الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 289
- بتاريخ: 16 - 01 - 1939
بين الفقير والغني
(يا صاحب السعادة، لِمَ ترضى أن أكون صاحب الشقاء؟ أنا وأنت نبعتان من دوحة آدم نَمَتا في ثَرى النيل؛ ولكن مغرسك لحسن حظك كان أقرب إلى الماء، ومغرسي لسوء حظي كان أقرب إلى الصحراء، فشبعت أنت وارتويت، على قدر ما هزلت أنا وذوَيت؛ لأن الماء والغذاء يطلبانك وأنت ضاجع وادع، وأنا أطلبهما بالكدح والمتح فما أنال غير الجفاف أو النّطاف!
فماذا يضير المجدودَ أن ينضح المكدود برَش مما يسبح فيه من فيض هذا الوادي، وهو لهما كلبن الأم للتوأمين، لكل منهما شطره بحكم الحياة والأمومة والطبيعة؟
لقد ضمن الله لك حق الملك لصلاح الدنيا، ولكنه فرض عليك بازاء
ذلك الزكاة تحقيقاً لهذا الصلاح. فإذا خشيت أن تمتد عيني إلى مالك
بالحسد والشهوة، ويدي إلى نفسك بالعنف والقسوة، فاكسر نظرتي
وحدَّتي عنك بأداء ما جعل الله لي عندك؛ وإلا كان من الإنصاف في
رأيي على الأقل أن يكون اعترافي بالحق لك، معادلاً لاعترافك
بالواجب عليك)
ذلك ما يقوله في مصر كل فلاح لكل باشا. ولكن أغنياءنا غلاظ الأجساد والأكباد فلا يصيخون لمثل هذا العتاب الهامس! وهم إلى ذلك يعلمون أن الله الذي أعان الفقراء بالزكاة على الفقر، أعانهم عليه أيضاً بالقناعة والصبر. فهم يثقون بالله، ويؤمنون بالقدر، ويعتقدون أن نصيبهم المقسوم في السماء سيهبط عليهم في الأرض، أو يصعدون إليه في الجنة. وفي ضمان هذه الأخلاق السمحة والنفوس المطمئنة، مشى الغني متأبِّهاً متألِّهاً يحاول أن يخرق الأرض ويطول الجبل ويملك على عباد الله حق الحياة والموت. ثم ينظر إليه الكادح المحروم وهو يخور من السِّمن، ويختال من البطر، ويغوص في الحرير، ويخوض في الذهب، فيقول بلهجة المؤمن الراضي:
(آمنت بالله! لو لم يستحق ما هو فيه، لما كان الله يعطيه!)
وأقسم ما أعطاه الله، ولكنه هو الذي أخذ. وما كان ليستقيم في ميزان العدل أن يُعطي إنسان
حتى يطفح، ويمنع إنسان حتى يجف!
أعرف في مركز (ط) عشرين بلدة يملكها من الشرق أمير ومن الغرب باشا، فليس لأحد من الأهلين فيها شبر أرض ولا جذع شجرة. إنما هم أجراء أو مستأجرون سخرتهم الغفلة والاستكانة لرجلين كسائر الرجال، ليس لبطنيهما سعة البحر، ولا لعزميهما قوة الدهر، ولا لنفسيهما عظمة الله. إنما هما فمان تملأهما المضغة، ومعدتان تكظهما الوجبة؛ ولكن لهما عينين كعين الجحيم لا تمتلئ، ونفسين كجوف الرمل لا يرتوي؛ فهما يعصران من أجساد هذه الألوف الجاهدة ذهباً يكتنز، وقصوراً تشاد، وسلطاناً يُرهب، وقطعاناً تسعى، ومراكب تطير، ورغائب تبتغى، ولذائذ تنال، وأوسمة تناط، وألقاباً تكتسب. ثم لا تدركهما بهؤلاء العبيد رحمة الخالق بالخلق ولا عناية الصانع بالآلة. فصاحب الآلة يوفر لها الشحم والوقود، ومالك البقرة يهيئ لها الحظيرة والعلف، وهما لا يتركان لفلاحيهما المساكين ما يمسك الروح ويستر البدن، ثم يلزمانهم أن يؤدوا أجرة الأرض ونفقة الإدارة قبل أن يأكلوا. فإذا أَوِف الزرع أو رخص السعر وعجزوا عن الوفاء، سلطا عليهم النظار والمحضِرين فأخذوا الدور التي يأوون إليها، والبهائم التي يزرعون عليها، وخلفوهم فرائس للمرض والفاقة، لا يجدون وسيلة للطب ولا حيلة للجوع. فإذا فزعوا إلى فضل الأمير أو الباشا زَمَّ بأَنفه واستكبر أن يفتح عينيه على هذا الهوان والقذر، ولعله ساعتئذٍ كان يمسح خرطوم كلبه أو يرجِّل عُرْف جواده!
سكان هذه القرى العشرين يعيشون هم وماشيتهم في أكواخ من الَّلبِن لا تدخلها بهجة الطبيعة ولا تعودها رحمة الله. تقوم على أقذار البرك وفوق سباخ الأرض وعلى ظهورها المراحيض وفي بطونها المزابل. والمالكان المدللاَّن يَغُطَّان بين الحرير والذهب، في قصور تطاول السماء، ورياض تنافس الجنة، ثم لا يتفضل أحدهما فيحمل الحكومة بجاهه ونفوذه على أن تجفف لهؤلاء البائسين بركة، أو تنشئ لأطفالهم الضاوين مدرسة. وعلة حب الباشا للمستنقعات أن نفقة ردمها على حسابه، وحجة بغضه للمدارس أنها تصرف الأطفال عن العمل في أرضه
ارجعوا يا قوم إلى الله فقد طبَّ لهذه الأدواء واحتاط لهذه الفواجع. إن هذا الأمير وذلك الباشا يملك كل منهما مليوناً من المال الذي تحول عليه الأحوال فيزيد ولا ينقص. فلو أنهما
يؤديان زكاته كما فرض الله لكان ما يدفعانه خمسين ألف جنيه في كل سنة. ولو حبسنا هذا المال الوفر على هذه القرى العشرين لما بقي فيها فقير ولا مريض ولا جاهل. وإذن تشفى الصدور من الغل، وتبرأ النفوس من الوهن، فتكثر الأيدي، وتشتد السواعد، ويزيد الإنتاج، ويزكو الريع، ويردُّ عليه ما أقرض اللهَ أضعافاً مضاعفة. ولكن أغنياءنا أبطرتهم نعمة الله فاستغنوا بجبروتهم عن رحمته، وبملكوتهم عن جنته، وبعبادهم عن عباده؛ وكأنهم أصبحوا يرون سعادتهم في شقاء الوطن، وعزتهم في مذلة الناس!
أحمد حسن الزيات
عجوة ببيض
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
- بابا. هات خمسة قروش!
- يا أخي، قل صباح الخير أولاً
- آه، صحيح، طيب صباح الخير، هات بقى!
- سبحان الله العظيم! ألا تنتظر حتى أرد عليك هذا التصبيح بالخير؟
- طيب، ردّ
فأتلكأ - أهز رأسي أسفاً، وأمصمص بشفتي معجباً، وأقلب كفي، ولكن هذا كله له آخر فيعود اللعين إلى المطالبة بالقروش الخمسة، فأسأله:(هل يليق أن تصبح أباك - على الريق - بطلب فلوس؟)
فيتعجب لي كيف أقول إن هذا غير لائق، ولا يستطيع أن يفهم أن ابتداء يوم جديد بإنفاق من المرجح أنه في غير محله، صعب على النفس جداً، فأقول له:(انتظر، حتى تكبر وتعرف بالتجربة)
فيصيح: (يا خبر أبيض! أنتظر حتى أكبر؟ لا يا بابا، أنا مستعجل، وقد وبخني المعلم أمس)
فأسأله السؤال الذي كان ينبغي أن ألقيه عليه في بداية الحوار:
- لماذا تريد خمسة قروش؟ ماذا يمكن أن يصنع طفل مثلك بخمسة قروش؟
فيقول: (أشتري بها كتاب المطالعة الإنجليزية)
فأسأله مرة أخرى: (أولم تعطك المدرسة كتاباً؟)
فيقول: (تقطع ولم يبق صالحاً للاستعمال)
- ولماذا تقطعه؟
- لست أقطعه، هو تقطع!
- تكلم بعقل، كيف يقطع الكتاب نفسه؟
- لم يقطع نفسه، ولكن المعلم يأمرنا أن نطويه، فيبلى، ويتخرق، ويتمزق
- هل تعلم أني كنت تلميذاً مثلك؟
- لا. . .
- لا؟ كيف تقول لا؟
- طيب أعلم - إنما عنيت أني لم أرك ولم أكن معك - هات بقى ثمن الكتاب
- وأنا إنما أعني أني لم أحتج في حياتي المدرسية كلها أن أشتري كتاباً مدرسياً لأن كتبي لم تكن تتقطع وكانت لا تبلى أبداً
فيضحك الخنزير ويقول: (لا مؤاخذة يا بابا، ولكن يظهر أنك كنت تلميذاً كسلان)
فأضحك مثله وأزعم أنها نكتة، ولكن الواقع أنها أصابت المحزّ، ووقعت على المفصل، فما أعرف من زملائي في عهد الدرس والتحصيل من كان أبلد مني أو أشد كسلاً. ولا أدري كيف كنت أنتقل من فرقة إلى فرقة، وأحسبهم كانوا يؤثرون أن يجبروا خاطري ويترفقوا بضعفي. ولما أتممت التعليم - أي فرغت من المدارس - وجدت عندي صفوفاً من كتب الدراسة نسجت عليها العناكب بيوتاً وقصوراً، وقد أخذها مني صديق، وأعطاني بدلاً منها كتاب (الشعر والشعراء) أو (طبقات الشعراء) لابن قتيبة، طبعة ليدن. وقد بعت هذه أيضاً بثمن غير بخس في جملة ما بعت من الكتب
ويدخل اللعين الثاني أو الأكبر فيقول بلا تمهيد، ولا تصبيح (اكتب هذه البيانات المطلوبة هنا على هذه الورقة، وسآخذ من جيبك ستة قروش، ثلاثة لرحلة إلى الهرم، وواحداً ييقى معي، ونصف قرش هو مصروفي، وقرشاً ونصف قرش ثمن برجل وعلبة ألوان)
فأصيح به (تأخذ من جيبي؟ من أدبك هذا الأدب؟ ماما؟)
فيقول (لا، إنما أريد ألا أحوجك إلى النهوض من السرير فإن الجو بارد)
فأقول (متشكر، يا سيدي، ولكن ما هذه البيانات الجديدة التي يطلبونها؟ شيء بارد!)
وتدخل (ماما) في هذه اللحظة، فتسأل عن هذا الشيء البارد ماذا عسى أن يكون؟ فأقول
(صباح الخير أولاً يا ماما، يا نور العين، ثم أني أرى كل شيء بارداً في هذا اليوم المبارك إن شاء الله - لا أحد يصبحني بالخير، وكل من يدخل علي يقول هات، ولم يكن ناقصاً إلا أن تسألني المدرسة عن عمري، كأني تلميذ فيها، ولست أستغرب أن تسألك غداً عن سنك يا امرأة، فانتظري، وأعدي الجواب من الآن، وقد أعذر من أنذر!)
وأرفض أن أعطي الولد نفقات الرحلة قبل أوانها بثلاثة أيام، وأرفض أن أذكر للمدرسة
عمري - لا حرصاً مني على كتمان ذلك - بل لسببين أولهما أني لست تلميذاً بها، فلا شأن لها بي وبعمري؛ وثانيهما أني لا أحب أن أشجعها على هذا الفضول مخافة أن تسأل بعد ذلك كم سن امرأتي! وأحدث نفسي وأنا أنطق بعبارات الرفض أن من الواجب أن يكون المرء حازماً في بيت كهذا
فتقول امرأتي (ولكني أعتقد أنك لن ترفض أن تعطيني مائة وعشرين قرشاً؟)
فأثب من السرير إلى الأرض وثبة ليت مصوراً كان حاضراً فيرسمها فأنها حركة رياضية بديعة، يُرمى فيها اللحاف، وتطوى الساقان، ثم تدفعان في الهواء وسائر الجسم وراءهما، ثم إذا أنا واقف على الأرض، لم يتحطم رأسي، ولم يصبني سوء. ولم أكن أعهد في نفسي هذه القدرة، ولكن الوقت ليس وقت الإعجاب بالذات
وأصيح (مائة وعشرين قرشاً؟ أتقولين مائة. . .)
فتشير إلي أن مهلاً، مهلاً، وتسألني (ما لك تصيح هكذا؟ ماذا يقول الجيران إذا سمعوك؟)
فلا أكف عن الصياح وأنا أقول (الجيران؛ ليقولوا ما شاءوا ولكن اعلمي - أنت وهم أيضاً - أني مستعف. . . مستقيل. . .)
فتضحك. . . أي والله تضحك. . . وتسألني (من قال لك افتح بيتاً؟)
فأرد عليها بقوة (ومن قال لك أن البيت بالوعة؟ لا يا ستي أنا مستعف. . . مائة وعشرين قرشاً؟ يا خبر أسود!)
فتلاطفني وتقول (اسمع، أسمع، وكن حليماً. . .)
فأسألها مقاطعاً (خبريني أولاً من الذي قال لك أني أنفق مما أجد تحت السجادة؟ أو إني من أهل الولاية وأصحاب الكرامات الذين يمد الواحد منهم يده من النافذة فإذا فيها إصبع من الموز! أو أن عندي آلات لتزييف النقود، أو إني ابن روكفلر، وبيير بونت مورجان وروتشلد معاً؟ هه؟ أجيبي أولاً؟)
فلا تجيب، لأنها تضحك مستخفة بأن أجد نفسي كل صباح - على ريق النفس - مطالباً بخمسات القروش للخنزير الصغير، وستاتها للخنزير الأوسط، ومئاتها. . .
وتقول (ألا تسمع؟ لماذا تأبى أن تسمع؟)
فأقول (لأني مستعفٍ. . . هذا هو السبب. . . وسألبس ثيابي وأخرج ولا أرجع)
فتقول وهي تغالب الضحك (ألا تفطر أولاً؟ لقد أوصيت لك ببيض مقلي بالعجوة، وعصرت لك - الآن، بيدي هاتين - أربع ليمونات حلوة،. تعال افطر أولاً. . . ونتكلم على الطعام)
ترى ماذا أغرى آدم بمطاوعة حواء؟ كيف وسعها أن تجره من أنفه وتدس في فمه الواسع - لابد أنه كان واسعا - التفاحة المحرمة؟ أتراني ورثت عنه هذا الحب للبيض المقلي بالعجوة، وعصير الليمون الحلو؟
لا أدري؛ ولكني أردت أن أشيح بوجهي عنها، لأقاوم إغراء ما تصف، وأغالب سحره، فطالعني وجهي في المرآة، فإذا هو يبتسم، وما كان يسعني بعد أن عرفت أني أبتسم، أن أظل متجهما.
وجلسنا إلى السفرة وشربت عصير الليمون، فشاع الاغتباط في كياني؛ وجاء الطبق وفيه البيض والعجوة، ففركت يدي، ودفعت طبقي إلى امرأتي وقلت:(الله يرضى عنك يا امرأة! هاتي! هاتي! وليسخط علي الأطباء ما شاءوا وما وسعهم السخط؛ وليزعموا أني أزيد معدتي تلفاً، فما أباليهم، أو أحفل مشوراتهم. هاتي، هاتي. . . ترى ماذا أذكرك العجوة والبيض. . لا، لا، لا. . هذا لا يكفي. . . إني أتضور جوعا. . . أكثري، أكثري)
فتقول (معدتك تتلف. . . يكفي هذا المقدار)
فأصيح: (لا لا. . . على رأي العامة (هم، وقلة مم!) هاتي، ولا تخافي)
فتقول: (هل معنى هذا أنك ستعطيني ما طلبت؟)
فأصيح (يا ستي خذي ما شئت. . . كلّي لك. . . ولكن هاتي من هذا واكثري)
فتنهض وهي تقول (ومعدتك؟)
فأقول (سننظر في أمرها فيما بعد. وأحسب أني لن أعدم طبيباً يستطيع أن يسكن آلامها. أتعرفين أنه يخطر لي أن الطب قد أخفق لأنه لم يستطع إلى الآن أن يغنينا عن المعدة؟ فليت هناك دكانا تباع فيه أعضاء جديدة من الجسم تركب له وتتخذ بدلا من التي تتلف، على نحو ما تباع قطع السيارات! إذن لوسعني أن ألتهم كل ما في هذا الطبق الشهي. ولكن آخ!)
وأجدني أكلم نفسي، فأتلفت مستغربا، وإذا بها تعود ويدها مبسوطة بمائة وعشرين قرشا
فأهز رأسي وأسألها
(ما حاجتك إلى كل هذا؟)
فتخبرني أنها دعت (أم أحمد) وأنها تنوي أن تكلفها شراء ثياب لكسوة الخدم، فقد آن ذلك جداً، وقد اختارت أم أحمد لأنها ممن أخنى عليهن الذي أخنى على من نسيت اسمه - آه لبد، يا له من اسم! - فهي تحب أن تكل إليها أمر الشراء لتكسب قرشين، فإنها تأبى الصدقة.
فأهز رأسي موافقاً، ثم أنهض عن المائدة راضيا وأقول لها بابتسامة عريضة: (مائة وعشرون قرشا ثمناً لأكلة عجوة بالبيض! لست أراه باهظاً جداً. . . لا بأس! لا بأس! سيرزقنا الله من حيث لا نعلم، فلا تخافي، وانفقي ما في الجيب يأت ما في الغيب
إبراهيم عبد القادر المازني
من برجنا العاجي
نفسي بطبيعتها لا تنزع إلى ترف الحياة. ولقد عشت إلى وقت قريب ضالاً. ليس لي بيت مستقر ولا راحة موفورة. ولا حتى مكتبة خاصة تعينني على عملي الأدبي. إلى إن اوهمني بعض الناس أن مكانتي كأديب تقتضي أن أغير هذه الحياة. فأصغيت إلى هذا الكلام واتخذت لي مسكناً أنيقاً في أجمل بقاع القاهرة يشرف على النيل. واقتنيت سيارة جميلة، وجعلت لي مكتبة تزينها التحف والتماثيل. وأكثرت من حولي الخدم يعنون بأمري. وأعجبني قليلاً مظهري هذا الذي يماثل مظهر أدباء أوروبا المشاهير. وغرني الحال. وحسبت أننا نتمتع في الشرق بمثل ما يتمتعون من قوة وحرية ومنعة. فانطلق قلمي مرة يبدي رأياً صريحاً في مسألة قيل أنها تمس السياسة. وإذا أنا أقع فريسة لإجراءات مهينة، فألتفت يميناً وشمالاً أبحث عن عالم الأدب يتولى الدفاع، لا عني بل عن حرية الفكر المهدرة. فلم أجد أحداً من الأدباء قد تحرك. ولم أر صحيفة قد همها الأمر. وخرست كل تلك الجرائد التي طالما رفعت صوتي على صفحاتها، واتفق الكل اتفاقاً طبيعياً على إهمال الموضوع. ولم يحفل أصدقائي ولا زملائي ولا قرائي بما حدث لي. ولم يدركوا الخطر الذي يهدد الأدب والأدباء إذا هم شعروا يوماً أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا ما في نفوسهم. (أديب واحد كبر عليه الأمر وأدرك الخطر ونهض في قلق يحادث المسؤولين ويناقشهم، هو كاتب عظيم يعد فخر أدباء الشرق في العصر الحاضر. وصداقته لي معروفة من زمان، وأن كنت مع الأسف لم أقدرها قدرها في كل الأحيان)
على أن الحادث في جملته قد هز عقيدتي في منزلة الأدب وفجعني لا في شخصي، ولاكن في مركز الأديب في الشرق، فقد أيقنت أن ما يسمونه (المكانة الأدبية) إنما هي وهم من الأوهام. وأن الأدباء أنفسهم هم المسئولون في أكثر الأحوال عن انخفاض شأنهم في المجتمع لخذل بعضهم بعضا
وأحسست من نفسي الذلة، فتركت سكني وسيارتي وخدمي، وعدت من جديد أعيش شريداً، كما يستحق أديب في الشرق أن يعيش.
توفيق الحكيم
شعر مهيار
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قال أبن خلكان في كتاب وفيات الأعيان (هو أبو الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسي الديلمي الشاعر المشهور؛ وكان مجوسياً فأسلم. ويقال أن إسلامه كان على يد الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي وهو شيخه وعليه تخرج في نظم الشعر، وقد وازن كثيراً من قصائده). نعم أخذ مهيار عن الشريف الرضي وسلك مسلكه في فخامة اللفظ وقرب التشبيه والاستعارة ونغمة الوزن وتحكيم الوجدان والتباعد عن المعاني التي يمجها الذوق والوجدان إلا في القليل مثل قوله في الغزل:
غار المحبون من أبصار غيرهم
…
ضَنّاً وغرت على لمياء من بصري
إذ أن هذا معنى غير مستقيم ولا يقبله الذوق وإن كان للشعراء مثله. ولا أذكر الآن هل للشريف مثله أم ليس له. ومن دلائل التكلف أحياناً في شعر مهيار أن له قصيدة في الرثاء بها يرثي أهل البيت رضي الله عنهم ومطلعها غزل وهو: (في الظباء الغادين أمس غزال) وجاء في غزلها ذكر الملال والدلال وما إلى ذلك. وهذه أقوال لا تستقيم مع الرثاء عموماً ورثاء أهل البيت خصوصاً. وعلى أي حال فإن أستاذه الشريف أكثر طبعاً؛ وإن كان الشريف أحياناً يقبل معاني الغزل المعتاد الشائع في عصره، ولكن نصيبه من عبث الحضارة أقل من نصيب مهيار، وأقل من نصيب غيره من شعراء الدولة العباسية. ومن أجل متابعة مهيار له سلم في أكثر شعره من هجنة الذوق الحضري العابث، ولكنه من أجل هذه المتابعة لم يُدخِلْ في العربية أثراً من الثقافة والنزعة الأدبية الفارسية. وكنا نأمل أن نجد لمهيار ابتكاراً بسبب جمعه بين الحضارتين الفارسية والعربية، ولكن طريقة الشريف كانت عربية بدوية أكثر منها حَضَرِيَّةً، فنزع مهيار هذا المنزع؛ ولم يكتف بذلك بل إنه بَرَّزَ في أبواب القول التي بَرَّزَ فيها الشريف مثل الغزل الوجداني الرقيق، والرثاء والإخوانيات والعتاب وشكوى الزمان وأهله؛ وبَرَّزَ أيضاً في المديح بحكم مهنته. وهو أحياناً يحتذي طريقة الشريف في المديح بوصف عادات البدو في معيشتهم فيقول:
ضربوا بمدرجة السبيل قبابهم
…
يتقارعون بها على الضِيفان
ويقول:
كأنَّ حديث من يُثْنِى عليه
…
حديث القين عن نصل يماني
والمديح هو الباب الذي كان فيه مهيار أكثر استرسالاً من أستاذه بحكم منزلته وبحكم ترفع الشريف الذي يخاطب الخليفة فيقول له إنه لا فرق بينهما:
إلا الخلافة ميزتك فإنني
…
أنا عاطل منها وأنت مطوق
ويقل تبريز مهيار في أبواب الشعر التي يقل فيها تبريز الشريف، فلا ينتشي مهيار بما يصف كما ينتشي أبو تمام في وصف الطبيعة، وكما ينتشي البحتري وابن الرومي. ولكن وصف الشريف أقوى وأعرق في الشعر من وصف مهيار. أنظر إلى قول الشريف في وصف القلم:
وينطق بالأسرار حتى تظنه
…
حواها وصفر من ضمير أضالعُه
أو قوله في وصف الذئب:
إذا فات شيءٌ سمعَهُ دل أَنْفُه
…
وإن فات عينيه رأى بالمسامع
وهذه القصيدة تذكرني قصيدة البحتري التي مطلعها (سلام عليكم لا وفاء ولا عهد) وفيها وصف للذئب منه قوله:
كلانا بها ذئب يُحدِّث نَفسه
…
بصاحبه والجد يُتْعِسُه الجد
وتُذْكِر أيضاً والشيء يذكر بالشيء أبيات الفرزدق في وصف الذئب الذي قراه وأطعمه بعكس ما فعل الشريف والبحتري، وهي التي مطلعها (وأطلس عسال وما كان صاحباً).
أما مهيار فله شعر كثير في الوصف أكثره في وصف الشمع أو السمك أو الطبل أو الإسطرلاب الخ. وهو ليس من الطراز الأول. وله أبيات في وصف السماء وهو موضوع كبير يشمل حسنها في مظاهرها المختلفة، ولكنه لم يوفه حقه. وله قصيدة في وصف آلات زينة صناعية في بركة، ولكنها على شهرتها لا تدل على أن الشاعر قد انتشى بموضوعه، فمهيار إذاً لا يُبْرِزُ في الوصف كما يبرز في الموضوعات الأخرى التي ذكرناها وبَرَّزَ فيها أستاذه
والذي جعلنا نأمل أن يبتكر مهيار وأن يدخل شيئاً من أثر الثقافة الفارسية هو ما رأيناه من ابتكار أبن الرومي وما لعله من أثر نسبه الدخيل، وإن كان ابن الرومي قد غلبت عليه النزعة العربية أكثر مما غلبته النزعة الرومية. ومهيار يفتخر بسؤدد الفرس فيقول: إنه
جمع المجد من أطرافه (سؤدد الفرس ودين العرب) ويفتخر بفصاحتهم فيقول: (وفيهمُ أَلْسُنُ البيان) ويقول:
إنْ تُنْكِرِي قومي فعن
…
دك من بقيتهم بيانْ
وقد نظرنا في شعر هذا الفارسي فوجدناه أكثر عروبة من شعر بعض الشعراء العرب من سكان العراق وفارس، وكان هؤلاء يتملحون ويتجملون بألفاظ فارسية في بعض الأحايين. ونحن لم نطلع على شعر لشعراء دولة الفرس قبل الإسلام، ولا نعرف إن كان شعرهم قد بقي، ولكنا أطلعنا على منتخبات لشعراء الفرس بعد الإسلام عندما استقلت فارس بسبب ضعف الدولة العباسية وسقوطها، وبعضهم أيضاً كان يكتب أيام حكم التتر، وهذه المنتخبات لعمر الخيام وحافظ الشيرازي والسعدي والفيروزي والجامي والنظامي وأنوري وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وابن جمين لا تختلف كثيراً عن شعر شعراء الدولة العباسية من العرب إذا استثنينا ما في بعضها من قصص تاريخ الفرس القديم التي صارت في هذا الشعر أشبه بالأساطير الإغريقية في شعر هومير وغيره؛ وإذا استثنينا أيضاً الأساطير التي حاكها بعض هؤلاء الشعراء في موضوع حياة الطيور والحيوانات الخ على طريقة الخيال الآري. ولم أجد في شعر مهيار أثراً لذلك وإن كان يقرب من الحضارة الفارسية في وصفه بعض مظاهر الترف، لأن الحضارة العباسية العربية كانت شبه فارسية، إذ قد أخذ العرب في العراق وفارس من مذاهب الإحساس والفكر والحضارة الفارسية، حتى أن بعض المؤرخين سمى الدولة العباسية، بالدولة الفارسية العربية. وقد رد العرب هذه المذاهب المستعارة من مذاهب القول والإحساس والفكر إلى شعراء الفرس المسلمين الذين ظهروا عندما استقلت فارس عن الدولة العباسية؛ وهذه هي أسباب أوجه التشابه بين هؤلاء الشعراء وبين شعراء الدولة العباسية العربية. فمهيار لا يقترب في قوله من الثقافة الفارسية والحضارة الفارسية إلا من حيث اقترابه من نزعة شعراء العربية في الدولة العباسية. وهو كما أوضحنا غير مندفع فيها كل الاندفاع ولا منغمر فيها بسبب احتذائه طريقة الشريف في محاكاة النزعة البدوية؛ وهو مع ذلك له شعر في مظاهر من تلك الحضارة لم يطرقها الشريف كوصفه للخمر كما في الأبيات التي يقول فيها:
من فم إبريقها إلى شفة الكأ
…
س عمود الصباح ممدود
وقد أغرق في تحسين السكر في قصيدته التي يصف فيها آلات الزينة في البركة ومطلعها:
نديمي وما الناس إلا السكارى
…
أدرها ودعني غداً والخمارا
وَعطِّلْ كؤوسك إلا الكبير
…
تجِدْ للصغير أناساً صغارا
وقد أنقذته محاكاته للشريف من أن يكون أكثر شعره على هذه الوتيرة. وقد ذكرنا أن الوصف في هذه القصيدة لا يُحدث للقارئ نشوة شعرية، وإنما النشوة فيها نشوة مادية للشاعر بالخمر كما ترى. وعندي أن بيتاً واحداً في الوصف للمعري، وهو ليس من شعراء الوصف، قد يُحدث نشوة شعرية للقارئ أكثر مما تحدثه قصيدة في الوصف لمهيار. أنظر إلى قول المعري:
ليلتي هذه عروس من الزن
…
ج عليها قلائد من جمان
وكلمة (هذه) في البيت لها أثر كبير في الوصف. وبعض وصف مهيار على سبيل الأحاجي والمعميات وهذا ليس من الوصف العالي
ويجوز لنا أن نقول أن منزلة مهيار من الشريف كانت كمنزلة البحتري من أبي تمام من حيث احتذاء الطريقة. وقد هجا ابن الرومي البحتري فقال:
والفتى البحتريُّ يسرق ما قا
…
ل حبيب في المدح والتشبيب
كل بيتٍ له يُجَوِّدُ معنا
…
هـ فمعناه لابن أوس حبيب
وهذه مبالغة المنافس القادح الزاري. إلا أنه مما لا شك فيه أن البحتري على عظم منزلته كان محاكياً أكثر من ابن الرومي. وقد وجدنا أن مهيار يعزب عن نهج الشريف في بعض قوله وروحه. ولا غرو فأن النبات إذا نقل من مكان إلى مكان كانت ثمراته شبيهة بثمرات نوعه من نبات المكان الثاني، وكذلك طريقة الشعر إذا نقلت من شاعر إلى شاعر، فهي يصدق فيها قول الشريف في الآمال:
وتختلف الآمال في ثمراتها
…
إذا شرقت بالري والماء واحد
ولمهيار قصائد عديدة ذات نغمة موسيقية عذبة كنغمة قصائد الشريف العذبة، وهو لا يقل عن الشريف في هذه الموسيقية بل قد يزيد أحياناً، ولكن الوجدان الشعري في ثنايا موسيقية الشريف أكثر طبعاً وغزارة؛ وقد يقل الوجدان وتقل الموسيقية في قصائد مهيار المطولة في المدح على أناقتها، ولكن القارئ يشعر في بعضها إطالة الناثر القدير وتوقف الكاتب في
تدبيج المديح أكثر مما يشعر من اندفاع السيل الشعري الأتَيّ؛ ولكن أسباب هذا الشعور أن مهيار كان كاتباً قديراً وأنه أوتَيَ سهولة كبيرة في النظم ونفساً طويلاً جداً. وفي بعض مدائحه يحس القارئ سرعة اندفاع الوزن ولكنه يحس أيضاً أن سهولة النظم وطول النفس قد سبقا شاعرية الشاعر. وهذه هي جناية المدح على الشاعر وجناية نظم الشاعر بالأمر أو الطلب أو للحاجة واكتساب الرزق، وهذا أمر يشترك فيه كثير من شعراء الصنعة مع مهيار، إلا أن ما أضر الشعر من ناحية قد أفاده من ناحية أخرى، فقد أصبحت قصائد الصنعة التي ليس فيها اندفاع سيل العاطفة الشعرية نماذج تحتذى في المدارس وفي غير المدارس لتقويم لسان الناشئين المبتدئين؛ ولكن الخطر قديماً وحديثاً هو إما أن يمل الناشئ اللغة بالرغم من طلاوة النماذج وأناقتها لافتقاده سيل العاطفة، وإما أن يظل طول عمره على النماذج الإنشائية لا يطلب وراءها روحاً أو معنى أو وجداناً. ولقد نجى الشريف من أن يكون بعض شعر المدح من شعره نماذج إنشاء فحسب أنه كان يترفع عن التكسب بالشعر أو كانت له عنه مندوحة. والشريف لم يكثر إكثار مهيار وإن كان الشريف مكثراً جداً إذا قيس بالمتنبي أو أبي تمام
وبالرغم من إطالة مهيار في القصيدة الواحدة إطالة كبيرة في المدح، وبالرغم من مؤاتاة سهولة الوزن له فقد كان يهذب ويشذب ويتأنق ويسيء بالإحسان فيها ظنا حتى يقتنع ذوقه بدليل قوله: -
وأُسيءُ ظنا وهي مُحسِنةٌ
…
لا كالمسيء ويحسن الظنا
ولعل هذا سبب ولوعه بإطراء شعره في شعره فقد قال في قصائده:
لكنها من معدن لم يكن
…
بِسرِّهِ ينبع إلا لِيا
وزاد على هذا فجاء بقول يشبه أقوال المتنبي فقد قال مهيار:
ظهرت بآيتي في غير قومي
…
ولم أنظر بمعجزها أواني
أي ظهر قبل ظهور الجيل الذي يستطيع أن يقدره
ولقد قالوا أن الشريف قد اشترك في كتابة بعض ما ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب (نهج البلاغة) وهذا شيء لا يصدق لبعد التزوير من أخلاق الشريف الرضي. وعلى أي حال فليس في شعر الشريف ما يذكرنا بأنه كاتب ناثر، وإن كان له في
النثر فضل كبير. وأحسب أن ابن الرومي لو شاء أن ينبغ في النثر نبوغه في الشعر لاستطاع لتقصيه الأجزاء وتتبعه، واتساق كلامه وربط بعضه ببعضه واستطراده وضربه الأمثال وإشاعته المعنى في أكثر من بيت، وما إلى هذه الصفات من صفات؛ ولكن الشعر ملك عليه وقته ونفسه وحاجات لبه وغلبت عليه سهولة النظم. ولم يصل إلينا شئ من نثر مهيار وإن كانت الكتابة هي الصفة المقدمة في كلمة ابن خلكان عنه. ولعل شعره في المدح وغيره من أغراض الأمراء والحكام يغني عن نثره لفظاً ومعنى. ولأناقة مهيار في أسلوبه سببان: الأول محاكاته طريقة الشريف الرضي، والثاني هو أن الدخيل إذا اعتنق لغة حتى تصير لغته واحتاج إلى النبوغ فيها والتكسب بها اضطر إلى التأنق أكثر من اضطرار الأصيل الذي يعتز بأصالته فلا يتعمد المغالاة في التأنق. ومن أجل ذلك كان مهيار أكثر أناقة في الأسلوب من كثير من شعراء العرب في الدولة العباسية ولاسيما شعراء عصره. وليست أناقته بمستحيلة إذ أن عمدة النحو العربي رجل فارسي مثله وهو سيبويه، وهو مثل آخر من أمثال هذه الظاهرة، وهي أن الدخيل قد ينبغ أكثر من الأصيل في لغة بسبب اضطراره إلى استبطان دخائلها، وهي ليست قاعدة عامة بل هي من الأمور الغريبة كغرابة إتقان الكاتب البولوني جوزيف كونراد للغة الإنجليزية وكتابة قصصه بها حتى صارت كتبه تعد من ذخائر الأدب الإنجليزي وحتى صار يعد أديباً إنجليزياً لا بولونياً
وقد أخذ مهيار عن الشريف سر الموسيقى الشعرية وهي لا تتوقف على الوزن وحده بل على الوزن وعلى أسلوب الشاعر في الإفصاح عن إحساسه. ومن قرأ قصيدة الشريف التي مطلعها: (ضَرَبنَ إلينا خدودا وِساما) أو التي مطلعها (أَرَاكَ ستحدثُ للقلب وجدا) أو التي مطلعها (اسلمي يا سرحة الحي) أو التي نطلعها (يا ظبية البان) وغيرها من أشعار الشريف ثم يقرأ شعر مهيار الموسيقي يحس كيف أتقن التلميذ سر تلك الموسيقى كما في قول مهيار:
أتراها يوم صدت أن أراها
…
علمتْ أني منْ قتلى هواها
إلى أن يقول:
أُعْطِيَتْ من كل شيء ما اشتهت
…
فرآها كل طرف فاشتهاها
أو قصيدته التي يقول في مطلعها:
لواعج الشوق والغليلْ
…
عَلَيَّ أحنى من العذول
أو التي يقول فيها:
آه على الرقة في خدودها
…
لو أنها تسري إلى فؤادها
أو التي يقول فيها:
واذكرونا مثل ذكرانا لكم
…
رُبَّ ذَكرَى قَرَّبَتْ من نزحا
أو التي يقول فيها:
أأنتِ أمرتِ البدر أن يصدع الدجا
…
وعَلَّمْتِ غصن البان أن يتميّلا
أو التي يقول فيها:
وهَبْكُم منعتم أن يراها بعينه
…
فهل تمنعون القلب أن يتمناها
ولو أن أساتذة فن الغناء في عصرنا هذا شاءوا لوجدوا في شعر مهيار نبعاً لا ينضب معينه من الموسيقى والغناء. فيا حبذا لو لحنوا الكثير من قصائده الموسيقية. وقد نبغ مهيار أيضاً في الرثاء كما نبغ الشريف؛ ومن أكثر قصائده في الرثاء وجداناً قصيدة قالها في فتى كان قد تبناه ورباه وهي التي يقول فيها:
فُجِعْتُ به غض الشمائل والهوى
…
مُسِنَّ الحِجَا والفضل مقتبل السن
على حين قامت للمنى فيه سوقها
…
وحقت شهادات المخايل والظن
ومن قصائده البارزة في لرثاء القصيدة التي مطلعها (مَنْ حاكم وخصوميَ الأقدار) والتي مطلعها (نعم هذه يا دهر أم المصائب) ويقول فيها:
سلامٌ على الأفراح بعدك إنها
…
وإن عِشت ليست إربة من مآربي
ومنها قصيدته في رثاء عبد العزيز بن نباتة السعدي اللامية التي يقول فيها:
أَفَلَم يَرُعها منك نَفس حُرَّة
…
كنتَ الوحيد بها وأنت قبيل
وقصيدتاه في رثاء الشريف الرضي مشهورتان ولاسيما الدالية التي مطلعها (أقريش لا لفم أراك ولا يد). وقد نبغ مهيار أيضاً في شكوى الزمان والإخوان، وله في هذا الباب أشعار كثيرة مثل قوله:
وأخ مع السراء من عُدَدِي
…
وعليَّ في الضراء والشر
مولاي والأحداث مُغْمَدَةٌ
…
فإذا انتُضِين فَرَى كما تَفرِي
تَعِبٌ بحفظ هَنَاتِ ميسرتي
…
كيما يُعَدِّدَها على العسر
ومن شعره في هذا الباب قوله من قصيدة رائعة:
وقلوب أعدائي الذين أخافهم
…
مغلولة لي في جسوم أحبتي
ولمهيار قصيدة في العتاب بلغت منزلة عالية وهي التي يقول في أول العتاب منها:
يا أهل ودي وما أهلا دعوتكم
…
بالحق لكنها العادات والدرب
وفي اللغة العربية قصائد بارزة في العتاب يصح أن تكون في باب وحدها وإن تفاوتت مراتبها ومنها هذه القصيدة لمهيار وقصيدة البحتري التي أولها (يهون عليها أن أبيت متيماً) والتي مبدأ العتاب قوله (عذيري من الأيام رَنَّقْنَ مشربي) وقصيدة ابن الرومي التي مطلعها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء) وقصيدة سعيد بن حميد التي مطلعها (أَقلِلْ عتابك فالبقاء قليل) وقصيدة المتنبي التي مطلعها (وا حرّ قلباه ممن قلبه شَبِمُ) وقصيدة الطغرائي التي مطلعها (على أثلاث الوادِيَيْنِ سلامُ).
وفي الهجاء يحتذي مهيار الشريف أيضاً. قارن بين قول الشريف الرضي (من كل وجه نقاب العار نقبته) وقوله (يَصْدَى من اللؤم حتى لو تُعَاوِدُهُ) وبين قول مهيار: -
وملثمين على النفاق بأوجه
…
صم يصيح اللؤم من قسماتها
ولمهيار أبيات كثيرة ضائعة في ثنايا مطولاته وهي أبيات يصح أن تشتهر وأن يتمثل بها.
مثل قوله:
والشامة البيضاء تنعت نفسها
…
لوضوحها في الجلدة السوداء
وقوله:
يقول المرء ما يهوى ويرجو
…
ويفعل فعله الفلك المدار
وقوله:
يسمون عيشاً في الخمول سلامة
…
وصحة أيام الخمول سقام
وقوله:
ونشتكي دهرنا والذنب ليس له
…
والدهر مذ كان مظلوم ومتهم
وقوله:
تقام على الفقير وما جناها
…
إذا وجبت على المثري الحدود
وقوله وهو ليس من الهجاء بقدر ما هو حقيقة عامة في كل النفوس: -
يجهلني بديهة وإنه
…
يزداد جهلاً بيَ كلما امْتحَنْ
عبد الرحمن شكري
المجمع اللغوي
وإصلاح لغة الحياة اليومية
للأستاذ عبد القادر المغربي
عضو المجمع
ذكرنا من قبل أن المجمع اللغوي قد اتجه إلى الاتصال
بالمصالح الشعبية لتناول الرأي معها في المصطلحات. وقد
سألنا صديقنا الأستاذ المغربي عن الطريقة التي بسط فيها رأيه
في وجوب عناية المجمع بكلمات الحياة اليومية والحاجة
الداعية إلى هذه العناية فأرسل إلينا هذا المقال.
أمهات الأعمال التي قام بها المجمع في دوراته الماضية خمس:
1 -
أوضاع في العلوم والفنون لطلاب المدارس
2 -
كلمات في الشئون العامة لجمهور المتكلمين باللغة العربية
3 -
تسهيل قواعد اللغة
4 -
كتابة الأعلام الأجنبية بوضع علامات اصطلاحية على الحروف العربية
5 -
الاهتمام بوضع معجمين: أحدهما علمي للطلاب والآخر لغوي لجمهرة المثقفين
وقد بذل المجمع همة عالية في مباشرة أعماله هذه وكان سعيه موفقاً فيها. اللهم إلا ناحية واحدة من هذه الأعمال مازالت محتاجة إلى عناية وتخير أقرب الطرق لحسن الإنتاج فيها
وأريد بتلك الناحية إصلاح لغة الحياة اليومية التي ترجم لها المجمع بقوله (كلمات الشئون العامة) - كأدوات المنازل وما تتناقله الألسنة والأقلام في الدواوين والأندية والمدارس والمتاجر مما يعبر عنه بألفاظ دخيلة أو عامية: فقد وضع المجمع لهذه الشئون أكثر من مائتي كلمة. ومن مواضع العجب أن هذه الكلمات تكاد تكون وحدها مثار اللغط في نقد المجمع والغض من قيمة إنتاجه
وهذا يدل على أن (كلمات الحياة العامة) هي أول ما يتشوّف إليه الجمهور من نتائج أعمال المجمع. لأن اللغة اليومية أصبحت قطعةً من حياته وجزءاً من عقليته. فلا جرم أن يكون إصلاحُ هذه اللغة وتقويمُ اعوجاجها مثَلَه الأعلى وموضع رغبته المُلحَّة على اختلاف الطبقات:
من طلاب المدارس الذين أضربوا منذ أشهر وكان من جملة شروط الرجوع عن إضرابهم أن تدخل اللغة العربية في البنوك الأجنبية كما أشار إلى ذلك بعض الصحف اليومية
- إلى رجال الصحافة الذين قال أحدهم في (رسالته): (تريد اللغة العربية من أولياء العهد الجديد أن تأخذ مكانها الشرعي في المحاكم المختلطة، وأن تُطَّهر من شوائب العُجمة في الدواوين والقوانين والجيش)
- إلى طبقة التجار والمستبضعين الذين كان تَعَرَّض لي أحدهم في الشارع وسألني أن أتوسط المجمع في وضع كلمة عربية تقوم مقام كلمة (مانيكور الفرنسية ويراد بها علبة تتضمن مجموعة أدوات تُسَوَّى بها الأظفار وتجمَّل. فلم أوفق إلى إجابة سؤله واستمهلته ريثما يأتي دور هذه الكلمة في (كلمات الشئون العامة) التي يضعها المجمع. أجبته بهذا وأنا خجِلٌ وكأنني أسمعه يقول لي: إلى أن يأتي دور هذه الكلمة تكون تغلغلت في لغتنا، ومَرِنت عليها ألسنةُ زبائننا والمستَخْدمين في مخازننا، فيصعب إذ ذاك تطهير اللغة منها. هكذا تخيَّلته يقول لي. ومازلت أتحين الفرص للعود إلى الحديث مع المجمع في هذا الموضوع حتى كلَّفتني إدارته أخيراً تهيئة اقتراح أقدمه إليه في جملة الاقتراحات التي طلبت من الأعضاء
فقلت: ها قد سنحت الفرصة لاستمالة نظر الإخوان إلى هذه المسألة التي إذا قضوا فيها أمراً كان قضاؤهم مؤدياً إلى إصلاح اللغة اليومية. وهو ما يرغب فيه الجمهور بأشد من رغبته في أعمال المجمع الأخرى: فإن المصطلحات الفنية التدريسية، وتسهيل قواعد اللغة، وكتابة الأعلام الجغرافية، ووضع المعاجم، وتحقيق ألفاظها التاريخية - كل ذلك على ضرورته، إنما تلمس فائدته بعد سنين. ولا يلمسها ويستفيد منها إلا طبقة المثقفين. فتبقى الحاجة ماسة والنقص ظاهراً في نتائج أعمال المجمع في نظر الجمهور كما يبقى المجال واسعاً أمام الناقدين.
والحق يقال إن اكتفاء المجمع في أن يضع من نفسه لنفسه كلمات يسميها كلمات الشئون العامة ومعظمها من غريب اللغة ثم يودعها معجمه أو مجلته - محاولة قليلة الفائدة لا تحقق الجانب الأعظم من المثل الأعلى الذي أنشئ المجمع لأجله، ولا تشفي غلة جمهور الراغبين في تعميم الإصلاح لكل ناحية من نواحي الثقافة اللغوية.
ولا يخفى أن حكم الجمهور - في عرض المعلومات اللغوية عليه - ليس كحكم تلاميذ المدارس الذين تملى عليهم إرادة أساتذتهم فيتلقَّوْنها من دون تذمر ولا مناقشة، وإنما الجمهور كالمستهلك أمام مخزن التاجر وبضاعته. فإن وافقت ذوقه وإلا هجرها وبحث عن أخرى غيرها.
وفي المادة الثانية من مرسوم إنشاء المجمع الملكي إشارة إلى أن هنالك طرقاً يمكن سلوكها في جعل اللغة العربية وافيةً بحاجات الحياة في العصر الحاضر. وذلك (بأن يُحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب)
فأنا أرى أن يستفيد المجمع من هذه الطُرُق التي أشار إليها المرسوم (في جعل اللغة وافيةً بحاجات الحياة في العصر الحاضر) فتتألف لجنة من أعضائه تسمى (لجنة لغة الحياة العامة) أو (لجنة اللغة اليومية) ويكون لها فوق ذلك وظيفة الدعاية والنشر والاتصال بجمهور المتكلمين اليوميين على اختلاف أعمالهم ومصالحهم. فتتلقى من إدارات الصحف والدواوين والمحاكم والجمارك والبنوك والمعامل والمتاجر بل من كل سائل الإشكالَ الذي يعرِض له في شأن وضع كلمة عربية مكان كلمة أعجمية، أو استعمال تعبير فصيح مكان تعبير دخيل، أو غير ذلك من الأسئلة المتعلقة باللغة اليومية مفرداتها وتراكيبها. .
وتعلن اللجنة اشتراطها على السائلين ألا تتجاوز أسئلتهم الاثنين أو الثلاثة لتتمكن من موافاة رغبتهم بالسرعة المطلوبة فتقرُّ بعض الكلمات أو التراكيب المختلف في صحتها أو تضع مكانها كلمات أو تراكيب عربية ثم تأخذ رأي المجمع فيما فعلت، ثم تنشره في الصحف اليومية تحت عنوان (أوضاع لغوية مؤقتة) فتسمع رأي الفضلاء في هذه الأوضاع وتعّدل فيه وتحوّر حتى تنتهي إلى نتيجة يطمئن إليها القلب ويُرضى أكثرية السائلين، والصحف اليومية ومحرروها هم لعمري أول من يحسن أن تعتمد عليهم اللجنة
في مؤازرتها وترويج عملها
نعم إن في هذا العمل كلفة وفيه مشقة، ولكن فيه فائدة عاجلة، وإجابة رغبة مُلحة، وإصلاحاً مباشراً محسوساً
هذا هو الاقتراح الذي قدمته إلى المجمع ويكفيني منه أن يقبله مبدئياً ثم هو ينظر في تنظيمه وتهيئة الوسائل التي تجعله منتجاً مثمراً
على أن اقتراحي هذا له التفات إلى اقتراح آخر علاقته به علاقة البناء بالأساس. ذلك أن قرار (التعريب) الذي وضعه المجمع في دورته الأولى كان مضيقاً جداً مذ جُعل التعريب فيه من حق عرب الصدر الأول بحيث لا يجوز لنا نحن أن نقدم عليه ونقتحم حرمه إلا عند تحقق الضرورة القصوى. وتحديد هذه (الضرورة) من أصعب الأمور. كما أن إبهامها وشمول لفظها يؤدي بطبيعة الحال إلى جدل واختلاف كبير
ولعل المجامع اللغوية التي كانت تقوم في القاهرة لم تخفق في عملها إلا لاصطدامها بصخرة التعريب وتضييق الخناق فيه
فاللجنة التي اقترحت تأليفها وسميتها (لجنة لغة الحياة العامة) لا أراها تبلغ غرضها وتؤتي أكلها ما لم يعدِّل المجمع قرار التعريب المذكور، فيجيز التعريب لنفسه بشروط أرفه وأوسع مما فصله في توجيه قراره الذي نشره في الجزء الأول من مجلته
فإن قدرت اللجنة على إقناع المجمع بذلك وإلا فلتقنعه على الأقل بلزوم قبول الكلمات الدخيلة اليومية المتفشية في لغتنا، والتي أصبح من المتعذر تطهيرها منها بالرغم من وضعنا لكثير منها مرادفات عربية فصيحة فماتت الفصحى وبقيت هي، أو بقيت الفصحى حية بجانبها: مثلما بقيت كلمة (بريد) حية بجانب كلمة (بوسطة)، و (حوذي) بجانب كلمة (عربجي)، و (ردهة) بجانب (صالون)، و (مضخّة) بجانب (طلمبة)، و (فندق) بجانب (أوتيل)
ولم تقو هذه الكلمات العربية على إماتة الأعجميات، كما لم تقو كلمات (المغْد. والكهكَب. والأَنَب. والحَيْصل. والحدَق) العربية على إماتة أختهن الأعجمية. أعني كلمة (الباذنجان)
وهأنذا أذكر طائفة من الكلمات المعربة الفاشية إلى أقصى حد في لغتنا اليومية لتكون نموذجاً لما أريده بالكلمات العصرية التي لا تمكن إماتتها وينبغي الترخص في استعمالها:
سينما. صالون. عَرَبة. عربجي. كلسون. جرنال. دستة. غاز. سراي. بلكون. شاويش. طاولة. سَبَت. شوال. بنك. بوسطة. فُرْشة. شنطة. فِلْم. كادر. أوتيل. كُبْري. بُرْنيطة. طلمبة. بوفيه
ولماذا لا يكون لهذه الكلمات التي وُلدت تحت مواقع أبصارنا حق في الحياة أسوة بكلمات أعجمية أخرى توارثنا استعمالها من دون نكير ولا يعرفها سلفنا الأول مثل كلمة: بقجة. بُودَقة. بركار. تخت. درابزين. دربس. دَرْفة. ماهيّة. طربوش. فوطة. الخ
ويمكن تلخيص اقتراحي في هاتين الجملتين:
1 -
وجوب الاتصال بالجمهور للاستعانة به في إصلاح لغته
2 -
تعديل قرار التعريب: إما بتجويزه للمجمع، بمقياس أوسع، وإما باستثناء المعربات الحديثة التي تحجرت في لغتنا اليومية وأصبح من المستعسر تجنب استعمالها.
المغربي
الحرب
تصوير السير ا. لاندسير من مجموعة (الدكتور أحمد موسى)
ياَ صُورَة ترنو إليها العيون
…
واجِمَةً كاسِفَهْ
تُوحي إلى الأنْفُسِ هَوْلَ المنون
…
في اللَّمْحَةِ الخاطِفه
يَضِجُّ بالويْلاتِ هذا السُّكونْ
…
كأنما الأرضُ به راجِفَهْ
لا يَمَّحِي الويلُ بها والشُّجُونْ
…
ولا تنِي رَعْدَتُهَا القاصِفَهْ
أَرَى على الأرضِ طيوفَ الجحيمْ
…
في هذه الغاشِيَهْ
يَطُوفُ بالنَّاسِ عذابٌ أليمْ
…
منْ ناَرِهَا الحامِيه
نارٌ تَلَظى في الورى من قديم
…
وأنْهُرٌ مِنْ من دَمِهِ جَارِيَهْ
تَرُوعُني كَبْوَةُ هذا الجوادْ
…
يَسْقُطُ لَا مِنْ وَهَنْ
الذُّعرُ في عينيه هِزَّ الفؤادْ
…
وزاد فيه الشَّجَنْ
كم صَوَّرَ الرُّعْبَ بهذا الطَّراد
…
وما دهى النَّاسَ به مِنْ مِحَنْ
ماذا رَمَى الفارِسَ من صَهْوَتِهْ
…
يا عَيْنُ ماذا رَمَاهْ؟
كَمْ كُرْبَةٍ للنَّفْسِ في ضَجْعَتِهْ
…
وَكَانَ غَضَّا صباهْ
الموتُ لا يَنْقُصُ من رهْبَتِهْ
…
ما ذاعَ من أسْبَابِهِ في الحياهْ
مازالَ مِنْ (هَابيلَ) في رَقْدَتِهْ
…
ما طَافَ مِنْ رُعْبٍ فأَصْمَى أخاهْ!
ياَ سَاحِراً لو أنَّ لي فَنَّهُ
…
لزدتُ في رَسْمِه
أخُطُّ طِفْلا مُرْهِفاً أُذْنَهُ
…
يُصْغِي إلى أمَّهِ
يَسْتَوْحِشُ اللَّيلَ إذا جَنَّهُ
…
وما رَأَى أُنْساً مَدَى يومِه
يَلثَغُ يا أُمَّاهُ طَالَ الغيابْ
…
أيْنَ تَولّى أبي؟
يا وَيْلَهَا! كَمْ لَفَّقَتْ مِنْ جَوَابْ
…
لطِفْلِها الصَّاخِبِ!
ماذا جنت؟ طَالَ عَلَيْهَا العذابْ
…
أفِّ لهذا الوالِدِ الغائب!
في سَاحَةِ الموْتِ خَيَالُ السَّلامْ
…
يزيدُ في كرْبِهِ
تطوف رؤيا بيته إذ ينام
…
وملتقى صحبه
لكنه يَفْزَعُ قَبْلَ القِيَامْ
…
مِنْ يقظة الأوهام في قلبه!
يَا وَيْحَ للإنسان من نَفْسِهِ
…
وَطَبْعِهِ الغَالبِ
يُسَابِقُ الموتَ إلي رَمْسِهِ!
…
أّلَيْسَ بالذَّاهِبِ؟
وغايَةُ المِسْكِينِ من بأسِهِ
…
الويل للمغلوبِ والغَالِبِ!
الخفيف
السلام
تصوير السير ا. لاندسير من مجموعة (الدكتور أحمد موسى)
سبحانك يا سلام!!
لقد بسطت على الأرض المحروبة جناحك الرفيق المشْبِل، فإذا الدار
أمان والفزع واطمئنان والقلوب مؤتلفة والشمل جميع!
هذه ساحة الحرب أصبحت مرعىً للقطيع الراتع؛ وهذه آلة الموت غَدتِ كنَّا للحَمل الوادع؛ وهذا الوعْل النطَّاح في أمسه لا يدري ماذا يصنع بقرنيه في يومه؛ وهذا الكلب الحارس نسى اللص والذئب فاستغرق في نومه؛ وهذه الأسرة الجميلة تنعم بعيشها الغرير تحت سماء الأمن، فلا هَمٌّ على والد ولا حزن على ولد!
تباركت يا سلام!!
لقد مددت على الدنيا المكروبة ظلك الرخِيَّ الوارف، فإذا الزرع جميم والخير عميم والحال متسقة والدهر مطيع!
هذه الغنم ترعى أثيث العشب هانئة فلا قنابِلُ ولا نيران؛ وهذه الطير تسبح في صفاء الجو هادئة فلا صواعق ولا دخان؛ وهذه السفينة تمخر في عباب البحر مطمئنة فلا طرابيدُ ولا قرصان؛ وهذه الطبيعة تغرق في فيض النعيم ووضاءة الفردوس مسترخية فلا خصام ولا عدوان!
حنانيك يا فاطر السموات والأرض!
لقد سميت نفسك السلام، وسميت ذاتك المؤمن: فلماذا جعلت للإيمان شيطاناً واحداً لا أكثر، وجعلت للسلام شيطانين اثنين هما الّدُتْشي وهتلر؟!
اللهم إن في السلام نعمة، وإن في الحرب حكمة؛ وبين نعمتك وحكمتك ضلت عقول الناس!
ابن عبد الملك
تطورات العصر الحديث
في الخلق السياسي
للأستاذ محمد لطفي جمعة
نشرت مجلة أوربا التي يشرف على تحريرها الأستاذ رومان رولان أشهر كتاب فرنسا المقيم في بلدة نيوفيل على شاطئ بحيرة ليمان بسويسرا، دراسة مستوفاة عن حوادث السياسة التي استجدت في أوربا بعد ظهور الفاشية والنازية، وألم فيها ببحث جليل عن حياة هتلر وموسوليني بقلم كاتبة أسراره سنيورينا ليندا رينا لدي وهي التي خدمته بضع سنين، فآثرنا تلخيصها لمجلة الرسالة التي يعد دخولها في عامها السابع فتحاً جديداً في العلم والأدب والثقافة العصرية
(ل. ج)
في تاريخ الأمم وأخلاقها ساعات حاسمة ومواقع فاصلة فتتميز عن الأخرى وتفضلها بالطريقة التي تقابل بها صروف الدهر في تلك الساعات وهاتيك المواقع. ومثلها في ذلك مثل الأفراد لدى الملمات والشدائد، فترى أمة يهولها الاعتداء الأجنبي عليها ويفت في عضدها ويضعف من نخوتها وينهك من إرادتها، وما تزال تنحط وتتهالك وتنحل عناصرها حتى تتوارى وتهلك. وهذه عاجزة عن الكفاح في سبيل الوجود وهي أمة كتب عليها الفناء. ولا فرق في ذلك بين أمة قديمة أو أخرى حديثة، عريقة أو طارئة، متدينة بدين منزل أو وثنية، شرقية كانت أو غربية. وهناك أمة تزداد قوة كلما تعرضت للآلام، وتنمو فيها الفضائل الدفاعية والهجومية كلما اعتدى عليها الأغيار أو قبض على خناقها الغرباء والغرماء. تتيقظ فيها فكرة المجد كلما حاقت بها الأخطار، وتدب فيها حيوية جديدة كلما حاول عدوها إدناءها من الموت، وتسري في أعضائها دماء جديدة وتجري في أعوادها أمواه الحياة
لا نريد أن نعرض للنظامين النازي والفاشي بخير أو بشر، لأننا لا نريد أن ننزل بهذا البحث إلى مستوى الجدل، فإننا نحب أبداً أن نحلق فوق الحوادث الراهنة وإن كنا نحترم السياسة ونقدرها. ولكننا نعلم أنها كثيرة المزالق، ومواطن التحليل فيها تدني من الخطأ الذي قد لا يغتفر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النظام الفاشي الذي ابتكره السنيور
بنيتو موسوليني المعروف في العالم باسم دوتشي أي الزعيم، وتبع آثاره هيرادولف هيتلر المعروف في العالم باسم فوهرر أي الزعيم أيضاً، قد أثبت وجوده وقدرته على الحياة فقدم بذلك البرهان التاريخي الذي لا بقاء لنظام اجتماعي أو سياسي بدونه، كما قدمت حكومة السوفيت برهانها منذ سنة 1917 إلى يومنا هذا. وفوق هذا قد أثبت هذا النظام والقائمون به أنه أدى لوطنهم خدمة جلَّى وقضى على شرور كثيرة وجلب خيراً وفيراً ودلَّ بذلك على أنه النظام الصالح للوطن الإيطالي، نظام المستبد المحب للخير وقد أثنى عليه كل من شهده وجنى شيئاً من ثماره داخل إيطاليا. وقد قلب إيطاليا رأساً على عقب، وقال بعض محبذيه إنه جعل من بلادهم جنة على الأرض، وإن الذين زاروا إيطاليا قبل تفشيه يكادون لا يتعرفونها بعد انتشاره وقيامه وتسلطه، لأنه صبغ كل شيء بصبغته التي أساسها النظام المطلق والآمن المطلق والأمانة المطلقة، ولكن هذا النظام العجيب الذي وحد كلمة الأمة وجعلها كرجل واحد وأخضعها لرجل واحد وعلق سائر آمالها برجل واحد، قد حكم عليه ذووه بأنه نظام قومي، حتى خطب الدوتشي نفسه فقال (إن الفاشية بضاعة لا تصلح للتصدير، ولا تضمن أرباحها خارج حدود إيطاليا) ولا نعلم إن كان قال هذا القول تواضعاً أو حثاً للأمم على الاقتداء به، ولكن وجب علينا أن نصدقه لأن رب الدار أدرى بما فيها. وإن كان هذا النظام قد انتحله هيتلر بتحوير كبير وطبقه في بلاده حتى بذ التلميذ أستاذه. ولم نسمع بصاحب مذهب سياسي أو اجتماعي قبل الدوتشي يحجر على مذهبه ويحرم عليه الخروج من كسر بيته، بل تعود أصحاب المذاهب أن ينسبوا إليها الصلاحية المطلقة والقدرة والنجاح في كل زمان ومكان؛ وإذن لابد أن يكون سنيور موسوليني قد ذكر هذا الرأي عن مذهبه لحكمة خفيت عن سامعيها في حينه. وإلا فكيف كان اغتباطه بالنازية واتحادهما وابتكارهما محور برلين وروما، ثم تشجيع فرانكو في وطنه حتى ذاق الأسبان بأس بعض وخربت بلادهم حتى صارت يبابا باسم مناصرة الفكرة الفاشية النازية. وأظن بعض الناقدين ألمعوا في كتبهم فقالوا أنه نظام يعلق الأمة بأهداب رجل بعينه، فإن شاخ أو مرض أو مات تعطلت الإدارة الحكومية وتلكأت في انتظار ظهور خير خلف لخير سلف، في حين أن الواجب يقضي بأن تكون القوانين العامة والخاصة هي الأداة الصالحة للحكم بدون اعتبار الأشخاص. ومهما يكن حكم المستقبل على الفاشية فإن الكثرة من الكتاب
الموالين لها أجمعت على نفعها في مسقط رأسها وخالفتها القلة المدركة من خصومها. ومنهم من أُوذي وهاجر باختياره أو نُفِي مرغماً؛ ومنهم من ألف كتباً صوب فيها سهام نقده إلى الفاشية. وإن يكن في المظاهر ما يوهم بأن النازية الألمانية تقليد للفاشية الإيطالية، فلا يصح القول بأن الهتلرية نوع من الفاشية أو تقليد لها، وإن كانت تشبهها في تفرد رجل واحد بالسلطة. ولكن الذي يفرق بينهما هو أن الأولى قامت باسم الإصلاح الداخلي ونصرة ذوي رؤوس الأموال ومقاومة الاشتراكية ومطاردة العمال الذين احتلوا المصانع الإيطالية في سنة 1922 وقدم زعيمها فروض طاعته للملك وجامل الكنيسة الكاثوليكية وانضوى تحت لوائهما. أما النازية الهتلرية فاشتراكية وطنية دينها عظمة دوتيشلاند ومجدها في غلبة الرايخ الثالث، وقامت باسم حماية الوطن من الاعتداء الأجنبي والخلاص من قيود معاهدة فرساي وتنفيذ خطط بسمارك القديمة، من التوسع في أوربا والشرق وتحطيم الشيوعية. وإذن قامت الهتلرية لتكون وسيلة لها غاية تخالف غاية الفاشية. دع عنك الاختلاف في أخلاق الأمتين وتاريخهما وعناصر حياتهما. وكلتاهما قد هضمت حقوق الفرد وجعلت الدولة هدفاً أسمى وإن كان في ذلك تأخير (المواطن) والتضحية به، مما يختلف عن المدى الذي وصلت إليه الحضارة الحديثة في تفكيرها وسياستها ومجموع مبادئها، ولاسيما عند الشعوب الإنجلوسكسونية والتيوتونية
وإذن لا تكون الهتلرية وليدة الفاشية ولا شقيقتها الصغرى، لأن الهتلرية ثمرة التاريخ الحربي والسياسي في ألمانيا، وخلاصة نوع من الفلسفة الروحية أو التصوف السياسي منشأه مجامع ميونيخ السرية التي بدأت أثناء الحرب. أما الفاشية ففكرة مبتكرة قامت في ذهن رجل واحد نتيجة لإدمانه قراءة كتابين:(وعود الزواج) لماتزوني وكتاب الأمير لنيكولا ماكيافيلي. وقد صدق حسبانه أنه يصلح شعبه بتنفيذها ووجد معونة كبرى من الأسرة المالكة ومن أصحاب المصانع والكنيسة، وتشجيعاً من الشبان الطامحين إلى الحلول محل كهول السواس وشيوخها، وكانوا إذ ذاك متلهفين على القوت والمجد، وكان بعضهم يرقبون المنقذ المنتظر يظهر فجأة في أفق الوطن وكان إذ ذاك خالياً في تلك الفترة من العظماء القادرين على حمل أعباء الزعامة. فوقع اختيار الحظ على موسوليني. كان بنيتو موسوليني في أول أمره صحفياً اشتراكيا متطرفاً، يحرر في مجلة (أنانتي) إلى الأمام،
لسان حال الحزب الاشتراكي وزعيمه فيرو أحد أساتذة الجامعة. ولما أعلنت الحرب ساهم في أوائلها، ثم لم ترقه فهاجر إلى سويسرا حيث ذاق مرارة الفاقة والتسكع، وعاد إلى وطنه يجرر أذيال الخيبة فحدث له ما حدث لاسكند كيرنسكي في بطرسبرج سنة 1917. غير أن الفرق بينهما أنه استمر ونجح حيث تردد كيرنسكي فخاب. فهو ابن ثورة اقتصادية قلب ظهر المجن لحزبه في اللحظة الأخيرة.
ولا يفوتنا أن أوربا أصبحت بعد الحرب مباشرة نهباً بين الدكتاتوريين فظهر من طرازهم بريمودي رفيرا في أسبانيا، وبانجالوس في اليونان، وبلودوسكي في بولونيا، وتحدثوا عن دكتاتورية مزمعة في فرنسا ورشحوا لها أندريه تارديو الذي كان رئيس وزارتها. ففي ظلال هذه الدكتاتوريات وفي مثار النقع الذي طاف بالأجواء قامت الفاشية وأضافت إلى قميصها الأسود درع الدكتاتورية الفولاذي.
وتضافرت بعض الظروف التي لم تكن في الحسبان وهي نتيجة الحالة السياسية العامة في أوربا فجعلت لإيطاليا وألمانيا مكانة توشك أن تضع في يدها ميزان السياسة الدولية، ولاسيما بعد فوزهما الأخير. وتراخت إنجلترا وفرنسا في تأييد نفوذهما لانشغالهما بالمسائل الداخلية. وجدت في الشرق حرب الصين وتفوق اليابان فانضمت إليها ألمانيا نكاية في روسيا. ورجعت أوربا في غير وعي إلى سياسة الاتفاقات السرية. ولعل التناطح بين الشعوب ليس إلا تطاولاً بين الزعماء ومظهراً لقوة إرادتهم ودليلاً على رغبتهم في الفوز والانتصار على مزاحميهم في ميادين المجد وعلو الصيت وضخامة الشهرة. ولدى كل أمة من الأمم مؤثرات وعوامل فكرية تؤثر في نفوس بنيها ولا تكون الزعامة الصحيحة إلا لمن يعرف استعمال هذه المؤثرات والعوامل التي تتحكم في النفوس؛ فإذا ما اهتدى الزعيم أو المرشح للزعامة إلى تلك العوامل تمكن بسهولة من جمع الأفكار وتوحيد الإرادات الفردية حول فكرته الخاصة وإرادته. وهيهات أن ينجح الزعيم ما لم يكن مفتوناً بالفكرة التي صار داعياً إليها حتى تستولي عليه استيلاء لا يرى معه إلا الفكرة التي ينادي بها؛ وبدون هذا الإيحاء الذاتي لا يمكنه أن ينجح في التأثير في أذهان الجماهير، لأنه لا شيء يحرك همتها مثل مظهر الأيمان الذي يبدو على شخص الزعيم. وإن يكن بعض الزعماء أو قادة الفكر ليسوا من النوابغ في صدق الآراء وصحة النظر، إلا أنهم من أهل الهمة
وذوي الإقدام. والفرق بين الفيلسوف والزعيم أن الفيلسوف كثير التأمل، والتأمل يؤدي إلى الشك، والشك ينتهي بصاحبه إلى السكون دون الحركة، لأن الحركة لا تصدر إلا عن تصميم الإرادة وهو ثمرة اليقين؛ أما الزعيم فلا يتأمل لأنه لا يشك، وحينئذ لا يركن إلى السكون؛ وإذن تكون قوة الإرادة للزعيم أنفع من سلامة الرأي وصدق النظر وحسن التبصر في العواقب، ولكن الذي يفقده الزعماء من تلك الناحية تعوضه عليهم قوة اعتقادهم في سلطانهم على الجموع وتلك الجموع لا تصغي إلا لذوي الإرادة النافذة الذين يتسلط عليهم العقل الباطن ويملك زمامهم. فإذا ما أصبح صوت الزعيم مسموعاً من جماعة، اندمجت إرادتها في إرادة الزعيم وتناست شخصيتها والتفت حول الزعيم ذي الإرادة المتحدة. يسألون عن الطغيان والجبروت والاستبداد كيف نمت في البيئات الدكتاتورية والزعامة في أول أمرها لا تحتاج إلى الاستبداد أو الطغيان، والمشاهد أن الذين قاموا بأدوار الطغاة أفراد من المؤمنين الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا طول سوى العقيدة والإيمان. فإذا ما وصل الزعيم إلى غايته احتاج حتماً إلى الاستبداد ليستبقيها.
ويعتمد الزعماء من هذا الطراز في تبليغ دعوتهم على الكلام والخطابة والكتابة، وزعماء العالم اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير في الجماهير. وعمدتهم على تكرار جوامع الكلم لترسخ في أذهان سامعيها. وإذا رجعنا إلى خطب زعماء الفاشية والنازية فلا نجد إلا نفس المعاني أفرغت في قوالب شتى لعلمهم بغريزتهم وإدراكهم الباطني أن التكرار يترك أثراً عميقاً في أذهان الخاصة والعامة على السواء. فالزعيم حاذق في حفر فكرته في أذهان أتباعه. وتبدأ الأفكار في الطبقات النازلة ثم ترتقي إلى الطبقات الوسطى فالعليا مثل انتشار أفكار الثورة الفرنسية وارتقائها من طبقات الشعب إلى الوزراء والعلماء. وكذلك الأديان فإنها تنتشر أولاً عند المظلومين والمحاويج والمحرومين والمعوزين إلى استعادة الكرامة والحقوق، وهذا سر انتشار النصرانية والبوذية بين الضعفاء والفقراء. وقد سادت الاشتراكية أولاً طبقات العمال حتى وصلت إلى العظماء فصار منهم اشتراكيون متطرفون. وكان عدد الذين دخلوا في زمرة الإسلام من الأغنياء والكبراء محدوداً ثم أقبل عليه كل فقراء الجزيرة العربية وعاصمتها الوثنية (مكة) لأنه كان في أول أمره دين مساواة فاستظلوا بسلطانه. وقد أدت الأحوال الطارئة في أوربا، وضعف الحكومات في بعض
الممالك بعد الحرب وسقوط العروش وتزعزع الثقة في الآراء القديمة، إلى حلول بعض الزعماء محل السلطات الحاكمة ومحو تلك السلطات وتلاشيها في أشخاصهم
محمد لطفي جمعة
على هامش الفلسفة
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
هذه أولى كلمات اعتزمت بمعونة الله وتوفيقه موافاة مجلة الرسالة الغراء بها إن تفضلت وفسحت لها مكانا متواضعا بينها رأيت في نشرها خيراً لطلبة الأخلاق في الأزهر وفي غير الأزهر لأنها تتناول بحوثاً لا يستغني عنها دارس الأخلاق
دعاني إلى التفكير في نشرها، بعد أن تعبت كثيراً في تحقيقها، الرغبة الخالصة في المساهمة في إقامة الأخلاق ودراستها على دعائم علمية صحيحة ثابتة، وما أعلمه من أن أحداً لم يتوفر على بحثها مع مسيس الحاجة إليها. وهل يليق بدارس الأخلاق أن يذكر مثلاً (أنها علم من العلوم) دون أن يكلف نفسه عناء البحث في صحة هذا الإطلاق أو عدم صحته؟ ثم أليس من الضروريان يتعرف الباحث بعد ذلك المعين الذي ترجع إليه الأخلاق، والطريق القويم إلى تحديد القانون الأخلاقي؟
هذه المسائل التي تحتاج إلى صبر وطول أناة في بحثها، ونحوها من موضوعات الفلسفة الأخلاقية وما يتصل بها، هي بعض ما عنيت وأعني بدراسته، وما أرجو أن أوفق فيه إلى الصواب غن شاء الله تعالى
الأخلاق والعلم
العلم اليقين، أو المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص. أو المعرفة العامة التي تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، هذه التعاريف كلها بمعنى تقريباً. فهل الأخلاق وهي تبحث في الخير والشر والحق والواجب وتعنى بتحديد القانون الأخلاقي وتعرف المثل الأعلى وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية - هل الأخلاق، وهذا أهم مباحثها، يصح أن توصف بأنها علم من العلوم؟ وبعبارة أخرى هل وصلت أو تصل الأخلاق إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حداً يجيز لنا وصفها بأنها حقائق علمية، فيكون هذا الفرع من الدراسات الفلسفية علماً من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة؟ هل هي دراسة علمية، أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد
التي سيطرت على الأمم في مختلف الأزمان والبيئات؟
نترك الإجابة مؤقتاً عن هذا التساؤل لنتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضاً، هي إن العلم على اختلاف أنواعه كعلوم الطبيعة والرياضة والمنطق والنفس والاجتماع والحياة والتاريخ، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها
العلم لا يعارض الأخلاق، لأن العقل العلمي يدفعنا إلى معرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها دون أن نعتمد في بحثنا على أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد تمحيصاً كافياً. لكنه لا يمنع أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي يسمو على ما تعارفه الناس جميعاً
كذلك العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها. العلم يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، ولا يُعنى البتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون. هو يتحقق لكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها - ومنها علوم النفس والتاريخ والاجتماع - لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها. لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجاً عنها
علم الحياة مثلاً يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وأن الحرب بينها سجال، وويل للمغلوب فيها لأنها حرب الحياة أو الموت. القوي يفترس الضعيف، والغلب والبقاء للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. هذا هو قانون الحياة بين أنواع الحيوان؛ فهل لنا أن نتخذ ذلك مبدأ لنا في أعمالنا؟ هل مما يتفق مع الأخلاق النبيلة أن نقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء، وبقاء الأقوى؟ أو الخير في أن نحكم أنهم على العكس من هذا يجب أن يتساعدوا، وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهاهو ذا علم النفس يكشف لنا عما يتركز في طبائعنا من ميول وشهوات وعواطف مختلفة، منها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار. أليس لنا أن نعطي لكل من هذه الميول والعواطف قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع، وقفنا على ما كان من حرب وتطاحن بين العالم في العصور المختلفة القديم منها والحديث. هل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في
اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ العمل على استئصال العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح لنا يوماً ما أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة إنسانية متبادلة
الروح العلمي لا يتطلب منا أن نأخذ العلوم كدليل أخلاقي وحيد، وإن شئت التعبير على نحو آخر لا يتطلب منا أن نأخذ مما تكشفه لنا العلوم من حقائق وقوانين مثلاً أعلى نتجه إليه في أعمالنا ونسير على ضوءه وسناه
إن العلم لا يعارض الأخلاق ولا يغني عنها قط، بل هو يقرر ضرورة وجودها ولا يستغني عنها، وبدونها يكون إثمه أكبر من نفعه. ولنا في تحليل نفسيات العلماء وكشف العواطف التي كانت تسودهم في حياتهم وبحوثهم العلمية ألف دليل ودليل إن صح هذا التعبير. ففي هذه الجهود المضنية التي قام بها العلماء لفهم الطبيعة وأسرارها وللوقوف على النظم التي تسير عليها، وفي تلك المشاق التي عاناها قادة الأمم وهداتها والمحسنون إلى الإنسانية، نجد عاطفة أخلاقية كانت تملك على هؤلاء الأبطال ألبابهم ومشاعرهم وتسوقهم إلى أداء رسالاتهم متحملين في سبيل ذلك ما تهددون بعضه عزائم صغار النفوس؛ تلك العاطفة هي الرغبة في خدمة الإنسانية وتحسين حالتها المادية والعقلية. وأيضاً القيمة العالية التي يراها العلماء للعلم، تفرض أن الأعمال الإنسانية ذات قيم مختلفة: منها العالي ومنها الدون؛ فالعلم مثلاً أفضل من الجهل، والهدى خير من الضلال، والسعي لمعرفة الحقيقة خير من مقاومتها. إذن واجب البحث عن المعرفة وإعلانها يفرض الواجب بصفة عامة، والمثل الأعلى العلمي يفرض أن هناك مثلاً أعلى عاماً يجب أن ننشده جميعاً
كذلك حب الحقيقة، وعدم التحيز للهوى، والإخلاص، والصبر، والحمية في العمل؛ هذه صفات أخلاقية بدونها لا يتحقق عمل طيب علمي بل ولا علم أيضاً. العالم كالرجل الفاضل يستشعر سروراً عالياً روحياً؛ هو الرضاء بالواجب المؤدى بنبل، والحياة تقضى في شرف وأمانة. يقول الفيلسوف الفرنسي (إرنست رينان) في كتابه مستقبل العلم:(المعرفة بين جميع الإنسانية أسماها قدراً، لأنها أكثر بعداً عن الهوى، واستقلالاً عن المسرات) ثم يضيف: (وإنه لمن العناء الذاهب سدى أن يدلل المرء على قداستها وسموها، أنه لا ينكر ذلك إلا من لا يعترف لشيء بالسمو والقداسة)
والمؤرخ الفرنسي العلامة (أوجستين تييرِّي) الذي عمي لإفراطه في أبحاثه الدقيقة التفصيلية يذكر في مقدمة كتابه: (عشر سنوات في دراسات تفصيلية) أنه لو خُيِّرَ في اختيار حياة له ثانية لما اختار إلا أن يكون أيضاً عالماً مؤرخاً؛ لأن الدراسة الجادة الهادئة مأمن وأمل وحرفة يبلي المرء فيها حياته بشرف. . . أعمى ومتألم بدون رجاء وبدون راحة، يمكنني أن أتقدم بهذه الشهادة التي أعتقد أنها لن تكون موضع شك بحال؛ هي أنه يوجد شيء في العالم خير من الثروة وسائر المسرات المادية ومن الصحة أيضاً: هو الإخلاص للعلم)
هكذا الدراسة العلمية وتحليل نفسيات العلماء، يكفيان لبيان أن الخير والشر، وهما موضوع الأخلاق، يلاحظان دائماً في كل البحوث والدراسات العلمية على اختلافها.
والآن نعود إلى التساؤل الذي صدرنا به هذا البحث؛ وهو إذا كان العلم - كما تبين - لا يعارض الأخلاق ولا يغني غناءها، بل يسير معها جنباً لجنب، هل لنا أن نسير في البحث خطوة أخرى لنعلم ما إذا كانت الآراء والحقائق الأخلاقية تبلغ من العموم حداً يجعلها حقائق علمية، فتكون الأخلاق علماً من العلوم؟ الأخلاق علم إذا كان هناك حقائق أخلاقية عامة؛ ولكن هل البحث الأخلاقي يكشف لنا حقائق أخلاقية عامة للجميع؟
جواب ذلك فيما يتبع هذا من بحوث إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
من ذكريات لندن
غريب
للأستاذ عمر الدسوقي
ولت شهور الصيف مسرعة وأذن مؤذن الواجب والدرس فلبيت كما لبى رجال يرجون حسن الثواب، وغادرت فرنسا والجسم هزيل، والفؤاد عليل، والذاكرة تغص بصور من الحياة ذات ألوان. طفقت الباخرة تسير باسم الله مجريها ومرساها صوب (نيوهيفن) وما كادت تغادر المرفأ حتى هبت العاصفة، ففتحت أبواب السماء بماء منهمر، وأعتم الجو، وزأرت الريح وزمجرت، وعبثت بالسفينة كما يعبث الوليد بخذروفه، وعادت لا تستقر على حال من القلق، يجور بها الملاح طوراً ويهتدي؛ تعلو فكأنها على قمة جبل، وتهبط فكأنها بين طيات الأخاديد، والأمواج تلطمها من غير شفقة ولا رحمة، وتدفعها بعنف ذات اليمين وذات اليسار وكأنها جبار يصب جام غضبه على صبي لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً، اللهم إلا البكاء والعويل؛ فكنت ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من دوار البحر في ألم مرير؛ وصراخ النساء يشق عنان السماء، ونحيب الأطفال يصدع الصخور الصماء؛ ولو كان للطبيعة الصاخبة قلب لرق ولان؛ وأنى لها وقد أطلقت لشياطينها العنان فأذاقونا العذاب الهون، أربع ساعات وكأنها أربعة قرون
وبعد لأي رست السفينة على الشاطئ الشمالي من بحر (المانش) وتنفست كما تنفس الناس الصعداء، ووطئت قدماي الأرض، وأخذت أتلمسها بيدي لأرى أثابتة هي أم متحركة؛ ونجوت بعدما يئست من النجاة، نجوت بعد أن كنت أصارع الداء والقيء، والدوار والإعصار. نجوت بعد أن هتفت باسم أهلي فرداً فرداً، والشقة بعيدة بيننا، وليث المنية فاغر فاه، والناس من حولي في شغل لكل منهم شأن يغنيه
تحرك القطار صوب لندن، فأوجست منه في بادئ الأمر خيفة، إذ كنت لا أزال حديث عهد بالسفينة القلقة، بيد أن الطمأنينة أخذت تتسرب إلى الفؤاد شيئاً فشيئاً حتى برحته الهواجس، وغادره الوجل
ها. . . قد وصلنا إلى لندن!
لست غريباً عنك أيتها المدينة العظيمة! كنت آتيك من قبل زائراً، وهأنذا آتيك مستقيماً
مستوطناً، فرحبي بالمهاجر الغريب، وابتسمي له، لعله ينسى عذاب الغربة، وقسوة البحر، وألم المرض. لن تضيقي به ذرعاً وهو فرد من تسعة ملايين، فأكرمي وفادته، واطردي وحشته، لعله يذكرك يوماً بالثناء، ويعرف لك هذه اليد البيضاء، وهو بين أهله وذويه
كنت أحدث نفسي بهذا، والسيارة تقلني إلى بيت كنت أعرج إليه كلما مررت بلندن؛ ووقفت السيارة، وطرقت الباب فخرجت ربة البيت، ونظرت إلي فأنكرتني. رأت جسماً هزيلاً قد أنهكته العلل، ووجهاً شاحباً قد لفحته الشمس فعادت سمرته مخيفة رهيبة، وسمعت لساناً متلعثماً ينبئ عن نفس مضطربة وفكر تعب، فحملقت وترددت في الكلام ثم قالت:
- آسفة يا سيدي فكل غرف المنزل مشغولة
- ألا تعرفين بيتاً آخر أقضي فيه الليل، فأنا على ما ترين، أحوج ما أكون إلى الراحة
فأشارت إلى بيت جارتها، فحييتها وانصرفت شاكراً. ثم طرقت باب الجارة وسألتها في أدب ولطف، فاعتذرت
وأخذت السيارة مرة ثانية تعدو بي في شوارع لندن، وكلما رأيت فندقاً استوقفت السائق، وذهبت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى وأسأل في تردد وهيبة عن غرفة شاغرة أقضي بها سواد الليل، وأريح جسمي المتهدم وعقلي المنهوك، وفي كل مرة أجاب بأن الفندق غاص بالزوار، وأعود أدراجي إلى السيارة لأواصل البحث ولسان حالي يقول: وافق حظاً من سعى بجد. بيد أن لندن لاحت حينذاك وكأنها صحراء مقفرة، أخب فيها بين رمال ونجاد وصخور ووهاد، أو كأني بمدينة قد عفت وأتت عليها يد البلى والحدثان، أو كأني لا أزال على ظهر السفينة أطلب النجاة بين الماء والسماء
آه يا لندن. . .! ما هكذا حسبتك، أحقاً لا يوجد فيك سرير لغريب يشكو المرض ويطلب الراحة، وأنت عروس الإمبراطورية العظيمة وأكبر مدن العالم؟
ليت شعري ما للقوم كلما رأوني ازوروا عني ورفضوا سؤلي، بعضهم في أدب وبعضهم في قحة؟ وهل أقضي الليل هكذا أجوب الشوارع والطرقات؟
أين مصر؟ أين مصر؟
وأخيراً تشجعت وطرقت باب أحد الفنادق، فخرجت سيدة عوان، ينم وجهها عن شيء من
كرم النفس والأريحية، فسألتها: أعندك غرفة شاغرة يا سيدتي؟
- آسفة
- أنا كما ترين مريض متعب من سفر مضن شاق، وقد قضيت وقتاً غير قصير أبحث عن غرفة فلم أوفق، فإذا كان عندك مكان آوي إليه كنتِ أهلاً لشكر عميم، وأجر مضاعف
- آسفة يا سيدي
- لابد من المبيت هنا مهما يكن الأمر
وأخرجت متاعي من السيارة، ونقدت السائق أجره وقد أربى على الجنيه، والسيدة تتعجب من تصرفي
- اسمحي لي يا سيدتي فلم أعد أقوى على مواصلة البحث
- ولكن. . .
- ولكن ماذا؟
- الفندق خاص بالإنجليز ولا نقبل فيه أجنبياً ولا سيما إذا كان أسمر البشرة
وهنا ثارت ثائرتي، وللمصري نفس عزيزة تأبى أن تهان، وبه كبرياء تلهب نار غضبه إذا مست كرامته، ولاسيما إذا كان ببلد غريب، وقد سمعت مراراً بمعاملة الإنجليز لسمر الوجوه، ولكني لم أجرب هذه القسوة من قبل، وكنت حين يجليني أصحاب الفنادق ألتمس العلل والمعاذير، ولم يخطر ببالي قط أنهم يرفضون لأني (رجل ملون). أما وقد سمعت هذه الكلمات، فلم يعد هناك ريب في اكتناه السر الذي تحيرت في كشف طلاسمه منذ ساعة، وخاطبتها بصوت تنم نبراته عن ثورة نفسية عنيفة وكرامة مهانة
- إنك لاشك مخطئة يا سيدتي، فأنا لست زنجياً ولا هندياً، ولا نوبياً ولا حبشياً، بل إني مصري، تجري في عروقي أنبل الدماء، وحسبك أن تعرفي أننا من أرقى الشعوب مدنية وحضارة قديماً وحديثاً، ولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته ومكانته، أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين الازدراء والامتهان، ويعدهم دونه في الذكاء والمدنية. على أنني لست في مقام جدال، فسأقضي هنا ليلتي، ولك أن تخبري رجال الشرطة إذا شئت، ولاسيما إذا كان عذرك هو ما سمعت
ولجت الباب دون أن ألتفت إليها، وطلبت من الخادم أن تدخل متاعي، ولحقتني السيدة
دهشة حيرى وقالت:
- مهلاً حتى أريك غرفتك، وحذار أن تظن بي شراً، فأنا براء من هذه العقيدة، ولكني أحرص على راحة عملائي، ومنهم من يعارض أشد المعارضة لوجود رجل ملون في الفندق، ويهدد بالرحيل، وتشويه سمعة المنزل، وأكثرهم في ذلك لجاجاً وغلواً ضابط متقاعد، رأى الشرق عن كثب، ودأب على ذكر نقائصه، وعورات أهله، وأنهم ليسوا إلا همجاً لم يشرق عليهم نور المدينة بعد، وأن سكناهم معنا مدعاة لتعكير صفو حياتنا وهنائها إذ لكل إنسان عادة لا يستريح إلا لها. أما أنا فمن أصل فرنسي، وفي ديارنا لا يعيرون هذه الفروق الجنسية اهتماماً، بيد أني مضطرة لمجاراتهم، مادمت قد اخترت هذه البلاد موطناً لي، واخترتهم عملاء لفندقي، فلعلك مقتنع بفكرتي. وحين أسمح لك بالمبيت هاهنا لا أرجو إلا شيئاً واحداً، هو أن تتحاشى رؤية هذا الضابط، وسأرسل طعام الفطور بغرفتك.
- شكراً لك يا سيدتي، غير أنك أثرت في نفسي شعوراً ليس من السهل علي إهماله، ألا وهو محادثة هذا الضابط.
- ليس إلى ذلك من سبيل.
- سنرى.
وانطلقت إلى غرفتي أشد ما أكون تعباً وإعياءً، ولم أكد أنتهي من خلع ثيابي، والاستلقاء على السرير حتى أتت السيدة بكوب من اللبن، وقالت في رفق:
- إنك مريض، ولعلك بحاجة إلى دواء، فهل لي أن أقوم بأية خدمة؟
- شكراً يا سيدتي، فالدواء عندي، وسأتناوله بعد هنيهة، عمي مساءً، وسأراك غداً.
فكرت ملياً فيما رأيت وسمعت، ثم غلبني الإعياء فنمت، وما إن لاحت تباشير الصباح حتى نهضت، وأنا أحسن من البارحة حالاً، وأهدأ بالاً، غير أن النعرة القومية عاودتني، فأذكرتني مأساة أمس، وأن واجبي هو تبديد هذه الأوهام والأباطيل من عقول هؤلاء المرضى بحمى الغطرسة والكبرياء، وإقامة الدليل لهم على أن المصري، وإن تكن السياسة قد جارت في حكمها عليه، إلا أنه أبي ذكيٌ ليس من اليسير أن يسكت عن ثأر في ميدان الكرامة، أو يصمت عيا في ميدان الدفاع عن القومية. فلبيت نداء حسي وشعوري، وارتديت ثيابي على عجل وأسرعت إلى غرفة الطعام، والقوم لا يزالون نياماً، وأخذت
ألهو بقراءة جريدة حتى مضى بعض الوقت، فأخذوا يغدون ويحيون، دهشين، متعجبين، وأنا أرد تحيتهم في برود مصطنع يخفي تحته نفساً ثائرة على هذا الجهل بمنازل الناس وقيمهم، وعلى هذا النفاق والرياء.
وأخيراً دخل الضابط ورد تحية الجلوس، وأجال في الغرفة نظره فلمحني، وظننت بادئ ذي بدء أن وجهه سيتجهم وأنه سيتمتم ويدمدم، ويثور ويفور، ولكنه حيا ببرود وجلس، فجلست تجاهه على الخوان، وأخذنا نتناول طعام الفطور في صمت، وكأننا في مأتم، وهممت بالحديث مراراً غير أن الرهبة عقدت لساني فلم أنبس ببنت شفة. وبعد لأي سنحت الفرصة، فقدمت ربة الدار، ووزعت على الجميع تحاياها وابتساماتها، ولم تظهر امتعاضاً لوجودي بل سألتني كيف قضيت ليلي؟
- على خير يا سيدتي، شكراً. إني ليسرني أن أتعرف بجندينا الذي ذكرته أمس، فهل تتكرمين بتقديمي له؟
- بكباشي سمث. صديقنا هذا من مصر، وقد حدثته عنك أمس، وأنك زرت بلاده، وعرفت أهلها وحدثتنا طويلاً عنهم.
فأجاب الضابط في فتور.
- هذا حسن، وأومأ إليَّ برأسه، فقلت:
- إني ليسرني أن أتشرف بمعرفتك يا سيدي، ولقد أنبئت أن لك رأياً خاصاً في الشرق والشرقيين، يحملك على الأنفة والترفع عن مخالطتهم، ولو سمحت وبينت لي هذا الرأي لكنت لك من الشاكرين.
فألقى على ربة المنزل نظرة كلها تعنيف وتأنيب، ولاح عليه بعض التردد، غير أن بقية الزوار حثوه على الكلام قائلين: دعنا نسمع رأيك، والرد عليه، فطالما حدثتنا عن الشرق أحاديث تقشعر منها جلودنا، ولم تجد بيننا من يدحض رأيك أو يعترضك، وها قد سنحت الفرصة لمعرفة الحق.
فكرر ما قالته ربة البيت ليلة أمس، وزاد أن الشرق لا يصلح إلا وعنانه بيد الغرب، وأن الشرقيين لم يخلقوا للمدينة الأوربية، والأولى بهم الاستمساك بعاداتهم الهمجية، وترك التقليد الأعمى، وأما مسألة الترفع فذلك أن لكل قوم عادة، وليس توافق العادات بالأمر الهين؛ ثم
إن مركزنا الأدبي في العالم يقتضي أن نترفع عن الشعوب الملونة، ونشعرهم بمكانتنا التي لا تسامى حتى ندخل في قلوبهم الروع والرهبة، وحتى نعودهم الصغار والذلة. وتلك سياسة رجال الجيش البريطاني في المستعمرات، وإن لم نفعل ذلك تجرأ علينا الأهالي؛ وذهب سلطان الحكم وجلاله.
- آه! الآن عرفت الحقيقة، إذاً لا يوجد هناك تفوق في الذكاء كما لا يوجد تفوق في ميدان الحضارة والاستعداد لتقبلها، ولكن المسألة استعمارية بحتة. إن كان الأمر كذلك، فإني أتنبأ لإمبراطوريتكم بالزوال العاجل. إن هذا الترفع، وهذه الكبرياء تبعد بينكم وبين تفهم نفسيات الشعوب المحكومة، وتجعلها دائماً تشعر بأنكم أجانب، وتملأ قلوبهم قيحاً، وتشحنها غيظاً، وتحرك في نفوسهم نار الثورة الهامدة، فيهبون لطردكم والتنكيل بكم. لم لا تحتذون حذو العرب، وقد أسسوا بنيان ملكهم على قواعد من المساواة والمحبة والإخاء، ولذا تشرب المحكومون تعاليم دينهم ومدينتهم وتعلموا لغتهم، واندمجوا فيهم. لست هنا لأعطيك والحكومة البريطانية درساً في فن الاستعمار، ولكن الاستعمار في رأيي ورأي العقلاء، ليس استعباداً، اللهم إلا في رأيكم أنتم.
- مرحى، مرحى!! هكذا هتف بقية الزوار، ماعدا الضابط الذي وجد فيَّ مجادلاً يكيل له صاعاً بصاع ويقرع الحجة بالحجة. ثم استأنفت الحديث منتهزاً فرصة صمته:
- يخيل إلي أنك لم تعرف المصريين حق المعرفة، وإلا كان حكمك عليهم غير ما سمعت، ليست القضية يا صديقي، قضية تفرقة في الألوان، فهاهي ذي اليابان قد بزتكم في ميدان الصناعة وغزت دياركم بمنتجاتها ومخترعاتها، ولولا عهد الأتراك بمصر، ولولا تدخلكم في شئوننا، لكنا اليوم أمة لها في ميدان العلم والنور شأن رفيع. على أننا لم نيأس بعد، وسوف تسمع اسم مصر يكتب في سجل الخلود بماء من ذهب ونور. ثق تماماً أن المصري يفوقك في الذكاء، وتفوقه في القوة المادية، أما (اللون) فكلنا من آدم، وآدم من تراب، وكتبكم المقدسة على ما أقول شهيد. لست أريد إقناعك، ولكني أرضي كرامتي، وعزة نفسي، وأعطيك درساً في احترام غيرك مهما يكن جنسه ولونه، حتى تخبره، وتعرف خلاله وتفكيره، والآن اسمحوا لي سادتي بالانصراف وأشكركم على كرم وفادتكم
غادرت المنزل واستوقفت سيارة ووضعت بها متاعي، وأخذت أبحث مرة أخرى عن
مسكن أقيم فيه وأتفرغ للجهاد في سبيل العلم
آه يا لندن. . . لقد جرعتني نُغَب التهمام أنفاساً، وأريتني ليلة أمس وجهاً عبوساً متجهماً، وأعطيتني درساً لا ينسى. أهكذا يفعل أهلك بالغريب؟
سلوا قراه وهرَّته وكلابه
…
وجرَّحوه بأنيابٍ وأضراس
عمر الدسوقي
ورد المساء
مهداة إلى أستاذي الدكتور عبد الوهاب عزام
للأديب محمد أحمد البنا
انطوت صحيفة النهار، وآب العالم من رحلته في اليوم الجديد، ورست السفينة على شاطئ بحر الحياة، ولم يبق من الأصيل إلا العسجد المنثور على أطراف النخيل وعلى أمواج النيل
وعاد العاملون إلى مساكنهم، والطيور إلى وكناتها. وسبح لله ما في السموات والأرض
ثم استقرت الأكوان. وخشعت الأصوات للرحمن، وكأنها تتناجى في حمد خالقها وشكر بارئها ببلاغة الصمت في لسان الحال. بعد بلاغة الإفصاح بلسان المقال
إلهي: سبحانك يا من جعلت الليل سكناً، والمساء وطناً لترد إلى المتفرقين ألفتهم، وإلى المتعبين المكدودين راحتهم، ليهنئوا بالمنام، ويأنسوا في دولة الأحلام
إلهي: سبحانك يا من جعلت الليل لباساً والنهار معاشاً. كما خلقت الأرض مهاداً رحيباً والسماء سقفاً مرفوعاً
ربنا: عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير
إلهي: لقد بكرنا إلى الكفاح مع الصباح المقبل في نور رحمتك، ثم عدنا في ظل سكينتك مترنمين بشكرك، ونحن بنعماك آمنون، وعلى جانبك القوي متوكلون
أسلمنا الجنوب إلى المضاجع، والجفون إلى وساد الكرى على أمانٍ من عينك الساهرة، واطمئنان من رعايتك الوافرة
إلهي: لئن أثقلتنا الأوزار، وأنقضت ظهورنا الخطايا، وتنازعت قلوبنا المعارك الدامية من حرب الحياة القائمة، وصراعها الدائم، فإن لنا من بِرّك مرجعاً، ومن الرجاء فيك موئلاً، ومن رضوانك مستقراً مقاماً
إلهي: إن لك علينا من الآلاء ما لو كان كل نفس من أنفاسنا كلمة حمد وآية شكرٍ لك على عظيم آلائك وجزيل عطائك ما كنا نوفيك بذلك كله حقك فتقبل من إنك أنت الوهاب
إلهي: وآمن روعنا وأمِّن سربنا وارزقنا في الضعف قوة، وفي الخوف أمناً، وامنحنا من لدنك نوراً يهدي ضمائرنا، ويرشد حائرنا، ويؤلف على الحق مشاعرنا
لك يا إلهي أولنا وآخرنا، وباطننا وظاهرنا، لا تخفى عليك خافية من أمرنا، فمنك خلقنا وإمدادنا، وإليك مرّدنا ومآبنا. فامنحنا القوة لليوم الجديد، واحينا فيه على خير ما تحب لنا وترضاه منا، وهب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً
محمد أحمد البنا
بكلية الآداب
التاريخ في سير أبطاله
محمد شريف باشا
للأستاذ محمود الخفيف
كان شريف في عصره رجلاً اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال. . .
- 1 -
تحت هذا العنوان نضع أسم شريف، وفي هذا المجال نأتي بقبس من سيرته؛ ومن أولى من شريف أن يتبوأ بين الأبطال مكاناً عليَّا، إذ نحن ذكرنا رجال حركتنا القومية؟
ولئن كانت جهود شريف لم يفد منها غير وطنه، ولئن لم يدو اسمه في آفاق العالم كما دوت أسماء غيره من الأبطال، فكثير سواه كانوا في ذلك مثله، خطورتهم في أوطانهم فحسب، ومع ذلك فلم ينكر عليهم بطولتهم إلا ظالم أو ذو غرض. . . وما البطولة في جوهرها إلا أن يسمو الرجل على الحوادث ويقهرها إن غالبته، وأن يسخرها ويوجهها إن سالمته، فإن لم يتسن له هذا ولا ذاك كان في كفاحه ومقاومته وتعاليه عن أن يذل أو يذعن دليل رجولته ومقياس بطولته. وما كانت الشهرة من دلائل العظمة أو من بواعثها؛ فلكم تشهد الحياة من رجال يحسبهم الغافل من أوزاع الناس وإن لهم لنفوساً تنطوي على عناصر البطولة كأكمل ما تكون البطولة. . .
ولقد كان شريف عظيماً بنفسه قبل أن يكون عظيماً بمنصبه. كان رجلاً في عصر عزت فيه الرجولة وتطامنت فيه أقدار الرجال إما من شر يتقونه أو خير يرجونه. . . ولذا يعتبر شريف بحق خالق جيل وباعث نهضة، فهو في عصره كان الرجل الذي اجتمعت فيه الرجال، وكانت مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال. . .
وكان شريف تركي العنصر ما في ذلك شك، ولكنه لم يعرف له وطناً غير مصر ولا قوماً غير بني مصر. ولما بلغ أشده كان من رجال هذا الوادي في طليعة العاملين منهم والمجاهدين؛ يتلفت الرجال إذا حز بهم أمر أو أخذتهم حيرة فلا تستقر أعينهم إلا على شريف ولن يتقدم لنصرتهم في مواطن الخطر والشدة غيره
تم الأمر في مصر لمحمد علي، ذلك العصامي الفذ، وأثخنت جنوده في صحارى العرب وفي مطارح السودان، وتهيأت مصر لأن تستقبل على يد هذا البطل عصرً من عصور يقظتها كان الجيش فيه المحور الذي تدور عليه نهضتها. وفي صدر هذا العصر الفتي ولد محمد شريف، فكان مولده بالقاهرة في شهر نوفمبر من سنة 1826
وحمله أبوه، وقد انقضت مدة خدمته بمصر معه إلى الآستانة. وكان هذا الأب في مصر قاضي قضاتها، ولكنه لم يلبث في الآستانة إلا بضع سنين ثم اختير للحجاز، فمر بمصر ومعه ابنه؛ ووقعت عينا واليها على الغلام، وكانت عينا الوالي تلمحان النجابة في سرعة عجيبة، ولذلك طلب إلى أبيه أن يبقيه عنده ليقوم على تربيته. وكان محمد علي ويومئذ في ذروة مجده تهدد جيوشه عرش الخلافة وتحمل على الإعجاب به فرنسا، وعلى الحنق عليه إنجلترا؛ وكان همه منصرفاً إلى الجيش، فإذا بنى الرجال وأعدهم، فإنما يكون ذلك ليتخذ منهم دعائم جيشه
وبقي الغلام في القاهرة وأدخل المدرسة العسكرية التي أنشأها الوالي بالخانكة، فيمن أدخل من أبناء الأمراء ووجوه القوم؛ ومن ذلك الحين صارت مصر وطن شريف الذي لا يعرف له وطناً سواه
وهكذا نشأ شريف نشأة عسكرية؛ ولكن جيش مصر ما فتئت إنجلترا تعمل على القضاء عليه حتى تم لها ما أرادت، ولما يزل شريف في سن اليفاعة؛ واستطاع بالمرستون أكبر الكائدين لمحمد علي أن يرغم الباشا عام 1841 على (أن ينكمش في قوقعته الأصلية في مصر). وجاء في فرمان السلطان في تلك السنة للباشا المغلوب على أمره أنه (يكفي أن يكون لمصر ثمانية عشر ألف نفر من الجند للمحافظة في داخلية مصر ولا يجوز أن تتعدوا هذا العدد لأي سبب ما. . .) وأذعن الباشا ولم تغنه صلته بفرنسا ومظاهرتها إياه؛ فما كانت إنجلترا لتسمح بظهور مثل قوته في مصر وهي التي جعلت أساس سياستها منذ الحملة الفرنسية ألا يقوم في وادي النيل نابليون آخر
وكان الأجدر بالشباب بعد هذا أن يتجهوا وجهة غير وجهتهم العسكرية. لقد أوفدت الحكومة فريقاً منهم إلى فرنسا في عام 1844، وكان من هذا الفريق محمد شريف، فاختار أن يدخل مدرسة سان سير الحربية
كانت هذه المدرسة التي التحق بها شريف من أشهر المدارس يومئذ؛ وإن في اختياره المدرسة الحربية في تلك الظروف لدليلاً على أن الجندية كانت توائم طبعه، ففي الجندية الصحيحة حياة الإقدام والهمة والنظام والطاعة، وتلك صفات امتاز بها شريف رجل السياسة فيما ظهر من أعماله بعد
قضى شريف في تلك المدرسة عامين تجلى فيهما ذكاؤه وطموحه، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدرسة تطبيق العلوم العسكرية، فلبث بها عامين آخرين انتظم بعدهما في سلك الجيش الفرنسي كما تقضي قوانين تلك المدرسة ليأخذ قسطه من المران العملي؛ ثم تخرج شريف ونال رتبة يوزباشي أركان حرب في ذلك الجيش
ولم تله شريفاً شؤون فنه عن غيره من الفنون، فراح يقرأ التاريخ والسياسة، ولا يفتأ يستزيد من المعرفة، مستعيناً في ذلك ببصيرة نيرة كانت من أظهر مواهبه، وعزيمة صادقة كانت في مقدمة خلاله؛ وأتقن شريف الفرنسية وحذقها حتى لقد كان يعجل بها لسانه كأنه أحد أبنائها، كما درس شريف طباع الفرنسيين ووعى قلبه ظرفهم وأناقتهم، حتى صار بينهم وهو ذلك الفتى الشرقي وكأنه منهم، ولذلك لقب (بالفرنساوي) وصار يجري لقبه هذا على ألسنة معاصريه. . وليس معنى ذلك أن شريفاً قد جعل بينه وبين قومه سداً بما تعود من عادات الفرنسيين، فما كان مثله بالمتكلف، ولقد كان له من أصالته واعتداده بنفسه ما يربأ به عن ذلك العيب، وإلا فكيف أصبح حين عاد إلى وطنه أشد الرجال مقاومة للنفوذ الأجنبي؟
وولي أمر مصر عباس باشا الأول فأعاد أعضاء البعثات العلمية من الخارج، فعاد شريف فيمن عادوا عام 1849م. ولقد نستطيع أن نتصور ما تركته حال مصر يومئذ من أثر في نفس هذا الفتى الطموح، فلقد تعلم وتأهب ليعود فيجد المدارس تغلق أبوابها، والجيش يهلك عنه سلطانه بعد أن انهدت أركانه؛ ويجد مصر وقد ذلت بعد عزة، يبدو عليها مثل ما يبدو على ذوي القوة والبأس وقد جرد من حسامه، وعاهلها ناقم على العصر ومظاهر العصر ونافر من الأجانب وما يأتون به مما كان يعده من أنواع الغرور والبهتان
ضاقت مصر عن همة شريف وعن علم شريف ولكن أين يذهب وليس له غير مصر؟ وإذاً فليرض بأن يأخذ في الجيش المصري نفس الرتبة التي أخذها في الجيش الفرنسي
فليس من هذا الرضاء بد. ولئن كان جيش مصر لا يعمل فربما أتت الأيام بما ليس يجري في بال أحد، فينصرف شريف من ميدان إلى ميدان إلا يكن فيه قتال فليس يخلو من نضال. . .
وفي مصر اتصل شريف بسليمان باشا الفرنساوي، وأعجب به القائد الكبير وأخلص له الود والمحبة. . . ألا ليت هذا اللقاء كان أيام نصيبين وكوتاهية، وإذاً لرأى التاريخ ماذا كان عسيا أن يأتيه شريف الجندي في ميادين البطولة والتضحية، ولكنه كان في تلك الأيام لا يزال طالباً يتطلع ويأمل
ولن يزال سليمان يوليه من عطفه وتأييده، ثم يلحقه بحاشيته الحربية في منصب (الياوران)؛ ويظل هذا عمله فلا يخوض معركة ولا يرسم خطة؛ وعباس في شغل عن الجيش لأنه في غنى عنه، ولكنه يضيق بما هو فيه ولا يطيق صبراً على إغفال عباس له وإن لم يقصد عباس هذا الإغفال، فيعتزل الجندية التي لم يكن له منها غير اسمها، ويكون هذا الاعتزال من جانب شريف أولى خطواته في الدفاع عن كرامته، ولسوف تكون له بعدها خطوات لن يخطوها إلا ذو عزة وذو نخوة. . .
ويلتحق شريف بدائرة الأمير عبد الحليم ردحاً من الزمن يشرف على أعمالها بما اشتهر به من فطنة وبعد همة. ولقد كان الأمير وهو نجل محمد علي من أقرانه في البعثة، فألان له جانبه وزاد في إكرامه وإعزازه. . . وشريف يقبل حياة الدعة على رغمه، ففي طبعه ميل إلى النضال والكفاح، وفي خلقه اعتداد يشبه الزهو، بل لقد كان يبلغ به الذهاب بنفسه أحياناً حد الصلف، وتلك خلة لا يسعنا إلا أن نعدها على شريف مهما تكن بواعثها
وأخذ سعيد الولاية بعد موت عباس، وكان لسعيد ولع بالجيش، وإن لم تكن به حاجة إليه، وحمله حبه للجيش على أن يشهد تدريبه بنفسه ثم بسط له يده كل البسط، فألبسه أحسن اللباس وأطعمه أجود الطعام، ومد له أسباب الترف والنعيم، حتى لقد كانت تقاس كفاية ذلك الجيش عنده بحسن مظهره ووجاهة رجاله. . . وكان شريف وجيه الطلعة جم الأناقة فضلاً عما كان يتحلى به من صفات الجندية؛ لذلك جعله سعيد من المقربين، ورقاه إلى رتبة (أميرألاي)، ثم ما لبث أن رفعه إلى رتبة (لواء) ووضعه على رأس الحرس الخصوصي؛ وهكذا يعود شريف إلى الحياة العسكرية وإن جاز لنا أن نسمي حياة كهذه حياة عسكرية. .
وازدادت عرى المودة توثقاً بينه وبين سليمان باشا فزوجه من ابنته، وفرح شريف بما ساقه القدر إليه من حظ عظيم، وكان اسمه قد أخذ ينتشر بين معاصريه من البعداء عن الحاشية ووجوه القوم، وعرف الناس يومئذ عن النزاهة والاستقامة، وأعجب من تسنى لهم رؤيته بما كان يبعثه مرآه في القلوب من هيبة وبما كان يشيعه في النفوس من حب. . . والحق لقد كان شريف على جانب عظيم من قوة الشخصية، شهد له بذلك الأجانب والوطنيون على السواء
وبدا لسعيد فمال به من الجندية إلى السياسة بعد أن وصل في الجندية إلى رتبة الفريق، وكان هذا التحول بدء مرحلة جديدة في تاريخ حياته، مرحلة حافلة بجلائل الأعمال سلكت شريفا في عداد الأبطال؛ بل لقد كان هذا التحول بدء مرحلة جديدة في تاريخ مصر؛ ولا غرو، فلقد عظم فيها خطر شريف حتى صار تاريخه تاريخ مصر في طور من أطوارها، وتلك منزلة لم يبلغها إلا أفذاذ الرجال، أولئك النفر الذين يتوقف مصير عصرهم على ما يعملون، أو الذين تجد فيهم الحوادث أدواتها الحية إذا ما تمخضت تلك الحوادث عن ثورات وراحت كل ثورة تبحث عن رجلها حتى تهتدي إليه فتستقر في رأسه وفي جنانه. . وأي دليل على العظمة أقوى من أن يكون تاريخ الرجل هو تاريخ عصر من عصور وطنه؟ على هذا الأساس قامت عظمة سعد في مصر الحديثة، وعظمة لنكولن في أمريكا، وبسمارك في ألمانيا، وفردريك الأكبر في بروسيا، وبطرس في الروسيا، وغير هؤلاء من الرجال فيما سلف من العصور وفيما اختلف من الأمم. . .
اختار سعيد شريفا ناظرا للخارجية، وهنا أخذت مواهب ذلك الجندي تظهر في السياسة فتبهر، وما لبث أن وجد شريف سبيله إلى قلوب من اتصلوا به فحمل أنصاره على محبته، وحمل خصومه وحاسديه على إكباره وإن لم يريدوا، وتهيأ لمصر في شخصه الرجل الذي لم تكن لها مندوحة عنه فيما هي مقبلة عليه من عظائم الأمور. . .
(يتبع)
الخفيف
استطلاع صحفي (ريبورتاج)
20 سنة في مكافحة البلهارسيا
مرض تضخم الطحال
في مصر علماء وأطباء يقفون جهودهم سنين طويلة على تحقيق نظرية أو اكتشاف ظاهرة. وهذه قصة طبيب سلخ عشرين عاماً من حياته ليخفف عن الفلاح آلام المرض ويقي الأمة عوامل الضعف والانحلال
وهم يعيشون للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم حتى ليفضلون ملازمة مريض أو الاشتغال في معمل على الظهور في المجتمعات. ولذلك رأينا أن نتصل بهذه الفئة من الباحثين فنكشف عن جهودهم ونطلع الناس على أخبارهم لعلنا نوفي العاملين قدرهم.
في الوجه البحري حيث تكثر المستنقعات، وحيث وسائل صرف المياه مازالت على أسوأ طرقها تنتشر البلهارسيا بين الفلاحين فتنزف دماءهم، ولا تقف عند هذا الحد بل تسبب لهم مرض تضخم الطحال فتكبر بطون الرجال والسيدات وما هم بحبالى، إذ يحمل مرضهم طحالاً متضخما يزيد وزنه على وزن طفل في ستة أشهر. فيبلغ وزن الطحال خمسة كيلو جرامات مع أن وزنه العادي يتراوح بين 170 و 200 جرام تقريباً أي أن المريض يحمل ما زنته خمسة وعشرون طحالا
ظل هذا المرض معضلة الطب المصري حتى سنة 1929 إذ تمكن الدكتور أنيس أنسي بك مدير معامل الصحة من اكتشاف سببه، ثم قدم بحثه للهيئات الطبية العالمية فنال موافقتها، وأخيراً سجله في (بورصة الأبحاث الطبية) الجمعية الملكية البريطانية لطب المناطق الحارة في 25 أبريل الماضي
ويتضخم الطحال لأسباب عدة، منها الإصابة بحمى الملاريا أو بالتغيرات اللمفاوية العامة؛ وفي هذه الحالات يسهل تشخيص الداء بالطرق الفنية والميكروسكوبية كفحص الدم مثلاً، إلا أنه في حالة الإصابة بالبلهارسيا تضيع كل الدلائل ولا يظهر بالطحال أي خلل أو عيب، فيرى الطبيب أن مريضه سليم الجسم، وأن كل عضو يؤدي وظيفته بانتظام إذا استثنينا كبر الطحال مما يضني الجسم ويرهق العضلات فلا يجد الطبيب مفراً من استئصاله ليخلص المريض المسكين من حمله الثقيل، ولا يخفى ما يتعرض له المريض
من المضاعفات الخطيرة أثناء إجراء عملية كبيرة كهذه. أضف إلى ما يصيب الجسم من عوارض سيئة تنتاب الحيوان والإنسان بعد مضي وقت من استئصال مثل هذا العضو المهم
أهمية الطحال
والطحال هو (بوليس) الجسم لأنه ينقي الدم من الأجسام الغريبة ويقتل الميكروبات الضارة، فهو مخزن كرات الدم البيضاء والخلايا الأكولة، وهو يمد الجسم بالعناصر الدفاعية العديدة التي مازال منشؤها غامضاً على الطب. فاستئصال الطحال إذن يعرض حياة الشخص للأمراض المختلفة، ويجعل حياته قصيرة الأجل إذ يفقد الجسم القدرة على مقاومة الأمراض
وعز على الأطباء أن يقفوا حيارى أمام تلك المعضلة التي اختصت بها مصر من دون بلاد العالم. وأثار فضولهم أن يروا مرضاً خطيراً لا يدركون من أمره شيئاً، بل إن كل ظواهره هي ظواهر الحالة العادية للطحال فلا يوجد به علامات تسبب ذلك التضخم
تضاربت الظنون والفروض، وقدر الأطباء ما شاءت لهم نظرياتهم ثم أخرجوا فروضهم إلى حيز العمل ولكن المرض ظل على حاله. وزاد حيرة الباحثين كثرة المرض وظهوره الفجائي، ففي كل عشر إصابات بالتضخم أمكن الطبيب أن يعرف سبب ثلاث حالات أو أربع ويعزوها إلى حمى الملاريا أو الكلازار أو الأورام وفي باقي الحالات كان يقف أمام سر مغلق
وازدادت حيرة الأطباء عندما لاحظوا ظهور التضخم فجأة، إذ كان المرضى يؤكدون أنهم كانوا بصحة جيدة منذ شهور قليلة مع أن حالات التضخم التي يعرفها الطب تحتاج إلى سنوات. وكذلك لاحظ الأطباء أن أكثر حالات التضخم المجهولة كانت كثيرة في الوجه البحري فتبلغ نسبتها 30 إلى 1 في الوجه القبلي. وعندئذ جزم الدكتور أنيس بأن (هناك حالة مرض مصري عضال غير معروف سببها، كثيرة الانتشار في مصر السفلى)
الحلقة المفقودة
بدأ الدكتور أبحاثه في سنة 1908 وكان وقتئذ مساعد أستاذ في القصر العيني حيث راقب
حالات التضخم وحاول أن يعالجها. ولكنه لاحظ أن كل الحالات التي ترد إلى المستشفى حالات مزمنة وصل فيها تضخم الطحال إلى حد أرغم المريض على الرقاد فأيقن أن إحدى حلقات المرض مفقودة ولم يطلع عليها الطب. وبعد تفكير طويل تيقن بأن هذه الحلقة المفقودة هي بدء المرض أو حالاته الحادة
فإن فلاحينا من الفقر لا يستسلمون للمرض إلا إذا ثقلت وطأته على أجسامهم فلم تحتمل شدته. فإذا أضفنا إلى هذا أن وظيفة الطحال هي الفتك بالميكروبات والأجسام الغريبة ثم التهامها سهل على الطبيب أن يستنتج أن ميكروب المرض من الضعف بحيث يفتك به الطحال أولاً بأول. واحتاج هذا الفرض العلمي إلى تحقيق يتناول المرض في حالاته الحادة أو الحديثة التي لا يهتم بأمرها الفلاح. وعندئذ ظهرت مهمة الطبيب شاقة، لأن هذه الحالات ليست في المستشفى ولا عند الأطباء، بل هي هناك في القرى وداخل الأكواخ
وذهب الدكتور أنيس في طلب الفلاحين، فزار مرضاهم في بيوتهم وما كاد يبدأ بحثه حتى اشتد عجبه إذ وجد 80 في المائة من شبان الفلاحين وأطفالهم مصابين بهذا المرض العجيب ولكن تباشير النجاح أيضاً بدت. فهاهي ذي ظواهر ديدان البلهارسيا. وهاهو ذا أثر الصراع بين محتويات الطحال وبين تلك البويضات. فهل ديدان البلهارسيا هي السبب؟
لنجيب على هذا السؤال بنعم يجب أن نجد بويضة البلهارسيا نفسها. وهذه إن وجدت فلن يسهل العثور عليها إلا في طحال الأطفال أو في حالات المرض الأولى أو الحادة. فإن طحال الطفل أضعف من أن يهضم هذه الدودة الخطيرة وبويضتها؛ وبهذا وضع الدكتور يده على مفتاح المرض وبقي عليه أن يكشفه فيصور البويضة في الطحال كما يجب عليه أن يلقح الطحال بديدان البلهارسيا ويرى النتيجة
واستحضر لذلك قردة خاصة عرفت بإصابتها بهذا النوع من المرض وهي تجلب من جزر الهند الغربية. وأجرى تجاربه مدة طويلة احتاج أثناءها إلى أكثر من 200 قرد. واستعان بالأرانب فكان له منها ضحايا في كل يوم
معركة حربية
ونجحت التجارب فثبت الغرض. ويقول الدكتور في تعليل تضخم الطحال (إنه عندما تغزو بويضات البلهارسيا لب الطحال تحدث به التهابا حادا سريعا تعقبه على عجل استعدادات
وترتيبات لازمة تبتدئ بعمليات التجاذب بين مواد الطحال والجسم الغريب ثم بتعادل وتخفيف المواد السامة القابلة للذوبان. وتعقب ذلك عملية الهضم التي تقوم بها الخلايا الأكولة المتحركة التي تقطن اللب الأحمر)
وتتحفز تلك الخلايا للقيام بعمل سريع؛ فتتجمع حول البويضات النازحة في صفوف متراصة مكونة بذلك خطوط الدفاع التي تعقبها على عجل عملية الخمائر لتوقف فعل المواد الغريبة السامة التي تفرزها البويضات في تلك الدائرة الضيقة. ثم تهجم الخلايا الأكولة على غلاف البويضات فتذيبه إلى مادتها فتلتهمها وإلى ما تخلف بعد ذلك فتبتلعه فتقي الجسم شر تلك السموم)
فإذا تمت هذه العملية التصقت كل خلية بجارتها مكونة سدا منيعا يحول دون تسرب أية مادة سامة إلى النسيج السليم ثم تبتدئ (الخلايا) في توالدها وتكاثرها فتتحول إلى خلايا ذات نواة وهكذا يكبر الطحال تبعا لتوالد الخلايا وتكاثرها أثناء صراعها مع ديدان البلهارسيا وبويضاتها)
مرض متوطن
وأيد الطبيب في إثبات رأيه ما رآه من انتشار قواقع البلهارسيا في الوجه البحري، فإن انخفاض ذلك الإقليم ورداءة طرق الصرف فيه جعلته موطن المياه الراكدة وبالتالي معمل تفريغ الميكروبات والديدان وأهمها البلهارسيا والإنكلستوما.
(ويعتبر مرض تضخم الطحال متوطناً في كل بقاع مصر، وينتشر بكثرة كما تشتد عوارضه وتكثر مضاعفاته بالمناطق المنخفضة بشمال الدلتا حيث تكثر المصارف والترع ويكثر تبعا لها توالد القواقع طول فصول السنة بخلاف ما نشاهده في الوجه القبلي حيث ري الحياض مازال باقياً فتقل بذلك نسبة العدوى قليلا. وبالرغم من وفرة وجود القواقع أثناء الفيضان فأنها لا تلبث أن تموت متى جفت الأرض وانخفض مستوى الماء)
وتظهر الأعراض المبدئية للمرض عقب العدوى بالسركاريا وتظهر مصحوبة بتوعك المزاج وباضطرابات في الجهاز البولي والجهاز المعوي وتظهر البويضات في البول والبراز ويصل تضخم الطحال في هذا الدور إلى أسفل الضلوع بنحو قيراطين. وينشأ نتيجة تفاعلات بلب الطحال أحدثتها إصابته حديثاً ببويضات البلهارسيا
فإذا كانت البويضات قليلة وأتيح للمريض فرصة العلاج تمكن نسيج الطحال الزاخر بخلاياه الأكولة من هضمها وإزالتها فتزول عوارض المرض. أما إذا استمر تعرض الإنسان للعدوى فإن الطحال يتضخم بتكاثر خلاياه بجميع أنواعها حتى تصل إلى سرة البطن، أو يمتد إلى حافة الحوض، ويستمر على هذه الزيادة حتى تتاح للمريض فرصة العلاج أو ينتقل إلى مكان لا توجد به قواقع. فيضمر الطحال ويصاب بتليف عام، وتضخم في محفظته وعوارضه، وتتحول الألياف المرنة إلى نسيج ضام، لكن الخلايا السليمة منه تستمر على أداء عملها بالدفاع عن الجسم من غزو الأمراض والحميات وغيرها
ويحافظ الطحال على هذا الحجم رغم انتهاء دورة الإصابة، وخلو البول والبراز من بويضات البلهارسيا، وفي هذه الحالة يلقب بالطحال المتوطن، ومن هذا يتبين أن تضخم الطحال يمكن أن يزول في حالات المرض الأولى. أما إذا أزمن وطالت مدته ونشأ التليف بين أنسجته وخلاياه فإن تضخمه يلازم المريض، وقد ينقص حجمه قليلا بالعلاج أو بالانتقال من مراكز العدوى ولكنه لا يعود إلى حجمه الطبيعي
فوزي جيد الشتوي
رسالة العلم
أهمية نظرية التطور
نظرية التطور وقصة الخليقة
للأستاذ عصام الدين حفني ناصف
كان الناس فيما مضى يجهلون معظم القوانين الطبيعية التي تسود الكون وتحكمه، فكان المفكرون منهم يتساءلون: لم هذا اللباس من الشعر غير الكثيف يغطي جسمنا؟ لم يشبه القط النمر؟ لم كان الزنجي أسود اللون والصيني أصفره؟ لم كان الأوربي متحضراً والإفريقي غير متحضر؟ لم كان عدد صنوف الحيوانات عديداً بهذا القدر؟ لم نعثر في أعماق الأرض على عظام أسماك متحجرة؟ ولم يكن هناك من يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها، وذلك لأن فكرة واحدة لم تكن قد نفذت إلى رؤوسهم، وهي: أن الأرض قد نمت هي وما عليها في مدى مئات الملايين من السنين حتى بلغت ما تبلغه الآن، وقد وصلت الكائنات إلى أشكالها الحالية ببطء شديد وبالتدريج، ومرت خلال ذاك على أشكال عديدة سابقة لهذه، فهي قد (تطورت)
تقول نظرية التطور: إن جميع الكائنات الحية الباقية والمنقرضة قد تطورت إلى أشكالها الأخيرة من أصل واحد أو بضعة أصول، فهي أذن يتصل كل منها بالآخر برباط القرابة
وقد كثرت الأدلة العلمية على صحة هذه النظرية حتى (انتقلت) كما يقول أوسبورن (من نطاق الفروض والنظريات إلى نطاق القوانين الطبيعية) ولذلك فإن (خصومها) كما يقول بلاته (مضطرون إلى مكافحتها ببراهين وحجج من غير التاريخ الطبيعي)
وليست أهمية هذه النظرية بقاصرة على كونها ضرباً من العلم والفلسفة فقد أثرت تأثيراً كبيراً على علوم مختلفة كعلم الحفريات والتشريح المقارن والأجنة والاستيطان ووظائف الأعضاء وعلم الأمراض وتاريخ الإنسان والاجتماع والنفس والفلسفة.
وللنظرية عدا ما تقدم أهمية بالغة من الناحية العلمية، ذلك أنه إذا كان التطور إلى أرقى ليس هو المصير المحتوم دائماً بل يشترط لحدوثه ظروف وشروط خاصة، فما يستحق الجهد ولاشك أن يفكر المرء ويعمل على توفير هذه الظروف والشروط، وبذلك لا يكون
الإنسان سلبياً يحمله تيار الحوادث إلى حيث يساق، بل يكون سائراً بمشيئته في طريق الرقي وهو يعلم أين يسير. وهذا يجعل من السهل علينا أن نجيب على السؤال الذي كانوا يلقونه قديماً عن معنى الحياة والغرض منها، فليس الغرض منها إلا السير بالبشرية في سبيل الرقي وتوفير أسباب البهجة والتمتع لكل فرد منها
وقد طبَّق سبنسر نظرية التطور على الشئون الاجتماعية، وشرح رأيه في نشوء الضمير الخلقي عند الإنسان بما يتلخص فيما يأتي: كان الناس في أول أمرهم يرون أن الحسن هو المفيد إفادة عاجلة، ثم أظهرت التجارب أن هنالك أحياناً فائدة كبيرة آجلة تَفضُل الفائدة الصغيرة العاجلة. وقد اختُزنت هذه التجارب في مشاعر أسلافنا وذلك ما أحدث أثره في مجموعهم العصبي، وتوارثنا نحن عنهم هذه التأثيرات، فترانا نعتبر بعض التصرفات حسناً دون أن نجربه ونتثبت بأنفسنا من نفعه، وإنما أسلافنا هم الذين جربوا ذلك لهم ولنا من بعدهم، وهذه الحكمة الموروثة هي ما نسميه بالضمير، وبه نجد من دخيلة نفوسنا ما يرشدنا إلى الخير والشر. وعلى ذلك فإن حياة الفرد ونصيبه الذي قسم له في الحياة لا يبدوان عند ولادته، بل هما يرجعان إلى الماضي الذي لا نستطيع تقدير توغله في القدم
نشوء الكون
كانت هنالك مادة أولى تملأ الوجود، ومن هذه المادة نشأت السدم، وهي سُحُب من ذرات معدنية صلبة مختلفة الحجم والمعدن، ثم تطورت السدم بعد ذلك فأخذت الذرات الصغيرة فيها أو القليلة الكثافة تنجذب إلى الكبيرة أو الأكثر تركزاً، إلى أن تكونت كرات كبيرة يفصل بين كل منها والأخرى حيز فارغ واسع المدى. واتجهت الذرات الأكثر ثقلاً في كل كرة نحو مركزها، وولَّد ضغط الذرات في هذه الكتل التي يزن كل منها تريليونات الأطنان، حرارة هائلة جعلها تتقد وتتحول إلى كوكب. أما الذرات الخفيفة أي الغازات، فقد بقيت في الحافة مكونة جواً غازياً حول الكوكب. وقد حدثنا الفلكيون أن الكون الذي نعيش فيه يحوي نحو 2 ، 000 ، 000 ، 000 من الشموس التي تشبه شمسنا، والكثير منها كواكب مثل كوكبنا الأرضي، من الجائز أن تكون مأهولة بكائنات حية، فليس ثمة ما يدعو إلى افتراض أن الأرض أنشئت على نمط خاص
أخذت الكواكب تفقد حرارتها شيئاً فشيئاً، وكان أسرعها في ذلك أصغرها حجماً، وبردت
الأرض بالتدريج واتحد ما يكتنفها من أوكسجين وأيدروجين فتكون منهما الماء العذب، ثم اكتسب الماء ملوحته من إذابته لبعض أملاح الأرض وبعض أحماض أنزلها معه من الجو. واستمرت الأرض تبرد وتكونت القشرة الأرضية في النهاية ويبلغ سمكها في الوقت الحالي 80 إلى 100 كيلو متر، وقد كانت في أول أمرها متشابهة السُمك، وكان المحيط المائي موزعاً حولها بتساو، ولكن برود القشرة الأرضية أدى إلى تقلصها، فارتفعت سلاسل الجبال ونشأت تبعاً لذلك الوديان والمنخفضات، ثم استقر الماء في المنخفضات وبدأ الانقسام إلى أرض (يابسة) ومياه
نشوء الحياة والأحياء
نشأت الحياة بعد ذلك على وجه الأرض في زمن مضى عليه - في رأي بعض الجيولوجيين - 50 إلى 100 مليون سنة، وكانت الأحوال الطبيعية تختلف عما هي عليه الآن، فمياه المحيطات مرتفعة الحرارة، والعناصر المتشععة عظيمة النشاط، والمركبات الكيميائية ليست كلها على النمط الذي نعرفه، فدبت الحياة في المادة الحية الأولى (بروتو بلاسم)، ثم نشأت منها الوحدات المحدودة التي نسميها خلايا
لم تكن الكائنات الحية الأولى نباتات صرفة ولا حيوانات خالصة، ولكن البعض منها أصبح نباتا لاقتصاره على التغذي بالمواد غير العضوية التي في الأرض، وجرى البعض الآخر على افتراس ما يجاوره من الأحياء، وذلك منشأ تكون الحيوان، وقد اقتضت عملية الاقتناص أن يتزود الحيوان بأعضاء خاصة بالحركة والحس وبفم ومعدة وأسلحة ودروع فنشأت عنده هذه الأعضاء. ثم نشأت الحيوانات والنباتات العديدة والخلايا بعدم انفصال الخلايا الناتجة من انقسام خلية واحدة
ولما غاضت معظم المياه الضحلة وانسابت الأنهار السريعة الجريان هلكت الحيوانات التي لم تستطع التخلص من بطء حركتها، وتطورت أعضاء الحركة في الحيوانات الباقية فظهر السمك كالقارب الطويل مجهزاً بزعانف قوية ثم تكونت فيه السلسلة الفقرية. واكتظت الأنهار الضيقة السريعة الجريان بالأحياء فقام بينها الكفاح من أجل الأوكسجين والغذاء فذهب البعض إلى البحار العميقة وبدأ البعض سباقه صوب البر ونباتاته يقتات بما فيها من حشرات ثم يعود إلى الماء وأخذت المثانة الهوائية تتطور إلى رئتين والزعانف تتطور إلى
أطراف، ونشأت الأمفيبيا كالسمندر والضفدع وهي الحيوانات التي تقطن الماء في صغرها ثم تنتقل في كبرها إلى حياة البر
واستمرت المياه في بعض الجهات تغيض شيئاً فشيئاً وأخذت الحيوانات الأمفيبية في تلك الجهات تتحول تبعاً لذلك إلى حيوانات برية ففقدت خياشيمها وقويت أرجلها ونشأت منها الزواحف كالورل والتمساح والثعبان
العصر الجليدي
وانقضى الصيف الدائم من على وجه الأرض وكسا الجليد نحو 4 ملايين ميل مربع من سطحها، تمتد من الهند إلى أوستراليا وإلى أفريقيا. وقضت هذه المذبحة الهائلة على نحو 97 في المائة من الأنواع النباتية والحيوانية فتحولت النباتات إلى طبقات من الفحم ولم يبق من الحيوانات إلا نماذج قليلة في الأقاليم الحارة هي التي نسلت ما احتواه العصر الحديث من الأمفيبيا والحشرات وغيرها. فلما ذابت طبقة الجليد بعد ربع مليون سنة بسبب انخفاض سطح الأرض في الجنوب عادت الزواحف إلى الانتشار، وكانت أوربا في ذلك الوقت غاطسة تحت الماء لا يطفو منها سوى قنن الجبال وأجزاء قليلة أخرى تبدو كمجموعة من الجزائر محاطة بحواجز من المرجان ما تزال آثارها تشاهد إلى الآن فوق الجبال. وكانت هناك قارة ملأى بالبطاح والغياض ممتدة من أسكوتلاندة إلى أمريكا (تسمى في عالم القصص بالاطلانطيس) فساعدت على انتقال الزواحف الجبارة بين القارتين
كانت إناث الحيوانات قبل العصر الجليدي تضع البيض وتتركه على سطح الأرض أو الماء فينقف من تلقاء نفسه بتأثير الحرارة، وبذلك كانت الطبيعة تتولى عمل الأم. فلما حلت البرودة أصبح الرقاد على البيض وتعهد الصغار بالعناية أمراً لا غنى عنه. ونشأ للزواحف رداء حرشفي رفيع، وأصبح جلد الأمفيبيا لزجاً كما نشاهد الآن في الضفادع، ونشأت الطيور والثدييات مزودة بقلب ذي أربع غرف يساعد في إمداد الدم بقدر وافر من الأوكسجين ليحرق وقوده فيحتفظ الحيوان بالدفء ولا تنحط حرارته مع حرارة الجو كما هي الحال في ذوات الدم البارد وهي الأسماك والأمفيبيا والزواحف. وساعد الدم النقي في الطيور والثدييات على زيادة حجم المخ وارتقائه وتمت لها السيادة في العصر الجديد. أما الزواحف الضخمة المدرعة بدروع ثقيلة فقد قُضي عليها عندما حل البرد الشديد بعد ذلك
في نصف الكرة الشمالي لزوال الحرارة التي كانت تجعل بعضها ينقف دون أن ترقد هي عليه
وكان للعصر الجليدي أثره العظيم في عالم النبات أيضاً فقد انتزع سيادة النباتات الجرثومية المنحطة على المملكة النباتية، وأفسح مجال الانتشار والازدهار أمام النباتات المخروطية والنباتات المزدهرة، ولما حل الشتاء في نصف الكرة الشمالي أخلت معظم الأشجار الدائمة الاخضرار مكانها لنماذج تسقط أوراقها في الشتاء بصفة دورية فلا تفقد ما تحتويه من الماء وهي لا تستطيع تعويضه من الأرض في الشتاء
تطور الطيور والثدييات
تسلسلت الطيور من الزواحف بفضل ما حدث لها من التغايرات الملائمة ولاسيما فيما يختص بجهاز توليد الحرارة. وقد عثروا في صخور بافاريا على متحجر طائر في حجم الغراب كان يقطن أوربا قبل ملايين السنين، وهو يجمع بين خصائص الزواحف وخصائص الطير، وهذا (الطائر القديم) هو الحلقة (غير المفقودة) بين الزواحف والطيور
وحل عصر جليدي في شمال أوربا وأمريكا غطى نحو 7 ملايين ميل من سطحهما، فأرغمت الحيوانات والنباتات المحبة للحرارة على الزحف صوب الجنوب. وقد يكون البرد القارس في ذلك العصر هو منشأ هجرة الطيور المهاجرة كالسمان والعنز وعصفور الجنة كل شتاء من الشمال إلى الجنوب، كل عائلة منها إلى مكان معين تسلك إليه طريقاً ربما كانت هي الطريق الوحيدة التي عرفها أسلافها في ذلك الوقت، وعلى ذلك فليست (الغريزة) سوى العادات التي اكتسبتها الحيوانات تحت ضغط ظروف خارجية عنها
نشأت الثدييات الأولى الصغيرة الحجم في أواخر العصر الجليدي، وقد يكون منشأها في قارة تمتد حيث يوجد الآن المحيط الهندي وما حواليه، أو لعلها عبرت تلك القارة الضائعة من أفريقيا إلى أوستراليا، ثم غاصت تلك القارة تحت سطح الماء فأصبحت أوستراليا جزيرة منعزلة لا تستطيع أن تصل إليها الحيوانات المفترسة التي تطورت في باقي أنحاء العالم، وبقيت الحيوانات الثديية البدائية فيها متخلفة عن زميلاتها في الخارج مثل الكنجرو، وهو لا يبقى جنيناً في رحم أمه إلا زمناً قليلاً فأنها ليس لها من الأوعية الدموية ما تنقل به دمها إلى الجنين لتغذيته، لذلك تلده سريعاً وتلتقطه بفمها فتضعه في كيسها حيث يكون ثديها
المنخفض في متناول فمه
بقيت الحيوانات الثديية في أوستراليا على ما هي عليه تقريباً ولكنها في أفريقيا صعدت درج الرقي وانتشرت انتشاراً عظيما متجهة في انتشارها صوب الشمال. فلما كثر عددها ساد بينها كفاح هائل من أجل الحياة وأخذت ذراريها تتطور في شتى الاتجاهات، فمنها ما أكل اللحم ومنها ما عمد إلى الهرب من الحيوانات المفترسة فاتخذ له ملجأ تحت سطح الأرض كالخلد والأرنب، ومنها ما أخذت أشواكه تنمو وتصلب كالقنفذ، ومنها ما بقي يعيش فوق الأشجار كالسنجاب، ومنها ما هبط إلى البحر كالحوت، ومنها ما اتخذ الليل معاشاً كالخفاش. وانتشرت فصيلة الحيوانات الحافرية في القارات الأربع مستعينة بقوتها وضخامتها أو بدروعها وأنيابها وقرونها أو بسرعة عَدْوِها وحدة حاسة الشم عندها
تطور الإنسان
تسلسل الإنسان من ذرية حيوان شبيه بالقرد، ولكن ليس من ذرية أحد القردة الموجودة في العصر الحاضر، وإنما تتصل القردة الحالية بالإنسان في أسلاف مشتركة وجدت من 3 أو 4 ملايين من السنين
أخذت الحيوانات الثديية البدائية ترتقي وتتطور في اتجاه القردة، وانتشرت القردة في القارات الأربع (أي في مختلف أنحاء الأرض باستثناء أوستراليا)، وذلك من نحو 10 ملايين من السنين، ثم تطور قسم منها إلى القردة الشبيهة بالإنسان، وهي أربعة فروع هبط ثلاثة منها إلى الأرض عندما بادت الغابات في بقعة من آسيا بسبب ارتفاع الأرض وجفاف الهواء على الأرجح. ومن المقرر أن ترك الأشجار والإقامة على ظهر الأرض مما يساعد كثيراً على الترقي والتقدم؛ فإن هذه المعيشة تقتضي الملاحظة الدائمة لاتقاء الأعداء واقتناص الغذاء، وقد أصبحت الساقان الخلفيتان تقومان أكثر فأكثر بحمل الجسم، وأصبحت اليدان تستعملان في إمساك الأشياء، وأثرت كل هذه التطورات على نمو المخ مدة 4 ملايين سنة
وقد عثروا في إنجلترا على جمجمة يرجع عصرها إلى 400 ، 000 سنة. كما يدل على ذلك عمر الطبقة الأرضية التي وجدت مطمورة فيها، وقد قدر الثقات أنها جمجمة إنسان منحط جداً من حيث الذكاء
وقد استطاع العلماء بما عثروا عليه من الهياكل البشرية التي ترجع إلى عهد قديم جداً والأدوات الحجرية المتدرجة الرقي التي وجدوها إلى جوار تلك الهياكل - أن يكتبوا قصة الإنسان. وتتلخص في أن فرعا من متسلقات الأشجار بارح الأشجار وهبط إلى الأرض فارتقى فيها وأصبح يتخذ العصا سلاحا، ثم ارتقى وبدأ فيه العنصر الإنساني حين بدأ يقرع صوانة بأخرى ليكسب إحداهما سناً حاداً مشحوذاً
كان الإنسان في أقدم عهوده يعيش في جو دافئ بغير نار وملبس ومنزل، ثم حلت خمسة عصور جليدية تتخللها فترات دافئة، واضطر سكان أوربة قبل التاريخ في المرة الرابعة إلى سكنى الكهوف، ثم شرعوا يرتدون الجلود وتعلموا أن يشعلوا النار بالصوان. وعندما انقضى ذلك العصر الجليدي كانت قد ظهرت في أوربا بشرية من طراز جديد، فبدأ التطور الاجتماعي واضطرت الأسر إلى المعيشة معا، وسرت في الكهوف لغة غير ناضجة.
وعادت طبقة الجليد تكسو أوربا فعبر القوم الجسور الأرضية إلى شمال إفريقيا وآسيا الصغرى، وكان السكان أكثف ما يكونون بين الخليج الفارسي ومصر، وكانت وديان النيل والدجلة والفرات قد تكونت حديثاً بفضل هذه الأنهار، واحتدم الكفاح بين القبائل والعشائر من أجل هذه الوديان وطلعت من هذا الكفاح أولى المدنيات.
عصام الدين حفني ناصف
رسالة الفن
الفن الإسكندري
للدكتور أحمد موسى
لا نقصد بعنوان المقال تحديد الفن بعصر الإسكندر كما لا نقصد تحديده بمدينة الإسكندرية وحدها، وإنما المقصود بالفن الإسكندري أنه الإنتاج الفني في البلاد المصرية منذ تأسيس الإسكندرية سنة 332 ق. م إلى نهاية حكم البطالسة، ذلك الفن الذي عرف أمره وتأثر به فن العالم القديم
وبالنظر إلى قلة ما تبقى من هذا الإنتاج وإلى ضآلة المواد العلمية التي يمكن الاستناد إليها، وإلى ما بين أيدينا من الآثار البطليموسية فإن تاريخ الفن الإسكندري بمعناه الشامل من الموضوعات العسيرة التي تجعل البحث ناقصاً قابلاً للنقص في بعض نواحيه؛ إذا ما ظهر من نتائج الحفر وما قد يعثر عليه من النصوص ما يميط اللثام عن بيانات واستنتاجات تغير ما تقرر حتى الآن
على أنه يمكن القول بأن ما بقي من التماثيل وبعض الآثار يعطي ما يفيد في هذا المجال، ويمهد السبيل إلى معرفة المدى الذي وصل إليه أثر الفن الإسكندري في الفن الإغريقي أو الهيليني
ومما لا يقبل الشك أن مدينة الإسكندرية كعاصمة للبلاد أنشئت وشيدت على نمط رائع من حيث التخطيط العام للمدينة ومن حيث تنظيم شوارعها ومبانيها التي عملت لأول مرة في هذا القطر من الطوب بطريقة هندسية جديدة في نسقها جميلة في مظهرها، ولاسيما أن حوائط المباني كانت مغطاة من الداخل بلوحات من المرمر زخرفت بنقوش من المعدن. وهذا كله نتيجة للرغبة في التمدين والعطش نحو الأبهة
وكان شغف الأمراء من أبناء البطالسة وتقديس الناس للآلهة خير دافع إلى إقامة المعابد الهائلة بحوائطها المزخرفة بالنقوش والكتابات، كما كان سبباً في إحياء فن النحت والتصوير، إلى حد أن كانت بعض التماثيل تعمل من الذهب والعاج في غاية من الدقة والجمال.
وبطبيعة جو الإسكندرية الأقرب إلى الجو الأوربي والخليط الذي كان يعيش في تلك
المدينة من البطالسة والمصريين وغيرهما، كذلك وجود الفلاسفة المشتغلين ضمنا بالطب والجراحة فضلاً عما بعثوه في العقول بتعاليمهم التي تحض على النظر والدرس والتأمل إلى جانب مجموعة الكتب العظيمة بالمكتبة الخالد ة - في هذا المحيط وهذه البيئة نشأ الفنان الإسكندري محاطاً بما يوقظ فيه روح العمل والابتكار
ولعل خير مثل لذلك بقايا التماثيل ومنها رأس من البرونز يمثل امرأة مصرية تجلت على ملامحها مصريتها وحيويتها.
وكان للإنتاج الفني غير العمارة والزخرفة والنحت الواقعي اتجاهاً مثلياً رائعاً تراه في تمثال (النيل) المحفوظ بالفاتيكان في روما، والذي وصل منه أنموذج إلى هذه البلاد منذ أعوام. فإذا نظرت إلى صورته رأيت إلى أي مدى استطاع الفنان الوصول إلى ذروة الفن المعاصر لتلك الأيام، فإلى جانبه تتضاءل التماثيل التي عملت للأمراء ولهوميروس، والتي لا يمكن أن توصف إلا بكونها من أحسن ما أخرجه الفنانون
أنظر إلى صورة الإله (النيل) ولاحظ ما بدا على وجهه من عوامل التأمل والتفكير في مصير أولاده الستة عشرة (فروع النيل الكبرى والصغرى) وشاهد كيف يتكئ بكتفه على (أبي الهول) الرابض بجانبه، وقد اختار الفنان (لأولاد النيل) أوضاعاً شتى فظهر كل منهم مخالفاً لغيره، وفي هذا ما فيه من الغنى الفني
كذلك اتجه التصوير اتجاهاً جديداً فخرج من تمثيله لصور الأمراء والعظماء إلى تمثيل الحياة العامة والعادات الاجتماعية فرسمت على الحوائط مناظر صادقة في التعبير عن العصر الذي عملت فيه، وغير ذلك للمناظر الطبيعية كتلك التي صورت لنا أجزاء من المدينة محاطة بالغابات ذات الأشجار العالية، والتي نصبت بينها تماثيل بأوضاع دلت على حسن التنسيق والوصول إلى درجة فائقة في فن تخطيط المدن وهندستها، وهذا الوضع يذكرنا بالحالة التي كان الفن البومبياني (نسبة إلى بومبي) يسير عليها
على أن الفن الإسكندري، أو إن شئت فقل الفن المصري في عهد البطالسة، كان قصير العمر بالقياس إلى الفن المصري في العصور أخرى أو إلى الفنون الأجنبية، فعندما وصل الفن البرجاموني والفن في رودس إلى أوج عظمتهما حوالي منتصف القرن الثاني قبل المسيح، كان الفن الإسكندري سائراً نحو الهبوط؛ فانتقل إلى إيطاليا. وخير برهان على
ذلك أنه في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد شيدت في بمبي عمائر على نمط لا يختلف في الجوهر والمجموع الإنشائي عن ذلك الذي بني للمرة الأولى في الإسكندرية، حتى الزخارف التي عملت على حوائط هذه العمائر فإنها شملت ذلك الطابع الإسكندري المميز، والذي يقرر تأثرها بها أفصح تقرير
هذا فضلاً عن أن العارف بتاريخ الفن الدارس لأصوله يذكر جيداً أن المشيدات التي أنشئت في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، سواء أكان ذلك في منطقة كمبانيا أم في روما، وسواء فيما يتجلى على البناء المقدس للآلهة (بانتيون أجريبا) أو بناء مسرح بومبيوس أو قصر نيرون الذهبي كلها تدل على أنه لا مفر من الاعتراف بوجود أثر الفن الإسكندري فيها.
ظهرت بعد هذه المرحلة صور رائعة هي تلك التي رسمت على أغطية توابيت الموتى، والتي قصد بها الاستعاضة عن الأقنعة الذهبية التي كان المصريون الأقدمون يعملونها على الأغطية لتمثيل وجه الميت.
وكان ظهور هذه الصور تدريجياً ونادراً ومرتبطاً بنتائج الحفريات التي عملت في الفيوم منذ سنة 1888 ولكنه على جانب من الكثرة التي تسمح بالدرس والتأريخ.
وقد اخترنا ثلاثاً منها تعطي فكرة صحيحة عن قوة التصوير ودرجة إتقانه، فبالنظر إليها نلاحظ جمال الملامح وحسن التعبير ونبل الإخراج، إلى جانب ما يبدو على الوجه ويشع من العينين من تأثر نفساني عجيب.
وكان تصويرها بالألوان على خشب الجميز أو اللبخ على ما نظن وكذلك على قماش التيل - وكانت توضع على التابوت أو تثبت في غطائه مكان الرأس
وكانت الألوان معدنية مخلوطة بالشمع أو بصفار البيض أو بالغراء وأحياناً بهما معاً، يرسم بها (ماعدا ما كانت بالشمع) على سطح مدهون بالجبس أو الطباشير.
ويتضح من الكتابات التي نقشت على لوحات صغيرة ووضعت مع التوابيت أو في داخلها أو التي كتبت على بطاقات صغيرة من الخشب وثبتت إلى جانب العنق - أن أصحاب هذه الصور كانوا من الإغريق، وبالرغم من هذا فإنه لا يمكننا الارتكان إلى ذلك لمجرد علمنا بأنه حتى لو كان الإغريق قد تعودوا عادات المصريين في طريقة التحنيط والدفن
الخ، في القرن الثاني قبل الميلاد، فإنه يبعد كثيراً أن يكون أصحاب هذه الصور من الإغريق لاختلاف ملامحهم ولون شعرهم وتجعده ولون العيون فضلاً عن المجموع التكويني للرأس. وقد تكون هذه الصور بالرغم مما كتب عليها غير معاصرة للبطالسة.
ومهما يكن من شيء فإن عصر الفن الإسكندري مع قصره كان شاملاً لمدينة الإسكندرية بمكتبتها ومنارتها، وشاملاً لآيات من الفن لم يبق منها إلا القليل الذي مع قلته دل دلالة صريحة على أن الفن المصري في تلك المرحلة، وإن كان قد سار في اتجاه يلائم العصر الذي وجد فيه؛ إلا أنه أثر في غيره أكثر مما تأثر هو بالغير.
أحمد موسى
رسالة المرأة
المرأة اليونانية القديمة والتعليم العالي
للآنسة زينب الحكيم
التاريخ سجل يطوي فيه أسرار الأجيال. قلبت بين صفحاته عن بعض حالات المرأة اليونانية الغابرة، فوجدت كل معجب مدهش. . .
وفي الحق ليس من المستغرب أبداً أن وجدت سيدات من الدرجة الأولى في المواهب العقلية بين ناس امتازوا بالثقافة العالية كاليونانيين
وسافو الشاعرة اليونانية مثال من الأمثلة الخالدة لهؤلاء السيدات. لقد كانت ذات سطوة قوية على بنات جيلها، وظهر نتائج مجهوداتها الموفقة بين تلميذاتها الكثيرات، واشتركت السيدات برغبة في درس الشعر ونظمه. وشجعهن على الاستزادة من ذلك مناصرة عدد كبير لهن من مشاهير الرجال الغيورين على ترقية المرأة، فاستحسنوا أن تتعلم تعليماً عالياً وساعدوها على المطالبة بذلك بكل ما أوتوا من قوة
من هذا نرى أنه منذ العصور المبكرة نودي بتعليم المرأة وبالمساواة بينها وبين الرجل في اليونان
ففي القرن السابع قبل الميلاد، تشبث كليوبليس - وكان أحد حكماء اليونان السبعة - بأن ينال النساء التمرين العقلي الذي يناله الرجل، وأوضح مبدأه بتعليم ابنته كليوبلين التي صارت شاعرة ذات شهرة واسعة فيما بعد
وبيثجوراس الذي احتفل بإعلان مذهبه الفلسفي في القرن السادس بجنوب إيطاليا، أشار بوضوح إلى ضرورة المساواة بين الجنسين، واخترع خطة لتعليم النساء، كان من شأنها أن جعلتهن منتجات فيما يتصل بتدبير المنزل، كما جعلتهن ممتازات في الثقافة الفلسفية والأدبية
وأشار أفلاطون بضرورة تعليم المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وسمح بقبول النساء لسماع المحاضرات الجامعية
وفي أيام الإسكندر شجع تحرير المرأة بشكل قوي، ومن ذلك الحين نرى أن النساء اشتركن في دراسة جميع الفروع العلمية دراسة عملية
وفي الإسكندرية خاصة، تعلمت بنات الأساتذة العلماء، تعليمً عالياً، فواصلن دراسة الفلسفة واللغة، وعلم الآثار القديمة، وقد اشتهر منهن كثيرات
وفي الفترة اليونانية الرومانية، نادى بلوتارخ بتعليم النساء، وقد انتشر التعليم بينهن في أيامه إلى حد بعيد محمود
وأسباسيا وضعت (موضعة) تعلم عن البيان والفلسفة، كعمل تظهر به المرأة في المجتمع الأثيني، وأصبح الانتماء إلى جماعة نصيرات التعليم العالي بدعة سارية، حتى أن كثيرات من نساء الطبقات الراقية (الشريفة) شغلن أوقات فراغهن بقراءة الفلسفة والشعر، وحصلن على نوع من التعليم، وإن لم يكن شعبياً؛ فقد كان خوصياً من محاضرين فنيين
ميول النساء في ذلك العهد
ظل الكثيرون يعتقدون أن الشعر كان المجال الطبيعي للمرأة؛ يضاف إلى ذلك الفلسفة في الدرجة الثانية، إذ صارت الفلسفة الحرفة العامة التي أجدن تعلمها حينئذ. ولكن لعله لا يغيب عن ذهن القارئ والقارئة، وصف مدرسة سافو الشاعرة في التي أوى إليها الهيلينيات لدراسة الشعر والفن
إن جمال جزائر لسبوني الطبيعي، وحياة الطبقة الأرستقراطية المترفة، وتوقد ذكاء وحذق سافو نفسها، وحبها الخالص لصديقاتها الفتيات من بنات جيلها، كانت كلها مؤثرات قوية محبوبة فعالة لأهل زمانها
ليس من المستغرب إذن أن اكتسبت النساء حب الشعر وأولعن به، كما طبعن على الجاذبية لكل شيء جميل في الطبيعة في تلك البيئة؛ كما اكتسبن من مخالطتهن لفنانة مطبوعة، ومعلمة ماهرة مثل سافو أعلى الصفات
حتى لقد قيل: إنه وجدت ست وسبعين شاعرة من بين نساء اليونان القديمة، غير أنه لسوء الحظ لم يحتفظ لنا سجل التاريخ إلا بأسماء قليلات منهن، بلغ عددهن تسع شاعرات؛ لقبن بآلهة الشعر الأرضيات
عندما اتسع المجال أكثر أمام المرأة في عهد البطولة مهرت النساء في استعمال النباتات في فنون السحر، وفي تطبيب الجروح. وعندما أصبح الطب علماً، اشتغلت النساء بفنون منه. وظهر اختلاف أمزجتهن واستعداداتهن وميولهن الطبيعية، فمنهن من اشتغلت بالعلوم
الطبيعية، وعلم البيان والتاريخ واللغة، وأحبت كثيرات علم النقد، وانتشر بين بنات العلماء
ومن هذا يتضح فساد زعم من ظنوا أن مجال المرأة الطبيعي كان الشعر فحسب. ولعلنا نطمئن إلى هذا الحكم الذي يؤيده علم النفس المقنن في القرن العشرين
بنات الشاعرات
شاعرات اليونان اللائي سبقت الإشارة إليهن وشبيهاتهن، كوّن نهضة مباركة من بناتهن اللاتي ورّثنهن الميول القوية للفنون والآداب؛ فكان منهن الموسيقيات، والمصورات، والشاعرات، والفيلسوفات
والتاريخ وإن لم يدلنا على أنه وجد من بينهن ناحتات للتماثيل أو مكوّنات لها، يذكر الفضل في اختراع هذا الفن إلى فتاة من كرنثيا
والأثر إن صح يروي الآتي: كانت الفتاة كورا ابنة بوتادس على وشك أن تودع حبيبها، وربما كان الوداع الأخير، لأنه كان معتزماً القيام برحلة طويلة. واتفق أن خياله انعكس على الحائط، إذ كان الوقت ليلاً ويضيء المكان مصباح. فخطر للفتاة أن تحتفظ ولو بهذه الذكرى من حبيبها، فرسمت محيط خياله في حياء. فلما رأى والدها ذلك العمل، دفعته غريزته الفنية إلى أن يملأه لها بالصلصال؛ فكون تمثالاً لحبيبها، كان ناجحاً بعد حرقه في النار
المصورات
كانت لالاَّ من نساء مدينة سيزكس من أقد المصورات بالألوان، وكان من أخص صفاتها السرعة في العمل (مثل الملكة فكتوريا)، ومع ذلك لم يُنقص ذلك شيئاً من مزايا نتاجها، واعتبرت أول مصورة في وقتها حذقت الرسم بالألوان وعلى العاج. وكل ما لونته من الرسوم كان صوراً للسيدات
وأخبرنا بليني أنها صورت نفسها في المرآة وهي عجوز، وقد عرضت هذه الصورة في معرض نابلي
وعثر على صورة أخرى لها في بمباي، وتمثل فتاة تجلس على مقعد يقرب من الأرض وتنظر إلى تمثال، وفي يدها اليمنى ريشتها ممتدة إلى صندوق ألوانها وفي يسراها لوح
للتصوير. وثيابها منسدلة بأناقة حولها. ويحيط شعرها المتموج رباط لطيف يتدلى حول رقبتها وأكتافها، ويظهر على محياها مسحة تفكير وعلم تضيء أسارير وجهها الرقيق. فإذا صح أن هذه تمثل صورة (لالاّ) فإنها لابد كانت جميلة فاضلة
الفيلسوفات
نبغت كثيرات من بنات اليونان في الفلسفة والحرف العقلية في مدارس بيثجوراس
جاء في الأثر أن تأثير بيثجوراس في كارتون كان عظيماً جداً، حتى أن نساء المدينة أحضرن ملابسهن الثمينة وحليهن من عقود وأساور، إلى هيكل هيرا وأودعنها كمنحة للفضيلة العائلية. وآلين على أنفسهن منذ تلك الساعة أن يكون الحزم والحشمة رائديهن، ولن تكون الثياب الثمينة بعد الآن ما يتحلى به جنسهن، مستعيضات عن ذلك بالعلوم العالية والثقافة.
لعمري لقد كان قسما شريفا ومقصدا ساميا صنعت به المرأة اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الحق. وهل من شك في أن العامل الأول في أي نهضة يتوقف على المرأة؟ إذن عليها أن تبادر بوضع بذور كل نهضة لتأخذ بيد الإنسانية مسرعة.
إن آثار النساء اللاتي تشربن مبادئ بيثجوراس تمت عن بسمعة يغبطن عليها في العالم اليوناني كله، حيث كانت نتائج تعاليمه بالنسبة لهن، مبادئ سامية لأخلاق المرأة، وعناية تامة بواجبات الأسرة، والنهوض بوسائل المعيشة الصحيحة في الحياة ولاسيما تربية الأطفال، مما لا يزال بعض آثاره باقياً إلى الآن.
وقد كان شعارهن وهو تعبير يعني الاعتدال والاعتداد بالنفس والحياء، والفضيلة الزوجية، وبالاختصار: كل ما هو جدير بأن تكون عليه المرأة. وفيما يلي مثال مما يشير إليه ما ذكر:
زوج بيثجوراس
النساء اللاتي نشأن على مبادئ بيثجوراس على ما امتزن به من تلك الصفات العالية والقوى الإنسانية التي هيأن بها حياة ناجحة، لم تضارع إحداهن ثيانو ذات العقل الراجح زوج بيثجوراس فلقد مزجت الفضيلة بالحكمة مزجاً متناسقاً، بحيث مثلتها الآثار لها لا
كأول امرأة ممتازة فحسب، بل مثلتها كالنموذج الأول لنشأة المرأة الذكية الصحيحة أيضاً
نعرف عن حياة (ثيانو) بعض حوادث أخلاقية فقط، وهذا يجعلنا ننفذ إلى حقيقة أخلاقها. وأهمها الأقوال المأثورة التي قالتها في مناسبات خاصة:
سئلت مرة عما تتمنى أن تتميز به؟ أجابت ببيت من شعر هومر تمثلت به: (اكتراثي بالمغزل، واعتنائي بفراش زواجي)
وسئلت مرة أخرى: ما الذي تسأل عنه الزوجة؟
أجابت: أن تعيش خالصة لزوجها
وسئلت أيضاً: ما هو الحب؟ قالت: الحب هو غرام النفس الوالهة
حدث مرة أنها ألقت ردائها وظهرت ذراعها، فرآها رجل ودهش من جمال تكوينها، فقال: ما أجملها من ذراع! فقالت: ليس لنظرات العامة، وأسرعت بتغطيتها.
وقد استعار هذه الملاحظة بلوتارخ، وغيره من رجال الدين من بينهم كليمنت بالإسكندرية، كما استعارته المؤلفة البيزنطية أنّا وقد كننت ثيانو شاعرة وكاتبة ناثرة، وقد عثر على قليل من أعمالها الفلسفية والدينية يستدل منها على مقدار نمو مواهبها في التعليل، وفي مناقشة مسائل تربية الأطفال، ومعاملة الخدم، وكبت الحسد والعواطف الجامحة، كل ذلك بأسلوب مؤثر حساس لطيف
ولقد كانت أمينة إلى أقصى حد، في نشر مبادئ وتعاليم زوجها كمعلمة وكاتبة، أما موتها وظروفه فغير معروف
هذه صفحة من صفحات المرأة اليونانية الغابرة، فلعمري هل يكون نتاج أختها اليونانية الحديثة، يونانية عصر النور والراديو، والحديد والنار، أشبه بنتاجها أو أرقى منه؟ هذا ما نرجوه
زينب الحكيم
رسالة الشعر
من جحيم التقاليد
التي في الأصفاد!. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(إلى ملهمتي. . في قيود الرجعية الغاشمة التي لا تدين
بشرعة الحب العليا وتنكر على الهوى أزلية أنواره في قلوب
العشاق!)
يا قُدْسَهَا! هَلَّتْ كَوَحي الإلهْ
…
عَلَى نَبِيٍّ أَسْكَرَتهُ الصَّلَاهْ!
عَلَى جَناني وهْوَ غِرُّ الصِّبَا
…
أَذْهَلَ دُنْياهُ ضَبابُ الحَيْاهْ
على صَباحي وهْوَ طِفْلُ السَّنا
…
مِنْ وَحْشة الأَيام يَبْكي ضُحاه
حَيْرَانُ. لا أيْكٌ، ولا زَهْرَةٌ
…
ولا خَمِيلٌ يَتَحَسَّى شَذاهْ
ولا مُنَى تُشْرِقُ فيهِ، ولا
…
شعاعُ أحْلَامٍ يُنَاجي سَناهْ
حَفيفُ قُبلاتِ الْهَوَى عِنْدَهُ
…
لَمْ يَدْرِ حتَّى في اللّيالي رُؤَاه
ولذَّةُ الَّجْوَى وَأّسْمَارُها
…
لَغْوُ الأَحَاديثِ، ولَهْوُ الشِّفاه
كنْتُ فَناَء في دِيارِ الْبلَى
…
خاصَمَهُ الْبَعْثُ فألْقَى عَصاه
كنْتُ بُكاَء سَرْمَدِيَّ الأَسَى
…
أجْفَانُهُ لَمْ تَدْرِ ماذا شَجاه
كنْتُ أَنيناً في حَشا طائرٍ
…
شَلتْ أغانِيهِ أكُفُّ الرُّماهْ
كُنْتُ حَنيِناً غَامِضًا، في دَمِي
…
شِعْرٌ. وَلكنْ أَيْنَ منِّي لُغَاه؟
كُنْتُ وما كنْتُ ولكِن هوًى
…
ظَمْآنُ، لم تَرْو اللّيالي صَداه
ظَمْآنُ! لا خِلٌ، ولا صاحِبٌ
…
إلاَّ شَقاءٌ سابَقَتْني خُطاه
حًتَّى أهَلَّتْ فِتْنَتي، مِثلَما
…
حَيّا النَّدى زَنْبقةً في فَلاهْ
أَلْقَتْ عَلَى رُوحي شعاعَ المُنى
…
والسَّحْرَ، والشَّعْرَ، وخَمْرَ الْحَياه
عَذْراءُ لا مِنْ أيِّما آدَمٍ. .
…
نِسْبَتُها في الكَوْنِ فَنُّ الإلهْ!
وَجْهٌ. . حَرَامٌ يا فَمِي وَصْفُهُ!
…
ما كانَ خَلْفَ السِّترِ إلاَّ صَلاه
صَوَامِعُ الرُّهْبانِ أّلُقَتْ لهُ
…
سِرَّ الْقَرَابين، وَتَابَ الْعُصاه
لَهُ هُدُوءُ النَّبعْ في وَاحَةٍ
…
سَجْوَاَء لَفّ الطَّيْرَ فيها كَرَاه
ما نَوْرَة الْفُولِ؟ وما طِيُها
…
إنْ شَعْشعَتْ عِطرَ الْهَوَى صَفْحَتَاه
وَما لَها (بابِلُ) مَشْدُوهَةُ
…
(هارُوتُ) يَنْعَاهَا لنار الرُّقَاهْ؟
حُوريَّتِي مَرَّتْ بها أَمْ رَنَتْ
…
مِنْهَا إِلَى السِّحْرِ عُيونٌ سَواهْ؟
اللهَ لي. . . يا ثَغْرَها رَحْمَةً
…
فَالْكَرْمَ أَطْيافٌ لِتِلْكَ الشِّفَاهْ
صَوْتُكَ لَحْنٌ عَبْقَرِيُ الصَّدَى
…
أَفْنَى ولا يَفنَى بِسَمعِي صَداهْ
إِنِّي مِنَ الطِّينِ. . . فَطَهِّرْ فَمِي
…
كَيْمَا يُنَاغِيكَ بِدُنْيا هَواهْ
وَيَنْقُلُ التِّسْبِيحَ عَنْ خَافِقٍ
…
أَلْحانُهُ تُعْجِزُ جِنَّ الرُّوَاهْ!
مَنْ لَفَّ هَذا الحُسْنَ عَنْ عَبْدِهْ؟
…
وَمَنْ بِهذِي الأرْضِ عَنِّى زَوَاهْ؟
قَوْمُكِ يا آسِرَتي! مَا زَكا
…
عَنِّي لَدَيْهِمْ فِي العُلَا أَيُ جَاهْ
جَدِّيَ (فِرْعَوْنُ) لَدَى كِبْرِهِ
…
كَمْ أَطْرَقَتْ دُنْيا وَخَرَّتْ جِبَاهْ!
وَالْفَنُّ زَادِي وَعَفَافُ الهَوَى
…
أّقْدَسُ مَا حُمِّلَ يَوْمًا سُرَاهْ
هذا الرَّخيمُ الشَّدْوِ فِي أَنْمُلِي
…
نَايٌ يَرُوعُ الدَّهْرَ ضافي صِبَاهْ
مَا لِي يَدٌ فِي سِحْرِهِ. . فَاسْأَلِي
…
فسِرُهُ الْعَالِي بَعِيدٌ مَدَاهْ
مِنْ وَحْيِكِ انْهَلَّتْ أَسَاكِيبُهُ
…
وَمِنْ هَوَاكِ الْعَذْبِ أَشجَى بُكاهْ
إِمَّا تَرَنّحَتْ بِإِعْجِازِهِ
…
آلِهَةُ (الأوُلُمْبِ) خَرُّوا جُثَاهْ
مَاذَا؟! وَأَهْلُوكِ عَلَى غَفْلَةٍ
…
مَرُّوا بِوَادِي الحُبِّ صُمًا قُسَاهْ
لَمْ يَسْمَعُوا النَّجْوَى. . وَلَمْ يَرْحَمُوا
…
فِي حُسْنِكِ المَعْبُود نَارَ الشَّكاهْ
غَنَّتْ لَكِ الأَصْفَادُ شِعْرَ الأَسَى
…
وَالْعَابِدُ النَّائي يُغَنِّي لَظَاهْ!
محمود حسن إسماعيل
فلسطين
للأستاذ محمد الأسمر
سلوا الأرض ما تلكَ القنا والقنابلُ
…
وما (خط ماجينو)، وتلك المعاقل
أَرى عصرَنا عصرَ المجرّدِ سيفه
…
فسلْ بالظُبي عن كل ما أنت سائل
تبينتُ أنَّ الحق إن لم تُتح لهُ
…
بواسلُ يخشى ظلمها فهو باطل
لعمرك لو أغني عن الحق أنه
…
هو الحقُ ما قام الرسول يقاتل
ولم يلق عيسى وهو يدعو لربه
…
من الناس ما ساقت إليه الأراذل
فلا تحسبنَّ الحق ينهض وحده
…
إذا مِلتَ عنهُ فهو لاشك مائل
أقمهُ، وأسنده، ودعِّم بناَءه
…
وذُدْ عنه ذود الليث والليث صائل
ولا تُسندنَّ الحقَّ بالقول وحدَه
…
فإِنَّ عمادَ الحق ما أنت فاعل
من العقل ألا يطلبَ الحقَّ عاجزٌ
…
فليس على وجه البسيطة عادل
ولكن قويٌّ يشربُ الدم سائغاً
…
إذا نضبت يومَ الورود المناهل
أسودَ (فلسطينٍ) تحيةَ شاعرٍ
…
وكلُّ (فلسطين) أسودٌ بواسل
حللتمْ على الوادي المبارك، أهلّه
…
فأنىّ نزلتم، فالقلوب منازل
ذهبتمْ إلى المنفى كواكب أمةٍ
…
وعدتمْ كما عادتْ بدور كوامل
همُ أغمدوكم في السجون مناصلاً
…
فها أنتمُ عدتمْ وأنتم مناصِل
خرجتم يواقيت السجون وعدتمُ
…
يواقيت هولٍ بأسُه متواصل
وما أنتمُ إلا سيوفُ ملاحمٍ
…
وما حادثاتُ الدهر إلا صياقل
لقد جادلوكم بالسيوف ليالياً
…
طوالاً، وكان القولُ بالسيف قائل
وعادوا فقالوا فاوضونا، ففاوضوا
…
على حذر، لا يختلِ الحقَّ خاتِلُ
دَعوْكم لميدانٍ جديدٍ، جيوشُه
…
كلامٌ، وفيه اللفظُ للفظ قاتلُ
وكلكم، والحمد لله، فارسٌ
…
يدافع عن أوطانه، أو يجادلُ
أسودَ (فلسطين) ذياداً عن الحمى
…
وعن غابكم، لا يدخل الغاب داخل
فما عاش حرًّا من مشى في بلاده
…
وأمته قد طوقتها السلاسل
وما (سيشلٌ) عندي التي كنتم بها
…
ولكنّما دارُ الأذلاء (سيشل)
محمد الأسمر
قصائد في أبيات
للأستاذ محمود غنيم
ديك الصباح
قلت للديك ساعة صاحا
…
هل تغني لنا نشيد الصباح
قال: لا، بل نعيتُ يوماً راح
…
ومحاه من صفحة العمر ماح
الذئب
قلت للذئب أنت وحش ضَارِ
…
قال أظفاركم شأت أظفاري
أفعار أن يقتنص الذئب سخلا
…
واقتناص البعير ليس بعار
أفزع المرء كلَّ شاءِ وأبْلٍ
…
وأخاف الطيور في الأوكار
استغاث العقاب في الجو منه
…
واتقى النون شره في البحار
ولخير للشاة ناب وظفر
…
من شفار المدى وشيِّ النار
(مدرسة الأورمان)
محمود غنيم
دوحة الفرصاد
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
ولقد مررتُ بدوحة الفرصادِ
…
فشهدتُ ما فعل الزمان العادي
جفت نضارتُها. وصُوح نبتها
…
وتناثرت أوراقها في الوادي
فبكيتها، لا بل بكيتُ صبابتي
…
ورثيتها، لا بل رثيتُ فؤادي
يا دوحةَ الفرصاد غيرك البلى
…
وجرت عليك روائح وغوادي
أشبهتِ أعوادي التي نثر الأسى
…
أوراقها، واهاً على أعوادي
قد كنتِ مثلي في الربيع غضيرةً
…
أيامَ أوراق المنى أبرادي
فغدوتِ عارية فلا ثمرٌ ولا
…
ورق عليكِ ولا حَمَام شادي
أشبهتني حتى بكيتُ وإنما
…
يدري جوى الصديان قلب الصادي
يا قلب ليتك في النعيم وفي الأسى
…
أبدَ الزمان كدوحة الفرصاد
فقد يعود مع الربيع شبابها
…
لكنْ شبابُ العمر غير معاد
عبد الحميد السنوسي
القصص
راهب إيلياء
للأستاذ محمد سعيد العريان
على حدود الصحراء صوامع وبَيع، وكنائس وأديار؛ فيها قساوسة ورهبان نذروا أنفسهم لله أو نصبوا حبائلهم للمال؛ منهم برٌّ وفاجر، وناسك وداعر؛ وحواريٌّ من بقية السلف المؤمنين خاشع في محرابه، عاكفٌ على أسفاره، يترقب مَشرق الصبح بنفس راضية وقلب عامر؛ وآخرُ شيطانٌ في مسوح راهب، قد استمرأ المرعى في ظل البطالة، واستوطأ المقام في كنف الراحة، واستلذّ الحياة في الدَّير بين خمرٍ عتيق وقدٍّ رشيق وعودٍ وندامى!
وعلى ساحل البحر قلاع وحصون، وصياص ومعاقل، وجند من جند الروم قد رابطتْ على أهبة واستكملت السلاح والعدة!
وبين الصحراء والبحر من بلاد الشام يعيش شعب مرزوء، سلبه غزاةُ الروم وطنَه ومالَه، وسلبه الرهبان والقساوسة الدينَ والخلقَ وحرية الفكر والضمير!
وكانت قوافل التجار لا تنقطع بين الحجاز والشام
وكان يوماً قائظاً حين وفدت على الشام قافلة من التجار العرب، فأناخت جمالها على حدود الصحراء في ظل جدار قائم، تستجمّ لما بقي من الرحلة، وتنفض عن كواهلها غبار السفر الطويل في صحراء ليس فيها ظلٌّ ولا مأوى! وكان بينهم عمر!
فتًى آدَمُ طَوَال أصلعُ أقنى الأنف قويُّ الساعد بعيدُ ما بين المنكبين؛ في عينيه بريق ينبئ عن عزم وفتوة، وله نظرةُ الآمِر المطاع بين رفاقه وإن لم يبلغ العشرين بعدُ، وفيهم الكهول والأشياخ!
وبلغت القافلة حظها من الراحة فنهضت تستأنف المسير، فما كادت تمضي في طريقها خطوات حتى اعترضها واحد من الرهبان!
ووقف الراهب يتفرس في وجوه القوم برهة قبل أن يخطو إلى عمر فيضع يده على كاهله يختاره لما يريد من أمر!
وأيقن الركب أن لا قدرة لهم على عصيان الراهب فيما يريد، فخلفوا الفتى بين يديه ومضوا على وجوههم. . .
ولم يستطع عمر خلاصاً من يد الراهب، ولم يعرف لأي أمر يريده، فانقاد له. وبلغا الدير فدخل الراهب ودخل عمر. . .
وكان في الحوش كومة من تراب، وإلى جانبها مجرفة ومكتل؛ فتقدم الراهب إلى عمر يأمره:(يا فتى! هذا التراب تحمله من هنا إلى هناك. . . يجب أن تفرغ منه قبل أن أعود إليك. . .!)
ثكلتْك أمك يا عمر! ألهذا كانت رحلتك الطويلة في البادية الظمآنة من الحجاز إلى حدود الشام أياماً وأسابيع؟
وجلس الفتى يتحدث إلى نفسه مغيظاً محنقاً، لا يجد من كبريائه سبيلاً إلى الطاعة ولا طريقاً إلى الخلاص. ومضت ساعة وعاد الراهب مخموراً يتهالك من نشوته، وإن عليه لثوباً رقيقاً من حرير يشفّ ويَصف، ويفوح من أردانه عطر مُسكر!
ونظر الراهب إلى كومة التراب ما تزال في موضعها حيث كانت، وإلى جانبها المكتل والمجرفة، وإلى عمر ما يزال في موضعه واقفاً يتفكر. . .
ودنا منه الراهب وفي عينيه الغضب، فلطمه لطمة أليمة وهو يسبّ ويتوعَّد. . .!
هواناً لك يا عمر إن لم تأخذ بحقك ثائراً كما يثأر البدويُّ لعرضه المنتهك!
وهاجت كبرياء عمر فتناول المجرفة من قريب فأهوى بها على رأس الراهب فخرّ صريعاً لوقته ولم ينبس بكلمة!
(لك ما أردتَ لنفسك. . .!):
قالها الفتى العربي وهو يجمع عزيمته في رجليه فيقفز على سور الدير إلى الطريق لا يعرف أين ينتهي ولا أين يدركه الطلب!
ومضى على وجهه في المفازة الشاسعة عدْواً كالظليم لا يقف في طريقه شيءٌ من حفرة أو صخرة أو تلّ معترض، حتى انتهى إلى جدار قائم فأوى إلى ظله حتى تفئ إليه نفسه. . .
وأطلّ رأسٌ من نافذة ينظر. . . ثم انفتح باب الدير الذي أوى إلى جداره عمر؛ وخرج إليه راهب يسأله عن خبره. . .!
(من تكون يا فتى؟ وما جاء بك؟)
واستمع عمر إلى الصوت الذي يناديه فرفع رأسه ينظر؛ فإذا قسٌّ ناحل سقيم الجسد غارق
في مسح أسود، وعلى جبينه إشراق ونور وفي عينيه تواضع ورحمة.
أجابه عمر في صوت يختلج: (سيدي! عابر سبيل أضلَّ أصحابه فأوى إلى ظلك ساعة يستريح!)
سمع الراهب لحديث عمر ثم قال مبتسماً: (أحسبك لم تصدقني يا فتى؛ فإن في عينيك بريقاً ينبئ أنك هارب مذعور!)
ازدرد الفتى ريقه، واستطرد الراهب:(لا عليك؛ إن عندي مأوى صالحاً وطعاماً!)
وقاده من يده إلى الدير وأغلق الباب وراءه. . . . . .!
جلس عمر إلى مائدة شهية فأكل وشرب؛ والراهب بازائه يحدق فيه لا يكاد يطرف جفنه، وبينه وبين نفسه حديث طويل.
فلما فرغ من طعامه جلس إليه يتبادلان الحديث، حتى أنس عمر وثابت نفسه، وصمت الراهب برهة ثم عاد ينظر في وجه الفتى وهو يقول:(أئنك لأنت. . .؟)
وطارت نفس عمر، وتوزّعتْه الظنون، واستمر الراهب في حديثه:(. . . ألا إنه ليس في هذا البلد من هو أعلم مني بعلم أهل الكتاب؛ فإني لأكاد أوقن أنك الشخص الذي أعني: ستدول دولة الروم في الشام على يدي فتى مثلك؛ ويخفق عليها لواء دين جديد!)
لم يفهم عمر كلمة مما قال الراهب، ولكنه استمر يستمع له مدهوشاً ذاهلاً، وفجأة سأله الراهب:(ما اسمك يا فتى؟)
قال: (. . . عمر بن الخطاب، من بني عديّ!)
وهب الراهب واقفاً وهو يقول: (والله ما خدعتني فراستي. إنك لأنت هو؛ فهل تعاهدني. . .؟)
ثم أتى بقرطاس وقلم فدفعهما إلى عمر قائلاً: (اكتب. . . اكتب أنني جارٌ لك، لا عدوان عليّ في مالي ولا في نفسي يوم يئول أمرها إليك. . .!)
وفغر الفتى فاه دهشة لما يرى وما يسمع؛ ثم توجه إلى الراهب يقول: (سيدي، لقد أكرمتني وألطفتني ما لا مزيد عليه، فلا تسخر مني بعد!)
قال الراهب: (أظننت؟ لعمر الحق ما عنيتها، ولا عليك من شيء أَن تكتب؛ فإن كان الذي أتوقع فقد فعلت، وإلا فلن يضيرك مما تكتب شيء!)
وتناول عمر القلم فكتب ما أملى عليه الراهب ثم دفع إليه الكتاب. . .
وعاد الفتى إلى أهله، يعيش عيش المترفين من فتيان العرب، لا يعنيه من أمرٍ شيء، إلا ما يعني غيره من شباب مكة من المنافرة والمفاخرة وانتهاز سوانح اللذات!
ومضت سنوات، ونسي الفتى ما كان من أمره في الشام!
وبعث الله محمداً نبياً يدعو إلى الحق وإلى سبيل الرشاد؛ فآمن من آمن، وأنكر دعوته من أنكر؛ وكان عمر أشد أعداء محمد حرباً عليه وعلى صحابته، فما أمكنته الفرصة مرة برجل من أصحاب محمد إلا ناله بما يكره من الأذى والمهانة!
ومضت ست سنين منذ بعث الله محمداً بالحق قبل أن يسلم عمر بن الخطاب!
وراحت جنود الإسلام تغزو الشرك في دياره، فما وطئت بلداً إلا أعلت كلمة الله ورفعت راية الإسلام. ومضى المسلمون في جهادهم يفتحون الأمصار ونورهم يسعى بين أيديهم؛ فما انتقل محمد إلى ربه حتى دانت الجزيرة العربية كلها وغمرها نور الإسلام
وتولى عمر إمارة المسلمين وجنودُ الإسلام يومئذ على حدود الشام؛ فمضى قُوّادُه إلى غايتهم ويبشرون بالدين، حتى تم فتح الشام على أيدي أبطاله: خالد، وأبي عبيدة، وعمرو، ويزيد بن أبي سفيان. وخلصت بلاد العرب من أبناء غسان - من عسف الروم وبطش الرَّهَابين، لتعود جزءاً من الدولة العربية المسلمة التي يقوم على شئونها عمر!
وتخفف أهل الشام من أثقال الحكم الغابر ليعودوا إخواناً متحابين ليس لأحد على أحد يد ولا منة؛ وانزوى الرهبان في أديارهم لا يربطهم بالجماعة رابطة إلا ما يدفعون للأمير العربي من الجزية تأميناً لأنفسهم ولما يملكون من مال اجتمع لهم على الأيام مما اغتصبوا من أفواه الجياع باسم الدين! فأيُّما رجلٍ منهم حدّثتْه نفسه بالعصيان والتمرُّد، ردُّوه بأسيافهم إلى الطاعة وأجلَوْه عن صومعته ليجعلوها مسجداً من مساجد المسلمين؛ فلهم حرية العبادة وحرية المقام ما التزموا حدودهم التي ضربها الإسلام عليهم. . .
وتم الأمر للعرب في بلاد الشام، فكتب أمير الجند أبو عبيدة إلى عمر يدعوه ليعقد العهد بين أهل الشام والعرب الفاتحين ويكتب لهم به. وقدم الركب الحجازي يقدمه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ حتى أناخ رواحله في بيت المقدس. . . وجلس عمر ذات يوم بين أصحابه وقادة جنده يشرع لهم ويبادلهم الرأي والمشورة؛ فإذا راهب مقبلٌ من بعيد إلى
حيث يجلس هو وصحابته؛ فما إن تبينه عمر مقبلاً عليه حتى عرف؛ فارتد بفكره إلى الماضي يذكر تاريخاً بعيدا وذكرى مضى دونها بضع وعشرون سنة؛ فأطرق برأسه متأثراً وهو يقول في همس: (جاء ما لا طاقة عليه لعمر!) ثم رفع رأسه وفي عينيه بريق عجيب، وقد تغشَّته الذكرى وعادت به إلى ماضيه تنشره أمامه صفحة صفحة منذ كان، وكان، وكان. . .
ودنا الراهب الشيخ من مجلس الأمير فحيا ووقف وفي يده صحيفة مبسوطة، فتناولها الأمير وجعل يقرأ:
(هذا عهد من عمر بن الخطاب إلى راهب إيلياء؛ له ما لأصحابنا وعليه ما عليهم، لا نظلمه ولا نخذله، ولا نفرض عليه ما لا طاقة له به، وله ديره وما ملك. . .!)
وهم الراهب ليتحدث ويشرح أمره فابتدره عمر: (حسبك حسبك؛ إن لك ذمة في عنق كل مسلم وكل عربي، إن لم يؤكدها هذا الصك المكتوب أكدها شرف العربي وخلق المسلم!)
ثم التفت إلى عامله أبي عبيدة قائلاً: (ذلك جاري، فله عليك الأمان والذمة، لا يعرض له أحد بسوء ولا يناله بما يكره!)
وتلاشت آخر كلماته في بحة راعشة، وغامت عيناه بدموع التأثر. ثم نهض رافعاً رأسه وهو يقول في كلمات عميقة النبر بليغة الأثر:
(حيثما يرفرف لواء الإسلام فليس ثمة إلا العدل والوفاء والرحمة. لا يعرف الفاتح العربي غطرسة الحاكم ولا جبروت المنتصر؛ ولاشيء بين الحاكم والمحكوم إلا دين الله ووشائج الإنسانية!)
(شبرا)
محمد سعيد العريان
البريد الأدبي
الفنانون المصريون
لما كنت في جبال الدولوميث صيف السنة الماضية لقيت نفراً من مهرة
الفنانين الإيطاليين. فحدثوني عن القسم المصري لمعرض البندقية
الواحد والعشرين وكان حديثهم من أعذب ما سمعت إذ أقروا أن
دلائل الفن المصري الحديث من الطراز الأول. ولما انحدرت من
جبال الدولوميث إلى سهول إيطالية لم أر بداً من الذهاب إلى البندقية
فوصلتها في يوم يكاد فيه الهواء يصل إلى الرئة: حرّ أسواني وثقل في
الجو ثم بعوض فتّاك
إن القسم المصري في معرض البندقية كان شيئاً عظيماً حقاً. فلم أفرغ من تأمله حتى بعثت إلى (الرسالة) بمقالة مسهبة وصفت فيها المعروضات وعللت تقدم الفنانين المصريين. وإذا المقالة لا تنتهي إلى (الرسالة) عفا الله عن البريد
وليعزّ عليّ أن أهمل ذلك القسم المصري، إلا أني أصبحت أرى معروضاته على ضوء ضئيل أو كما يقول المصورون أنفسهم في ضياء مظلم ومما يزيد في أسفي أن هذا القسم عُرض ثانية في فندق الكونتيننتال في القاهرة وأنا لم أحضرها بعد
فهل يؤذن لي أن أكتب من الذاكرة؟
أذكر من الصور تلك التي عرضها محمود سعيد وهو مصور يحقُ له أن ينافس كبار زملائه من الفرنجة. ويمتاز سعيد ببثّ الحياة الزاخرة في نواحي صوره وبالإتقان من غير تكلف وبالتأليف الجامع المدفون في اللمحات والإشارات كأنه نغمات تنسجم على وزن لا يبلغ الأذن. ثم إنه أخذ يفلت من تأثير روبرندت وروبنس وحول أنظاره إلى الفطريين أمثال فان إيك إلا أنه يصب في ألواحه ما يحس به خاصة وما يضطرب في الطبيعة المصرية. وله أداء تعبيري يدعوك إلى الروية وطلب المزيد. وإنك لتلمس هذا أمام صورتين له على وجه التخصيص هما: فتيات بحري والجزيرة السعيدة.
وأذكر من المنحوتات تمثالاً لأحمد عثمان يبرز فتاتين خارجتين إلى النزهة فيما أظن. والتمثال إلى الطريقة الوصفية الدقيقة. إلا أن الدقة فيه غير مباشرة، ومعنى هذا أن التفاصيل لا تؤدى على حالها المنظور بل على حالها المتخيّل. وهذا أسلوب في الأداء عرفه قدماء المصريين. وجمال هذا التمثال من جانب الصدق الذي يفيض من نواحيه ثم من جانب قوته التزيينية
وهنا أحب أن أعلن أن الفن في مصر الحديثة سبق الموسيقى والرقص والشعر حتى النثر لأنه بنجوة من الرأي العام لانصراف الجمهور عن مظاهره، والرأي العام عندنا يكره الوثبات، ولأنه غير خاضع لسلطان التقاليد والمنقولات إذ التصوير في الإسلام لا يعدو جانب التزويق، ولأنه نهض أول ما نهض على قواعد الفن الأوربي وحده فلا نزاع ولا شقاق ولا تقديم رجل وتأخير أخرى. أضف إلى كل هذا أن أصحابه أدركوا أن غاية الفن الصحيح طلب الطرافة من ناحيتين: الأولى بالانطواء على النفس والثانية باستلهام ما يحيط بك. فهذه تخرج لكل بلدٍ فنه الموقوف عليها لأنه مستمد من سمائها وأرضها سليقة أهليها، وأما تلك فترسل في ألواح كل فنان معنىً وتنفث سراً.
بشر فارس
من مآسي الحياة
سيدي الأستاذ الزيات
لقد وعدت أن أقص عليك ما أعلم من مآسي الحياة، ولكني رأيت ألاّ أفي بوعدي رحمة بالرسالة وقراء الرسالة
إن حبي للرسالة يمنعني أن أحملها من المآسي ما تخر تحته الجبال.
مآس سحقت قلوباً كانت قوية، وأذلّت نفوساً كانت عزيزة أبيّة، وهدمت حياة كانت حافلة بالآمال والأعمال.
فهل في استطاعة الرسالة احتمال كل هذا؟
أما كفاها ما حمّلها صاحبها من مآس وهي لا زالت طفلة في السابعة من عمرها؟ لقد رأيت الدموع تجري بين سطورها، وسمعت أنّات القلوب المحطمة بين صفحاتها، فهل أزيدها
ألماً وأحمّلها عصارة القلوب المنسحقة؟.
رحمة بالرسالة يا سيدي فهي - على الرغم ما تحمل من علوم وآداب عالية - لا زالت رقيقة صغيرة نضرة. وأني لأشفق عليها من وصف ما وصل إليه الإنسان من وحشية وقسوة!!
نعم يا سيدي الفاضل (إنه لا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب ما هو أمضّ لوعة وأشد روعة من (فتون وجنون)
لا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب مآس هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. وفي خبايا الغيوب آلام تضعف عندها الألفاظ وتمتنع عنها أقوى المعاني
وفي طوايا الحجب ضحايا. . .
ليت رحمة الله تدركهم فيذوقوا نعمة الموت! حتى الموت امتنع عنهم
وهل هناك أشد بؤساً من قوم كل أملهم انتظار الموت؟
لا تشك الدهر فيما يأتي به من شقاء، ولا تلم القدر بما يجيب من دعاء، فإن قلب الإنسان أشد قسوة وأمر تعذيباً من كل هؤلاء. بين الناس من يحملون قلوباً كالرحى. ولقد فكرت مراراً كيف يقدر الإنسان أن يتفنن في تعذيب إنسان آخر وخصوصاً إن كان أقرب الناس إليه!! ولكني عجزت عن الجواب.
أراني يا سيدي الفاضل تماديت في الحديث أكثر مما كنت أود
وأخشى إن أنا استرسلت في الكتابة أن أكشف عن خبايا مآس ربما كان سترها أفضل، وأعيد ذكرى آلام ربما كان نسيانها أوفق، فعفواً سيدي ومعذرة إن أنا لم أنجز وعدي. فليس في استطاعتي أن أقص عليك. فربما كان الصمت أبلغ من القصص.
ا. ش. ف
هل عبد الإسرائيليون أبا الهول؟
جاء في العدد (288) من مجلة الرسالة الغراء أن كلمة (أبو الهول) محرفة عن كلمة (بوحول)، وهي لفظة إسرائيلية معناها (مكان حول) و (حول) إله محلي في فلسطين، فلما نزل الإسرائيليون أرض مصر أقاموا بجوار أبي الهول، وعبدوه بدلاً من أحد آلهتهم، لما
بينهما من تشابه
ولاشك أن هذا ينافي ما هو معلوم من تاريخ الإسرائيليين، لأنهم لم يكن لهم إله بفلسطين قبل هجرتهم إلى مصر يسمى (حول). فإن الذين هاجروا منهم إلى بلاد هم: يعقوب وأولاده، ويعقوب هو إسرائيل، وإليه ينسب الإسرائيليون. وقد كان هو وأولاده يعبدون الله تعالى قبل هجرتهم إلى مصر، وبعد هجرتهم إليها كما هو معلوم من إجماع الكتب المقدسة وغيرها. ولا يصح أن يعدل عن تواتر التاريخ بهذه المناسبات اللفظية التي ترجع إلى توافق اللغات وتشابهها، ولا يمكن أن يؤخذ منها تلك الأمور إلى تنافي الحقائق التاريخية
والمعروف أيضاً أن الإسرائيليين لما هاجروا إلى مصر نزلوا بأرض جاسان، وهي في مديرية الشرقية الآن، وقد أقاموا بها إلى أن أخرجهم فرعون موسى منها
فإذا صح أن قوماً من فلسطين نزلوا بجوار (أبو الهول) وعبدوه. فإنهم يكونون من الفلسطينيين الوثنيين لا من الإسرائيليين الموحدين، وقد كانت فلسطين جامعة للفريقين
وإذا صح أن اسم (أبو الهول) في الهيروغليفية هو: (حرأم آخت)؛ ومعناها: (هوراس الذي في الأفق). فإن الأقرب أن يكون تحريف ذلك الاسم عن (هور). لا عن (بوحول)، وإضافة لفظ الأب إلى أسماء:(الأعلام) شائعة في العامية المصرية إلى الآن، وهذه التسمية من وضعها، وقد ذلك الضم في كتب مؤرخي العرب باسم (بلهيت) أو (بلهوية)
عبد المتعال الصعيدي
تمثال مصري قديم يخرج عن مصر
نشرت بعض الصحف نبأ عن تمثال مصري معروض على متحف متروبوليتان في الولايات المتحدة لشرائه، وقالت إنه أخرج من مصر خلسة. وقد قالت مصلحة الآثار المصرية أنه لأمير مصري استخرج من حفائر دهشور حول هرم الملك بيبي من الأسرة السادسة، وكان يقوم بالحفائر في تلك المنطقة مسيو جيكييه رئيس البعثة الفرنسية. والمفهوم أن هذا التمثال أرسل من مصر قطعاً صغيرة ثم أعيد تركيبه في أمريكا وعرض للبيع فقدر له مبلغ 1500 جنيه مصري ثمناً وقد أرسل متحف المتروبوليتان الأمريكي إلى مصلحة الآثار المصرية خطاباً يعرض عليها فيه شراء التمثال بهذا المبلغ فطلبت إرسال
صورة له للاطلاع عليها
وتبحث مصلحة الآثار باهتمام في هذه الأيام الطريقة العلمية لمنع تسرب الآثار المصرية إلى الخارج، وقد اشترطت أخيراً على هذه البعثات وجوب وضع فني مصري في كل بعثة لمنع أمثال هذه الحوادث
أعظم مجهر في العالم
حضر ولي عهد بلاد السويد في 7 يناير تجربة الميكروسكوب الكهربائي الذي يكبر حجم الأجسام الدقيقة والذرات مائة ألف مرة
وإذا تصورنا أن الميكروسكوب العادي قد لا يتجاوز في تكبيره خمسة آلاف ضعف، أمكننا أن نتصور عظمة هذا المجهر الذي سيكون له أعظم شأن في الكشف الطبي والعلمي والفني
والمخترع لهذا الميكروسكوب العجيب العلامة سيجباهو المعروف في جامعة أويسالا والذي منح جائزة نوبل للعلوم الطبيعية
ويقال أن البروفسور سيجباهو استعمل مجهره العجيب على أساس الأشعة الكاتوديكية بدلاً من الأشعة الكهربائية العادية
ونحن إذ نسجل هذا الخبر ندعو الله أن السبيل لأحد المصريين أو أبناء الشرق أن يخترع اختراعاً أو يكشف اكتشافاً يكون له دوي عالمي حتى يلتفت العالم العلمي إلى بلاد تكثر من ذكر العبقرية وذكر النبوغ دون أن يكون من بين أبنائها من يمكن إطلاق إحدى الصفتين عليه بجدارة واستحقاق
مصلحة للآثار العربية
كانت النية معقودة في وزارة المعارف المصرية على ضم دار الآثار العربية إلى إدارة الآثار الإسلامية وإنشاء مصلحة بهما معاً
وقد رفعت مذكرة إلى مجلس الوزراء بهذا الشأن، والمأمول بعد هذا الضم أن يتم العمل في ترميم الآثار والمساجد الإسلامية التي لا يزال بعضها مهملاً مع كونه هاماً أو على جانب من الجمال الفني
وقد قامت إدارة الآثار الإسلامية بمجهود جبار مع كونها كانت إدارة؛ فلا يبعد أن يتضاعف مجهودها إذا ما أصبحت مصلحة مستقلة ذات ميزانية كبرى
توليد السماد من الهواء
من المسائل التي تهتم بها الآن مصلحة التجارة والصناعة بحث كشف علمي جديد كشفه أحد الأمريكيين وسجله لدى حكومته
وخلاصة الكشف أنه يمكن توليد السماد من الهواء بطريقة خاصة تجمع بين غاز الأكسجين وغاز الأزوت بعد تسليط أشعة خاصة هي وسط بين أشعة أكس وأشعة الألترا فيوليت. وقد أوضح المكتشف في تقريره إلى مصلحة التجارة والصناعة المصرية بأن طريقته أقل نفقة من غيرها، ولذا أرسلت الوزارة المصرية إلى مفوضيتها في واشنطون طالبة زيادة الإيضاح والبيانات عن هذا الكشف العلمي الذي قد تستفيد منه مصر إذا ما اتضح نفعه
الحالة الاقتصادية في تونس
كثر الحديث عن تونس منذ أسابيع بالنظر إلى الاقتراحات الإيطالية التي ستتقدم بها الحكومة إلى الجمهورية الفرنسية كما كثر اهتمام الشرقيين بهذا القطر الشقيق. ولعل في ما نذكره عن حالة تونس من الناحية الاقتصادية ما يجعلنا نفهم بعض الشيء الدافع لإيطاليا إلى الاتجاه لهذه المنطقة الخصبة
مساحة الأراضي المزروعة قمحاً 1 ، 100 ، 000 فدان
مساحة الأراضي المزروعة المغروسة عنباً 31 ، 100 فدان
محصول القمح في السنة 3 ، 000 ، 000 قنطار
محصول الشعير في السنة 3 ، 000 ، 000 قنطار
محصول الشوفان في السنة 500 ، 000 قنطار
محصول النبيذ المتحصل من الكرم 70 ، 000 ، 000 لتراً
عدد أشجار الزيتون 16 ، 000 ، 000 شجرة
ينتج منها زيت قدره 500 ، 000 لتر
وفيها يبلغ طول الطرقات المعبدة 6000 كيلومتر
وطول السكك الحديدية 3000 كيلومتر
وعدد موانيها يبلغ 21 مرفأ
منها من الدرجة الأولى 4 مرافئ
تبلغ حركة التجارة في أولها وهي صفاقس 3 ، 000 ، 000 طن
وفي الثانية وهي تونس 1 ، 000 ، 000 طن
وفي الثالثة وهي بنزرت 450 ، 000 طن
وفي الرابعة وهي سوس 420 ، 000 طن
وقاية آثار المتحف المصري من الغارات الجوية
المعروف أن المتحف المصري يشمل أغنى مجموعة أثرية مصرية في العالم أجمع، ولذلك كان من ضمن الأعمال الهامة التي درستها الحكومة المصرية النظر في أمر وقاية الآثار في المتحف المصري عند حصول غازات جوية
وقد ذهب الخبير البريطاني في مصلحة الوقاية من الغارات الجوية إلى مصلحة الآثار لمعاينة الأماكن والمخازن ذات القبو التي يمكن اعتبارها صالحة لهذا الغرض واطلع الخبير على رسوم خاصة بإنشاء مبان أخرى
ويهمنا من نشر هذا الخبر أن نوجه عناية الحكومة إلى التفكير أيضاً في وقاية الآثار العربية لأنها إذ لم تكن قديمة قِدم الآثار المصرية فإنها لا تقل عنها شأناً
مستقبل الثقافة في مصر
أخرج صديقنا الدكتور طه حسين بك كتاباً قيماً في جزءين عالج فيه مستقبل الثقافة في مصر بمعاهدها المختلفة. وقد أرسل إلينا الدكتور زكي مبارك بحثاً ضافياً عنه سننشره في العدد القادم
بين القديم والجديد
أرسل إلينا الأستاذ محمد أحمد الغمراوي مقاله الثاني في الرد على (قارئ) في مسألة الأدب بين القديم والجديد فاضطررنا لضيق الوقت أن نؤجله إلى العدد المقبل
جمعية علمية تعمل على نشر الأدب العربي
علمنا أن الجمعية العلمية الفرنسية التي وجهت عنايتها منذ إنشائها إلى نشر الآداب القديمة والحديثة، قد اتجه تفكيرها إلى إحياء ما تركه العرب من تراث أدبي، مع توجيه نصيب من الجهود إلى الأدب العربي الحديث لإعطائه حقه من العناية والدراسة
ومما وقفنا عليه في هذا الصدد أن فريقاً من علماء تلك الجمعية اعتزموا زيارة مصر في الأيام القريبة المقبلة للاتصال بكبار رجال الأدب فيها، تمهيداً لترجمة بعض المؤلفات الأدبية القديمة والحديثة ونشرها في فرنسا
ومما يجدر بالذكر أن هذه الجمعية قد نشأت بعد الحرب الكبرى، وبدأت جهودها التي لا دخل للهيئات الرسمية فيها، بنشر الآداب اللاتينية بعد ترجمتها ترجمة جديدة، فأحدثت بذلك ثورة فكرية في البيئات الأدبية والعلمية، لم تتأثر بها فرنسا وحدها وإنما تعدت حدودها إلى الممالك الأخرى
مشروع جامعة السودان
من أنباء الخرطوم أنه منذ صدور التقرير الضافي الذي وضعه اللورد دي لاوار عن التعليم في السودان، ومصلحة المعارف السودانية تبذل جهدا لتحقيق أمل السودانيين في إنشاء جامعة للسودان على نحو الجامعة المصرية
وقد كتبت بعض الصحف تشك في إمكان قيام مثل هذه الجامعة لعظم ما تحتاج إليه من تكاليف لا تتحملها الميزانية السودانية. ولكن المتصلين برجال المعارف في القطر الشقيق يقولون إنهم جادون كل الجد، في العمل على تنفيذ مشروع الجامعة السودانية
ويظهر أن الجامعة الجديدة سوف لا تستند في مواردها إلى المالية السودانية فقط، لأنها في الحقيقة ليست تنفيذاً للأمل السوداني المتواضع، بل تنفيذاً لسياسة عليا، يرجى من ورائها أن ينشأ هناك مركز علمي كبير يحمل الثقافة إلى الجزء الأفريقي من مستعمرات التاج البريطاني، وقد أشير إلى هذا الغرض صراحة عند إرسال بعثة دي لاوار