الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 290
- بتاريخ: 23 - 01 - 1939
من مآسي الحياة
ضحية مَن هذا؟
الأباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون!
كنت في مكتبي مساء الأمس أتحدث إلى قصصية شاعرة جاءت تهدي إليَّ قصة للتقريظ، وقصصي كاتب جاء يقدم إلي أقصوصة للنشر. وكان من مطارحات الحديث أن تكلمنا في نصيب الخيال والواقع من قصة الأديبة وأقصوصة الأديب؛ وجرى على الألسنة الثلاثة كلام في روعة الواقع المحض، وزخرفة الفن البارع، وجاذبية الخيال الممكن. وكأنما كان يدافع عن الحقيقة مدافع من وراء الغيب فأدخل علينا فتى ذاوي الفتوة ضارع الجسم، ألف القَدر من شقائه مأساة لا يحتاج الكاتب في سردها إلى تلفيق خياله أو تزويق فنه
قرأ هذا الشاب ما كتبناه عن بعض من عرفنا من فرائس البؤس، فظن لبراءة فكره وسلامة صدره أن ما نكتبه عن هذه المآسي الأليمة يصادف من أولي الأمر استماعاً واقتناعاً ورحمة، فأراد آخر الرأي أن يسمعهم أنينه الموجع من هذا المكان القريب. ولو علم فتانا أن القدرة صفة من لا يرحم، وأن الرأفة خُلق من لا يستطيع، لأدرك أن كبراءنا وأغنياءنا يقرءون مآسينا للتلهي والفن، كما نقرأ نحن ملاهيهم للتسلي والعَجب. فإذا كانت لهم عيون فعيونهم من غير دموع، وإذا كانت لهم قلوب فقلوبهم من غير شفقة. ولكنه أخذ يستريح إلينا بما كابد من باطن الهم ومكنون الأسى، فأخذت الكاتبة تنهنه عبرة سالت على الخد، وأخذ الكاتب يعجب أن يبلغ البؤس بالناس إلى هذا الحد، وتركا لي أن أقص عليك فصلا من هذه الرواية:
في المنصورة أيضاً بلد المال والجمال والشعر، سطر الدهر المصرِّف في سجل الألم الإنساني هذه المأساة. كان أبوه من كبار التجار في هذه المدينة؛ وكانت يداه كيدي الخازن الماهر في المصرف العظيم تسيلان في الأخذ والعطاء ورقاً وفضة. وكان معدوداً في سراة القوم، يعيش عيش المترفين المسرفين، يطلق نفسه في العز، ويقلب أهله في النعيم، وينشِّئ أطفاله السبعة على كبر النفس ورفعة الهوى وبُعد الأمل. واتسق له الحال وواتاه الحظ الناهض فظن أمره قد عظم على الأيام واعتصم من الطوارق، فأغفل المواظبة والمراقبة، وأهمل المراجعة والمحاسبة، فصار الداخل لا يسجَّل، والخارج لا يحصَّل؛ واجتمع عليه
العدوان السخيان: التاجر المصدِّر الذي يعطي ولا يأخذ اعتماداً على الضمان، والشاري المستهلك الذي يأخذ ولا يعطي اتكالاً على الأمانة. وظلت الأمور تجري في مجاريها اليومية، تُفرغ صناديق البضاعة ليلاً في المخازن، ثم توزع على الناس نهاراً في الحوانيت؛ ولا يعلم إلا الله والتاجر ما في هذا الرواج العظيم من البوار، وما يبطنه هذا الربح الموهوم من الخسارة
وكان هذا الفتى وهو بكر أبيه قد نجح في امتحان البكالوريا بقسمها العلمي حين نزلت بهذا التاجر المغرور علة فادحة. وأعان المريضُ العلة على نفسه بما انكشف له من سوء الحال وظلام المستقبل فقضت عليه
جلس الفتى في المتجر مكان أبيه الراحل وهو يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات القلب بالرجاء، وفي اعتقاده أنه سيبني على أساس مكين ويصعد على رأس مال ضخم. فلما خطا الخطوة الأولى تفتحت أمامه الهُوَى، وتفجَّرت حواليه النوازل؛ فعاد ينظر في المخازن ويبحث في الدفاتر فوجد الخطر الذي لا يدفع، والقضاء الذي لا يُرد. وحاول أن يتفق مع الغرماء والحرفاء فلم تساعده فداحة دَينه. وطرءاة سنه على هذا الاتفاق، فاستغرق بعض الدين كل التركة، وأعلنت المحكمة إفلاس المتجر. . .
وفي عشية وضحاها فقدت الأسرة المدلَّلة وسيلتها للعيش ومكانتها في المجتمع، فلم يعدْ لها بعد الله عائل ولا وائل غير هذا الشاب وشهادة يحملها عليها طابع الحكومة وخاتم وزير المعارف بأنه تربى وتعلم، فمن حقه أن يمارس شؤون الناس ويلي أمور الدولة. فانتقل بأسرته إلى القاهرة، ثم أخذ يقطع السبل المؤدية إلى الوزارات كل صباح وهو فخور بشهادته، مدل بكفايته، فلم يدع باباً من أبواب الدواوين إلا طرقه. ثم ألح في الطرق رجاة أن يصيخ إليه سمع فلم يشعر بوجوده غير السعاة والحجاب، فاتسعوا له حينا ثم برموا به فنهروه وطردوه. وأدرك المسكين بعد لأي أن الشهادة من غير مدد ورقةٌ عليها مداد. فأخذ يلتمس الشفاعة عند أرباب السراوة والجاه. ولكن الشفاعة في أيامنا أصبحت حرفة لا يبذلها الشفيع إلا لمن يبذل فيها المال أو العرض. فكان الفتى كلما سمع برجل من رجال النفوذ قصده وقص عليه قَصصه، فلا يكاد الرجل العظيم يعلم أن له أخوات في غَيسان الشباب، وأمَّا لا تزال في ربيع العمر، حتى تحوم نفسهُ على الخِدْر الذليل، فتثور الحمية بالفتى فلا
يجد لها متنفسا إلا البكاء والاختفاء
والتمس البائس السبيل إلى العمل بالفكر وباليد فلم يوفق. وأوشك أن ينفذ ثمن الحلية الأخيرة من حلي أمه؛ وخشي أن يختم الموت على الأفواه الثمانية الذابلة، فتقدم إلى العمل (فاعلاً) في عمارة تبنى، فرده (المقاول) لرقة جسمه ودقة عظمه!
فانكفأ الطريد بالفشل والخجل إلى أسرته اليائسة الولهى؛ وباتوا جميعاً على الطوى والجوى يخلطون البكاء بالبكاء، ويَصِلون الدعاء بالدعاء، حتى سمعوا أن كلية الطب تطلب فراشين، فتقدم صاحب الشهادة مع صاحب المكنسة، وأمله كله ألا يُذاد عن هذا الملجأ الأخير!
وهاهو ذا الآن في قسم الكيمياء ينظف لرفاقه في الدراسة المقاعد والمناضد بأجرة في الشهر مقدارها مائة وأربعون قرشاً يحفظ بها أربعة أَعراض وثمانية أرواح! ولعله بفضل ما تعلّم من المعادلات واللوغاريتمات لا يتعب كثيراً في حساب هذا الدخل!
أحمد حسَن الزيات
الأم. . . أو التاريخ الحي
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر الحديث في الأسبوع الماضي عن (ماري أنطوانيت) والثورة الفرنسية، لأن داراً من دور الصور المتحركة عرضت حياة هذه الملكة المنكوية في صورة قريبة إلى التاريخ ولكنها أقرب إلى الفن والتصرف الذي يقتضيه في بعض المناظر. وشهدت هذه الرواية التاريخية فأيقنت من براعة تمثيلها وعرضها أنها قد جعلت الثورة الفرنسية ذكرى حياة لمن شهدوها كأنهم قد عاشوا في أيامها وتقلبوا بين تقلباتها وطبعوا في إخلادهم بعض حوادثها. وأعانهم على ذلك أن حقائق التاريخ ملتزمة في مسائلها الجوهرية أحسن التزام مستطاع، وأنها معروضة على مثال نفسي لا على مثال اجتماعي أو علمي يقصر الأمر على التأمل والتدبر ولا ينفذ به إلى معترك العاطفة والإحساس
قال (ستيفان زفيج) أكبر كتاب السير المعاصرين فيما مهد به لسيرة (ماري أنطوانيت) إن: (الفاجعة التاريخية) تقوم على البطولة أو على أناس من جبابرة النفوس والعقول. فإن لم تكن كذلك فهي تقوم على (إنسان عادي) يتعرض للأحداث الجسام التي تفوقه في الكبر والضخامة وتجعله عظيما بما يحيط به من أقدار عظيمة وإحن لا طاقة له باتقائها ولا بالخلاص منها بعد وقوعها
ولم تكن ماري أنطوانيت من معدن البطولة والجبروت، ولكنها كانت امرأة من الطراز الوسط في الذكاء والمزاج والأخلاق، تحب سهولة الحياة ولا تشغل بالها بالفوادح والمشكلات. فلما أحاطت بها الفوادح والمشكلات على الرغم منها ظهرت (الفاجعة التاريخية) على نمط يشبه فواجع الأبطال والجبابرة، من غير بطولة ولا جبروت
والرأي عندنا أن (الفاجعة الكبرى) تهز النفس هزاً عنيفاً في حالتين اثنتين: إحداهما حالة البطولة والجبروت التي أشار إليها ستيفان زفيج، والثانية حالة الإنسان العادي الذي تمتحنه الأحداث في كل جانب من جوانب نفسه فلا تدع له حاسبة بعيدة من سلطانها غير مجروفة في دوافق تيارها. وكذلك كانت فاجعة التاريخ التي أحاطت بماري أنطوانيت
كانت ملكة وزوجة وأما ومحبة وامرأة من بنات آدم وحواء كسائر النساء. فما تركت لها الأحداث جانباً من هذه الجوانب إلا استغرقته وطغت عليه: امتحنت منها الملكة في دولتها
ونظام حكمها وعلاقتها بسياسة بلادها التي حكمتها وسياسة بلادها التي ولدت فيها؛ وامتحنت منها الزوجة في قرينها الذي حالت بينها وبينه علة العجز الصحي سبع سنوات، حتى إذا شفي من عجزه أصابتها فيه خطوب الثورة ودسائس البلاط؛ وامتحنت منها الأم فطعنها الثوار وطعنها وليدها نفسه في أمومتها، بل في شرف الأمومة فضلاً عن حنانها؛ وامتحنت منها المحبة فكانت قصتها مع السويدي فرزن كأقسى ما تكون قصص الفراق أو قصص الغرام المكبوت؛ وامتحنتها في أنوثتها فوقفت بينها امرأة عزلاء بادية المقاتل لكل سهم مسموم
لذلك كانت فاجعة (ماري أنطوانيت) من أكبر فواجع التاريخ وإن كانت هي وكان لويس السادس عشر زوجها المظلوم من معدن غير معدن البطولة والجبروت، لأن النفس الآدمية تقابل هذه الفاجعة من نواحي شتى وصلت كلها إلى غاية المدى وقصارى الاستقصاء. ولا ريب أن الفجيعة الكبرى بين هذه الفجائع المتفرقة التي التقت في شخص واحد كانت هي فجيعة الأم أو فجيعة الأمومة البالغة في القسوة والإيلام
شهد القاهريون (نور ماشيرر) وهي تمثل فجيعة ماري أنطوانيت يوم جاءها وكلاء الثورة يأخذون منها طفلها الصغير وسلوتها العظمى في بلاء السجن وبلاء الضنك والحرمان
فأما (ماري أنطوانيت) فالتاريخ لا يروي لنا أنها قد فعلت في ساعة توديع ابنها ما فعلته نور ماشيرر على اللوحة البيضاء، ولا أنها قد مانعت هذه الممانعة وتخبطت هذا التخبط وبكت هذا البكاء، ولكن الممثلة أرادت أن تجمع في هذا الموقف ما تفرق في أعوام من الحنان المفجوع والعطف المطعون، فبالغت هذه المبالغة التي صدقت بها الفن وإن لم تصدق التاريخ
فقد ثبت في الأسانيد الصحيحة أن هذه الأم الوفية ضيعت نفسها مرات وأعرضت عن كثير من وسائل النجاة في سبيل الطمأنينة على وليدها الصغير
فلما فشلت خطة الهرب إلى (فارين) وأصبح استئناف السير في المركبة المقفلة ضربا من المستحيل عرض عليها بعض الأنصار المخلصين ركوب الجياد في المسافة القصيرة الباقية بينهم وبين الحدود قبل إطباق الثوار والجنود، فأبت هذا الاقتراح مخافة على ابنها أن تصيبه رصاصة من بعض الجند، لا يأمن التعرض لها على ظهر جواد كما يأمنها في
المركبة المقفلة أو الركب المجهول
ولما دبر الملكيون إخراجها من السجن وإخراج ابنها وبنتها معها في أسمال العامل الذي يوقد المصابيح مع أولاده الصغار فشلت هذه الخطة في اللحظة الأخيرة، ثم قيل للملكة إنها تستطيع الهرب وحدها على أن تترك ابنها وابنتها ولا خوف عليهما كما يخاف عليها هي من جراء المحاكمة والاضطهاد. فأبت كل الإباء وآثرت البقاء مع ولديها على النجاة وحدها وهي لا تعلم مصير هذين الطفلين
ولما ألح عليها المحامي أن تسأل المحكمة الثورية تأجيل يوم المحاكمة ريثما يستعد للدفاع ويفرغ من مراجعة الأوراق رفضت إلحاحه وأصرت على رفضها مخافة أن يكون اعترافها بحكومة الثورة بمثابة النزول عن حق ولدها في وراثة التاج. فعاد المحامي يحتال عليها من ناحية حنان الأمومة، ويذكرها أن حياتها مطلوبة لولدها لا لنفسها، واسترسل في هذا الإغراء فلم يتحدث طويلاً على هذه النغمة حتى أقلعت عن عنادها وثابت إلى القبول وكتبت خطابها المحفوظ الذي جمعت فيه بين الحيطة والإصغاء إلى رجاء المحامي، فأفرغته في قالب الإخبار والعمل بنصيحة المحامي كأنما هو مكتوب على لسانه لا على لسانها حتى يتحقق به الإبلاغ ولا يتحقق به الاعتراف
والكارثة الكبرى يوم ضبط ابنها الصغير بعد فصله منها وهو يعبث العبث الذي لا يعرف في مثل سنه الباكرة، فلما روّع بالسؤال عمن علمه هذا أجاب على عادة الأطفال: إنها هي أمه وعمته. . .! ثم حرضه المحرضون على الشهادة بما قال وبما أضافوه إليه من هراء لا يقبله العقل ولا يحتمله التصديق، فأنفت أن تجيب عن هذه التهمة وتجاهلتها حتى نبه بعض المحلفين رئيس المحكمة إلى هذا التجاهل فأعاد سؤالها فلم تزد على أن تقول:(إذا كنت لم أجب فإنما أبيت الجواب، لأن الطبيعة تأبى أن تجاب تهمة كهذه توجه إلى أم. وإني لأحيل الأمر في هذه المسألة إلى جميع الأمهات الحاضرات في هذا المكان)
فشعر أعضاء المحكمة وشعر دعاة الاتهام معهم أن الضربة فائلة، وأنهم ما صنعوا بها إلا أن قربوا بين هذه الأم وبين جميع الأمهات والآباء، فسرى في الحاضرات والحاضرين شعور العطف عليها والرثاء لما أصابها، وما كانوا حاضرين إلا للشماتة والازدراء
وقد كان آخر ما صنعته بعد صدور الحكم بموتها ويقينها أن وليدها لم يبق له بعدها من
يشرف على أمره غير عمته المسجونة، أنها كتبت إلى تلك العمة ترجوها الصفح عن الغلام وتعتذر له بصغر سنه وسهولة إغرائه، وتوصيها به خير الوصاة
لقد كانت مصيبة الأم في حياة ماري أنطوانيت أظلم المصائب وأشدها حلكة وسواداً، ولكنها كانت أنصع الصفحات في سيرة هذه الملكة المنكودة والمرأة المبتلاة، وإن تلك الصفحة وحدها لكفيلة بخلق (الفاجعة الكبرى) في هذه السيرة النادرة بين سير النساء
عباس محمود العقاد
إلى الدكتور طه حسين
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل:
تفضلت فأهديت إليّ نسخة من كتابك الجديد (مستقبل الثقافة في مصر) وكان من واجبي أن أشكر لك هذه الهدية بخطاب أسجل فيه هذا التلطف. ولعلني لو حاولت ذلك لاهتديت إلى أن من الخير أن أنتهز الفرصة وأشرب معك كأساً من الشاي في بيتك لنجدد العهد؛ ولكني آثرت أن أشكر لك هذه الهدية بأسلوب آخر هو الهجوم عليك
وما كان ذلك حبّاً في المشاغبة كما يتوهم بعض من لا يفقهون، وإنما كان ذلك لأني أشعر أننا أسرفنا في حب السلام، والسلام ضرب من الموت، وأعتقد أننا في هذه الأيام نختلف أقل مما يجب ويا ويلنا إذا لم نختلف!
ويسرني أن أعرف فيما بيني وبين نفسي أني لم أقصّر في محاربتك، ولم يفتني أن أنذر رجال التعليم بخطرك، وقد قلت لهم بصوت يسمع أهل القبور:(إن هذه الرجل سينتزع من أيديكم كل شيء) فما استمع مستمع ولا استجاب مجيب
وكما قلت للغافلين: إن طه حسين ليس أعلم العلماء، ولا أحكم الحكماء، وإنما هو رجل (متحرك) كما يعبر أهل بغداد، فتحركوا يا جامدين لتسدوا عليه الطريق
كم قلت: إن من الغفلة أن يسكت رجال التعليم إلى أن يسمعوا صوت الناقوس من طه حسين! وما قلته لرجال التعليم قلت بعضه لنفسي، ففي كتابك الجديد آراء أذعتها من قبلك في الجرائد والمجلات، ولكني لم أحتفل بها كما احتفلت فأذيعها في كتاب خاص، ولو أني فعلت لأضعت عليك فضل السبق. ولكن ما فات فات
ما كان يسرني أن تنتصر، وإن كنت أقسمت يمين الوفاء لكلية الآداب؛ ولكن ماذا أصنع وأنا مضطر لكلمة الحق في إنصافك بحكم الضمير والواجب؟ ماذا أصنع وأنا أرى أنصاري في مخاصمتك لا يملكون غير مضغ الأحاديث؟ ماذا أصنع وأنا لا أدري بين رجال التعليم من يبدي رأياً صحيحاً أو سخيفاً في مستقبل الحياة الأدبية والعلمية؟
كنت أتمنى أن يشغل بمستقبل الثقافة في مصر عشرات من الباحثين منهم شيخ كلية اللغة العربية وعميد دار العلوم ورئيس المجمع اللغوي ومدير دار الكتب المصرية؛ ولكنك
تفردت بذلك الإحساس الدقيق الذي يظهر في اختيار الظرف المناسب لما تذيع من مذاهب وآراء؛ فإن بدا لبعض الناس أن يحسدك على هذا السبق فليسأل نفسه ماذا صنع بالإجازات الصيفية، كما صنعت أنت بالإجازات الصيفية
أتريد الحق يا دكتور؟
أنت رجل مقتحم، وما حق المقتحم أن ينتصر كما انتصرت
ولكن ماذا في كتابك الجديد؟
هو في جملته وتفصيله شاهد على أنك تقدر المسئولية الملقاة على عاتق عميد كلية الآداب. وأنت في كتابك هذا قد فصلت ما يعترض مصر من المعضلات التعليمية أجمل تفصيل. وليس لكتابك الجديد بريق الكتب الأدبية، ولكن له جلال الكتب التعليمية، فتقبل مني ومن جميع المنصفين أصدق آيات الثناء
ثم ماذا؟ - في كتابك الجديد كثير من البديهيات، فهل ترى من الحق أن نحاسبك على التطويل في شرح البديهيات؟
من الذي حدثك أن المصريين يحتاجون إلى من يدلهم على أنهم في تصورهم وعقليتهم يقتربون من إيطاليا وفرنسا أكثر مما يقتربون من الصين واليابان؟ من الذي حدثك أن المصريين يحتاجون إلى من يذكرهم بأنهم قوم لهم عقول تدرك ما يدرك الأوربيون في ميادين العلوم والآداب والفنون؟
في كتابك بديهيات كثيرة من هذا النوع، فاستغن عنها إن شئت في الطبعة التالية لئلا تسجل على وطنك جهل البديهيات
ثم ماذا؟ - قلت إن عقلية مصر عقلية يونانية، وصرحت بأن الإسلام لم يغير تلك العقلية. فاسمح لي أن أشكوك إلى عميد كلية الآداب، فعميد كلية الآداب وهو أستاذي وأستاذك، واسمه طه حسين إن لم تخني الذاكرة، يعرف أن مصر ظلت ثلاثة عشر قرناً وهي مؤمنة بالعقيدة الإسلامية، والأمة التي تقضي ثلاثة عشر قرناً في ظل دين واحد لا تستطيع أن تفر من سيطرة ذلك الدين
عميد كلية الآداب الذي أعرفه أنا، وإن تجاهلته أنت، يعترف بأن الإسلام رجّ الشرق رجّةً أقوى وأعنف من الرجَة التي أثارتها الفلسفة اليونانية.
عميد كلية الآداب يثق بأن في مصر شمائل من العقلية اليونانية التي تلقت الدروس عن مصر الفرعونية. ولكنه مع ذلك يؤمن بأن لمصر عقلية إسلامية، وهذه العقلية الإسلامية لها خصائص يدركها أصغر مدرس في كلية الآداب. وأرجو إلا يضيق صدرك بهذه الحقيقة فقد نلتقي بعد أيام أو أسابيع وأشرح لك ما لا يحتاج إلى شرح، كما تشغل نفسك بشرح ما لا يحتاج إلى شرح
من المؤكد عندي أنك لم تستشر عميد كلية الآداب قبل أن تصرح بأن الإسلام لم يغير العقلية المصرية، وذنبك في هذا التهاون عظيم لأنك قريب منه، واتصالك به لا يجشمك أي عناء.
عميد كلية الآداب يعرف، كما أعرف أنا وتعرف أنت، أن الديانات تفترق ثم تجتمع، وهي في روحها تحدث الناس بأسلوب واحد في أوقات الضعف، ولكن هذا لا يمنع من أن هناك خصائص للعقلية الإسلامية والعقلية المسيحية، وهذه الخصائص تخفى على العوام ويدركها الخواص.
وكيف لا توجد هذه الخصائص بين دينين مختلفين، مع أننا نعرف أن هناك خصائص عديدة في الدين الواحد حين يختلف أهله بعض الاختلاف؟
إننا نعرف أن للكاثوليكية خصائص وللبروتستانتية خصائص، لأننا نعرف أن للعقلية السنية خصائص وللعقلية الشيعية خصائص
فكيف جاز عندك يا سيدي الدكتور أن تتوهم أن الإسلام لم يغز العقلية المصرية بتغيير ولا تبديل؟
أنا لا أنكر أن مصر ورثت ما ورثت من علوم اليونان، ولكني أنكر أن تكون مصر عاشت بعقلية واحدة منذ آلاف السنين إلى اليوم. هل تصدق حقاً يا دكتور أن المصريين أحسوا العقلية اليونانية بعد الإسلام إحساساً واضحاً صريحاً؟
في الحق أن المصريين في حياتهم الإسلامية شغلوا أنفسهم بعلوم اليونان أكثر من عشرة قرون، ولكنك وقد جلست على حصير الأزهر كما جلستُ تعرف أن المصريين لم يتذوقوا تلك العلوم؛ والأزهر لا يزال باقياً فتعال معي نسأل أهله ماذا فقهوا من علوم اليونان؟ تعال معي يا دكتور لنقضي بين علماء الأزهر ساعة أو ساعتين فستراهم جميعاً يعتقدون بأن
العقلية اليونانية هي التي قضت على اليونان بأن يكونوا باعة الفاصوليا والسردين!
أنا لا أنكر قيمة التراث الذي خلّفه اليونان القدماء، ولكني أرتاب في أنه وصل إلى ألفاف العقلية المصرية.
وأنت تعرف من نفسك ما أعرفه من نفسي، أنت تعرف أننا لم نفقه الفلسفة اليونانية إلا بعد أن ارتضنا رياضةً عنيفة جداً. فإن ادعيت أنك فقهت فلسفة اليونان وأنت طالب في الأزهر فأنا أقول إني لم أفقه تلك الفلسفة حق الفقه إلا بعد أن تلقيتها على أساتذة أوربيين في الجامعة المصرية. وما أظنك تتهمني بقلة الذكاء
والعلوم التي لا تهضم إلا بعد جهد ومشقة لا تغير عقليات الشعوب وإن غيرت عقليات الأفراد
أنت تعرف فيما تعرف أن الفقه الإسلامي نفسه كان يتغير بالانتقال من أرض إلى أرض، فكان للشافعي مذهب في مصر ومذهب في العراق. ومعنى ذلك أيها الأستاذ الجليل أن العقليات تتغير من وقت إلى وقت باختلاف ظرف الزمان، وظرف المكان
والموجة الإسلامية التي طغت على مصر فنقلتها من لغة إلى لغة ومن دين إلى دين، والتي قضت بأن تتفرد مصر بحراسة العروبة والإسلام بعد سقوط بغداد؛ هذه الموجة العاتية لا يمكن أن يقال إنها لم تنقل مصر من العقلية اليونانية إلى العقلية الإسلامية
ولكن ما هي تلك العقلية الإسلامية؟ هي لونٌ آخر غير العقلية اليونانية بلا جدال، وهي لا تُشرح في مقال واحد، وإنما يشرحها كتاب ينفق فيه رجل مثلك عدداً من السنين الطوال
وأنا مع هذا لا أنكر أن الإسلام في مصر له خصائص غير الخصائص التي يجدها الباحث حين يدرس الإسلام في الحجاز أو في الشام أو في المغرب أو في العراق
وقد تعرضتُ لشرح بعض هذه الخصائص حين تكلمت عن صور المجتمع الإسلامي في كتب صوفية، ولكنها ما تزال في حاجة إلى درس أوفى من الدرس الذي يقع في فصل من كتاب
أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أزحزحك تماماً عن موقفك، ولكني موقن بأني عرضت صدرك لشبهات ستوجب عليك الحذر حين تتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية؛ وأنت تعرف ما أعني
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ ثم عرضت بالتفصيل لمشكلة اليوم وهي: النزاع بين الأزهر ودار العلوم
ويجب أن يكون مفهوماً أنك ألَّفت كتابك لغاية بريئة من الهوى لأنك عميد كلية الآداب، وعميد كلية الآداب يشرع للناس مذاهب الحق. وقد تأملت كلامك فوجدته يحتاج إلى تصحيح
ولعلك تعرف أن هواي ليس مع الأزهر ولا مع دار العلوم، وإنما هواي مع الجامعة المصرية، والفرق بيني وبينك أني لا أكتم هواي كما تكتم هواك. وما أعارضك في هذه القضية إلا لأنك سلكت فيها مسلكاً يخالف العقلية التي صبغتنا بها الجامعة المصرية، وهي التعمق في درس الأغراض والمعاني
أنت وازنت بين الأزهر ودار العلوم والمعاهد المدنية، وقام عندك الدليل على أفضلية الأزهر، لأنه أخرج للناس: محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى عبد الرزاق؛ وأفضلية المعاهد المدنية لأنها أخرجت للناس: إبراهيم عبد القادر المازني، وأحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل؛ وسقطت عندك دار العلوم لأنها لم تخرج أمثال هؤلاء
صدقت يا دكتور بعض الصدق، فدار العلوم لم يكن لأبنائها ماض في السيطرة على الحياة الأدبية على نحو ما يسيطر: هيكل، والمازني، والعقاد، وطه حسين، والزيات
ولكن كلامك على صدقه أحزنني، وليتك استشرت عميد كلية الآداب قبل أن تنشر هذا الكلام المحزن الموجع
أحزنني كلامك لأنه أصطبغ بالمغالطة والإسراف
أنت رجل معلم يا دكتور، ومن العيب عليك أن تؤذي إخوانك المعلمين: أتراك تؤمن في سريرة نفسك بأنك لم تحكم في هذه القضية بغير العدل؟
تعال أناقشك الحساب
إن رجال دار العلوم قد اشتغلوا جميعاً بالتعليم، ومهنة التعليم تقتل الأديب أبشع القتل. وأين المعلم الذي تسمح له وزارة المعارف بأن يستوحي الحياة كما يستوحيها الأدباء الذين سيطروا على هذا الجيل؟
أين المعلم الذي تسمح له وزارة المعارف بأن يصف جمال السابحين والسابحات في شواطئ الإسكندرية وبور سعيد، كما صنع الشاعر فلان؟
أين المعلم الذي يستطيع وصف الصراع بين الهدى والضلال بدون أن يخاطر بمركزه في الحياة التعليمية كما وقع ذلك للدكتور فلان؟
أنت تعرف أني جاهدت أعنف الجهاد لأخلق لنفسي شخصيتين: شخصية المدرس وشخصية الأديب، ومع ذلك لم أسلم من عدوان السفهاء
ومتى سيطر لطفي على الحياة الأدبية؟
كان ذلك يوم كانت حياته خالية من قيود التعليم، فلما صار مديراً للجامعة المصرية توقّر وتزمت حفظاً لحرمة التعليم
ومتى سيطر المازني على الحياة الأدبية؟
كان ذلك بعد أن ترك مهنة التدريس وتفرغ لاستيحاء الحياة، ولو بقي المازني معلماً لكان مصيره مثل مصير زميله عبد الرحمن شكري الذي كان يحس مثل لسع العقرب كلما أشار كاتب في جريدة إلى أن له أشعاراً في الغزل والتشبيب
ومتى سيطر مصطفى عبد الرازق على الحياة الأدبية؟
هل يعرف الجمهور شيئاً من تلك السيطرة؟ وهل يجرؤ مصطفى عبد الرازق على إعلان ما كتب من الوجدانيات؟
إن مصطفى عبد الرازق كتب أجمل ما كتب بإمضاء مستعار لا يعرفه غير الخواص، وكان ذلك لأن حياته في التعليم الديني والمدني قضت بأن ينسحب جهرةً من الحياة الأدبية
الحق يا دكتور أن رجال دار العلوم لا يطلب منهم إلا أن يكونوا معلمين صالحين، وقد كانوا بالفعل
وهنا أوجه إليك كلمة مرة ستؤذيك أشد الإيذاء: من الذي زين لك أن تعتدي على الجنود المجهولين؟ أنت تعرف أن الفرنسيين يسمون التعليم
وما أشقى من يعاني مهنةً بلا مجد!
لك يا دكتور زميل فاضل اسمه إبراهيم مصطفى، وهو كالفراء سيموت وفي نفسه شيءٌ من حتى
فهل يرضيك أن تتجاهل مثل هذا الرجل لأنه لم يسيطر على الحياة الأدبية ولم يشترك في تكوين الجيل الجديد؟
ومن الذي يسمع اليوم باسم أستاذي وأستاذك سيد بن علي المرصفي وله عليّ وعليك فضل لا ينساه إلا الجاحدون؟
أكتب هذا وأنا متألم متوجع لأني أرى عميد كلية الآداب يتجاهل تضحيات المدرسين، ولأني أشعر بأن هذه الأحكام الجائرة ستسقط من ميزان الحسنات أعمالي في التدريس. ولن يعرف الجمهور غير أعمالي في التأليف وهي لم تكن إلا ثمرات ما انتزعت من أوقات الفراغ
وما أخافه على نفسي أخافه عليك يا دكتور، فأنت هدف لحملات المتعسفين الذين شرعوا يقولون إن إنتاجك الأدبي قلّ وضعف، وهؤلاء الذين لا يذكرونك إلا يوم تخرج كتاباً جديداً ينسون كل النسيان أن لك شواغل تعليمية تفلّ نشاطك وتقل إنتاجك
وأين المنصف الذي يذكر أننا نحدث تلاميذنا بأشياء لو دوّنت لخرج منها محصول أدبي نفيس يغمر المكاتب ويشغل الأندية والمعاهد؟ أين المنصف الذي يذكر أن من يسيطرون على الحياة الأدبية مدينون أثقل الدَّين للمدرسين المجهولين الذين لا يعرف التاريخ أقدارهم إلا إن صاروا مؤلفين مشهورين؟
لك يا دكتور زميل فاضل يعيش في زاوية مجهولة من زوايا الخمول هو الدكتور أحمد ضيف، وأنا أؤكد لك أن هذا الرجل يعدي صدور تلاميذه بالفكر والعقل، وقد نفعتني صحبته أجزل النفع، ولكنه لا يستطيع أن يزاحمك لأنه لم يخرج من المؤلفات مثل الذي أخرجت. فمن واجبك وأنت عميد كلية الآداب أن تضع للتقدير الأدبي ميزاناً غير ذلك الميزان، من واجبك أن تذكر أن الجمهور الفرنسي لا يعرف شيئاً عن المسيو تونلا أو المسيو مورنيه، ولكن أمثال هذين الأستاذين لهم تأثير عظيم في تكوين الأذواق الأدبية وإن جهلهم سواد الناس.
وسيأتي يوم ينعزل فيه الدكتور طه انعزالاً تاماً عن الجمهور ويعتكف فيما يسميه الفرنسيون ليحقق مع تلاميذه بعض الدقائق الأدبية والفلسفية. ويومئذ يحتاج الدكتور طه إلى من يعتذر عنه أمام الجمهور فيقول إنه يحيا حياة العلماء لا حياة الأدباء. وهل يجهل رجل مثلك أن هناك فرقاً عظيماً بين أستاذ الأدب وبين الأديب؟
إن أستاذ الأدب تفسده الشهرة لأنها تشغله عن طول الأنس بالتعرف إلى الألفاظ والمعاني
والأساليب. أما الأديب فيفسده الخمول لأنه يصدّه عن درس أسرار النفوس وسرائر القلوب، ويعوقه عن معاقرة صهباء الوجود
وأنت بحكمك الجائر تنسى أساتذة الأدب ولا تذكر غير الأدباء، لأنهم على حدّ قولك استطاعوا أن يسيطروا على الجيل الجديد. . . أتراني أفلحت في إقناعك بخطأ رأيك؟
قل الحق مرة واحدة يا سعادة العميد!
أترك هذه الخواطر، ثم أرجع إلى محاسبتك بصورة غير تلك الصورة
أنت قلت إن الأزهر يخرّج فيه محمد عبده وسعد زغلول فهل تعتقد حقاً أن من طبيعة الأزهر أن يخرج رجالاً مثل محمد عبده وسعد زغلول؟
إن كان ذلك صحيحاً فأين الأزهري الذي خلف محمد عبده؟ وأين الأزهري الذي خلف سعد زغلول؟
وما أقول به عن الأزهر أقول به عن المعاهد المدنية، فابحث عن المنطق الذي يزكي حجتك إن استطعت، وما أحسبك تستطيع
وقد وقفت في كلامك عند الماضي وبعض الحاضر
فهل يحق لي أن أسألك كيف تجاهلت أقدار من أخرجت دار العلوم من الرجال الذين سيطروا على الحياة الأدبية؟
أما يمكن أن يقال إن دار العلوم تخرج فيها عبد العزيز جاويش وحنفي ناصف ومحمد المهدي ومحمد الخضري وعبد المطلب وعبد الوهاب النجار واحمد السكندري؟ أتظن أن هؤلاء لم يسيطروا على الحياة الأدبية حيناً من الزمان؟
وقلت إن دار العلوم لم تغير نحو البصرة والكوفة، فهل غيرت أنت نحو البصرة والكوفة وأنت أستاذ بالجامعة المصرية منذ عشرين سنة؟
أنت رجل مقتحم يا دكتور، وهذا أجمل ما فيك من شمائل وخصال، فامض في اقتحامك إلى غير نهاية، فمصر لا ينجح فيها غير المقتحمين!
من حقك أن تدوس دار العلوم لأنك مقتحم، وسيكون من واجبي أن أفرحك بانتصارك، لأني متخرج في الجامعة المصرية وسأقاسمك الغنائم والأسلاب، فآخر شهادة ظفرت بها من الجامعة المصرية مذيلة بإمضاءات أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين.
ولكن يعزّ عليّ وعليك أن تنهزم دار العلوم بعد أن صنعت في التاريخ الحديث ما لم يصنع الأزهر ولا الجامعة المصرية، مع الاعتراف بفضل هاتين الجامعتين العظيمتين
يعزّ عليّ وعليك يا دكتور أن ينهزم معهد كان من رجاله أساتذتي وأساتذتك. أنت تعرف يا دكتور أن كلية الآداب انتفعت بأساتذة دار العلوم
وتعرف يا دكتور أن كلية اللغة العربية انتفعت بأساتذة دار العلوم. فأرجوك باسم الأدب العالي أن تذكر ذلك المعهد بكلمة رثاء يوم يموت!
أيها الأستاذ الجليل
في كتابك كثير من مواطن القوة، ولكن يعوزه المنطق أنت تتحسر أشد التحسر على الفرصة التي ضاعت على دار العلوم في الانضمام إلى الأسرة الجامعية
ولكنك نسيت أن سلامة دار العلوم هي في البعد عن تلك الأسرة الجامعية. وأنت نفسك تذكر أنك قلت غير مرة إنك لا تفهم أن يكون في الجامعة باب يُغلق بعد ابتداء الدرس
فما رأيك إذا حدثتك بأن دار العلوم معهد لا يقل خطراً عن المدرسة الحربية، وأن من الواجب أن يراعى فيه نظام المواظبة بالثواني لا بالدقائق؟
ما رأيك إذا حدثتك بأن طلبة دار العلوم يجب أن يُراضوا على الأنظمة العسكرية فلا يعرفوا من الحرية الشخصية ما يعرف أمثالهم في كلية الآداب؟ يجب أن يكون مفهوماً بيني وبينك أننا لا نفكر في منافعنا الذاتية، فأنا أدفع ما يتهمك به خصومك من حب السيطرة على أكبر عدد ممكن من المعاهد
وإذاً يكون من المنفعة الوطنية أن نفكر جميعاً في إعداد معلم اللغة العربية إعداداً فنياً، لا جامعياً، فإن لم تكتف بذلك فلا بأس من أن تقترح أن يظفر مدرس اللغة العربية بدرجة جامعية بعد التخرج في دار العلوم على الأساليب التعليمية
وتجاريبي في التفتيش أقنعتني بصحة ما أقول، فقد لاحظت أن المدرسين المتخرجين في كلية الآداب يتفوقون في أشياء ويقصرون في أشياء، كما لاحظت أن المتخرجين في دار العلوم يتفوقون في أشياء ويقصرون في أشياء، ولذلك تفصيل يضيق عنه هذا الحديث، فإن أمكن أن يجمع مدرس اللغة العربية بين المزيتين كان لذلك أثر بالغ في تكوين الجيل الجديد
وهذا الذي أقول به لا يوجب إلغاء دار العلوم ولا تغيير نظام كلية الآداب، وإنما يوجب أن يتعرف هذان الجيلان بعضهم إلى بعض بلا بغي ولا عدوان
ويظهر من كلامك أنك راض كل الرضا عن الجامعة المصرية، ولكنك نسيت أن هذه الجامعة لم تصنع شيئاً في إصلاح ما سيطرت عليه من المعاهد العالية
هل تعرف يا سعادة العميد أن لغة التدريس في كلية الطب هي اللغة الإنجليزية؟
وهل تعرف أن لغة التدريس في كلية العلوم هي اللغة الإنجليزية؟
لقد نشرتُ أكثر من سبعين مقالة في دعوتكم إلى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع المعاهد العالية فلم تقابلوني بغير الصمت البليغ. وكانت النتيجة أن تسبقكم الجامعة الأمريكية في بيروت إلى تحقيق هذا الغرض النبيل
وتكلمت يا سعادة العميد عن وجوب الإكثار من الترجمة، وكان الظن أن تذكر أني استطعت مرة أن أقنع وزارة المعارف بوضع نظام لخريجي البعثات يوجب ألا يظفر المتخرج في البعثات بأية ترقية إلا بعد أن يترجم كتابين من غرر المؤلفات الأجنبية في العلم الذي تخصص فيه. وقد أقرت وزارة المعارف ذلك النظام وأعلنته إلى مبعوثيها في المعاهد الأوربية والأمريكية، ويقول المرجفون إنك ساعدت على تقويض ذلك النظام بمعونة رجل من أصدقائك تولى وزارة المعارف، وكان ذلك فيما يقال لأنه نظام اقترحه رجل اسمه زكي مبارك وأقره وزير اسمه حلمي عيسى باشا
فهل يكون معنى ذلك أن الخير لا يكون خيراً إلا حين تقترحه أنت ويقره وزير من أصدقائك؟
ونسيت يا سعادة العميد أن كلية الآداب تقول أكثر مما تفعل، فإن لم يكن ذلك صحيحاً فحدثني أين مجلة كلية الآداب التي لم نر منها غير ومضات؟
ونسيت أيضاً أنك تقول أكثر مما تفعل، فأنت تدعو الدولة إلى إعفاء الأدباء من أعمالهم الرسمية ليتفرغوا للبحث والدرس، ثم ننظر فنراك تساعد الدولة والدهر على ظلم الأدباء
فإن لم يكن ذلك صحيحاً فحدثني كيف اتفق ألا تتحدث في الإذاعة اللاسلكية ولا تكتب في الجرائد إلا عن مؤلفات من تصطفيهم من الباحثين، مع أنك مسئول بحكم منصبك العالي عن الخلوص من شوائب الأهواء؟
كان الظن أن تذكر أن من واجب الجامعة المصرية أن تحاسب نفسها قبل أن تحاسب الناس، ولكنك على كل حال مغفور الذنوب لأنك تتكلم في أوقات يراها غيرك أوقات صمت وجمود
أما بعد فإني أعتقد أني نوهت بكتابك وبأعمالك أعظم تنويه، فإن رأيت في كلامي بعض ما لا يروقك فاعذرني، فقد أُخذ علينا العهد ألا نقول غير الحق. وهل علمتنا الجامعة المصرية أن نصانع من يظنون أنهم يملكون من السيطرة الأدبية أكثر مما نملك؟ سترى كيف نروضك على الاقتناع بأن القول المعسول لا يغني عن الصُّنع الجميل
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
من برجنا العاجي
(هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعال في إظهار مواهبك الأدبية) هذا السؤال ألقته مجلة أدبية فرنسية على الروائي دورجليس فأجاب: (إن الرجل الذي يهجم على الأدب وهو مزود بتكوينه المدرسي وحده لا يمكن أن يكون غير كاتب ضعيف). وقال الشاعر بول فاليري في مثل هذا المقام: (إن أساتذتي في المدرسة كانت لهم على الأدب فكرة تدعو إلى الرثاء. يخيل إليَّ أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقررة رسمياً في المناهج الدراسية)!
لو سئلت أنا أيضاً لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى. فلقد فعلت
المدرسة كل شيء لتنفرني من الأدب وتخيفني من اللغة فوضعت بين
يدي أسمج الكتب العربية معنى وفكراً وأعسرها لغة وأسلوباً وأبعدها
عن مخاطبة النفس المتفتحة لجمال الخليقة. لقد علمتني المدرسة
كراهية الشعر العربي.
وقد لبثت زمناً لا أطيق الإصغاء إلى بيت واحد من ذلك الشعر السخيف الذي أرغمنا على حفظه إرغاماً. شعر ليس فيه قطرة من ماء الشاعرية. إنما هو ضرب من تلك الحكم والمواعظ المنظومة التي لاكتها الألسن ومضغتها الأفواه حتى أصبحت (تفلاً) جافاً لا نفع فيه. تلك هي مادة غذائها الذهني. أما إذا اجتهدنا فقرأنا كلاماً جميلاً خارج المدرسة فإنا لن نلقي من المعلم غير التجهم والاستنكار.
وأذكر أن الأدب الإنجليزي أوحى إليَّ كتاب قصة تمثلية صغيرة وأنا في المدرسة الثانوية فرفعتها فخوراً إلى مدرس الأدب العربي فكان جزائي الإهمال المهين. على أن من الإنصاف أن أذكر أن معلماً شجاعاً تجرأ يوماً فأطلعنا على أبيات عذبة رائعة للعباس بن الأحنف فأشرقت وجوهنا وانطلقت من قلوبنا آهة العصفور الذي أفلت من قفص وحلق في فضاء الطبيعة الباسمة الجميلة فأرتعد المدرس المسكين والتفت إلى باب القاعة خائفاً كأنه اقترف جرماً هائلاً. منذ ذلك اليوم أدركت أن هنالك كنوزاً في عالم الأدب والشعر يخفونها عن عيوننا المتطلعة.
توفيق الحكيم
دعه كله يذهب
للشاعرة ايلا هويلر ولككس
دعِ الحلم يذهب. اطمئن ولا تتزايل أعضاؤك من الفَرَق. أفليس في طيّات السُحُب المتلبدة من الأحلام الأخرى المستوردة عن ناظريك ما تستطيع أن تكسوه بعد، بشعاعات نورانية، وتذهّب أطرافه بومضات وهاجة تخترق بلألائها حجب الغمام الكثيف وتطرد جهامه القاتم، وتمحو ركامه الداكن؟
فما قيمة حلم يفوتك، من أضغاث الليل الضائعة؟
ألَا دع ذلك الحلم الزائل يذهب
دع الأمل يغرب. تشجع. لا تجبنن ولا تتقاعس. أفلا يدّخر لك الغيب في أطوائه آمالاً أخرى لا تلبث أن تطفو في بحر الدجى كالكواكب الزاهية، وتذكي مصابيحها في آفاق سمائك!
إن النفس المستبشرة المؤملة لن تعيّث طويلاً في بيداء الدياجير المهددة العابثة، بل لا بدّ أن تضفي عليها العلياء نوراً جديداً. فما أشدها جهالة أن تحسب أن سعادتك قد تولّتْ، لأنك عدت قانطاً من رجاء واحد؟
ألا دَعْ ذلك الأمل الضائع يغرب
دع الفرح يذبل ويذوي: لا تحزن ولا ترتمِض. أفلم تبقَ أفراح أخرى تشبه البصيلات التي يعتقلها الصقيع حيناً، ثم يأمر ربّك أن تنطلق من إسارها، وتخرج شطأها وتنوّر؟
أو ليس من شأن الشتاء العاصف الصارم أن يرسو على الجذور القوية بكلاكله القاسية، فيتلفها ويواريها في غيابات أرماسه الصامتة، وأجداثه المظلمة الخفية؟
وهل تعّنى الأرض تلك الفترة الوجيزة التي تتجرّد فيها من وشّيها ومطارفها!
ألا دع ذلك الفرح المدبر يذوي ويذبل
دع الحب يقضي أجله ويمضي لسبيله. كن قويّْ الأيمان ولا تيئس، بل سرّ عنك. أفلا توجد محبّات أخرى بعد تحاكيه في جماله، وفيما تزخر به من صنوف العذاب العذّب؟
ألا توجد محبّات أخرى ترفرف في الفضاء كالحمائم البيضاء، ولا تلبث أن تحوم حولك، وتجسم في صدرك وتعشش!
فتقول في كلّ منها: (إن هذه لخير من تلك)
ألا دع ذلك الحبّ الراحل يمضي لسبيله
(الزهرة)
المتنبي وسر عظمته
للأستاذ عبد الرحمن شكري
بلغ المتنبي ما لم يبلغه شاعر آخر من الشهرة. وقد اهتم له النقاد الأدباء قديماً وحديثاً، وكتب عنه كثيرون من أفاضل الأدباء وأكابرهم في عصرنا هذا. وقد عني بعضهم باستنباط أخلاقه من شعره، وبعضهم أغرى بتتبع نسبه وتاريخ حياته وأسرارها وأسباب حوادثها، وبعضهم نظر إليه من حيث هو الشاعر الذي يمثل العرب خير تمثيل وينوب عنهم في الإبانة عن خصائص نفوسهم ونزعاتهم، وبعضهم عُني بحكمته ونظراته في النفس والحياة، ومنهم من راقته مبالغته التي اشتهر بها في المدح أو الفخر، ومنهم من راقته أساليب التشبيه التي أُغري بها أهل زمنه، وقدموه من أجلها في ظاهر ما يحسبون ويحسون. وإذا تأملت سبب إعجاب المعجبين به، وجدته يختلف باختلاف أذواق المعجبين به واختلاف نظرهم إلى الشعر كما تختلف أسباب المهتمين بدراسة سيرته، وإذا نظرت في شعر المتنبي وشعر غيره من كبار الشعراء وجدت شاعراً قد يماثله أو يبزه في صفة، ويماثله أو يبزه شاعر آخر في صفة أخرى من صفات الجودة، وهو بالرغم من ذلك أوفر نصيباً من الشهرة. وترى لغيره من الشعراء أبيات كثيرة في الحكم والأمثال والأقوال المأثورة، تدل على فطنة بالنفس، وخبرة بالحياة، وتوفيق في الصنعة؛ ولكنها لم تسرْ كما سيَّرَ المتنبي شعره في هذه المعاني. فالبحتري أكثر منه نصيباً من طلاوة الصنعة، وأبو تمام من أساليب البيان، والشريف من الوجدان وسلامة الفطرة، وابن الرومي من الأوصاف، والمعري من النظرات في الأخلاق والحياة، ولكن ما من دَويٍّ أثاره هؤلاء إلا ويخفت بجانب ما أثار المتنبي حتى ليصدق فيه قوله:
وتركك في الدنيا دَوياً كأنما
…
تداول سمعَ المرء أنمله العشر
وقد تتبع النقاد قوله أحياناً بالتزييف، وإظهار السيئات من معاظلة والتواء في بعض قوله، وبالتقصي للسرقات والمآخذ، أو ما ظنوا أنه سرقات ومآخذ. حتى حاول بعضهم رد كل معنى من معانيه إلى شاعر سابق. وبعض النقاد أولع بإظهار ما في مغالاة مدحه من التهكم المقصود أو فساد الذوق غير المقصود. وبعضهم أظهر ما في مغالاة المدح من إلحاد أو شبه إلحاد، وما في استطالته بالفخر من كفر أو شبه كفر، واستشهدوا بقوله:
وكل ما قد خلق الل
…
هـ وما لم يخلق
مُحتقرٌ في هِمَّتي
…
كشعرة في مفرقي
وقالوا إنه كان يظهر الشك بالبعث والحياة الأخرى كما في قوله:
فقيل تخلص نفس المرء سالمة
…
وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكَّرَ في الدنيا ومهجته
…
أقامه الفكر بين العجز والتعب
وقالوا إنه تعدى منزلة الشك في هذه الأبيات الذي يشبه الإنكار المُقنَّع إلى منزلة إثبات النفي المُقنَّع في قوله:
تَمتَّعْ من سهادٍ أو رقادٍ
…
ولا تأملْ كرى تحت الرجام
فإنَّ لثالث الحالين معنى
…
سوى معنى انتباهك والمنام
وثالث المعاني التي يدركها العقل بعد معنى الانتباه ومعنى المنام هو معنى الفناء والعدَم. والمتنبي يلجأ إلى عقل القارئ في تأمله فهو إذا يريد المعنى ولا معنى غيره. وبعض النقاد أشار إلى شدة حقده على الناس وقسوته في قوله:
وكُنْ كالموت لا يرثي لِباكٍ
…
بكى منه ويروي وهو صادي
وقوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
…
وبالناس رَوَّى رمحه غير راحم
فليس بمرحوُم إذا ظفروا به
…
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولكن كل هذا النقد لم يسقط الرجل من منزلته، فلأي أمر تبوأ هذه المنزلة؟ إنه لا شك في مقدرته في الشعر وإن له من صفاته باعا فيه، فهو بالرغم من معاظلته أحياناً يجيد أساليب البيان كأحسن ما يجئ به أبو تمام وأحياناً. يأتي بالأساليب الحلوة كأحلى ما يجئ به البحتري، وإن كان إتيانه بها عفواً من غير تعمد وتكلف، ولكن كل هذه القدرة في القريض وما عنده فيه من صفات الجودة جماعها أمر واحد وهو الروح الخاصة التي تظهر فيما له صلة من شعره بآماله وخيبتها وتفيض على ما ليس له صلة مباشرة بتلك الآمال، فتعم إذا هذه الروح كل شعره وتكسبه (جاذبية الشخصية) وجاذبية الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها وجاذبية لذة البيان المُعبَّر عنها. ولأكثر الشعراء نصيب منها، ولكن نصيب المتنبي أو فر نصيب. وهي أيضاً التي بصرته بدخائل النفس الإنسانية وأسرارها وعيوبها كي يتخذ من
تلك البصيرة بالنفس الإنسانية عامة سلاحا يساعده في الاعتزاز، والاعتداد بنفسه فاعتداد المتنبي بنفسه إذا سبب طلاوة شعره وسبب حكمه وأمثاله وسبب ما يشعر القارئ في شعره من القوة. وقد تكون روح الاعتداد بالنفس مصحوبة بالتقحم والإقدام والفخر والادعاء كما كانت في حياة بِنْفِنوتو سِلَّيْني المثَّال الإيطالي الذي كتب تاريخ حياته وهو مملوء بالمغامرة والمخاطرة والإجرام وبالفخر العريض والادعاء، ولكنه كتاب يستهوي القارئ بسبب ما أكسبه اعتداد صاحبه بنفسه من جاذبية وطلاوة وقوة في الكتابة. وقد تكون هذه الصفة عند رجل مفكر في نفسه غير مقتحم ولا مستطيل ولا مُدّع فتكسبه أيضاً صفات الكاتب الذي يستهوي قلمه القارئ، فإن اعتزاز مونتاني الكاتب الفرنسي بخواطر نفسه وحوادث حياته اليومية واللذة التي وجدها في قيدها ووصفها تستهوي القارئ بعدوى الشخصية ومغنطيسها. فعدوى الشخصية في نظري هي الصفة الغالبة التي ميزت شعر المتنبي، وهي التي ميزت ترجمة بِنْفِنوتو سِلِّيني لحياته وميزت مقالات مونتاني الفرنسي. ويشترط في وجود هذه العدوى أن تكون شخصية صاحبها ذات هبات عقلية ونفسية طبيعية، والعدوى قد تظهر بين الناس قي مقدار أقل حتى ولو كانت الشخصية المعتد بها المعتز صاحبها قليلة الهبات العقلية؛ وهذا أمر مشاهد في حياة الناس اليومية وتأثير بعضهم في بعض في أعمالهم وأخلاقهم وأفكارهم ومذاهبهم وصدقاتهم وعدواتهم، فالناس إذن خليقون أن يهتموا للشاعر أو الكاتب الشديد الاعتزاز والاعتداد بنفسه. وقد يهتمون له أكثر من اهتمامهم لشاعر أو كاتب آخر أقل اعتداد بالنفس وأكثر هبات عقلية ونفسية، فليس اهتمام الناس للشاعر أو الكاتب إذاً على قدر هباته العقلية وحدها كما يظن المعجبون به الذين يستهويهم اعتداده بنفسه، وللشاعر هيني الألماني كلمة حكيمة في هذا الموضوع وهي كلمة مأثورة في هذا المعنى فقد قال: (إن الإنسانية كالشجرة، فالشجرة لا تحفظ ذكرى الأيدي التي تعهدتها بالري والعناية وإصلاح التربة والصيانة من العواصف والأضرار والرياح، ولكنها تحفظ ذكرى اليد المعتدية التي تأخذ خنجراً وتحفر اسم صاحبها على ساقها بالنحت والتكسير من غلافها والسطو عليها، وكذلك الإنسانية قلما تحفظ ذكرى الذين ضحوا في خمول وسكوت لأجل رعايتها والعناية بها، ولكن الإنسانية تحفظ ذكرى الغزاة المدمرين الذين نقشوا أسماءهم على جبهة ذاكرتها بأحرف من نار وبالسطو عليها وبالإهلاك والتدمير وإراقة الدماء. وهذه
شواهد متطرفة تدل على اهتمام الناس بالمعتد بنفسه. ولا نريد أن نقول إن الشعراء والكتاب الذين يبالغون في إظهار الاعتداد بالنفس هم مثل هؤلاء الغزاة المدمرين في شرهم، وإنما نعني أن ظاهرة الاعتداد بالنفس تستدعي اهتمام الناس في الحالتين. ومع ذلك فإن رجلاً كالمتنبي ما كان يتأخر عن إراقة الدماء والتدمير في سبيل تحقيق آماله كما يشهد الكثير من شعره. وقد صرح بذلك في أكثر من قصيدة كما قي قوله:
بكلِّ مُنْصلِت ما زال مُنْتظِرِي
…
حتى أَدَلْتُ له من دولة الخَدَم
شيخ يرى الصلواتِ الخمسَ نافلةً
…
ويستحل دم الحجاج في الحَرمَ
تُنْسي البلادَ بُروُقَ الجوِّ بارقتي
…
وتكتفي بالدم الجاري عن الدَيمِ
وهنا تصريح ليس بعده تصريح. والحقيقة أن تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس حتى ولو بلغ الإجرام لا يقل في كثير من الأحايين عن تقديس الإنسانية للفضائل، بل قد يكون أعظم من تقديسها للفضائل، إذ أن تقديسها للفضائل كثيراً ما يكون نفاقاً ورياءً أو رغبة في الانتفاع من وداعة الفاضل واستكانتِهِ وترفعه عن الدنايا بينما يكون تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس ومظهره في غيرها عذراً لها في تقديس مظهره في نفسها وتقديس أثرتها، فتجمع بين لؤم الأثرة وقداسة العبادة بتقديس مظهر الاعتداد بالنفس في غيرها. وقد تحتال للجمع بين هذين المتناقضين بأن تنسب إلى المُعْتَدِّ بنفسه النبل والجلال وكرم الشمائل والمروءة، وهو قد يكون خلواً من هذه الصفات أو على الأقل يكون خلواً من مقاديرها التي تنسبها إليه كي تجمع بين لؤم الغريزة وتقديس الفضائل. وهذا أمر يشاهد كثيراً بين الناس، ولعل هذا الشرح يفسر كيف أن الناس كثيراً ما يحاربون الفضلاء وينتقصونهم مع معرفة فضيلتهم وهم يقدسون الفضائل في كلامهم، وكيف أن الناس كثيراً ما يجلون صاحب الرذيلة إذا لم يضطروا إلى مؤاخذته اضطراراً، وإذا كان معتداً بنفسه وكانت في لسانه خلابة أو له قدرة وسلطان. فإذا كان هذا شأن الناس مع من قلت فضيلته من المعتدين بالنفس، فكيف لا يكون إعجابهم أعظم بمن جمع إلى الاعتداد بالنفس فضائل وبياناً وفصاحة تستهوي القارئ؟ وكثيراً ما يضع القارئ نفسه في منزلة نفس القائل المعتد بشخصه ويشاركه في آماله وأطماعه وإحساسه واعتزازه بنفسه، ويشاركه في خواطر نفسه وحالاتها كما يفعل القارئ أيضاً عندما يقرأ قصة لكاتب فيضع نفسه في مكان بطل القصة
الموصوف الذي يعجب به القارئ. وقد يفعل بعض القراء ذلك حتى في قراءة قصص مشاهير المجرمين الذين يعتدون ويعتزون بأنفسهم إلى حد الإجرام. وهذه شواهد متطرفة لهذه الظاهرة النفسية وجاذبية الاعتداد بالنفس تختلف باختلاف الكاتب وباختلاف نفوس القراء المتأثرين بها. وهذه الجاذبية كالمعدن السائل الذي يسيل بمقادير متفاوتة مع ماء الينابيع التي لا تتفاوت في مقادير مياهها السائلة؛ فالشعراء والأدباء لا يختلف مقدار نتاجهم مع اختلاف فيض ينبوع معدن الجاذبية في قولهم، وعلى قدر ما في قولهم من جاذبية وبيان الاعتداد بالنفس يكون قدر تأثر القراء بهم فإذا قرأ قارئ قول المتنبي:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني
…
فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وهكذا كنتُ في أهلي وفي وطني
…
إن النفيسَ غريبٌ حيثما كانا
تلمس تلك النفس واكتسب شيئاً من إحساسها بالنفاسة والقدرة على الاعتزاز بنفاستها وأحس ما رأته النفس الموصوفة في حياتها من صفح وإهوان؛ وهو قد يكتسب كل هذا الشعور أثناء قراءته قول الشاعر من غير فطنة له، فهو في رحلة نفسية، إما مسالك العقل الظاهر وإما في مجاهل العقل الباطن. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
عدواً له ما مِنْ صداقِتهِ بُدُّ
خليلاي دون الناس حزن وعبرة
…
على فقد من أحببت مالهما فقد
وأكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبة
…
وكل اغتياب جهد من لا له جهد
وأرحم أقواماً من العي والغبي
…
وأعذر في بغضي لأنهم ضد
سافر سفرة في عالم التجارب النفسية وبين الأحياء ولو لم يكن على صفات الشاعر النفسية ويلتذ التجارب الخلقية بالتذاذ ما يعبر عنها من البيان. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
إذا غامرتَ في شرف مَروُم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
…
كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن العجز عقل
…
وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تُغْنِي
…
ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه
…
على قدر القرائح والعلوم
أحس أن حكمة الشاعر في التمييز بين عقل العجز والجبن وبين عقل الفطنة المقرونة بالشجاعة والطموح ليست حكمة الشعر التعليمي أو الوعظي، وإنما هي حكمة الخبرة والتجارب والفطنة المقرونة بالطموح إلى الآمال السامية، وهو ذلك الطموح الذي كان من مظاهر الاعتداد بالنفس عند المتنبي، وهذا ما يلمسه القارئ في باقي حكمة المتنبي فيسلم نفسه للشاعر يتصرف بها أثناء قراءة شعره حسب بيان خبرته وحكمته وآماله وآلامه، وإذا قرأ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيِسٍ ألتقيه بها
…
كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وِكلمةٍ في طريقٍ خفت أعربها
…
فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة
…
وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته
…
وهل تروق دفيناً جودة الكفن
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري
مولد الليل
للأستاذ محمود الخفيف
شَرِبَتْ كَدْرتُهُ لَوْنَ الشّفَقْ
فَامّحَي إلاَّ بَقايَا في انْطِفاَءْ
اكْتَسَى الماء بِأَمْوَاجِ الْغَسَقْ
وَمَضَتْ تَمْسَحُ كَفُّ الدُّجَى
من حَوَاشِي الأفْقِِ مَا أَبقَى المَسَاءْ
تحِسرُ الأحْداَقَ في هذا الغروبْ
رَوْعَةٌ للْقَلْبِ فِيهِ والْبَصَرْ
يا لِبِشْرٍ فيهِ يَمْحُوهُ القُطُوبْ
يا لأَطْيافٍ بهِ حَاِئَرةٍ
وَصَفَاَءٍ مَا صَفَى حَتَّى اعْتَكَرْ!
مُجْتَلًي بَالِغَةٌ رَوْعَتُهُ
لَا تَملُّ الْعَيْنُ في الأُفْقِ رُؤَاهْ
مَلأَتْ نْفسِي بِه فِتْنَته
لْحَظَةً، ثم انْطَوَتْ أَطْرَافُهُ،
وَمَشَى اللّيْلُ عليه فَمحَاه
رَاقَ هَذَا الْغَرْبُ حَتَّى خِلْتهُ
مَشْرِقَ الصُّبْح اجْلَى للنَّاظرين
في جَنَابِي بَعْضُ مَا ألِهْمتُهُ،
خاطِرٌ طَافَ بِرُوِحي سِحْرُهُ
لَيْتَ شِعْرِي مُفْصِحٌ عنه مُبِين
يَتَنَاهَى أَبدًا سِحْرُ اَلْجمالْ
ويروعُ الطَّرْفَ والقَلْبَ مَعاً
مَا تَغَشّتْهُ من المَوْتِ الظِّلَالْ
فَمضَى يَقْرُبُ من غَايَتِهِ
فَتَهَاوَى فَتَبَدَّى أَرْوَعَا!
هكذا اللّحْنُ انْقَضَي أوْ أَوْشكَا
وجبينُ النَّجْمِ يغَشاَهُ الأفولْ
هكذا الزْهرُ إذا الزْهرُ زكا
وتمشّي السُّقْمُ في نُضْرَتِهِ
فَبَدَى بَيْنَ نماَءٍ وذبُولْ
هكذا المِصْبَاحُ عِنْدَ الْغَاَبشِ
رَاحَ يَطْوِي نُورَهُ طُولُ السُّهاَدْ
وَبَقَاَيَا خِلْسَةِ المخَتلِسِ
تَرَكَتْ نَشْوَتُهاَ نَارَ الَجْوَى
في الحشاَ بَيْنَ خُمُودٍ وَاتّقاَدْ
هكذا الشَّمْسُ تَغَشّاهاَ الطّفَلْ
فَتَرَاءتْ كَنُضَارٍ في عَقِيقْ
وتَعُبُّ الرُّوحُ من هذا البَرِيقْ
ياَ جَمَالاً هَاجَ للِقَلْبِ الشَّجَنْ
أَبْهَجَ النَّفسَ سناهُ وَشَجَاهَا!
صَوَّرَتْ كْدرَتُهُ معنى اَلْحزَنْ
كيف مَسَّتْ مُهْجَتِي ظُلْمَتُهُ
فَمحَتْ في النفس أَحْلَامَ مُنَاهَا
وَمَضَتْ تَرفْلُ في أَبهْىَ الحُلْلَْ
تَنْهَلُ الألَحْاظُ مِنْ رَوْنَقِهاَ
هَذِهِ الشمْسُ إذا ما غَرُبَتْ
…
فورَاَء اللّيْلِ إصْبَاحٌ يَروُقْ
وإذا شَمْسُ حَيَاتي ذهبتْ
…
وَدَجَا (اللّيْلُ) فلا نجم ولا
مَوْضِعٌ فيه لِفَجْرٍ أو شُرُوقْ
ظُلْمَةُ اللَّيْلِ بهَذا العَالَمِ
…
تَسْبَحُ الأحْلَامُ فِيهاَ وَتُطِيفْ
أَتُرَى لِي مِثلُ حُلْمِ النائِمِ
…
إن دَجَا فَوْقَيِ لَيْلُ الرَّدَى،
أَمْ تُرَى لَيْسَ سِوَى الصَّمْتِ المخيِفْ؟
إيهِ يا لَيْلُ تَجَمَّعْ وَانْزِلِ
…
فِيكَ لليَائِسِ أَحْلَامٌ تُتَاحْ
إيه ياليل، بقلبي الذّابِلِ
…
سَكَرَات من مُنىً حائِرَةٍ
تَتَلَاشى عِنْدَ إِقْبَالِ الصَّبَاحْ
الخفيف
صحائف من تاريخنا القومي
الغرب يتجنى
للأستاذ أحمد خاكي
حينما يستشرف المؤرخ القومي لأخريات القرن التاسع عشر، ومبدأ القرن العشرين، يرى في مصر مدرسة من مدارس الفكر والسياسة جديرة بأن تذكر بين الأفراد القلائل الذين قادونا في تاريخنا القومي. وكانت هذه الفترة في تاريخنا هي الفاصلة بين حياة من الاستعباد المقيم، وبين حياة أخرى من الحرية والمجد. وقد استطاعت القومية المصرية أن تحيا خلال تلك السنين السود على الرغم مما اعتورها من أطماع الإمبراطوريات المستعمرة، وعلى الرغم من فترة الركود التي تثاقلت على أفئدة المصريين بعد الفشل الذي أصاب الثورة العرابية. وإذا انتزع المؤرخ نفسه من غمار الحوادث التي قامت في مصر منذ مبدأ القرن التاسع عشر حتى اليوم، استطاع أن يشهد للقومية المصرية وحدة خاصة تبدأ منذ اليوم الأول الذي خطا فيه نابليون في بلادنا المقدسة، وتظل مجدة جاهدة تصيب النجاح في أحيان، ويصيبها العثار في أحيان أخرى
على أن في دراسة القومية المصرية في الفترة التي تلت الثورة العرابية كثيراً من العظات والعبر التي ينبغي أن ننعم النظر فيها. ذلك بأن حياتنا الاجتماعية والسياسية تقوم على الأسس التي بناها سلفاؤنا في أعقاب القرن التاسع عشر؛ بل كثير من النقائص التي ما زالت تميز كياننا الاجتماعي ترجع إلى تطورنا أثناء ذلك القرن. وهذه الفترة الخطرة هي التي التقى فيها الغرب والشرق على أساس من سوء الظن والاستغلال، وهي كانت الفترة التي بلغت فيها الفكرة الإمبراطورية عند إنجلترا وفرنسا أكثر ما بلغت، فكان ضحاياها بلاد الشرق الأدنى، وبلاد المغرب الأقصى، وغير أولئك وهؤلاء من سكان أفريقية وآسيا. وإذا كانت مصر قد استطاعت أن تتخفف من تلك القيود التي ضربت عليها في سنة 1882 فإنما ذلك لأن القومية المصرية كانت شديدة المراس شديدة البأس
وقد بدأت الحركة القومية في مصر في زمن نابليون، وأنتجت تولية محمد على في سنة 1805. على أن القومية لم تصبح أملاً من آمال الشعب إلا في سنة 1882، حين قام عرابي وصاحباه يحتجون على تفوق العنصر الجركسي والتركي في الجيش، وسوء
المعاملة التي يلقاها المصريون. كان هذا سبباً من أسباب الثورة، إلا أن الثورة الفكرية كانت عنيفة في نفس كثير من المصريين. فإن البلاد كانت أوتيت قليلاً من العلم، وكانت تعاليم جمال الدين الأفغاني الذي نزل مصر سنة 1871 قد بدأت تزدهر. وظهرت الجرائد وكونت رأياً بين الخاصة، وكان الجيش وعلماء الأزهر أقوى هؤلاء. فكانت الثورة التي حمل لواءها عرابي باشا، وقد اقترنت الثورة بخليط معقد من العناصر. فقد كانت مسلمة، وقد كانت دستورية، وقد كانت تنفسن على الأجانب ما حازوه من سطوة، وما ينعمون به من متاع الوظائف وبسطة النفوذ
على أن الثورة العرابية لم تكن مستنيرة شُجاعة على الرغم مما انطوت عليه من عناصر. ذلك بأن العسكريين الذين ملكوا أزمتها لم يدركوا الخطر المحقق الذي تنطوي عليه خطة العداء للخديو؛ ثم إنهم لم يكونوا عسكريين بالمعنى الذي نفهمه الآن من تلك الكلمة، فلم يكن لهم قوة التنظيم ولا المصابرة على أنواع الجهاد. حتى عرابي نفسه لم يستطع أن يتصرف في موقفه تصرف الجندي المغامر. ولو أنه أراد النجاح بأي ثمن لما تردد لحظة واحدة في القبض على الذين اشتبه في خيانتهم، ولا تردد في سد قناة السويس حتى يقطع السبيل على الإنجليز. ثم إن الجيش الذي كان يأتمر عليه عرابي لم يكن إلا فلول الجيش الآخر الذي انتصر أيام محمد علي وإسماعيل لأنه الوسيلة التي كانت تتبع في جمعه كانت وسيلة منفرة شائنة، ويكفي أن الجنود كانت تؤخذ قسراً من القرى والدساكر تحت لهيب السياط
لكن العنصر القومي الذي بدأ بالسيد عمر مكرم أيام محمد علي ما زال يدب في أوصال البلاد دبيباً خفيّاً لا يكاد يسمع له ركز حتى تمثل في حركة الإصلاح التي قامت بعد أن هدأت الثورة العرابية وبعد أن استقرت الأمور. ذلك العنصر هو الذي تمثله المدرسة الفكرية التي بدأها جمال الدين، وكانت قد وقفت تلك المدرسة تنتظر حينما فشل عرابي وتشتت ما أعضائها أفراد كثيرون. لكنها أقبلت على الحياة بعد استقرار الثورة وهي مؤمنة بحق مصر في الحياة العامة على الرغم الاحتلال البريطاني الذي ابتليت به البلاد وعلى الرغم مما أصاب الحزب العسكري من وهن. وقد احتكت هذه الفئة الجديدة بالتفكير الأوربي فاستوعبت كثيراً من الأفكار الغربية من مصادرها الأولى، وازدهرت هذه الفئة في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبلغ من تقدير اللورد كرومر لهم
أن قال: إنهم كانوا يشبهون الجيروند في فرنسا. والحق أن كثرتهم كانت تشبه الجيروند في تعلقهم بالمثل الأعلى وفي إيمانهم بسمو الفكرة وفي الثقافة والشجاعة والإخلاص
كان بين هؤلاء الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وانضم إليهم قاسم أمين وسعد زغلول. وقد اجتمع هؤلاء لا على أن يكونوا حزباً سياسياً ولا ليدافعوا عن فكرة خاصة عينوها، وإنما هي الحوادث والميول ربطت بين قلوبهم. وكانت الوطنية المصرية قد فقدت قليلاً من الثقة حين ضعضعها الفشل بعد الثورة لكنها بدأت تلتئم رويداً رويداً فابتنيت على أسس أخرى غير التي قوضتها الثورة. ونمت في أعقاب القرن الماضي تلك الفئة المثقفة التي مثلت في مصر نفس الدور الذي قامت به الطبقة الوسطى المستنيرة في إنجلترا وفرنسا. فكانوا هم رسل الحياة الأوربية في مصر. درس الكثير منهم القانون في جامعة ليون بفرنسا، وتأثر الكثير بالدراسات التي زخرت بها كتب الفلسفة والقانون. فكان من هؤلاء زعماء الفكر في مصر، بل لقد كان منهم الزعيم السياسي مصطفى كامل
لم يكن بين هذه المدرسة الحديثة التي قامت في سنة 1890 وما بعدها علاقات وثيقة بالثورة العرابية، وقد كانت الثورة العرابية مادية طغت فيها المصلحة على الوطنية الخالصة، ولم تكن هذه الثورة مستنيرة لأن الكثرة من زعمائنا كانوا جنودا غير مستنيرين، بل ولم تكن شُجاعة لأن عرابي نفسه لم يكن شجاعا. أما جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين ومن جرى في أثرهم فقد جمعوا بين الوطنية والتنور والشجاعة. ولم يربطوا غرضهم القومي بترقيات لفئات خاصة، وكانت ثقافتهم أصيلة لأنهم درسوا أصول الثقافة عند الغرب وعند الشرق وحاولوا أن يؤلفوا بين الثقافتين.
تلك هي الفئة التي حملت الثقافة القومية الأولى في هذه الفترة الدقيقة من تاريخنا الحديث. ولقد أدت رسالتها على خير وجوهها وكان عصرها غنيا بمختلف أنواع النشاط. وحينما ألقى العرابيون سيوفهم شرع هؤلاء أقلامهم يكتبون، وحينما خَفَت زئير المدافع اعتلوا المنابر يخطبون. ولقد كان الشرق والغرب خلال تلك الفترة في كفاح ظاهره العلم والدين والثقافة وباطنه الاستغلال والسيطرة والاستعباد. وكان هانوتو ورينان ودوق داركور يكتبون من ناحية الغرب، وكان جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين يردون من ناحية الشرق.
والحق لقد كانت ظاهرة نفسية غربية تلك التي تنظرت بها كتابات هانوتو ورينان وداركور وقد نقد هؤلاء وكثير غيرهم من الكتاب والمؤرخين والفلاسفة أصول الإسلام، ولعل هؤلاء كانوا يؤيدون في ذلك الاتجاهات الاستعمارية الخاصة التي توجهت بها فرنسا من غير أن يكونوا يشعرون بذلك. ولأمر ما قام هؤلاء قومة رجل واحد يحاولون أن يتحيفوا من الجماعة المصرية وأن يتنقصوا من الدين الإسلامي جميعه. لكنهم وجدوا تلك المدرسة العصرية المثقفة. وكان على هؤلاء أن يثبتوا أن الإسلام الحقيقي غير العادات العتيقة والتقاليد البالية التي حسب الفرنسيون أنها الدين.
حينما بحث هانوتو قواعد الإسلام كان يحاول أن يختط خطة لمعاملة المستضعفين من أبناء المستعمرات التي انتقلت تحت الحكم الفرنسي. وكان جديراً بمثل بحثه أن يكون متحيزاً لأنه كان في مكان الحاكم الذي يملي على المحكوم. وقد وجد هانوتو في كتابات محمد عبده صدى لما كان يجول في صدور هذه المدرسة الكريمة التي ذكرت. وكذلك قل عن الدوق داركور فإن هذا الكاتب مكث في مصر بضعة شهور كان يحسب أنه قد أوتي خلالها العلم جميعاً بأحوال المصريين. وقد
حاول أن يرجع كل نقص رآه إلى طبيعة الدين نفسه، فكان على قاسم أمين أن يقرع الحجة بالحجة ويرد البرهان بالبرهان. وما فرغ دوق داركور من كتابه عن (مصر والمصريين) حتى كان قاسم أمين يهيئ كتاباً في الرد عليه سماه (المصريون).
والحق أن هذا الكفاح الذي قام بين الشرق والغرب كان مفيداً للحياة المصرية بوجه عام. ذلك أن قوماً مثل محمد عبده وقاسم أمين قد أدركوا في دفاعهم عن مبادئ الإسلام أن في المجتمع المصري كثيراً من المثالب التي ينبغي إصلاحها. ونحن نرى أن في الوقت الذي كان الأستاذ الإمام وقاسم أمين يردان فيه على كتاب الفرنسيين - في نفس الوقت كانوا يهيئون أنفسهم للكتابة عن مصر، وكان محمد عبده يمثل الناحية الدينية فحاول أن يضع أصول الدين في موضعها الأول وحاول أن ينشر ثقافة دينية في مصر لم تزل إلى اليوم مجدة قوية جاهدة، وما كان ذلك الاتجاه الجديد إلا لأنه وجد نفسه في موقف المدافع فعرف القضية من جميع وجوهها وحاول أن يقيم ما اعوج وأن يحفظ على مصر والمصريين كرامتهم.
ولقاسم أمين بعد ذلك وجه آخر من وجوه الإصلاح. فقد كتب كتابه رداً على دوق داركور في سنة 1894 إلا أنه لم يلبث بضع سنوات حتى وجد أن دوق داركور نفسه قد تكلم عن مفاسد حقيقية بالبحث والتفطن فكتب كتابيه (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) ينقد فيهما نظمنا الاجتماعية الفاسدة والمبدأ الذي دارت عليه بحوثه في المرأة وتحريرها هو مبدأ القدرة على استكمال النقص الذي يتبعه كثير من أنصار التقدم، وقد حاول على هذا الأساس أن ينقد التقاليد والعادات التي جدّت من حرية المرأة وجعلتها في الموضع الأدنى من تقدير الرجال. على أن قاسماً من وجه آخر كان يرى أن إصلاح المرأة بدء الإصلاح العام كانت المدرسة المثقفة التي قامت في نهاية القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين هي المدرسة القومية التي استنارت بنور العلم والتي أقبلت على الإصلاح بلهفة المؤمنين بالمثل الأعلى، وهي المدرسة التي تخرج فيها مصطفى كامل وسعد زغلول، وهي الأصل في نهضتنا القومية التي بدأت بعد الحرب الكبرى والتي لما تنته بعد من وضع منهاجها القومي الذي يجب أن نعمل له
وكانت هذه المدرسة مؤمنة للمثل العليا في الدين والخلق النصيب الأوفى من تقديرها، بل كان لها من المعايير الدينية والخلقية ما لا نزال نحن في حاجة إلى أحيائه في العصر الحاضر.
دفعها هذا إلى الإيمان بأن وحدة الإسلام ينبغي أن تقوم ضد الغرب وقد أراد أن يعصف بذلك الأيمان العميق الذي حل في أغوار النفس عند الشرقيين عامة والمصريين بوجه خاص. وذلك نفسه تفسير لتلك الوحدة الإسلامية التي دعا إليها الداعون في ذلك الزمن. كان لا يزال هؤلاء وكثير غيرهم يحسنون الظن بدولة الخلافة. لكنهم في نفس الوقت الذي كانوا يحتفظون فيه بعلائق المودة والرحمة بالدولة التي كان عليها أن تحفظ تراث المسلمين - في نفس ذلك الوقت كانت آثار أقلامهم تحيي الشعور القومي عند المصريين. وما تجيّل هذا الجيل حتى نبتت فكرة أساسها الدفاع عن الوطنية المصرية أمام الأتراك والمتتركين. فدعا الجيل الذي عاش قبل الحرب الكبرى إلى أن تكون مصر للمصريين. وأنت تلمح هذين الوجهين من وجوه القومية المصرية في حياة مصطفى كامل وأنت تلمح الوجه الأخير ظاهراً جلياً في حياة سعد زغلول، ولو أن مصطفى كامل عاش إلى ما بعد الحرب
العظمى لدعا إلى ما دعا إليه سعد
أحمد خاكي
التاريخ السياسي
أسباب التسليم
للدكتور يوسف هيكل
في ميونخ هزمت الديمقراطية آلم انهزام، وانتصرت الدكتاتورية أعظم انتصار. فخسرت فرنسا وبريطانيا نفوذهما السياسي، وتضعضع مركزهما الدولي، وانتقلت السيادة الأوربية، في هذه الأيام على الأقل، من يدهما إلى يدي الهر هتلر والسنيور موسوليني. لذلك نعت اتفاق ميونيخ بأنه (اتفاق الذل والهزيمة) ووصف بأنه (الحد الفاصل بين عالمين). فما هي العوامل التي أرغمت فرنسا على قبول هذا الانهزام؟ وما هي الأسباب التي دعت المستر تشمبرلن إلى التسليم لمشيئة الهر هتلر؟.
على أثر اتفاق مونيخ ثار الرأي العام في تشيكوسلوفاكيا ساخطاً على فرنسا، ومتهماً إياها بالخيانة، وملقياً عليها مسؤولية ما أصابه من انهزام وذل وفقر، وما أصاب بلاده من تمزيق وضعف. وأصبح الشعب التشيكوسلوفاكي يبغض الحكومة الفرنسية، صديقته الحميمة، بغضاً لا مزيد عليه. حتى أن الظواهر الفرنسية، من مؤسسات علمية وطائرات وسيارات، في تشيكوسلوفاكيا، التي كانت قبل اتفاق مونيخ تثير احترام الشعب التشيكوسلوفاكي لفرنسا وإعجابه بها، أضحت بعد اتفاق (الذل والهزيمة) تثير البغض لحكومة باريس والحقد عليها. وعمل الشعب التشيكوسلوفاكي وحكومته على الابتعاد عن فرنسا، وقطع الصلة بها، وطمس آثارها في بلاده. ولتحقيق ذلك أبدلت البلديات أسماء الشوارع الفرنسية بأسماء تشيكية وألمانية، وألغت حكومة براغ تدريس اللغة الفرنسية في مدارسها كلغة إجبارية، واستعاضت عنها باللغة الألمانية، وقطعت عن المعاهد العلمية الفرنسية في بلادها ما كانت تقدمه لها من مساعدات مالية. واستبدلت دور السينما التشيكوسلوفاكية بالأفلام الفرنسية أفلاما ألمانية. . .
فهل كان الرأي العام التشيكوسلوفاكي مصيباً في اعتقاده خيانة فرنسا له؟
منذ اشتداد المشكلة التشيكوسلوفاكية ورجال الحكم في باريس يعلنون أن فرنسا ستقف بجانب حليفتها. ولتأكيد ذلك اتخذت الحكومة الفرنسية، حين اشتداد الأزمة السياسية بين برلين وبراغ، إجراءات حربية واسعة المدى. وكان كل شيء، النية والعزم والعمل، يدل
على أن الحكومة الفرنسية جادة في قولها، لا تود ترك حليفتها تذهب ضحية اعتداء ألماني. وكان ذلك رأي الجيش في فرنسا أيضاً، إذ أن رئيس أركان حرب الجيش الفرنسي ختم التقرير الذي قدمه لحكومته بقوله:(إن الصعوبات كثيرة ولكن يجب أن نمشي)
وبينما كانت فرنسا جادة في استعداداتها الحربية للدفاع عن تشيكوسلوفاكيا، أعلمتها وزارة خارجية إنكلترا أن آلاف الرسائل التي تلقاها المستر تشمبرلين من سائر أنحاء الممالك المتحدة، تحتم عليه إنقاذ السلم على أي حال، وأنه يعتبر ذلك دليلاً على أن الرأي العام البريطاني غير مستعد لخوض غمار الحرب من أجل تشيكوسلوفاكيا. فأدركت الحكومة الفرنسية أنها لن تستطيع الاعتماد على الحكومة الإنكليزية، وأن ثباتها قد يكون مقامرة خاسرة. ووجدت نفسها في آخر الساعة في ظروف لا تمكنها من الإصغاء إلى رأي الجنرال كاملان، فاضطرت إلى التسليم، وإلى أن تسير مع إنكلترا موافقة على ما عزم عليه المستر تشمبرلين. لأن القوى الفرنسية وحدها، مع عظم أهميتها، لا تستطيع مقاومة القوى الهائلة المتأهبة للحرب في بلاد الدكتاتورية
وأما سياسة حكومة لندن، وتصريحات رجالها فكانت تدل على أن الحكومة البريطانية لا تريد الوقوف بجانب حكومة براغ، مدافعة عن حقوقها، وصادة التوسع الألماني في أوربا الوسطى.
بل كانت هذه السياسة، وهذه التصريحات دالة على أن حكومة لندن عازمة على عدم خوض غمار الحرب، وعلى تسوية النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي بأي ثمن كان، تلافياً للحرب، على رغم ما في ذلك من انهزام شنيع وأخطار فادحة لها ولحليفتها فرنسا
لم يضحَّ المستر تشمبرلين في مونيخ بما أوجدت السياسة الفرنسية خلال عشرين عاماً من قوى دفاعية فعالة ضد الاعتداء الألماني، ولم يُمكن رئيس وزارة إنكلترا، الهر هتلر من السيطرة على أوروبا بتسليمه بمطالبه في تشيكوسلوفاكيا، حباً في السلام فقط، بل هناك أسباب قاهرة دعته إلى هذا التسليم. وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين: الأول منهما يتعلق بمسائل حربية، والثاني يتصل بعوامل نفسية نفعية
إن الدولة الكبرى الوحيدة التي نزعت فعلاً سلاحها فيما بعد الحرب العظمى هي بريطانيا العظمى. ويرجع ذلك إلى سياسة حزب العمال، الذي كان يرأسه المستر رمسي مكدونالد.
وكان المستر مكدونالد يأمل أن تحذو الدول الكبرى حذو بلاده فتنزع سلاحها غير أن أمله لم يتحقق، ففرنسا لم توافق على نزع سلاحها لأنها كانت واثقة أن في نزعه خطراً على سلامتها وخطراً على أوربا أيضاً، لأن الدول الأخرى لن تنزع سلاحها. وبالفعل فإن إيطاليا الموسولينية أخذت تبذل كل قواها في التسلح على أنواعه، وتبعتها هذه الخطة ألمانيا الهتلرية. فأصبحتا أعظم الدول الأوربية تسلحاً. فسياسة نزع السلاح العملي التي سار عليها المستر رمسي مكدونالد في إنكلترا أدت إلى إضعاف بريطانيا العظمى حربيا، وإلى تشجيع الدول الدكتاتورية على التسلح العظيم
وبرغم أن بريطانيا العظمى قد ابتدأت في التسلح منذ أن تسلمت الحكومة القومية إدارة سياسة البلاد فأصبح لا يستهان بقوى سلاحها، فإنها لا تزال غير متسلحة التسلح الكافي الذي يمكنها من خوض غمار الحرب
وزيادة على ذلك فإن مدنها وسواحلها خالية من التحصين ضد الغارات الجوية. فهذه المدن وهذه السواحل تكون هدفاً لغارات الطائرات الألمانية، فيما لو نشبت الحرب العالمية من جراء المشكلة التشيكوسلوفاكية، وتوقع العدو فيها أضراراً فادحة. . .
ثم إن الحالة في المستعمرات الإنكليزية غير هادئة؛ وكانت حكومة لندن تخشى أن تحدث اضطرابات في بعضها، وتشب نار الثورة في الآخر، إن هي اشتبكت في حرب أوربية فتصبح هذه المستعمرات سبب ضعف لها، بدلاً من أن تكون عامل قوة
وبينما كانت الوزارة البريطانية في وسط معمعة الأزمة التشيكوسلوفاكية، أبلغت دائرة استخباراتها المستر تشمبرلن سرا أن الحكومة اليابانية متأهبة لاجتياح الأملاك الإنكليزية في الشرق الأقصى حال اشتباك القوى الإنكليزية والفرنسية في حرب مع ألمانيا. ولهذه الغاية كانت اليابان قد أبقت القسم الأعظم من أسطولها بمعزل عن الحرب الصينية. وهو، في تلك المياه، يضارع في القوة أسطول إنكلترا أو الولايات المتحدة. وكانت اليابان تفكر في إيقاف حربها الصينية، حين وقوف حرب أوربية تشترك فيها بريطانيا، وإبقاء أقل من نصف مليون من الجند في القسم الذي افتتحه من الصين للمحافظة عليه، والزحف بجيش عظيم مدرب نحو الجنوب، والانقضاض على هنغ كنغ وسنغافورة ومقاطعات مالاي والهند واستراليا، وضربها ضربة قاسمة بسرعة لا تدع مجالا للدفاع عنها.
وقد أدرك المستر تشمبرلن أن الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق، وإبطال الخطة اليابانية، فيما لو وقعت الحرب، هو إقناع الولايات المتحدة بإرسال أسطولها إلى المحيط الباسيفيكي ليكون رادعا لليابان عما تبغي الإقدام عليه. غير أن الولايات المتحدة أظهرت حينئذ أنها لا تريد العدول عن خطة الحياد، والابتعاد عن المشاكل الأوربية.
ويريد بعض الكتاب السياسيين تعليل تسليم بريطانيا وفرنسا في مونيخ، إلى اعتقادهما أن روسيا لم تكن عازمة على دخول الحرب بجانبهما، بل إن غرضها كان إيقاد نار الحرب دون أن تصطلي بلظاها، رغبة منها في إشعال لهب الثورة. وهذا القول خال من الصحة، لأنه إذا غضضنا النظر عن تصريحات المسؤولين في موسكو بعزمهم على تنفيذ واجباتهم نحو تشيكوسلوفاكيا إذا قامت فرنسا بواجباتها نحوها، نرى أن مصلحة الروسيا كانت تقضي عليها بدخول الحرب بجانب بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا، لضمان انتصار الدول الديمقراطية ضد الدول الدكتاتورية. أما تمكين الدول الدكتاتورية من الانتصار على بريطانيا وفرنسا فمعناه هيمنة ألمانيا التامة على أوربا. ومعناه أيضاً فسح المجال للجيوش الألمانية للهجوم على بلاد الروس وتمزيقها، وتحقيق منهاج الهر هتلر من نزع أوكرانيا وغيرها من المقاطعات الروسية وضمها إلى الريخ
أما العوامل النفسية النفعية التي ساعدت على التسليم في مؤتمر مونيخ، فمنها أن الرأي العام البريطاني في الممالك المتحدة وفي الممتلكات البريطانية كان ضد الحرب، لا حباً في السلم فحسب، بل اعتقاداً منه أن الخلاف بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا لا يمس بريطانيا وممتلكاتها ولا يؤثر على مصالحها. . . ومنها أن رئيس وزارة إنكلترا المستر تشمبرلن، شيخ جليل، يعتقد إمكان التفاهم مع الدول الدكتاتورية، ويحب السلام الأوربي، ويرغب في تحقيقه بأي ثمن كان. . .
أمام هذه الوضعية الحربية التي تحذر من خوض غمار حرب أوربية، وإزاء هذه النفسية التي ترغب في اجتنابها، اضطرت الحكومة الإنكليزية إلى عدم المغامرة في حرب أوربية. وقام رئيس وزارتها بإقناع فرنسا بضرورة التريث وبذل الجهود في حل الخلاف الألماني التشيكوسلوفاكي بالطرق السلمية. ولأجل ذلك قرر المستر تشمبرلين حين اشتداد زيارة الهر هتلر طائراً وبذل الجهود التي عرضناها في مقالات سابقة، لإقناع زعيم ألمانيا بحل
قضية اْلسوديت سلمياً. وللوصول إلى هذا الحل تساهل المستر تشمبرلين مع الهر هتلر إلى حد التسليم بكل ما طلب وفرض
وقد ظن المستر تشمبرلين أن إرضاء زعيم ألمانيا في مونيخ يزيل أسباب الحرب ويوجد السلام المنشود، وأنه باتباع سياسة (تهدئة الخواطر) يسود التفاهم وتعم الطمأنينة. فهل نجح المستر تشمبرلين في سياسته أم أن هذه السياسة أكثرت المشاكل الأوربية وعقدتها وجعلت وقوع الحرب أمراً لا بد منه؟ هذا ما سنبحثه في مقال آخر
يوسف هيكل
مؤلف ثائر وموسيقار نابغ
مكسيم جوركي
يهدم الحكم القيصري
مبلغ تأثير أديب شعبي في حياة أمته
للأستاذ محمد لطفي جمعة
منذ بضعة أشهر، قضى في الستين من عمره شاليابين الممثل الروسي الأشهر، وكان أخلص أصدقاء جوركي، وقسيمَ حياته في شبابه وكهولته، ولجوركي فضل تحويله من نزعته الأرستقراطية إلى المذهب الاشتراكي. وخلف شاليابين فيما خلف ذكريات مخطوطة ورسائل منثورة تولى بعض أصدقائه نشرها في مجلة (العهد الجديد). ويمكن لمن يطالع هذه المذكرات والمقولات والقصاصات التي نشرت بعد طيها، أن يجدَ في أدب جوركي وفن شاليابين أدلة قوية على تأثير الأدب في حياة الأمم، وعلى تدخل الفنون والمواهب العقلية في كل ثورة طارئة على المجتمع. وهذا يذكرنا بما كان لسقراط وأفلاطون وسوفوكليس وأوريبيديس في اليونان، ولفيرجيل وإيبكتيت وسنيكا في الرومان، وفولتير وروسو في فرنسا، وإديسون وديفو وهيوم وبوكل وبنتام وكارليل في إنجلترا، وتورجنيف وجوجول ودوستيوفسكي وتولستوي وجوركي في روسيا
زعم بعض الدعاة أن جوركي نقم على صديقه القديم لينين بعض طرائق تفكيره ووسائل حكمه، وأنه غادر روسيا غاضباً ولم يعد إليها إلا بعد موت لينين؛ ولكن هذا النبأ كاذب، فإنهما عاشا وتعاشرا وافترقا على أصفى الود؛ وإنما أراد لينين بسفر جوركي إلى الخارج أن يكون بمثابة السفير العقلي ليفيد الروس من مجده الثابت في أذهان غرب أوربا، بينا هو كاتب عالمي يقوي جانب لينين بانضمامه ويعتز به. وقد ثبت من الوثائق التي أظهرها شاليابين أن كتب جوركي كانت تطبع وتنشر بالملايين في حقول روسيا وسهولها وبيوتها ومدارسها ومصانعها ومعاهدها أثناء غيبته في أوربا الغربية، تلك الغيبة التي عللوها بالجفوة بينه وبين لينين. ولو كان جوركي غاضباً أو مغضوباً عليه لم يكن ليستمتع بهذه الشهرة النادرة فقد أخرجت مطابع لينيجراد وموسكو وساراتوف ونيجسي نوفجورود في
سنتي 1924 و 1925 أكثر من أربعة ملايين نسخة من كتبه (المتشردون وكونولو وماريا المجدلية وتوماس جودوريف). وقد حبب جوركي إلى قلوب قرائه استقلاله في الأدب وغيرته على تكوينه الذاتي فقد أدب نفسه وربى عقله ولم يكن له أستاذ غير نفسه. لم يكن أناتول فرانس أول كاتب عظيم طلق اسمه، وخلعه وقذف به وتبرأ منه لثقله وعدم انسجامه وهو (تيبو) اسم سيئ الرنين في الأذن الفرنسية المرهفة الحس، وكذلك كان اسم جوركي مكسيموفتش بنشكوف، فاختصر الاسم ودفن اللقب وأحل محله جوركي ومعناه (ذو الغضاضة أو المرارة) وقد روى جوركي تاريخ أهله وترجمة حاله في طفولته وشبابه في رواية توماس جورديف. وإنه لشبيه بكل العظماء في اليتم، فكان يتيماً لطيماً، لفظه بيت الأسرة وتلقفته حوانيت المعلمين، وأركان الشوارع وسفائن الملاحة على نهر فولجا السحري الذي كرر ذكره في كتبه وخلَّد صور الحياة على ضفافه في قصصه الأولى، ومعظم أشخاصها من المفاليك والصعاليك والمنبوذين والمحاويج الذين علقوا بالنهر من قريب أو من بعيد. وتمتاز تلك القصص بالصدق لأنها مغمورة بالبؤس والضراء وخشونة الحياة وشظف العيش والإرغام على الصبر وتحمل المكاره التي حفت بها الدنيا. وتلقي التعليم الأول على يَد طاهٍ كان في بداية أمره من رجال الحرب، ثم وقف أمام الكانون يعد الطعام.
وطلب جوركي العلم في قازان والتمس العيش في مخبز وباع الفاكهة الفجة والناضجة في الأسواق. ويرجع إلى هذا العهد تلقين جوركي مبادئ الثورة الاجتماعية عن رجال ونساء كانوا يتخذون أزياء غير أزيائهم ويندسون في ثنايا المجتمع ليدعوا إلى الإصلاح. فيكون أحدهم أستاذاً في الجامعة أو طبيباً أو مهندساً ولا يأنف أن يستخفي في مباذل خباز أو عَجَّان أو خزاَّف. وقد عرض لجوركي أثناء تلك الفترة ألوان من المِحَن كاحتقار المثل العليا التي يخلقها الخيال - قصة (عشرون رجلاً وامرأة) - وسهولة الاتصال بالنساء واقتراف الجرائم في سبيل سد الرمق ومقاومة الجوع ولو بالقوت الضروري، وامتزاج الميول الجنسية بالحاجة المادية، وعجز الفاقة والشهوة عن خنق المواهب الكامنة في نفوس النوابغ والتي تظهر لأسباب طارئة تفِهة. فإن جوركي وهو في أشد حالات الضنك وأحط درك الاجتماع، كان مشتغلاً بحاضر العالم ومستقبله ومنابع الخير والشر في المجتمع
ووجوب خدمة الإنسانية بأسرع ما يستطيع وبكل ما يملك من عقل وخلق وإرادة. كان جائعاً طريداً معدماً مدقعاً، ولكنه كان مفكراً وثائراً وحائراً، فلم يقف جوعه في طريق عقله، لأنه كان يشعر بامتلائه بما قرأ وما رأي وما سمع، وكان يبغض من أعماق قلبه منظر الآلام وأخبار الشقاء وترديد أنَّات التوجع، لأن حسه المرهف لم يطق تحملها، فما باله بالسخرية تصدر عن القوي من الضعيف والحاكم من المحكوم، والغني من الفقير، وبالاعتداء والتعذيب وإهراق الدماء. كان إذا قضت عليه الأحوال برؤية لون ما ألوان الأسى يحزن ثم يغضب ثم يثور، فإذا لم يجد من يشفي غليله انهال على نفسه ضرباً كنا يضرب الفلاح حماره. وقد أضرت به الفاقة فتعلق بأهداب الموت، ولكنه اتصل بتولستوي عن طريق كتبه وتلاميذه. وأخذ يكتب في نصف العقد الثالث حوالي سنة 1893 فاكتشفه كورلنكو فتبناه وأعانه. وكورلنكور من أكبر كتاب روسيا، غير أنه راح فريسة قسيس روسي خبيث حبب إليه الآخرة وقبح له الأدب والفن فأحرق مخطوطاته في باريس إرضاء لرجل الدين الذي تكشف عن جاسوس قيصري دسته عليه الحكومة لتسلب شعوره وتتركه لعبة في أيدي رجال الخفية. بيد أن جوركي أدرك كورلنكو قبل أن يصيبه الخبال فجنى من ثمار نبوغه وترسم خطاه في التحرر من قيود البيان وتبع المدرسة الجديدة التي تجعل للمعاني المكان الأول من ذهن الكاتب. وفتح له كورلنكو مغاليق الصحافة الأدبية. فأشتهر كتابه الأول في ختام الثلاثين من عمره ولم يكف عن التأليف والنشر بعد ذلك ثلاثين عاماً. ولم يخلع مكسيم جوركي ثياب الفلاحين ولم يبدل من طريقة عيشتهم. وكان وجهه بتقاطيعه وتقاسيمه الموجيكية يسحبه إلى الفطرة الروسية سحباً. ولا عجب ولا غرابة فقد كان جزءاً من تلك الخليقة الموسكوفية والسليقة السلافية أشبه الرجال بليو تولستوي. يقول شاليابين: (إلى تلك الفترة ترجع تلك اللوحة الزيتية العجيبة التي أنتجتها مواهب صديقه ريبين، فقد صور جوركي في بذلة فلاح مديد القامة بارز الوجنتين صغير الذقن قصير الأنف غزير الشعر أشعث المظهر. . . تمثالاً حياً وصورة ناطقة لفتى الريف الروسي في أذكى هيأته وأنبلها. فلله در ريبين الذي خلد ببراعته صورة صاحبه. وكان تسلق جوركي سلم الصيت سريعاً. وقد بَذَّ في صعوده الأمجاد من أمثال تولستوي وجوجول وتورغنيف. وتعليل ذلك أنه نال من نفوس الشعب، فأحبه وعطف عليه، ووثق من مقاصده، وكأنه رآه يخلق
ويصنع على عين أمته فلم يكن شيء من حياته خافياً. وكانت الأفئدة مستعدة لتسلم هذا الأثر، ولا سيما أفئدة العمال والصناع الذين ما زجهم جوركي وخالطهم واتصل بهم وعمل على تحريرهم من قيود الفقر والظلم القيصري، ولم يخجل من ذكر حوادث ماضيه واختلاطه أحياناً بالنساء البائسات في حوانيت أو مخازن أو خرائب مهجورة أو على شواطئ البحر وضفاف الأنهار. لأن هذا الذي سمَّاه (الفريسيون) وصغار البورجوازين سقوطا، لم يكن إلا تسامياً عن طريق الألم فكان أحياناً يفكر في حظ الإنسان ومستقبل الحضارة ويحدث نفسه بإحداث أعظم أثر في المجتمع، وهو لاصق إلى فتاة مسكينة تُعد منبوذة في حكم النظام الاجتماعي. وكان شاليابين ولينين من الأصدقاء الذين اتصلوا به في أوربا الغربية حين نزْح إليها منذ ثلاثين عاماً. وعندما حكمت محكمة بطرسبرج على جوركي بالسجن لاشتراكه في مظاهرة البوب جابون احتج تولستوي بخطاب مفتوح إلى القيصر وانضم إليه مفكرون فرنسيون وإنجليز. ونشر في ضحى هذا القرن ذكريات طفولته تقليداً لتولستوي الذي فعل ذلك وكان كلاهما مخلصاً في وصف هذه الفترة من حياته. وكان صدر جوركي ضعيفاً فألزمه الأطباء جزيرة كابري فقصد إليها ولم يكن له زوج وأولاد يرعونه، فإن حياته الأولى في ظلال الشقوة والقلق والفلاكة عدلت به عن اتباع طريق العادة. ولعل تعففه عن النساء في أواسط عمره مكَّن له من مقاومة داء الصدر الوبيل الذي أصيب به في أوائل شبابه، فنفض عن كاهليه غبار المرض في جو تلك الجزيرة الصاحية الضاحكة ذات الألوان البهيجة والظلال الوارفة والأشجار الملتفة والأشعة البنفسجية. وفي كابري زاره الأدباء والعلماء والزعماء ولا سيما لينين الذي كان يهرع إلى تلك الجزيرة ليتخذ منها مغنى وملهى وموضعاً للتفكير والتدبير. ولم يكن جوركي خصم الشيوعية من اللحظة الأولى، ولكنه لم يكن لها باختياره، لأن الشعب تعلق بكتبه، وأعجب بأدبه، فطلب إليه لينين أن يرأس تحرير جريدته فأجاب سؤلهَ. ففاز به لينين ولشد ما كان إعجابه بهذا الفوز، لأن جوركي كان الكاتب الكبير المخضرم، وهو الوحيد بين من عطفوا على الثورة. وكانت تعوقه عن التمادي في نصرتها عقبة عقلية ونفسانية، وهي أنه بنشأته وغريزته يعين الفرد، ويعززه ويعمل على تنميته وتعظيمه والإعجاب به، والثورة الشيوعية تود لو تمحو شخصية الفرد ليندمج في المجموع ويسخر له. وفي هذا المذهب
ابتلاع لمبادئ الفلسفة الاجتماعية التي سرت إلى سريرة جوركي وسرائر أساتذته وأصدقائه. ولكن الشيوعيين اعتقدوا أنهم في حاجة إلى كاتب فحل واسم ضخم وثائر عنيف، يقف كالطود وينصب كالعلم ليلتف حوله أولاده وتلاميذه، فلم يبخل جوركي على وطنه بهذه النعمة، وقد روى لي (شليابين هو المتكلم): أن ستالين قال له يوماً في موسكو:
- ما عليك يا ابن مكسيموفتش العزيز!
أليس هذا النظام الذي يحارب الفقر والجهل والمرض وينتزع الشعب المقهور من براثن الفاقة، ويعد مستقبلاً سعيداً لملايين المساكين الذين طال تعذيبهم، وكتبك كلها ناطقة بالحنان عليهم
أترانا نبالغ أحياناً ونطلب المزيد؟ فأعرض عنا قليلاً قليلاً، ولكن لا تتخل عنا. نحن أقرب الناس إليك في سوق هذه الحياة الدنيا (كذا)، ولا أهل لك غيرنا لو تأملت. أما أنا فستجدني أطوع لك من لينين، أي من بنانك. فأنا أعلم أنه كان يحبك حباً جماً، ولا يخيب لك رجاء، وحسنا فعل. . .
فقلت له: ولكنني في حاجة إلى الراحة. فقد بقيت أكتب وأكتب منذ ثلاثين عاماً وأكثر. أما آن لي أن أستريح؟
قال لي: لكن قلمك اخترق قلوب الشعب، فلا يحلو لهم غير الذي تصوغ من درر الفن الرفيع. إن تعلق الشعب بك بعد أن مات تولستوي وتشيكوف، وبعد أَن فرأندرييف أشد من تعلقك بشليابين لحبك موسيقاه وتفانيك في أنغامه
وسألت جوركي في هذا فقال لي: أنا أحبك لذاتك. أنت شيطان الموسيقى الأكبر، ولكن الموسيقى التي تجذبني هي التي سمعتها على ضفاف نهر الفولجا أو في سفائن تمخر أمواهه
محمد لطفي جمعة
الشتاء
الشتاء! الشتاء! وماذا تفهم من الشتاء يا ابن مصر الضاحية الضحوك؟ هل تفهم منه إلا أنه أسابيع من عمر العام لا تدري أهي أواخر خريفه أم أوائل ربيعه؟ هل تجد في جسمك غير دفء النعمة، وفي نفسك غير بهجة الأنس، وفي عينيك غير إشراق الجمال؟ أنظر أمامك تر الشتاء الغربي الذي جعله الله شيخوخة الطبيعة، يسلبها الرواء فلا تُعجب، ويحرمها النماء فلا تخصب، ويلقي عليها الهمود فهي سكون خافت وصمت ثقيل، ويلفّها في كفن الثلج نسجته ريح بليل؛ ثم تقشعر الأرض، وتكفهر السماء، وتقع الحياة بين القحط والموت، فتئن بالرعود، وتتأوه بالأعاصير، وتتساقط على الشجر السليب والثرى الكئيب والقرى الموحشة، همّاً في الصدور، وبؤسا في الأكواخ، ورهقاً في العزائم.
إن الشتاء في غير مصر زمهرير جهنم، تتنفسه كما تقول الأساطير فلا يذر من شيء يهبُّ عليه إلا أحرقه بالقُر وأغرقه في الصقيع. أما في مصر فالشتاء في الناس لا في الطبيعة. والشتاء في الناس برد في الدماء، وخمود في العواطف، وقحط في الأنفس. فلو كان كل من على النيل صافي القلب كسمائه، عذب الخلق كمائه، طلق اليد كفيضه، ضافي المعروف كأرضه، لكان هذا الوادي الحبيب جنة الله في الدنيا، أزلفها لجنس من خير الأجناس، خلقه وسطاً بين الملائكة والناس! ولكن. . . وما أسخف الحياة ما دامت فيها لكِن!
ابن عبد الملك
رد على نقد
القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
إذا كانت الأشياء تتبين بأضدادها فقد تبين معنى القديم الذي أردناه لما بينا في المقال الماضي مرادنا بالجديد
إن قديم الإسلام الذي ذكرناه في أولى الكلمتين اللتين نقدهما الأستاذ قارئ هو القديم الذي نحفل ونفخر به والذي لا نرى سواه جديراً بالاستمساك به والذود عنه. لكن قديم الإسلام ليس مرادفاً من كل الوجوه لقديم المسلمين. فقديم المسلمين هو كل ما شمله تاريخهم مما
يسر ويسوء، ومما يطابق أو يخالف الإسلام. لو كان المسلمون معصومين من الخطأ ومتابعة الهوى، أولو كانوا مع عدم عصمتهم لم يخطئوا إلا خطأ المجتهد، لكان قديم المسلمين هو وقديم الإسلام سواء، ولكان حال المسلمين اليوم شيئاً آخر غير ما هم فيه. لكن المسلمين بعد أن فتح الله البلاد على سلفهم الصالح وخلفوه فيها فتنتهم الدنيا كما فتنت من قبلهم، وحاولوا أن يتحللوا من قيود دينهم، وتهاون أولو الأمر في إقامة حدوده فزلت الأقدام بعد ثبوتها، وتداولتهم الأيام حتى صاروا إلى ما هم عليه
ومن الإفك العظيم الذي يأفكه الغرب أن ينسب ما هم فيه إلى دينهم الذي إليه ينتسبون. لو كان ما هم فيه نتيجة العمل بالإسلام ما كان هناك مفر من اتخاذهم حجة عليه. لكنهم صاروا إلى حاضرهم المخزي بتركهم العمل بالإسلام، فهم حجة له سلبية كما أن سلفهم الصالح حجة له إيجابية، وتمت بذلك حجة الله على الناس. سلفهم الذي نزل فيه الدين استمسك بالدين فدانت له الأرض فلم تطغه ولم تبطره، وضرب للتاريخ المثل العملي الفرد لحكومة الله في الأرض كيف تكون. فكانت تجربة أجراها الله في الأرض لا يقدر على إجرائها غيره، تحققت بها دعوى الإسلام أنه دين الفطرة التي فطر الله عليها الناس، لا يتحقق لهم كمال ولا سعادة إلا به، أفراداً كانوا أو جماعات. وحسبك من كمال الفرد به. تطور النفس الجاهلية إلى مثل نفس عمر وأبي بكر وعلي وعثمان، ومن إليهم من السابقين الأولين، وحسبك من كمال البيئة الإنسانية وسعادتها تطور البيئة الجاهلية به إلى البيئة الإسلامية أيام الرسول الكريم صلوات الله عليه وفترة مذكورة بعد أيام الرسول
ثم أجرى المسلمون أنفسهم لسوء حظهم التجربة الأخرى التي يتم بها إثبات أن ذلك التطور المعجز الذي تطورته النفس البشرية لما خالطها الإسلام، كان حقا نتيجة للإسلام لا لغيره. وآية ذلك أن نزول الأثر إذا زال المؤثر، كما يجري في أي تجربة علمية. وقد كان، فزال عن النفس كمالها ومن البيئة عزها لما انخدعت عن دينها، وتعطل أثر الإسلام فيها
فتاريخ المسلمين إذن فيه الخير وفيه الشر، فيه تحقيق الإسلام عمليا وفيه تعطيله. وإذا كان قديم المسلمين يشمل الاثنين بالطبع لأنه عين تاريخهم فإن قديم الدين لا يمكن أن يشترك مع قديم أهله إلا في ذلك الجزء الذي حققوا الإسلام فيه. فقديم الإسلام الذي نقصده والذي قصدناه بما كتبنا من قبل هو أولا كتاب الله وسنة رسوله، وهو ثانيا ما طابق الكتاب
والسنة من تاريخ المسلمين
وإذا فهمنا قديم الإسلام هذا الفهم وتم لنا تحديده هذا التحديد وجدنا أنفسنا أمام شيء يزول معه كل معنى للتفرقة الزمنية بين الأمور، فلا يكون هناك محل في الإسلام لفكرة القديم والجديد كما تفهم الآن. إن الإسلام دين الفطرة، والفطرة عند التحقيق لا يتفاوت فيها في دائرة الحق قديم ولا جديد. إنما يكون التفاوت والتناقض بين الحق والباطل. فكل جديد يخالف قديم الإسلام بالمعنى الذي حددناه هو جديد باطل، نصيبه من البطلان بقدر ما بينه وبين الإسلام من خلاف. وكل ما جدّ للإنسان من حق وقف عليه بعد جهل به والحق الذي عرفه الإنسان من قبل سواء، تشملهما الفطرة، ويشملهما الإسلام الذي يشمل بتشريعه وروحه وكنفه جميع صور الحق وسننه في جميع مدارج الحياة، في جميع مظاهر الكون، ما عرف الإنسان منها وما سيعرف، ما قدر له علمه في هذه الدار وما قدر له بعد هذه الدار.
وليس في الوجوديين دين ولا نظام جمع للإنسان الخير كله والحق كله وحذره من الباطل كله إلا الإسلام. والإنسان يستطيع إلى حد كبير تمييز الحق من الباطل في دائرة المحسوس الذي يستطيع إخضاعه لتجاربه العلمية، أما ما لا يستطيع إخضاعه لتجاربه مما يتعلق بحياة الإنسان الروحية فلا سبيل للوصول إلى الحق والخير فيه إلا بإرشاد الله فاطر الفطرة وبهدايته. وقد فعل سبحانه، فضلاً منه على عباده ورحمة بهم أن يهلكوا إذا تركوا وشأنهم فيما يتعلق بحياة الروح، فإن للروح سننها التي سنها الله كما لغير الروح سننه، ولا مناص للإنسان من اتباع سنن الله وإلا كان من الهالكين. فكان من رحمة الله بالإنسان أن مهد الله له سبيل النجاة والفلاح واطراد الرقي الروحي بالأديان التي أرسل بها رسله تتري حتى ختمها سبحانه وأتمها للإنسانية في الإسلام
والعجيب الغريب من أمر الإنسان في عصرنا هذا أنه يحرص على اتباع سنن الله في عالم المادة ولا يحرص على سننه في عالم الروح. هذا عجيب لأن الذي يقدر سنن الفطرة ويبحث عنها ليستمسك بها في ميدان ينتظر منه أن يقدرها ويبحث عنها ليس ليستمسك بها في غيره من الميادين. فإذا كان فاطر الفطرة سبحانه قد أنزل للإنسان هداية مبينة على سننه في الميدان الذي لا يملك الإنسان إجراء التجارب العلمية فيه كان ذلك أدعى لاغتباط
الإنسان بتلك الهداية من باب أولى. وكان الأقرب إلى العقل أن يحرص الإنسان عليها إن كان مؤمناً بها عن يقين، فإن لم يكن كان الأولى والأقرب إلى العقل أن يسارع الإنسان إلى بحثها وفحص منعاتها الدالة عليها ليصل فيها إلى حكم صحيح وقرار صريح. لكن الإنسان لا يفعل شيئاً من هذا. فلا المؤمن يحرص على الدين كما ينبغي ويدعو إليه كما ينبغي، ولا الشاك يسرع إلى فحص الدين كما ينبغي ليصل فيه إلى قرار صحيح. وأغرب من هذا أن يسمح المؤمنون وهم كثير للشاكين وهم قليل في البيئة الإسلامية أن يبذروا شكهم وينشروه عن شمال ويمين، في نفوس النشء من بنات وبنين
إن البيئة الإسلامية تحسن الدفاع عن نفسها إذا هوجمت في دينها صراحة ومواجهة من أمام، لكنها لا تفقه أن الأمر يحتاج إلى دفاع حين يأتيها الخصم مداورة ويهاجمها في الإسلام بحركة التفاف: لقد تركت لدعاة الغرب الحبل على الغارب يقولون ما يشاءون ويبثون في نفوس صغارها وناشئيها ما يشاءون ما داموا يسلكون إلى ذلك طريق التلميح والإيحاء أو ما داموا لا يهاجمون التوحيد صراحة والقرآن. فلما غر كبيراً فيهم الغرور وظن أن الأوان آن لمهاجمة الدين مواجهة لا مداورة هبت الأمة كلها تذود حتى كادت تبطش به، فلما انزوى عادت إلى نومتها الأولى كأن لم يبق هناك من حاجة إلى اليقظة والانتباه
وكان سلاح دعاة الغرب في مهاجمة الإسلام في صميم بلاده ونفوس أهله هو هذا الأدب الذي يسمونه بالجديد.
والأستاذ (قارئ) يحدثنا أن الذين يسمون الآن بأصحاب المذهب الجديد كانوا في أول الحركة أو منذ ثلاثين سنة رجعيين يدعون إلى الرجوع في النمط الأدبي إلى عصر الجاهلي أيام كانت اللغة خالصة، وكان أدبها خالياً من التكلف في الغزل والمحسنات اللفظية. لئن كان ذلك كذلك فما أظن حركتهم تلك في الأدب كان لها داع ما، لأن كل ما وصفها الأستاذ به وقال إنها تطلبه كان متحققاً بالفعل على يد حافظ وغيره إن لم يكن قبله
ويقول الأستاذ إن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي اتفاقاً (فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية) ولسنا ندري كيف يمكن أن يعين الأدب الأوربي على تحقيق تلك الرجعية التي
وصفت. وإذا صح أن بعضهم كان كما قال، فأكثرهم لم يكن كذلك أي لم يقرأ الشعر الأوربي اتفاقاً ولم ينصره لأنه يؤيد مبادئه الرجعية، ولكنهم كانوا ممن درسوا الأدبين، وأوحى إليهم الأدب الأوربي مبادئهم التي دعوا إليها خصوصاً ما سماه:(الرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره، وأن يباح له القول أكثر مما كان يباح للمتأخرين). ولست أدري ماذا كان محرماً على المتأخرين، وأردا أصحاب الجديد في أول الأمر أن يباح لهم، وإنما الذي أدريه أن مبدأهم ذلك قد خرج بهم عن الحد، وأدى إلى هذا الأدب الفاجر الذي يستطيع الأستاذ أن يضع يده فيه على ما شاء، والذي يعتذر عنه بأن هناك أفجر منه في القديم
إن في القديم أفجر منه من غير شك وأكثر منه أضعافاً كثيرة؛ لكن التفاوت في فحش القول، أظن الفضل فيه يرجع إلى القانون، والكثرة راجعة من غير شك إلى تراكم القرون وتعدد الأمم وكثرة الناس وعظم نسبة قائلي الشعر فيهم ممن يحسنه ومن لا يحسنه. فليت شعري إذا حسب أثر ذلك كله ماذا تكون النتيجة وماذا يبقى من دفاع الأستاذ؟ إنها نقطة طريفة، لكن مهما تكن نتيجتها فإنها لا قيمة لها في الموضوع. فالقديم الذي ندافع عنه والذي إليه قصدنا من قبل ليس هو القديم الزمني الذي ذهب إليه الأستاذ. ليس هو قديم المسلمين برهم وفاجرهم كما توهم الأستاذ خطأ، ولكنه قديم الإسلام بالمعنى الذي فصلناه. وإذن فنقده الذي وجهه إلينا وبناه على المعنى الزمني للجدة القدم نقد ذاهب لا يتوجه إلينا منه شيء
إن التفريق بين المذاهب والأعمال بحدوثها وقدمها كما يفعل كثيرون هو غير معقول، إنه تفريق تافه لأنه مبني على شيء عارض هو الزمن يأتي ويمر من غير أن تكون له صله بحقائق الأمور. إن قديم اليوم بمعناه الزمني هو جديد أمس قد مضى، وجديد اليوم هو قديم غد سيكون. فالجدة والقدم شيء عارض متغير لا وزن له في قياس قيم الأشياء اللهم إلا المادي منها، وليس في كلها يطرد معناه. أما الأمور المعنوية التي تتصل بحياة الإنسان الروحية وصميم إنسانيته فلا بد لقياسها والمفاضلة بينها من معيار آخر ثابت على الزمان هو معيار الحق والصدق والخير. وقد أنزل الله الدين ليهدي الإنسان إلى ما لا يستطيع الاهتداء إليه من هذا ما دامت حياته ونجاته وإنسانيته متوقفة عليه. من أجل ذلك تركنا
المعيار الزمني الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقررنا ما كنا نظن أنه بديهي واضح من أن المعيار الثابت للحق والخير يجب أن يلتمس لا في جديد الغرب ولكن في قديم الإسلام أي في الإسلام كما أنزله فاطر الفطرة على الإنسان الكامل والرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه
لقد قررنا هذا الأصل من قبل ولا نزال نقرره. قررناه حين كتبنا نقدنا التحليلي لكتاب الأدب الجاهلي وأخذنا على صاحبه فيما أخذنا نشره مجون الأدب الغربي فيما كان يلخص للهلال من روايات فاجرة كرواية الزنبقة الحمراء، ونشره مجون الأدب العَربي فيما كتب عن أبي نواس ووالبة ومن إليهما في حديث الأربعاء. وهاهو ذا صاحبه يدعوا في أحدث كتاب له إلى الأخذ بحضارة الغرب كلها خيرها وشرها وحلوها ومرحها كأنما أراد أن يصدق ما قلنا في كلمتنا الأولى التي انتقد الأستاذ (قارئ) من أن (الذين يسمون أنفسهم أنصار التجدد يؤمنون بالغرب كله ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا ولو خالف الإسلام في أكثره). فنحن حين صورنا الخلاف بين أنصار قديم الإسلام وجديد الغرب كما صورنا إنما كنا نصف واقعاً مشهوداً، والأستاذ (قارئ) يصف من حركة الجديد تاريخاً غير مشهود مر، على قصر الفترة التي كانت منذ بدأ، وصار إلى هذا الجديد الذي يغلب على الحركة الآن وغلب عليها من زمان - بالنسبة إلى عمرها - طويل
والأستاذ (قارئ) يجعل للأسلوب والطريقة واللغة مكاناً كبيراً في حركته التي وصف، وإني أعرف أن الأسلوب واللغة والطريقة هي مدار الخلاف بين من يعرفون بأنصار الجديد وأنصار القديم كما أعرف للأسلوب والطريقة واللغة مكانها في الأدب. لكني لا أحلها مع ذلك المحل الأول، وإنما أجعل لروح الأدب المقام الأول في الحكم عليه. وأنا في ذلك تابع غير مبتدع، تابع للقرآن مهتد بما سنه للناس
فلحكمة كبرى جعل الله معجزة دينه معجزة أدبية باقية على الدهر وجعل رسوله أفصح الناس. وليس أصغر ما في تلك الحكمة التنويه بالأدب والتنبيه إلى أن قوته الهائلة ينبغي أن تكون عوناً للحق والخير على الشر والباطل في حياة الإنسان، فهذا تشريع منه سبحانه وهدى للناس في الأدب كان ينبغي عليهم أن يتبعوه. ولقد اتبعوه بالفعل في عهد الرسول وفي أكثر عهد الخلفاء الراشدين، ثم جاء عمر بن أبي ربيعة الذي لو أدرك عهد عمر بن
الخطاب لجلده ونفاه ولكف من غرب مجونه الذي فتح في الأدب باب الشر والمجون على الناس. وصلوات الله على رسول الله لقد نبه الناس لو كانوا ينتبهون: نبههم إلى أن الشيطان يئس أن يعبد في أرضهم ورضي أن يطاع فيما يحقرون من أعمالهم. وكان مما حقروا القول الماجن ما داموا لا يرتكبون بالفعل ما يفترون فيه. وظن ابن أبي ربيعة أنه إذا قال ولم يأت شيئاً مما قال فليس عليه عند الله وزر، ونسي حديث الرسول الذي أنبأ فيه الناس أن الله قد تجاوز لهم عن حديث النفس ما لم تعمل أو تكلم، والحديث الذي نبه فيه صلوات الله عليه الناس أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ووقع ابن أبي ربيعة في الحرجين واحتمل الوزرين كليهما فوصف حديث نفسه كلاماً تبعه فيه العرجي ومن لف لفه فانحرفوا بالأدب العربي عن الطريق الذي أختطه له القرآن إلى الطريق الذي تمناه الشيطان لينفذ منه إلى النفس المسلمة يفسدها قليلاً بعد قليل وجيلاً بعد جيل
فلأدب العربي ككل أدب إنساني يجب أن يحكم عليه أول ما يحكم لا بأسلوبه ولا بطريقته ولا بلغته. ولكن قبل كل شيء بأثره في النفس أي بأثره في حياة الفرد وفي حياة المجموع. فإن كان أثره صالحاً يعين النفس على رقيها ويهديها إلى ربها فهو أدب صالح كريم، وعندئذ تكون بلاغته وما يمكن أن يتصف به من مميزات أخرى حسنات له توضع في ميزانه. أما إذا كان سيئ الأثر يثير في النفس شهواتها ويصرفها عن هداها فهو أدب فاسد غير كريم مهما ملك صاحبة من عنان اللغة ومهما امتاز في الأسلوب، بل مميزاته في اللغة وفي الأسلوب تكون عندئذ من سيئاته لأنها تجعله أقدر على إفساد نفس الإنسان. من أجل ذلك جعلنا الأدب فيما كتبنا قسمين: قرآنياً وغير قرآني، أو أخلاقياً وغير أخلاقي، حسب أثره في النفوس لا فرق في ذلك بين القديم منه والجديد
والأدب الجديد كان له أسوأ الأثر في النفس المسلمة خصوصاً النفس التي لا تعرف من دينها ما تستطيع أن تدفع به عادية ذلك الأدب على مكان الدين منها ليفتنها بجديد الغرب عن قديم الإسلام.
ولقد قلنا من أجل ذلك إن المسألة بين القديم والجديد هي في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين، فظن الأستاذ أننا نريد أن الجديد يريد أن يحل المسيحية محل الإسلام، وليس كذلك.
إن المهم ليس هو ذات ما يتخذ بدلاً من الإسلام، ولكن هو مجرد الانصراف عن الإسلام. وماذا يهم إذا انصرف المسلم عن الإسلام أي شيء اتخذ أو على ماذا أقبل؟ إنه إذا استدبر الإسلام لا بد مستقبل غيره؛ وإذا أحله من نفسه المحل الثاني فهو لابد محل غيره المحل الأول؛ وإذا عصاه فهو لا بد مطيع سواه. هذا الذي يستقبل ويكبر ويطيع بدلاً من الإسلام هو الدين الذي أتخذه أو يتخذه المسلم المفتون بالغرب بدلا من دينه. وليس يهم أدين هو معروف في الأديان أم هوى هو بين الأهواء أم وهم من الأوهام
واستعمالنا لفظ دين بهذا المعنى استعمال عربي صحيح. فالدين في الأصل معناه الخضوع ومن أخص خصائصه العبادة، وقد جعل الله سبحانه طاعة الناس للشيطان عبادة منهم للشيطان في قوله (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً أفلم تكونوا تعقلون). وأوضح أن الناس لم يعبدوا الشيطان عبادة سجود ولكن يكفي من عبادتهم إياه أنهم أطاعوه فأضلهم عن سبيل الله. كذلك قد جعل الله اتباع الإنسان هوى نفسه عبادة للهوى واتخاذاً إياه إلهاً من دون الله (أرأيت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً)(أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). فأساس التدين اتباع الدين والخضوع لله طوعاً ما للإنسان خيار فيه. فإذا غلَّب الإنسان على دينه شيئاً آخر يدين له بالطاعة من قلبه فذلك الشيء هو في الواقع دين له بدلاً من دينه الذي ينتسب بالاسم إليه؛ وإذن فنحن لم نُغْرب ولم نخرج عن حدود اللغة ولا عن الاستعمال القرآني حين أطلقنا لفظ الدين على كل ما يحل في قلب المسلم محل دينه. ونحن لم نظلم دعاة جديد الغرب حين قلنا إن جديدهم في الأدب ليس مقصوراً على الأسلوب والطريقة ولكنه في صميمه إحلال دين مكان دين ما دام منحى ذلك الأدب التماس المثل العليا واقتباسها من الغرب لا من الإسلام ولا من القرآن
محمد أحمد الغمراوي
استطلاع صحفي (ريبورتاج)
الأندية الأدبية في مصر
(لمندوب الرسالة)
- سأكتب عن الأندية الأدبية في مصر. . .
وأين هي يا أخي تلك الأندية الأدبية التي في مصر؟!
ذلك ما قلته لصديقي الشاعر (الخفيف) وكنا في ندوة الرسالة، وهذا ما أجابني به في لهجة قاسية منكراً أن تكون في مصر أندية للأدب. وهذا أيضاً ما سيقوله جل قراء الرسالة - إن لم يكن كلهم - وسينكرون أن تكون في مصر أندية للأدب. وربما يسألون: ما شأن هذه الأندية؟ ومتى وجدت؟ وأين توجد؟ وما بالنا لا نعرف عنها أي شيء؟. . وهذا هو الذي حفزني للكتابة عن هذه الأندية، وحملني على أن أكشف للناس - بل ولكثير ما الأدباء أنفسهم - عن ناحية مستورة في حياتنا الأدبية، ومؤثرٍ له شأنه وخطره في وجهتنا الثقافية
نعم ليس في مصر أندية للأدب بالمعنى الضخم الذي يوحيه إليك هذا التعبير الضخم، فتتخيل العمائر الشاهقة التي شيدتها الحكومة أو شيدتها الجمعيات الأدبية المنظمة وجعلتها في تأسيسها وفي أثاثها بهجة الناظر ومتعة الخاطر، لتكون مجمعاً لأهل الأدب ومسرحاً لأرباب القلم، كما هو الشأن في الأمم الراقية التي تحترم الفن، وتقدر نتاج الفكر، وإنما الأندية الأدبية في مصر إما مقاهٍ عامة تتسع لغمار الناس وجميع الطبقات، وربما تكون ضَئيلة الرواء تافهة الموقع، وإنما ينزع إليها الأدباء لود قديم، أو لمعنى يتصل بحياتهم المادية والروحية، وإما بيوت لها مجد تالد، وتاريخ حديث يتصل بتاريخ غابر، فأصحابها يقربون أهل الأدب ويفسحون لهم في صدور بيوتهم ويسمرون ويتندرون، ويمتدحون بل ويذمون، ويتوثبون من حديث إلى حديث بين أكواب الشاي وأقداح القهوة
وهذه الأندية على بساطتها لها أثر كبير في حياتنا الأدبية، وإن ما يجري فيها لصُورة صحيحة لثقافتنا ووجهتنا في الأدب والشعر والنقد وكل ضروب المعارف التي نحذقها، والتي لا نحذقها. وأنت لا شك تجهل كثيراً من نواحينا الفكرية وسياستنا الأدبية، ومدى الصلة بين ثقافتنا وأخلاقنا. وأنت لا شك تخطئ كل الخطأ إذا كنت تحسب أنك قادر على فهم أدبائنا حق الفهم من كتاباتهم التي يزورونها للناس، من غير أن تنتقل إلى هذه الأندية،
تجول بين جنباتها، وتندمج في جماعاتها، فتحاور وتداور، وتقول وتسمع، وتُرضي وتغضب، وتنفلت معهم من كل قيد، وتخرج على كل وضع، وتكون حاضراً بعقلك وقلبك وعواطفك، حتى تنبسط أمامك النفوس، وتنكشف لك السرائر، ويُعلن كل مخفيّ ومطويّ، فيتبين لك القوم بعقلهم الواعي، وما يسمونه بالعقل الباطن
لقد خرجت منذ عامين برفقة صديق عزيز إلى بساتين القناطر الخيرية في يوم عيد الربيع، فرأينا الناس قد احتشدت هناك على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين طبقاتهم ومراتبهم، ورأيناهم قد خرجوا من وقارهم، واستهانوا بكل ما اصطلح الناس عليه من الأخلاق والتقاليد، واندفعوا في يقظة العواطف، ورغبات القلوب، وشهوات الجسد، ما وسعهم الجهد في ذلك، فكنت أنظر إليهم في فزع وجزع، فمال عليّ صاحبي وهو يقول: لا تفزع ولا تجزع، فإن هذه - لو علمت - هي حال الناس بين الجدران، وتلك طبيعتهم من وراء الحيطان، وثق أن ما يظهر به الناس في الخارج من سمات الوقار ومظاهر الاحتشام إنما هو شيء متكلف مزّور، وإنه ليغطي وجه الحق على كثير من الناظرين. ولو قدر للشمس أن تشرق على جميع الناس، وأذن للحجب أن تنتهك عما وراءها لرأيت الناس في طبيعتهم الصريحة وحقيقتهم الصحيحة، وما حقيقتهم إلا ما ترى يا صاحبي.
وهذا الذي قاله صاحبي في الناس بالأمس، هو ما أقوله في أصحابي الأدباء اليوم، فهم في كتاباتهم قد يحجبون حقيقتهم ويزوّرون في طبيعتهم، ويظهرون في غير لباسهم، توخيا لمصلحة يرجونها أو رهبة لسيطرة القوانين والتقاليد، أو رعاية لروابط الصداقة وصلات المودة بينهم وبين الناس، فتراهم يبدون الرأي في احتراس ويحكمون على الأشياء بقدر، ويخدعون ضمائرهم فيحضون ما ليس بالحسن، وهم على عكس هذا كله في أنديتهم الأدبية، ومواطن سمرهم وصفوهم، صرحاء وضحاء، لا يقتصدون في شيء ولا يبقون على شيء، فتسمع منهم الرأي الصحيح والتقدير الصريح والنقد العنيف، والأحكام القاسية التي تتصل بالآثار وبالشخصيات وتتناول الأفراد والجماعات، وربما يفزعك هذا النقد بأسلوبه، وربما تنكره على أصحابه، ولكنك لا شك ستجد فيه كثيراً من الصراحة المحمودة، والتقدير الحق. وأذكر أن أديباً كبيراً أعرفه كتب مقالا في تقريظ صاحب له في إحدى الصحف، فهول وبالغ ومجد وقدّس حتى طار بصاحبه إلى السماء، فلما قابلته في المساء
حيث يجلس مع إخوانه للمسامرة، ذكر لي أن ما كتبه إنما هو تمويه في الحق، وتدليس على الناس، وأن صاحبه ليس في قليل ولا كثير فيما كتب عنه، ولكنها الضرورة قاتلها الله، وللضرورة حكم أقل ما يقال فيه أنه يفصل بين المرء وبين ضميره. ولقد ذكر الدكتور زكي مبارك في مقال نشره منذ أعوام، أن الدكتور طه حسين أسر إليه في مجلس من المجالس أن (شوقي) في رأيه أكبر شاعر في العربية، وأنه كان يود أن يقدم ديوانه للقراء، على حين كان الدكتور طه في ذلك الوقت يذيع في الناس أن (شوقي) لا يد له في الشعر ولا رجل، وأنه شاعر يغني على أطلال القديم، فيغني عنه أضأل شاعر في القديم!!
ومن ثمًّ تعلم أن أدباءنا في مجالسهم شيء، وهم في كتاباتهم شيء آخر. . .
وإلى جانب هذا نجد في أنديتنا الأدبية ناحية مشرقة، فهي مجلس الدعابة البارعة، والروح المصرية المرحة، ولعلك تعلم أن الدعابة إنما هي الجانب المشرق من الحياة، وهي عنوان ما في السرائر المكتومة، ومظهر من مظاهر الأخلاق والثقافة، وعنصر يهتم به الدارسون لنفسيات الأمم وطبائع الشعوب. وليس من شك في أن شخصية الأديب قد تتجلى واضحة مكشوفة في نكتة يلقيها على بساط الشراب، وربما لا يظهر لها ظل في جميع مؤلفاته ولو بلغت ألف كتاب. ولأدبائنا في مناحي الدعابة ذراع رحب، ولسان طويل. . . ولكنهم لا يهتمون أو قل يتحرجون من تسجيل ذلك وإذاعته في الناس، ولا شك أننا فرطنا في كثير إذ أهملنا ما كان يجري في مجالس البابلي وحافظ وإمام العبد وأندادهم، فلم نسجل شيئاً من أحاديثهم. ولم نحفل بنوادرهم وقفشاتهم، على أنها كانت ثروة طيّبة، وناحية حافلة بالأنس والسمر، ومن العجيب أن القدماء كانوا أجدى من في ذلك وأحفل به، ولعل مرجع هذا إلى أنهم كانوا يكتبون للخاصة فكانوا ينطلقون على طبيعتهم فلا يتأثمون من تعبير، ولا يتزمتون من لفظ، ولكنا نكتب لجميع الناس، وكتاباتنا تتصل بمختلف الأوساط، فكان لابد أن نعف عن كل ما يخدش الحياء، ويؤذي الأذن كما يزعمون!
ومن بعد هذا ومن قبله، نجد تلك الأندية تعمل كثيراً في نهضتنا الأدبية، وفي وجهتنا الثقافية، فكثيراً ما تتشاجر الآراء، وتقوم المجادلات بين القوم حول المعركة بين القديم والجديد، أو في المقارنة بين شوقي وحافظ، أو المفاضلة بين طه والعقاد، وقد يخرجون من القول في الأدب إلى الكلام في السياسة وما يجري من التطاحن بين الأحزاب، وفي هذه
الأحاديث وأفعالها يفضي كل بما عنده، فتكون الإفادة والاستفادة.
فنحن إذ نكتب عن الأندية الأدبية في مصر، إنما نكشف - كما قلنا - عن ناحية مستورة في حياتنا الأدبية، ومؤثر له شأنه وخطره في وجهتنا الثقافية، ونصور للناس صورة مشرقة بالمرح والصفو يطل منها أدباؤنا بطبيعتهم الصحيحة، وحقيقتهم الصريحة. وموعدنا المقال القادم لنقف عند أول ناد هبطت عليه يوم هبطت على القاهرة، وسأعرف كيف أقنع صاحبي الشاعر (الخفيف) الظريف.
(م. ف. ع)
رسالة المرأة
بين المرأة والرجل
هل الشرق شرق والغرب غرب في كل شيء؟
للآنسة زينب الحكيم
كان من بين البلاد التي زرتها أثناء رحلتي الطويلة بلاد كردستان. ولقد كانت من أعظم المخاطرات وأكثرها فائدة، ذلك لأني اكتشفت عالماً مجهولاً للكثيرين. أما ما قمت به من مخاطرات، وما وصلت إليه من دراسات متنوعة فسأكتب عنه في غير هذه المناسبة. وأخص هذه الرسالة بشيء من الأدب الكردي الذي حُببَّت إلى دراسته وتقصيه، لأثبت أنه على قدر ما وجدت تبايناً كثيراً بين الشرق والغرب في كثير من الموازنات التي عملتها، وجدت تشابهاً عظيما بينهما بحيث نستطيع معه تحديد تباين الشرق عن الغرب، أو توافقهما في وجهات لا تحتمل الجدل مثل النواحي العاطفية، والروحانيات، وتصرف المرأة هنا وهناك وإني لذاكرة فيما يلي قصة أدبية، وهي عبارة عن قطعة تمثيلية غنائية عنوانها (الوردة الدامية) من نظم الشاعر الكردي الشاب عبد الله سليمان (كوران) من أهالي السليمانية عاصمة كردستان وقد ترجمتها نثراً إلى اللغة العربية
الوردة الدامية
حوار بين فتى وفتاة:
الفتى - هناك يا فتاتي في ذلك البيت حفلة زفاف ورقص وفرح
ألا تسمعين أنغام الناي، ودقات الطبول المرقصة؟
إلا ترين الزحام الباهر من الرجال والنساء يغنون ويرقصون؟
كم أود أن أسمع هناك رنَّات حليتك الفضية وأنت ترقصين!
هيا. . . بربك، هيّا. . . نلحق بهم إذن
ونرقص ونرقص إلى أن يشبع فؤادي. . .
الفتاة - كلا أيها الفتى، لن أذهب ولن أرقص معك
ما دامت لا تزين رأسي وردة حمراء ووردة صفراء
الفتى - يا فتاتي أستحلفك بجمالك ودلالك ولحاظك الساحرة في طريقك إلى عين الماء
انظري إلى الأوراق المتساقطة. انظري إلى الأغصان العارية. إننا في فصل الخريف. . .
أين نحن من الورود؟ ثم لماذا الورود؟
أليست شفتاك المتفتحتان بالبسمة الجميلة أجمل من كل شيء. . . ومن الورود؟
الفتاة - لا يا فتى، لن أذهب ولن أرقص معك،
ما دامت لا تزين رأسي وردة حمراء، ووردة صفراء!
لو كنتَ مانحاً قلبك لي بكليته حقيقة
لاستطعت إحضارهما من حديقة الأمير
وكل ما أطلب وردتان فقط!
يذهب فتى ويغني متمتماً
الفتى - حديقة الأمير. . . بيني وبينها نهر يفيض ويثور، وتحيط به قبائل معادية لا ترحم
إذا ذهبتُ: فالطريق وعر ولا أمل لي بالرجوع
وإذا لم أذهب:
آه!! لن ترقص معي فتاتي، ذات العيون الساحرة
(يبتعد عن القرية شيئاً فشيئاً)
- 2 -
الفتى - توغلت في حديقة الأمير، من أقصاها إلى أقصاها
أما الوردة الصفراء فهاكها. أما الحمراء فلم أجدها وا أسفاه.
لست أدري أترضين الآن أن تراقصيني؟
الفتاة - لا. . . لن أراقصك. . لن أراقصك. . . من غير الوردة الحمراء الجميلة
الفتى - (يفك ياقة قميصه مشيراً إلى الصدر في محل القلب) ألا تقبلين هذا الجرح الدامي، بدلاً عن وردتك يا فتاتي؟
الفتاة - والهفي. . . أأصابك رصاص العدو؟
أتسقط هكذا من شدة الألم؟
إذن ضع رأسك على صدري وأنت تحتضر،
ولأبك على قلب افتقدته من أجل وردة
هذه القصة التي تعبر بروعة خيالها عن حقيقة عقلية الرجل الكردي، إنما تعبر ضمناً عن ناحية من نواحي نفسية المرأة الكردية المعروفة بقوة الإرادة والشجاعة والحسن الفائق، والنفسية المرحة السامية، والعقلية الخصبة على جدب معينها العلمي، وقسوة بيئتها وإن عوضها جمال مناظر جبالها، وجودة هوائها، وكثرة ثمارها كثيراً مما تفقده من أسباب الحياة الرغيدة، ونور العلم وميزات المدينة. والمرأة الكردية على غمرة عواطفها أمينة في الحب، قاسية فيه، مضحية إلى الموت، ولكنها صلبة الرأي إلى درجة شاذة انتصاراً لمبدأ أو إخلاصاً لحبيب أو صديق، كما أنها على لطافة خلقها شرسة منتقمة إذا أرادت
هذه القصة من الأدب الكردي أذكرتني بحادثتين وقعتا لرجلين من مشاهير الرجال أذكرهما فيما يلي، حتى نرى أن ليس الشرق شرقاً والغرب غرباً في كل شيء
(1)
قفاز
سمعت قصة هذا القفاز زمناً طويلاً من الجدات والكهول، عن سيدة كان مغرماً بها دي لورج الضابط النابه الذي كان في صغره من أشجع وأشهر قواد اللواء المشاة في أيام فرنسوا الأول ملك فرنسا (1515 - 1547).
وكان الملك فرنسوا هذا مغرماً باقتناء الوحوش الضارية ومشاهدة صراعها في حديقة الوحوش التي أقامها لها خاصة.
ففي ذات مرة، بينما الملك يشاهد الشجار مع حاشية من عظماء مملكته، ومن بينهم سيدات يجلسن في مقاصير أنيقة، إذا بواحدة منهم تلقي بقفازها بين الأسود، وهي في أشد حالات الغضب والشراسة، وتوجهت إلى عاشقها دي لورج الفارس النبيل طالبة إليه باستخفاف أن يعيد إليها قفازها ليؤكد أن حبه لها عظيم كما يقول، ولكي تحقق من ناحية أخرى صدق شهرته أمام الجمهور الذي طالما تحدث عن شجاعته.
فانبرى الفارس مسرعاً دون أن تبدو عليه دهشة أو تردد، وأخذ عباءته في إحدى يديه، وسيفه في اليد الأخرى، ثم دخل بجسارة نادرة في ساحة مساجلة الأسود، وحالفه الحظ في التقاط القفاز من بينها، وعاد به إلى سيدته بين إعجاب الحضور وهتافهم. وتبسمت له الحسناء ابتسامة الرضى والسرور
ولكن الضابط الهمام لم يأبه لإعجابها، واعتبر سلوكها معه ضغينة مبيتة، ولهذا رمى القفاز في وجهها معرضاً عن أي شكر ومتحرراً من غرامه. وبذلك أقصاها إلى الأبد
(منديل)
كان للقائد العظيم دي جينليز الذي مات في ألمانيا وهو يقود فرق الهوجينوت في الحرب الدينية الثالثة حسناء أغرم بها جداً فمرة كان يعبر وإياها النهر من أمام اللوفر، فأسقطت منديلها الفاخر في الماء عمداً، وطلبت إليه أن يغوص في النهر ليعيد إليها منديلها. ولكنه لجهله بالسباحة اتخذ من ذلك مبرراً حسناً للاعتذار إليها
ولكنها لم تقنع - ولامته - بل اتهمته بأنه عاشق خائن جبان. فما كان من القائد الشجاع إلا أن ألقى بنفسه في النهر دون أن ينبس ببنت شفة، وحاول البحث عن المنديل عبثاً، مضحياً بحياته لو لم يدركه قارب النجاة على الفور
نختتم بقصة شرقية مشابهة فيما يلي:
قصة إيرانية
الشاعر نظامي الإيراني أشهر من نار على علم، يرى في مخطوط من كتابه (هفت بيكر) المحفوظ في نيويورك، صورة ترجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي، توضح أيضاً تشابه تصرف المرأة الشرقية وتصرف الغربية في نفس الحقبة من الزمن
ذلك أن الصورة تمثل (بهرام جور) ملك إيران يثبت لحبيبته فروسيته ومهارته في الرماية، بإجابتها إلى ما طلبته منه وهو أن يلصق السهم وحافر حمار الوحش بأذنه. وقد توصل إلى ذلك بأن ضرب حمار الوحش في أذنه بقطعة من الطين الجاف، فلما رفع الحمار حافره ليحك أذنه من أثر الضربة، رماه بهرام جور بسهم ثّبت به حافره بأذنه
هذه قصص أربع أود لو تتفضل القارئات ومن يرغب من حضرات القراء بإبداء رأي فيها، نصل من ورائه إلى مبدأ نؤسس عليه معاملة المرأة للرجل وبالعكس، ولا سيما في طور الخطبة
زينب الحكيم
رسالة العلم
قصة العلم التجريبي
الذروة التي بلغها البحث العلمي
للدكتور محمد محمود غالي
يعتمد العلماء اليوم على منابع أربعة للتجديد العلمي: الميراث العلمي، والبحث النظري، والبحث التجريبي، والتعمق العقلي في حقائق الأشياء ووضعها في قوانين لا تتعارض مع النتائج النظرية والتجريبية
ولن أتناول بالبحث في هذه المقدمة الميراث العملي فقد أشرنا إلى الدرجة التي وصل إليها من العظم حتى أصبح غير ميسور لباحث أن يتعرف في فرع واحد من العلوم كل ما ينشر فيه. أما البحث النظري فقد أصبح من القوة بحيث لا يستطيع المشتغلون بالعلوم التجريبية والذين تستنزف التجارب بين جدران المعامل كل أوقاتهم، الاستغناء عن تتبع التطورات التي تحدث في كل عام من الناحية النظرية، وإن أعمال إينشتاين وبلانك ودي بروي وشرودنجر ما يدل على ما للطبيعة النظرية من القوة اليوم
أذكر أني طالعت منذ عشرة سنوات إحدى صحف الصباح بباريس أن لويس دي بروي وكان عمره في ذلك الوقت حوالي خمسة وثلاثين عاماً حاز جائزة نوبل في الطبيعة وكان كل ما بلغه من منصب علمي وظيفة محاضر في السوربورن وفي مساء نفس اليوم حضر كعادته للمعمل الذي كنت أعمل فيه بالسوربورن الأستاذ موتون، وهو عريق في منصب الأستاذية فأردت أن أُلمَّ بشيء عن دي بروي فقال لي:(لا تظن أني أعرف عنه أكثر مما تعرف)، وبعد سبع سنوات من هذا التاريخ، وقُبيل وفاة الأستاذ موتون ذكر لي وهو طريح الفراش من مستشفى معهد باستير، وكنت أطالع له عملي:(لم يصبح لدينا من الوقت ما يكفي لتتبع دي بروي وفرانسيس بران ولا أنصحك أن تنفق وقتاً كبيراً لتتبعهم، ولكن يظهر لي أن عالم التخمين لم يصبح أقل أهمية من عالم التجارب)
أما البحث التجريبي في العلوم الطبيعية فقد بلغ ذروة تدل عليها التطبيقات التي تمت داخل معامل الأبحاث وخارجها مثل الاختراعات العديدة التي أصبحت تتداخل في جزء من
حياتنا اليومية
ولنضرب الآن أمثلة من التقدم في دائرة معامل البحث ونشير إلى شيء من المقدرة التي أبداها العلماء في القيام بالتجارب العلمية. ولعل في إشارتنا ما يجعل جماعة ممتهني العلوم الكيميائية والطبيعية الذين يشبهون في حياتهم كيميائي القرون الوسطى - وهم كثيرون بيننا يستفيدون من الرجوع لهذه المقالات. ويقيننا أنهم إذا طالعوا بإمعان ما تتضمنه مقالاتنا سيطفئون مشاعلهم التي أفسدت الجو بدخانها ويفارقون بوادق صهرت الكثير من نقود أصحابها ويوقنون أن قصة المعامل اليوم تخالف قصتهم وأن العلماء اليوم متجهون اتجاها آخر في مباحث بلغت من القوة شأوا حمل الناس على الإيمان بها والتسليم بسموها وعظمتها.
خذ مثلاً من العلم التجريبي كان النجاح فيه لأستاذين لازمناهما وجاورناهما في معاملهما طويلاً هما كوتون وموتون، ففي سنة 1906 استطاعا بإنارة معينة للجسيمات الميكروسكوبية أن يكتشفا ما نسميه اليوم الألتراميكروسكوب وهو ميكروسكوب عادي إلا أن الجسيمات المراد فحصها تضاء بطريقة تسمح برؤية الجسيمات المتناهية في الصغر والتي لا يكشفها الميكروسكوب أو على الأقل تسمح برؤية مواضع هذه الجسيمات، خذ النتائج السريعة لمثل هذا الاكتشاف العلمي فقد استطاع جان بران في سنة 1908 أن يتتبع حركة جسيمات صغيرة جداً كالجسيمات المعلقة مثلاً في نقطة من الحبر وهي حركة مبنية على قوانين الصدفة إلا أنها نوع من الصدفة المنظمة - أما سبب حركة هذه الجسيمات فهو حركة دائمة في جزيئات الماء نفسه التي تتصادم مع هذه الكرات المعلقة في السائل فتحركها معها، وهذه الحركة الدائمة في كل سائل هي التي تسبب ضغط السائل على جدران الإناء. وقد استطاع بيران (بإدخال حسابات قام بها العالم المعروف أينشتاين) أن يدرس نظام توزيع هذه الجسيمات الصلبة داخل السائل واستنتج من ذلك نتائج علمية عظيمة الأثر منها تحديده لعدد جزيئات الغازات في حجم محدود ومنها معرفته لشحنة أصغر جسيم كهربائي أو وحدة الكهرباء (الإلكترون
وللإلكترون أهمية كبرى ويكفي أن يعرف القارئ أن العلماء يتجهون الآن إلى تحديد كل ما نراه وحصر كل ما يكون العالم في أربعة أنواع من الجسيمات المتناهية في الصغر هي
الإلكترون والبوزتون والنيترون والفوتون. وسنأتي في مقالاتنا القادمة على شرح كل واحد من هذه الجسيمات الأولى الأربعة المكونة للخليقة وعلى الظروف التي أدت إلى اكتشاف كل منها، وإنما أردنا أن ندل القارئ على أن اكتشاف الألتراميكرسكوب واكتشاف الإلكترون كانا عملين أحدهما مساعد للآخر. ومما يجدر بالذكر أن الالتراميكروسكوب لعب دوراً كبيراً في تجارب مليكان الخالدة التي فصل فيها جسيما واحداً يحمل إلكترونا حرا واحداً، هذه التجارب التي آمل أن أفصلها يوماً لقراء الرسالة ولكن لا أترك الإلكترون دون أن أعطي القارئ فكرة عن حجمه أو كتلته
تصور أنك تدخن سيجارة وأنت جالس في الشمس وتصور أن تركت أطراف السيجارة على إصبعك بعض آثار الورق المذهب بحيث أن أشعة الشمس تساعدك عند النظر لإصبعك أن تكشف بالعين أحد هذه الجسيمات البراقة المتناهية في الصغر والتي تركتها السيجارة. إذا تصورت هذا وأردت أن تتصور الإلكترون فاعلم أن حجم هذا الجسيم الصغير يحوي ملايين المرات حجم الإلكترون الواحد، فإن نسبته لهذا الجسيم البراق الصغير جداً كالنسبة بين الأخير وبين المكتب الذي أكتب عليه الآن هذا المقال
يمكنك أن تتصور أيضاً أنك تأكل تيناً وأنه قد أصاب إصبعك إحدى أشواكه الصغيرة - إنه يلزمك في العادة ملقاط لإخراج هذه الشوكة التي إذا خرجت تراها بصعوبة بالعين المجردة، إن هذه الشوكة ربما تحوي من الإلكترونات قدر ما تحوي شجرة التين من الشوك. هذا هو الإلكترون الذي استطاع مليكان أن يفصل جسيما واحداً يحمل إلكترونا حرا واحداً ويرى موضع هذا الجسيم بل ويرفعه ويخفضه كما يشاء
إلى هذا الحد وصل العلم التجريبي في سنة 1909 أيام تجارب بيران ومليكان. أما اليوم وقد مضى ثلاثون عاماً على هذه التجارب فماذا أقصه عليك في هذه المقدمة التي أرجو من ورائها للقارئ إيماناً علمياً يشبه إيمان العوام. ولهذا أكتفي بالتنويه بثلاثة موضوعات كأمثلة جديدة في العلم التجريبي الحديث
الموضوع الأول:
تصل إلينا أشعة يسمونها اليوم الأشعة الكونية سأجعلها موضوع مقال خالص في أعداد الرسالة القادمة.
تخترق هذه الأشعة سقوف منازلنا كما تخترق أجسامنا وهي مكونة من الإلكترونات السابقة الذكر وبوزيتونات سريعة، وليست الشمس هي مصدر هذه الأشعة كما يتبادر للذهن وذلك لأسباب سنذكرها عندما نتكلم عليها بالتفصيل
لقد أمكن اليوم بما يسمونه أنبوبة ولسون عد هذه الإلكترونات في اتجاه معين بل وسماعها كما تسمع صديقاً لك ورسمها على اللوح الفوتوغرافي كما ترسم طفلك يوم عيد ميلاده وذلك بعد أن تخترق هذه الجسيمات ما سمكه حوالي خمسة أمتار من مادة الرصاص
الموضوع الثاني:
إنه من الممكن اليوم أن نطلق بالوناً صغيراً يحمل ترومومتراً لقياس الحرارة وبارومتراً لتسجيل الارتفاع والضغط الجوي وهيجرومتراً لتسجيل درجة الرطوبة، وأن يكون بهذا البالون محطة لا سلكية ولا يزن بمحطته وبكل هذه الأجهزة سوى كيلو جرام واحد، وهذا البالون يسجل بمفرده درجات الحرارة والضغط الجوي والرطوبة ويرسل هذه النتائج مسجلة متعاقبة على ورقة موجودة بمكتب رئيسي على الأرض دون أن يكون داخل البالون شخص لهذه العمليات؛ هذا البالون كان نتيجة للبحث التجريبي الذي قام به هيدراك وروبير بيروه في سنة 1927 - ويطلقون في فرنسا في كل يوم حوالي ثمانية من هذه البالونات كما أنهم يطلقون عدداً آخر من الباخرة المعروفة باسم الكاري ماريه الفرنسية المستعملة للأرصاد الجوية في المحيط الأطلانطيقي
الموضوع الثالث:
استطعت في سنة 1931 لأسباب خاصة بدراسة
توزيع جسيمات من طمي النيل داخل الماء أن أضع
طريقة لتسجيل فترات سقوط كرة أو كرات داخل
الماء أو غيوم من الطمي لأقرب 10001 من الثانية
بتحويل حركة الكرات أو الحالة الطميية إلى حالة
كهربائية باستعمال العين الكهربائية؛ وقد أمكنني أن
أسجل فعلاً هذه الحوادث وأمثالها على ورق حساس
وفي العام الماضي توصلت لوضع طريقة لمعرفة وتسجيل منسوب النيل وعمق النيل وكمية الطمي المحمولة بمياهه مهما كان بعد المنطقة المراد دراستها عن مكتب رئيسي بالقاهرة مثلاً، وقد اشترك معي في هذا البحث العام الماضي روبير بيروه مخترع البالون المتقدم الذكر
هذه أمثلة مما بلغه اليوم العلم التجريبي وما أصبح عليه من قوة
ولا يقتصر العلم التجريبي اليوم على دراسة المظاهر الطبيعية أو على اختراع الأجهزة. بل يضع هذه المظاهر تحت عوامل وظروف جديدة. مثلاً نسلط على الماء تياراً كهربائياً فنحلله إلى عنصريه الأوكسجين والأيدروجين فنخلع عن الماء برقعه، وبعد أن كان يظهر للعين كأنه مادة واحدة يتضح أنه مركب من غازين، ونستقصي طبيعة الكهرباء وحقيقتها بأن نجعلها تخترق أنبوبة مفرغة من الهواء، ونضع سماداً في الأرض أو طبقة جديدة من طمي النيل ونرى أي العاملين أكبر أثراً على نبات الموسم القادم. ونُغير ري الأرض، وكمية الماء ونرى تأثر ذلك على محصول الفاكهة
وهكذا بتعديل متعمد للظروف الطبيعية وتغيير في العوامل المؤثرة على الظاهرة التي يراد دراستها تزيد معرفتنا لحقائق الأشياء بدرجة عظيمة ونتعلم نتائج جديدة لا سبيل لمعرفتها بانتظار الأيام والظروف. وهذا ما نسميه في العلم التجريبي الدراسة النوعية على أن أهم ما في العلم التجريبي هو الدراسة المقياسية كلنا يعلم أنه لتقليل حجم غاز مثلاً يجب أن نضغطه ولكن الباحث يريد أن يعرف القانون الكمي الخاص بهذا التغيير وتراه عندما ينتهي من وضع هذا القانون الذي يربط الحجم بالضغط يعتبر الحرارة كعامل ثالث فيضع قانوناً أعمم للثلاثة عوامل الحجم والضغط والحرارة - كذلك يدرسون عدديا العلاقة بين التيار الكهربائي والضغط الكهربائي في الأنابيب المضخمة في محطات الاستقبال المستعملة في الراديو وهكذا أمثلة عديدة لدراسة الكميات
وإنما نذكر ذلك لما للدراسة الكمية والعددية من أثر في الاكتشاف فإنها لا تؤدي في بعض الأحيان لدراسة الظاهرة التي يراد دراستها فقط بل تؤدي إلى اكتشاف ظواهر جديدة كان لا يقصد الباحث اكتشافها. وطبيعي أني سألجأ في كتاباتي لسرد أمثلة من هذه الاكتشافات التي كان بعضها وليد الصدفة والتي قدمت معارفنا لحد كبير
أما المنبع الرابع للعلماء المشتغلين فهو التعمق العقلي في حقائق الأشياء تعمقا زاد لدرجة قصوى في العلوم الحديثة، وقد أصبحنا لا نكتفي اليوم بأن نكتشف القوانين وندعها منفردة بل نجمعها في قوانين قليلة بحيث أنه بأقل الفروض نحاول أن نفهم عددا كبيرا من الحقائق. ولعل القانون النيوتني للجاذبية خير مثل أقدمه، فهو قانون يجمع في معادلة واحدة قوانين كوبرنيك وجاليليو وكبلير وهو الذي تناوله أخيراً إينشتناين باعتبارات جديدة وجديرة أن نتحدث عنها في المقالات القادمة.
ومن السهل أن ندرك الآن أنه بمثل هذه المنابع الأربعة يصل العلماء إلى نتائج تختلف عن النتائج التي نصل لها بتجاربنا اليومية ومن هنا اختلفت صورة العالم عن الصورة التي رسمتها لنا حياتنا العادية.
فإذا ذكرنا الحركة البرونية ذكرنا بران ونجد اسم أنيشتاين بجانب النسبية والكتلة، ولا يمكن أن نذكر الإلكترون دون أن نقرنه بأسماء ولسون والدوق موريس دي بروي ومليكان واستون دمبلر وأخيراً شيخ العلماء تومسون وإذا ذكرنا البلورات ذكرنا دباي وبراج وشيرر ولوي وإذا وصلنا للنشاط الإشعاعي وجهنا التحية لبكارل ومدام كيري ورثرفورد، جيجر وسودي، وفي الأثوم يذكرنا دواماً وثرفورد وبوهر وسمرفيلد الكبير وستارك وزيمان وبولي، وفي الحرارة النوعية نكرر أسماء إينشتاين ودباي ولندمان، وفي التبادل الضوئي الكهربائي نحيي مرة أخرى العالم إينشتاين ومليكان وموريس دي يروي وهنت
وفي علاقة المغناطيس ونظرية الكم تكاتف الكثيرون مما لا يسع المجال ذكر أسمائهم جميعا، وأخيراً تم بناء آخر مرحلة نعرفها للهيكل الطبيعي بل تم آخر طلاء للصورة الجديدة بعملين كبيرين.
الأول الميكانيكا الموجبة وما توحي به من فكرة جديدة لمؤسسها لويس بروي ثم شرودنجر
وهايزنبرج وبورن وجاردان وديراك. الثاني الإحصاء الجديد لواضعيه بوز وفرمي، والأخير حاز جائزة نوبل في ديسمبر الماضي
هؤلاء هم بناؤا الهيكل الجديد للعالم الذي سأستعرضه للقارئ ما استطعت بالرجوع لأصول الاكتشافات نفسها وتبسيط الموضوع ما أمكن، وسأبذل كل ما أستطيعه من مجهود لنتجول معا في العالم الجديد ولنفهم الصورة الجديدة، وكل رجائي أن يكون فيما أذكره فائدة لعدد كبير من قراء العربية.
محمد محمود غالي
دكتواره الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
رسالة الفن
الجمال المصري القديم في النحت
للدكتور أحمد موسى
(سل من شئت من المصريين عن تاريخ مصر الفني، وعما في تراث الأجداد من مميزات، وعن الناحية الجميلة الممتعة فيه؛ بل سل أغلبية الناس في مصر ممن زار أهرام سقارة، وممن تطرف في حب مشاهدة الآثار المصرية وسافر إلى الأقصر، وشاهد معبد الكرنك وطيبة ووادي الملوك والملكات، وتمثال ممنون. . . سل كل هؤلاء عما شاهدوه وعما استفادوه، وعن ناحية الجمال فيما عاينوه، فلا تسمع إلاّ تخبطاً يكاد لا يختلف عما تسمعه من أمي يعيش بجوار هذه الآثار
ثم شاهد مدينة القاهرة - على اعتبارها عاصمة القطر وأهم مدينة فيه - وما فيها من ضروب الخروج على أبسط مبادئ الذوق العام واخطر في أحسن شوارعها يستوقفك شذوذ الانسجام في مبانيها، وظاهرة انحطاط الذوق في كل ما فيها. ثم تفلسف قليلاً لمعرفة السبب في ذلك تجده ولا شك ينحصر في جهل الناس معنى الجمال، ومعنى الذوق، ومعنى الفن. وهم في ذلك سواء، يستوي الجاهل مع العالم، والفقير مع الغني
بيوت عالية شاهقة، وأخرى واطئة حقيرة، كلها متجاورة. وإذا صادفت عشر عمارات كبار الواحدة ملتصقة بالأخرى، ترى لكل منها شكلاً ولكن منها منهجاً؛ كل هذا بجانب دكاكين كتب على أعلى مداخلها باللغة الفرنسية مرة وبالإيطالية أخرى وبالأرمنية ثالثة، دكاكين كتب في أعلى مداخلها بالعبرية حيناً وبالإغريقية حيناً آخر، كما تصادفك أخرى كتب عليها بالعربية لغة الوطن، لغة البلاد!
تأمل كل هذا. وتأمل بعض الناس وهم يتهافتون على شراء تماثيل من الجص الرخيص، تماثيل لا تمت للفن بصلة وتسجل على مشتريها قلة الذوق وعدم الفهم والجهل بأبسط مظاهر الجمال تأمل كل هذا ثم عرج على آثار الأقدمين ترها منسجمة كلها من طراز واحد سمي الطراز المصري القديم، له طابع وله انسجام وله أثره في فنون الغير، يعطيك صفته دون حاجة إلى دقة الفحص ودون حاجة إلى سابق الدرس.
كل هذا لأن الذين قاموا بالعمل الفني كانوا من المصريين الصميمين لم يكن لهم وسيلة
للتهريج أو الدجل، كما أن الذين أشرفوا عليهم وعملوا على تشجيعهم كانوا من أبناء البلاد
بهذا التمهيد بدأنا مقالنا الأول عن الفن المصري على صفحات (الرسالة) ومنه نرى أن تاريخ الفن قد سجل للمصريين الأقدمين ذوقاً عظيماً ووحدة فنية ظاهرة لكل متأمل.
وإذا كنا اليوم نكتب عن الجمال المصري القديم، فإننا نريد بذلك الكتابة في الفن البحت، وليس في تاريخ الفن، بالقسط الذي اعتدنا أن نتناول به سابق الأبحاث.
ولا يكاد يختلف اثنان في تقدير الفن المصري القديم وخلود عظمته بل والتأكد من أنه أصل الفنون جميعاً، أثر فيها إلى حد بعيد جعل من علماء الفن والآثار من يشتغل بتحديد الصلة بين الفن المصري وبين ما جاء بعده من فنون الإغريق وغير الإغريق؛ فأخذوا يقولون بأن الإغريق هم أول من اقتبس من المصريين، كما أخذوا يدللون على ذلك بمقارنات قياسية بين تصميم المعابد المصرية ونظيرها عند الإغريق، كما أنهم قارنوا بين منحوتات المصريين ومنحوتات الإغريق في أول عهدهم، ثم تراهم يعرجون بعدئذ على قواعد غاية في الدقة تؤكد صدق قولهم، منها تناسب الأعضاء وتشابه المجموع الكلي وتناظر الإنشاء الشكلي.
وكل هذا قد يكون صحيحاً غاية الصحة، ولكن الذي يجب علينا أن نعلمه هو أن الفن المصري فن مبتكر، بدأ ونما وازدهر ثم انحط واندثر دون أن يصل في مرحلة من مراحله إلى المثل الأعلى بمعناه الغني؛ لأنه لم يمثل الحقيقة تمثيلاً يدل على التقليد البحت ولا جعل من الحقيقة ملهماً للخيال السامي، ولا اتخذ منها ما يرتفع بالتصوير الفني إلى درجة الروعة.
كان هذا ولا يزال معدوداً من القصور الحتمي الذي لم يكن للتخلص منه بد، لأنه نجم عن طبيعة البلاد المصرية ونفسية الشعب، إلى جانب بساطة الطبيعة وصفو السماء وسهولة العيش. لذلك ومع أن الفن المصري قطع مرحلة تبلغ ثمانية أضعاف المرحلة الزمنية التي استغرقها الفن الإغريقي؛ فإنه للأسباب الطبيعية المذكورة لم يصل إلى ما وصل إليه الإغريق.
وإذا كنا لا نزال نذكر ما قلناه عن بعض منحوتات أكروبوليس أثينا ومعبد بارتنون وما كانت عليه تلك القطع الخالدة التي مثلت الحياة أروع تمثيل، لأنها وصلت إلى أقصى ما
يمكن أن يصل إليه الفن إطلاقاً، أمكننا أن نعرف بالمقارنة مدى ما وصل إليه المصريون في هذا المضمار معرفة تقرب إلى الحقيقة العلمية.
ولعله جدير بالذكر أن نوضح شيئاً عن الكيفية التي سار عليها المصرييون في تلوين منحوتاتهم، بل وكل ما تركوه بمقابرهم وأهرامهم ومعابدهم من غير المنحوتات بألوان معدنية وصناعية اتخذوا بعضها من الأرض.
حصل هذا التلوين عندما كانت منحوتاتهم من الحجر الجيري أو الرملي؛ أما عندما كانت من حجر الجرانيت الوردي أو الأسمر أو حجر البازلت أو السربنتين فقد تركت بدون تكوين اكتفاء باللون الطبيعي.
على أنه قد وجدت تماثيل خشبية أو حجرية قابلة لامتصاص الألوان ولكنها تبدو كما لو كانت غير ملونة، وهذا في غالب الأحيان لزوال اللون منها أو لأنها تركت قبل تلوينها لظروف طارئة.
هذا بيان لابد من إيضاحه قبل تأمل النحت المصري الذي يمثل جمال المرأة المصرية على اعتبارها ممثل الجمال الإنساني غالباً. وإذا كان الجمال في جوهره متلخصا في تناسب التكوين وانسجام المظهر، فإن قياس الجمال رهين بالزمان والمكان، كما أنه راجع إلى نفسية الحاكم وبيئته وثقافته ومدى تأثره.
ولذلك فلا يهمنا في القرن العشرين أن نقارن بين جمال المرأة المصرية وجمال غيرها، وإنما يهمنا أن نتخذ من آثار الأقدمين وسيلة لفهم الجمال المصري القديم وفيم كان منحصراً وكيف كان تعبير الفنان المصري عنه.
وبالنظر إلى أن تاريخ الفن المصري قد استغرق قروناً، فإنا سنحاول تأمل الإنتاج الفني في هذا المجال تأملاً تاريخيا إلى جانب التأمل الفني الذي يمهد لنا سبيل التقدير الإستيتيكي.
فإذا تأملنا رأس (نفريت) التي يرجع تاريخ صنع التمثال الخاص بها إلى أقدم الأسرات، رأينا أن ملامح الوجه تدل على النعمة والبعد عن الكفاح مع توافر النبل، لا سيما إذا راعينا أن هذا من أقدم التماثيل المصرية التي تمثل جمال المرأة. أنظر إلى العينين والحاجبين وإلى الطريقة التي اتبعها المثال في التأنق لإخراجها بغاية النظام والعناية. ثم تأمل الطريقة التي اتبعت في تصفيف الشعر وقصه عند الكتفين وتثبيته من أعلى بطوق
من الذهب محلى بنقوش له الطابع المصري. كما تغطي العنق بحلية زادته جمالاً وزانت الصدر بما فيها من ألوان وزخارف. أما المميز الخاص الذي انطبع على الوجه فهو أميل إلى الصمت والسكون من إلى الحياة والحركة. ولا نزال نرى الكثيرات من المصريات على جانب مماثل لهذا الجمال. وربما أضيف هنا أني أردت منذ حين التوفيق بين الجمال المصري القديم والجمال المصري المعاصر، وحاولت عمل المقارنات الدقيقة، إلا أني للأسف صادفت مصاعب، منها عدم إمكان تصوير السيدات اللواتي جمعن إلى جمالهن طابع الجمال القديم
أما تمثال (حرم العمدة) وهو مصنوع من الخشب فقد أعطانا فكرة صحيحة عن قوام المرأة في تلك الحقبة إلى الوقت الذي فيه نستطيع بمقارنة الوجه من جانبه ومن أمامه أن نعرف شكل الأنف المصري وطريقة تكوينه واستقامته. أنظر إلى الفم وقارنه بفم (نفريت) تر أن هذا الأخير اكتسب شيئاً من الحياة بالنظر إلى تلك الابتسامة الهادئة التي ارتسمت عليه. والغريب في الشعر هنا أنه ليس مجدولاً كشعر نفريت كما أنه تميز بتدرج نهايته السفلى، فكان أشبه بثلاث طبقات تعلو الواحدة مها الأخرى، فزادته رونقاً. نعم كان التمثال الأول ملوناً فظهر الكحل في العينين على حين كان الثاني من الخشب دون ألوان ظاهرة. أما التشابه بين السيدتين فظاهر من حيث امتلاء الوجه واستدارته.
أما والدة إخناتون فهي على هيئة عجيبة لها طابع مميز على غاية القوة، كما يبدو لأول وهلة أن لونها كان أسمر مما يؤيد أنها كانت من مصر العليا. وعلى ما يظهر كان الفنان حريصاً على إخراج الوجه مليئاً بالحياة، فتكاد العينان تنطقان. وقد بدا الفم غريباً في تكوينه وفيما يدل عليه. أنظر إلى استدارة الخط الفاصل بين الشفتين واتجاهه إلى أسفل تر أن هذا الوجه لم يكن فقط ليعطي الناظر هيئة صاحبة التمثال؛ وإنما عبر خير تعبير عن النفسية وما هو دفين فيها. ولعل غطاء الرأس بالسهم المثبت في وسطه يذكرنا جيداً بالخوذات الحربية الألمانية قبل الحرب
وتمثال موتنوزميت أم حورمحب (ش 4) يعطي مثلاً سليما لنفس الجمال، مع ملاحظة أن الرأس أصبح مزيناً بغطاء ذي نقوش رفيعة توسطتها أعلى الجبين الأفعى المصرية.
وإذا تأملنا بشيء من الدقة التمثالين (5، 6) وجدنا فيهما تشابهاً شديداً من حيث التكوين
المجموعي إلى جانب التفاصيل الإنشائية؛ فأنت ترى أن القوام متشابه وأن وضع اليد اليسرى كان على الصدر بفارق بسيط، كما أن اليد اليمنى ممتدة في كليهما إلى أسفل، وتقدمت الساق اليسرى في كليهما إلى الأمام. نعم نجد الشعر مجدولاً بشكل مخالف في كليهما، كما أنه مختلف من حيث التصفيف وطريقة القص. أما القوام فهو المثل الأعلى لوقتنا الحاضر، كله رشاقة وكله جمال. ومن الغريب أن نرى أن أحدث طريقة لصف الشعر هي إظهار الأذنين، ونجد أن المرأة المصرية قد اتبعت هذه الطريقة منذ خمسة وعشرين قرناً.
أما تمثال أوابرا (ش 7) فهو يمثل امرأة جلست وقد سرت جسمها بملابسها الرقيقة بطريقة استطاع الفنان أن يظهرها في أجمل وأروع هيئة. تأمل الذراعين واتكاءهما على الركبتين ثم لاحظ النبل الذي ارتسم على الوجه، وانظر إلي خط التحديد للتمثال كله، وفكر ولو قليلاً في الكيفية التي استطاع بها الفنان المصري التعبير عن الجمال.
نلاحظ طبعاً كبر الأذن، كما نلاحظ صمت التمثال وركونه إلى السكون؛ ولكن هذا لا يمنع مطلقاً من الإعجاب في أجلى مظاهره بالكيفية التي سار عليها الفن في عصر يبعد عن عصرنا بألفين وخمسمائة سنة.
والخلاصة أننا نرى أن الجمال المصري القديم كان نبيلاً عريقاً خالياً من الدخيل، صافياً نقيّاً، غير ممتزج بغيره، جمع بين الصفة المميزة وبين الطبيعة البريئة الوديعة.
والسلوة الوحيدة التي نتعزى بها، هي أننا نرجو أن نحسن الفهم على الأقل لفن تركه الأجداد ولم نعن بدراسته والعمل على نشره حتى بين أبناء البلاد.
وإذا كنا ندين بنتائج الحفريات ومعرفة اللغة الهيروغليفية لعلماء الأجانب، فإننا على الأقل يجب أن نعني بفهم الفن المصري ودراسته، حتى نستطيع أن نخرج عن المباهاة بما في بلادنا من آثار وندخل دور الاستمتاع بها، فتكون لنا روح وطنية صرفة لها أثرها قفي توجيهنا لمجاراة الشعوب الناهضة.
هذا مقال لا يخرج عن كونه احتيالا على القارئ لتفهيمه صفحة رائعة من صفحات آثار أجداده بطريقة التكلم عن الجمال في أسلوب بسيط بعيد عن الجفاف العلمي.
احمد موسى
القصص
قصة سورية
الضَّرَّتان
للسيدة وداد سكاكيني
قالت أَمُّونة لصديقتها هدى: أرأيت حسد الناس لصداقتنا، ولغطهم في تأويلها وإحاطتها بالأقاويل؟ إنهم لا يودون أن يرونا كالأختين فيغيظهم أن يشهدوا صديقتين ألفت بينهما براءة المودة وطول المصاحبة وتقارب السن وحسن الجوار، وإن شاؤا فبيننا وشائج القربى تحكم الصلة وتهون اللقاء. أليس زوجك ابن خالتي؟ أمي اليوم مكان أمه، ولئن غاب عنه وجه الوالدة فإنه يراه في الخالة
لقد بت البارحة قلقة عليك متألمة لألمك، إذ تركتك تشكين صداعاً أليماً فأصبحت أسأل الله لك الشفاء.
كان الصداع الذي ألم بهدى نذير حمى طرحتها في السرير شهراً، وكانت أمونة لرفيقتها خلال المرض مواسية وممرضة، فلازمتها برضى أمها وبقيت عندها حتى دخلت دور النقاهة فعظمت يدها عند هدى وأكبرت صداقتها ومروءتها، وخلطت حياتها بحياة أًمُّونة حتى كانتا لا تأكلان أكلة شهية إلا معاً ولا تفترقان إلا غراراً. كل هذا والزوج يسبغ النعمة على زوجته هدى، ويغمرها بالخير إذ مده الله بتجارة رابحة وبركة راجحة. وقد أكرم أمونة ابنة خالته وقدم لها بعض الهدايا جزاء معروفها وإخلاصها
كان طاهر زوج هدى كهلاً وقوراً، أعز شيء لديه في حياته الدين، وألذ عمل عنده القيام بواجباته وتوفير السعادة لبيته. وقد عرف فيه الناس التعفف والاستقامة والبعد عن الغبن والغش فعجبوا كلهم من اسمه الصادق، فكانوا يقولون عنه: طاهر الاسم، وطاهر الذمة والضمير؛ ولكن الله لم يتم نعمته على الزوجين، فقد مر على قرانهما خمس سنوات ولم يرزقا ولداً، يوثق ما بينهما برباط أكيد، ويملأ منزلهما أنساً ومرحاً، فكانت هدى تحس الأمومة صارخة في غريزتها، فتشم عبقها من أطفال الناس حتى تهتاج طبيعتها وتشتد حيرتها. بيد أنها ترتد إلى عقلها بعد قليل فتكبت شعورها وتكفكف حدتها خشية أن يلحظها
زوجها إذ تحسب في سرها أنها عقيم. وكثيراً ما أفضت بدخيلتها لصديقتها أمونة، وشكت إليها لهفتها على الولد وأنها تتمنى أن تشتريه بعينيها، وتفتديه بروحها، فكانت تجيبها: لا تيئسي يا صديقتي. إن الله هو الرزاق الكريم. ولما رأتها ملحفةً في طلبها غدت بها على الأولياء تستجير بهم وتعدهم بالنذور إذا رزقت ولداً. وقد استغاثت بالمشايخ الصالحين فقرءوا لها العزائم والتعاويذ، وحرقوا أمامها البخور، وحملوها الحُجُب والآيات فما أجدت عليها شيئاً لأن الله لم يشأ أن يجعلها ولوداً
كل هذا جرى دون أن يدري زوجها به، فلقد كان متزمتاً متديناً لا يسمح لها بمغادرة البيت إلا قليلاً أو مع ابنة خالته التي ألفها واطمأن إلى أخلاقها من طول مقامها عنده وغشيانها داره وصحبتها لزوجه. وقد حلف بأن تكون طالقاً إن ذهبت تطب للنسل. فما خالفت له أمراً لأنها كانت تطيعه وتحبه برغم تفاوت السن بينهما، فأحست الأمان على حياتها الزوجية منذ صدف بها عن المعالجة واستسلمت للقدر لعل الله يرزقها ولداً
كان طاهر تاجراً غنياً جمع ثروته بعد الحرب الكبرى، واستطاع بما له الضئيل يومئذ وبماله من معاذير أن ينجو من الجندية؛ فلما توفر على تجارته وربحت أرادته أمه على الزواج، فقد كاد ينهد للكهولة ولم تفرح بزواجه. فأطاع وفرحت، ثم ماتت أمه فبقي وحيداً مع زوجته الحسناء. ومن ذلك الحين توثقت عرى الصداقة بينها وبين ابنه خالته أمونة التي كانت مخطوبة لموظف كبير، ولكنها مترددة بين قبوله ورفضه
مضى على زواج طاهر خمس سنين، بدأ في آخرها يمل حياته الرتيبة مع هدى ويميل إلى تركها يوماً بعد يوم مع ابنة خالته أمونة، إذ دب في نفسه الخوف من الفناء قبل أن تظهر فيه عواطف الأبوة وطمع في خلود الذكر من بعد موته بالولد الذي يدل عليه وضنت به هدى، فصار يرى بيته صامتاً جامداً لا يُهز فيه سرير ولا يناغم طفل، ولا تردد في حجراته لفظة (بابا) فضاق عليه البيت بما رحب وكره الحياة من أجل ذلك، فأخذ يشنأ زوجته ويحتويها ويتبرم بحديثها ويتلكأ في طلباتها. وقد خيل إليه الوهم والهم أنها عاقر وأن حياته معها جديبة، مع أنه يعرف في نفسه وفي ضميره أنه هو العقيم، فتذكر شبابه الطائش وتعرضه باستهتاره لمرض شائن، تاب بعد شفائه منه توبة نصوحاً ولكنه أورثه داء عقاماً حرمه النسل
كان يثور على زوجه هدى في سره لعقمها الموهوم، ثم يعود في نفسه إلى الهمود والجمود حين يرى هذه النفس الباغية هدفاً لتلك الثورة
وبينا هو مطرق ليلة تلقاء الموقد اللاهب والوقت شتاء، تعصف فيه الرياح العاتية التي صدته عن السمر في دار صديقه مرت أمامه قطته (فلة) التي يعطف عليها ويختصها بطيب الآكال، فلما حاذته تمطت ونفشت شعرها، فأخذ يعبث به ويربت بكفه على ظهرها، فلمعت إذ ذاك في خاطره صور وأفكار، ورأى القطة في نظره الحانق خيراً من زوجته العقيم، هذه شجرة بلا ثمر، وتلك ولود تملأ البيت كل عام بأولادها. وفيما كان يقلب الخواطر في ذهنه تلفت إلى بيته فرآه ساكتاً ساكناً إلا من صوت زوجته هدى وابنة خالته أُمُّونه وهما في فورة اللعب بالبرجيس وغمرة الحماسة للغلاب، ومن مواء القطة بين الفترة والفترة، فطغت عليه الهواجس وشعر بكرهٍ لامرأته، ونفرة منها، فأخذ يميل بوجهه عنها ويوجهه إلى أمونة فيقارن بينها وبين زوجته التي غاض منها معين الجمال في تلك الليلة في نظره فتتخالس عيناه نظرات الإعجاب بابنة خالته، ثم جال طرفه الرغيب في جسمها الريان ووجهها الأبيض الجاذب وشعرها الفاحم المتدلي على كتفيها اللتين انحدرت منهما يدان كأنهما ركبتا في دمية من المرمر، فانشرح صدره وتمدد على أريكة بإزاء المدفأة ثم لوى ذراعه تحت رأسه فأسند فوده عليه وأخذ يتأمل في ساقي أمونة الممدودتين إلى الأرض وقد امتلأتا صقالاً وانسجاماً وأحيطتا بظلال من النعومة والجمال. ولما أطال التحديق فيها وهي جالسة تجاه زوجه لاهية بلعبة البرجيس رأى نفسه وجهاً لوجه أمام المرأة التي يتمناها له زوجه ثانية، فارتد ببصره عنه بعد فترة من اللعب لكيلا تلمح نظراته الخاطفة الماكرة؛ أما قلبه فبقي يرنو ويشتهي فقال في ضميره: تُرى أي بأس على إن تزوجت أمونة، وقد رفضت خطيبها السكير المقامر فيكون لي زوجان وأكون كجاري أبي عادل الذي تزوج اثنتين وهو معتزم هذه الأيام أن يبني بالثالثة. وكثيراً ما حدثني من باب دكانه عن حياته الزوجية فقال: ما أحلى الزوجتين يا طاهر! هما ريحانتان للشميم، لكل ليلة ريحانة
فكر في هذا طاهر. ولعب ذلك الريحان على انفه في وهمه كأنه يد الشيطان، ورده في نفسه صوت أمونة، وهي تضحك وتصفق بيديها، وتضع حجراً من حجارة البرجيس على
الآخر وترفع صوتها قائلة لهدى:
- خذي فنجان القهوة. مغلوبة. مغلوبة. . .
فتنبه طاهر فور انتهاء (الدست) بين اللاعبتين وجمع أشتات فكره من دكانه، وهو يحاور جاره، ومن ملاحة أمونة، ومن الأولاد الذين كان يحلم في خياله أن يأتوه منها فقال:
- يا هُدُو! وكان يناديها بهذا اللفظ الموجز كلما أراد العبث والدعابة - ماذا ترين وأنا كهل غني ولا وارث لي منك؟ فهل عليك من حرج إذا تزوجت امرأة ولوداً وأنت تبقين سيدة البيت كلنا نأتمر بأمرك ونهتدي بهداك؟
فما سمعت هدى كلامه حتى فغرت فاها وانتفضت كأنها صعقت، فامتقع لونها وطغى عليها دمع غزير صور على خديها معاني كثيرة من الذلة والخيبة والبغتة والفشل. وكان بعض الدمع يساقط على خدها وبعضه تتلقاه بمنديل في كفها أو تمسحه بكمها دون وعي حتى نشجت أعصابها وكاد يصيبها الغشيان فارتمت بوجهها على صدر صديقتها أمونة التي وجمت وبهتت. وانتابها عي وجمود فلم تنطق بذات شفة وإنما غلب عليها التأثر والبكاء مشاركة لرفيقتها
لقد كانت أمونة ذات قلب سليم حيال ابن خالتها فلم تعلم أنها ستكون الضرة المرة، وما عرفت أنها ستنزل على صديقتها كالنقمة والبلوى، بل لم تشعر في يوم من الأيام أن فلكها يدور هذه الدورة فيبدل الصداقة عداوة والمرفقة الرفيقة إلى مفارقة قاهرة.
لقد حمل طاهر إلى ابنة خالته مهراً غالياً، وهدايا كثيرة ثمينة، وحمل خالته على قبوله صهراً فما صدت ولا ردت، وإنما وجدت في إقدامه على الزواج مرة ثانية عقلاً وحكمة وصوناً لثروته من الضياع، وعرفت ن ابنتها أمونة ستكون ولوداً مثلها فلقد أنجبت هي ثلاثة من البنين والبنات وهي جدة لأولاد أحدهم. فأبت بنتها هذا الزواج وحاولت التمرد والعصيان إذ استحمقت نفسها واحتقرت أن تكون ضرة لرفيقتها فماذا يقال عنها؟ أية سمعة ستكون لها؟ وأية مضغة ستكون في أفواه الناس؟ ولكنها برغم كل مقاومة ومعاندة أفلحت أمها في إكراهها على الزواج فقد سوست في عقلها كالشيطان، وزينت لها حياة الثراء والرخاء عند ابن خالتها. وأنذرتها بالبوار والكساد إن أصرت على رفضه وآثرت العناس. فتنازعها عاملان: نزوعها إلى الزواج كيف اتفق شأنه بعد إخفاقها في خطبتها للموظف،
وحرصها على مودة صديقتها والوفاء لها. فغلبها على أمرها ما خلقت له وهو الزواج وفي النفس ما فيها من خوف وعذاب، فأطاعت أمها على مضض وعقد لها على ابن خالتها وزفت إليه.
ومضى زمن قصير فإذا هدى تنقلب إلى امرأة شرسة طاغية. كلما لسعتها الغيرة ثارت بأوعية البيت وآنية الطعام فهشمتها وداستها بقدميها، ولعنت الرجال، ونقمت على الصداقة التي طعنتها في الصميم. وإذا جاء طاهر ليبيت عندها ليلتها الخاصة تنكرت له وتجهَّمت وانكفأت إلى عزلتها الأليمة، ولا زال قطعاً من الليل يتملقها ويترضاها وهي تتميز من الغيظ، وتتمزق من القهر، حتى تنفجر باكية فيتركها ريثما تهدأ ثم ينام، وبقي على هذه الحال بضعة أشهر حتى قطع عنها ليلتها وجعلها كل أسبوع مرة. وبعد سنة صار لا يزورها إلا لماماً. وكم كانت الغيرة تنغص عيشها كلما فكرت في ضرتها وخيانتها وزهادة زوجها فيها وعزوفه عنها
تصرمت خمسة أعوام على زواجه الجديد، فلم تلد له أمونة ولداً، فثار عليها في نفسه ثورته على هدى. ثم فكر كثيراً، وتذكر ملياً فرد إلى نفسه وأدرك إخفاقه في النسل، فاستقر في ظنه أنه هو العقيم، لا هاتان المرأتان المظلومتان. غير أن خوفه على اتهام نفسه وامتهانها جعل في فكره منطقاً فاسداً صور له براءتها فأحدث له شكا خرج منه إلى أن زوجته الثانية عاقر كالأولى، فقص هذا على جاره الأدنى في السوق وكان يستخلصه لنفسه، ويستشيره في شؤونه. فقال له: لقد تزوجت الثانية حسبما أشرت فلم تلد، وأنا رجل غني، كما تعلم، فماذا أفعل؟ فأشار عليه بالزوجة الثالثة وتطليق الأولى
في مساء ذلك اليوم عاد إلى بيته الثاني، وقال لابنة خالته فيما قال من حديث السمر أمام المدفأ في الشتاء: أترين يا أمُو - وصار يخاطبها بهذا اللفظ المقتضب كما كان ينادي زوجه الأولى - كيف أنك لم تحملي بولد يرثني، وقد صرت إلى حال من القنوط تمنيت معها الموت. وقد أشاروا عليّ بالزواج لعل حظي من الولد يوافيني من الثالثة، على أن أطلق لك الضرة الكريهة التي تبغضك وتطعن فيك وتدعو عليك بالموت.
فما سمعت أمونة هذا الكلام حتى مرت في طور صديقتها تلك الليلة الماطرة قبل خمس سنين، فاصفرت وبكت وانقضت على ابن خالتها كالمجنونة وصاحت به:
- ياخائن، ياعبد الشهوات! أنت العاقر الذي كنت في شبابك فاسقاً فأصبت بالعقم ولم تنسل فما ذنبنا نحن؟ وهمت بضربه بقطعة من الحطب كانت في جانب الموقد
جُنَّ جنون طاهر من هول الفضيحة، وفحش الشتيمة، واجتراء زوجته وابنة خالته على إهانته وضربه فقال لها بمكر وخبث:
- لا تصدقي يا أَمُّونة إنن أمزح لأرى إن كنت تحبينني أم لا؟
أما أمونة فقد شعرت بنيته السيئة، وأدركت ما يضمر في طويته لها فهاترته وقامت عليه ناقمة ثائرة، والله يعلم كيف مضت عليها تلك الليلة المشئومة. فلما طلع النهار دلفت أمونة إلى بيت صديقتها القديمة وضرتها المهجورة، وهي على استحياء من نفسها تتقدم رجلاً وتؤخر أخرى حتى كادت تتراجع القهقري وتتردد في مواجه رفيقتها بالأمس، لولا أن عادت إليها بجرأة، وثارت فيها الغيرة الجديدة والنقمة على زوجها، فتنهدت وتشجعت وطرقت باب هدى طرقات خفيفة فردت عليها بفتحه. وما إن كشفت أمونة عن وجهها المحجوب حتى وقفت الأولى جامدةً كالصنم، وشررت ضرتها بعينين كالحربتين، فارتمت أمونة على قدمي هدى وحاولت تقبيلها، ثم قامت إليها بالعناق والتقبيل وبالبكاء والنحيب، فلم يكن من هدى إلا أن أبدت عجبها من مظهر ضرتها الكئيب، وسألتها على كره منها:
- هل من بلية حلت بطاهر؟
- لعنة الله عليه! إنه يجني علىَّ وعليك. ليت عزرائيل ينقذنا منه قبل أن ينفذ إرادته الجديدة.
- وماذا يريد؟
- فاهتزت أمونة وارتجفت يداها وتلعثمت وكاد يغمى عليها لولا أن تداركتها هدى واستدرجتها إلى الجواب. فعلمت منها أن طاهراً يريد الزواج، وشاعت حينئذ الشماتة على وجهها ووضحت السخرية في لفتاتها وحركاتها، فسلقت أمونة بلسان حاد أصاب منها مقتلاً كأنه الرصاص. وضحكت أمامها لتزيد في نكايتها وإهانتها فشعرت أمونة بكبريائها المحطمة، وضعضعتها الشماتة ولكنها صمدت للنهاية وتجالدت فبلعت ريقها وبلت حلقها الجاف من طول الكلام والبكاء، ثم أخذت تستعطف هدى بصوت ذليل خفيض والتمست صفحها. فلما رقت ولانت أفضت إليها بنيات زوجهما، وطفقت تستعديها عليه وتستفزها
للثأر منه بحرارة الموتور، وجلستا تفكران مطرقتين كأنهما في بُحران، وتقدران ما ينبغي لهما من الحيطة والحذر من وقوع الكارثة. وسرعان ما زال من هدى حقدها على أمونة، فتصافتا وحلفتا بالله جهد الإيمان لتعودان كما كانتا أختين صديقتين. وافترقتا على أمر واحد، وهو السعي لدى المشايخ والسحرة لعلهما تجدان الدريئة والدواء، وقادهما البحث إلى مغربي ساحر أعطاهما شيئاً كالملح الناعم يذر على الأكل فيحدث لذائقه الخبل والشرود فاقتسمتا الثمن الباهظ ودفعتاه راضيتين
ولما جلس طاهر إلى الطعام ذرًّت له التي هو عندها ذرور الساحر، فلما أكل انقلب كالذي خامره امتعاض، وظل أياماً كلما أكل عند واحدة منهما ذرت له قليلاً من الذرور فلم يمض شهران حتى غدا كالمخبول الممرور لا يدري ما يفعل. فقال الناس: قد أصابته عتاهة وبلاهة. وقالت نساء من أهله: لعل زوجتيه سحرتاه فصار إلى حاله الوجيع. ومرًّ به زمن أغلق معه دكانه وباع ما فيها بثمن بخس، ولزم بيته لا يبرحه إلا للصلاة في الجامع. فلما ازداد به الخبال والذهول أقامت عليه زوجتاه الحجر وتسلمتا الإنفاق عليه وعادتا أختين محبتين كما كانتا، تسكنا في بيت واحد، وتسخران من ذلك الزوج الذي تراخت أوصاله، ووهنت عظامه، ودب فيه المرض والهرم، فأمنتا جانبه، واكتسبتا ثروته. ثم عاودتهما بعد حين التوبة والندامة، فأدركتهما الرحمة له والشفقة عليه واستغفرتا الله من ذنبهما. ولما قضى الزوج نحبه أدت الضرتان أو الصديقتان فريضة الحج معاً وابتهلتا إلى الله في أشرف بقعة أن يعفو عن إساءتهما وهو العفو الغفور.
وداد سكاكيني
البَريدُ الأدبيّ
في الشعر العربي
ليس بيني وبين الأستاذ علي الجارم بك إلا محض صفاء، بل له عندي
مكانة. فإذا أنا أقبلت على شعره أنظر إليه بمؤخَّر العين فإنما شعره
وحده يشغل نظري. وللأستاذ علي الجارم بك أن يعتدّ بالمعجبين
بشعره - وهم غير قليل على ما ينتهي إلى آذاننا - فيهما ما يقوله في
طريقة نظمه من يجب أن يدون تاريخ الشعر العربي تدويناً لا يعرف
الغرض
عندي أنَّ الشعر العربي المسجون في القصر الذي بناه به أمثال المتنبي والبحتري في معالجة النزع، لأن أمثال المتنبي والبحتري تركوا نوافذ القصر مغلقة يوم ماتوا. ثم جاء خلفاؤهم وأتباعهم فسمّروا خُشُب النوافذ، ففسد الهواء وضوي الشعر المسجون. إلا أنه اتفق لهذا الشعر أن تُثقب له كُوَّتان في الحائط، إحداهما على يد رجل يدعى أحمد شوقي، والأخرى على يد رجل اسمه خليل مطران. أما هذه فقد أقيم بينها وبين القصر حاجز فوُقفت على حجرة ضيقة سرعان ما أضحكت أرجاءها نسمات مقدمها من هناك في مصر ثم من أمريكة الشمالية والجنوبية. وأما تلك فقد سُدَّت فجأة ولم يبسط أحد إليها يداً، فعاد الهواء إلى فساده
ومن هذا الشعر الشاحب قصيدة ألقاها الأستاذ على الجارم بك في (حفلة تأبين المرحومين السكندري ونالينو في دار الأوبرا الملكية) يوم الجمعة الماضي (انظر الأهرام 14 - 1 - 1939) وإليك المطلع، وفيه ما فيه من (براعة الاستهلال) (حسب الدستور الأكبر المسمى بعلم البديع):
غداً في سماء العبقرية نلتقي
…
وتجتمع الأنداد بعد التفرق
أما المصراع الأول ففيه (فخر) لطيف مع شيء من (المبالغة) وأما المصراع الثاني ففيه (تأكيد) و (طباق)
وفي القصيدة ما تشاء من (محسنات معنوية ولفظية) لا يقوم مثل هذا الشعر إلا بها، لأن
لبابه يتفتت إذا خطر لك أن تقبض عليه فَمَثله مَثل الفتاة المصدورة تحمِّل وجهها ما لا يطيق من ألوان الطلاء المعروضة في جميع الحوانيت
وحسبي أن أقتطف بعض الأبيات، فليس بقارئ (الرسالة) حاجة إلى التلقين:
وأبعث في الصحراء أنّات شيّق
…
وهل تسمع الصحراء أنّات شيّق
وأعجبني رأي سليم ومنطق
…
يصول على رأي سليم ومنطق
تتقاسَمَه غرب وشرق فألّفت
…
مناقبه ما بين غرب ومشرق
ينسَّق علم الأولين مجاهداً
…
ولا خير في علمٍ إذا لم ينسًّق
تلك أمثلة على ما يسمونه (رد العجز على الصدر)، ولكن أين الفائدة من هذا الترديد؟. ثم:
ويمضي الحجا ما بين يومٍ وليلةٍ
…
كلمحة طرف أو كومضة مبرق
ذلك مثل على استعمال التراكيب المطروقة أي المبتذلات (لمحة طرف) و (ومضة مبرق). ثم:
يضيق فناء الأرض عن همة الفتى
…
ويجمع في لحد من الأرض ضيّق
انظر إلى (الطباق): (فضاء وضيق). ثم:
كأني أراك اليوم تخطب صائلاً
…
وتهدر تهدار البعير المشقشق
الشيخ الإسكندري رحمه الله كان (يهدر تهدار البعير المشقشق). انظر كيف استدرجت القافيةُ الشاعر إلى صورة أقل ما يقال فيها أنها مستكرهة. ثم:
فقل للذي يسمو لذيل غباره
…
ظلمت العتاق الشيظميات فارفق!
نعود إلى الإبل كأن الشاعر يكره أن يسلم بأنه يعيش في القرن العشرين. أما لفظة (الشيظميات) فاطلبها في المطوّلات من المعجمات و (الغريب) في ذلك الشعر مستحسن. ثم:
فقلت أرى ليثاً وليثاً تجمعا
…
وأشدق ملء العين يمشي لأشدق
وهو بيت بعض ألفاظه مأخوذة من بيت مشهور لبشر بن عوانة وهذا مستحسن أيضاً
لأمهل هنا، فإنما أرغب في أن أدلك على تداعي هذا الصنف من القريض، لأنه مختلق اختلاقاً بكدّ الذهن وقوة الذاكرة واختيار اللفظ المدوّي (والغريب أحياناً) واستعمال المحسنات اللفظية والمعنوية إلى كل ما يتصل ولأساليب المصطلح عليها للصناعة
الموقوفة. ومعنى هذا أنه بعيد عن لفظ يحصر فيه معنى الشعر كله، وهو: الإلهام
وليعذرني الأستاذ علي الجارم بك! فإنه اختار هذا الضرب من النظم وما هو بمسئول عنه. وأملي أن يأذن لي أن يجذبني ضرب آخر يكون من ذلك الضرب مكان من الضد.
بشر فارس
الأستاذ طنطاوي جوهري يتقدم إلى جائزة نوبل للسلام
عن سنة 1939
كان الأستاذ طنطاوي جوهري قد تقدم إلى أولي الأمر في مصر ليرشحوه إلى جائزة نوبل للسلام، فلم يلق أحد باله إليه. فاضطر إلى أن يتقدم بنفسه إلى لجنة هذه الجائزة بالبرلمان النرويجي، فسألت عنه وزارة الخارجية المصرية، وهذه سألت عنه وزارة المعارف العمومية. فلم تر الوزارة بداً من النظر في طلب الأستاذ وإحالة كتبه إلى عميد كلية العلوم لفحصها وإبداء رأيه فيها. والكتب المقدمة هي:(1) أحلام السياسة وكيف يتحقق السلام العام. (2) أين الإنسان، وقد تقدم به إلى مؤتمر الأجناس العام سنة 1911. (3) صورة ما كتبه بعض عظماء ملوك الشرق وجمعيات أوربا وعلمائها في هذين الكتابين. (4) أساس النظام الدولي، والموازنة بين آراء حكماء الشرق والغرب، وبين الرأي المصري الحديث. (5) نسخة منقولة من المجلة الشرقية برومة بتاريخ سنة 1911 للأستاذ سانتلانة: الدكتور في الفلسفة. (6) نسخة مما أرسله الأستاذ كرستيان جوب من لوكسنبرج مكتوباً باللغة الفرنسية إلى المؤلف، وقال إنه ملخص من كتاب (أحلام السياسة)
وهذه الكتب والرسائل تتجه كلها اتجاهاً عالياً في الدعوة إلى السلام، ونصيب الإنسانية من السعادة إذا ما رفرف عليها علمه، وسار فيها نظامه
وآخر موعد للتقدم إلى جائزة نوبل للسلام ينتهي قبل أول فبراير القادم فلا بد من البت في طلب الأستاذ قبل ذلك
جائزة نوبل للسلم
تلقينا من لجنة (نوبل) في البرلمان النرويجي بيان الشروط التي يجب توفرها للحصول على (جائزة نوبل للسلم). وقد جاء في البيان ألا تقبل الترشيحات لهذه الجائزة - التي
ستمنح في 10 ديسمبر سنة 1939 - إلا إذا قدمت إلى (لجنة نوبل للبرلمان النرويجي) من شخص له حق الترشيح قبل أول فبراير سنة 1939
والأشخاص الذين لهم حق الترشيح هم:
الأعضاء الحاليون والسابقون للجنة البرلمان النرويجي لجائزة نوبل والمستشارون الملحقون بمعهد نوبل النرويجي
أعضاء الهيئات التشريعية وأعضاء الحكومات في مختلف الدول وكذلك أعضاء الاتحاد البرلماني الدولي
أعضاء محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي
أعضاء مكتب مجلس السلم الدولي
أعضاء معهد القانون الدولي والمشتركون فيه
أساتذة الحقوق والعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة في الجامعات
الأشخاص الذين نالوا جائزة نوبل للسلم فيما قبل
وقد تمنح جائزة (نوبل للسلم) للمعاهد والجماعات
وطبقاً لأحكام المادة الثامنة من القانون الأساسي لهبة نوبل، يجب أن يكون الطلب مسبباً وأن يشفع بالمؤلفات والمستندات الأخرى المؤيدة له.
وتقضي المادة الثالثة من القانون بأنه لا يقبل أي مؤلف في المباراة يسبق نشره في الصحف
ولاستيفاء البيانات، يمكن من لهم الحق الترشيح أن يتصلوا في هذا الشأن بلجنة نوبل بالبرلمان النرويجي، وعنوانها هو:
(19 درا منسفاي - أسلو)
) (
19 ،
المجمع العلمي المصري - ملخص جلسة 9 يناير
الوشم في مصر القديمة - للمسيو كيمر
ليس لدينا براهين مطلقة عن استعمال الوشم في مصر قبل الأسرة الحادية عشرة على الرغم من كون هذا الأمر محتملاً. والمعروف هو أنه يوجد ثلاث موميات ظاهر عليها الوشم، وعدة رسوم لنساء (موشومات) يرتقين إلى عهد الإمبراطورية المتوسطة وقد عثروا على الموميات في طيبة فإحداها كشفت في سنة 1891 والأخريان في سنة 1922 ومن عهد الإمبراطورية الجديدة فما بعد عثروا على رسوم نسوية كثيرة يظهر الوشم على الأفخاذ فيها، وهو يمثل الإله باين. وكانت النساء (الموشومات) في مصر القديمة ينتسبن كلهن، على ما يظهر إلى طبقة الحظايا والراقصات والمغنيات، وفي جملة أشكال الوشم التي ترى على أبدان الأسرى الليبيين التي تشاهد في الهياكل والمدافن في عهد الإمبراطورية الجديدة، رموز تدل على الإلهة (نيت) وهي إحدى الإلاهات الليبيات، ولا يزالون يرون مثل تلك الرموز في أيامنا هذه عند بعض المصريين وسكان شمال أفريقية، فهم يغطون بالوشم أذرعهم وأيديهم
وعقب ذلك بحث لحضرة الدكتور مونرو دومين عن بعض الأمراض المصرية وعن المساعي المبذولة للوصول إلى معرفة كنهها
وبعد الجلسة العلنية عقدت اللجنة جلسة سرية لانتخاب هيئة المكتب لدورة سنة 1939 - 1940 فأسفرت النتيجة عما يلي:
الرئيس: الدكتور حسن صادق بك المدير العام للمساحة والمناجم
نائبه: الرئيس المستر لتل مدير المتحف الجيولوجي
السكرتير العام: المسيو فيات مدير متحف الآثار العربية
أمين الصندوق: المسيو كنز معاون مدير المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بمصر
لجنة النشر: معالي الشيخ مصطفى عبد الرازق بك والمسيو لوكاس والأستاذ ساماركو والدكتور رمايرهوف
برنامج المؤتمر الطبي العربي
يوم الأحد 29 يناير - (وقفة عيد الأضحى المبارك) - الساعة العاشرة صباحاً تقام حفلة
افتتاح المؤتمر بصالة الاحتفالات بالجامعة، وتؤخذ للأعضاء صورة فوتوغرافية أمام الجامعة، ثم يقصدون إلى كلية الطب حيث يفتح معرض المؤتمر
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر يقيم سعادة عبد السلام الشاذلي باشا محافظ القاهرة حفلة شاي لأعضاء المؤتمر بحدائق الحيوانات بالجيزة
وفي المساء يقيم رفعة محمد محمود باشا رئيس الوزراء مأدبة عشاء احتفاء بأعضاء المؤتمر
يوم الاثنين 30 يناير قبل الظهر تعطل أعمال المؤتمر للمعايدة، وفي الساعة الثانية بعد الظهر يقوم الأعضاء بزيارة معالم الآثار بالقاهرة، ثم يزورون مستشفى الهلال الأحمر حيث تقام لهم حفلة شاي
يوم الثلاثاء 31 يناير، الساعة الثامنة والنصف صباحاً تبحث الموضوعات الآتية بقاعة محاضرات كلية الطب وهي:
1 -
الصحة الدولية في مصر والشرق الأدنى.
2 -
جراحة الأكياس الديدانية ومضاعفات البول السكري.
3 -
التغذية والأمراض الناشئة عن سوء تدبير الغذاء.
4 -
الأمراض الزهرية.
وبعد الظهر يقوم الأعضاء بزيارة أهرام الجيزة وحفريات الجامعة، حيث يقيم لهم معالي وزير المعارف حفلة شاي في سفح الأهرام
وفي المساء تقام حفلة غنائية موسيقية ساهرة
يوم الأربعاء أول فبراير - في الصباح يستأنف بحث مسألتي جراحة الأكياس والتغذية، ثم تبحث مسائل طبية متنوعة باطنية وجراحية، وبعد ذلك تبحث مسألة توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية
وفي الساعة الثانية بعد الظهر يقوم الأعضاء بنزهة نيلية إلى القناطر الخيرية، وتقيم الجامعة حفلة شاي لهم في حدائق القناطر الخيرية.
وفي المساء تقام حفلة تمثيلية في دار الأوبرا الملكية.
يوم الخميس 2 فبراير - في الصباح تبحث الموضوعات الآتية:
أمراض النساء وأمراض الأسنان، ثم المتنوعات، وتوحيد المصطلحات الطبية.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر يقوم الأعضاء بزيارة مصلحة الطب الشرعي حيث تقام حفلة شاي.
وفي المساء تقام حفلة العشاء السنوية للجمعية الطبية المصرية.
وقد تقرر وضع شعار للمؤتمر يضم رسم عظيمين من عظماء الطب عند الفراعنة والعرب، وهما أمنحوتب وأبن سينا، وقد وقفا وجهاً لوجه: أحدهما في ظل الأهرام والآخر في ظل أحد المساجد الشهيرة
حفلة تأبين الأستاذين السكندري ونلينو
كانت الحفلة التي أقامها مجمع فؤاد الأول للغة العربية في دار الأوبرا لتأبين عضوية المرحومين الشيخ أحمد علي السكندري والسنيور نلينو كاملة، حضرها صاحب العزة إسماعيل تيمور بك مندوباً من جلالة الملك وحضرات أصحاب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف والأستاذ مصطفى عبد الرازق بك وزير الأوقاف وسابا حبشي بك وزير التجارة والصناعة ونخبة مختارة من كبار الأدباء والموظفين وحضرات الشيوخ والنواب
وقد ألقى صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف كلمة الافتتاحية فأشار إلى سمو المعنى الذي يستخرج من تأبين رجلين كبيرين من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية أحدهما مصري هو المرحوم الأستاذ أحمد السكندري والآخر إيطالي هو المرحوم الأستاذ نللينو، ونوه بجهودهما في المجتمع واشتراكهما في سعيه الجليل لمسايرة لغتنا حياة العالم والفن وفي جميع مظاهر الحياة النظرية والعملية وقال: إن اختلاف الوطن والدين لا يحولان دون الاشتراك الوثيق في العمل لخير الإنسانية كما تجلى في عمل هذين الرجلين اللذين يسرهما القدر لغاية واحدة وجمع بينهما في الحياة والممات. ثم وجه إلي سعادة ممثل إيطاليا وإلى أسرة السكندري كلمات التعزية على فقدهما
وتلاه صاحب المعالي الدكتور محمد توفيق رفعت باشا رئيس المجمع فقال: إننا حين يسلمنا إلى الجزع تعاظم الخطب فيمن فقدنا من رجال أكفاء يحملنا على الصبر كريم العزاء وصادق الوفاء الذي نلقاه من رجال الحكومة وعظماء الدولة وجمهرة أهل العلم
والفضل الذين حضروا هذا الاجتماع
ثم ألقى الدكتور منصور فهمي بك خطبة ضافية استهلها بشرح البواعث على رثاء الجماعات لمن تفقد من أعزائها، وأفاض في تأبين المرحوم السكندري ووصف سجاياه وأعماله وجهوده في المجمع وعظم الفجيعة فيه، ثم قال: إن المجمع حين ابتلي بفقد السكندري ما كان يعلم أن القدر يتربص له بخسارة أخرى في فقد المرحوم الأستاذ نللينو وأطب في امتداح مناقب الأستاذ نللينو
ثم نهض الأستاذ ليتمان فنوه بمآثر الأستاذ السكندري وزميله المرحوم الشيخ حسين والي ثم تكلم عما كان للمرحوم الأستاذ نللينو من كفاية عظيمة في علم المشرقيات والعلوم الإسلامية
وأنشد صاحب العزة الأستاذ على الجارم بك قصيدة رائعة البيان، وفي النهاية ألقى كل من الأستاذ عمر السكندري وسعادة الكونت ماتزوليني وزير إيطاليا المفوض كلمة شكر للمحتفلين الكرام وقد بدأ كل منهما كلمته برفع آيات الحمد إلى مقام جلالة الملك المعظم على تفضله بإيفاد مندوب عن جلالته.