلك الشاعر، وفي حق الأجيال المقبلة!
لقد كان صبري رحمه الله بين معاصريه (أستاذ الشعراء وشيخهم) في الصناعة ومراعاة
الدقة في الربط بين المعنى وبين لبوسه من اللفظ، ولكنه كان أنيقاً مترفاً لا يقول إلا بدافع النفس ورغبة القول؛ ثم لم يكن يعنى بتدوين كل ما يقول. ومن ثم لم يبلغ ديوانه في الحجم مبلغ دواوين رصفائه مثل البارودي وشوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب. على أنه قد راد كل أبواب الشعر التي كانت مطروقة في أيامه، فقال في المديح والتهاني والتقاريظ وهي أكثر من ثلث الديوان، وقال في الهجاء وهو لا يتجاوز الصفحتين، وقال في الفكاهات وفي الغزل والذكرى والتشوق وفي ذلك كل عبقرية صبري وشاعريته، وقال في الوصف والاجتماعيات والسياسيات والإلهيات والمراثي والأناشيد، وعلى هذا الوضع جرى الأستاذ الزين في تبويب الديوان. وقد عني بترتيب القصائد في كل باب ترتيباً تاريخياً مع بيان المناسبات والدواعي التي قيلت فيها كل مقطوعة، وهذا في الواقع ترتيب جميل، إذ به نستطيع - كما يقول الدكتور طه - أن نتتبع النشأة الفنية لهذا الشاعر، وأن نتبين ما اختلف على شعره من الأطوار في غير مشقة ولا عناء، وهو من هذه الناحية درس قيّم لنشأة الفن الشعري عند شاعر ممتاز، ومن الخير أن يعرض هذا الدرس على الشباب.
ولا شك أن الأستاذ الزين قد وفّق كل التوفيق في إخراج هذا الديوان الجميل، فضبطه وشرحه على أتم وجه وأكمله. ولقد جهدت أن أحصي شيئاً على صديقنا الزين أغيظه به، فغاظني هو ببراعته وقدرته، وإني لأقر بذلك في غبطة وسرور. وإنما وفق الزين إلى هذا الحد، لأنه - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد عاشر الشاعر وصادقه سنين طويلة، فسمع منه، وحقق الطريقة القديمة القويمة في الرواية عنه والمشافهة له، فمكنه ذلك من إيضاح ما غمض، ومعرفته الصحيحة بجوّ القصائد وأسبابها وبواعثها. ثم كان من مخالطته للشاعر ووقوفه على دقائق نفسه وما يوائمها وما لا يوائمها، ما ألهمه الصواب في الشرح، والتوفيق في الترجيح، إذا تعددت المسالك وكثرت الاحتمالات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأمر كما يقولون: لا يفهم الشاعر إلا شاعر، والزين شاعر من طراز صبري ومن مدرسته كما يعبرون، فكان بهذا خير من يفهم صاحبه وقريعه، وخير من يرعى شعره هذه الرعاية الحميدة، ويشرحه هذا الشرح الدقيق الموفق.
قد تقول: وماذا يكون في شرح شعر صبري من العناء، وشعره ليس بغريب اللفظ، ولا بعيد المعنى كما هو شعر حبيب وأبي الطيب والمعري وأضرابهم، بل الرجل ظاهر في
ألفاظه، واضح في معانيه، ففي مكنة كل إنسان أن يتولى بسطه، وأن يؤدي شرحه. والواقع أن العناء ليس في الشرح والبسط، وإنما العناء في النهج الذي نهجه الزين. ذلك لأن شعر صبري دقيق اللفظ، مستفيض المعنى، كثير الإشارات، بعيد المرامي، فكان لابد في شرحه من طول اللفظ واتساع التعبير حتى يمكن أن يستوفي ما فيه، ولكن الزين وقف عند قولهم (البلاغة الإيجاز) فهو يؤدي ما في البيت من معنى كبير بلفظ موجز مونق، قد لا يتجاوز به ألفاظ البيت في كثير من الأحيان، ومن هنا كان العناء الذي لا يضطلع بعبئه إلا الزين، لأنه كما قلنا يفهم صبري حق الفهم، ولأنه قد حذق ذلك بالتدريب والمران.
والديوان مصدر بمقدمات: الأولى للدكتور طه حسين وقد ضمنها رأيه في شعر صبري ومميزاته؛ والثانية للأستاذ أحمد أمين وصف فيها (شعوره بشعر الشاعر وتذوقه لأدبه)؛ والثالثة للأستاذ أنطون الجميل عن (العوامل الشعرية في نظم إسماعيل صبري)؛ والرابعة للأستاذ الزين نفسه، وقد تكلم فيها عن أخلاق الشاعر ووطنيته وشاعريته وما اتبعه في تصحيح ديوانه. وإنما جمع الأستاذ بين كل هذه المقدمات لأنه - كما يقول - أراد أن يجمع للقارئ بين الاستفادة من شعره، وتلك الدراسة الواسعة المستوعبة لكثير من نواحيه. وأنا شخصيّاً لا يهمني كثيراً ما كتبه أولئك الأساتذة عن صبري الشاعر، فإن شعر الرجل خير من يفصح عنه ويدل عليه، وإن ميزات الرجل في شعره لواضحة جلية لا يختلف في تقديرها أحد، كما لم يختلف في تقديرها الأساتذة الفضلاء، ولكني لا شك معجب بما كتبه الزين عن صبري الرجل، وما ذكره من أخلاقه ووطنيته، ويا حبذا لو مدّ القول في ذلك فرسم لنا صورة كاملة لشخصية صبري تقوم إلى جانب شاعريته الكاملة، فإن فهم شخصية الشاعر أساس لفهم شاعريته، وعلى هذا تقوم الدراسات الحديثة، والمناهج الرشيدة عند علماء النقد.
وأما بعد، فإذا كان شعر صبري آية الجمال في تصوير الجمال، فإن ديوانه قد خرج للناس آية الكمال في تقدير الكمال، فهو كالروض الأنف جمع أطيب الزهر، وتم له جمال الموقع وبهاء التنسيق، وما أحسبه يقل في تنسيقه وترتيبه عن ديوان حافظ الذي تولته وزارة المعارف، ولا عن ديوان شوقي الذي خرج برعايته، بل إني لأراه يفوقهما روعة ودقة. وإنه لجهد مشكور ذلك الذي أداه الأستاذ الزين في خدمة هذا الديوان، ولو قدر لصبري أن
يرى ديوانه لاغتبط بهذا الصنيع، ولشكر لصديقه وفاءه، وحمد له عناءه، وإنه لمشكور من الأدباء في جميع الأمصار، محمود من أبناء العربية في سائر الأقطار.
محمد فهمي عبد اللطيف.
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
دكتاتورية المدير
اسأل من شئت من الناس من هو مدير الفرقة القومية، فيجيبك على التو بأنه مثال حيّ للقداسة وطيب السريرة، ويشيد الثاني بأريحيته ونخوته، ويثني الأكثرون على أدبه وطول باعه في ميدان الشعر الذي لا يجلي فيه سوى إنسان عرف الحياة وأدرك كوامن أسرارها.
ويقيني أن هذه الخصال والسجايا هي بعض نحيزته الموهوبة المكتسبة؛ فلو سوّلت البداوات لأديب أن يترجم لحياة مدير الفرقة فهو لابد مأخوذ بتلك السجايا، لا محيد له عن التقيد بها لأنها لازمته طوال حياته، ولكنها عافته منذ تولي زمام الإدارة، وزايلته يوم توهم أنه صار من أخدان الموظفين البيرقراطيين وأقران الحاكمين، ويوم تخيل فخال أنها فرقة حكومية لها نفوذ البوليس، وسلطان مأمور القسم!
ليس في تصدينا لبحث الناحية التي طرأت على حياة مدير الفرقة مما يبعدنا عن صميم موضوع حياة الفرقة، لاعتقادنا أنها مرتبطة بحياته السابقة، تلك الحياة التي كانت متوشحة بوشاح القداسة قد أخذت الآن تنزع عنها رمز قدسيتها، لا للظهور بفطرتها، بل لإظهار الناحية الأخرى لتلك القداسة.
كان لمدير الفرقة أصدقاء عديدون بحكم ما له على بعضهم من أياد بيضاء، أو شفاعة لا تنسى، أو سعي مشكور، أو بحكم راحة النفس على آدابه الرفيعة، وفنه الشعري السامي.
تقدم هؤلاء الأصدقاء يمدون أيديهم تساند الأديب الكبير، مدير الفرقة القومية للتمثيل العربي، رمز النهضة، وعنوان الثقافة، وتنير له السبيل الوعر الذي سلكه للفني المسرحي، وهو ما كاد يصافحهم ويحتضنهم بعض الوقت حتى أقصاهم عنه إقصاء لا عودة بعده.
ثم تلفت المدير يمنة ويسرة، فإذا به يرى شرذمة من ممثلات وممثلين، وطغمة من عاملات وعاملين، وفلولاً من فساكل الصحافيين والمتأدبين، تحيط به إحاطة ممثل أدوار الكوميديا بموضوعه، فيهم (السادي) وفيهن (الميسودية) وبالعكس، ولكنهم جميعاً يعرفون التملق بمعناه ومبناه، لا يصدهم عن الارتماء على أقدام (سعادة المدير) سوى اكتفائه بمد راحته للتقبيل.
أوعز سعادة المدير إلى ناقد معروف أن يحمل على أعضاء لجنة القراءة، وحدث أن لقي ذلك الناقد صدفة في مجتمع كان فيه أحد الحكوميين المشرفين إشرافاً أدبياً على أعمال الفرقة، فوجه إليه عتاباً هو مزيج من الحلاوة والطعم المز على حملته على أعضاء لجنة القراءة الذين هم (الصفوة المختارة من رجالات الأدب) وسواهم نوافل!! وقال: هل في وسعك أن تدلني على خمسة أدباء يفضلونهم أو يضارعونهم والبلد على ما هو عليه من قحط في الرجال؟
قال الناقد: أعرف خمسة بل عشرة من الرجال لهم أوفر اطلاع على فن المسرح وأدب الرواية لا يجاريهم في ذلك أحد من الأدباء الذي أعرفهم، وإذ ذكرت اسم الأول منهم قال:
أعوذ بالله من هذا الذي لا يرضيه إلا أن يكون مديراً للفرقة بدلاً مني، وهو على كل حال مغضوب عليه من الحكومة التي تمثل أكثرية الأمة.
قال الناقد: الأدب لا يعرف الحزبية يا أستاذ.
فأجابه: الأدب الذي تعنيه لا وجود له في مصر.
حول الناقد دفة الحديث قائلاً: هل ثمة من اعتراض على فلان؟ وذكر اسمه فأجاب: هذا شاعر لا شأن له بغير الشعر. قال: أنت شاعر أيضاً، قال: أنسيت أن لي مؤلفات روائية؟ قال الناقد: لسنا الآن في موقف مقارنة وموازنة ومفاضلة، أنا أعرف أن لهذا الشاعر معرفة واسعة بفن الرواية كما أعرف له اطلاعه الكبير على تطورها وتحولها منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحالي، وعلى أحدث ما ظهر من روايات وعلى أقوال النقاد فيها.
قال مدير الفرقة: أنا أعرفه أكثر منك. إنه كسول خواف لا يصلح أن يكون عضواً في لجنة القراءة.
قال الناقد: ألا تعرف. . . فلاناً وهو مؤلف روائي غذى المسرح أكثر من ربع قرن؟ فأجاب:
اسمع يا صديقي: أوثر أن تذكر لي أسماء كبار موظفين في الحكومة تكون لهم مهابة الحاكمين وعلم وأدب العلماء والأدباء.
ابتسم الناقد وقال: إن من ذكرتهم هم موظفون حكوميون وفي وسعي أن أذكر عشرة أسماء من الموظفين الأكفاء إذا كان لا يرضيك من الأدباء غير الموظفين الحكوميين.
وقبل ارفضاض هذه الجلسة المرتجلة التي تكلم فيها الناقد كعادته في وصف الأدباء ونقد أعمالهم قال له (سعادة المدير): أنت شاب يا بني، فلا بد لحياة الفرقة القومية، وهي مصلحة حكومية، من تؤدة الشيوخ وحكمتهم. فأجابه الناقد على نصيحته الغالية هذه قائلاً:(أطال الله عمر السلحفاة وعوضنا عن نشاط الشباب عوض الصالحين).
رميت من وراء هذا التصوير لحالة مدير الفرقة إلى التدليل على نفسيته التي انتقلت من البوهيمية المرحة الجوالة في آفاق الحياة إلى قيود الوظيفة التي أحاط نفسه بأغلالها ليكون له روح طاغية، وشهوة دكتاتور، وأي دكتاتور في الأدب والفن؟
ابن عساكر.
أخبار سينمائية
بولو
عرضت سينما رويال في الأسبوع الماضي فيلم (بولو) الذي تدور حوادثه في الأدغال والأحراج وهو من إنتاج شركة برامونت.
الآنسة مانتون المجنونة.
هذا اسم فيلم عرض في الأسبوع الماضي على ستار سينما ديانا ولقي نجاحاً كبيراً وهو من إنتاج شركة متروجلدوين ماير.
أجازة.
فيلم كوميدي من نوع طريف لشركة راديو وقد عرض ونجح على ستار سينما متروبول.
* تمثل نورماشيرر مع كلارك جيبل في فيلم (مرحٌ أبله) الذي يظهر في الموسم القادم.
* يلاقي فيلم (فتش عن المرأة) للسيدة آسيا نجاحاً لا بأس به على ستار سينما كوزمو.
* انتهى أخوان لاما من تصوير فيلم (ليالي القاهرة) الذي وضع قصته وأغانيه السيد زياده وسيعرض في عيد الأضحى.
* أعد استديو مصر فيلم (الدكتور) للعرض بعد أيام قليلة.