الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 29
- بتاريخ: 22 - 01 - 1934
من أحاديث العيد.
. .
للدكتور طه حسين
ابتسم الصبح فابتسمت معه الثغور، وأرقت الشمس فأشرقت معها الوجوه وغنت الطير فتغنت معها النفوس بالآمال والأماني وبالأهواء والميول وتغنت معها نفوس أخرى بالأحزان اللاذعة، والآلام الممضة، والعواطف التي تفطر القلوب وتسفح الدموع. وأندفع قوم إلى السرور العريض، واندفع قوم آخرون إلى الحزن العميق، وتردد قوم بين هذا وذاك يأخذون من كليهما بحظ معتدل، ويؤلفون لأنفسهم منهما مزاجاً لا هو بالمشرق المبتهج ولا هو بالمظلم القاتم، وإنما هو شئ بين ذاك، فيه مكان للذة والأمل، وفيه مكان للألم والذكرى. وأضطرب الناس أيام العيد بين دور الأحياء ودور الموتى، يتحدثون إلى أولئك ويفكرون في هؤلاء.
وكثير من حديث الناس الأحياء، وكثير من حديثهم عن الموتى، خليق أن يسجل ويتخذ موضوعاً لألوان مختلفة من الأدب والفن. ولكن هذه الأحاديث تقبل مع أيام العيد، وتذهب معها كأنها لم تكن. تترك آثارها في نفوس الناس ولكنها لا تترك آثارها فيما ينشئون ويكتبون. لأنهم لا ينشئون ولا يكتبون، ولأنهم إن أنشأوا أو كتبوا فقلما يقفون عندما يشعرون أو يجدون، إنما يلتمسون موضوعاتهم في السماء حيناً، وفي السحاب حيناً، وبعيداً عن حياتهم إثما. فأن مسوا حياتهم فهم لا يمسون إلا ظاهراً منها، وهم يمسونه في رفق أقرب إلى الجدب الموئس منه إلى الخصب الذي يحيي النفوس ويغدو القلوب.
أما أنا فقد كنت أتحدث إلى نفسي وإلى أصدقائي في أيام العيد أحاديث مختلفة، منها الباسم ومنها العابس، فيها الجد وفيها الهزل. ولكني كنت أحتفظ لنفسي بأشد هذه الأحاديث مرارة ولذعاً. لأني أعلم إن الناس يكرهون في أيام العيد وفي غير أيام العيد مرارة الحزن ولذع الألم. وأشهد لقد استقبلت يوم العيد بحزن عميق لأني استعرضت صوراً تعودت أن أستعرضها كلما أقبلت الأعياد، وفكرت فيمن أزوره ويزرني، وفيمن أسعى إليه ويسعى إلي، فإذا كثير من هذه الصور قد محي من صفحة الحياة ولم يبق له إلا رسم في صفحة القلب، قوي عند قوم، ضعيف عند قوم آخرين. محيت هذه الصور من صفحة الحياة فلن أسعى إلى أصحابها، ولن يسعى أصحابها إلي، إما لأن أصحابها قد نقلوا من هذه الدار التي
نضطرب فيها بالألم والأمل إلى دار أخرى، لا تعرف الحركة ولا الاضطراب، وإما لأن أصحابها ما يزالون يضطربون معنا في هذه الدار، ولكن ظروف الحياة وأسباب العيش قد نقلت أهواءهم عنا إلى قوم آخرين ليسوا منا ولسنا منهم الآن في شئ، لقد كنت أبدا زيارات العيد بهؤلاء النفر من الأصدقاء الأعزاء أكون معهم ليلة العيد، فإذا تنفس الصبح فكرت فيهم، وإذا ارتفع الضحى سعيت إليهم، فلقيتهم وكأننا لم نلتق منذ دهر طويل، وقضيت معهم ساعة قصيرة ضيقة لم أفرغ لهم فيها، ولم يفرغوا إلى كثرة المقبلين والمنصرفين، ولكنها على ذلك ساعة عريضة خصبة لكثرةما فيها من هذا الود الذي ينتقل إلى قلبك مريحاً عذباً لا لشيء إلا لأن اليد صافحت اليد ولن التحية الهادئة البريئة من التكلف قد مست الإذن فملأت النفس حياة وغبطة وسروراً. فإذا قضيت مع هؤلاء الأصدقاء هذه اللحظة القصيرة الخصبة خرجت من عندهم وقد ادخرت من الغبطة والسعادة ما يعينني على احتمال أثقال العيد فذهبت إلى دار عدلي ثم دار ثروت ثم إلى دار فلان وفلان. وقد أخذت الأيام تتخطف هؤلاء الناس واحداً واحداً حتى لقد زرت هؤلاء الأصدقاء فقضيت معهم ما قضيت من الوقت، ثم خرجت فإذا أنا أنصرف إلى كوكب الشرق لا إلى دار عدلي ولا إلى دار ثروت ولا إلى دار فلان وفلان من أولئك الذين كنت احب أن أسعى إليهم واغتبط حين يسعون إلي أو حين يرسلون إلي تحياتهم مع البريد وكنت لا أكاد أتهيأ للخروج يوم العيد حتى ينبئني المنبئون بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً من الأصدقاء قد أقبلوا وهم ينتظرون، منهم من يريد أن يبدأ العيد بلقائي لأن لقائي كان أحب شئ إليه يوم العيد، ومنهم من يريد أن يصحبني في زيارات العيد لأنه يجد في هذه الصحبة لذة ويسراً فأما الآن فأني أنبأ بأن قوماً آخرين قد أقبلوا وبأنهم ينتظرون، أما أولئك الذين كانوا يقبلون وينتظرون قد أنقطع إقبالهم وانقطع انتظارهم إلى حين، لأنهم يخشون الأحداث ويخافون الظروف ويشفقون من الجواسيس ويربأون بأنفسهم من غضب السلطان. هم أحياء ولكن ظروف الحياة قد قطعت ما بينهم وبيني من الأسباب، كما إن ظروف الموت قد قطعت ما بين الموتى وبيني من الأسباب. ولم تكن أيام العيد تنقضي حتى أزور داراً من الدور في ناحية من نواحي القاهرة فألقى فيها ابتسام الزهرة النضرة، والشباب الغض، والحياة التي تبتسم للحياة. وقد انقضت أيام هذا العيد فلم أزر هذه الدار لأنها محزونة لا تحتفل بالعيد، ولأن
زهرتها النضرة قد اجتثت منها اجتثاثا، وانتزعت منها انتزاعاً، وحملتها الريح إلى حيث لا ينظر الزهر ولا تبتسم الحياة للحياة. لم أزر هذه الدار ولم أنعم بتلك الابتسأمة ولم أسمع ذلك الحديث ولكن الله يشهد إني قضيت أيام العيد كلها، ويظهر إني سأقضي أياما ًطويلة أخرى وأن صوتاً من الأصوات سيتردد في نفسي جافاً خشناً متعثراً موئساً كما تتردد النغمة من الأنغام في القطعة الطويلة من الموسيقى، وتسألني عن هذا الصوت الذي تردد في نفسي منذ أشهر وسيتردد فيها أشهراً وأشهراً وأعواما، فهو صوت ذلك النعش حين خرج الحاملون به من الصلاة في مسجد من مساجد القاهرة وهم يعالجون إثباته على سيارة من سيارات الموتى وهو يأبى عليهم بعض الإثم يطيعهم ويستسلم لهم، وإذا خفقة جافة كأقفال الباب، وإذا النعش قد استقر، وإذا أزيز ضئيل نحيل يرتفع في الميدان ثم يتسع ويضخم، وإذا السيارة تنطلق كأنها السهم إلى ذلك المكان الذي لا يعود منه من استقر فيه. وإذا نحن نتبعها كاسفين ونعود كاسفين، وإذا الحياة تتصل بنا وتضطرب خطوبها حولنا، وتصرفنا عن أنفسنا وعن الناس، ولكن ذلك الصوت الجاف الخشن المتعثر يعود إلي من حين إلي حين فيذكرني بذلك اليوم الثقيل الذي شيعت فيه فقيدين عزيزين في اقل من ساعتين.
بهذا وأمثاله كنت أتحدث إلى نفسي أيام العيد، فإذا سألتني عما كنت أتحدث فيه إلى الناس وعما كان الناس يتحدثون فيه إلى حين كنا نلتقي، فيا للبؤس! ويا للفقر ويا للشقاء! ويا لجدب الحياة وإفلاس الاحياء، كنا نتحدث عن الأزمة المالية، وكنا نتحدث عن السياسة، وكنا نتحدث عن غدو المندوب السامي مع الطير يوم العيد وما يحيط بغدوه ذلك من أسرار وأخبار ومن تأويل وتعليل. ثم كنا نتحدث عن بعض هذه الأشياء الممتازة التي ظفرت بأحاديث الناس وشغل الصحف وعناية رجال الأمن: كنا نتحدث عن ذلك الخاتم الذي اضطرب له رجال الأمن وعطلت له دار من دور التجارة، واتصل حوله تحقيق طويل ودقيق ولم تبح صحيفة مصرية عربية أو غير عربية لنفسها أن تعرض عنه أو تطوى أخباره عن قرائها، ثم اصبح الناس يوم العيد فإذا الصحف تنبئهم بأن سيدة التقطته أمام مدرسة من المدارس فظنت جوهره من الزجاج ولم تعلم انه حجر نفيس، وان مدينة القاهرة مضطربة له اشد الاضطراب، وان قيمته تربى على ألف من الجنيهات. وكنا نتحدث عن
هذا الدبوس الذي افتقدته صاحبته فلم تجده فارتاعت لفقده وهم أصحابها أن يقولوا قصة كقصة الخاتم، ولكن شابا لم يلبث إن التقطه فرده إلى صاحبته، فلم يضطرب رجال الأمن ولم يحتج رجال التحقيق إلى النشاط، ولم تزد الصحف على أن روت الخبر رواية يسيرة قصيرة في مكان غير ظاهر ولا ممتاز. وكنا نقارن بين قصة الخاتم وقصة الدبوس وبين حظ الخاتم وحظ الدبوس. وكنت أقول لأصدقائي وهم يبتسمون ويضحكون ويفلسفون: على رسلكم أيها السادة، فلو قد سألتم ذلك الخاتم أو ذلك الدبوس عما يعرفان من التاريخ، ولو قد أراد الخاتم وأراد الدبوس أن يقص عليكم بعض ما يعرفان لما ابتسمتم ولا ضحكتم ولا أغرقتم في الفلسفة هذا الإغراق. فليست قيمة الخاتم والدبوس في هذه الجنيهات التي تربى على الألف أو تبلغ المئات فحسب، ولكن قيمتها فيما يحملان من ذكرى وما يصوران من حياة، وفي هذه الصلة التي تصل بينهما وبين القلوب والنفوس. قال صديق ماكر: فحدثنا إذا عن خاتمك الذي فقدته، فقد يظهر انك فقدت خاتما أيضاً وان أمره قد ارتفع إلى رجال الشرطة ثم هبط إلى الصحف ثم ذاع بين الناس. قلت وانك لتتحدث عن هذا الخاتم هازلا كأنما تغض من أمره وتزدريه، فهل تعلم إني حزنت عليه حزنا شديدا! وهل تعلم انه ليس اقل خطرا ولعله اعظم خطر عندي من ذلك الخاتم وهذا الدبوس؟ وهل تعلم أنه يمتاز من ذلك الخاتم وهذا الدبوس بان له الحياة المصرية العأمة آثاراً باقية، به اصبح قوم دكاترة. وبه أدرك قوم آخرون إجازة الليسانس، وبه صرف كثير من أمور الدولة، وقضى في مصالح كثير من الأستاذة والطلاب أعواما، فحدثني أين يقع من هذا كله اثر ذلك الخاتم وهذا الدبوس في حياة المصريين؟ ومع ذلك فلم تبلغ قيمته ألفا ولا مائه، ولا عشرة من الجنيهات، استغفر الله، بل لم تبلغ قيمته عشرة من القرش، وإنما كانت قيمته قرش ونصف قرش ليس غير، اتخذته حين كانت الأشياء رخيصة، في ذلك الزمن، الذي كنا نستطيع أن نبلغ فيه بالقرش كثير من المآرب والحاجات، اتخذته في باب الخلق، خارج ذاتيوم من دار الكتب، وكنت في الرابعة والعشرين من العمر، وكنت أريد أن أسافر إلى اوربا، واظهر لي هذا السفر إني شخص من الأشخاص، يجب أن اذكر مولدي، واعرف سني، واقدر ما آتي من الاعمال، في ذلك الوقت بحثت عن شهادة الميلاد وكانت ضائعة، فعرفت سني وكنت أجهلها، وفي ذلك الوقت قيل لي من أتى عملا أو قالقولا وجب عليه أن يمضيه، فاتخذت
هذا الخاتم، صنعه لي رجل كان يصنع الخواتم قريبا من المحافظة، ثم عبر معي البحر، وصحبني في فرنسا طالبا، وصحبني في الجامعة أستاذاً، عمل معي في أعمال الدولة، وأمضى معي عن أمور الدولة، وكان صديقا أميناً، لست ادري، كيف قبلت فراقه حينا، وأتمنت عليه صاحبي، حتى اقبل ذات يوم ينبئني انه افتقده فلم يجده، هنالك ضقت به وضقت بالناس، وضقت بالحياة كلها وقتا غير قصير، ثم زعم لي زاعم إن الأمر يجب أن يرفع إلى الشرطة فرفع اليها، وهبط إلى الصحف، ولكن الشرطة تلقت أمره باسمه، لكن الصحف نشرت أمره مداعبة، ولكن الأصدقاء تحدثوا عنه حين، أفرأيت إن قيم الأشياء، تختلف لا باختلاف آثارها، ومكاناتها ولكن باختلاف أصحابها، فلو كنت رئيس الوزراء، لما ابتسم الشرطي، ولما داعبت الصحف لأني فقدت خاتما، ولكني لست رئيس الوزراء فيبسم الشرطي، ولا يأتي حركة وتداعب الصحف، وتمزح أنت ويمزح هؤلاء بهذا وامثاله، كنا نتحدث أيام العيد.
طه حسين
لحظات التجلي
للأستاذ أحمد أمين
لكل إنسان - وخاصة العقليين - والروحانيين - لحظات تضيء فيها
نفوسهم، حتى كأنها المرآة الصافية، أو الشعلة الملتهبة، كل جانب فيها
مضيء، وكل العالم منعكس عليها، يراه فيها كما يرى السماء في
الماء.
يحس بهذا الأديب، فتراه حينا وقد غزرت معانيه وتدفقت عليه من كل جانب، حتى ليحار في الإختيار، ماذا يأخذ وماذا يذر، وبم يفضل بعضها على بعض، وحتى كأنه يغترف من بحر، أو يملي عن حفظ، ويصدر عنه إذ ذاك القول السلس والمعاني الغزيرة، والشعر المتدفق، هذه اللحظات عنده هي (لحظات التجلي)، وتأتي عليه أوقات وقد جمدت قريحته، وأجدب فكره، يعاني في البحث ما يعاني، ثم لا يأتي إلا بحمأة وقليل من ماء، ويصعب عليه القول كأنه يمتح من بئر، أو يستنبط من صخر، وقد عبّر الفرزدق عن هذا المعنى فقال (أنا أشعر تميم، وربما أتت عليّ ساعة ونزع ضرس أسهل عليّ من قول بيت) ونتاجه في مثل هذه اللحظات بارد جاف، لا يستسيغه الذوق، ولا تألفه الروح، أشبه شيء بقطع الجلاميد، وبأجدال الحطب.
ويحس بهذا الفيلسوف، فيشعر بلحظات تنكشف فيها حقيقة هذا العالم، فيراه ويستلذها، ويود أن تدوم، بل يود أن تعاوده الفينة بعد الفينة، ويتمنى أن يشتري عودتها بكل مالك، وينفق في ساعة منها كل متع الحياة الدنيا، يشعر في هذه اللحظات بذكاء في الفهم، وصفاء في النفس، ولطافة في الحس تكفيه في فهم هذا العالم الإشارة، وتجزئه الإيماءة، يستشف العالم من وراء مظهره، ويلمحه من رموزه، ويشعر إذ ذاك بسمو في العقل، ورقي في الروح، لا يعدل لذتهما شيء في الحياة. ثم تذهب عنه لحظات التجلي على الرغم منه، فإذا به في بعض أوقاته مظلم الحس، متخلف الذهن، بليد البصيرة، لا ينتبه للحن، ولا يفطن لمغزى، تستعجم عليه المدارك الظاهرة، وتَخْفَى عليه الأشباح المائلة، وتختلف لحظات التجلي عند الفلاسفة ولا صوفية كثرة وقلة، كما يختلف مدى التجلي بعداً وقرباً، حتى ليحكى عن
افلوطين) الفيلسوف الروحاني المشهور أنه حظي بهذه اللحظات بضع مرات في حياته. وحظي بها تلميذه (فورفوريوس) مرة واحدة.
وتعرض للفنان فيلهم معنى يصوره بريشته أو يوقع به على قيثارته، فثَمّ الإبداع والجمال الرائع، والحسن البارع، ذلك يملأ العين حسناً بصورته، وهذا يملأ السمع والقلب عذوبة بنغمته، ثم تأتي على هذا وذاك أوقات ينضب فيها معينها، ويفتر عنهما وحيهما.
وترى العلماء من رياضي وطبيعي وكيمياوي، ى يرزق أحدهم الخطوة بلحظة من هذه اللحظات، يلهم فيها فكرة يكون من ورائها مخترع عجيب، أو استكشاف خطير، عرض له أثناء بحثه، وقد لا تكون هناك علاقة ما بين ما يحدث وبين ما ألهمه، بل قد لا تكون هناك مقدمات منطقية مطلقاً لما ألهم، ويقف العلم حائراً لا يستطيع أن يعلل كيف نشأت في ذهن هذه العالم تلك الفكرة، وكيف فطن لها، بل يحار المستكشف نفسه كيف عرضت له وكيف ألهم بها.
وبعد فهل يمكن أن نضع قوانين لهذه اللحظات، وهل هناك عوامل معروفة إذا استوفيت أمكننا اقتناؤها والحظوة بها؟ وهل يمكن أن نجمع هذه الشروط في زر كهربائي أو زر روحاني نفتحه فتنفتح علينا لحظات التجلي إن شئنا؟
لو استطعنا هذا لتضاعف الإنتاج الأدبي والعلمي في هذا العالم أضعافاً مضاعفة، ولسهل على الأديب أن يستوفي الشروط فما هو إلا إن يمسك بقلمه فيغزر ماؤه، ويسيل إتيهُّ، وتنثال عليه الألفاظ والمعاني إنثيالاً.
لقد حاولوا من قديم أن يستكشفوا قوانين (التجلي) فقالوا إن مما يعن عليه جودة الغذاء، وفراغ البال من هموم الحياة، وصحة البدن، وطمأنينة النفس واستعانوا على نيل لحظات التجلي بمختلف الألوان، فقد قيل لكثير عزة يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال أطوف في الرباع المخلية، والرباع المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه، وقال الأحوص
وأشْرَفَتُ في نشز من الأرض يافِع
…
وقد تَشْعَف الأيْفاع مَنْ كانَ مقْصِدَا
ولجأ الأدباء من قديم إلى الأزهار والرياض، والمياه الجارية والمناظر الجميلة، كما لجأ بعضهم إلى الخمر يستلهمها ويستوحيها، وتكاد تكون لكل أديب عادة يرى أنها علة
غزارته، ومفتاح إنتاجه، وأنه يستنزل بها العصم من الأفكار، ويستسمح بها الأبي من المعاني، ولكن هل نجحت كل هذه المحاولات في استكشاف قوانين التجلي.؟ أظن إن نظرة بسيطة تكفي للقول بأنها لم تنجح، فقد تستوفي كل الشروط التي قالوها، فالصحة في أجود حالاتها، والغذاء خير غذاء، والكاتب أو الشاعر مطمئن النفس، هادئ البال، بين الرياض المزهرة، والمياه الجارية، والوجوه الناظرة، وهو مع هذا أجدب ما يكون قريحة، وأنضب ما يكون معيناً، ثم هو يكون على العكس من ذلك كله فيواتيه شيطانه، وتتزاحم في صدره المعاني، وتتبارى على قلمه الآراء والأفكار والألفاظ.
ثم هذا أديب أو شاعر يجود قوله وتتجلى نفسه، في الأماكن الخالية والسكون العميق وذاك لا يأتي له هذا الموقف إلا في الأوساط الصاخبة والحركة المائجة. وأديب لا ينتج إلا إذا امتلأ جيبه واطمأنت نفسه لحاجات الحياة، على حين إن الآخر لا يجد إلا إذا فرغ وطابه. وعضه الفقر بنابه، وتكاثرت عليه الهموم.
فأين قوانين التجلي إذا كان يحدث في البيئة وضدها، والظروف وعكسها؟ قد تكون كل المظاهر وكل ما يحيط بالنفس مع ذلك فياضة جياشة متجلية، وقد تكون المظاهر كلها تدل على نفس متفتحة للعمل، مليئة بالفكر فإذا هي مجدبة متقبضة، وترى الآراء القيمة والمعاني السامية قد تنبع من بيئة قائمة، ونفس مظلمة كما تخرج الزهرة من طين أو كما يخرج الذهب من الرغام، والحرير من الدود، وقد حكي لنا عن أدباء آخرجوا روايات هزلية تستخرج الضحك من أعماق القلب وحالتهم النفسية وقت تأليفها كان يسودها الحزن، ويشيع في جوانبها الألم والبؤس.
أخشى أن يكون الذين قد وضعوا هذه القوانين وأمثالها للحظات التجلي قد تسرعوا في وضعها، فالإنسان معقد كل التعقيد، ولئن كان جسمه معقداً مرة فنفسه وروحانيته وعقله معقدة ألف مرة بل آلافاً، وإن العوامل التي تؤثر في نفسه وروحانيته ليست الحالة البدنية، ولا الغذاء الصالح، ولا المناظر الجميلة، ولا الغنى والفقر، وحدها، بل هنالك عوامل أدق وأعمق واغمض، الإنسان لا يعيش في بدنه وحده، ولا في محيطه فقط، بل إنه ليعيش في أصدقائه الأقربين والأبعدين، وإنه ليعيش في ذريته الذين كانوا وسيكونون، وإنه ليعيش في أحلامه وآلامه وآماله، ويعيش في شبكات من تموجات نفسية دونها بمراحل شبكات
التلغرافات والتليفونات وتتسلط عليه أنواع من الأشعة لا عداد لها لعلنا لا نستطيع أن نكتشف قوانين التجلي إلا إذا عرفنا نوع النفس التي تتلقى هذه الأشعة، وعلمنا كل هذه المؤثرات، وهيهات!!
أحمد أمين
حنجرة
للدكتور محمد عوض محمد
اشهد إن الطبيعة قد تمنح، فتسرف في المنح، وتعطي فتجزل في العطاء وتنسى نفسها أحياناً، فتكيل السعادة لمن رضيت عنه بمكيال هائل، وتبذير منقطع النذير. وكان ذلك شأنها يوم أفرغت على الرجل العجيب (أنطون سو كيلوف) أسجال الهبات: بأن منحته تلك الثمينة الرائعة!
أجل وان المرء لتأخذه الدهشة عن يمينه وشماله، ومن ورائه وأمامه، ومن فوقه ومن تحته، حين يفكر في الوسائل المختلفة العديدة، التي تتوسل بهاالآلهة، لكي ترفع من تحبه على الناس درجات، وتحلق به في ملكوت السماوات: - ترضى عن هذا فتمنحه المال عن وفر وعن سعه، وتحب هذه فتكسوها أثواب الجمال: ثوباً فوق ثوب - كأنها ورق الكرنب - ويحلو للآلهة أن تنعم على ذلك فإذا هو ذو جاه عريض طويل، عميق غليظ.
ولكن اغرب شيٌ تهبه الآلهة هو مهن غير شك - تلك المميزات الجسدية: تلك القطع من اللحم والعظم والغضروف والجلد - يجري فيها الدم أحياناً؛ وأحياناً لا يجري فيها الدم مطلقاً. وطوراً يكسوها الشعر، وكثيراً ما تكون صلعات عارية من الشعر - تلك الأجزاء الجثمانيه؛ التي يحسبها الجهال من مصادفات الولادة، أو من غلطات الولادة وفي الحق هي السر الباتع الذي يحرك الفلك، وتدور له الكرة الأرضية من الغرب إلى الشرق.
وما على الذي يشك في صحة هذه الدعوى، أو يريد أن يتهمنا بالغلو والمبالغة، إلا إن يلقي نظرة يسيرة على التاريخ المكتوب وغير المكتوب، ويكفي أن يلقي النظرة على عجل وهو مغمض العينين، ليرى كم من صلعة لامعة قد ساست الممالك، ودوخت الجيوش، وكم من ذقن غليظ استطاع إخضاع القطار وتسخير كل جبار. وها نحن نسوق للقارئ أمثلة لا تحتمل الشك أو الإنكار.
هذه كيلوباطرة! بأي سلاح وبأية قوة استطاعت أن تخضع يوليوس قيصر، وتلفه حول إصبعها الخنصر؟ إبالقنابل والاساطيل؟ أما بالجيوش والدبابات، ام بالغازات الخانقة وغير الخانقة؟ لا بهذه - لعمرك - ولا بتلك. بل بقطعة انف مستدق مستطيل: خارت أمامها عزمة العأهل الروماني الهائل، الذي فتح الغال وبلاد الأسبان واستولى حتى على بريطانيا
العظمى - التي لم تكن عظمى في ذلك الوقت.
ثم شمشون: الجبار شمشون، الذي استطاع أن يقتل ألفاً من الفلسطينيَّين وما بيده سلاح سوى عظمة الفك الأسفل لحمار نفق حديثا، والذي استطاع أن يقبض على العمودين اللذين يمسكان الهيكل الأكبر - وقد احتشد فيه أعداؤه آلافا مؤلفة - أمسك عموداً باليمين، وعموداً بالشمال، ثم مال بالعمودين وهو يقول:(على وعليهم يا رب!) فإذا الهيكل يتداعى والسقف ينقض بمن عليه، والبناء يندك بمن فيه. وإذا الآلاف المؤلفة تقبر، بما فيهم دليلة الخائنة الماكرة!.
ألا رحم الله شمشون! أنى جاءته كل هذه القوة وهذا الجبروت؟ ذلك هو السر الخطير، الذي أدلى به إلى دليلة الخائنة، حين أنبأها إن قواه كلها كاملة في تلك الشعارات التي نبتت في رأسه كما تنبت الأشعة في رأس الشمس.
وهكذا كان عضو بسيط من أعضاء الجسم سبباً في تحويل سطح الأرض، وفي قلب مجرى التاريخ. . .
إذن لماذا نعجب من إن الآلهة حينما أرادت أن تغدق النعم على (انطون) لم تزد على إن وهبته حنجرة؟. لم تهبه مالاً ولا عقلاً، ولا ذكاء ولا فهماً، ولا طرفاً ناعساً ولا وجهاً وسيماً. بل كل ما منحته وحبته به: حنجرة.
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقدام
وصيرته ملكاً هماما
هذا جائز في عصام المذكور. أما (انطون سو كيلوف) فلم تكن له نفس تستحق الذكر، ولم يكن شجاعاً ولا هماماً ولا يعرف كراً ولا إقداماً. ولم يكن صاحب علم ولا جاه، بل صاحب حنجرة فحسب. يملكها وتملكه، وليس له من حطام الدنيا شيُ سواها، وليس لها من حطام الدنيا شيُ سواه وكانت هي سر سعادته؛ واستطاع هو أيضاً أن يجعلها سعيدة منعمة.
ليس على فضل الآلهة من حَرَجْ
إن شاء ضاق الأمرُ، أو شاء الفرجْ
ويدرك العلياءَ من به عرجْ
وترتقى حنجرةٌ أعلى الدَّرَجْ!!
إن سر النجاح في الحياة هو ما قاله سقراط: أن تعرف نفسك: وهكذا فعل انطون. فقد خلا إلى نفسه يوماً، وجعل يجهد فكره الكليل في معرفتها وفي الكشف عن أمرها. لعله إن يرى في ركن من أركانها كنزاً مخبوءاً، أو قوة مدفونة. فهداه طول التفكير، والتدبير الكثير، إلى إن له حنجرة ليس لها في العالم نظير. أجل وإنها لجديرة بأن ترفعه ويرفعها إلى المقام الأسمى والسِّماك الأعلى. وان ينفض بواسطتها غبار الفاقه الذي يوشك أن يقبره ويقبرها.
وكانت ساعة إلهام أدرك فيها انطون إن برلمان إنكلترا - أبو البرلمانات جميعاً - هو ميدانه الوحيد وميدان حنجرته العزيزة. . . عجباً كيف لم يوفق إلى هذا الكشف الهائل من قبل، فيقضى على عيش الضنك والفقر الذي لازمه طوال هذه السنين؟.
وفي مساء ذلك اليوم الخطير كان انطون جالساً - وحنجرته - إلى رئيس (المحافظين) يحدثه حديثاً شائقاً طليا. والصوت يدوي من حنجرته دويا - ولولا إن الريح في ذلك المساء كانت تهب من الجنوب، لسمع أهل فرنسا صدى تلك الحنجرة تنبئ الساكنين على ضفاف السين. إن على ضفاف التايمز رجالاً.
وأدرك رئيس المحافظين - ويا سرعان ما أدرك! - إي كنز قد ظفر به، وأي ذخر ثمين قد قدمنه الآلهة له ولحزبه! انهم بفضل هذه الحنجرة الرعدية لن يلبثوا طويلا حتى يتربعوا على دست الحكم، ويتحكموا في الدولة التي لا تغرب عليها الشمس.
ولم يبرح انطون مجلس الرئيس إلا وقد حمل في صدره - وفي جيبه - ألف دليل على إن نجم نحسه قد اودع في بطن الثرى وان نجم سعده قد اشرق في السماء لامعاً صاعداً.
كان انطون من رعايا الروس، وقد حاول السنين الطوال أن ينال الجنسية البريطانية، فلم تلق جهوده إلا الفشل. إن الجنسية البريطانية أجل وأثمن من أن تمنح للصعاليك أمثاله أما اليوم فقد جاءته تلك الجنسية تجرر اذيالها، وهي تمشي على استحياء، نزلت عليه من المحل إلا رفع من بعد طول تعزز وتمنع.
وفتحت بين يديه نوادي المحافظين، المفرطين في أرستقراطيتهم، وفي عزلتهم. فجعل يفشاها هو وحنجرته التي كان صداها يدوي في تلك الحجرات الهائلة، فتمتلئ بها الآذان وتميل نحوها الأعناق.
ولم تمض أسابيع قلائل حتى أخليت له دائرة من دوائر البرلمان، وحتى اقسم يمين الطاعة للملك ولدستور الدولة العظمى التي قلما تغرب الشمس عليها.
هنالك بدأت معجزته الهائلة تقرع الأسماع، وتأتي بكل إبداع، يوم تبوأ مقعده في (وستمنستر) وقد لف على الحنجرة العزيزة كوفية من الدمقس الخالص، براً بها، وعطفاً عليها. وهي بهذا لعمري جديرة بعد أن أصبحت ينبوع ثورة، ومبعث قوة وصوله، وعماد حزب ودولة.
ولم يك إن جالت هذه الحنجرة جولةً أو جولتين حتى سقط (الأحرار) المساكين، صرعى لا حراك بهم، وسقطت حكومتهم، التي كانت تحسب أنها باقية على الدهر، فإذا هي تندحر وتندثر وتمزَّق كل ممزَّق.
ثم أذَّنَ مؤذن بالانتخابات الجديدة للبرلمان الجديد، فإذا حنجرة أنطوان تكتسح كل شئ أمامها، وتجوب البلاد من جنوبها إلى شمالها، فتندك أمامها المعاقل والحصون، وتعنو لها الرقاب والأعناق، وتنجلي معارك الانتخاب عن فوز ساحق ماحق يفوزه المحافظون، ويعودون إلى البرلمان، يجرون ذيول التيه، ويبرمون شوارب الخيلاء.
وفي اليوم التالي غدا أنطوان إلى شركات التأمين فأمن على حنجرته بمائة ألف من الجنيهات.
إن اللآلهة قد تمنح، فتشرق في المخ، وتعطي فتجزل العطاء
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
4 -
البرنامج الخارجي في طور التنفيذ
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يكن أثر الثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية في سياسة ألمانيا
الخارجية أقل منه في شئونها الداخلية. ولكن الثورة الوطنية كانت في
ميدان السياسة الخارجية أكثر توفيقاً، لأنها الفت الميدان عند قيامها
ممهداً صالحا ًللعمل القوي الجريء، ولأن الشعب الألماني يرى المسألة
الخارجية مسألة قومية محضة ويؤيد الثورة الوطنية فيها تأييداً قوياً
صادقاً، على إن هذا التوفيق الذي لقيته الوطنية الاشتراكية في بعض
نواحي السياسة الخارجية كان مقروناً من جهة أخرى بتطورات ونتائج
لم تكن صالحة ألمانيا، ولكنها كانت نتيجة لما أبدته الوطنية الاشتراكية
في وسائلها من ضروب العنف والاندفاع.
تولى الوطنيين الاشتراكيون الحكم وألمانيا ما زالت من الوجهة الدولية في المركز الذي وضعت فيه بمقتضى معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) وهو مركز لا يجعلها على قدم المساواة مع باقي الدول العظمى من حيث الحرية في تدبير وسائل الدفاع عن نفسها وتنظيم مواردها الاقتصادية طبقاً لمصالحها، وهو مركز يرى الوطنيون الاشتراكيون بحق أنه لا يليق بألمانيا كدولة عظمى ولا يلائم كرامتها القومية. وكانت ألمانيا تجاهد منذ دخلت عصبة الأمم (في سنة 1926) في سبيل الانتصاف لنفسها في مسألة الدفاع القومي لأنها جردت بمقتضى معاهدة الصلح من سلاحها، وفي سبيل التحرر من أعباء التعويضات الفادحة التي فرضت عليها لأن هذه الأعباء لبثت بعد الذي أدته منها خطراً داهماً على مواردها القومية ونشاطها الصناعي والتجاري، ولأنها فرضت على أساس مسؤولية ألمانيا في إثارة الحرب الكبرى، وقد ثبت فيما بعد بما صدر من تحقيقات ووثائق دولية مختلفة إن هذا الزعم باطل، وإن مسؤولية ألمانيا في الحرب ليست أكثر من غيرها، وقد سويت مسألة
التعويضات غير مرة، ولكن ألمانيا لبثت تصر على وجوب التحرر منها، وقالت كلمتها الرسمية في ذلك منذ سنة 1932 في عهد حكومة الهرفون بابن، وانتهت جهودها في هذا السبيل بعقد مؤتمر لوزان في صيف سنة 1932، وخرجت ألمانيا من المؤتمر ظافرة بتقرير وجهت نظرها، ووافقت دول الحلفاء في البروتوكول الذي عقده المؤتمر على مبدأ إلغاء التعويض نظير قدر محدد تؤديه ألمانيا لا يتجاوز عشر ما كان مطلوب منها، وألقت ألمانيا في ذلك الحين أيضاً دعوتها إلى نزع السلاح الحقيقي طبقاً لما نصت عليه معاهدة الصلح، أو إنها تعمد من جانبها إلى تسليح نفسها تحقيقاً لمبدأ المساواة ومقتضيات الدفاع القومي.
كانت مسألة التسليح إذن أهم مشكلة دولية تواجهها ألمانيا عند قيام الحكومة الوطنية الاشتراكية، ومسألة الدفاع القومي من أهم المسائل التي أثارتها الوطنية الاشتراكية وخصتها بكثير عنايتها، والوطنية الاشتراكية أشد ما تكون بغضاً لمعاهدة فرساي واحتجاجاً على نصوصها وفروضها الظالمة، وهي تعتبرها مصدر كل مصائب ألمانيا، متاعبها، وترى وجوب إلغائها أو تعديلها على الأقل تعديلاً يتفق مع كرأمة ألمانيا وحاجتهاالقومية، وألمانيا تجاهد في هذا السبيل منذ أعوام، وقد استطاعت في الواقع أن تظفر بتعديل كثير من نصوص المعاهدة، ولكنها لم تستطع أن تحقق شيئاً في مسألة نزع السلاح والدفاع القومي.
ولألمانيا في مسألة نزع السلاح نظرية تستمدها من معاهدة الصلح ذاتها، ذلك إن معاهدة الصلح قضت بتجريد ألمانيا من سلاحها، وحددت جيشها العامل بمائة ألف، وحصرت حقها في اقتناء الذخائر والأسلحة في أضيق الحدود، وحرمت عليها أنواع الأسلحة الضخمة، وأنزلت أسطولها إلى وحدة بحرية ضئيلة وحرمت عليها إنشاء الطيارات الحربية، وقضت عليها بإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، وحرمت عليها إنشاء أية تحصينات على حدودها الغربية عل بعد خمسين كيلو متراً من شرق نهر الرين، وغير ذلك من الفروض المرهقة التي تجعل ألمانيا من حيث الدفاع القومي أضعف من أية دولة ثانوية، وتجعلها غير قادرة على الدفاع عن نفسها إزاء الطوارئ. (معاهدة فرساي - القسم الخامس - المادة 149 وما بعدها). ولكن ميثاق عصبة الأمم الذي هو قطعة من معاهدة الصلح ينص من وجهة نظر
أخرى على إن أعضاء العصبة يعترفون بأن تأييد السلام يقتضي تخفيض التسليحات القومية إلى الحد الذي يتفق مع السلأمة القومية وتنفيذ التعهدات الدولية. . . وعلى (أن مجلس العصبة ينظم وسائل هذا التخفيض)(المادة 8)، ونص من جهة أخرى في ديباجة القسم الخامس من المعاهدة وهو الخاص بتجريد ألمانيا من سلاحها، إن هذا التجريد إنما هو وسيلة لتمكين تنظيم تحديد السلاح تحديداً عاماً بالنسبة لجميع الأمم، وقد أنشأت عصبة الأمم لجنة نزع السلاح ومؤتمره منذ عشرة أعوام تنفيذاً لما يقتضي به ميثاقها، واشتركت ألمانيا في أعمال المؤتمر نزع السلاح منذ دخولها في العصبة، وجاهدت بكل ما وسعت في سبيل تخفيض السلاح؛ ولكنها لم تظفر بأية نتيجة، لأن دول الحلفاء وفرنسا بنوع خاص، لا تريد أن تجري في تسليحاتها أي تخفيض يذكر، ولهذا تقول ألمانيا اليوم إنه ما دام إن نصوص المعاهدة في شأن تخفيض السلاح لم تنفذ، وما دام إن تجريدها من السلاح كان مقروناً بوجوب إجراء هذا التخفيض، فهي من جوانبها في حل من أن تسترد حقها كاملاً في تسليح نفسها وتنظيم دفاعها القومي، وهذا منطق سليم واضح، ولألمانيا فيه كل الحق، ولكنه قوبل من فرنسا بأشد اعتراض؛ وأبت فرنسا وبريطانيا العظمى على ألمانيا كل حق في المساواة الفعلية في التسليح، واقترحتا وضع رقابة دولية على موقفها ورأت أن تختم هذا الجدل العقيم، فانسحبت من مؤتمر نزع السلاح ومن عصبة الأمم في منتصف أكتوبر الماضي، وكانت خطوة جريئة ولكن موفقة من جانب الحكومة الاشتراكية؛ وكان لها أكبر وقع في سير السياسة الدولية، وفي نفس اليوم الذي أقدمت فيه الحكومة الألمانية على هذه الخطوة الحاسمة، أستصدر هر هتلر مرسوما بحل الريخستاج وإجراء انتخابات جديدة ليستفتي الأمة في سياسته الخارجية؛ وأجريت هذه الانتخابات في 12 نوفمبر الماضي وخرج منها هتلر بما يشبه إجماع الشعب الألماني على تأييده في العمل لاستعادة مركز ألمانيا الدولي كدولة عظمى والاعتراف لها بحق المساواة في الدفاع القومي وسائر الحقوق القومية الأخرى واضطرت فرنسا إزاء هذا التطور أن تدخل في مفاوضات مباشرة مع ألمانيا لبحث الموقف. وتجري هذه المفاوضات منذ أسابيع. وتحاول إنجلترا وإيطاليا أن تقوما بدور الوساطة والتوفيق. وبينما تؤيد إيطاليا وجهة النظر الألمانية إذا بإنجلترا تتراوح بين التأييد والمعارضة، فهي لا تريد أن تبقى فرنسا محتفظة بزعأمة أوربا
العسكرية، وتخشى من جهة أخرى أن تعود ألمانيا إلى زعامتها العسكرية القديمة. وقدمت الحكومة الألمانية مقترحات في هذا الشأن خلاصتها أن يرفع عدد الجيش الألماني العامل إلى ثلاثمائة ألف، وأن تعاد الخدمة العسكرية، وأن يكون لألمانيا حق استعمال وسائل الدفاع المختلفة، وأن ينقح دستور عصبة الأمم لكي تكون أداة صالحة محررة من كل ضغط ونفوذ. وقد ردت فرنسا برفض هذه المقترحات باعتبارها مناقضة لمعاهدة الصلح، وقالت بأن تسوية مسألة التسليح لا تكون بزيادته وإنما تكون بتخفيضه، وأن تخفيض السلاح لا يمكن أن ينظم إلا في جنيف وعلى يد عصبة الأمم طبقاً لمعاهدة الصلح، وما زالت المفاوضات تجري بين باريس وبرلين من جهة، وبين لندن وباريس ورومة من جهة أخرى، ولكن الذي لا ريب هو إن ألمانيا قد كسبت أول مرحلة في المعركة، وأنها تتقدم في سبيل غايتها من تحطيم الأغلال التي فرضتها معاهدة فرساي على دفاعها القومي، بل نعتقد إن ألمانيا قد بدأت تعمل بالفعل في هذا السبيل دون انتظار لرأي فرنسا وحلفائها.
وتثير ألمانيا إلى جانب مشكلة الدفاع القومي عدة مشاكل أخرى ترى أنها تمس مصالحها القومية. من ذلك مسألة وادي السار الألماني الذي انتزعته فرنسا لتستغل مناجمه الغنية حتى سنة 1935؛ فألمانيا تطالب برده أو يجري الاستفتاء المنصوص عليه في المعاهدة؛ ومنها مسألة المستعمرات الألمانية التي وزعت بين فرنسا وبريطانيا العظمى فألمانيا تطالب الآن بردها لأنها تضيق بسكانها، ومصالحا الاقتصادية الحيوية تقتضي أن يكون لها مستعمرات؛ ومنها مسألة الممر البولوني الذي يمزق بروسيا الشرقية إلى قسمين، فألمانيا ترى أنها لا تستطيع الصبر على هذا التمزيق إلى الأبد، وإن كانت اليوم على تفاهم مؤقت مع بولونيا.
على إن الوطنية الاشتراكية الألمانية لم تكن موفقة في ناحيتين خطيرتين من نواحي السياسة الخارجية، هما المسألة النمسوية، ومسألة العلائق الألمانية الروسية.
فأما في المسألة الأولى فقد حاولت الحكومة الألمانية أن تتدخل في شئون النمسا بطرق شتى. ووجهت الوطنية الاشتراكية الألمانية إلى النمسا كثيراً من ضروب الوعيد والتحدي، وحاولت أن تبث في دعوتها وأن تصبغها بصبغتها. ونذكر أنالعمل على اتحاد الأمم الجرمانية من الغايات الأساسية التي ترمي إلى تحقيقها الوطنية الألمانية. والنمسا هي الأمة
الجرمانية المقصودة بهذا النص، وهي ترتبط مع ألمانيا بكثير من الروابط الاقتصادية والاجتماعية. وكانت النمسا تضطرم من قبل بدعوة قوية إلى الاتحاد مع ألمانيا سياسياً واقتصادياً ولهذا أرادت الوطنية الألمانية أن تقوم بمحاولاتها الأولى في سبيل هذا الاتحاد.
ولكنها لجأت كعادتها إلى الاندفاع والعنف، وحاولت أن تعامل النمسا كدولة تابعة وأن تملي عليها أرادتها ووحيها، وأن تثير فيها القلاقل والإضطراب، وأن تؤثر فيها بجميع وسائل الضغط والإرغام. ولكن هذه السياسة القصيرة النظر انتهت إلى عكس ما أريد بها. فقد أذكت في الشعب النمسوي عواطف العزة القومية، فنسي خلافاته الحزبية والتف حول حكومة المستشار دلفوس التي أبدت في مقاومة الوطنية الألمانية حزما يثير الإعجاب وأعلنت النمسا أرادتها صريحة في إنها لا تريد أن تكون تابعة لحكومة برلين، وقمعت الحكومة النمسوية كل شغب أثارته الدعوة الألمانية بمنتهى القوة وطاردت دعاة الوطنية الاشتراكية بلا رأفة، وأنهارت في الوقت نفسه دعوة الاتحاد (الآنشولس) وأنفض عنها أنصارها بعد أن رأوا ألمانيا تفسرها بالقضاء إلى الإستقلال النمسوي واستطاعت حكومة فينا أن تجعل من المشكلة النمسوية مشكلة دولية وأن تغتنم تعضيد إنجلترا وفرنسا وإيطاليا في الدفاع عن وجهة نظرها ضد ألمانيا.
وأما في مسألة العلائق الروسية فقد ارتكبت الوطنية الاشتراكية الألمانية أيضاً خطأ فادحا. وكانت ألمانيا منذ خاتمة الحرب تعمل دائما على توثيق صلاتها السياسية والتجارية بروسيا السوفيتية، وتتخذ من هذه الصلات دعأمة لسياستها الخارجية؛ وكانت روسيا أعظم سوق للصناعات الألمانية بعد لأن أغلقت في وجهها الأسواق الغربية؛ وكان التفاهم بين الدولتين محور التوازن السياسي في أوربا الشرقية حيث تطوق ألمانيا بدولتين خصيمتين هما بولونيا وتشيكوسلوفاكيا، ولكن الوطنية الاشتراكية لم تراع هذه السياسة التقليدية، ولم تفرق في كفاحها للشيوعية بين الاعتبارات الداخلية والخارجية، فألقيت تصريحات شديدة ضد روسيا السوفيتية من المستشار هتلر وبعض زملائه، وردت الصحافة الروسية هذه الحملات بمثلها، وكان لموقف حكومة برلين وقع سيئ في حكومة موسكو؛ وظهر أثر هذا التوتر في علائق البلدين واضحاً في إتجاه السياسة الروسية إلى وجهة جديدة. وانتهزت فرنسا هذه الفرصة فعملت على توثيق علائقها مع روسيا باتفاقات جديدة؛ واعترفت
الحكومة الأمريكية لأول مرة بحكومة السوفيت. ونظمت المبادلات التجارية بين البلدين؛ واتجهت بريطانيا العظمى إلى توسيع نشاطها التجاري في روسيا؛ وفقدت ألمانيا بذلك دعأمة سياسية قوية ومصالح اقتصادية خطيرة. وكان في وسع الوطنية الاشتراكية أن تحرص على علائق ألمانيا وروسيا من الجهة الخارجية، وأن تمضي في نفس الوقت في كفاحها ضد الشيوعية داخل ألمانيا على نحو ما فعلت الفاشية الإيطالية، ولكن الظاهر إن الوطنية الاشتراكية الألمانية لم تعرف بعد أن تفرق نزعاتها الشخصية وبين مصالح ألمانيا العأمة، وأنها لا تتمتع بذلك الإتزان الذي تمتاز به الفاشستية الإيطالية رغم صرامتها.
هذه خلاصة الظروف والأدوار التي تقلبت فيها الوطنية الاشتراكية الألمانية. وهي تعمل حتى اليوم كثيراً لألمانيا، ولكنها عملت كثيراً لإثارة الأحقاد الجنسية والقومية، وسحق الديمقراطية والحريات العأمة. وقد أثارت بذلك كثيراً من الخصومات على ألمانيا، وأساءت بوسائلها المثيرة إلى هيبة ألمانيا وسمعتها، وأفقدتها كثيراً من العطف العالمي، وجمعت كلمة الديمقراطية ضد ألمانيا في خصومة موحدة مشتركة، وبدت الفاشستية الإيطالية للعالم اليوم، بعد الذي شهده من جموح الوطنية الاشتراكية الألمانية وعنفها، أجدر بالتقدير والاغضاء والتسامح من وليدتها.
تم البحث
محمد عبد الله عنان
الفن المصري القديم
- 1 -
تمهيد
تؤلف الكتب، وتحبر الأوراق، يتبارى في آخراجها أبناء الأمة ذات الفن أو التاريخ. ومصر، أم التاريخ، التي نهل منها جميع الوجود، ومصدر الفن والذي غذى بنعمته ونوره العالم من مبدأ الحياة. مصر، التي هي البقعة الوحيدة التي هبط عليها طائر الفن الجميل، ونزل على أرضها وحي العظمة والعرفان، أفقر الأمم جميعا. اعتزازا بفنها وتاريخها.
وكم مجهود من مجهودات المصريين الحاضرين بذل في سبيل تحقيق تلك الغاية وتمجيدها؟! وكم هو عدد المؤلفات التي وضعتها أيدي مصرية عن الفن المصري القديم؟! وهذه جهود الإفرنج تملأ مصر بحثا ودرسا، وتغشى أرضها تنقيبا واستكشافا. ثم هذه مؤلفاتهم عن الآثار المصرية وما فيها من فن وقدرة وجمال تغمر الدنيا جميعا. بل إن في متحفنا المصري وحده مكتبة تجمع نحو تسعة عشر ألفا من بعض الكتب التي وضعت بلغات مختلفة عن آثار مصر.
الأجانب هنا وهناك، هم الذين يأخذون وحدهم بشؤون تاريخنا. وهم الجادون في دراسة حضارتنا القديمة، ينشرون بحوثهم فيها على العالم ما كان لمصر في التاريخ القديم من فضل. ونحن، نحن الذين كنا أولى من غيرنا بتلك الدعاية واجدر من كل الناس دراسة لآثارنا وأخذاً لمعالم تاريخنا، لا نتقدم إلى الميدان بأقصر يد. ولا ننهض لاعتزاز بمجدنا بأيسر حال.
أليس هذا من بواعث الأسف؟ ثم أليست حالنا في ذلك أدعى إلى النقد والسخرية؟
نعم هناك بعض جهود مصرية، لا ننكرها. وبعض أيادٍ وطنية، على التاريخ المصري، لا يجب أن نجحدفضلها. ولكنها بضعة ضئيلة. أملنا أن تتجسم وتتضاعف، حتى تفيض على الناس خيرا.
ولعلنا جميعا، نوقن في أنفسنا بأننا مهما بذلنا في خدمة وطننا الجهود، ومهما ملأنا الأرض جدا وسعيا، ووصلنا أركان القطر ذكريات وأثارا، فلن نبلغ إلى غاية الخلود والعظمة ما بلغ أجدادنا المصريون القدماء، الذين بهروا العالم إعجاباً وإعجازاً ولقد نفخر بهم، ونعتز
بمخلفاتهم، ونشير إليهم كلما أعوزتنا الحقيقة إلى إثبات شخصيتنا، وأخذتنا النشوة بالتيه. نفخر بهم، ونتحدث بمجدهم، ولا نخجل من أنفسنا لا يكون لنا، نحن أبناء الحاضر، في ذلك فضل. بل نقف موقف الغراب الذي لبس ريش الطاووس فما كان ذلك يرفعه عن أن يظل غرابا. . .
أولئك الأجداد العظام النابهون، لهم علينا ذمة، ما أحرى بنا أن نفى دينها، ونؤدي حقوقها. فهم لم يتركوا لنا ما تركوا ليلزمونا الفخر بهم جزافا، ونحن قعود. ولكن لنكون جديرين بأن نرث عنهم ذلك المجد، وبررة بجميل ذلك التراث الموهوب فحبذا لو نعمل جميعا لوصل حلقات هذه العظمة، واضعين نصب أعيننا دائما هذه العبارة الخالدة
إن سئلنا ما تركنا
…
بعدهم ماذا نجيب؟
مصدر المدنيات
كان فريق من علماء الغرب ينسبون الأسبقية في تاريخ الفن الجميل إلى الإغريق. وإنها المصدر الذي تدرجت عنه ثقافات البشر وقلما كان يعترفون بفضل لمصر.
وبالرغم من إن البحوث الأثرية والاستكشافات قد نشرت على الأفكار نورا بان الإغريق إنما أخذت قسطا كبيرا من ثقافتها عن مصر التي سبقت حضارتها حضارة الإغريق بأكثر من ثلاثة آلاف عام، فان بعض آراء المتعنتين نحو مصر ظلت إلى حين، على نكران فضل مصر وعدم اقتباس الأمم عنها.
وقد يكفي أن ندلل على ذلك بتلك الكلمة النزيه التي انصف بها مصر (السير دنيسون روس) مدير مدرسة العلوم الشرقية بانجلترا، في الكتاب الذي قدمه علماء الإنجليز إلى حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر، بأسم (الفن المصري في جميع العصور، والتي دحض بها تلك الآراء العتيقة. حيث قال: - (مصر هي مهد الفنون. ولولا بقاء كثير من آثارها الأولى حتى يومنا هذا، لقامت معلوماتنا عن التاريخ الأول للفنون على الحدس والتخمين. وكلما زدنا علما بأعمالها الجليلة تبين لنا ما تدين به الفنون المتآخرة لمصر، وزاد جلاء، خذ مثلا الأبحاث الأخيرة التي جرت في صقارة، فإنها أثبتت نهائيا إن العمود المزماري (الذي يشبه الناي أو المزمار) - تطور ووضعت فكرته بواسطة الفنانين المصريين (1) ومن جهة أخرى فان تأثير مصر في آراء البشر وأفكارهم ليس اقل شأنا
من تأثيرها في عالم الفنون وسجلاتها تعتبر اقدم كنز في تاريخ الإنسانية بأجمعها (وحينما بدأت مصر تسترعي انتباه الغرب كان شارحو مدنيتها هم رجال اللغة والمؤرخون. وأما قيمة آثارها، وما فيها من معان، فكانت من الأشياء التي تكاد لا تعرف. وقد حلت رموز الكتابة الهيروغليفية وقرأت. ولكن ما كان عندنا من تعصب موروث من ثقافتنا القديمة وتفكيرنا الحديث، عاقنا عن أن نقدر فنا كهذا الفن، كل ما فيه غريب علينا. ولقد كان حتما على عالم الفنون أن يجاهد زمنا طويلا، كي يتخلص من براثن الفكرة الإغريقية، ويقترب من آثار الفراعنة البديعة، ويلقي عليها نظرة بريئة خالية من التحيز).
وإليك كلمة أخرى، للأميرة بيبسكو، وقد يذكر القراء اسم سموها حيث تردد ذكره في مؤتمر الطيران الذي عقد بمصر أخيراً. وهي عقيلة رئيس المؤتمر - في رسالة لها بعنوان (يوم مصر) ' إذ قالت عند ذكرها للعمود المزماري في سقارة الذي سبق الكلام عنه:
(لقد وجدت مهد الفن الإغريقي. فان (إمحتب) وهو مهندس الملك (زوسر) أول من استعمل الحجارة الرملية في مصر). وجاء بين كتابات المصريين القدماء إن هذا الفنان رفع إلى صفوف الآلهة لقيامه ببناء الهياكل. وليس هناك ما يدعو للدهشة في ذلك، لان عليها مسحة قدسية، ولأنها اجمل بكثير من تلك المشاهدة في الاكروبول، التي تشابهها. وقد تفوقها من أنها أتم تهذيباً. ويرجع تأريخ هذه الأعمدة المصرية إلى ما قبل (فدياس) بثلاثين قرنا. (وإني لاحس، عندما انظر اليها، بذلك الصلف الذي كان يركب رؤوس ما سبقونا. وها مصر قد فازت أخيراً بقصب السبق. أما هؤلاء الذين تحيزوا للفن الإغريقي ضد الفن المصري، فيجب أن يخفضوا رؤوسهم من الخزي بعد استكشاف أعمدة صقارة).
مقدمة الأعاصير
للشاعر القروي رشيد الخوري
تعليق
كانت نفسي تجمجم منذ شهرين بكلمة تريد أن تعلن بها إلى جمهور القارئين صدور هذا الديوان منذ دفع إلي لأكتب عن كلمة في (مجلة الشباب المسلمين) - وقد أهداه صاحبه إليها -، لان بمقدمتها آراء أدين بها، واحب أن يدين شعرائنا وكتابنا بين يدي زمانا هذا؛ ولكن التواني في آخراج الفكرة حين ولادتها وحرارتها، طالما جر إلى موتها ونسيانها وخمود دواعيها، وهذا ما حدث لي بشأن الكلام عن هذا الديوان.
بيد إن كلمة الأستاذ الكبير عبد الوهاب عزام، عن هذا الديوان في عدد مضى من الرسالة قد جددت في نفسي حرارة الأفكار التي في مقدمته، مما تقاضاني أن أسرع إلى الكتابة عنها.
ولئن كانت كلمة الدكتور عزام كافية في إعطاء القارئ صورة عن وطنية صاحب (الأعاصير) وعروبيته وتساميه. . الخ. فأني أرى جمهور قراء الرسالة بحاجة إلى أن يعلن إليهم عن الأفكار التي في مقدمته النثرية، فان فيها دعوات ثائرة، من العار ألا يتردد صداها في نوادي الأدب في الشرق العربي وسط عصر الجهاد والفداء والزلزلة! وليس من الإنصاف للذي هتف بها على بعد الدار ونأى الشقة، أن نمر بها كما نمر بأية فكرة أدبية، فأننا نعتد ذلك عقوقا لهذه النفس البرة التي لم تتطرف عينها خوالب الدنيا الجديدة ولم تشغلها عن النظرة الراثية الآسية للوطن الأول. . .
وعجيب أن يكون القلب الخافق بهذه الوجيعة، والبوق الهاتف بأصواتها التي سيسمعها القارئ خلال ما ننقله من السطور، نزيل ديار فاتنة بافانين حياتها وحريتها، مما يجر إلى نسيان الوطن الأول. بينما نجد الكثرة الراقدة بين فكي الحوادث وتحت مناسمها من أدبائنا الذين يأخذ أمتهم الضغط والاضطهاد مصبحة وبالليل، نجدهم كما يقول صاحب الأعاصير:(بين متهافت على وظيفة يخسر نفسه ليربحها. . وعابد بغيا يسفح شبابه على أقدامها. . و (علاك) أوزان تمر به القوافل الحياة قطارا تلو قطار، رازحة بعبر الدهر وعظات الأجيال، وهو واقف إزاءها وقفة الغر الأبله يتلهى بتشطير أو تخميس! أو يباري في وصف ساعة
معلقة على جدار كأن ليس فيمل يجري خلفه وبين يديه من ساعات الهول وأهوال الساعة ما يحرك له خاطرا أو يهيج له شاعريه. .! أو ليس من الغبن الفاضح ومن دواعي اليأس القاتل أن يموت في الأمة شاعر فتصبح الأمة بأسرها شعراء ترثيه وتبكيه، وتموت بأسرها فلا تجد لها شاعرا يرثيها؟!) أجل أيها الأخ النازح! انه لغبن فاضح وجهل بحقوق الأمم في أعناق الرجال، وغفلة عن رسالة الشعر والأدب، وعن وصايا الأدباء على أممهم، أن يهمل المتأدبون ناحية الجهاد في هذه الحقبة من تاريخ العرب، وان يعكفوا على أدب الخليين الذين يذهبون إلى إشباع الحاسة الفنية فيهم لا غير. . . وإني لأفهم قلم الشاعر والكاتب، ولسان الخطيب، في عصرنا هذا، يجب أن تشيع في منتوجه ألوان من آلام أمته، وأن يخلد من وقائع جهادها صورا تتيح للأجيال المقبلة أن ترى فيها حياة الألم الذي يأكل إحساس الجماعة المثقفة في هذا العصر لأنهم بشاعريتهم المصقولة، واحتكاكهم بالزمن، وتيقظهم لمروره يعكسون صور من يدركون من الحوادث بوضوح واستيعاب، فإذا حولوا هذه الحساسية المصقولة إلى حياة المتاع واللهو والخلو، فقد تضيع معالم هذه الحقبة من تاريخنا أو تنبههم، فضلا عما يصيب إحساسنا القومي من تبلد ونزوع إلى حياة المتعة حيث الكتابات الداعية إليها تأخذ على عين القارئ مسالك الصحف. وفي هذا خسران الروح المعنوية في عصر الجهاد، وفي ذاك خسران أيضاً لأننا في جيل انتقال أحوج ما نكون إلى تسجيل الأحداث مع المشاعر التي تصاحبها ولن يسجل المشاعر إلا شاعر.
ولن يستطيع الداعون إلى بناء الوطن العربي أن يخلقوا في نفوس الشباب حرمة له ما لم يأتوا إليهم من طريق الجد والمرارة! فانهم يستطيعون حينذاك يشيدوا البناء بنجوم السماء!
والآن أضع بين يدي الرسالة نص مقدمة (الأعاصير) لتنتقي من أفكارها ما تتسع له صفحاتها ومنهاجها، ولو إن الأمر إلي لوضعتها كاملة تحت عين القارئ ليرى ذلك القلب الخافق رحمة لأمته، والصوت الصارخ لآلامها، والقلم الوفي لقضيتها.
أما بعد فأني كتبت ما تقدم قبل أن اقرأ المقال الذي كتبه صديقي الأستاذ الأديب علي الطنطاوي الدمشقي في عدد مضى من الرسالة والذي ينعى فيه على أدبائنا الذين لم يعرفوا حتى القومية في عصر الجهاد والذين اعتنقوا الأدب للفن لا للحياة. . وقد عجبت لهذا التوافق في ظهور هذه الأفكار بينه وبين صاحب الأعاصير.
ويلوح لي إن الأمر جد، وان زمان ظهوره قد شأنه المقادير، وان هذه الدعوة يجب أن يلقى التبشير بها ما له الاعتبار عند أدباء العربية، وانه يجب أن ترسم الخطة التي ينبغي أن يتجه إليها أدب أمة تتنزى ألما في السياسة والاجتماع.
وإني لاستقبل المغرب وأرسل للشاعر القروي تحيتي حارة خالصة لا يطفئ من حرارتها عبور ما بيننا وبينه من ديار وقفار وبحار. ثم استقبل المشرق فاحيي صديقي الأستاذ الطنطاوي تحية طيبة. ومنى نفسي أن يكون لهذين الصوتين المنبعثين من مشرق الشمس ومغربها، صدى بالغ إلى القلوب قراء الرسالة.
المقدمة
هذه الأعاصير! وهي مختارات من شعري الوطني، نحيتها عن سائر أشعاري لتعصوصف في جو وحدها. إنها خواطر جامحة، وأفكار ثائرة، بلورت من صراعها في صدري مع أخواتها الوادعات، ما أشفقت معه أن اجمع بينهن في كتاب، يسمنه من تنابذهن وحراشهن ما سمني من عذاب. ولم أخصها بالنشر، على ما فيها من شدة وعُرام، قبل مختلف المواضيع التي يشتمل عليها ديواني، إلا لاعتقادي أننا إلى ما يبعث فينا الأثرة ويقوي العصبية، أحوج منا إلى ما يزيدنا حباً للإنسانية، وإصلاحا للبشرية.
هذه آيات أنبيائنا وأسفار حكمائنا، تشهد بان لنا من فيض العاطفة الاجتماعية، وحرارة الروح الإنسانية وسطوعها، ليس لسائر الأمم بعضه، ولكن هذا الذي أردنا به السلام للعالم يعمل به أحد سوانا فلم يهد الناس شيئاً وعاد علينا نحن وبالاً شديداً فلقد وزعنا الحب على أهل الدنيا، حتى لم يبق لنا منه فضلة لذواتنا، ولقد بلغنا من إنكار النفس والتطوع بخدمة الغرباء مبلغا جاوز بنا رياض فضيلة الكرم، وشرف التضحية إلى سباخ التمرغ والذل والدناءة. إننا اسلس المطايا قياداً، والينها شكيمة، واحنها ظهرا، وأتعسها مركبا، بل نحن صيد شهي سائغ، ليس اقرب منه منالاً ولا اسهل منه مأخذا، فبدلا من أن يتكلف القانصون مشقة نصب الفخاخ لنا أو مطاردتنا ووهقنا، باتوا وجهادهم محصور في كيف يتقون تهافتنا عليهم، ووقوعنا على اقدامهم، كما يدفع الرجل كلبه عنه حذرا منه على لباسه، لفرط ما يرى من تحببه إليه وتوثبه عليه.
أما والله لو كنت شاعرا فرنسيا أو إنكليزيا لحبست النفس على التبشير بالسلام، ووقفت
القلم على الدعوى إلى الرافة والحنان. لأن الرافة والحنان زينة الأقوياء. أما وأنا سوري، ومن لبنان، فإني لا غرض لي في الحياة اشرف من دعوة شعبي إلى بغض الشعوب، ولا مثل عندي أعلى من استنهاض أمتي لمحاربة الأمم. وانه لبغض أسمى من الحب! وإنها لحرب اقدس من السلم! فما دمنا عبيدا ضعفاء فدعوتنا العالم إلى الإسلام ليست من الفضيلة في شئ اكثر من فضيلة العفو بغير اقتدار، حجة الذليل اللئيم! فلنصافح السيوف! فإذا تحررنا فلنصافح الأعداء! نحن نحب أوربا، ولذلك يجب أن نبغضها أولاً! نبغضها لنحاربها، ونحاربها لنتحرر منها، ونتحرر منها لنستطيع خدمتها بأحسن مما تخدم نفسها. نحن اصح الخلق أبداناً وأرجحهم عقولاً، وأحسهم أرواحاً، فلو فكت عنا أغلال القوة الغاشمة لسبقنا العالمين في مضامير العمران، ولأسبغنا على العلم من دماثة أخلاقنا ما يروض أوابده ويصرف أعنته على اكمل وجوه الخير والصلاح. ولكننا، دون هذه الأمم الحرة أمة شلتها قيود التقاليد الرثة والتعصبات المقيتة، كلما فتحنا عيوننا على عيوبنا وحاولنا تحطيم أصفادنا لتسري فينا الدماء، ونعود فنعد في الأحياء، احكم الظلم وثاقنا، وضاعف إرهاقنا وألقى بنا في مطارح الخسف والهوان، طرحك الخرق البالية في القمامات!
فيا أبناء وطني - لكم تجدون بينكم من دعاة الاستعمار، نفرا يدعون الحكمة ويتكلفون الوقار - يجلس واحدهم جلسة الوثن متر صنا جامدا، كأنما ركز المصور أو المزين رأسه على شكل لا ينحرف عنه. ثم يبسط كفيه على ركبتيه، ويزوي بين عينيه، ويقول خافضا صوته: - مالكم ولهؤلاء الشعراء، إن هم إلا صبية أغرار، يحرضونكم على المطالبة بالحرية، ولا سلاح لديهم غير ألسنتهم وأقلامهم، فيجلبون عليهم النقمة ويسوقونهم إلى الهلاك. . . إلا اعرضوا عنهم! كلوا أمركم إلى ولية الأمر فيكم، إنها أمكم الحنون، وحاشا لامكم الحنون أن تريد بكم شرا. . . إنها تهي لكم خيرا جزيلا. تدربكم على الحرية، فإذا صرتم لها أهلا وهبتها لكم لوجه الله لا تبغي أجراً ولا شكورا، فأسعفوها في إصلاح نفوسكم تستقلوا، فالاستقلال رهن بأهليتكم، ووقف على استحقاقكم. إلى ما شاكل من عظات تخثر النفوس وتوهن العزائم، وتطفئ جذوة الحماسة في الصدور - أما أنا فأقول لكم: يا أبناء وطني لا يؤهلكم للاستقلال إلا الاستقلال نفسه. نفوسكم ضائعة. نفوسكم مغصوبة.
جدوها أولاً واستردوها ثم أصلحوها! فانتم مسؤولون عما لا تملكون؟
إن هؤلاء المضللين يلهونكم عن السعي إلى تحقيق مطلبكم الأسمى، ببهرج من وعد، وزيف من رجاء، لتلبثوا حيث انتم أو تمشوا القهقري. انهم يحاولون إقناعكم بأن العبودية وسيلة إلى الرقي، والرقي وسيلة إلى الاستقلال. انهم يعدون الجائع بقميص، ويمنون العاري بكأس ثليج، أرأيتم منطقا أسد من منطق المستعمرين؟ يا أبناء وطني! الاستقلال رهب من حمام، وطب من سقام، كما إن النقه درجه بين الداء والصحة، هكذا الحرية مرحلة بين العبودية والمجد. الاستقلال غاية بالنسبة إلى الرقي الذي انتم فيه، ووسيلة بالنظر إلى الرقي الذي تنشدون، فمزقوا هذه العصائب وحطموا هذه القيود ثم رودوا نجع الإصلاح، وحاضروا في أشواط الفلاح، فلا هدى للعميان، ولا عدو لمقعدين.
ولقد يقول الناقدون، ما شأن السياسة في الشعر؟ إن الشعر لأرفع من هذه الأباطيل. انه تنكب عن أغراض الدنيا وأعراض عن سفساف الحياة، وتلمس للمثل الأعلى. ثم يقولون من ناحية أخرى؛ - الشعر الحقيقي هو ما مثل الحياة اكمل تمثيل، والشاعر العظيم هو صورة محيطة الناطقة. هو دليل أمته الذي يتقدمها كعمود النور في ليالي محنتها. رافعا لواء الحق. هو بشيرها في الشدة ينعشها في الرجاء. ونذيرها في الرخاء يقيها مزالق البطر. فنقول لحضرات الناقدين: - أنا إذا وإياكم لجد متفقين، ولا خلاف بيننا إلا أن ما نسميه نحن وطنية أخطأتم انتم فدعوتموه سياسة. إننا في هذا الشعر لم نخض معارك انتخاب، ولا تدخلنا في أحزاب، ولكننا جهرنا بالحرية ونادينا بالاستقلال، وطالبنا بالحق ونشدنا العدل والحرية والحق والعدل ليست من أباطيل الحياة كما تزعمون، ولكنها من اشرف مبادئها وانبل غاياتها ولقد عبرنا في شكاوينا المحرقة عن اعمق جراحات امتنا المطعونة في صميم عزتها وإبائها، وأعربنا في صيحاتنا عن أسمى ما تغامر بلادنا في سبيل استرداده من شرف مروم، كما فوق النجوم، فبات سحيقا تحت أقدام الغزاة وسنابك خيل الغاصبين.
أما ذلك الشعر الذي تضحك فيه الحياة، وترن قوافيه بالحان الحب والغزل، وتعبق أنفاسه بنفحات الشباب، فله ساعات تخلص فيها النفس من أعبائها وتتناسى إلى حين ما هي فيه من شقاء، وقد اتفق لنا منه قدر معلوم سننشره في كتاب وحده، ولكنه على كل حال ليس
بالشعر الذي يتسم به أدب أمة مقهورة كأمتنا الراهنة، انه لدولة مرفوعة لواء المجد ممدودة رواق العز كدولة أجدادكم في الشام وبغداد والأندلس لا كدولة الانيار التي تحتها ترزحون، والأصفاد التي حديدها ترسفون.
إن صراخ سوريا وعويلها يكاد يقض مضاجع النائمين في المريخ ودخان غيظها يوشك أن يبطن القبة الزرقاء بقبة سوداء، أفتريدون منا أن نخرج المعجزات فنسمعكم همس الأزهار وسط هذا الضجيج، ونصور لكم ألوان الشفق وراء هذا القتام إن لم نكن غرباء الشعور عن هذه الأمة وإن لم تكن بعيون غيرها نبصر، وبآذان غيرها نسمع، ومثل غيرها ننشد؟ ألا على رسلكم أيها الناقدون! فأما أن تأتونا بغير هذا الإفلاس الوطني آية وإلا فحسبكم تضليلا.
وهبوكم لا تؤمنون بغير الأرض وطنا، وغير الإنسانية عشيرة، أفتعتقدون إن الأرض قد صارت جنة والناس فيها ملائكة ينعمون؟ وإذا كنتم ولا شك تشعرون بفقرها إلى الإصلاح فلماذا لا تباشرونه من اقرب أقطارها إليكم؟ إن الذي يغضب لحق هضم في الصين أولى به أن يناضل لدفع حيف نزل ببلاده، والذي ينفر إلى نصرة مظلوم في آخر الدنيا لحري أن يذود عن ضعيف يصرعه البغي بين شماله ويمينه! إن الحرية هي الحياة بمعناها الشريف وهي أول حقوق الإنسان، فهل من شروط حبكم للإنسانية أن تنكروا الحياة على اقرب أبناء الإنسانية إليكم؟ ألا فاشتروا لوجوهكم براقع أيها المراؤون أو فاستروها بأكفكم خجلا! إن الذي لا يستطيع أن يحب نفسه وأهله فلن يحب من الناس أحداً.
يا أبناء وطني! ويقول لكم صنائع المستعمرين نحن مثلكم نحب الحرية ولكن اين عدتكم للحرب والصدام؟ أين مدافعكم وأساطيلكم وطياراتكم وغازاتكم الخانقة؟ فأقول للرعاديد لا تحتجوا بحاجتكم إلى السلاح فانتم إلى الآباء وعزة النفس أحوج! اشعروا أولا بهوانكم واغضبوا لكرامتكم فإذا فعلتم فأنا الكفيل بأنكم تجدون غير هذه الجبانة جواباً لمن يسألكم أين عدتكم للحرب والصدام! فوالله إنكم بطول نومكم على هذا الضيم واستكانتكم لهذا الذل قد برهنتم على إن اصبر الناس على الكريهة! فلماذا تتقون الحرب؟ أو تخافون موتا شرا من الموت الذي انتم فيه؟!
أفأنتم أكلف بالسلام من مسيح السلام؟ أأنتم أودع من حمل الجلجلة؟ أما غضب فانهال
بالصوت على الصيارفة وباعة الحمام يطردهم من الهيكل غيرة على بيت أبيه؟ فبربكم أيها الشياطين الأتقياء كونوا آلهة أشرارا ولو مرة واحدة وذودوا عن بيوت آبائكم وأجدادكم! وإذا كان يشق على أيديكم الحريرية الناعمة أن تجلد بالسياط أو تضرب بالسيوف فحاربوا بسعف النخل وأغصان الزيتون! حاربوا بالسهام! حابوا بالغندية! إن الشريف لا يعدم سلاحا ينافح به عن الحق، أما الجبان فيموت الحق شهيدا بين سمعه وبصره وهو في غاب من بنادق وحراب. ألا ليت الجبان كان لعينا يزجر الطير ويفزع الثعالب فان هذا اللعين يخاف كل شي ولا يخيف أحداً!!. . . . . . الشاعر القروي.
إبرة المغناطيس
للدكتور عبد الوهاب عزام
جلست إلى مكتبي البارحة، فوقع بصري على (بيت الإبرة) فانفتحت أمامي سبل من الفكر لا تحدها غاية. واني إذ أحاول أن أقيد هذه الفكر على القرطاس لمَحاول أن أسلسل بهذه الأحرف خطرات الفكر الخاطفة التي تطوي الأجيال والأقطار في لمحات. وتجمع السماء والأرض في طرفة عين:
قلت ما اعجب هذه الإبرة! إنها هادية لا تضل، عارفة لا تخطئ. تنتحي الشمال مهما أدرتها عنه، ولا تنسى عهد المغناطيس مهما أبعدتها منه. ومهما جمعت عليها من الحجب والظلمات، وأضعفت لها في المسافات، فهي مولية وجهها شطره محسة جذبه، موصولة به، خبيرة بوحيه، لا تنساه ولا تشرك في هواه. ليت شعري أأهدى من الإنسان هذه الإبرة الصغيرة! اجل إنها لتهدي الإنسان في البر والبحر والسفر والحضر.
أحسست حينئذ خفقان قلبي يذكرني إن في صدر الإنسان إبرة أخرى مرشدة هادية، تتوجه شطر معدنها أبداً ولا يصدها عنه تطاول الأمد وبعد المدى.
ألم تهد هذه الإبرة الأمم في ظلمات الجاهلية، وغيابات القرون، فعصمتهم على العلات من الهلاك، وأخرجتهم إلى النور على تكاثف الظلمات ولا تزال هادية بصيرة بالغاية، خبيرة بالسبيل إليها - كم عبدت الإنسان شهواته؛ وأضلته عن الخير مطامعه. فما زالت هذه الإبرة تضطرب في صدره حتى اهتدى سبيل النجاة، ووضع على هداها منار الطريق. كم طغت بالإنسان ضغائنه وأحقاده، فما زالت هذه الإبرة تخفق في جوانحه حتى عرف إلى الحب والألفة والمودة السبيل، واستقام على النهج لا يميل. وكم غلا الإنسان في ظلمه وعدوانه، فما زالت تتحرك في أضلاعه حتى أشعرته نفسها ثم ردته إلى خطة للعدل محمودة، وسبيل إلى الإنصاف رشيدة. وكم غدر الإنسان ثم اهتدى بها إلى الوفاء فندم على ما قدم، واغتبط بما اهتدى. وكم أجرم الإنسان فوخزته فأفاق، فكأنما صور خلقا آخر ينفر من الإجرام، ويركن إلى السكينة والسلام. وكم سفلت بالإنسان سجاياه، فعملت في صدره حتى سمت به إلى العلياء، وطارت به من الحضيض إلى عنان السماء. وكم وقفت بالإنسان همته فدفعته هذه الإبرة العجيبة فمضى قدما إلى العمل، وهمزته فداب لا يعرف
الكلل. وكم اظلم على الإنسان طريقه، وعميت عليه أرجاؤه. وأطبقت عليه سحائب سوداء، وأحاطت به ظلمات لاشية فيها من الضياء، فنظر إليها فإذا هي إلى الغاية دليل، وإذا هي على الظلمات قد استقامت على السبيل - وكم حارت بالإنسان آراء مظلة. وأفكار غائلة، وأقوال ساحرة، ملما هلك أو كاد، ودارت به الحيرة والإلحاد، أحس اضطرابها في نفسه فسكن، فتهافت الآراء وتهاترت الأقوال، وثاب إليه هداه فوجد أمامه الله.
إيه أيتها الإبرة الهادية! ضل الإنسان في صباه وهرمه، وجهله وعلمه، وسعادته وشقائه، ووحدته واجتماعه، وحله وترحاله، لولا هداية من الله فيك. وبصيص من نوره في نواحيك، وصلة به لا تنقطع، وشعور به لا يضل، وجذوة من حبه لا تخمد.
وأما الذين أضلتهم الأهواء، فعميت عليهم الانباء، وتخطفتهم في الحياة المآرب، فتذبذبوا بين شتى المذاهب. وشرق بهم مطمع وغرب آخر، وتلونت لهم غيلان من الآمال والأعمال، والذين فقدوا أنفسهم وهم لايشعرون، وظل سعيهم وهم يحسبون انهم مهتدون، والذين يلبسون كل يوم دينا، ويبدلون كل حين رأيا، ويلبسون لكل دولة وجها، ولكل سلطان زيا، ويتخذون لكل ساعة لسانا، ولكل فرصة وجدانا، فأولئك اغفلوا النظر إليك فحرموا الاهتداء بك، بل أولئك في إبرتهم خلل قد عرض، أو أولئك في قلوبهم مرض.
عبد الوهاب عزام
الجمال الطبيعي والفني
للأديب الإنجليزي كلاتون بروك
-
عن كتابه (مقالات في الفن
للطبيعة جمالها وللفن جماله، وقد بذلت مساع كثيرة لإيضاح الفرق بين الجمال الفني والجمال الطبيعي؛ لكن نظرية (سيجنرجروس كثيرة الأنصار اليوم، وهي تقول: (إن الطبيعة تمد الفنان بالمواد الأولية فقط، وان الشعور بجمال الطبيعة هو مبدأ التدرج الفني، وان عقل الفنان موجد الترتيب والتناسب في الطبيعة المهوشة، وان الناس جميعهم قادرون على إيجاد هذا الترتيب ولكن بدرجة محدودة. أما الفنان فيظهر هما اكثر جمالا وكمالا، الفنان قوي الإحساس يستطيع أن يصنع الجمال الذي يحسه، الاحساس جزء من الصنعة).
ويقول جروس: (إذا كان الفنان يصنع جمال الطبيعة بشعوره به، وإذا كان من الممكن أن يتولد هذا الجمال بعمل عقله، يكون جمال الطبيعة حينئذ من نفس الجمال الذي يظهر في فنه، ثم إذ ظهر لنا أن فن الفنان يختلف عن جمال الطبيعة فما ذلك إلا لأننا أنفسنا لم ننظر جمال الطبيعة كما نظره الفنان. ولأننا لم نحول كل التهويش إلى ترتيب. واعلم إن هذا الاختلاف بين عمل الفن وعمل الطبيعة ليس اختلاف نوع بل اختلاف قدر، وانه لا اختلاف في الحقيقة بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا في النوع ولا في القدر. إن ما يصنعه الفنان يرى، وما يراه يصنعه، كل الجمال فني، وان حديثك عن جمال طبيعي حديث خرافات).
رغما عن (جروس) وكل حذقه وما في نظريته المتطرفة من حق لا يمكن أن نعتقد أننا نصنع الجمال حينما نراه، وان الفنان يصنعه حينما يحسه، ولن نعتقد إن الجمال الذي يصنعه هو من نفس طبيعة الجمال الذي شعر به، ولا هوـ مثلنا ـ يقدر الجمال الذي يحسه حق قدره لأنه يعلم إن لابد له من صنعه، وانه شئ مستقل عن نفسه. الفن ليس اكثر من تأثر عقل الفنان
بجمال الطبيعة، وعلى قدر ما في العمل الفني من عاطفة وإحساس يكون ما فيه من جمال.
إذا عرف الفنان إن الجمال الذي يحسه هو نتاج عقله، لا يستطيع بعدها أن يقدره حق قدره، وانه إذا تمسك بنظرية (جروس) خرج عن كونه فناناً واصبح ذا صفة أخرى ; لا شئ يقتل الفن مثل الجري وراء إيجاد جمال من نفس طبيعة الجمال الذي نراه في الطبيعة. نشاهد في جمال الطبيعة في الإتقان، وأنها كذلك غاية في الإتقان ; لأنه لا يوجد في الحقيقة ثمة صنعة، الأشياء الطبيعية لم تصنع وإنما ولدت، اعمل الفنالتي صنعت والأشياء التي ولدت، ثم بين جمال هذه وجمال تلك.
لابد وان يظهر في كل من الأعمال الفنية جهد الصنعة ونقصها وخشونتها، وان هذا الجهد والنقص والخشونة إنما هو في الحقيقة روح جمال الأعمال الفنية وانه هو الذي يميزها من جمال الطبيعة، وحالما يمتنع الناس عن فهم ذلك ويستخفون هذا الجهد والنقص والخشونة، تراهم على الغالب لا يظفرون حين يطلبون من الفن الجمال الطبيعي بغير جمال ميت.
يمكننا أن نفهم احسن فهم الفرق بين نوعى الجمال إذا نحن تدبرنا كيف ينسل الجمال في اللغة، هذا الفن الذي نمارسه جميعنا قليلاً أو كثيرا، والذي يصعب فيه الم يكن مستحيلاً تقليد غاية الجمال الطبيعي؛ لا يوجد جمال في جملة:(سينال المعتدين جزائهم) لأنها تؤدي المعنى المراد تماما بلا زيادة ولا نقصان، ويوجد جمال في مثل جملة (ليال سرقناها من الدهر. . .) لان فيها، وان كانت تظهر أيضاً غاية في البساطة، يحاول الشعر إن يقول اكثر بألف مرة مما يستطيع أن يقوله، إن السعي في عمل ما هو خارج عن طاقة الكلمات هو الذي يحمل الجمال إلى الكلمات؛ تلك هي طبيعة الجمال الفني التي بها يتميز من الجمال الطبيعي، الأعمال الفنية هي دائماً وليدة السعي لتمام المستحيل، لإتمام ما يعرفه الفنان انه مستحيل، وانه حينما لا يوجد هذا السعي، حينما يكلف الفنان نفسه عملاً في وسعه اتمامه، عملاً لا يدل على غير المهارة، حينئذ يخرج عن كونه فناناً. يقول (جروس) إن شعورنا بالجمال يتوقف علىقوة إحساسنا بعظمة الأشياء، هذا صحيح؛ غير إن قوة إحساسنا هذه تبقى قوة إحساس غير قادرة على صنع ما تحسه! إن الفن ليس مجرد اتساع طريق الشعور كما يزعم (جروس)، وإنما هو تجربة عمليه لإظهار مقدار شعور رجل الفن. فن الفنان جواب لجمال الطبيعة وعبادة له.
الفن إيضاح حالات خاصة، حالات إعجاب وتقدير، هو التسليم ببعض أشياء اعظم من
الإنسان وحيث لا يوجد هذا التسليم يموت الفن.
إن هذا الفرق بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا يرى في الجمعية التي تعتقد أنها تستطيع إن ترفع سماء بمهاراتها وعلمها وحكمتها، إن الفن في مثل هذه الجمعية يفقد كل خواص جمالة. إن الرجل الذي يتطلع إلى الكمال في الفن إنما يخدع نفسه إذ الكمال لله وحده، ولا ريب إن من عرف الله حق المعرفة اصبح شبيها به وأمكنه أن يكون الجمال مثله، ولكن أبى للإنسان ذلك، بل إن العجز ليجعله غير قادر على إتمام موضوعاته التي توحي إليه بها معرفته الله، معجبا بسمو لا يد له فيه؛ وهكذا نرى النقص باديا في كل جمال فنى ليس في الفكر فحسب، بل في العمل أيضا، وأنه لنقص يحسبه خيبة وشناعة أولئك الذين يتطلعون إلى مسمى الجمال الطبيعي في الفن والى الواقع رؤيته نظريا لا صنيعاً، مثل هؤلاء.
يفشلون أبداً في العمال الفنية العظيمة لما يعروهم من قنوط وكد وجهد؛ انهم موازين قدرة الإنسان واعترافه بالعجز في إن واحد؛ بيد إن هذا الاعتراف القائم على الصدق والإخلاصإن هو إلا الجمال بعينه، وأن الصفاء ليبدو في جمال الفن أبداً ولكنه صفاء الإذعان لا صفاءالرضى، صفاء القداسة، وليس لصفاء التجمل، إن العظمة غير المحدودة في كل ما يأتي به الفن ليست سوى اثر مهارة يلدها سعي الفنان الدائم ليعمل اكثر مما يستطيع. ليس للفنان أن ينشد مجرد الثناء وتصفيق الاستحسان بل يجب أن يعبد أيضاً وان يبدع ما يقدمه بين يدي عبادته، ذلك خير وأبقى، ليس الرعاة وحدهم الدين تقدموا إلى قبر السيد المسيح بل الحكماء أيضاً جاءوا يحملون إليه كنوزهم، وفن الإنسانية إنما يكون بآثار حكمائها، بل هو عبادة المجوس اكثر الناس بساطة في عبادتهم.
(ايها الحكماء لقد قطعتم كل طرق المعرفة وانتهى بكم المطاف إلى حيرة الراعي؛ ولكنها الحيرة التي لا تذهب بالحكمة) التي عندما تقف حائرة وتتوجه معرفة الإنسان ومهارته وكامل شعوره إلى الإقرار لما هو اعظم من الحكماء أنفسهم يكون ذلك الإقرار هو الفن، له من الجمال ما يفوق جمال الطبيعة القدسي.
الحقيقة. . . والخبز!
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت ليلة باردة. تزأر فيها الرياح زئيرا مرعبا - ويهبط فيها البرد مجنونا، فيصطدم بالنوافذ والجدران. ويكون لوقعه على نافذة النادي الوطني في تورينو (في بيه مونت) صوت كصوت الطبل. وكان النادي خاليا تلك الليلة إلا من نفر جاءوه على رغم هذا البرد. . وتجمعوا حول الموقد يحتسون الخمر، حتى إذا كان اكثروا من الشراب، واثقل رؤوسهم جو النادي الثقيل، المليء بالدخان، استرخت أعضائهم، وتممدوا في كراسيهم، يتجاذبون أطراف الأحاديث في فوضى واضطراب. ولم يكن فيهم مصغ، بل كانوا جميعا متحدثين صاخبين. .
ورأى خادم النادي تثاقلهم عم الذهاب، فعلم انهم لا ينوون براحا قبل الصباح. فمشى إلى الباب على حذر، ثم أغلقه دونهم وخرج وهو يذهب عنقه في كتفيه، ويتنفس الصعداء. وهرول يريد بيته وعياله.
ولبث القوم على صخبهم حتى صاح منهم (دافئ):
- هو. . . ألا ترون هذه الفوضى مضجرة؟
وكأنما نبههم بصياحه فأنصتوا. وقال صولين
- وماذا تريد؟
- أريد أن اشرب قدحا آخر على روح الدكتور!
فتبسم صولين ضاحكا من قوله، وانبرى له بيبر بحدة كالذي لدغته عقرب وقال:
- أتعود إلى ذكره؟ لقد ذهب إلى الشيطان!
- ولكنه كان مخلصا
- نعم، كان مخلصا للنمسا (عدوة الوطن) للنمسا التي عاش سبعة اعوام يتلقى العلم في جامعاتها، ويتلقى معه بذور الخيانة للبلد الذي أنشأه، حتى إذا عاد أنكر هذا البلد الذي غادره، طيعا هادئا؛ يؤثر السلم والطمأنينة، ولو في ظل الأجنبي الغاصب، على الجهاد في سبيل الحرية، فوجده حين عاد متيقظا قد غمرته الروح المقدسة، روح الجهاد من اجل الوحدة الإيطالية، وانتشرت فيه كالسيل الجارف الذي لا يقف أمام شيء، قد آمن بها
الرجال جميعاً، وتخطت جدران المنازل فاعتنقها النساء، وجازت أبواب المدارس فاستقرت في نفوس الأطفال، ودخلت قصور الحكومة فأحست بها، ووقفة منها موقف الصديق المرحب، آملة أن ترفع لها راية حمراء، تقود الشعب تحتها لانتزاع حرياتها من فم الأسد، من النمسا! وجد الدكتور ذلك فهاله وعمل على محاربته، فسقط في الميدان صريع خيانته.
- لا تقل خيانة. إن إلقاء محاضرة علمية عن قيمة الإمبراطورية الرومانية لا يعد خيانة. وحسب الدكتور أنه أرضى ضميره العلمي. وأظهر تاريخنا للناس مجردا من ثوب الغرور الوطني.
- انه خالف الحقيقة. فروما سيدة العالم لا يمكن أن تكون من عنصر العالم. هي من أسمى. هي أم الشعب المختار.
- لو كانت كذلك، لما انقرضت، الصلح يبقى أبدأ. . .
وعلت الأصوات. حتى صارت المناقشة ضجة جوفاء. . فأسكتها صولين. . وقال بهدوء.
- وماذا يعنيكما من الحقيقة حتى تتقاتلا من اجلها. مهما تكن حقيقة الإمبراطورية الرومانية (فالغرور الوطني) خير منها. ما دام هو السبيل إلى حياتنا واستقلالنا.
فصاح به دافي:
- هذه أراء خطرة؟ قل لي من ذا الذي لا تعنيه الحقيقة؟
- الجائع المشرف على الموت ان الحقيقة الواحدة هي في النظرة الرغيف، ورغيف يابس ابلغ لديه من كل حوت مكتبة روما.
- قد يكون ذلك، ولكن الحقيقة تبقى لها قيمتها.
- عند من تبقى لها هذه القيمة؟ انك لم تفهم ما قلت؟ إن الحقيقة يهتم بها ويفكر فيها من يشبع من الطعام. كما يفكر في الحلوى ويتشهى الفاكهة. أما الجائع المشرف على الموت فينكرها. لا يحس بوجودها. يصبح عقله في معدته. أفهمت؟
ولاحت على شفتي ابتسأمة تهكم خفية، إغتاظ منها دافي فقال بحنق:
- وماذا تعني؟
ثم بدا له إن هذا الحنق انهزام منه فتكلف الوقار وقال:
- وضح كلامك من فضلك.
- كلامي واضح، فإذا لم تتبنه فليس الذنب على. اعني انه يجب على الإنسان أن يعيش ثم يتفلسف. كما قال المثل اليوناني. وكذلك الامه، لتستقل أولاً وتبن لها كيانا قائما ثم تبحث عن الحقيقة. أما البحث عن الحقيقة أولاً فجريمة!
- ولاكن إذا لم نراع المبادئ الأخلاقية في بنائنا كياننا قام على مبدأ الوحشية. وارتكز على عظام غيرنا، أفنبني كياننا على عظام الأبرياء؟
- إذا لم يوجد غيرها. فلم لا؟ إذا لم يكن بد من قتل أحدكما فكن أنت القاتل.
- ولماذا؟
وظن انه سيعجزه بهذا الاعتراض. وخالطه الاشمئزاز من آراء صولين والشعور بأنه يفوق علما وذكاء فمط شفته السفلى متهكما وردد.
- ولماذا بالله؟
لماذا؟ لأن حياتك اثمن من كل شيء. ولأن تنال حيات وحشية خير لك من أن تعدم الحياة.
- ولكن الفضيلة.
- لا دخل للفضيلة في أمر الحياة - إن الفضيلة والعدل والحقيقة والجمال الفني - كل أولئك وسائل ابتدعها الإنسان إلى ترف الحياة واستمرارها قوية، فإذا استحالت وسيلة إلى فقد الحياة فلتذهب إلى لعنة الله.
- وماذا تقول في مبدأ الإنسانية؟ وكيف يتفق ودعوتك إلى قتل إخواننا من البشر؟
- أنا لا أدعو إلى قتل أحد. ولكن من أراد قتلك فلا تقف منه مكتوف اليدين، أما مبدأ الإنسانية فلا أنكر انه من اجمل (السخفات) التي اخترعها الأقوياء لتكون قيدا جميلا، يقيدون به الضعيف.
- أتقول انه (سخافة)؟ يا لله! لست أطيق سماع أرائك الشاذة.
- أولاً تظنها كذلك؟
- من؟ أنا؟ أبداً!
- وتراها حقيقة؟
- طبعا
- وترى البشر كلهم إخواننا؟
- بلا شك
- إذا فأنت أيها الإيطالي أخو النمساوي الذي غلبك على بلادك ونازعك على خبزك واتخذك عبدا له؟ لا أحسبك من البلاهة بحيث تقول إن الجلاد الذي يعذب السجين ويشوي جلده بالسياط هو أخوه
- انك تهدم الأخلاق من أساسها!
- ذلك خير من أن تنهدم أمتي التي تبني الآن. ولست من رأي الدكتور الذي بحث عن الحقيقة في شعب يبحث عن الخبز. وقد يأتي يوم يصبح فيه من الشهداء. ينصب له تمثال. أما الآن فليس إلا خائنا.
ولم يعد يطيق البقاء بين هؤلاء السخفاء الذين يذبحون أمتهم بسيف من الذهب. فخرج من النادي والسماء تهبط على الأرض في رعد وبرق، ففتح فاه ونشق الهواء الطلق، وصاح صيحة النشوان:
- بهذه الثورة السماوية، تكون حياة الأرض. .
دمشق
علي الطنطاوي
الفن المصري القديم
- 2 -
قد يكون من بعض الأسباب التي يقوم عليها عذر أولئك المنكرين لفضل الفن المصري على انه أساس الفنون الأخرى، إن الفن المصري هو فن فذ، ذو أسلوب فريد يختلف عن بقية الفنون، يجعله كما يعتقدون - أو يتوهمون - جافا ليس حرا. أو انه فن محلى بحت لقيامه على قواعد وشروط خاصة، أو غير متوافق مع مزاج كل أمة لشذوذ عن المعروف عندها. بخلاف الفن الإغريقي. فهو فن متفق مع جميع الفنون الأخرى في الغرض والأسلوب. أو هو فن دولي، فهو لذلك الفن الجدير الصادق. ولهذا أغضوا عن الفن المصري القديم، وقام في أعينهم مكانه الفن الإغريقي كأساس لكل فنون العالم، وذهبت هذه الفكرة الواهية بمعالم الحقيقة.
وسأحاول أن أدافع عن هذه الحقيقة، وأقاوم تلك الفكرة التي لا ينبغي أن تلبس العقول. وقد أتمنى أن أوفق لإثبات الجدارة للفن المصري القديم، وللتدليل على انه الاساس، إن لم يكن لكل تلك الأساليب من الفن التي يبهر بها الغربيون أعيننا الآن، فلا اقل من أن يكون صاحب الفضل على جميع أقوام العالم في تدريبهم على كيفية رسم المجسات وعلاج الألوان. أو أن يكون قد وضع النموذج المبدئي في كيف ترسم اليد جسم الإنسان رسما صحيحا، وكيف تتقن تصوير أعضائه وتمثيل عضلاته. ثم كيف بعد ذلك ينتخب ذوق الإنسان الألوان التي تنساق وتتفق تحت العين.
ارتباط الفن بالدين
ان فنون العالم، وقد بدأت كلها حياتها في خدمة الديانات، وفي تحقيق أغراضها المختلفة تدرجت الحال بها كلما تقربت الأمة إلى فهم معاني الجمال، وتوغلت في أساليب المدنية إلى طرح التقاليد الدينية جانبا. وتخطتها إلى التعبير عن الأغراض الدنيوية، والكشف عن أسرار الطبيعة بما فيها من جمال وروعة. فاتفقت كلها على أن تعطينا أخيراً تلك الخلاصة البارعة فيما نتمتع به اليوم من مبدعات الفن.
إلا الفن المصري القديم. فانه ظل للديانة المصرية خادما أميناً، محافظاً على غايته وأغراضه مدى الخمسين قرنا الطويلة التي عاشها في التاريخ ولم يخن عهوده يوما ما، ولم
يتزعزع عن خدم الديانة حتى في انشط أدواره، في غضون عصر الأسرة الثامنة عشرة عندما جنحت الفكرة بفن تل العمارنة إلى الإغراق في تزويق القصور.
ومن ذلك كان الفن في كل أدواره مرتبطا مع الدين برباط وثيق. يتأثر تبعا للانقلابات الدينية، أو الحركات العبادة ذاتها. أو قل إن الكهنة كانوا غالبا يسيطرون على دفة الفن، فيوجهونها حيثما شاءوا، بحسب العقيدة والأهواء الدينية. لما كان للكهنة من سلطة عظيمة في البلاد، تقارب سلطة الملك ذاته، بل إن سلطته كانت في بعض الأحيان، تفوق سلطة الملك.
ولكن الفن الذي تركه لنا أولئك القدماء، أعطانا، مع ذلك، افخر ما يشهد بقدرتهم وكفايتهم، واصدق ما يعبر عن نضوج أذهانهم واكتمالها. بل أعطانا في كل أسباب شواهد لا تحصر من البراعة والسمو والإبداع مع وفر من الرشاقة والجمال. في حين انى كل فن، قام أو يقوم بخدمة الديانة بعده، وقف طويلا في طريق الجمود.
ومصر لا يجب أن تعتبر وثنية بكل المعنى. لأنها في كل أدوار تاريخها كانت متغلغلة في أسباب الديانة، مراعية للخير والصلاح بكل دقة، تقدر الحساب والعقاب، وتعمل للآخرة، حتى طبعت أرضها بطابع ديني. يقرب كثيرا في بعض الأحيان من الحقيقة. وفنها من اجل ذلك، في مسحته القدسية، يجعلنا بعيدا عن الحقائق الأرضية، بما يفوق الفن الإغريقي. ولكنه في الوقت نفسه نابض بكل معاني المقدرة والرزانة، متواضع مع الأفكار البشرية، مخلص كل الإخلاص في التعبير عن الإنسانية الأولى.
إلى الآنسة لطيفة النادي
صور خالدة من بطولة المرأة العربية
نسيبة بنت كعب المازنية
سيدة امتلأت كرما ونبلا وفاضت شجاعة وحماسة وازدانت بكل ما يزين المرأة من قلب رقيق وحساسة قوية وعطف شديد، كما تحلت بإقدام الرجال وحزمهم.
خرجت هي وزوجها زيد بن عاصم وولداها عبد الله وحبيب في ذلك النيف والسبعين من الأنصار يوم العقبة الثانية يريدون رسول الله المصطفى يبايعونه مستخفين لئلا يؤذيهم الجاهلون، فبايعوه والناس نيام في ثلث الليل الأخير في اليوم الأوسط من أيام التشريق من السنة الثالثة للبعثة؛ وعادوا إلى المدينة ووجوههم تطفح بالبشر بما نالوا من خير، وقلوبهم ترقص طربا بما نفحهم الحق سبحانه من نوره، من نعمة الإيمان ونور الهدى.
كان يوم أحد - يوم تلك الغزوة التي كاد أن يقضى فيها على المسلمين - فأظهرت نسيبة - رضوان الله عليها - من رباط الجأش والاستبسال في القتال ما لم يكن للأبطال المذاويد من فرسان العرب المغاوير.
فقد التحم الجيشان وكانت الدائرة - أول الأمر - على المشركين فمال المسلمون على الغنائم وشغلتهم الأسلاب؛ فتجمع المشركون ثانية وزحفوا عليهم زحفة أطارتهم كل مطار ولم يبق حول رسول الله إلا نفر قليل فيهم أبو بكر وعمر وعلي وسعد وطلحة والزبير ونسيبة هذه وزوجها وابناها. وما رأت نسيبة دم المصطفى يسيل على وجهه، ورباعيته قد كسرت ودخلت حلقة المغفر في رأسه حتى طرحت قربتها التي كانت تسقي منها العطاش وانتضت مهندا تقاتل دون الرسول ببسالة وإقدام فائقين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها (ما التفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
ولقد جرح ابنها عمارة في عضده اليسرى ضربه رجل كأنه الرقل (النخلة) ومضى عنه فجعل الدم ينزف فقال رسول الله، اعصب جرحك فأقبلت أمه ومعها حقائب في حقويها قد أعدتها للجراح - والنبي واقف ينظر فضمدت جرحه وقالت انهض بني فضارب القوم! فجعل النبي يقول (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة) وإذا بضارب ابنها يظهر فقال المصطفى (هذا ضارب ابنك) فاعترضت له وضربت ساقه فبرك فابتسم الرسول وقال (استقدت يا أم عمارة) ثم أخذت تعل الرجل بالسلاح حتى أتت عليه. فقال الرسول (الحمد
لله الذي ظفرك واقر عينك من عدوك وأراك ثأرك بعينك). وقد جرحت اثني عشر جرحا وهي لا تعنى حتى ضربها ابن قمئة ضربة غائرة في عنقها، فنادى رسول الله (عمارة أمك! أمك، اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل البيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان) فلما سمعته قالت (ادع الله أن نرافقك في الجنة) فقال (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) فقالت (ما أبالي ما أصابني في الدنيا).
ولنستمع إليها تحدثنا عن بلائها ذلك اليوم: (قالت خرجت أول النهار وأنا انظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال عنه بالسيف وارمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي) قالت راوية الحديث فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا؟ قالت (ابن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس من ثبت مع رسول الله فضربني بهذه الضربة ولقد ضربته ضربات ولكن عدو الله كانت له درعان).
وهناك موقف آخر من مواقف بطولتها الخالدة يوم خرج خالد بن الوليد في جيش فيه ولداها لقتال مسيلمة الحنفي. فأسر مسيلمة ابنها حبيبا فعذبه وأراد فتنته عن دينه، ولكن أنى لهذا الشهم الكريم سلسل تلك السيدة الكريمة الباسلة التي غرست فيه الشمم وقوة الإيمان يوم إن أرضعته. أنى له أن يفتن في دينه أو يصبأ عن عقيدته.
روى ابن هشام في السير ما نص (. . . وابنها حبيب الذي أخذه مسيلمة صاحب اليمامة فجعل يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم، فيقول أفتشهد إني رسول الله فيقول له اسمع فجعليقطع منه عضواً عضواً حتى مات في يده لا يزيد على ذلك: إذا ذكر رسول الله آمن به وصلى عليه، وإذا ذكر مسيلمة قال له اسمع، فلما بلغها هذا خرجت إلى اليمامة مع المسلمين فباشرت الحرب بنفسها حتى قتل الله مسيلمة ورجعت وبها اثنا عشر جرحاً ما بين طعنة وضربة).
هذه هي نسيبة بنت كعب التي كانت مثلا عاليا في التضحية والإقدام، والبسالة والنبل. على أنها ما كانت لتقتصر على هذا فقد كان لها نصيب وافر من العلم فقد روت عن النبي
وحدثت كما في الإصابة.
فهلا تحذوها أوانس اليوم اللائى نسين واجباتهن وفرطن في كل شي عدا زينتهن وترفهن.
فلتأتس الشابات الكرائم بنسيبة ذلك العصر، ولطيفة هذا الوقت ليقمن بما عليهن لهذا البلد الأمين فينشئن له من فلذات أكبادهن رجالاً أولي قوة، شداداً صلاباً ينقذونه مما هو فيه.
أسعد طلس
التعليم العالي للنساء
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
ما زال التعليم العالي للنساء في مصر وليداً في المهد، ولم تتهيأ أغلبية العقول بعد للإقلاع عن المبدأ القديم الذي يقول إن المرأة لم تخلق إلا للدار وإنجاب الأطفال ويكفيها لقضاء مهمتها الخاصة اقل قسط من التعليم. وتحت تأثير هذا الزعم كان قبول الفتيات بالجامعة المصرية سنة 1928 بطريق الاحتيال والتآمر كما ذكر أحد رجالات التعليم في مصر في حفلة تكريم أولى خريجات الجامعات بدار الاتحاد النسائي في الشهر الماضي. والواقع، ما زال التعليم العالي للنساء في بلادنا نبتا يخشى عليه من تقلبات الجو السياسي وزوابع الآراء الرجعية بالرغم من إن النساء في البلاد الأوربية الراقية التي تحذو مصر حذوها في كثير من نواحي حضارتها، قد حصلن على هذا الحق منذ أكثر من ثمانين عاما.
ولما يخامر النفس من شكوك ومخاوف، على مستقبل التعليم العلي للمرأة المصرية، رأينا أن نتأهب للدفع، بعرض قضية المرأة اليوم على بساط البحث بادئين ببيان الغرض من التعليم العالي ثم يترتب عليه من نتائج بالنسبة للمرأة والمجتمع يمتاز التعليم العالي والصحيح الذي يتحرر فيها الطالب من كل القيد بكونه يهيئ مجالا واسعا لتكوين الشخصية ولإظهار المواهب بما إن من أول شروطه البحث المستقل والاطلاع الواسع والاعتماد على النفس في تكوين الآراء والوصول إلى النتائج تدعمها الحجج القوية والبراهين. كما إن من مزايا هذا التعلم أيضاً فيما لو سار على أسسه الصحيح، الاتصال بالمجتمع ودراسة أزمانه وظواهره المختلفة من سياسي واقتصادي وتدريب النشء على أعمال الجماعات والقيادة بان يشتركوا في تكوين الجمعيات الصغير للبحوث والألعاب والأغراض المختلفة التي تنشأ في ظل الجامعة. وبهذه الطريقة يعتادون العمل المشترك والتعاون وتضع فيهم النزعات الأنانية. وبذلك يصبحون أعضاء نافعين للمجتمع والإنسانية.
والمرأة أحوج ما تكون إلى مثل هذا التعليم الذي يتضمن كل هذه المزايا فلها عقل كعقل الرجل هو الفارق بينهما وبين الحيوانات غذاؤه الطبيعي العلومونموه وصقله في استقلالها واستثمارها وبما إن المرأة إنسان فلا يصح أن تمنعها الأمومة أو الحياة المنزلية من إن
تستكمل أول ميزات الإنسان بان تستمتع بالتعليم العالي الوافي الطليق. . ثم إن المرأة في حاجة أعظم من حاجة الرجل إلى الناحية الاجتماعية من هذا التعليم فهي بسب انزوائها الطويل في عقر دارها وحرمانها من الاختلاط الحر وتناول الآراء قد عجزت عن تنمية الصفات الاجتماعية في نفسها. تلك الصفات التي يمتاز بها الرجل المثقف وهي الميل. إلى الأعمال المشتركة، وسعة الصدر في المناقشة والتفكير المتواصل الرصين ولو تحلت المرأة بتلك الصفات فوق ما تمتاز به من حنان ورقة لارتفع ولا شك مستوى المجتمع. لهنأت الحيات المنزلية. وتلك الصفات يمهد السبيل لا كتسابها التعليم العالي أو الجامعة، ففي أثناء هذا التعليم تختلط المرأة بأناس مختلفي الطباع والنزعات.، متنوعي الأفكار والمذاهب، فيداوي ما بها من نقص ونظرة محددة متأثرة بالمرغبات الشخصية إلى الأمور. . والواقع إن الحياة الاجتماعية في الجامعة لا تقل أهمية عن الحياة العلمية بما أنها تعد الطلاب للحياة العملية الراقية ولذلك اهتمت بها كل الاهتمام الجامعات العريقة مثل اكسفورد وكمبردج التين أخرجتا للعالم مهرة الساسة والمصلحين. . وقد يعترض معترض: وما شأن المرأة بهذه الأمور وهي لا ينتظر أن تكون من الأحكام أو الساسة الماهرين؟ حقاً إن المستقبل القريب لا يبشر بمثل هذا التقدم وان كنا لا نيأس من حصوله في وقت ما بلادنا أسوة بالبلاد الأخرى المتدينة ولكن الفتاة المصرية كما بينا تفتقر إلى الصفات الاجتماعية وفوق ذلك تعدها الحياة الجامعية الصحيحة لأن تقوم بنصيبها في ميدان الإصلاح وليس هنالك من يجهل نواحي النقص الكثيرة في بلادنا وقد جمع أحد مفكري الأمريكان الغرض من التعلم العالي للجنسين في قوله (إن من يصرح بان الثقافة وتحرير المواهب الفردية هما غرض التعليم الاعلى، لا يذكر في الواقع غير نصف الحقيقة فالتعليم يكون ناقصاً مبتوراً إذا استمر منفصلا عن معالجة الشؤون الاجتماعية، فهل بعد ذلك تحرم المرأة من التعليم العالي الذي ينمي مداركها ويجعلها أداة نافعة لإصلاح المجتمع خصوصا وأنها مطبوعة على التضحية، شديدة الحساسية، تؤثر فيها أثيرا بليغا مظاهر الشكوى والألم؟
تلك هي أغراض التعليم العالي ولم يبق إلا أن نذكر شيئا عن بعض نتائجه التي يتخذها أنصار التردد والهزيمة حجة ضد التعليم العالي للنساء: فهم يقولون مثلا: أو ليس من نتائج التعليم العالي للفتيات إذا صدقت الإحصائيات إن اكثر من 50 في المائة من المتعلمات
تعليما عاليا في أوربا وأمريكا يحجمن عن الزواج ويفضلن حياة الإنتاج والكسب والاستقلال على الحياة المنزلية التي لا تهيئ لهن الميدان الكافي لاستثمار معلوماتهن بالذات فيقل عدد النسل ويضمحل إذ تترك تلك العملية الهامة لأغلبية من غير المتعلمات؟ ثم ألا تصبح أولئك المتمردات على الحياة البيتية عامل خطرا من عوامل الأزمات الاقتصادية إذ ينافسن الرجال في ميادين الأعمال فيزداد عدد العاطلين والمعوزين من الأسر؟.
إن مجرد النظر السطحي إلى مثل هذه الاعتراضات يظهر المرأة بمظهر الخارج على القوانين الطبيعية العامل على فناء النوع الإنساني ومضاعفة أخطار الأزمة الاقتصادية. ولكن الموضوع اخطر من أن نكتفي بالنظر السطحي إليه. لنسلم جدلا بان اكثر من 50 في المائة من خريجات الجامعات يحجمن عن الزواج عندما يجدن لذة كافية في الأمور العلمية واستثمار تعليمهن العالي. ولكن تسليمنا بذلك ما هو إلا تسليم بجانب من الحقيقة فقط، ويجب أن نذكر إنصافاً للمرأة وإقراراً للحق إن المرأة التي لا تتزوج تخدم المجتمع في الغالب بطريق مباشر، طريق الإنتاج والعمل وإصلاح المساوئ الاجتماعية فعمل المرأة البيولوجي لا يصل وحده بالمجتمع إلى الرقي والرخاء وإنما الإنسانية بحاجة إلى مجهودها الموفق واستغلال مواهبها خارج المنزل كما هي بحاجة إلى عملها الخاص داخله. أما ما يقال عن نتاج من يتزوج من المتعلمات تعليما عاليا وان كن الأقلية فهو أن العبرة بالنوع لا بالعدد، وبالكيف لا بالكم. فلو لم تتعلم النساء هذا التعلم لكنا حقا اكتسبنا زيادة في عدد الأطفال ولكنا من ناحية أخرى كنا نفقد الإضافة إلى الإنتاج العقلي والثروة المعنوية، والأطفال الممتازين الذين لا ينجبهم غير الأمهات المتعلمات تعليما عاليا.
أما المشكلة الأخرى وهي زيادة مزاحمة المرأة للرجل فيما لو تعلمت تعليما عاليا فيكفي أن نقول لهدم هذا الاعتراض انه ناتج عن أنانية الرجل فلو لم يكن الرجل أنانياً حقا لما عمل تضحية المزايا المعنوية التي تترتب على تعليم المرأة تعليما عاليا في سبيل الاستئثار بالمزايا المادية بأبعاد المرأة عن ميدان العمل بل هو قد يقدم على اكثر من ذلك فيعمل على أن يحرمها متعة التعليم العالي واللذة الروحية حتى يضمن عدم منافستها المادية في أحد الأيام. إن مثل هذا الاعتراض لا يتفق مع شهامة الرجولة ولا مع إقدام الرجل.
الشافعي واضع علم أصول الفقه
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 7 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث آثاره وكتبه
د - وضع الشافعي علم أصول الفقه
ومذهب الشافعي الجديد وصل إلينا فيما ألفه بمصر من الكتب وقد سرد البهيقي المتوفى سنة 458هـ - 1065 - 1066م كتب الشافعي ولخصها عنه ابن حجر في ص78
(الرسالة القديمة، ثم الجديدة - اختلاف الحديث، جماع العلم - أبطال الاستحسان - أحكام القرآن - بيان الفرض - صفة الأمر والنهي - اختلاف مالك والشافعي - اختلاف العراقيين - اختلافه مع محمد ابن الحسن - كتاب علي وعبد الله - فضائل قريش - كتاب الأم -. . .)
وعدة كتب الأم: مائة ونيف وأربعون كتاباً وحمل عنه حرملة كتابا كبيرا يسمى (كتاب السنن) وحمل عنه المزني كتابه (المبسوط) وهو المختصر الكبير والمنثورات وكذا المختصر - المشهور - قال البهيقي: وبعض كتبه الجديدة لم يعد تصنيفها وهي: الصيام - والصداق - والحدود - والرهن الصغير - والأجارة - والجنائز فانه أمر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد وأمر بتحريق ما يغاير اجتهاده قال: وربما تركه اكتفاء بما نبه عليه من رجوعه عنه في مواضع أخرى.
قلت: وهذه الحكاية مفيدة ترفع كثيرا من الإشكال الواقع بسبب مسائل اشتهر عن الشافعي الرجوع عنها وهي موجودة في بعض هذه الكتب.
ثم نقل ابن حجر: إن لأصحاب الشافعي من أهل الحجاز والعراق عنه مسائل وزيادات قال: وهذا يدل على إن (كتبا أخرى حملها عنه هؤلاء لان هذه المسائل ليست في الكتب المقدم ذكرها) وقد ترك ابن حجر في تلخيصه: كتاب (مسند الشافعي) ولا ندري: إن كان
البهيقي قد تركه أيضاً أم لا؟ ويقول الرازي (ان كتابه المسمى (بمسند الشافعي) كتاب مشهور في الدنيا، ص146) كان اتجاه المذاهب الفقهية قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها وردها إلى أدلتها التفصيلية عندما تكون دلائلها نصوصا.
وأهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا اكثر تعرضا لذكر الدلائل من أهل الرأي.
فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ ما فيهما من نقص بدا له أن يكمله واخذ ينقض بعض التفريعات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريق الاستنباط.
وذلك يشعر باتجاهه في الفقه اتجاه جديدا هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يعني بالجزئيات والفروع.
ويدل على إن اتجاه الشافعي لم يكن إلى تمحيص الفروع: ما نقله ابن عبد البر في (الانتقاء) من: إن احمد ابن حنبل قال: (قال الشافعي لنا: أما انتم فاعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني أن يكون كوفيا، أو بصريا أو شاميا اذهب إليه إذا كان صحيحا) ص75.
وطريقة علاجه لمسائل العلم تدل على منهجه قال أبو محمد بن أخت الشافعي عن أمه قالت: ربما قدمنا في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو اقل أو اكثر المصباح بين يدي الشافعي، وكان يستلقي ويتذكر ثم ينادي الجارية هلمي مصباحا فتقدمه ويكتب ما يكتب ثم يقول: ارفعيه، فقيل لأحمد: ما أراد برد المصباح؟ قال: الظلمة أجلى للقلب. مفتاح السعادة ج2ص91.
وليس هذا النوع من التفكير الهادئ في ظلمة الليل تفكير من يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع.
بل يعني بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك: هو النظر الفلسفي.
قال ابن سينا في الشفاء (إنا لا نشتغل بالنظر في الجزئيات لكونها لا تتناهى وأحوالها لا تثبت وليس علمنا بها من حيث هي جزئية تفيدنا كمالا حكيما أو تبلغنا غاية حكيمة، بل الذي يهمنا هو النظر في الكليات).
وكان احمد يقول: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة - واختلاف الناس -
والمعاني - والفقه (الرازي ص35)
وقد حاول الشافعي: ان يجمع أصول الاستنباط الفقهي وقواعدها علما ممتازا وان يجعل الفقه تطبيقا لقواعد هذا العالم.
وبهذا يمتاز مذهب الشافعي من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز.
د - وضع الشافعي لعلم أصول الفقه.
إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية فهو أيضا: أول من وضع مصنفا قي العلوم الدينية الإسلامية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه، قال الرازي: اتفق الناس على: إن أول صنف في هذا العلم - أي علم أصول الفقه - الشافعي وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها في القوة والضعف.
وروى: أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقران والسنة، والإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص فوضع الشافعي رضى الله عنه (الرسالة) وبعثها إليه.
فلما قرأها عبد الرحمن بن المهدي قال: ما أظن أن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل ثم قال الرازي: واعلم: أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة (ارسططاليس) إلى علم (المنطق) وكنسبة (الخليل) بن احمد إلى علم (العروض).
وذلك لأن الناس كانوا قبل (أرسططاليس) يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة لكن ما كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين.
فلا جرم. كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة فأن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي، قلما أفلح. فلما رأى (أرسططاليس) ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة واستخرج علم (المنطق) ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه في معرفة الحدود والبراهين.
وكذلك الشعراء كانوا قبل (الخليل بن احمد) ينظمون أشعارا وكان اعتمادهم على مجرد الطبع فاستخرج (الخليل) علم (العروض) فكان ذلك قانونا كليا في معرفة قانون الشعر ومفاسده فكذلك هنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل (أصول الفقه) ويستدلون ويعترضون، ولكن مكان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها، وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم (أصول الفقه) ووضع للخلق
قانونا كليا يرجع إليه في معرفة أدلة الشرع 00 ثم يقول الرازي: واعلم إن الشافعي صنف كتاب (الرسالة) ببغداد ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب (الرسالة) وفي كل واحد منهما: علم كثير ص 89 ـ102
ويقول (بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي) المتوفي سنة 749هـ 1391 ـ1392 في كتاب في أصول الفقه المسمى بالبحر المحيط (فصل): الشافعي أول من صنف في (أصول الفقه) صنف فيه كتاب (الرسالة) وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث وأبطال الاستحسان وكتاب (جماع العلم ـ كتاب القياس ـ الذي ذكر فيه؛ تضليل المعتزله ورجوعه عن قبول شهادتهم)
ثم تبعه المصنفون في علم الأصول، قال احمد بن حنبل (لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي)
وقال الجويني في شرح الرسالة: لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف (الأصول) ومعرفتها، وقد حكي عن ابن عباس (تخصيص عموم) وعن بعضهم (القول بالمفهوم) ومن بعدهم لم يقل في الاصول شئ ولم يكن لهم فيه قدم فانا رأينا كتاب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم فما رأيناهم صنفوا فيه (من نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس)
ويقول ابن خلدون في المقدمة: (وكان أول من كتب فيه أي في (علم أصول الفقه) الشافعي رضي الله عنه أملى فيه (رسالته المشهورة) تكلم فيها في: الأوامر والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة، من القياس
ثم كتب (فقهاء الحنفية) فيه، وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضاً) ص 397
وفي كتب (طبقات الفقهاء) للقاضي شمس الدين العثماني الصفدي: وابتكر الشافعي ما لم يسبق إليه من ذلك (أصول الفقه) فانه أول من صنف (أصول الفقه) بلا خلاف
ومن ذلك: (كتاب القسامة ـ وكتاب الجزية ـ وكتاب قتال أهل البغي) من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس
ويقول صاحب كتاب (كشف الظنون): وأول من صنف فيه (الإمام الشافعي) ذكره الأسنوي في التمهيد وحكى الإجماع فيه ص 334
والباحثون في هذا الشأن من الغربيين يرون في (الشافعي) واضعاً (لأصول الفقه) يقول (جولد زيهر) في مقالته في كلمة (فقه) في دائرة المعارف الإسلامية: (واظهر مزايا محمد بن إدريس الشافعي): انه وضع نظام الاستنباط الشرعي من أصول الفقه وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول وقد ابتدع في (رسالته) نظاما للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشان المقدم ريث الاستنباط من هذه الأصول ووضع القواعد لاستعمالها بعدماكان جزافاً).
على أنا نجد في كتاب الفهرست في ترجمة (محمد بن الحسن) ذكر كتاب له يسمى (كتاب أصول الفقه).
ويقول الموفق المكي في كتابه (مناقب الإمام الأعظم) نقلا عن طلحة بن محمد بن جعفر؛ إن ابا يوسف أول من وضع الكتب في (أصول الفقه) على مذهب أبي حنيفة ج 2 ص245 ونقل ذلك طاش كيري زاده في كتابه (مفتاح السعادة) ج 2 ص 102
ولم يرد كتاب في هذا العدد فيما أورده صاحب (الفهرست) لأبي يوسف من الكتب وإذا صح. إن لأبي يوسف أو لمحمد كتاباً (في أصول الفقه) فهو فيما يظهر كتاب لنصرة ما كان يأخذ به أبو حنيفة ويعيبه أهل الحديث من الاستحسان.
وقد يؤيد ذلك، إن صاحب (الفهرست) ذكر في أسماء كتب أبي يوسف. كتاب الجوامع ألفه ليحيى ابن خالد يحتوي على أربعين كتاب، ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به ولم يكن فيه طبيعة مذهب أهل الرأي الذين كان من همهم؛ إن يجمعوا المسائل ويستكثروا منها، النزوع إلى تقييد الاستنباط بقواعد لا تتركه متسعا رحبا على إن القول بان أبا يوسف هو أول من تكلم في (أصول الفقه) على مذهب أبي حنيفة لا يعارض القول بان الشافعي هو الذي وضع (أصول الفقه) علما ذا قواعد عامه يرجع إليها كل مستنبط لحكم شرعي وقد لا يكون بعيدا عن غرض (الشافعي) في وضع (أصول الفقه): إن يقرب الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث ويمهد للوحدة التي دعا إليها الإسلام.
صفي الدين الحلي
- 3 -
(تتمة)
كانت مصر إذ رحل إليها الشاعر في عهد زاهر مثمر من اكثر نواحي الحياة، فهبط إليها كما يهبط الطائر الصادي على الروض الندى اليانع؛ ينهل من موارده في شوق ويتنقل على دوحاته في طرب، ثم ينثني عنه وقد ارتوى إلى وطنه شاديا مترنما!
فقد أصبحت بعد إن شل المغول عرش بني العباس وأسدلوا على بغداد الستار، مركز الثقافة الإسلامية الأكبر وموئلها الحصين، تنهض فيها جامعة الأزهر والمدارس الأخرى بأعباء الرسالة العظمى للعلم والأدب، وتشترك سلاطينها بأيدٍ عاملة نشيطة في تعضيد هذهالحركة وتغذية روحها بعوامل القوة؛ بما تحدثه من المدارس وما تغدقه في كرم على العلماء والأدباء من هبات وصلات.
وكان عصر السلطان الناصر بن قلاوون من خير عهود دولة السلاطين الأولى؛ إذ كان السلطان نفسهـ كما يقول السير وليم موير - (مثقفاً ثقافة عالية، درس علوم الفقه والقانون ونال شهادة فيها فكان يحب العلم والعلماء ويشاركهم في كل أمر يفيضون فيه) وكثيرا ما يكون الملوك المثقفون نعمة على رسل الثقافة لما يملكون من حسن التقدير لأعمالهم، وصدق الشعور بحلاوةثمراتهم، وقد روي عنه انه اقطع أبا الفداء المؤرخ الشهير ولاية حماة تقديراً لمكانه وجزاء لما قدمه إليه من معونة في بعض الحروب. وفي عهده كانت مصر تنعم بشيء من راحة الظافر بعد أن شلت حركات المغول وأنقذت الشرق العربي من بين براثنهم المسمومة، وبعد أن طاردت حملة الصليب المستكلبين في هدم الإسلام والشرق، وقذفت بهم في قوة إلى البحر! ولكنها مع ذلك لم تكن تغفوا عن حراسة هذا الملك وقطع أذناب العدو كلما امتدت اليه، وهو ملك شاسع مترام يمتد ما بين الفرات والحجاز وآسيا الصغرى وجنوب النوبة، ولما كانت إذ ذاك لا تزال طريق التجارة والرحلة بين أوربا والشرق قبل أن يكشف رأس الرجاء الصالح، وعرفت مصر كيف تستغل هذا المورد الثرى أحسن استغلال، وكانت تجبى إليها ثمرات تلك (العاهلية) الكبرى، فقد حازت من المجد المالي ما يمكنها من مواصلة السير في طريق مجدها العلمي والحربي.
لذلك لا نعجب أن نرى القاهرة حينذاك تموج بوفود رجال العلم والأدب فتحسن وفادتهم، وان نسمع صفى الدين وقد أقبل إليها فانتظم زمنا في حاشية الملك الناصر يصوغ آيات المدح لمصر ومليكها، ويعود إلى وطنه فيلهج بأجمل الذكريات لما لقي فيها من روعة الكرم وحسن الضيافة. وقد اتصل أثناء أقامته في مصر بحلقاتها الأدبية التي كان يمثل زعامتها الكتابية (علاء الدين بن الأثير) رئيس ديوان الإنشاء، وزعامتها الشعرية (جمال الدين بن نباتة) الأديب الشهير، وتوثقت بينهم جميعا روابط الصداقة والإخلاص، فلم يفتأ بعد رحيله يتراسل معهم في مساجلات أدبية ممتعة تعبر عن عواطف الشوق ويعترف في إحداها بزعامة ابن نباتة لجميع الشعراء
والآن نستعرض إحدى قصائده التي تجمع بعض هذه الأمور، وقد قالها يوم احتفال مصر بيوم الخليج وابتدأها بوصف الربيع في مصر:
خلع الربيع على غصون البان
…
حللا فواضلها على الكثبان
وتتنوجت هام الغصون وضرجت
…
خد الرياض شقائق النعمان
وتنوعت بسط الرياض فزهرها
…
متباين الأشكال والألوان
والظل يسرق في الخمائل خطوه
…
والغصن يخطر خطرة النشوان
وكأنما الأغصان سوق رواقص
…
قد قيدت بسلاسل الريحان
واستمر هكذا في أوصافه الجميلة التي يعبر بها عما أودعته طبيعة مصر الفاتنة في نفسه حتى قال:
إني وقد صفت المياه وزخرفت
…
جنات مصر وأشرق الهرمان؟
واخضر واديها وحدق زهره
…
ونيل فيه ككوثر بحنان
وبه الجواري المنشآت كأنها
…
أعلام بيد أو فروع قنان
نهضت بأجنحة القلوع كأنها
…
عند المسير تهم بالطيران
والماء يسرع في التدفق كلما
…
عجلت عليه يد النسيم الواني
وأخذ بعد ذلك يصف السلطان بقوة والفصاحة والسيادة على جميع الملوك، وليس الملوك في الحقيقة إلا مظاهر للأمم من أكثر الوجوه، فإذا كانوا أقوياء أو كرماء فما ذلك إلا فيض أممهم ومنحة رعاياهم، وإذن فكل مدح للملك إنما يتجه إلى الأمة التي أكسبته أسباب المدح
ووهبته ما يتيه به من أثواب المجد. ونود أن نشير هنا إلى أن مصر لم تكن تنظر إلى سلاطينها الذين كانوا في الأصل مماليك إلا بعين التجلة؛ لأنها كانت إذ ذاك تفهم معنا الوطنية كما يقرره الإسلام، دينها الذي تعتز به، وهو دين ديمقراطي حر يأمر أهله ألا يأنفوا من الحاكم المسلم العادل ولو كان عبد حبشياً. كذلك لم يكن هؤلاء السلاطين في نظر مصر إلا جنداً مسلمين تربوا في أرضها ودافعوا طويلاً عن مجدها ثم ارتقوا باستيلائهم على شؤونها الحربية إلى عرش الملك، فرضيت بهم وعهدت إليهم بتمثيل قوتها في السياسة والعلم والحرب، فمثلوها احسن تمثيل، ثم لما فرغ دورهم أرخت عليهم السدول وبقيت مصر هي مصر الخالدة.
ومما قاله صفي الدين في أحدهم وهو الناصر المذكور:
لا عيب في نعماه إلا أنها
…
يسلو الغريب بما عن الأوطان
شاهدته فشهدت لقمان الحجا
…
ونظرت كسرى العدل في الإيوان
وشهدت منه فصاحة وسماحة
…
أعدى بفيضهما يدي ولساني
ملك إذا اكتحل الملوك بنوره
…
خروا لهيبته إلى الأذقان
وقال:
أبقا قلاوون الفخار لولده
…
إرثاً وفازوا بالثناء مكسبا
قوم إذا سئموا الصوافن صيروا
…
للمجد أخطار الأمور مراكبا
عشقوا الحروب تيمنا بلقا العدا
…
فكأنهم حسبوا العداة حبائبا
وكأنما ظنوا السيوف سوالفا
…
واللدن قدا والقسىّ حواجبا
يا أيها الملك العزيز ومن له
…
شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين السلمين بهمة
…
تذر الأجانب بالوداد أقاربا
وحرست ملكك من رجيم مارد
…
بعزائم أن صلن كن قواضبا
كان لصفي الدين قدرة فائقة في رسم المناظر الأخاذة بدقة الفني وتأثر الشاعر، وذلك لما وهبه من ميزتين عظيمتين: إحداهما دقة النظر وصدق المشاهدة، والأخرى قوة الابتكار والتخيل. فقد كان يدرك بالأولى جزئيات الأمور ونواحي المناظر التي تخفى على غير الموهوب، ثم يتولى خياله ما أدركه فيحكم نسجه ويضفي عليه الوانه، ويزيد فوقه نقوشه،
فإذا بوصفه قطعة فنية رائعة تثير الإعجاب.
قام الشاعر برحلات عدة كما ذكرنا قبل، في صحاري العرب والشام ومصر، وانتظم أزمنة طويلة في حواشي الملوك الذين كان لهم غرام وشغف بالنزه الخلوية في أودية حماة والحلة وماردين فكان ذلك داعيا لشدة قربه من الطبيعة ومذكيا حبه لها، ولما كان بفطرته يملك نفسا شاعرة فقد استجاب دعوة الجمال واخذ يرصد الطيور حائمة في الجو، والوحوش هائمة في الصحراء، والحيوان الأليف والسائم ينقش صورها جميعا في شعره نقش المصور الماهر، وفي ديوانه أمثلة كثيرة لكل هذه الأوصاف.
ومن مظاهر أوصافه الدقيقة أيضاً وصفه للخمر ومجالس الندامى، فان الصفي كان رجلا طروبا متهافتا على موارد اللهو والسرور، يشرب من لذائذه الكؤوس الدهاق: يعاقر الخمر ويعشق النساء والولدان ويختال بين الرياض، ويتجول في الصحراء؛ غير آبه لما حرم من اللذة أو حل، وذلك لأنه اتخذ لنفسه مذهبا خاصا في فهم أحكام الدين يطاوع هواه كل المطاوعة، وقد عبر عن هذا المذهب بقوله:
فارتكب اجمل الذنوب لنفع
…
واعتقد في ارتكابه التحريما
ثم تب واسأل الإله تجده
…
لذنوب الورى غفورا رحيما!
وتمادى في هذا المذهب حتى احل الخمر صراحة فقال:
نهى الله عن شرب المدام لأنها
…
محرمة إلا على من له علم
وذاك بقدر الشاربين وعقلهم
…
ففي معشر حل وفي معشر حرم
ولو شاء تحريما على كل معشر
…
لقال رسول الله لا يغرس الكرم!
ولو صدق هذا المنطق المموه لكان العلم رخصة مؤذنة لأهله أن يرتكبوا كل لذة أثيمة، ولأنه قد مارسها فعلا واغتبق من كؤوسها واصطبح، عرف كيف يتغزل في محاسنها ويصف آثارها بمهارة تشهد له بالقدرة الفنية. ومما قاله:
سلاف تميت العقل في حال شربها
…
وتنعش منها الروح والجسم والقلبا
محجبة وسط الدنان ونورها
…
يمزق من لألاء غرتها الحجبا
إذا مسها وقع المزاج تألمت
…
وأزبد منها الثغر وامتلأت رعبا
واعجب من بكر لها الماء والد
…
وترجع إني رام تقبيلها غضبى
هي الشمس إلا أنها في شروقها
…
إذا مزجت في كأسها اطلعت شهبا
يعض عليها التائبون بنانهم
…
ويندب كل منهم عقله ندبا
وعلى كل فلا يتردد المرء بعد أن يقرا أوصاف الحلي أن يحكم له بان مرتبته في الصف الأول من شعراء الوصف في الأدب العربي أما الغزل فقد كبا فيه جواده وخانه ذكاؤه إذ العقل لا يغني وحده في هذا الميدان، وإنما مرد الأمر إلى القلب الخفاق والعاطفة المشبوبة، وشاعرنا لم يكن من فئة المحبين الذين يؤمنون باتصال الوجدان ويظلون في نجواهم باكين من هول الذكرى وألم الهجر وإنما كان رجلا حسيا يعترف حقا باللذائذ المادية ليس غير.
لهذا كان غزله قسمين متباينين، أولهما الغزل النسائي المألوف، والثاني غزل الولدان أو ما يسمونه بالغزل المذكر، ونأسف إذا نقول إن النوع الثاني كان ارق وأصفى وأدل على الصدق من الأول، ولكنا لاندهش كثيرا إذا ذكرنا مبادئه الخلقية التي وصفناها قبل؛ ويلوح لنا إن هذا الانحلال الخلقي لم يكن قاصرا عليه وحده وإنما كان ظاهرة عامة للولاة والأمراء الذين يستقلون في أطراف المملكة ببعض المناطق؛ لان وفرة المال وتحقق أسباب النعيم مع قلة الشواغل الادارية، كانت تغريهم بالعكوف على الملاهي والتمادي في الإباحة. أما غزله الأول ففيه جفاف وتكلف وترى عليه سمات التقليد واضحة ومما قاله في مذهبه:
خلياني من فترة النسوان
…
وانعشاني بنشطة الغلمان!
ليس يصبو لربة الخال قلبي
…
بل برب الأقراط جن جناني!
تلك هي الأغراض البارزة التي تستحق الدراسة في شعر صفي الدين، أما الأغراض الأخرى فهي لا تخرج عن السبل التي طرقتها إخوتها، وجملة القول فيها إن الزهد والألغاز ليسا إلا مثلين من التقليد والتكلف، لان الرجل كما عرفنا كان متهتكا مسرفا، وإنما أراد إن يعارض قصائد ابن الفارض وأمثاله من المتصوفة المخلصين، ولان نوع الألغاز ابعد ما يكون عن معنى الشعر. وهو، وان أجاد في الرثاء حقا، وأبدع في تصوير فجائع الموت!، نستطيع أن ندرك إجادته فيما درسنا من مدحه، لان معناهما واحد وان اختلفا في مناسبة كل منهما مع الحياة أو الموت. غير انه أتى في باب الحكمة بكثير من التجارب الصادقة وآداب الاجتماع، فلم يبقى إذن غير المجون وهي ما نستميح القارئ أن يعفينا منه صونا لحياء القلم وحرصا على وقار (الرسالة).
(وبعد) فهذه شخصية كبيرة تجمع بين الوسامة والدمامة، ولكنها في جملتها جديرة بالخلود، على أنها آية بينة تقرر إن الأدب العربي قد ظل بعد موت بغداد يتنسم الحياة قويا ناظرا؟
دار العلوم
ضياء الريس
من طرائف الشعر
النشيد!
للشاعر الوجداني علي محمود طه
عندما ظلَّلني الوادي مساء
…
كان طيفٌ في الدجى يجلس قربي
في يديه زهرةٌ تقطر ماء
…
سَمِعَتْ أذني بها أنَّاتِ قلبي!
قلت من أنتَ؟ فلباني مُجيبا
…
نحن يا صاحِ غريبان هنا!
قد نزلتُ السهلَ والليلَ الرهيبا
…
حيث ترعاني وأرعاك أنا!!
قلت يا طيفُ أثرت النفس شكا
…
كيف أقبلت وقلْ لي من دعاكا؟
قال أشفقتُ من الليل عليكا
…
فتتبعتُ إلى الوادي خطاكا!
ودنا مني وغنَّاني النشيدا
…
فعرفت الصوت واللحن الشجيا
هوَ حبِّي هام في الليلِ شريداً
…
مثلما هِمْتُ لنلقاك سويَّا!
وتعانقنا وأجهشنا أنيناً
…
وانطلقنا في حديثٍ وشجونْ
ودَنا الموعدُ فاهتجنا حنينا
…
وتنظرناكَ والليلُ عيونْ
أقْبَلَ الليلُ فأقبَلَ مَوهنا
…
والتمس مجلسَنَا تحت الظلالِ
وافِنِي نصدحْ بألحان المنى
…
ونعُبُّ الكأسَ من خمر الخيال
أقبِل الليلةَ وانظر واسمعِ
…
كلُّ ما في الكونِ يشدو بمزاركْ
جِئتُ بالأحلامِ والذكرى معي
…
وجلسنا في الدجى رهن انتظاركْ
سترى يا حسنُ ما أعددتُه
…
لك من ذخرٍ وحسن ومتاعْ
هو قلبي في الهوى ذوبتهُ
…
لك في رفَّاف لحنٍ وشعاعْ
وهو شعرٌ صَوَّرَتْ ألوانه
…
بهجةَ الفجر وأحزانَ الشفقْ
ونشيدٌ مَثَّلَت ألحانهُ
…
همساتِ النَّجم في أذن الغَسق
ذاك قلبي عارياً بين يديك
…
أخذتْه منك روعاتُ الإله
فتأملْه دماً في راحتيك
…
وذَماءً منكَ يستوحي الحياه
باكيَ الأحلامِ محزونَ المنى
…
ضاحك الآلام بسَّامَ الجراح
لم يكن إلاَّ تقيَّا مؤمناً
…
بالذي أغرى بحبيكَ الطماح
يتمنى فيكَ لو يفنى كما
…
يتفانى الغيمُ في البحر العُباب
أو يُلاشي فيك حياً مثلما
…
يتلاشى في الضحى ومض الشهاب
زهرةٌ اطلعها فردوسُ حبك
…
استمدت نورَها من ناظريك
خفقت أوراقُها في ظلِّ قربك
…
وسرت أنفاسُها من شفتيك
هي من حسنكَ تحيا وتمون
…
فاحمها يا حسنُ إعصارَ المنون
أولِها الدفَء من الصدر الحنون
…
أو فهبها النورَ من هذي العيون
دمعُها الأنداءُ والعطر الشَّجا
…
وصدى أناتها همسُ النسيم
فاحبُها منكَ الربيعَ المرتجى
…
تصدح الأيامُ باللحن الرخيم
لو أمكنتني فرصة!
ريان من ماء الحياة
…
وسرها في وجنتيه
كالجدول المفتون في
…
وشى الرياض أنبيه
غنَّى بلحن مسكر
…
وبلابل الوادي لديه
لا يرتوي منه الظما
…
ء ولا ترى طيراً عليه
ومن العجائب أن ترى
…
ناراً تشب بوجنتيه
فتثير نيراناً بقلبي
…
كلما أرنو إليه
لو أمكنتني فرصة
…
أطفأتها من شفتيه
شرق الأردن
حسني فرير
إبليس
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
أسرفتَ يا إبليس في الوسواس
…
فأعوذ منك بربِّ هذا الناسِ
أغويتني من بعد ما استدرجتني
…
مستحوذاً حتى على أنفاسي
حسَّنت في عيني الشرور فجئتها
…
وضممتُ أرجاساً على أرجاسِ
ونفذت في أعماق قلبي فاتحا
…
حتى ملكت منافذ الإحساس
فتعاورتني للشكوك وساوس
…
سودٌ وعافت مجلس جُلاّسي
أفرغت قلبي من رِضى يقينه
…
وملأت بالشكّ المبرّح راسي
من بعد ما جرَّعتني مر الأسى
…
أترعت بالمصل المخدر كأسي
إبليس ما أشركتني في صفقة
…
إلا قضيت عليَّ بالإفلاس
إبليسُ أنت وليُّ كل ذوي الهوى
…
إبليس انك في الولاية قاس
لم يبقى مما كان لي قبلاً سوى
…
ثوب كخائبة المُنى أدراس
تُلقِي العداوةَ موغراً بين الورى
…
فتثير أجناسا على أجناس
لو اعتقدتَ بهم شعوراً في الردى
…
لتبعتَهم تغوى إلى الأرماس
تُذكي الحروب وأنت فيها سالم
…
مما يضر بالنفس الأحلاس
أتعستَ أقواماً لتسعد غيرهم
…
والشر كل الشر في الإتعاس
كوخٌ حقيرٌ ثم قصرٌ شاهقٌ
…
ومآتمُ في جانب الأعراس
لا تسترح وأنت عنهم في غنًى
…
حتى توسوس في صدور الناس
مالي سوى دمعٍ يفيض ندامةً
…
ما سوف أكتبه على القرطاس
ذكريات في الجزيرة
للأستاذ الحاج محمد الهراوي
لي في الجزيرة ذكريات كلما
…
خطرت تهز من الحنين فؤادي
فلقد لبست الغيّ في شرخ الصبا
…
ومضيت طوع مراده ومرادي
وشربت من كأس الهوى وأبحته
…
وعصيت فيه رويتي وسدادي
أيام انعم بالشباب وبالمنى
…
ولقاء من أهوى على ميعاد
نلهو ونمرح، والهوى ما بيننا
…
نجوى يراوح بيننا ويغادي
تتحدث العينان في لحظيهما
…
عما يحز الشوق في الأكباد
متجاذبين ما حديث صبابة
…
ولذيذ وصل بعد طول بعاد
متبادلين على الشراب ونقله
…
قبلات شوق في عناق وداد
فوق الغدير وبين أزهار الربى
…
في ظل غصن الدوحة المياد
نخشى النسيم تشي بنا خطرات
…
إن مر بالعذال والحساد
مستأثرين نغار من عبث الصبا
…
ونخاف جامحة الزمان العادي
متعانقين نهيم في وادي الكرى
…
متيقظين على الحمام الشادي
متساقيين من الرضاب، وانه
…
خمر الهوى في غيه المتمادي
تمضي بنا الساعات لا ندري لها
…
كيف انقضت في يقظتي ورقاد
فدع الهوى العذري بعد زمانهم
…
ما مر من زمن فغير معاد
جمح الشباب وما ثنيت عنانه
…
وجرى، وما من وازع أو هاد
فإذا الغواية موبقات كلها
…
تأتي على الأرواح والأجساد
فغسلت بالحج المبارك حويتي
…
ورجعت حين رجعت في الزهاد
ولقد مررت على الجزيرة لا كلما
…
عهدته في غي مع الوراد
فإذا بها وكأنها حجت معي
…
أو أننا عدنا معاً لرشاد
بين الموسيقى الشرقية والغربية
- 1 -
تقوم الآن حركة طيبة في الأوساط الموسيقية، غايتها النهوض بالموسيقى الشرقية إلى المستوى الذي يلق بها كفن له آدابه وأوضاعه وأصوله. وكان طبيعيا أن تتشعب الآراء، وتنوع الأفكار، والمدار هو الكيفية التي بها ترتفع الموسيقى الشرقية إلى مكانتها.
وسمعنا أثناء ذلك اسم الموسيقى الغربية تلوكه الألسن وتتجه إليه الأفكار كأنه الغاية التي إليها نتجه، والمستوى الذي إليه نرتفع، غير إن هناك السناً لم تنطق به وأنظاراً لم تتجه إليه، بل بقيت رابضة في وكرها لا تحيد عنه. وبين هذه وتلك تقف الفكرة الأساسية مترددة محجمة، وان سارت ففي خطى بطيئة متمهلة.
وقد رأيت أن اجمل في نقط بسيطة غير مركبة، أهم الاختلافات التي بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وذلك بأن أضع أمام القراء صورة حقيقية للأصل الذي أتكلم عنه، وان اقسم تلك الفوارق التي بينهما تقسيما منظما صحيحا لتكون أمام من يطلع عليها صورة مرتبة غير مشوشة، مع اختصاري قدر ما اصل إليه.
فمن رأى هذه الكلمة خلوا من الإفاضة والشرح فليعذرنا فلسنا نكتب كتاباً ليحفظ ويكون حجة ومرجعاً، وإنما هو مقال يجمع بين الفائدة والترويح، وعلينا العهد عندما نريد أن نكتب كتاباً أن نراعي الدقة جهدنا وان نختصر فيه أو نجمل.
تنقسم الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية إلى ناحيتين رئيسيتين، الناحية الأولى: وهي الناحية العامة، وفيها تظهر روح كل موسيقى وترتيبها وموافقتها لأخيلة وأمزجة مؤلفيها، ومناخ البلاد التي وضعت فيها وما لها من رقي وانحطاط، وهذه الناحية قد يكتب فيها الأديب المطلع كما يكتب الموسيقي، ولعل الأديب يكون اكثر توفيقاً في الشرح والوصف. أما الناحية الثانية فهي التي تتناول الناحية الفنية من بحث الأغراض التي يذهب إليها التأليف إلى اختلاف الأنغام إلى طريق التلحين، ثم إلى شرح الأوزان والمقاييس وما إلى ذلك من أقسام تتصل بالموسيقى من ناحيتها الفنية. وهي الناحية التي أرجو أن اقصر عليها عنايتي وان أستطيع توضيحها وتقريبها إلى الإفهام.
الموسيقى كأدب اللغة صورة ناطقة حية للعصر الذي وضعت فيه، والأمة التي نشأت منها،
وتكاد أغراض الموسيقى تشابه الأغراض التي يذهب إليها أدب اللغة في كثير من الحالات، (فالموسيقى الحماسية) هي التي توضع إما لتعبر عن عاطفة قومية وطنية أو لتثير الحمية والإقدام في النفوس، وهي تكون تلحينا لأناشيد كنشيد المرسليين الافرنسي ونشيد اسلمي يا مصر. المصري ونشيد الجمهورية التركية، أو تكون في موسيقى صامتة في (مسير الحرب) لشوبرت أو (مسير الحرية) لصوصة ولعل هذا النوع من الموسيقى الصامتة في الموسيقى الشرقية غث لا قيمة له لا يكاد يبعث حماسة أو يوقد حمية إذا استثنينا بعض المسيرات الحربية التركية. يلي هذا النوع من الموسيقى، موسيقى اللهو والمراقص، وهي التي تعزف في الحانات ودور اللهو والتي يرقص على أنغامها الراقصون والراقصلات، وهذا النوع من الموسيقى هو أساس الموسيقى الشرقية قديماً وما زال متصلا بها إلى الآن وإن كان التهذيب قد ادخله في كثير من نواحيه. أما في الموسيقى الغربية فالتطور عكسي فبعد أن كان هذا النوع في بدء النهضة الموسيقية راقياً فنياً من نوع الكلاسيك صار يتدهور حتى الحرب العظمى فسقط سقوطاً شنيعاً واصبح خلواً من أي شاعرية أو فن والآن أتكلم عن الموسيقى الدينية فهي في الموسيقى الغربية أساس باقي الانواع، فمن معابد روما وهياكلها انتشرت الموسيقى الدينية قي العالم الغربي، وكان رجال الدين في أول أمرهم يقاومون تسرب موسيقاهم إلى الخارج بكل شدة، وكانوا يحافظون عليها كل المحافظة ولكنها ذاعت وانتشرت رغم كل حيطة أو صد، وكل من حملوا علم النهضة الموسيقية كانوا في بدء اشتغالهم بالموسيقى يدخلون الكنائس منتظمين في سلك المنشدين أو لاعبي الأرغن وبعد مضي مدة على اشتغالهم وتمرينهم كانوا يخرجون فينشرون تلك الروح التي تأثروا بها في فجر حياتهم الفنية، واذكر من هؤلاء النوابغ شوبرت مؤلف أوبرا فيرا براس، فقد كان أحد المنشدين بكنيسة ليتشتنتال وهاندل مؤلف (نيرو) و (الميرا) و (وراد ميستر) كان عازفا على الأرغن في كنيسة جويرتزبرج ونشأ هايدن في كنيسة القديس اسطفان بفينا. وكانوا جميعا عندما تنضج أرواحهم وتكمل فيهم بوادر النبوغ، يتمردون على الكنيسة ويخرجون إلى العالم الحر الطليق لتحلق أرواحهم في فضائه متحررة من القيود التي فرضت عليها في المعابد. واعظم القطع الدينية هي (الأوراتوريو) التي منها نشأت (الأوبرا). أما في الموسيقى الشرقية فكيان الموسيقى الدينية
متهدم لا أساس له، هذا باستثناء الهند والصين فان لموسيقاهم الدينية طابع من الرهبة العميقة والتأثير ومن اكبر مؤلفيهم الموسيقيين (تاجور)، أما في الإسلام فالموسيقى تكاد تكون بدعة لا تحليل لها وان كان هناك شيع وطرق تقيمها في أذكارها فهي منظور إليها نظرة بغيضة، وان كنا لا نستطيع أن نغفل ذكر (المولوية) ومركزهم الموسيقى بين موسيقى الأتراك القدماء. وأما الديانة القبطية فللكنائس تراتيلها وأناشيدها ولكنها على حال من السذاجة الفطرية لا تجعل لها أهمية من الوجهة العملية وإن لم تخل من خطرها في التاريخ الموسيقي فهي اصل موسيقى العالم إذا وصلنا موسيقى القبط بموسيقى الفراعنة. ننتهي من الموسيقى الدينية لنتكلم عن الموسيقى التمثيلية، فهي ركن هام من أركان الموسيقى لا يشتغل به إلا منأوتي قدرة واستعداداً خاصا، فكثيرون من نوابغ الموسيقيين الغربيين من أوتوا في أنواع كثيرة من الموسيقى حظاً وافراً ولكنهم لما وصلوا إلى الموسيقى التمثيلية رأوا انهم لا يستطيعون أن يضربوا فيها بسهم وخير مثال لنا هو (بتهوفن) الخالد فقد حاول محاولة واحدة في الموسيقى التمثيلية هي (اوبرا فيدليو) رأى بعدها انه ليس من رجالاتها فرجع إلى السينفوني والسونات واعظم من وضع في الموسيقى التمثيلية الغربية هو (فاجنر) اله الأوبرا و (لوهنجرين)(ودانهوزر) ومقطوعاتهم تشهد لما نقول أما في الموسيقى الشرقية فلم يعرف هذا النوع إلا حديثا وما زال في مهده لم يشب عن الطوق. بقي أمامنا بعد ذلك آخر قسم وهو قسم الموسيقى التصويرية وهو في رأينا اجل الأقسام أخطرها ويكون عادة موسيقى صامتة تصور وتشرح مختلف العواطف والمناظر والمؤثرات ومن أوائل من بدأوا بعمل السيمفوني التصويرية (هايدن) ثم (موزارت) ثم سيدهم أجمعين (بتهوفن) وفي الحق يمكننا بوجه عام اعتبار كل أنواع الموسيقى تصويرية، إذ الموسيقى كالشعر يعبر كل بيت منها أو قصيدة عن فكرة أو يصف موضوعاً، ويستثنى من ذلك (الدراسات) الخاصة وهي التي يطلقون عليها اسم فإنها تكون عادة لدراسة النغم في دائرة قواعده وأصوله
والموسيقى الشرقية خلو من الموسيقى التصويرية، وما جلها إلا دراسات الأنغام ولا يمكن اعتبار البشارف والسماعيات والبستات إلا نوعا من تعبر عن فكرة أو تصف موضوعا
ولعل معترضاً يقول، أو ليس ذلك الراعي الجالس على حافة الغدير أو وسط المراعي ينقل
أصابعه على مزماره وهو يرعى غنمه فيبعث أنغاماً هي السحر تأثيراً؛ أليس يصور بأنغامه ما يجيش بصدره من عواطف وآمال وما يتلاعب بفؤاده من أميال وافكار؛ واليس يصور بأنغام مزماره ذلك الغدير بعذوبته وتلك المراعي بخضرتها ونضارتها، وما إلى ذلك من تصوير. هذا هو الحق ولكنه تصوير ساذج ضعيف إلا أن جعلنا من مصوري القرية الذين يرسمون صور عودة الحجاج وما شابه ذلك مصورين لهم خطرهم وأهميتهم ولكن في الموسيقى الشرقية الحديثة، هناك من قام بمحاولات في هذا النوع علها تسير إلى التقدم بعد في مهدها.
والآن نتكلم عن الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية من الوجهة العامة فأول ما نلاحظه هو تعدد النواحي التي ذهبت إلى التعبير عنها الموسيقى الغربية واقتصار الموسيقى الشرقية على نوع يكاد يكون واحد، ويشبه ذلك شعر أمتين، تناول في الأول كل ما تذهب إليه أغراض الشعر من وصف وغزل ومدح وهجاء ورثاء. . .، واقتصر الثاني على غرض واحد لا يتعداه من تلك الأغراض.
كذلك الأمر في الموسيقى الشرقية. لم تعد كونها موسيقى لهو ومرقص وهي تكاد تقصر نفسها على هذا اللون فقط لا تبدله ولا تنهض عنه بينما نجد إن للموسيقى الغربية مذاهب وأغراضا متعدد متلونة لا يكاد ينتهي منها الباحث. ولعل ذلك راجع كما أرى إلى إن نشأة الموسيقى الشرقية لم تكن بالنشأة اللائقة بها كفن سام له آدابه، فهي قد نشأت في بلاد الفرس والعرب بين الموالي والقيان وفي الحانات التي كان ارتيادها محرما على ذوي المكانة الأدبية. مع إن بعضاً من الخلفاء قد اهتموا بأمر الموسيقى وعطفوا على المشتغلين بها فان ذلك كان ليرفهوا عن أنفسهم في مجلس شراب وانس لا مجلس جد واحترام وظل الأمر كذلك حتى انتقلت الخلافة إلى الأتراك فابتدأت الموسيقى ترفع رأسها لتحل محلها الذي كان ينبغي لها إن تحله من قبل. وكان ذلك باشتغال سلاطين آل عثمان أنفسهم بالموسيقى وما زال (سوزدلار بيشروي) - تأليف السلطان سليم - خليفة المؤمنين آية من آيات الموسيقى الشرقية.
وما يؤسف له حقاً، إن التراث الفني للموسيقى العربية قديما مفقود، إذ لم تكن الحروف الموسيقية (النوتة) متداولة، أو لعلها كانت متداولة إلا إن ما وصل إلينا منها كالطلاسم لا
حل له ولا بيان. وكانت النتيجة إننا لم نرث عنهم سوى الناحية الأدبية وهي كما قلنا لا تشرف في قليل ولا كثير، بل لعلها قد أثرت أثرها السيئ في الإفهام.
بقيت الآن ملاحظة ثانية على الفروق بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب، تلك هي ضعف الأولى وخلوها، وامتلاء الثانية وقوتها، وهذا فيما أرى يرجع لسبب لا نملكه.
ينشأ الموسيقي الغربي بين جبال وصخور وبحار عظام تمثل قوة الطبيعة وعظمتها وتهب عليه العواصف وتنقض الصواعق وترعد في سمائه الرعود فعندما تجول في مخيلته الموسيقية فكرة نراه تأثر فيها بتلك المؤثرات التي أحاطت به والتي تكيفت بها عاقلته ومخيلته. فنراها في صوته الأجش القوي وفي موسيقاه الممتلئة الضخمة.
أما نشأة الموسيقي الشرقي فعلى ضفاف نهر عذب تسطع عليه شمس صافية وتهب من حوله نسمات تتهافت في الرقة واللطف، وشد ما قاساه من قسوة الطبيعة وبطشها لفحة حر أو قرصة برد لا تلبث حتى يصفوا الجو ويعتدل النسيم.
ذلك ما يحيط بالموسيقي الشرقي وذلك ما يوحي إليه بفكرة موسيقاه وهذا ما ترتاح إلى سماع التعبير عنه أذاه وهذا سر تلك الرقة التي نشاهدها في موسيقاه وهي ليست منقصة أو عيباً ولكن الضعف هو ضعف التعبير عن الفكرة كالبيت من الشعر يصف البستان النظر والمنظر الجميل في أسلوب ضعيف وفكرة غنة وليس العيب فيها عيب الموصوف بل عيب القصور في التعبير وضعف شاعرية الشاعر.
ورقة الموسيقى ليس معناها ضعفها من الناحية الفنية، بل لعلها تكون قوية كل القوة وهي تسيل رقة ولطفاً، ولعل من يسمع لبتهوفن يمكنه أن يفهم ما اعنيه تماما بقوة الموسيقى ورقتها مجتمعين معا.
بقي الآن الحديث عن تركيب الأنغام في كلتا الموسيقتين والأوزان والتآلف فيهما، وارجوا أن تتاح لي الفرصة قريبا للكلام عنهما في أعداد قادمة من (الرسالة).
مدحت عاصم
العلوم
جراحة المخ
للدكتور فريدرك دامرو
استخلصها الدكتور احمد زكي
تقدمت جراحة الأبدان تقدما كبيراً ألفه الناس ففتر إعجابهم به إلا فيما تستجد الأيام منه، وكان طبيعياً أن يأتي دور الرأس، ذلك العضو المخوف المرهوب، لتظهر الجراحة فيه من المهارة والبراعة مثل الذي أظهرته في سائر الأعضاء.
وقد بلغ التقدم في هذه الناحية في العصر الحاضر مبلغا قمينا بإعجاب العلم، هواته ومحترفيه، إعجابا قد يبلغ حد الهلع إذا لمح اللامح بعينه داخل حجرات العمليات فرأى تلك الجرأة التي يأتيها الأطباء في تناول المخ الحي حتى كأنه بعض الأحشاء، ورأى كذلك شدة استمساك المخ نفسه بالحياة رغم ما تلعب به تلك الأيدي اللبقة وتقطع منه تلك (المشارط) و (المكاشط).
في عام 1931 بمدينة كليفليد بالولايات المتحدة، اقتطع الدكتور جيمس جاردنار النصف الأيمن كله من المخ، ومع ذلك صحت المريضة وقامت بعافية! وكانت امرأة في الحادية والثلاثين، ولها ولدان صغيران، عانت داء الصرع عشر سنين، وانتهى بها إلى أوجاع مريعة في الرأس، والى بصر اخذ يتضاءل، حتى أوشك يضيع، كل هذا بسبب خراج داخل جمجمتها كان ينمو فيزداد ضغطه فيكاد يقتلها ألماً. حلق النصف الأيمن من رأسها، ثم أزال الدكتور جاردنار جزءاً من الجمجمة قطره أربع بوصات ونصف، وقطع بطانة المخ فتراءى له شئ غريب نام كالقرنبيط، امتد وتفرع كالسرطان حتى عم النصف الأيمن كله من المخ. أما النصف الأيسر، فقد كان صحيحا سليما، وهو النصف الأخطر لاحتوائه مراكز الكلام والكتابة فضلاً عن سيطرته على النصف الأيمن من الجسم.
كان الدكتور جاردنار يعلم إن حذاقاً من الأطباء قبله حاولوا إزاحة النصف الأيمن من المخ لبعض المرضى، وان الموت كان نتيجة مؤكدة في كل حالة، ومع علمه هذا اقدم على ما اقدم عليه لانه كان المختص الوحيد الذي بقي للتعيسة المسكينة. وبيدين بارعتين لبقتين
عقد الشرايين والأوردة باناشيط محكمة أوقفت نزف الدماء، ثم اخذ يكشط المادة المخية بما فيها الخراج حتى افرغ نصف الجمجمة، وعندئذ ملأ الفراغ بمحلول دافئ من الملح، ثم رد العظمة إلى موضعها، فسد الرأس. ثم أثبتها بالحرير ولم أطراف جلدة الرأس فخاطها، وانتهت العملية بسلام.
وبعد ساعات أفاقت المريضة فتعرفت أصدقاءها وتحدثت اليهم، واسرع شفاؤها، وكانت في نقاهتها تقرأ وتكتب، وذهبت عنها أوجاع الرأس ونوبات الصرع. مع وان ذراعها ورجلها اليُمنيين ظل بهما شئ من تيبس وصلابة، إلا أنها استطاعت أن تمشي، وبعد ثلاثة اشهر ونصف من يوم العملية كانت من الصحة بحيث استطاعت أن تعود إلى ما كانت عليه من العناية بولديها بنفسها.
إن من اغرب خصائص المخ الإنساني مقدرته على الاستفادة من عثرات تخال قاضية. اذكر حادثة من حوادث الحرب الكبرى: جئ بجندي من خط النار، وكانت مقدمة رأسه مرصعةبشظايا قنبلة، فأخرجنا قطعة منها قطرها بوصتان سكنت من المخ مسكنا عميقا بين فصيه الأماميين ولم نجرؤ أن نمس بقية القطع لتباعد ما بينها، ومع ذلك شفي المريض شفاء معجزاً. لم يشل. ولم تصب حواسه بسوء، وكل ما بقي عنده بطء في الكلام ونسيان للمواعيد.
وفي الرابع من يوليو عام 1930 وضع يافع في الثامن عشرة من عمره صاروخين مشتعلين في اسطوانة مضخة هواء من تلك التي تستخدم لنفخ إطارات العجلات، فانسفا بشدة عظيمة قذفت بعود المضخة الحديد في رأس الشاب، دخل من قرب عينه اليمنى واخترق مخه حتى برأ من ناحية الرأس الأخرى وجاءه الدكتور (جويل سوانسون) فأعطاه سمماً يقيه كزاز الفك وعقم مانتا من طرفي العود باليود، ثم انتزعه. واشتفى الشاب واستكمل سنة في دراسته الثانوية ولم يتأثر عقله من الحادث أي تأثر ظاهر.
وفي إحدى المصحات الأوربية تسجلت حادثة أخرى غريبة: رجل حذّاء انتابه جنون وفي أثناء إحدى النوبات أراد أن ينتحر فدق المسامير في رأسه وجيء به إلى المستشفى وبرأسه خمسة مسامير طول الواحد منها بوصتان كلها غائرة في المخ. فانتزعها الجراح فصح المريض بعدها وغادر موفور العافية. واغرب من هذا كله قصة فاعل عاش عشرين
سنة من بعد أن نفذ في رأسه قضيب سمكه بوصة بسبب انفجار دخله من دون عظمة الصدغ الأيسر ومر في العين اليسرى ففقأها، وبجزء كبير من المخ فأتلفه، ثم خرج من قمة الجمجمة. استعاد هذا العامل صحته واستمر يعمل في الحقل حيناً ويشتغل حوذياً حيناً ويحيد في كلا العملين على السواء فلم تكن منه يوماً شكاة على اختلاف مستأجريه.
لقد أفادت هذه الحوادث العلم، وقعت اتفاقاً فأعانت الأطباء على تفهم هذا العضو الخطير من الجسم، فاخذوا شيئاً فشيئاً يجمعون عنه الحقائق بما يأتيهم عفواً من هذه الإصابات وبما يقصدون من دراسته في مرضاهم، وبتشريحه وفحصه بعد الموت إذا خاب العلاج، وكذلك بتهيجة مراكزه بتيارات الكهرباء في رؤوس القردة والكلاب.
في الحرب الفرنسية البروسية استخدم الكهرباء طبيبان ألمانيان (جوستاف فرتش) و (ادوارد هتسج) استخدماها في تنشيط أمخاخ الجرحى واحدثا لأول مرة حركة في الجسم الإنساني بواسطة التيار والجسم فاقد الشعور. مسا بقطب التيار موضعاً من المخ فتحرك الرجلان، ومسا موضعاً آخر فتحرك الرأس. ثم مسا ثالثاً فتحركت الأصابع. وزاد في إيضاح العلاقة التي بين مراكز المخ وأعضاء الجسد تجارب أمثال تلك، أجراها العلماء على الكلاب والشامبانزي، فاصبح الطبيب اليوم يستدل بأعراض الجسد على موقع الفساد في المخ فيشق الرأس حيث اصل الداء بلا حدس ولا تقريب، فجراحة الرأس لا تحتمل حدساً ولا تقريباً.
أنت نفسك تستطيع أن ترسم على رأسك خريطة تدلك على مواضع تلك المراكز. ابدأ بأصل انفك عند ملتقى الحاجبين، وارسم خطاً يمر بانتصاف جبهتك ويعلوا إلى أعلى جمجمتك ثم يمتد خلفاً إلى بصلة رأسك، بعد ذلك نصف هذا الخط، واذهب نصف بوصة وراء هذا المنتصف. ومن هذه النقطة ارسم خطين يميلان عن الخط الأول إلى جانب رأسك بزاوية قدرها سبعون درجة، وبذلك تكون انقسمت الرأس إلى خانات اربع، ففي الخانتين الأماميتين توجد المراكز التي تهيمن على الحركة في الجسم، في الخانتين الأخريين توجد المراكز التي تضبط الاحساسات التي يتعرض لها الجسد.
ووراء جبهتك توجد مراكز التفكير، فان كان هذا الموضع من رأسك عظيماً فاعلم انك مفكر كبير، وان وجدته في رأس غيرك صغيراً ضئيلاً فاعلم عكس هذا منه. وفي الإنسان
المستوحش وفي البسطاء تتراجع الجبهة إلى الوراء. انضماراً لان هذا الجانب من المخ لديهم لا يستكمل نماءه. ومن العجيب المستغرب إن هذه المراكز إذا أصابها تلف بخراج أو سلعة نهض جانب آخر من المخ ليتولى التفكير مكانه.
ولقد ورث كثير من العبقريين رؤوسهم من بعد موتهم للعلم ليفحصها رجل الطب. من أولئك الكاتب الفرنسي الكبير اناتول فرانس، كانت لفات مخه عظيمة وخلاياه السمراء كبيرة كبراً غير عادي. كذلك لينين، مؤسس الجمهورية الروسية وواضع البلشفة، جزئ مخه 31000 جزءاً، فحصت جميعها.
كذلك (ترجوينف) الروائي الروسي كان له مخ من اكبر الأمخاخ المقيسة، كانت زنته اكثر من أربعة أرطال. ومع هذا فحجم الرأس ليس مقياساً دقيقاً مطرداً للذكاء، دليل ذلك إن من الأمخاخ المعروفة مخين زادا وزناً عن مخ (ترجوينف) وكان أحدهما لأبله. وإذا زاد مخ عن مخ فليس معنى هذا زيادة في عدد وحداته فالوحدات سواء وإنما تزيد الوحدة عن أختها حجماً ووزناً.
وفي النصف الخلفي للرأس توجد مراكز الإبصار، فإذا نمت فيها نامية أو أصابتها اصابة، سببت العمى. وجزء المخ المجاور للأذن يحكم السمع، وأمام الجزء الأسفل لمراكز الحركة يوجد مركز الصوت، فنحن نسمع الكلمات مقولة بجزء من المخ، ونراها مكتوبة بجزء آخر، ونقولها بجزء ثالث
وإذا حدث اضطراب لأي من هذه المراكز، حدثت أحداث غريبة. كان أستاذ يحسن اللغتين الإغريقية واللاتينية، فأصيب في حادث بضربة على رأسه فلما أفاق واشتفى مما أصابه وجد انه فقد اللغتين جميعاً وعبثاً حاولت أن تسترجع ذاكرته كلمة من ايهما، وذلك إن خلايا مخه التي تختزنهما أصابهما التلف لا إصلاح لها.
وفي حادث آخر انسد شريان دقيق يحمل الدم إلى بعض الخلايا المخية بمنطقة الإبصار من رأس امرأة مثقفة، وما أمسى الليل وانفلق النهار بالنور حتى وجدت هذه المسكينة أنها عجزة عن القراءة وأصبحت الكتب لا تحمل إليها من المعاني اكثر مما تحمله إلى الفلاح الأمي. كانت تنضر إلى الكلمة فتراها رسما لا صلة له باللغة. أصابها عمى الكلم وعلى هذا المثال يحدث صمم الكلم. تصاب الخلايا الخاصة به فيسمع المنكوب كل الأصوات،
ويسمع الكلمات، ولكن خلوا من المعاني.
ومنذ اشهر قليلة حدث حادث عجيب في (لوس انجلس) بأمريكا الشمالية. فتاة مكسيكية دخلت مستشفاها العام للعلاج فقاس الأطباء فيما قاسوا درجة حرارتها فكانت 43 ، 3والمعروف في الطب إن درجة 42 قاتلة. واستمرت هذه الحرارة عالية شهراً من الزمان. فحصها المختصون فاجمعوا على إن سلعة درنية نمت من مخها في المنطقة التي تضبط درجة الحرارة في الإنسان فساء ضبطها.
إن الجراح يستطيع اليوم أن يرسم خريطة للمخ كاملة يتبين فيها خلايا المخ وما تخص به من وظائف أعضاء الجسم المختلفة فهو إذا أتاه مريض عرف من أوجاعه وأعراضه أي مناطق الرأس اختل فيذهب إليها قدماً فلا ينحرف عنها قيد إصبع
اذكر رجل شفيناه من الصرع استهداء بتلك الخريطة كانت تبدأ الرجفة في وجهه فعرفنا من هذا إن اصل الداء واقع بمنطقة الحركة بمؤخر المخ. وأردنا زيادة التحقق ودقة في تحديد الموضع، فخرقنا ثقبين في مؤخر الرأس، وغرزنا في مادة المخ إبرتين جوفاوين ومصصنا من سائله بعضه، ثم ملانا الفجوة التي خلت بالهواء، ثم أخذنا صورة سينية أرتنا إن تلك الفجوة غير منتظمة وان شكلها استطال في ناحية وابعج في أخرى بسبب ضغط سلعة لم تتراجع مع مادة المخ تحت ضغط الهواء المحقون. . بهذا الكشف الجديد تعرفنا على موضع السلعة التي لكأنما رأيناها رأى العين، ثم أزلناها.
ويختلف حس المخ اختلافا كبيرا تبعا للموقع الذي يحصل الفساد فيه، فقد لا تتعدى البثرة رأس الدبوس حجما فتحدث أعراضا مريعة هائلة، ثم قد تبلغ في موضع آخر قبضة اليد حجماً قبل أن تحدث حدثاً خطيراً.
منذ أعوام جاءني صديق يهوى لعبة التنس يشكو من ذراعه انه لا يتجه بالكرة الجهة التي يريدها وانه عبثاً حاول استرجاع الأصابة التي كانت له منذ حين، وهذه كانت كل شكاته. فامتحناه فتبين إن سبب ذلك سلعة بقدر البندقة فأزلناها وبذهابها رجعت إليه رمايته الأولى. رجل مبخوت هذا الصديق الذي نحن بحديثه، فلولا ملاحظته الدقيقة لما فطن أحد إلى دائه الخبيء، ولزادت سلعته حتى لنشق استأصالها أو استحال. وقد اصبح أطباء العصر من اجل ذلك وأمثاله حريصين على تعرف السلع في المخ ولما تكبر ويستفحل أمرها
منذ أعوام كانت خراجات المخ تحتسب من العلل الوبيلة التي لا رجاء فيها، وكانت جراحات المخ تنتهي بالموت بنسبة لا تقل عن 85 في المائة. أما اليوم فقد تحسنت طرقها واحكم تفصيلها وجد الطب في استبانة عللها قبل أن تشب، فزاد عدد الناجين من الموت الذي كان محققا بالأمس زيادة تطرد على السنوات.
وقد ثبت إن 10 في المائة من المجانين يختل صوابهم من جراء إصابات تقع لرؤوسهم. وقد ثبت إن رجالا محترمين موقرين استحالوا أشراراً مجرمين بسبب صدمة أو دقة على رؤوسهم آذت أمخاخهم. ومن الغريب إن نتائج هذه الصدمات قد لا تظهر إلا بعد أسابيع من وقوعها. مثال ذلك إن رجلا من أهل السواد أصابته رصاصة ضلت سبيلها ودخلت من مؤخر رأسه، فأسرعوا به إلى المستشفى وكان أول ما يعمل لفحصه بطبيعة الحال تصوير رأسه بأشعة س، ولكن كان وقع بالمستشفى حريق في أيام قريبة سابقة فقضى على جهاز الأشعة، فلم يجرؤ الجراح على سل مشرطه وهو لا يعلم موضع الرصاصة، فتركت حيث كانت وتعافى المرض ظاهرا وغادر المستشفى، ولكن بعد سبعة أسابيع اخذ بصره يضعف وآذن بالعمى، فعاد إلى المستشفى فصوروا رأسه فتراءى لهم إن الرصاصة صارت في المخ رويداً حتى حلت منه في موقع الأبصار، ولما انتزعوها عاد إلى الكفيف بصره
وغير هذا ما حكاه السير (وليم هويلر) الجراح الايرلندي الشهير، ذكر إن الرصاصة دخلت راس رجل وضلت هناك أربع سنوات حتى سكنت من المخ حيث تترابط الأفكار فأصابت ذاكرته وبصره وسمعه وأخرجت فعادت إليه كل هذه جمعاء.
ومن ذلك قصة طفل في الشهر الحادي عشر من عمره، سقطت على رأسه لَبِنة فكسرت جمجمته، فكانت تأتيه لهذا السبب ارتجافات عنيفة، ثم انقطعت. ولما بلغ عامه السابع عشر أخذ ينتابه صرع شديد اشتفى منه بإحدى براعات الطب أتاها الدكتور (شارل هرِس) من (تكساس) بأمريكا. ذلك أنه ارتأى أن الصرع جاء من ضغط العظم الصديع على المخ، ففتح الجمجمة فتحة أطالها وراء الرأس من الأذن إلى الأذن على شكل حذاء الفرس، ثم رفع الجمجمة، وقطع شريحة دهنية من فخذ المريض فوضعها تحت عظام الرأس حيث الصدع لتفعل فعل الوسادة فتلقى الضغط دون المخ. وقد نجحت العملية نجاحاً تاماً وزال الصرع وعاد الشاب إلى مدرسته يستعد للحياة استعداد أقرانه، ويأمل منها مثل آمالهم عمراً
مديداً وعيشاً رغيداً.
القصص
نشيد الكرنك
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لقد كانت أياماً مليئة بالحياة. جادها الغيث إذا الغيث همى
جلسنا بعد سير طويل عند مدخل البهو ذي الأعمدة، واخذ بعض الرفقة ينطقون أوتار المزهر والكمان والقانون فترتفع مقاطعها المتآلفة المتناسقة بأحسن الأنغام وأطيب الألحان ثم تجاوبت الأصداء العجيبة من نواحي ذلك البهو الفسيح، فإذا الجو له يطن بأمواج مختلفة القوة من أصوات عذبة ساحرة، واستلقيت على مسافة من الجمع إذ كنت من أكثرهم تعبا، ولكن وان عزبت عن الضجة والصخب لم تفتني نفحات الموسيقى الحلوة وقد صفاها البعد ونقاها
وفيما أنا كذلك إذا بي وقد تمثل ذلك الهيكل منذ كان في شبابه، ورونقه، وقد قامت فيه الأعمدة باسقة تحمل تيجانها النيلوفرية وتكسوها النقوش البديعة الذهبية، وفي مداخلها المسلات النحيلة الرشيقة تلمع رؤوسها النحاسية في ضوء الشمس المائلة إلى الغروب، ثم تمثلت منظر الهيكل يوم عيد عظيم وقد ازدحم بالكهنة يصطفون للقاء فرعون وهم ينشدون نشيد الترحيب والتكريم، حتى إذا ما اقبل خروا إلى الأذقان ركعاً لابن الآلهة وسليل حوريس. فخيل إلي وأنا وسط هذه التأملات إن ذلك الصوت المنبعث إلى آذاني من موسيقى أصدقائي هو صوت هؤلاء الكهنة يتردد بين جدران المعبد القائم الجديد. وغرقت في خيالي وإذا بي وقد لف الظلام ما حولي. وإذا بي أرى من خلال الظلام عالماً سحرياً عجيباً ينشر من بين هذه الأطلال الهرمة:
رأيت (فرعون) مقبلاً يحمل في يداه عصا مذهبة وعلى رأسها تاج تحف به من أسفله الحية الملكية.
فخر الوقوف ساجدين وتعالت في جنبات المعبد أصداء موسيقى بديعة بالنشيد الملكي وألقى في روعي إن معناه
لاح حورماخيس يملأ الأرض بأنوار الصباح
يا ابن اوزيريس روحك الأقدس من روح بتاح
وكان (فرعون) نحيل الجسم قصير العود تعلو وجهه الأسمر صفرة كصفرة النرجس الذابلة. ولما رأيته وتبينت ملامحه لم املك نفسي إن صحت صيحة مكتومة هائلة. (أتعرف توت عنخ آمون؟) إذا كان صاحب الصورة التي ألفنا رؤيتها منذ كشف المقبرة المشهورة.
وقد كان المنظر الذي حولي يدعوني إلى الخشوع والرهبة. غير إني مع ذلك وجدت من نفسي كبراً أن اسجد لمخلوق، فلم اسجد مع الساجدين، وكنت أخشى أن يمسني من ذلك سوء. غير إني تعجبت إذ رأيت الحاضرين لم يزعجهم ذلك بل كأنهم لم يلحظوا شيئا.
فتجرأت وقمت أسير وراء موكب الملك بين صفوة المتقربين وهامات رجال الجيش وكبار الكهنة.
وسار (فرعون) في سبيل مرسومة إلى أن بلغ قدس الأقداس خلال الأغصان الملتفة والأوراق المتعانقة المتراقصة. كأنها الرقراق من جدول يجري بعد الترويق، أو النسيم يسري من تعدد المسارب والثنيات، فكانت إذا بلغتني تتوارد هينة مصقولة فتخلف عنه القواد وسجدوا إيذانا بالوقوف عند حد الحرم الممنوع، ولكني دخلت وراء الموكب ولم يبقى فيه إلا الملك والكاهن الأعظم وبعض كبار الكهنة يحملون في أيديهم هدايا الملك إلى إله طيبة الأعظم (آمون). فلما أن بلغوا المذبح وضعوا ما بأيديهم وانحنوا إجلالا، ثم وضعوا البخور في المجامر وعلا صوتهم بنشيد قدس الأقداس:
أأمون بارك سليل العلا
…
ومن فيه يجري دم الاقدسين
ولكنهم وقفوا حيث انتهى بهم السير، ودخل الملك وحده إلى الحرم الأقدس يتبعه الكاهن الأعظم، فترددت قليلا ثم عاودتني الجرأة فسرت وراء الملك إلى قلب ذلك المكان المحرم، ولكني عجبت إذ لم يمنعني أحد ولم تلتفت إلي عين. ولقد راعني الأمر وهالني مخافة أن أكون أقدمت على انتهاك حرمة جزاء الاعتداء عليها الهلاك. فقد كنت اعرف إن ذاك الحرم لا يحل دخوله إلا للملك ولرئيس الكهنة، وان الموت هو العقاب لمن يدخله من غيرهما. غير إني مع ذلك لم الو على شيء، بل سرت قدماً وسط الظلام الدامس الذي لا تضيء فيه إلا ذبالة ضئيلة في زجاجة حمراء لا يكاد الإنسان يتبين فيها إلا أشباحاً كأنها الظلال المتحركة.
ولما صار الملك هناك وحده مع الكاهن، أقول وحده لان كل الأدلة تدل على انه لم يلحظ
وجودي - استلقى على مقعد استلقاء المجهد السقيم وان أنة المتوجع المكلوم.
وسمعت صوت الكاهن الهادئ يخترق ذلك الظلام بنبرات خفية متزنة ولست اذكر ألفاظه ولكني كنت افهم ما اسمع بإلهام عجيب: قال (أي بني! شملتك رحمة آمون).
فصاح الملك صيحة مكبوتة (أيها الشيخ! نحن هنا وحدنا)
فقال الكاهن (اعرف ذلك ولهذا اطلب لك رحمة آمون)
فقال الملك بالصيحة ذاتها (ليتني كنت لا اعرف! ليتني كنت أستطيع أن اصدق!)
فقال الكاهن (أي بني! انك لا زلت شاباً وقد يغتفر للشاب أن يشك أحياناً)
فصاح الملك (اشك؟ إنني لا اشك. إنما انطق عن عقيدة. فلماذا يكون لتمثال مصنوع من الذهب في قلبي من الاحترام؟)
فقال الكاهن بلهجة مرة (ولكنك ملك. وان كنت لا تستطيع أن تصدق فعليك أن تصدق.)
فقال الملك محتدا (ماذا اصدق؟ هل اصدق إن آمون اله يرحم، أو جبار ينتقم؟ نحن هنا وحدنا فلا بأس أن تقول الحقيقة مجردة. ليس آمون هو الذي يتطلب مني الإيمان والخضوع بل هو (آي) الكاهن الأعظم وليس هو آمون الذي يرضى أن يسخط بل هم الكهنة الذين يحملون رمزه ويقومون على سدانة تمثاله الأخرس. هم كهنة آمون اللذين يطلبون مني الخضوع والعبادة) فقال الكاهن بهدوء (ثم ماذا؟) فقال الملك (ومع ذلك فقد كنت صريحا مع نفسي ورضيت بتغيير اسمي من (توت عنخ آتون) إلى (توت عنخ آمون) فتركت الإله الواحد القادر وآمنت بإله مزيف وأنا عالم بأنني إنما أؤمن بإله مزيف ولكي اضلل وأزيف.
فقاطعه الكاهن وقد بلغ الغضب على هدوءه وسخريته المرة قائلا:
(حسبك يا ساكاي) فصاح الملك (ساكاي!)
فأجاب (آي)(نعم ساكاي. انك لا تمت إلى الملوك إلا بصلة النسب والاعتقاد. وقد بطل ذلك الاعتقاد الفاسد في إلهك (آتون) منذ مات ذلك المجرم الذي كان يحكم في (آختاتون) وأما علاقة النسب فمن السهل البحث عن علاقة أقوى منها واجدر بالملك)
وعند ذلك لاح شبح الملك وهو ينهض غاضباً ويرفع رأسه متحدياً. ولكنه لم يقل كلمة واحدة بل بقى واقفاً وصدره يزدحم بأنفاسه. ونهض الكاهن كذلك ووقف أمامه واستمر في
قوله، وكان في حماسته يحرك رأسه ولحيته الطويلة بشي من العنف ويرفع رأسه عالياً مع ما في ظهره من انحناء الشيخوخة: قال (لا تغضب من الحق.) وان شئت أن تغضب ففكر في العاقبة قبل أن تخطو في سبيلك خطوة واحدة. إنني أحذر. إنني انذر. والبلاد كما ترى في اشد حالات الاضطراب والفوضى وقد صارت كالنسر المجرد من ريشه أو الأسد الذي قلمت أظافره).
فعاد الملك إلى مقعده وأن أنة أخرى اعمق من الأولى واشد مرارة ثم استمر الكاهن فقال:
(ومع ذلك فأسمع قصة قصيرة قد تكون مغنية عن قول كثير. إننا نحتفل اليوم بعيد اختيار آمون لجد زوجتك الملكية، الملك تحوتمس الثالث. ولقد كان ذلك الملك العظيم كما تعرف غير مرشح للملك لانه ابن محظية لا تجري في أمه دماء الآلهة. ولكن آمون رضى عنه ومال إليه في أول دورة، ووقف أمامه في يوم احتفال كهذا. فاظهر بذلك ارتياحه إليه وصار المُلك من ذلك اليوم اليه، فتنحى أبوه عن الملك وتنحى أخوه بل لقد تنحت أخته نفسها وهي التي تجري في عروقها دماء الآلهة. أتعرف هذا؟)
فتمتم توت عنخ قائلا (نعم. اعرفه) فقال الكاهن (وإذاً فلك الخيار. سأقول اليوم كلمتي إذا ما خرجنا من هنا على مسمع من رجال الدولة والكهنة والأمراء. وإذا شئت فارفض ما أقول)
قال هذا ثم نهض رافعا رأسه واتبعه الملك الصغير مطأطئ الرأس حزيناً ولما مر (توت عنخ) على مقربة مني وقعت على وجهه شعاعة من ضوء الذبالة فإذا على وجنته دمعة تترقرق وتلمع في الضوء الخافت.
ولما بلغ الكاهن الأعظم مكان المحراب عرج عليه لكي يؤدي فرضاً من الفروض المرسومة وألقى بعض البخور في المجامر المتقدة ثم سار وراء الملك حتى بلغا الفناء الفسيح في وسط الهيكل، وكان هناك الحشد الحافل من أهل الدولة والكهنة والقواد والأمراء فخروا جميعا للأذقان سجداً يتلقون الملك والكاهن الأعظم، ثم جلس الملك على عرش منصوب في الصدر، وقام الكاهن الأعظم فألقى كلمة قصيرة قال فيها:
(أيها القواد العظام والأمراء الكرام! لقد دخل الملك العظيم ابن الآلهة إلى قدس الأقداس وتجلت له أسرار آمون وظهر من إيمانه وبره ما جعل الإله العظيم يتجلى له. ولكن تجلى
آمون للملك العظيم. فالشكر لامون)
فسجد الجميع، مرة أخرى وقام الملك سائرا نحو الكاهن الأعظم وكانت خطاه مترددة مضطربة. ثم قال بصوت مختنق متهدج (المجد لآمون) فعلت عند ذلك ضجة من الجمع الخاشع كأنها ضجة التهليل والتسبيح.
وارتفع صوت الكهنة بنشيد الملك: (لاح حودماخيس، يملأ الأرض بأنوار الصباح) ثم حمل الكهنة تمثال آمون الذهبي وداروا به حول الفناء أمام الحضور حتى أتوا أمام عرش الملك فوقفوا واقبل التمثال محمولاً على الأعناق لكي يبارك الملك المحبوب المؤمن.
لقد تجلى آمون (لتوت عنخ) ورضى عنه لما في قلبه من الإيمان، وقام الملك بعد ذلك يتعثر في مشيته وقد زاد وجهه شحوبا على شحوبه وغارت عيناه وترددت فيهما قطرات تكاد تعيشهما. وعند ذلك علا صوت الكهنة مرة أخرى بنشيد
(أآمون بارك سليل العلا)
فتجاوبت به الأصداء بين جدران المعبد وتماوجت نغماته وكان بعضها يفنى كما تفنى الموجة إذا اتسعت دائرتها وبلغت مداها وتجددت من أعقابها موجة أخرى لا تلبث أن تبلغ مداها.
وعند ذلك انجلى الظلام وأسفر المنظر فإذا بإخواني ينشدون نشيدهم على آلات الكمان والعود والقانون. وإذا بي لا زلت منتحيا منهم ناحية راقدا على جانب حجر مكتوب الصفحات.
محمد فريد أبو حديد