الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 291
- بتاريخ: 30 - 01 - 1939
عيد الفقير.
. .
عيد الفقير! وهل للفقير عيد؟
نعم للفقير عيد إذا أردنا به الشعائر الدينية والقومية؛ فهو يصلي العيد، ويزور المقبرة، ويعيَّد على آله وصحبه، ويُكرِه السرور النافر على الإلمام ببيته وقلبه، ويجعل من المساجد والحدائق والميادين مظاهر إخلاص وشكر لوطنه وربه
فإذا أردنا بالعيد التقلب في وثير الفراش من غير صلاة، والتنافس في ذبح الكباش من غير تضحية، والتأنق في الزينة والثياب، والتفنن في الطعام والشراب، والتبسط في اللذة واللهو، والتهادي بين التيه والزهو، فذلك عيد الباشا والأمير، لا عيد المسكين والفقير
وا رحمتا للفقير قبيل العيد! يرى متاجر الملابس واللُّعب والحلوى قد ازَّينت واجهاتها البلورية بالعُروض الجذابة والنماذج المغرية، فينظر إليها نظر الراغب المحروم، ويذكر أطفاله الغارَّين في حنانه وهم يحلمون بالثوب الجديد واللعبة المسلية والأكلة الشهية والنزهة الممتعة، ويعتقدون أن أباهم قادر على أن يجعل عيدهم سعيداً وحلمهم يقظة، فيكرُبه الأسى وتصيح الحسرة في نفسه:
- حنانيك يا رباه! هذه نعمك واسعة سابغة، ولكن القدر لحكمة لا يدركها البصر المحدود جعلها لغيري لذة بالقدرة. ولنفسي ألماً بالعجز، ولأولادي شقاء بالحرمان. فليت القدرة تعرف الرحمة، وليت العجز يدرك المعونة، وليت الحرمان يخطئ الطفولة، وليت الأيام تمضي إلى غايتها من غير عيد ولا موسم!!
إن الأعياد مذلة للوالد الفقير وفضيحة للبيت البائس! ففي الأيام الأُخَر يستطيع العائل المسكين أن يغلق بابه على بؤسه، ويرَوُض أهله على مكروهه؛ ولكنه في العيد لا يستطيع أن يضرب على الآذان، ولا أن يختم على العيون، فإن المدافع تقصف في القلاع، والمزامير تعزف في الشوارع، والناس يزيطون في الملاهي، والأطفال في المراكب والمواكب يرفلون في الوشى ويلهون باللُّعب، فأولاده لابد سائلون:
يا أبانا، أين الثوب الذي نلبس، واللحم الذي نأكل، والقرش الذي ننفق؟ أهذا العيد لناس دون ناس، أم هو ذو وجوه شتى منها العابس والباسم، ومنها الدميم والحسن؟ ولَم آثرَنا نحن يا أبانا بهذا الوجه الشتيم الكالح؟
لو كان هذا الرجل في أمة مؤمنة محسنة لأجاب بنيه بقوله:
صبراً يا بني، فعمَّا قليل يدخل عليكم باباكم (بيرم) أو عمكم (نويل) بالألطاف والحلوى والحلل من وقفية الباشا فلان، أو من جمعية كذا للإحسان؛ ولكنه يجيبهم بالدمعة البادرة، والزفرة المحرقة، والنظرة الحزينة، فلا يفهمون إلا أنهم أحقر من هؤلاء الأطفال، وأن أباهم أفقر من هؤلاء الرجال. أما علة هذا التفاوت وإلهنا واحد، وأبونا واحد، وملكنا واحد، ووطننا واحد، فعلْمها سيأتيهم مع الأيام إذا ما خرجوا بأنفسهم إلى الحياة فرأوا المكظوظ الذي غصب رغيف الجائع، والملفَّف الذي نهب كساء العاري، والمموَّل الذي سرق نصيب المحروم
حدثني رجل من ذوي هذه الحال أنه كان يشتغل مياومة في مصلحة من مصالح الحكومة؛ فلما قل عليه العمل استغنوا عنه؛ ولكنه لسوء حظه لم يستطع أن يستغني عن الأكل، ولا أن يقنع أولاده بالصوم، فراح يطلب العمل في كل مكان والمعونة من كل إنسان فلم يجد. ودخل عليه عيد الفطر من هذا العام وليس في يده ما يشتري به الكُسي لبنيه والسمك لزوجه وكان قبل نكبته بأسبوع قد وعد الكبار بالبِذَل والصغار بالهدايا، فسبحت أخيلة الأطفال في جو من الأحلام عجيب الألوان عبقري الصور؛ وأسرعت ألسنتهم الثرثارة إلى إشاعة ذلك في الرفاق والجيرة. فغُمَّ على الرجل الحال، واعتلج في صدره الهم، وأصبح حيران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل. تمنى الخروج من هذا المأزق بالمرض أو الموت؛ ولكن المرض أو الموت إذا أصبح أمنيَّة الفقير امتنع كالخير وعزَّ كالسعادة. فاحتال على العلة بالجوع، فصام النهار والليل حتى هجمت عيناه وانسرقت قواه وبانت عليه نهكة المرض
ودخل العيد بضوضائه وخيلائه على هذه الأسرة البائسة فوجدها عاكفة على سرير مريضها الموجَع، مضرَّمة الأنفاس، لهيفة القلب، لا أمل لها إلا أن يعافى عميدها ويحيا. فانكفأ العيد النشوان المرِح خجلان عن هذا المنظر الأليم إلى مجالي البهجة والنعيم في قصور الكبراء والأغنياء والسادة. ولولا هذه الحيلة التي أنقذت هذا التعِس بالمرض من غير موت، لأشفى به الخجل والهم على الموت من غير مرض
تباركت يا الله! لقد جعلت في عيد الفطر زكاة، وفي عيد النحر تضحية. فهل فهم ذوو القلوب الغُلف والبصائر العُمْي من شرعك العادل أن الفقير يزكي بقوَّته حتى يعجز،
والمسكين يضحي بصحته حتى يموت؟؟
احمد حسَن الزيات
الأدب والمدرسة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعال في إظهار مواهبك الأدبية؟)
سؤال انتقل به صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم إلى (برجه العاجي) من مجلة أدبية فرنسية ألقته على طائفة من أدباء بلادها فكان جواب أحدهم: (يخيل إلى أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقررة رسمياً في المناهج المدرسية)
ويقول الصديق فيما عقب على هذا الجواب (ولو سئلت لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى)
وكنا نتحدث في هذا قبل أن أقرأه في البرج العاجي من الرسالة، قصصت على الصديق بعض ما أذكر من عهد المدرسة ووصفت له أساتذتي في اللغتين العربية والإنجليزية وتوخيت الإنصاف وتحريت الحق، فسألني إن أكتب هذا وأنشره، فوعدت أن أفعل. وقد بدأت أكتب وفي نيتي أن أبر بالوعد، ولكني بعد أن بلغت هذا الموضع أراني أميل إلى الإخلاف فما أحب أن أسيء إلى أحد بلا موجب وبغير حق، أو أن أرمى بالجحود والكفران.
وأكبر الظن أن الذين علموني نسوا - أو هم لا يدرون - أني كنت من تلاميذهم؛ فلو قلت فيهم ما قال مالك في الخمر ما عرفوا أنهم هم المعنيون؛ ولو أثنيتُ عليهم لتعجبوا وراحوا يتساءلون (ترى من كانوا معلميه؟) ولعل أكثرهم قد عاد إلى التراب الذي جبل منه ولكني مع ذلك لا أراني أقدر أن أضعهم في الميزان إلا إذا وضعت نفسي معهم
أنا أيضاً كنت تلميذاً ثم مدرساً لسوء الحظ. وكانت ميزتي المحتمة في أيام التلمذة (الغباء وفقر الذهن وضعف التصور) يضاف إليها الفقر. وكان يبلغ من فاقتي في ذلك الزمان أن كنت أحتاج إلى القميص الأبيض لألبسه مع البذلة فلا نجد ثمنه، فتعمد أمي المسكينة إلى ما خلف أبي من قمصان فتصلحها فتضيق من هنا وتقصر من هناك، ولكن الياقة أو البنيقة كانت تعييها فتلبسنيها كما هي؛ ولو جعلت لي منها حزاماً لكان هذا أصلح. فتصور هذا الطوق العظيم على عنقي. وكنت إذ أمشي بها لا أدري ماذا أصنع وكيف أبلغ المدرسة، لأني كنت أحتاج إلى كلتا يدي لأهوى بجانبي الطوق عن أذني، ولكني محتاج أيضاً إلى
حمل الكتب والكراسات فكيف أصنع وليس لي غير يدين اثنتين: ولا أدري كيف نجوت من العمى فقد كانت عيناي ترمدان فلا تعبأ بي المدرسة. نعم كان لها طبيب يحضر كل يوم لعيادة المرضى منا فكنا إذا سمعنا ناقوسه نجري إليه فيصفنا أمامه ولا يجشم نفسه عناء السؤال أو الفحص، بل يقول وهو يشير إلى كل واحد منا على الترتيب:(شربة، لبخة قطرة) فيتفق أن يكون من حظك (القطرة) وشكواك أن رجلك مهيضة، أو اللبخة وبك زكام. وكنت أذهب إليه لعلاج عيني ولكني كنت أخرج مأموراً بالشربة أو اللبخة ولا أخرج قط بالقطرة. أما في البيت فكان كل ما أتداوى به من الرمد الماء البارد.
وآية غبائي وبلادتي أني كنت في كل فرقة الأخير، - حتى مقعدي كان الأخير في الحجرة - وكنت لصغر جسمي وقماءتي لا أكاد أبدو للمدرس، فهو لا يراني ولا يحس بوجودي ولا يعني بي، وأنا أغتنم هذه الفرصة فأتشاغل عن درسه بما يخطر لي من العبث. وكان جاري في بعض الفرق ضخم الجسم كأنه الفيل الصغير، وكان لجسامته يحتاج حين يقعد أن يتكئ على الدرج بكلتا يديه، وكانت عادته أن يمسح وجهه بكفيه بعد ذلك ويتمتم بقوله:(خيبة الله عليكم) - يعني زملاءه التلاميذ لأنهم كانوا لا يكفون عن ركوبه بالعبث، فاشتريت مرة قليلاً مما يسمى (بودرة العفريت) ونثرتها على الدرج فاتكأ عليه ومسح وجهه ثم ذهب يحك كفيه وخديه حتى دمى وجهه وانقطع عن المدرسة أياماً حتى شفي. ففطن المدرسون إلى وجودي بعد ذلك وصرت أتهم بكل ما يحدث في المدرسة ولو وقع في فرقة غير فرقتي، فأنا عندهم المحرض أو الموسوس بالعبث إذا لم أكن أنا الفاعل
أما الدروس فما كنت أفهم منها شيئاً؛ ولم يكن هذا ذنب المعلمين فما كانوا يقصرون في الشرح والبيان، ولكني أنا كنت لا أستطيع أن أنتفع بذلك لأني أكون قاعداً على ركبتي - فوق البلاط - عقاباً لي على ما لم أصنع في الغالب - أو واقفاً ووجهي إلى الحائط أو مطروداً من الحجرة كلها. وكيف يمكن بالله أن يفهم شيئاً من لا يزال هكذا - ركبتاه على الأرض أو أنفه على الجدار أو هو يتمشى في الفناء أو الدهليز. . .
وكان أرق المدرسين معي وأظرفهم وألطفهم على العموم إنجليزي أنيق كان إذا رآني - وما أكثر ما كان يغضي - أخرج على النظام يدعوني أن أقف ويطلب مني أن أتهجى كلمة (مجنون) أو (شقي) وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ويكتفي من العقاب بهذا
وكان لنا معلم للغة العربية غريب الأمر - كانت حجرتنا مجاورة لحجرة الناظر الإنكليزي، فكان هذا المعلم يفرغ من إلقاء الدرس وشرحه ومن التطبيق أيضاً في خمس دقائق على الأكثر ثم يقول:(أغلقوا النوافذ كلها) فنفعل ثم يأخذ في حديث سياسي يذم فيه عهد إسماعيل ويلعن فيه أيام توفيق ويثني على الإنكليز أطيب الثناء. ولم يكن أعجب من صنيعه هذا إلا إغلاقه النوافذ ليوهمنا أن الناظر الإنجليزي يسوؤه أن يعلم أنه يثني على قومه. . .
وكنا نناقشه ونجادله ونخالفه فيوسع صدره ويروح يحاورنا ويداورنا ليقنعنا بأن ما خرب من نفسه عامر. وكانت تلك أيام مصطفى كامل وكنا نقرأ (لواءه) ونسمع خطبه. وأحسب أني لا أبالغ إذا قلت أني تلقيت دروسي الأولى في اللغة العربية من اللواء والمؤيد لا من معلمي في المدارس، وتصور أن منهم معلماً كان يكلفنا أن نحفظ كتاب النحو عن ظهر قلب. . . بل تصور أنه كان يثني على التلميذ الذي يقول له في جواب سؤاله عن الفعل اللازم (ما هو) - (هو ما ليس كذلك) - كما في الكتاب بالحرف الواحد. ولم أستطع قط في حياتي أن أحفظ شيئاً عن ظهر قلب إلى إذا جاء هذا عفواً وعن غير قصد، فكانت درجتي في اللغة العربية هي الصفر دائماً
وكل ما حفظته من الشعر العربي في المدرسة قصائد قليلة مثل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكل رداء يرتديه جميل
وما إليها - وحتى هذه يخيل إلي أني ما حفظتها إلا فيما بعد - لما كبرت، ولكني أذكر على كل حال أن المدرس الذي كان يغلق النوافذ ويهجو المصريين ويمدح الإنكليز هو الذي كان يتقاضانا أن نحفظ:(إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه، فكل رداء يرتديه جميل) وقد يكون هذا اتفاقاً محضاً
وكان أساتذتنا في اللغة الإنجليزية على عكس ذلك، فكانوا يرشدوننا ويساعدوننا ويقرضوننا الكتب إذا أنسوا منا ميلاً إلى القراءة، ويصحبوننا إلى مكتبة المدرسة، ويتخيرون لنا ما يوافقنا وما يسعنا أن نفهمه، ولا يبخلون علينا بالتفهيم والشرح حتى في أوقات الفراغ إذا طلبنا منهم ذلك؛ ولكن بعضهم كان عجيب الشذوذ. أذكر منهم واحداً كان يعلمنا الجغرافيا الاقتصادية فكان يكتب على السبورة رقماً يبلغ من طوله أن بقيته تجيء على الجدار؟
وكان هذا مبلغ علمه بهذه الجغرافيا. ومنهم من كان يعطينا الدرجات على الخط وجودته ولا يبالي أصبنا أم أخطأنا في الموضوع، فأجودنا خطاً أعلانا درجة ولو كان أجهل مني
أظن أن المدرسة لا تستطيع أن تعلم الأدب، وكل ما يسعها ويجوز أن يطلب منها هو الترغيب والتوجيه والتسديد، وحسبها أن توفق في هذا، وأكاد أقول حسبها ألا تنفر من الأدب وتزهد فيه
إبراهيم عبد القادر المازني
المتنبي وسر عظمته
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
إذا قرأ القارئ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيسٍ ألتقيه بها
…
كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وكِلمةٍ في طريقٍ خفت أعرابها
…
فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة
…
وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته
…
وهل تروق دفيناً جودة الكفن
أحس بما تدعو الحياة إليه من تقيد النفس بقيود التجانس حتى ولو كان فيها قهر أنبل عواطفها ونوازعها، وأحس بالمعركة التي تدور في النفس بين نزعاتها من رضاء وإباءٍ وتسليم وثورة، والتذ مشاركته الشاعر في تلك المعركة النفسية حتى ولو كانت المشاركة بالعقل الباطن والقراءة بالعقل الظاهر. وهو يحس هذا الإحساس إذا قرأ قوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني
…
هـ غذاء تضوي به الأجسام
ذل من يغبط الذليل بعيش
…
رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار
…
حجةٌ لا جئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه
…
ما لجرح بميِّتٍ إِيلام
وهو أيضاً يضع نفسه موضع نفس الشاعر في تلك الرحلة النفسية التي يلتذها بالقراءة إذا قرأ قوله:
وما أنا منهمُ بالعيش فيهمْ
…
ولكنْ معدن الذهب الرغام
خليلك أنت لا مَن قلت خِلِّي
…
وإِن كثر التجمُّل والكلام
ويزداد اعتداد المتنبي بنفسه، فلا يزداد القارئ إلا لذة ببيانه عندما يقرأ قوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
…
كمقام المسيح بين اليهود
عِشْ عزيزاً أو متْ وأنت كريم
…
بين طعن القنا وخفق البنود
واطلب العز في لظى ودع الذ
…
ل ولو كان في جنان الخلود
أنا في أمة تداركها الل
…
هـ غريب كصالح في ثمود
وكذلك عندما يقرأ قوله:
ومِن جاهل بي وهو يجهل جهله
…
ويجهل علمي أنه بِيَ جاهل
ويجهل أني مالك الأرض مُعسرٌ
…
وأني على ظهر السماكين راجل
تحقر عندي همتي كلَّ مطلب
…
ويقصر في عيني المدى المتطاول
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي
…
وليس بغث أن تغث المآكل
والبيت الأول يدل على تفكير طويل في أنواع جهل النفوس بالنفوس، وهو موضوع عميق كعمق الحياة، ومجاهل أعماق النفس والحياة كمجاهل أعماق المحيط. وكذلك إذا قرأ أبيات المتنبي التي يخاطب بها أسد الفراديس ويدعوها فيها إلى محالفته، سار القارئ في رحلة نفسية خيالية في عالم البيان الشعري، حيث يود الشاعر أن يؤلف الوحش وأن تألفه، كما حدثوا عن الشنفري الشاعر. وإذا قرأ القارئ قول المتنبي:
عدُوِّي كل شيء فيكِ حتى
…
لخلت الأُكم موغورة الصدور
فلو أني حُسدْتُ على نفيسٍ
…
لجدْتُ به لذي الجد العثُورِ
ولكني حُسِدْتُ على حياتي
…
وما خير الحياة بلا سرور
كان قد بلغ من تلك الرحلة النفسية قفراً موحشاً تختلط فيه الحقيقة بالخيال في نفس بلغت من النفرة من الناس والشك فيهم مبلغاً يجعلها تشك في الجماد، وتخاله موغر الصدر كالناس، وهذه حالة حقيقية في النفس، وإن اختلطت فيها الحقيقة بالخيال، وهي من الحالات النفسية التي يجيد المتنبي وصفها كما قال:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت
…
على عينيه حتى يرى صدقها كذباً
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
…
حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
ويختلف الرزقان والفعل واحد
…
إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنباً
ويتبع القارئ الشاعر في رحلة التجارب النفسية حيث يقول:
فلا تَنْلكَ الليالي إن أيِدِيَها
…
إذا ضربن كسرْنَ النبع بالغرَب
ولا يُعنَّ عدواً أنت قاهره
…
فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وإن سررْن بمحبوب فجعن به
…
وقد أتينك في الحالين بالعجب
وربما احتسب الإنسان غايتها
…
وفاجأته بأمر غير محتسبِ
وما قضى أحد منها لبانته
…
ولا انتهى أَرَبٌ إلا إلى أَرَبِ
والبيت الأخير يعبر عن سر التعلق بالحياة؛ فليس سر التعلق بها لسعادتها وكمال مسراتها، بل قد يتعلق بها أشد التعلق من قلت مسراته فيها، وإنما يكون الحرص عليها كلما وجد المرء سبيلاً لنشدان المطالب والمآرب حتى ولو لم يسعد بها. فالحرص على الحياة موجود ما دام المرء ينتشي فيها بالسعي والطلب، وإن لم يُؤَدِّ السعي إلى فوز وسعادة. ويستمر القارئ متابعاً للمتنبي في رحلته النفسية في عالم التجارب وآلامها كما في القصيدة التي يقول في مطلعها:(كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً). ويعاود وصفها في القصيدة التي مطلعها: (أود من الأيام ما لا توده) وفي القصيدة التي مطلعها: (فراق ومن فارقت غير مذمم) والتي يقول فيها:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
…
وصدَّقَ ما يعتاده من توهم
وعادي مُحبِّيهِ بقول عداته
…
وأصبح في ليل من الشك مظلم
ويعاود وصف آلامه وآماله وخيبته وتجاربه في قصيدة: (بما التعلل لا أهل ولا وطن). وفي قصيدة: (أغالب فيك الشوق والشوق أغلب). وفي قصيدة: (صحب الناس قبلنا ذا الزمانا). وهو يحس فيها بضآلة مطالب الحياة بالرغم من إقبال نفسه عليها فيقول:
ومراد النفوس أصغر من أَن
…
تتَعادَى فيه وأَنْ تَتفانى
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
…
فس سهل فيها إذا هو كانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ
…
فمن العجز أن تكون جبانا
وتراه يصف كيف أن نفسه قد تُقهرُ على التخلق بصفات الحياة من مداهنة وشك، فيقول:
ولما صار ود الناس خبا
…
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
…
لعلمي أنه بعض الأنام
إلى أن يقول:
ولم أَرَ في عيوب الناس شيئاً
…
كنقص القادرين على التمام
ويعود إلى وصف ما علمته الحياة من سوء الظن فيقول:
توهم القومُ أن العجز قرّبنا
…
وفي التوهم ما يدعو إلى التهم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
…
بين الرجال وإِن كانوا ذوي رحم
هوَّن على بصر ما شق منظرهُ
…
فإنما يقظات العين كالحلم
ولا تشك إلى خلقٍ فتُشمته
…
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ثم هو بالرغم من شكواه يعرف أن للمعالي التي ينشدها ثمناً لا بد أن يؤديه فيقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصة
…
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ويعلم أنه من العبث أن يُعَنِّي المرء نفسه وأن تُعَنِّيه إذا لم تدرك ما تَمَنَّتْ فيسلى نفسه ويسلي القارئ معه بقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
…
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ويعلم أن الظلم في النفوس صفة عامة إذا خفيت فإنما تخفى لسبب فيقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
والذل يظهر في الذليل مودة
…
وأود منه لمن يود الأرقم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
…
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وهذه الحكم العديدة وأمثالها في شعر المتنبي ليست من الشعر التعليمي أو الوعظي الذي يصنعه المرء وهو ناعم البال قرير العين بارد العاطفة وهو جالس إلى مكتبه يتأمل فيما تصف به الكتب والدفاتر أوجه الحياة وأخلاق النفوس فيها، ولكنه تأمل المختبر المجرب، فهو شعر التأمل الذي تغري به العاطفة لا شعر التأمل الذي يغري به العقل في دعته أو مباذله أو عند مباهاته بالعلم ومفاخرته بالعرفان، فهو شعر حكمة يُبصِّرُ الشاعر فيها نفسه ويذكِّرها كي تتحمل الحياة بمعرفتها الحياة، وتتحمل الناس بمعرفتها أخلاق الناس. ومن كان شديد الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها كالمتنبي كان في حاجة إلى هذه التبصرة والتذكرة بسبب ما يجشم الشاعر نفسه من معاناة الحياة والناس معاناة فوق معاناة القنوع التي لابد منها. فهذا الاعتداد بالنفس بما يفيض به من حنكة وخبرة وأنغام وبيان وآلام وآمال، هو سر نبوغ المتنبي وسر شهرته وتعلق الناس بشعره كما ذكرنا، وهو سر قوة شعره. وهذه القوة هي فيض يغمر كل باب من أبواب شعره من مدح أو وصف أو عتاب أو رثاء. ومن أجل ذلك تبدو حكمة الحنكة في شعره مختلطة بالمدح أو العتاب أو الوصف أو الذم، ففي قصيدته التي يصف فيها الأسد ويقول:
في وحدة الرهبان إلا أنه
…
لا يعرف التحريم والتحليلا
ويستجمع كل معاني الوصف الرائعة، إذ تراه يورد الحكمة كما في قوله:
أَنفُ الكريم من الدنيئة تارك
…
في عينه العدد الكثير قليلا
وفي قصيدة أخرى بينما هو يمدح الممدوح إذ تراه يقول:
إلْفُ هذا الهواء أوقع في الأن
…
فسِ إن الحِمَام مُرُّ المذاق
وفي قصيدة أخرى يقول:
لعل عتبك محمود عواقبه
…
فربما صحت الأجسام بالعِلَلِ
وفي قصيدة أخرى من قصائد المدح يقول:
إنا لَفي زمن ترك القبيح به
…
من أكثر الناس إحسان وإجمال
فأصبح منتهى ما يطمع فيه الطامع في خير الناس أن يحصل على خيرهم السلبي، أي امتناعهم عن الشر كأنما الامتناع عن العمل عمل يشكرون عليه. وكذلك يورد الحكمة في قصائد المدح الأخرى مثل قصيدة (لكل امرئٍ من دهره ما تعودا) التي يقول فيها:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وأن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وكذلك يصنع في قصيدة (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) وقصيدة (الرأي قبل شجاعة الشجعان). فقيمة مدحه ليست في المغالاة المرذولة كما في بعض قوله وإن اشتهر بها، ولكن قيمته فيما يخالطه من حنكة وخبرة إما بالأخلاق والحياة عامة، وإما بالصفات المرغوب فيها التي يود كل ممدوح أن تنسب إليه. وكذلك يورد الحكمة في قصائد الاستعطاف أو التوفيق أو العتاب كقصيدة (إن يكن صبر ذي الرزيئة فضلاً) وقصيدة (حسم الصلح ما اشتهته الأعادي) وقصيدة العتاب الرائعة الفخمة التي يعنف فيها في عتاب سيف الدولة تارة وتارة يبلغ غاية الرقة كما في قوله فيها:
إن كان سَرَّ كمُ ما قال حاسدنا
…
فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
ويورد الحكمة أيضاً في قصيدة (بغيرك راعياً عبث الذئاب)
فيمدح ويستعطف ويورد الحكمة، وفيها يقول:
وجرم جره سفهاء قوم
…
وحل بغير جارِمِهِ العقابُ
وكم ذنب مُوَلِّدُهُ دلال
…
وكم بُعْدٍ مُوَلِّدُهُ اقترابُ
ويورد الحكمة أيضاً في قصائد الرثاء والتعزية وله فيها قصائد شائعة مثل رثائه لعمة
عضد الدولة ورثائه سيف الدولة وأخته ومملوكه يماك ورثاء المتنبي لجدته ورثائه لأبي شجاع فاتك، وفي رثاء عمه عضد الدولة يقول:
يموت راعي الضأنِ في جهله
…
ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمرهِ
…
وزاد في ألأمن على سربه
وفي رثاء أم سيف الدولة يقول:
وصرتُ إذا أصابتني سهام
…
تكسرت النصال على النصال
وفي رثاء مملوك سيف الدولة يقول:
وأوفى حياة الغابرين لصاحب
…
حياة امرئ خانته بعد مشيبِ
إذا استقبلتْ نفسُ الكريمِ مصابَهُ
…
بخبث ثَنَتْ فاستدبرتْهُ بطيبِ
وفي رثاء جدته الرائع يصف ما لاقاه في سبيل تجشيم نفسه عظام المساعي فتزداد لذة القارئ في قراءته. والمتنبي إذا أراد الوصف أجاد كما في وصف الأسد وكما في وصف شِعب بوان ونباتة الذي يقول فيه وهو من أبدع الوصف:
مغاني الشِعب طيباً في المغاني
…
بمنزلة الربيع من الزمان
ويصف الخيل كما في قوله (وما الخيل إلا كالصديق قليلة. الخ) ويصف الحروب. وليس إقلاله من وصف مظاهر الكون والطبيعة من عجز، بل لأن بصر بصيرته كان موجهاً إلى دخائل نفسه ونفوس الناس وأخلاقهم في الحياة أكثر مما كان موجهاً إلى مظاهر المرئيات وله في الغزل بالرغم من ذلك أشياء تستجاد وتستحب مثل قوله:
زَوِّدِينا مِنْ حْسن وجهك مادا
…
م فحسن الوجوه حالٌ تحول
وصلينا نَصِلْكِ في هذه الدن
…
يا فان المقام فيها قليل
وقوله:
إذا كان شم الروح أدنى إليكمُ
…
فلا برحتني روضةٌ وقبولُ
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي
…
فتظهر فيه رقة ونحول
فسحر شعر المتنبي هو سحر جاذبية الشخصية المعتدة بنفسها وسحر ما تختبره من الحياة.
ولا نعني بسحر الاعتداد بالنفس أن الناس لا يقاومونه. هم يقومونه بكل وسيلة في أول الأمر، وبعضهم يظل يقاومه حتى مع التأثر به. بل إن بعضهم تدل شدة مقاومتهم له على
شدة التأثر به. ففي بعض سجايا النفوس قد يظهر التأثر بالإنسان، أو بالشيء بمظهر المقاومة. ولعل أظهر هذه الظاهرة في العلاقات الزوجية، ولكنها موجودة في جميع علاقات الناس بعضهم ببعض، وقد لا تكون المقاومة دليلاً على التأثر. بل قد تكون دليلاً على قلة التأثر أو انتفائه. ولعل الظاهرة أساسها واحد في الحالتين، وأساسها هو: دفاع كل نفس في الحياة عن كيانها ومميزاتها وخصائصها؛ وكلما كان تأثرها بخصائص غيرها وكيانه أعظم، كانت المقاومة ألزم في بعض الحالات وفي بعض النفوس، إما صيانة للبقية من استقلالها، وإما لكي تعذر نفسها لدى نفسها في استسلامها لسحر الاعتداد بالنفس سراً بمقاومة جهراً فترتاح إلى هذا العذر وتحسب أنها قد صانت به كرامة استقلالها. ولكن إذا كان الاعتداد بالنفس عظيماً، وكان مقروناً بقوة العبقرية أو البيان والفصاحة أو الخلابة أو العصبية المناصرة له تمكن على الزمن من تحويل الشيء الكثير من المقاومة إلى إعجاب، كالإعجاب الذي ناله من النفوس التي ناصرته من أول الأمر بسبب لذتها في الاستسلام أو لذتها في رؤية اعتدادها بنفسها مقدساً في شخص عظيم. وتغلب الاعتداد بالنفس على المقاومة يكون شبيهاً بتغلب النعاس على اليقظة. وقد لاقى المتنبي أشد المقاومة، ولكن شدة اعتداده بنفسه تمكنت من تحويل المقاومة على مر الزمن إلى إعجاب كثير
لقد كنا في عهد الصغر إذا قرأنا للمتنبي قوله:
من لو رآني ماءً مات من ظمأ
…
ولو عرضتُ له في النوم لم ينم
تخيلناه مخلوقاً من مخلوقات الخيال في القصص الخرافية. وفخره العريض في هذا البيت وفي أمثاله كان من خواطر العظمة التي رآها لنفسه، ولكنا لم نشأ أن نعد كل أقواله في القتال وإراقة الدماء من قبيل خواطر السوء التي تمر بخاطر كل إنسان، لأن الرجل كان محارباً فعَّالاً كما كان متخيلاً قوَّالاً. وإذا صدقت قصة مقتله التي قيل فيها إنه فر طالباً النجاة ممن أغاروا عليه حتى ذكرَهُ مذكرٌ بقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وذكره بأن من يقول هذا القول لا بد أن يكون فعله كقوله، فعاد للقتال حتى قُتلَ
أقول إذا صدقت هذه القصة: كان الاعتداد بالنفس الذي قتل، هو الاعتداد بالنفس الذي خلدَ عظمته وزادها. وهو أيضاً كذلك وإن لم تصدق هذه القصة
عبد الرحمن شكري
من برجنا العاجي
إني أتجنب دائماً رؤية خروف العيد حياً قبل العيد، وأتحاشى أن أدنو منه أو ألاطفه أو أعقد بيني وبينه أواصر صحبه أو مودة، خشية أن تمضي ساعات فإذا هو أمامي مشوياً في طبق، ينظر أليّ بعينين يسيل منهما الدهن والزبد، نظرات كلها ازدراء لما تكشف له من خلقنا الإنساني المنطوي على الخيانة والغدر! إني أتخيل دائماً معاني هذه النظرات الهادئة العميقة التي تنبعث من عيون هذه الحيوانات الوادعة الأليفة. إنها لأبلغ في إنسانيتها أحياناً من بعض نظراتنا الآدمية التي يشع منها بريق جشع حيواني ونهم مفترس قد لا تعرفه غير الضواري والكواسر!
إني لأتخيل الحديث الذي يمكن أن يدور بيني وبين هذا الخروف لو أنه منح القدرة على الكلام:
- لماذا صنعتم بي هذا؟
- لمجدك الأدبي
- مجدي الأدبي! هذا الذبح والسلخ والحرق مرة في كل عام على مدى الدهور والأيام!
- نعم، هو مجدك الذي ينبغي أن تتيه به وتفخر وتزهى على غيرك من الحيوان! إن دمك يراق من أجل فكرة، وحياتك تضحي في سبيل عقيدة!
- آه للإنسان ما أبرعه في إلباس صغير الفعال رائع الثياب!
- نعم، هنا مفتاح سمونا وسر عظمتنا!
- هنا الفرق بيننا وبينكم
- نعم، كل الفرق
- أن الغرائز السفلى ما زالت هي الناموس الأعظم لنا ولكم. ولم تستطيعوا مع قدرتكم وقوتكم أن تخرجوا عن نطاقاها قيد أنملة. . .
- ولن نخرج
- إنما كل عملكم أن تضعوا على حقائقها العارية رداء، كما وضعتم على أجسامكم العارية لباساً. نحن العارون جسداً وروحاً، وأنتم الكاسون جسداً وروحاً. أما بعد ذلك فلا اختلاف بيننا وبينكم.
- هذا صحيح يا سيدي الخروف!
توفيق الحكيم
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
تاريخ كلمة أدب
لا نجد (كلمة أدب) فيما بين أيدينا من الكلام المأثور عن الجاهليين؛ ولكن ورودها فيما أُثِر عن الرسول (صلوات الله عليه) وعن الصحابة يرجح أنها كانت مستعملة قبل الإسلام في المعاني التي دلت عليها في عهد الرسالة أو في معاني قريبة منها ولدينا روايات من صدر الإسلام منها:
1 -
أن علياً رضي الله عنه قال للرسول: يا رسول الله:
نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال:(أدبني ربي فأحسن تأديبي، ورُبيت في بني سعد) والتأديب هنا معناه التعليم
2 -
ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
(إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فتعلموا من مأدبته)، والمأدبة هنا موضع الأدب أي الكتاب الجامع ما يؤدب به الله الناس من أوامر ونواه ومواعظ وحكم
3 -
وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تفسير الآية:
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً): فقِّهوهم وأدبوهم. وقال مُقاتل أحد التابعين في تفسير الآية نفسها: أن يؤدب المرء نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر) والأدب في هاتين الروايتين يراد به التهذيب الذي يقرب من الخير ويبعد عن الشر وفي العصر الأموي نجد الكلمة مستعملة في المعاني المتقدمة أو ما يقرب منها:
جاء في شعر مُزاَحم العُقيلي وصفُ الجمل المذلَّلُ بالأديب قال:
فهن يَصرفنَ النوى بين عالج
…
ونجران تصريف الأديب المذلل
وجاء في خطبة زياد البتراء:
(فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدَبون لكم. أما والله لأؤدِّبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمُنَّ)
وقال بعض الفزارين من شعراء الحماسة:
أكْنيه حين أناديه لأكرمه
…
ولا ألقّبْه والسوأة اللقبا
كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي
…
أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
واتخذ الخلفاء والكبراء في العصر الأموي فما بعده معلمين يؤدبون أولادهم فكانوا يسموْن (المؤدِّبين) وكانوا يؤدبون برواية الكلام البليغ الداعي إلى المكارم، الحافز إلى العظائم. وقد روى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لمؤدِّب ولده: وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا
وفي عيون الأخبار أن عمر بن عبد العزيز قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني؟ قال: أحسن طاعة؛ قال: فأطعني الآن كما كنت أطيعك
وكان المؤدبون، حين يروون القصائد والخطب والأمثال، يذكرون طرفاً من أخبار أصحابها ونُبذاً من الواقعات التي قيلت فيها فاستعمل الأدب في الشعر والنثر وما يتصل به من أخبار ونوادر، وفشا هذا العرف على مر العصور، وسُمِّي من يروي الأدب وأخباره ويعلمه أديباً
وامتاز الأديب من الشاعر والكاتب. فإذا غلب على الرجل درس الأدب وتعليمه فهو أديب، وإذا غلب عليه إنشاء الشعر فهو شاعر، وإذا غلب عليه إنشاء النثر فهو كاتب. وربما جمع الرجل هذه الألقاب الثلاثة أو اثنين منها
وأطلقت كلمة (الأدب) منذ تلك العصور على المعنيين: المعنى الخلقي والمعنى الكلامي؛ أعني حسن الخلق والمعاملة والكلام البليغ وما يتصل به من أخبار. وقد ذكر هذين المعنيين ابن قتيبة في مقدمة كتابه (أدب الكاتب) إذ قال: (نحن نستحب لمن قبل عنا أو ائتم بكتبنا أن يؤدّب نفسه قبل أن يؤدّب لسانه ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه)، وقيل لهذين المعنيين من بعد (أدب النفس وأدب الدرس)
فأما أدب النفس فقد توسعوا فيه حتى شمل كل طريقة مستحسنة في علم أو عمل، وألّفت كتب باسم أدب القاضي وأدب المفتي، وأدب القراءة، وأدب المحدث، وأدب البحث، وأدب المتعلم، وأدب المريد، وأدب النديم، وأدب الدنيا والدين ونحو ذلك
وأما أدب الدرس فقد وسعوه كذلك حتى شمل علوماً عُدّة سميت علوم الأدب أو علم الأدب، وأحياناً يسمونها الأدب اختصاراً
علم الأدب
لم يكن بد لدراسي الشعر والنثر من معرفة قوانين العربية التي تعصم ألسنتهم من الخطأ؛
فكان كل متأدب يتعلم النحو وكل مؤدب يعلّمه إلى ما يعلّم من الأدب. فغدا النحو من وسائل الأدب، واختلط به. وكذلك علوم العربية الأخرى كلما وضع علم جعل من وسائل الأدب ووصل به. فاتصل بالأدب الصرف والنحو والعروض وفنون البلاغة وعلوم أخرى، وسميت كلها علوم الأدب أو علم الأدب أو الأدب
وأراد الباحثون في الأدب بهذا المعنى أن يحدوه حدَّاً واضحاً بين ما يدخل فيه وما يخرج عنه فعرفوه تعريفات متقاربة؛ منها:
1 -
علم يُحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظاً وخطّاً
2 -
علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة
3 -
حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف وحصروا العلوم التي تدخل في هذه التعريفات فجعلوا علوم الأدب ثمانية، ثم زادوها إلى أثني عشر، عدّها ابن الأنباري في طبقات الأدباء ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف، والعروض والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم. ثم قال:
(وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو الخ)
وقسمها الشريف الجرجاني تقسيماً منطقيّاً إلى اثني عشر:
قال في مقدمة شرح المفتاح: (إن علم العربية المسمى بعلم الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظاً أو كتابة.
وينقسم - على ما صرحوا به - اثني عشر قسماً؛ منها أصول هي العمدة في ذلك الاحتراز ومنها فروع)
ثم بين أن الأصول هي: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان (والبديع تابع لها) والعروض والقافية
وأن الفروع هي: الخط، وقرض الشعر، وإنشاء النثر، والمحاضرات (ومنه التاريخ)
وقال ابن خلدون في فصل علم الأدب من المقدمة:
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً
على تحصيل أساليب الشعر وفنونه وقد أُثِرَ تعميم (الآداب) وإطلاقها على معارف أخرى في قول الحسن ابن سهل:
(الآداب عشرة: فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن. فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية فالطب والهندسة والفروسية. وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس)
وجاء في إحدى سائل الجاحظ: (إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة ذكروا أن أصول الآداب التي يتفرع منها العلم لذوي الألباب أربعة: فمنها النجوم وأبراجها وحسابها، ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير، ومنها الكيمياء والطب وما يتشعب من ذلك، ومنها اللحون ومعرفة أجزائها ومخارجها وأوزانها)
وجاء في رسالة إخوان الصفاء:
(اعلم يا أخي أن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس منها الرياضة ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفة الحقيقية.
فالرياضة هي علم الآداب التي وضع أكثرها بطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعة أنواع: أولها علم الكتابة والقراءة؛ ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات ومنها علم الشعر والعروض؛ ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله؛ ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما يشاكلها؛ ومنها علم الحرف والصنائع؛ ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل؛ ومنها علم السير والأخبار) ففي كلام ابن سهل والجاحظ وإخوان الصفاء علوم سميت آداباً وليست من علوم الأدب المصطلح عليها.
ويشعر بهذا التعميم قول الجرجاني في كتاب التعريفات:
(الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ) وقد يسر هذا التعميم حاجة الأديب إلى سعة المعارف والأخذ من كل فن بطرف (كما قالوا) وكذلك أدّى إلى هذا التعميم تولي الكتاب من الأدباء الوزارة ودواوين الدولة وحاجتهم إلى معرفة كل ما تصرفه الدول من السياسات وما يتصل بأعمالها من المعارف.
ومن شواهد هذا أن كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) ضمن خلاصة المعارف التي
كانت في عصره.
ومؤلفو الأدب في عصرنا يقسمون الأدب قسمين: الأدب بالمعنى الخاص وهو الشعر والنثر، والأدب بالمعنى العام وهو كل ما أدركته أمة من المعارف. فيقال مثلاً أدب العرب لما أثر عنهم من نظم ونثر. ويقال أدب العرب أو آداب العرب لكل ما أثر عن الأمة العربية من آداب وعلوم.
وإنما دعا مؤلفينا إلى هذا أنهم قابلوا بكلمة أدب الكلمة الإفرنجية وهي تدل على كل ما تسجله لغة في عصورها كلها أو بعضها وتخص أحياناً بما يسمى عندهم أي الكتابة الجميلة وهي الكلام البليغ من الشعر والنثر. فلما ترجم كُتَّابنا في معناها الخاص بكلمة أدب، وهي ترجمة صحيحة، ترجموها في معناها العام بكلمة أدب، وهي ترجمة تحمل الكلمة العربية أكثر مما شاع استعمالها فيه على مر العصور.
ولو استعملت كلمة (معارف) في هذا المعنى العام لكان أقرب إلى الوضع اللغوي وأبعد عن اللَّبس.
وكان من الترجمة عن اللغات الأوربية أيضاً أن سمينا (كلية الآداب) ترجمة للتسمية ويقابلها بالإنكليزية فأطلقنا الآداب على اللغات وآدابها والفلسفة والجغرافية والتاريخ وجعلنا كلمة (آداب) مقابلة لكلمة علوم التي ترجمتا بها كلمة
عبد الوهاب عزام
على الشاطئ الحبيب
(مهداة إلى الصديق الدكتور أحمد موسى)
للأستاذ محمود الخفيف
كَمْ تَوَقَّفْتُ عِنْدَ شَطِّكَ حِينا
فَمَلأَتَ الفُؤادَ شِعرْاً وَسَحْراً
تَتَمَلّى العُيونُ مِنْكَ جبيناً
من جبين الصباح أَسْطَعُ فَجْرَا
أنتَ أَشَهى طَلَاقَةً وسُكوُناً
وانهلالاً وأنتَ أَجْمَلُ بِشرا
إنّ هذا السكونَ يَغْمُرُ نَفْسي
من لِقْلبِي بِرُقْيةٍ من سُكَونِكْ
من لروحي بِحُسْوَةِ المُتَحَسَّي
مَنْ صَفَاءٍ تذيعُهُ في فُتُونِكْ
ما لهذا الصَّفاءِ يُغْرِقُ حِسَّي
ما أراه إلا أرَقَّ لحُوِنكْ!
ياَ شِرَاعاً لا تَنثْنَيِ عَنْهُ عَيْنِي
كيف يَسْهُو عن سِحْرِهِ مَنْ بَرَاهْ؟
نَامَتْ الفُلْكُ في سَلَامٍ وَأَمْن
وسَبَى النِّيلَ حُسْنُهاَ وَازدَهَاهْ
فَجَلَاهَا لْلِعِيْنِ فيِ صُورَتَيْنِ
يا لَحُسْن تَهَزُّنِي صُورَنَاْه!
رَاَعنِي ظِلّلهُ وَياَ رُبَّ لَحْنٍ
عَبْقَرِيّ يَرِقُّ عّنْهُ صَدَاْه!
دَقَّ في حُسْنِهِ فَقَصَّرَ فَنِّي
وَبَيَانيِ وَفَاتَ جُهْدِي مَدَاهْ
مَنْظَرٌ تَرْكَنُ النْفُوسُ إِلَيْهِ
يَغْرِقُ الَهْمُّ فِي سَنَي رَيْعَانِهْ
يَهْتِفُ القَلْبُ بِاَلجَمَالِ لَدَيْهِ
وَيَفِيضُ الشَّجِيُّ مِنْ تَحْناَنِهْ
…
لَمَحَاتُ اَلجمَالِ فيِ إِبَّانِهْ
تَسْكُرُ الرُّوحُ إذ تَرِفُّ عَلَيْهِ
…
فَتَوَلّي، فَرَاقَ فيِ نَاظِرَيْهِ
بالسُّلَافِ الشَّهيِّ مِنْ لَمَعَانِهْ
…
مَا جَلَاهُ الَخْيَالُ بَعْدَ أوَانهْ!
يَا لَعَانٍ تَنَازَعتْ أصْغَرَيْهِ
…
كُلُّ حُسْنٍ يَرِفُّ فيِ مُقْلَتَيْهِ
فَهْوَ مَا عَاشَ فيِ قَرَارِ جَنَانِهْ
هَكَذَا وَشْيُهُ وَسِحْرُ يديه
خَلَجَاتُ الَجَمَالِ من وجْدَانه
قِفْ عَلَى الشَّطِّ ساَعَةً وَتَأَمَّلْ
منظرَ النيلِ في سكونِ المسَاءِ
اجْتَلِ الحُسْنَ مِلْءَ عينيك وانْهَلْ
من صَفَاءٍ يُنسِيكَ كُلَّ صَفَاءِ
إيه يا نيلُ كَمْ يطوف بِقَلْبِي
عِنْدَ مرآكَ من بَهِيِّ المَعَانيِ
إن كبا الشِّعْرُ دونَهُنَّ فَحَسْبِي
أن أَرانيِ مُسَبِّحاً من بَياني
إيه يا نيلُ كَمْ بَنَيْتَ حَيَاةً
وَصَحِبْتَ الزَّمَانَ فيِ خَطَرَاتك
قَدْ نَبَتنْاَ على ثَرَاكَ نباتا
وطَعِمْناَ اْلجَنِيَّ مِنْ ثمراتِكْ
لا تري الأرضُ ما حَللْتَ مواتا
إذ تسير الحياةُ في خُطُوَاتك
أنْتَ أجْرَيْتَهُ شَهيِّاً فُرَاتاً
كُلُّ حَيٍّ أَنفْاَسُهُ مِنْ فُرَاتِك!
يا أَخا الدَّهْرِ كَمْ وَلَدْتَ بُنَاةً
مَن عَلَى الأَرْضِ سَابِقٌ لِبنُاَتِكْ؟
إِن تكن قَدْ عَدِمْتَ حيناً رواةً
إن هذا الترابَ خَيْرُ رُوَاتِكْ
بشرُ واديك يقظَةً وَسُباتاً
أي شَئ أحلى لهُ من سباتك؟
الخفيف
أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
لزمت هوميروس أعواماً ثلاثة أدرسه وأترجمه وألخصه فما ضقت به، بل ازددت له حباً وبه إعجاباً. وكنت كلما تركته فترةً أحسست شوقاً عجيباً إلى أدبه يجذبني ويلح على فأعود إليه فيخيل إلى أنه قد شرع يغني لي ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عوداً على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس وديوميدز وأوديسيوس في جانب المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى ينصرون أو يخذلون ما أجمل هوميروس!
لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافاً شديداً، لكن اختلافهم لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بداً من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته في كلتيهما وأن يطبعها بطابعه الخاص. . فلم لا يكون المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجُة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكوّن أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، وما يزالون ينهلون. . هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟
ألا يكون التواتر صحيحاً في أربعة قرون ويكون صحيحاً في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريد من
الإلياذة ومن الأوديسة ومن غير الإلياذة والأوديسة، وكان هيرودوتس خبيراً بأدب بلاده وبتاريخ هذا الأدب، وكان يعرف أن الإلياذة والأوديسة لم تكونا معروفتين بحالهما الذي تواتره الناس عن هوميروس، قبل هوميروس. . . حقاً لقد كانت الأساطير التي حشدها هوميروس في ملحمتيه معروفة قبله بأجيال، لكنه كان أول من نظمهما في هذا العقد الجميل الرائع الذي قبس منه إسخيلوس وسوفوكلس، والذي حام حوله يوربيدز، والذي ظل مورداً لجميع شعراء الكلاسيك من غير استثناء
لقد كتب هيرودوتس تاريخه في زمن استقرار الحضارة اليونانية ونضوجها. . . ونحن نلمح في تاريخه روح النقد والتمحيص، والبحث والتحقيق، فهو إذا روى لم يثبت إلا ما يراه متفقاً عليه من الناس، فإذا رآهم يتفقون على شيء لا يطمئن إليه ضميره لم يبال أن يقول بعد إثبات ما اتفقوا عليه: أما رأيي فهو كيت، أو أنا أعتقد كذا. . . ولم يكن يبالي كذلك أن يدلي برأيه في الآلهة، فقد صرح أنه لا يدري من أين نشأوا، وأن شيئاً عن ذواتهم لم يكن معروفاً إلى زمنه. . . وذهب إلى أبعد من هذا فقرر أنهم جميعاً من صنع هوميروس وهسيود اللذين وضعا الإغريق ذلك الثبت الطويل من الآلهة وأنصاف الآلهة ثم راحا يوزعان عليهم ذلك الاختصاص العجيب من مقاليد البر والبحر والأفلاك والهواء والنور والظلمة والحكمة والفنون. . . وقد رفض ما ذهب إليه الشعراء من أن هذا التوزيع وذاك اللاهوت بطقوسه التي تعارفها الناس كانا موجودين قبل هوميروس وهسيود. . . وأكد أهن الميثولوجيا اليونانية كلها لم تعرف إلا بعدهما. . .
إذا كان هيرودوتس قد ولد سمنة 484 قبل الميلاد، فليس يبعد أن يكون هوميروس قد ولد سنه 884 أو حوالي ذلك. . . أو أنه قد عاش بالفعل في القرنين التاسع والثامن. . . أما ما قيل غير ذلك فلم تقم على إثباته حجة، ولم يؤيده برهان
وتتنازع فخر مولده مدائن شتى. على أن الذي حققه المؤرخون ويؤيده ما جاء في ترتيلة أبولو أنه من مدينة خيوس الواقعة في الشاطئ الشرقي من الجزيرة المسماة باسمها والقريبة من مدينة أزمير، وهو لهذا إيونيوي (من إيونيا) بدليل أن أقدم نسختين من الإلياذة والأوديسة مكتوبتان بلغة إيونيا ويختلف المؤرخون في اسمه وفي معناه، فيذكرون له أسماء معقدة لا داعي لذكرها هنا. . . ثم يفسرون أسمه فيقولون إنه يعني (أعمى) وإلى ذلك ذهب
هيرودوتس وهو يعلل ذلك بأن الاسم (هوميروس) مركب من هو - مي - أورون - ومعناها: الرجل الأعمى. ويتعصب هيرودوتس لهذا التأويل بالرغم من وجود تفاسير أُخر قد تكون أقرب إلى المقول من تفسيره هو. . . ذلك أن بعض القدماء يقولون: إن كلمة هوميروس قد تكون مشتقة من (هوميريدا). وهي اسم لإحدى العشائر التي كانت تقطن جزيرة خيوس آنفة الذكر، وقد قطنوها برغمهم لأنهم كانوا أسرى حرب (رهائن) نفوا إلى تلك الجهة. وذاك بدليل أن كلمة هوميروس نفسها تحمل معنى أسير تحت الفدية أي رهينة حرب
ولم يضمن هوميروس إحدى ملحمتيه الخالدتين اسمه كما صنع هسيود في منظومته العظيمة (ميلاد الآلهة وتناسلها) فقد ذكر في مقدمتها اسمه الصريح. ثم ذكر في قصيدته الأخرى (الأرجا كيف هاجر من كيمي إلى أسكرا، وكثيراً من حياته الخاصة وحياة أهله. ولو قد صنع هوميروس مثل هذا، أو شيئاً من هذا لما وقع المؤرخون في هذا الخلط الكثير عن شخصه وعن زمانه وعن حقيقته.
ولم يشر قط إلى السبب الذي ذهب ببصره؛ ويؤكد المؤرخون أنه قضى شطراً عظيماً من عمره بصيراً سليم العينين بحيث استطاع أن يقرأ ويكتب ويسجل كثيراً مما نظم. ويذهب بعضهم إلى أنه بدأ نظم ملحمتيه - أو إحداهما - وهو بصير معافى
وكل ما جاء في ذلك لا يعدو إشارة طارئة في آخر ترتيلة أبولو يخاطب فيها العذارى اللائى كن يغين إلى إنشاده: (إذا سألهن أيما ظاعن أي المنشدين أحب إليهن وآثر إلى قلوبهن أن يجبن على الفور إنه رجل أعمى من قطان خيوس الجبوب المعزاء وإن أغانيه يخلدان آخر الزمان!)
وحتى هذه الفقرة لم تسلم من تشكك المؤرخين في قائلها، هل هو رواية هوميروس، أو هو هوميروس نفسه!
هذا ولقد كان للإغريق أدبهم وأشعارهم وأغانيهم وموسيقاهم قبل هوميروس. وليس معقولاً أن هوميروس هو الذي بدأ ذلك جميعاً، لأن ذاك الكمال أو ما يقرب من الكمال الذي جاء في ملحمتيه لا يمكن أن يأتي طفرة. . . وإذا صدقنا هيرودوتس يكون هوميروس صاحب فضلين على سكان هيلاس - اليونان - كافة. . . فهو الذي صنع آلهتهم وأنشأ بذلك
لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب. . . ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم
والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر، إذ كان من دأب دويلات بحر إيجة استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم. وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقيه. الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين. ولم يحفظ لنا التاريخ شيئاً من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتقاً مما كان يستشهد به اللغويون مؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء
وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم. . . ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطئان البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها
ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهوداً أو يلتفت فيه الناظم إلى ما يلتفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي. . . وقد يحسب قارئ أدبهم أنه من عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون. . . وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا، فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون.
والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا في شعراء الدرامة، ثم في شعراء الإسكندرية بعد ذلك. وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعني إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو
للتمثيل. وهو لهذا يحصر انتباه سامعيه في صميم القصة، وقل أن يشرد بهم خارجها كما يصنع شعراء الرومانتيك. وقل كذلك أن يستعمل الأصباغ لتطرية بيانه كيما يستر فيه ضعفاً أو يعوض السامع بفخامة العبارة تفاهة الموضوع، فهو دائماً يلتزم الروح ولا يلتفت إلى دمام الجسم إلا بقدر، وإلا في حدود النظم الذي أخذ به نفسه في الملحمة
وفي ذلك يقول الأستاذ بورا: (إنه يكتب - أو ينظم - لكل الناس وليس لطبقة بعينها من الناس)
وقد ساعد هوميروس تقلبه في البلاد في هضم اللهجات المخلفة في الأصقاع المتدانية اليوم - المتنائية يومئذ - التي زارها. ونحسب أنه من أجل ذلك تنازعت فخر مولده هذه المدائن السبع التي فعلت ذلك، فقد كان يقيم حقبة بكل منها فينشد إلياذته - ولما يكن قد نظم الأوديسة - ويغنيها بلهجة الجهة التي هو مقيم فيها فيتقن إنشادها بهذه اللهجة إتقاناً لا يدع أثارة من الشك في أنه من أهلها. . . وهنا ملاحظة طريفة انتبه إليها كل من برتون راسكو الأديب الناقد الأمريكي وجلبرت موري - المؤرخ الثقة في الأدب اليوناني - ذلك أنه لا بد أن يكون هوميروس قد نظم الإلياذة مرتين. . تُتلى إحداهما في بلدان الشاطئ الأسيوي وفيها يُغَلّب أبطال طروادة على أبطال هيلاس. . وتتُلى الأخرى في بلدان هيلاس، وفيها يُغَلّب أبطال هيلاس على أبطال طروادة ويُظفرهم بهم. . . وبغير هذا لم يكن يستطيع أن ينشد إلياذةً واحدة في كلا الشاطئين. ولو صح أنه فعل لثار به الأهلون بفعل العصبية ولمزقوه إربْاً. . . لأنه كيف يترك أخيلا مثلاً يقتل هكتور وهو ينشد هذا الشعر لأحلاف هكتور وأهله. . . وكيف يسيغ أن يترك هكتور يقتل أخيلا إذا كان الإنشاد للملأ من مواطني أخيل؟
غير أن هذه الملاحظة ما تزال تفتقر إلى ما يثبتها، لأن الإلياذة التي بأيدينا هي التي كانت تنشد وتغنى في هيلاس
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة
لو كان. . . لكان.
. .
للشاعرة ليلا هويلر ولككس
بقلم السيدة الفاضلة (الزهرة)
إننا نكون في الحالة التي نستطيع بلوغها فلا تقولوا:
لو لم يكن كيت وكيت، لكان تحقق لنا هذا الأمر أو ذاك فليس في تصاريف الحوادث والحظوظ والعوارض ما يمكن أن يثنينا عن النهج الذي اختارته لنا القدرة العلية
ولا يقدر على جلائل المدارك ومعالي الأمور إلا كل ذي همة قعساء.
إننا نؤدي الأعمال التي نرغب في أدائها، ونقدر على إنجازها، فإياكم أن تحلموا وتكتفوا بالأحلام، فإن الفرصة تتخلى عن البطل ولا تواتيه، وإنما تغادره حزيناً غير متوج
وإني لأعتقد أن جميع الناس تنم عنهم ظواهرهم وتبدو سيماهم على وجوههم ويعرفون من ثمارهم
والفعّال الحق هو الذي يستطيع أن يعمل في حزم، وينفذ في جدّ. . .
إننا نختار المراقي التي نستطيع تسلقها، فلا تحدثوني عن القواصف الهوجاء التي صدتكم عن تسم الذروة
وأي نسر ضل سبيله عن المرتقى الذي كان يلتمسه ولم يدرك المصعد الذي اتخذ إليه سمته. . .؟
حقَّاً إن الذي يزجم منكب الجوزاء فيتذرى الأوج دائماً، هو الذي يجد في طلابه
ولشدّ ما أمقت هذه العبارة القائلة: (لو كان. . . لكان) فإنها خلو من كل حوْل وقوة، مشوهّة لأجمل حقائق الحياة
وإني لأعتقد أننا ننال وندرك كل ما ينبغي أن يكون أجراً لكدحنا وجزاء لجهادنا
(الزهرة)
بيني وبين نفسي
للأستاذ على الطنطاوي
نظرت اليوم في سجل ميلادي، فوجدتني على أبواب الثلاثين فتركت عملي وجلست أفكر. ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي! لم يبق إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق، ومسارب الأعظمية في بغداد، وغابات الصنوبر في لبنان. . . إي والله، وعلى طريق الأهرام في مصر، وضفاف (الشط) في البصرة، وحوائط النخيل في يثرب أشلاء من قلبي وأشلاء. . . فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل؟ لا شيء! لا مجد ولا مال ولا بنين. لم أفد إلا اسماً مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذم، والتمجيد واللعن. ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء.
إن اسمي ليس مني. إنه مخلوق من حروف، ولكني إنسان من لحم ودم. فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء؟ ولم أملك إلا قلباً أحبّ كثيراً، وأخلص طويلاً، ولكنه سقط كليماً على عتبات الحب والإخلاص، ورأساً حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف فأثقلته علومه عن التقدم، فاحتلت مكانه الرؤوس الخفيفة الفارغة. . .
فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة، يطفو فيها الفارغ ويرتفع، وينزل الممتلئ ويغوص
إني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين، أولئك الشباب الكمّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار، فأجد بيني وبينهم بوناً شاسعاً، وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبداً. . . ذلك لأن كل ما أعلمه أني ولدت وأنا أبن أربع سنين. فأدخلت المدرسة. فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان، وأرتقي من صف إلى صف، وأستمتع بالعطلة. فلما أكملت دراستي العالية ولم يبق من مدرسة، ولم يبق امتحان وقفت فلم أتقدم، وفقدت غايتي فلم أعد أحس أني أعيش؛ ثم تلفتّ إلى الماضي أعيش بذكراه، فأصبح كلما انقضى علىّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء، فأنا أصغر كلما كبرت، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها. فمتى أبلغ الثلاثين، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى؟
وغشيت قلبي غاشية من غّم، فأشعلت عوداً من الكبريت لأوقد دخينة، وكنت في ذهلة
فسرت النار في العود ثم تأججت وتوقدت، وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقاً في عالم بعيد الغور حتى أحسست بحرارة النار في يدي، فانتبهت وألقيت العود، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير مع النسيم. . . فقلت: هذه هي الحياة. إن الألم الذي أحسسته يلذع نفسي هذه العشية كلذع النار أصبعي، سينتهي بي إلى مثل هذا المصير. سأمضي كما مضى هذا العود، ولكني لا أخلّف ورائي شيئاً. لن أدع مالاً ولا جاهاً ولا عملاً، لأني اشتغلت وا حسرتي بالأدب. .
ويا ليتني تفرغت بعد الأدب، ولم يستغرق حياتي الكدح للعيش. . . إني لم أعمل شيئاً. إن في رأسي وقلبي شيئاً كثيراً، ولكن قلمي مكسور، ودواتي جافة، ولساني مشدود بنسعة، فأنا لا أستطيع أن أقول. . .
عندي ألحان كثيرة، فأنا أحب إن أغني، ولكن الغناء يستحيل من الضيق إلى زفرات تخرج مقالات فيحسبها الناس ألحاني كلها، إلا أن ألحاني لا تزال في صدري لم يسمعها بشر.
وماذا ينفعني أن يسمعها الناس فيطربوا ويصفقوا وأتفرد أنا بالخيبة والألم؟ إن الناس لا يألفون إلا الأغاني الفارغة المدوية، فلتبق أغاني العذبة في صدري، أسمعها وحدي من غير أن يتحرك بها لساني، لأن لساني مشغول بإلقاء الدرس!
كل ما أكتب زفرات متألم وإشارات أخرس، فهل يأتي اليوم الذي تنحسر فيه الزفرات عن الأغاني والإشارات عن الألفاظ والمعاني. . .؟
على أن هذه الزفرات وهذه الإشارات عزاء نفسي، فكم لهذه (الرسالة) من فضل عليّ، وكن من الفضل لهؤلاء الأدباء الذين يستطيعون أن ينقلوني من دنياي هذى الضيقة، إلى دنيا واسعة تطير روحي في أجوائها حرة طليقة! فهل يدري الزيات، أو هل يدري معروف الآرناؤوط، أني طالما أحييت الليالي الطويلة في فرتر وروفائيل وسيد قريش وعمر بن الخطاب، وأني طالما لجأت إليها أقرع بابها وأتواري وراء سورها في جنان سحرية لا أستطيع أن أصفها بأكثر من إعلان العجز عن وصفها؟ فأي عالم في رأس معروف، وأي دنيا في صدره؟ وأي نبل وسمو في هذه اللغة، لغة معروف ولغة الزيات ولغة الرافعي هذه التي تتيه بجواهرها ولآلئها على حين تمشي لغات كتاب العصر بأسمالها البالية ومزقها المخرَّقة. . . لغة فخمة تشعرك بالسيادة والعظمة، لا كهذه اللغات الهزيلة العارية. . .
وكم من الفضل لهيكل عليَّ، فلقد سلخت في قراءة كتابه (منزل الوحي) أياماً كنت أعيش فيها في عهد النبوة، ولقد مررت بهذه البقاع التي يصفها، وأثارت في نفسي عوالم من الذكريات والآمال والخواطر، فإذا أنا أجدها كلها وأجد أكثر منها في كتاب هيكل. . .
هذه هي الواحات التي لقيتها في صحراء حياتي، في سفر الثلاثين سنة، فلولا عالم لإمرتين أنفذ إليه من خلال نفس الزيات ولغته البارعة، وأسلوبه السماوي الذي أسمع غناء كلماته وهتافها في كل جملة، حتى كأن كل كلمة يقرنها الزيات بأختها عروس تزف إلي بعلها؛ فأنت حين تقرؤه أبداً في عرس، تشم عطره، وتسمع غناءه، وتحسَّ في نفسك طربه. ولولا معروف وعبقريته، ولولا هؤلاء المؤلفين الذين قبست منهم السعادة والاطمئنان، كانت حياتي صحراء قاحلة، وما كنت أطيق الحياة. أفليس أكبر المكافأة للكاتب أن يعيش على آثاره للناس؟
يا رحمة الله على تلك الأيام. أيام كنت أغلق فيها بابي عليّ. . . ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء، وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً. ولماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها
إلا يحيا الكاذب المنافق سعيداً موقراً، ويموت الصادق الشريق فقيراً محتقراً؟ ألا يصدق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويكذبون العالم الفاضل؟ أليس طريق الشعبذة وادعاء الكرامات والمخرقة على الناس بعلم أسرار الحروف، واستحضار المردة، واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم، آثر عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالم متخصص أو باحث مدقق، وتنهال على يده الأموال، وتزدحم على يده الشفاه؟ إلا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل في السيارة الفخمة، ويسكن القصر العظيم، ويحتل المرتبة العلمية العليا، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟
أليست أسواق الرذيلة عامرة دائرة، وأسواق الفضيلة دائرة بائرة؟
إلا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟
فلماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟
وقمت وقد صفيت حسابي مع الحياة، فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري وربيع حياتي ولم أربح شيئاً. . .
على الطنطاوي
الأمل.
. .
(إذا كانت الحياة وردة، فان الأمل كمامها)
للأستاذ ابن عبد الملك
أجل يا صديقي مُسِّيه: الله في السماء والأمل في الأرض! وبين رَوْح الله المؤاسي، ومَدد الرجاء الآسي، تندمل الجفون القريحة، وتلتئم القلوب الجريحة، وتنتعش الجدود العاثرة
الكروان يموت فرخه في المساء وفي الصباح يرقص ويصدح، والشاة يُذبح حَمَلها في الحظيرة وفي المروج تثغو وتمرح، والقلب يُقطع من القلب، والروح تُنزعُ من الروح، ثم يعيش المحب بعد حبيبه، والوالد بعد ولده، كما يعيش النهر الناضب في ارتقاب الفيضان، والروض الذابل في انتظار الربيع!
لله على الناس نعمتان لا يطيب بدونهما العيش ولا يُبَلغ إلا عليهما العمرُ: النسيان والأمل.
ماذا كان يصنع الأسى بالقلوب الوالهة
إذا لم يمح النسيان من الذهن صورة الحبيب الراحل أو الهاجر؟ تأمل حالك يوم فجعك الموت في عزيز عليك، أما كنت تجد لهيب الحزن متصلاً يوقد صدرك من غير خُبُوّ، ويذيب حشاك من غير هدنة؟
تصور دوام هذه النار على نياط القلب وأعصاب الجسد، ثم قدر في نفسك الحياة على هذه الصورة. على أنها والحمد الله لا تدوم؛ فإن الجبار الذي سلط الألم على الروح، هو الرءوف الذي سلط الزمن على الألم. فالزمن لا ينفك يسحب الأيام والليالي على الصور والآثار حتى تنطمس المَشابه، وتعفو الرسوم، ولا يبقى من المفقود إلا صورة لا تنطق، ولا من الجرح إلا ندبة لا تحس
وماذا كان يفعل اليأس بالنفوس المكروبة إذا لم يفتح الأمل أمامها فرجة في الأفق المطبق وفسحة من الغد المجهول؟
يا ويلتا للفقير يعتقد أن فقره يدوم بدوام الحياة، وللمريض يرى أن مرضه ينتهي بانتهاء الأجل! ويا بؤسَ للحياة إذا لم يقل المأزوم والمحروم والعاجز: إذا كان في اليوم قنوط ففي الغد رجاء، وإذا لم تكن لي الأرض فستكون لي السماء!
ابن عبد الملك
على هامش الفلسفة
اختلاف الأفكار والنظريات الأخلاقية
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
قلنا في الكلمة الأولى: إن الأخلاق تعتبر علما من العلوم إذ كانت تصل في بحوثها إلى آراء وحقائق أخلاقية تبلغ من العموم وقبول الناس لها مبلغ الحقائق العلمية. ولكن هل توجد هذه الحقائق العامة للجميع؟
مذهب الشك الأخلاقي ينكر وجود أمثال هذه الحقائق التي يقبلها الناس جميعاً: البيض والسود، والحمر والصفر؛ لأن القواعد الأخلاقية ليست إلا عادات وتقاليد تختلف باختلاف العصور والبيئات؛ وليس يعوزنا أن نجد لهذا الرأي سندا في التاريخ. هذا موُنْتَاني الفيلسوف والأخلاقي الفرنسي المعروف، بعد أن جمع كثيراً من الآراء والأحكام الأخلاقية، يؤكد هذه النظرية بقوة حين يقول: لا يوجد شيء أكثر اختلافا بين أمم العالم بأسرها من العادات والقوانين. كثيراً ما نجد أمراً ممقوتاً هنا ممدوحا بل موصى به هناك؛ في إسبارطة كانوا يمتدحون المهارة في الفن ويتواصلون بها بينما كان محرما عند غيرهم؛ وقتل الآباء المعمرين إشافقا عليهم من تحمل أعباء الحياة وتكاليفها نراه مباحا بل مأمورا به لدى بعض القبائل التي لا تزال في دياجير الظلام، وأخيرا لا يوجد أمر غير مرضي هنا إلا ويكون محمودا عند أمة أخرى).
وباسكال الفيلسوف الفرنسي الذائع الصيت استعاد بعض ما أتى به مُونْتَاني من مثل وحجج، وأتبع ذلك بفيض من فصاحته اللاذعة إذ يقول:(لا يوجد تقريباً شيء عادل أو غير عادل إلا ويغير من صفته تغير إقليمه؛ ثلاث درجات في الارتفاع إلى القطب تقلب رأسا على عقب كل ما عرف من عدالة. خط واحد من خطوط الزوال يتحكم في الحقيقة والحكم الخلقي - الحق له أزمانه وبيئاته، عدالة مضحكة هذه التي يحدها نهر! حقيقة أمام جبال البرينيه خطأ وضلال وراءها)
حقيقة أن التاريخ وعلم الاجتماع ليؤكدان أن القواعد اختلفت باختلاف العُصُر، كما اختلفت
وتختلف في العصر الواحد بحسب البيئات. الرق كان نظاماً معروفاً لدى العبرانيين والمصريين القدماء والهنود والصينيين والعرب في الجاهلية، وإن اختلقوا شدة وليناً وقسوة ورحمة في معاملة الأرقاء. كما كانت الجمعية الإنسانية في المدينة الإغريقية - التي يفخر بها الأوربيون اليوم - تقوم على استرقاق فريق من المواطنين؛ حتى أن أرسطو بجلاله قدره يبرره لاعتبارات مختلفة: منها أنه لابد من العبيد ليتوفر الرجال الأحرار على الدراسات العقلية العالية، وأنه يوجد أناس بلغوا من السفالة والضعة أن يفهموا أنهم خلقوا للاستعباد. كما لم تمنعه الديانة المسيحية ولا الدين الإسلامي أيضاً؛ وإن لم تنبه الشريعة الإسلامية كغيرها على أن من الناس من خلقوا للذل والهون، ومن لا ترتفع بهم طبائعهم إلى مراقي الأحرار بل جعلت سببه أمراً واحداً: هو الكيد للإسلام ومحاربة الله ورسوله، ثم تدور الدائرة عليه.
هكذا كان الرق نظاماً معروفاً في الأزمان الماضية؛ أما في أيامنا هذه فقد صار معتبراً من أشنع المظالم الإنسانية، وغدا محرماً تحريماً باتاً.
لنترك الآن حق الحرية الشخصية وما كان فيه من اختلاف، لنلقي نظرة على حق الحرية الفكرية لنعلم ماذا كان حظه من تقدير الناس واتفاقهم عليه كحق عام يجب أن يتمتع به الجميع.
في العصور المتوسطة كان عدم التسامح الديني لدى المسيحيين مبرراً لا نكير فيه. ما كان أكثر رجال الدين الأعلام الذين كانوا يؤكدون أن الحقيقة لها كل الحقوق ومن بينها اضطهاد الضالين - في رأيهم طبعاً - بوساطة القوة! وأية حقيقة هذه التي كانوا يتكلمون عنها؟ إنها الحقيقة التي يعتقدونها، أي حقيقة كنيستهم؛ فالتعاليم التي تتعارض وتعاليم كنيستهم كلها ضلال، كلها إلحّاد، كلها جرائم موجهة ضد الإرادة الإلهية فهي حرية بأشد العقاب. هاهو ذا سانت أوجسْتينْ مع رجاحة عقله وسمو فكره يوصي بالالتجاء للإكراه لهداية الضال حينما تعوز الحيلة ولا ينجح الإقناع. وكذلك سانت توماس (أبعد رجال الكنيسة الغربية ذكراً: 1226 - 1274) يقول في بعض ما كتب: إذا كان المزورون والمجرمون يعاقبون عدلاً بالإعدام، فحري بنا أن يكون جزاء الهراطقة الخوارج عن الدين لا الحرمان الأبدي من الكنيسة فقط بل الموت الزؤام. وقد كان من أثر هذا التعصب الممقوت ما يذكره تاريخ
فرنسا من المذابح التي سالت فيها الدماء أنهاراً بين الكاثوليكيين ودعاة الإصلاح الذين اعتبروهم ملاحدة خرجوا على الدين.
ولسنا في حاجة لذكر ما كان من محاكم التفتيش في أسبانيا النصرانية، وما أنزلته بالأبرياء من عذاب لا لشيء إلا حداً من حرية الدين والفكر، ولا لما كان من تعذيب بعض سادات قريش وغير قريش في الجاهلية لبعض الذين هداهم الله للإسلام ليعودوا مشركين. لسنا في حاجة لذكر هذا وأمثاله لنتبين كيف كانت عقلية الناس حتى كبار الأحلام في تلك الأيام! أما في أيامنا هذه فيعتبر عدم التسامح سبة وجريمة أخلاقية مهما كان سببه ومأتاه. العقول الحرة تأباه وتجده مرذولاً، وغالب رجال الأديان يمقتون الإكراه في سبيل نشر ما يعتقدون (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء. لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم).
على أننا نقول إن الأمر كاد في هذه الناحية يعود قريباً من سيرته الأولى: أحداث تجد، وأفكار تتغير، وأنماط في الحكم تستحدث في بعض دول أوربا تقيد بل تلغي حريات الناس. فلا يفكرون إلا بقدر، وعلى ما يهوى السادة الحكام!
ثم حقوق النساء؛ أترى الناس كانوا فيها على اتفاق؟ لا. إن التاريخ شاهد صدق على اختلاف الناس فيها اختلافاً كبيرا. كان الأثينيون - وهم من تعلم مدنية وحضارة في الأزمان الماضية - يرون المرأة سلعة تباع وتشترى، وجعلوا مهمتها في الحياة تربية الأطفال وتنظيم البيوت. واليهود أباح بعض طوائفهم للأب بيع ابنته وهي قاصرة. وفي فرنسا قديماً بلغ من امتهان المرأة وهوانها عندهم أن عقد في بعض الولايات الفرنسية مؤتمر عام سنة 586 م، اخذوا يبحثون فيه حالة المرأة ومركزها في المجتمع، وما إذا كانت تعد إنساناً أو غير إنسان، وانتهى الأمر بتقرير أنها إنسان؛ ولكن خلقت لتخدم الرجل ليس غير! ولا تنس ما كان من وأد بعض عرب الجاهلية بناتهم، ومن اعتبار المرأة كالمتاع تورث عن أبيها وزوجها. والآن تغير هذا كله، وأصبحت المرأة مساوية للرجل إلا في بعض حقوق يرى بعض الأمم من الصالح العام عدم منحهن إياها
وإذا كانت النظريات والآراء الأخلاقية تختلف في الأمة الواحدة باختلاف الزمن، فهي كذلك
مختلفة في الزمن الواحد باختلاف البيئات. بينما نرى في هذه الأيام الناس الذين هم على الفطرة كسود استراليا يعتقدون دينيّاً قدسية بعض أنواع النبات والحيوان، فيكون الموت جزاء من يجرؤ على أكل شيء منها كما نرى البراهمة في الهند يقدسون البقرة ويعتبون أكبر الجرائم قتلها أو الأكل من لحمها، وتقوم بينهم وبين مواطنيهم المسلمين لهذا السبب المعارك الدامية - بينما يرى هذا وأمثاله كثيراً، نرى كثيراً من سود أفريقيا يستحلون بل يفضلون أكل لحوم البشر من أعدائهم الذين يسقطون في ميدان الحرب، أو عبيدهم الذين يعنون بتسمينهم ليكون منهم غذاء دسم شهي، أو أقاربهم الذين نالت منهم السنون وعجزوا عن احتمال أعباء الحياة
في مقابل هذا وذاك نجد بعض البوذيّين الدينيين كرهبان الهند الصيني يعدون جريمة قتل أي كائن حيّ مهما كان؛ ويصل الأمر بهم إلى ترشيح مياه الشرب حتى لا يبتلع أحدهم أثناء شربه أية حشرة حقيرة غير مرئية فيكون في ذلك موتها. أما نحن فنتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين احترام الحياة الذي يعده هؤلاء الرهبان حقاً مقدساً لكل حي لا نراه حقاً إلا للآدميين، ولا يعترف به أولئك المتوحشون إلا لعدد قليل كأسرة الشخص أو قبيلته أو أفراد قريته
كذلك الانتحار الذي يحرمه الدين الإسلامي وتنكره المدنية الأوربية الحالية، يعده اليابانيون تقليداً وطنياً طيباً، ويرونه واجباً في كثير ما الحالات؛ ينتحر الياباني حين يرى أنه جُرد من شرفه أو عانى سقوطاً فاضحاً كبيراً، وينتحر احتجاجاً على ظلم ارتكب، أو نحو ذلك من العوامل الأخرى التي تجيزه في رأيهم. ذكر الأستاذ شالِيْ في كتاب له عن اليابان بعد رحلة إليها طائفة كبيرة من حوادث الانتحار وعوامله؛ منها: أن ضابطاً انتحر سنة 1891 ليلفت نظر الحكومة والرأي العام إلى تعدي الروسيا على بعض النواحي في شمال اليابان، وأنه في سبتمبر سنه 1892 انتحر الضباط الكبار وزوجته أثناء سير جنازة الإمبراطور إظهاراً لإخلاصهما له وعدم رغبتهما في الحياة بعده
وحرمة مال الغير لم تكن دائماً حقاً مقدساً لكل إنسان. التاريخ يقفنا على أن الغارات على الآمنين من القبائل الأخرى كانت من أبواب الارتزاق لدى كثير من الأمم في جاهليتها؛ واليهود كانوا يرون مال الغير - أي غير اليهود - حلالاً سائغاً لهم: (ومنهم من أن تأمنه
بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)
من السهل مضاعفة هذه المثل والإتيان بغيرها مستمدة من حياتنا الحالية وتقاليدنا المختلفة في الصعيد أو الوجه البحري مثلاً من مصر، وخاصة فيما يتصل بالأفراح والمآتم وعادات أخذ الثأر والانتقام، مما يؤكد أن الآراء والأحكام الأخلاقية تتغير مع الزمن وتختلف مع الأوساط والبيئات
ولكن هل من الحق رغم تضافر هذه الشواهد كلها أن ننكر أن هناك حقائق أخلاقية عامة سايرت العُصُر وسادت في جميع البيئات؟ بيان ذلك في الكلمة الآتية إن شاء الله
محمد يوسف موسى
التاريخ في سبر أبطاله
محمد شريف باشا
كان شريف في عصره رجلا اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال
للأستاذ محمود الخفيف
ساقت الأقدار ولاية العهد لإسماعيل فاستبشر الناس وارتقبوا عهد هذا الأمير الذي ذاع من صفاته فيهم ما حببه إليهم، وكانوا قد علموا أنه من ذوي النباهة والحزم وبخاصة في شؤون المال! ولم يطل ترقب الناس، فقد آل إليه الأمر عام 1863 م وراحت مصر تستقبل طوراً من أطوار تاريخها، نحار أشد الحيرة ماذا نسميه وبأي الصفات ننعته. . طوراً كان غريباً حقاً، تترك غرابته العقول في دهشة شديدة وتكلف من يريد الإنصاف في درسه عسراً شديداً
ما برحت فرنسا وإنجلترا تراقبان الحوادث في وادي النيل؛ أما فرنسا فكانت لا تني تعمل على أن تزيد نفوذها الأدبي في مصر، ذلك النفوذ الذي وضعت أساسه حملتها في هذه البلاد والذي ما فتئ يتزايد ويعظم في عهد محمد على، وهاهو ذا في عهد إسماعيل قد بلغ غايته حينما اتصل في عهده البحران واستطاع ديلسبس أن يجري بينهما تلك القناة التي سوف تغير مجرى تاريخ هذا الوادي. . وأما إنجلترا فكانت على سياستها تحول دون ظهور قوة في مصر، وقد استراحت من محمد على وراحت اليوم تقف في وجه حفيده وتحرص على أن يظل خاضعاً للخليفة، ولما التقى البحران أصبح همها متجهاً إلى السيطرة على مصر لتسيطر على القناة
وكان شريف من رجال هذا الطور في الصف الأول ولكن كان ذلك من الوجهة الرسمية فحسب، فلقد لبث من عمره سنين لا تحس مصر شيئاً مما ظهر له من خطر في أواخر ذلك العهد. . . شهدت مصر في هذا الطور جلائل الأعمال ومظاهر الاستقلال، كما شهدت عوامل البلى وعناصر الانحلال. شهدت يد التعمير تبعث الحياة والنشاط والقوة في العاصمة وعلى صفحة الوادي؛ وشهدت يد التخريب تهوي بمعولها في غير هوادة أو رحمة
فتزلزل البنيان وتقوض الأركان. شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين؛ شهدت نوازع الاستبداد وشهدت دوافع الحرية؛ شهدت مواقف البطولة والصدق؛ وشهدت مخازي الدس والبهتان. . . شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه مثل ما تشهد الفريسة تجمعت عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد
أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا، ولا أن تكون جزءاً من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطم الأصفاد وتطرح عن عنقها نير الاستعباد
لم يمض من عهد هذا الأمير الفذ اثنا عشر عاماً حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقي ما لم يكن ليتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي. . . ففي تلك الفترة الوجيزة وصل بين البحرين وشقت الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النهر وغرينه ما يدرأ عنها رمال الصحراء. ومدت سكك الحديد وأسلاك البرق، ونظم البريد ومهدت السبل وعقدت الجسور، وأصلحت الموانئ وأقيمت المنائر، وشيدت المصانع وافتتحت دور العلم للبنين والبنات وعني بالمتحف
وفي تلك الفترة تقلص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو وسمح له بمنح الالقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيراً من الإصلاح وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهراً بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوروبا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصة (بالمونة والأحجار) تلك التي كانت هوى الخديو ومسرة فؤاده
ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجد ما زاد على خمسين مليوناً من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر. . . ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لأن تكون ملكاً لأوربا! فمن أوربا استدانت تلك الملايين؛ ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لذلك الدين.
أين كان شريف حين أخذت مصر في سياسة الاستدانة؛ وكيف فاته وهو الأريب الحاذق ما كانت تبيت إنجلترا من غدر لاقتناص مصر؟ أو لم ير أنها كانت تقيم من أموالها حول
الوالي شباكا أحكمت نسجها يد المكر، وبالغت في سترها الرؤوس الماهرة والقلوب الغادرة؟
كان شريف ناظراً للخارجية كما سلف أن ذكرنا، فلما تم لإسماعيل الأمر أضاف إليه نظارة الداخلية، فهو يعرف شريفا معرفة خبرة ووثوق إذ كان له زميلا في الدراسة؛ وبقي شريف يدير المنصبين متمتعا بثقة إسماعيل وعطفه، خليقا بما نال منه من تكريم، وأي تكريم. كان أعظم يومئذ من أن يقيمه الوالي نائبا عنه حينما رحل إلى الآستانة عام 1865 وما كان إسماعيل ليفعل ذلك لولا أنه كان يرى شريفا أكثر الناس ولاء له
على أن شريفا لم يك يملك غير النصح في عصر كذلك العصر وتلقاء رجل كإسماعيل تناهى إليه السلطان والبأس حتى ليستنكف أن يذعن للخليفة، فيسعى ما وسعه السعي لتطلق يده في شؤون مصر كلها وبخاصة في عقد القروض
ولكن هل نصح شريف لإسماعيل كما كان خليقا أن يفعل؟ لو أنه فعل ذلك لجاء ذكره فيما جاء من أخبار ذلك العهد الذي كثرت فيه الأقوال. ومهما يكن من الأمر فقد ظل شريف فيما اختير له من المناصب لا يعارض ولا يغضب فيستقيل. . . وتلك مسألة أخرى نعدها على شريف ونأخذه بها. . .
بيد أننا من جهة أخرى نعود فنذكر أن مبدأ المسئولية الوزارية لم يكن قد قام في مصر بعد؛ فإسماعيل هو وحده المسؤول عن حكم مصر وسياسة مصر، وما على نظاره إلا أن ينفذوا ما يأمرهم به دون أن يكون لهم فيه رأي أو تكون عليهم من جرائه تبعة؛ ولم يك ثمة فرق بين جيب إسماعيل وخزينة مصر، ولذلك كانت سلطته المالية أعظم من سلطته الإدارية إن صح أن كان بين السلطتين تفاوت. . .
هذا كله حق لا سبيل إلى إنكاره، ومن أجله يخف وزر شريف وتقل ملامته، ولكنه لن يعفى من ذلك الوزر إلا أن نميل فنتحيز أو أن نذكر بعض ما بذله شريف من جهود جبارة في ما بعد في مقاومة نفوذ إسماعيل ومحاربة طغيان الأجانب فيحملنا ذلك على تناسي موقفه في تلك الفترة التي غلب على طبعه فيها الهدوء والرضى. . . على أننا لا نسيغ هذا ولا تطاوعنا النفس على ذلك.
والواقع أن هذه الفترة من حياة شريف فترة سكون لا يتفق وما جبلت عليه نفسه من
شجاعة شهد له بها حتى خصومه، فهل كان مرد ذلك إلى ما كان من إذعان مصر نفسها واستسلامها؟
يخيل إلى أن ذلك أقرب إلى الصواب. فلقد كان الرأي العام في ذلك الوقت أعني مدى الاثني عشر عاماً الأولى من حكم إسماعيل لا يزال في مرحلة تكوينه، ولذلك لم يكن للشعب نفوذ إلى جانب نفوذ إسماعيل وجاهه، فمجلس شورى النواب الذي أنشأه الوالي والذي أولاه شريف حظاً كبيراً من عنايته ونشاطه، كان لا يملك حق محاسبة الحكومة؛ وكانت البلاد محرومة من الصحافة الوطنية، خالية من الأحزاب السياسية؛ وكان المتعلمون من المصريين منصرفين إلى المناصب الحكومية يتقدمون بالزلفى إلى إسماعيل وحكومته.
ولقد أدى الانتخاب لمجلس الشورى إلى حرمان المجلس من هذا العنصر ولو أنهم أرادوا أن يتجهوا إليه. . .
وعلى ذلك فلو أن شريفاً تحرك حركة قومية في ذلك الوقت لما هزت حركته النفوس، كما راحت تهزها حركاته فيما بعد حين أفاق الرأي العام على تدخل الأجانب في شئون مصر، وحين ظهرت فيه عناصر لم تكن موجودة من قبل، كدعوة جمال الدين التي أومضت في ظلمات ذلك العصر، وكظهور الصحافة واهتمام المتعلمين بقضية البلاد المالية، وغير ذلك من أسباب البعث والنهوض. . .
عندئذ آن لشريف أن يخطو، فكأنما كان قبل خطواته الوطنية في مرحلة الإرهاص، شأنه في ذلك شأن كثير من الزعماء من قبله ومن بعده. وما أعظم الشبه في ذلك بين سعد وشريف! فهذا سعد جبار هذا الوادي وزعيم أبطاله ومفخرة أجياله، ظل في الفترة الأولى من حياته ساكناً لولا ما كان من آثار قلمه ونفثات روحه. فلما سارت الحوادث سيرها، وتهيأت البلاد لانتفاضة تنفس عنها بعض ما بها تلفتت القلوب ودارت الأعين فلم تستقر إلا عليه كأنما ألهمت ذلك إلهاماً؟. . . وإنك لترى من أوجه الشبه غير هذا كثيراً بين سعد وشريف فيما نقص من سيرته
كان لابد للمسألة المالية أن تنتهي إلى من انتهت إليه ما تدخل الأجانب في شؤون مصر الداخلية، ولكن هذا التدخل لم يكن شرا كله كما اعتاد المؤرخون أن يصوروه، وحسبنا مما انطوى عليه من عناصر أن قد استيقظت على ضجيجه وصخبه مصر، فانبعثت القومية
المصرية ومضت تنفض عن كاهلها غبار القرون على صورة أروع وأقوى مما تبدي في ثورتها على نابليون وكليبر، ومما ظهر من آمالها ومشيئتها يوم ذهب أبناؤها وعلى رأسهم عمر مكرم والشرقاوي يلبسون محمد على الكرك والقفطان دون أن يرجعوا فيما فعلوا إلى السلطان. . .
تراكمت الديون على مصر حتى أنها لم تكن تقل عن تسعين مليوناً من الجنيهات في عام 1875 م. فمن ديون سائرة كانت في ذاتها أبلغ ما نال الخديو من معاني الغبن، إلى ديون ثابتة فيها أوضح معاني الشره وأقبحها من جانب الدائنين، إلى قروض داخلية لجأ إليها (المفتش) ذلك الذي قام على شؤون مصر المالية، فكان في ذاته عبئاً فوق أثقالها التي ناءت بها، ومن تلك القروض الدالة على شدة الارتباك والخلل دينا المقابلة والرزنامة. . .
عندئذ تحركت إنجلترا نحو هدفها، وكانت أولى حركاتها في هذا المضمار شراء نصيب مصر من أسهم القناة، اشتراه دزرائيلي رئيس وزرائها بثمن بخس! ولم يرده عن ذلك عطلة البرلمان يوم إذ. وكيف يفوت دزرائيلي وهو الذي يعرف الفرص ويعرف كيف يقتنصها، كيف يفوت ذلك الداهية أمر كهذا الأمر يجعل مركز بلاده في القناة كمركز فرنسا أو أعظم، ويصحح خطأ وقعت فيه إنجلترا ألا وهو استهانتها بالمشروع أول الأمر ظناً منها أنه لن يتم، ثم تراخيها عن شراء الأسهم بعد ذلك رغبة في إحباطه
ولكن مصر بعد بيع أسهما لا تزال في حاجة إلى المال لتدفع به بعض ما جره عليها المال من وبال. وأنى لها المال بعد ذلك كله؟ وأية دولة تمد إليها يدها؟ إذا فالتفكر مصر في الإصلاح ثم فالتفكر إنجلترا في اصطياد الفريسة!
طلب الخديو موظفاً إنجليزيّاً يدرس لها شؤون مالها ويصلح ما يراه من أوجه الخلل؛ فتلكأت إنجلترا لأنها عن دهاء وجشع تحب أن تتدخل ولكنها لا تحب أن تفتح أعين غيرها
وجاء الموظف ولكنه زود من جانب حكومته بأوامر، فعليه أن يدرس وعليه فوق ذلك أن يحقق ويدقق ثم يرفع تقريراً عما رأى؟ وما لهاذا أراده إسماعيل فما كان يريد والي مصر إلا أن يكون هذا الموظف معيناً له في إصلاح مالية البلاد
ورفع (كيف) التقرير إلى حكومته وجاء دور دزرائيلي فأعلن البرلمان الإنجليزي في غير تردد ولا استحياء أنه يرغب عن نشر التقرير لأن الخديو رجاه في ذلك. ولعمر الحق ما
رجاه الخديو ولا أشار إلى ذلك من قريب ولا من بعيد. . .
ذعر الدائنون، وهبطت أسهم مصر كما يقول رجال المال، وتلقى الخديو الصدمة العنيفة ممن أمل على يديهم الإصلاح وقال في مرارة وغيظ:(لقد احتفروا لي قبري) وهي كلمة موجعة جامعة، فبعد هذا التصريح من جانب دزرائيلي سيكون الطوفان. وما كان في تقرير كيف إلا أن مصر (تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعاً، وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ). بل لقد ذكر كيف في عبارة صريحة: (إن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد). ولكن للسياسة مطامعها وأغراضها ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيراً ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخلق والاستقامة!
لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم وتألف في مصر (صندوق الدين العام) فكان حكومة صغيرة من الأجانب داخل حكومتها؛ ثم وافق الخديو مكرها على تعيين مراقبين أجنبيين أحدهما إنجليزي للدخل والآخر فرنسي للصرف، وعين تبعا لهذين موظفين من الأجانب برواتب ضخمة؛ وعني الخديو حقا بالإصلاح يومئذ ولكن يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك
وقبل الخديو فيما قبل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سميت (لجنة التحقيق العامة) جعل على رأسها دلسيبس ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها بالرجل الذي يتحفز ويتحين الفرصة ليثب.
ومن يكون ذلك الرجل في تلك الأيام العصيبة غير شريف؟
استدعته اللجنة ليمثل أمامها لتستفهمه، فتعاظمه الأمر فأبى. فأصرت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضاً على كرامته وكرامة منصبه فأصر كما أصرت. . . أيمثل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولما لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذا فليطلق شريف المنصب غير آسف وقد كان ما أراد فاستقال! وهزت البلاد استقالته بما تنطوي عليه من
المعاني فلقد كانت وثبة في حينها، كانت غضبة من رجل في أمة عّد بها أمة في رجل؛ وهكذا خطوات أحرار الشمائل وعظماء الأجيال كأنما تجيء على قدر من الأيام فتكون رداً بليغاً على من يزعمون أن عظماء الرجال يدينون بعظمتهم لظروفهم لا لصفاتهم، هذه في مصر هي الظروف، فليت شعري لما لم يظهر غير شريف وقد غضب مع شريف عشرات غيره من الرجال؟
(يتبع)
الخفيف
رسالة المرأة
التربية العملية
أطفالنا
للآنسة زينب الحكيم
التربية العملية مسألة لا يجدي فيها ترقيع، ولا يفلح فيها النصح الكلامي كثيراً إذا فات أوانها، وأهمل شأنها في حياة الإنسان المبكرة. لهذا سأوضح ببعض الأمثلة كيف يمكن تنشئة الطفل منذ طفولته، ليتناسب مع الجماعة، ويشب على روح الفرد للمجموع، والمجموع للفرد.
(المحررة)
كلنا يُقرّ بشدة العناية التي تحيط المولود من يوم ولادته، تلك العناية التي قد لا يشابهها العناية بالملوك على عروشهم، ولا الجبابرة المتألهين على أقوامهم.
فالطفل، في مدى الخمسة عشر أو الثمانية عشر شهراً الأولى من حياته، تؤدي له جميع لوازمه، ولو ضحيت في سبيل ذلك صحة الكبار ولا سيما الأم. وكنتيجة لهذه المعاملة، وتلك الرعاية، يصير الطفل أنانياً بكل ما في هذا التعبير من معنى، خصوصاً بعد أن يقارب تمام السنتين من العمر.
وكلما بدأ الطفل يتحرر من طور العجز، أو الاعتماد المطلق على من حوله في الطفولة المبكرة، يبدأ ينازع رغباته ولوازمه من أجل اخوته وأخواته، ومن والديه والأفراد الآخرين الذين يحيطون به.
فرغباته الشخصية، وطلباته المضادة لطلبات المجتمع، يجب تعديلها بحكمة، وبهذا يبدأ حفظ أول درس صعب في الحياة. وبفهم هذه المتناقضات الأولية في حياة الطفل نتساعد على فهم سلوك الأطفال بوجه عام. . . ومِن ثمًّ نرشد إلى أمثل الطرق لتربيتهم، وأحسن التدابير لتنشئتهم.
أما جعل الطفل مناسباً لبيئته، وتهيئة البيئة نفسها لمناسبته، فعقدتان تستلزمان مجهوداً عظيماً، لأن كل فرد منا يفهم ويقدر أن للجماعة في أي بيئة مطلبين ضروريين:
1 -
أن يعيش الإنسان مع آخرين من نوعه، لأجل حماية الجماعة. . . ولأنه اجتماعي بطبعه، ولأجل إيجاد إلف له
2 -
أن يقف كفرد يدافع عن سلامته الشخصية، وأن يستطيع جذب رفيق له.
ومن هذا نرى، أن له عدة حقوق خاصة واضحة، وعليه واجبات لنفسه كفرد، ولكن مشكلته العظمى هي معرفته كيف يوفق شخصيته ورغائبه لاحتياجات الجماعة.
لقد كان الإنسان الأول في طفولته يعرف هذا التوفيق بالصدفة، أي بطرق عرضية مطولة ملفوفة، بينما نصل إليها الآن بطرق مباشرة مختصرة قليلة الالتواء إن وجد، لأن الدراسات الحديثة قد أفادتنا كثيراً، ودلتنا على أن في نفس الطفل غرائز وميولا وطاقات كامنة، وهو مهيأ لكيفية تنميتها - إذن ما علينا إلا أن نترك له القيادة، فيفصح لنا عن نفسه؛ وعملنا نحن هو أن نوجهه ونرشده إلى أحسن السبل ليهيئ نفسه لبيئته، مع مراعاة أن ضروريات الجماعة ومستوياتها دائمة التغير.
فالسلوك الخلقي لجيل ما، يعتبر دائماً السلوك غير الخلقي بالنسبة للجيل الذي يليه. وإذا افترضنا أن على الطفل أن يستمع ويخضع لأوامر اخوته ووالديه، وجدوده ومعلميه فعلينا أيضاً أن نفترض له منفذاً لرغباته حتماً.
وهنا يتحتم على الوالدين واجبان: -
1 -
أن يعلما الطفل إلى أي حد يجب عليه أن يخضع رغباته واحتياجاته لرغبات واحتياجات الجماعة.
2 -
عليهما أن يعلماه إلى أي حدّ يمكنه أن يشبع رغباته، وإلى أي حد يجب أن يدافع عن حقوقه، وإلى أي حدّ يعتد بنفسه، ومتى يخضع لأوامر الغير، ومتى يعدل رغباته نزولاً على إرادة الجماعة.
الطفلة (جميلة) نشأت وهي صغيرة في مزرعة، وأحاطها أمهات وآباء محبون جداً لها، ولم ينقص حب الخالات والعمات لها عن حب الجدات والجدود.
وطفلة في مثل هذه البيئة، وهذا الجو، أحست بأهميتها، وبالغت في إملاء إرادتها فكانت إذا أرادت شيئاً ما يحضر لها، ما كان عليها إلا أن تبكي بصوت مرتفع، ولمدة كافية حتى تحصل على ما تريد. وأحياناً كانت تبكي على أشياء لا يمكن أن تعطى لها، كأن تريد
القمر مثلاً. وكانت تبكي أحياناً أخرى بدون سبب
ففي هذه الأوقات التي لم يمكن فيها إجابة طلباتها، أو الصبر على تدليلها إشفاقاً عليها من كثرة البكاء - كان يقول أحد من بالمنزل:(خذوا جميلة إلى الحديقة وأركبوها الحصان - قد يهدئها ذلك) أو يقول آخر في مناسبة أخرى: (خذوها إلى شارع المحطة لترى القاطرة الكبيرة وهي مارة - قد يهدئها ذلك)
وإذا لم تفلح هذه الطرق معها، كان يعطى لها قطعة من الحلوى لكي تهدأ. ولقد استمر هذا النوع من المعالجة، حتى أتى على أفراد الأسرة يوم نضب فيه معين حيلهم مع هذه الطفلة لتهدئتها كلما بكت فمرة من تلك المرات ظلت تبكي وترغي وتزبد مدة طويلة ولم يلتفت إليها أحد. فما كان منها إلا أن نادت بأعلى صوت قائلة:(أعطوا جميلة قطعة من السكر - ذلك قد يهدئني) دهش كل فرد حولها لما حدث منها، وحار الجميع كيف يجاوبونها، وتأملت هي طويلاً ثم قالت:(خذوني إلى الحديقة لأركب الحصان - ذلك قد يهدئني) واستمرت تبكي
هنا وهنا فقط فطن الوالدان وكل أفراد الأسرة للدرس المهم الذي أعطته لهم هذه الحادثة، ونبهتهم إلى تلافي الغلطة التي كانوا يقعون فيها في تربية الطفلة؛ ومن حسن حظها أن غيّر الجميع خطتهم معها تدريجياً، وعدلوا مجاوبتهم لبكائها
من هذا يرى أنه إذا سمح للطفل أن يصير أنانياً، بحيث يطلب كل ما يريد غير ناظر إلى حقوق الغير، فإنه سيبقى طول حياته على خلاف ومنازعات مستمرة مع الناس الآخرين، ويشعر غالباً بأن الناس لا يعدلون في معاملته أبداً. وكثير من الأفراد لا يحصلون على ما يشعرون أنه من حقهم، ذلك لأنهم ينتظرون أكثر مما يستحقون من الحياة، ويتطلبون من الناس أن يتنازلوا لهم ويؤثروهم على أنفسهم بحالات لا يمكن تحقيقها
وهذا هو السّر في سوء حال الشبان الذين لا تقدر على ترويضهم عائلاتهم ولا مدارسهم ويضج منهم المجتمع. والكل يشكون ويتأففون من فساد المجتمع، ولكن ليس الذنب كله ذنب المجتمع، فلو لم توجد عندنا حالات عامة شائعة في بيوتنا المصرية من أشباه التربية الخاطئة، لما سمعنا بحوادث الأولاد الذين يتهجمون على آبائهم بالضرب أو القتل، أو تنكيد حياة الأم لشدة هياج ابنها العصبي وغير ذلك في كل وقت. والحقيقة أن لا عصبية هناك
ولا جنون، وإنما هو سوء التربية المبكرة وخطؤها الذي يجعل من الطفل شخصية غير شخصيته، ويجعل حياته كلها تصنعاً والتواء.
إن سلطة الوالدين والمربين على الطفل هي التي تعلمه حقوق الجماعة. ولكن ليحترس من استعمال السلطة بغلظة وجهل معه، فإنه إذا حصل ذلك ولم يكن لدى الطفل المخارج الكافية لنزعات نفسه، فإنه يصبح شغوفا قلقا خجلا في غير موضع الخجل، عنيدا ينكر كل شيء، ويشاغب حيث لا سبيل إلى الشغب، ويصير أشد ميلاً للتأثر بغير بيئته التي باتت غريبة عليه. وهذا دون ريب مالا نقصد إليه. إذن يجب أن تخدم السلطة الوالدية غرضين:
1 -
أن تكون وسيلة يتعلم بها الطفل كيف يوفق نفسه للجماعة. . .
2 -
أن تكون وسيلة يتعلم بها الطفل أيضاً إلى إي حد يمكنه أن يعبر عن رغباته واحتياجاته.
ذلك لأن كثيراً من الضغط على الطفل يتعين خطؤه وضرره إذا ما كلفنا أنفسنا مشقة إيجاد المخارج الصحيحة التي يعبر الطفل فيها عن نفسه؛ ويظهر لنا تعسف أوامر النهي التي نضايق الطفل بها والتي يستغني عنها تماماً، إذا اتبعت طرق التربية الصحيحة، التي تمكن الطفل من إشباع ميوله دون إزعاج الآخرين.
ولا يصح أن نتصور أن الطفل إذا خالف قانوناً أو نظاماً يجب أن يسامح، لا بل يجب أن يعاقب. وكل ما نرمي إليه هو أنه يمكن أن نعلم الطفل دائماً، ونعوده التعبير عن رغباته وإشباع ميوله، دون مضايقة الجماعة.
زينب الحكيم
ذكريات
بمناسبة انعقاد المؤتمر الطبي بالقاهرة
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كنت اتخذ عدتي مع أعضاء المؤتمر الطبي العربي الذي انعقد في عاصمة بلاد الرشيد.
ولقد تعاونت الحكومة والشعب على إنجاح المؤتمر وإكرام المؤتمرين ومساعدتهم على زيارة بلادهم الجميلة وفضلاً عن تخفيض أجور السفر المتبعة لمناسبة انعقاد المؤتمرات وما شابهها، فإن الحكومة العراقية مبالغة بالسخاء تفضلت بجعل السفر مجاناً على السكك الحديد مع كثر نفقاتها هناك ولقينا من حسن معاملة مختلف الهيئات كل مشرف سار إني قوية الأمل، شديدة الرجاء، أن ينال جميع أعضاء المؤتمر الطبي - وهم في بلادنا - مثل هذه المعاملة جرياً على عاداتنا. وإني أهيب بكل تاجر ومرشد، وكل ذي مصلحة شخصية من أجانب ووطنيين أن يترفع عن مضاعفة أثمان ما يروق لضيوفنا شراءه، وخصوصاً العراقيين، فإن التجار في بلادهم أقسموا أنهم كانوا يبيعون لنا الأشياء بأثمان أرخص مما يبيعون بها لأهل البلد والتاجر العراقي صادق أمين، كلمته شرف، ووعده موفى مهما يكن من الأمر
وإني لهذه المناسبة السارة أختص الرسالة الغراء بعض الصور التذكارية عن المؤتمر الطبي السابق تحية لأطباء العراق وترحيباً بهم ولجميع الأعضاء الأفاضل
زينب الحكيم
رسالة العلم
إثبات نظرية التطور
للأستاذ عصام الدين حفني ناصف
البراهين على صحة نظرية التطور كثيرة لا يحصرها العد، فحيثما أرسل الإنسان الذي وعى هذه النظرية بطرفه في عالمي الحيوان والنبات، وجد شواهد توضح ما بين مختلف الكائنات الحية من صلة القربى. وقد اخترنا هنا أمثلة قليلة تتعلق بحيوانات مألوفة، نراها مما يسهل فهمه وتجدر معرفته
من علم ترتيب الكائنات
وصف العلماء إلى الآن ما يربى على 500. 000 حيوان حي و 200. 000 نبات و 100. 000 متحجر ينفرد كل منها بصفة من الصفات. وهم يقسمونها إلى أقسام مختلفة المراتب، فنوع الثعلب ونوع الذئب ونوع الكلب تابعة كلها لجنس الكلب، وهذا تابع العائلة الكلبية من فصيلة آكلات اللحوم، وهذه تابعة لتربية ذوات الثدي وهي تابعة لقبيلة ذوات الفقار
وليس تحديد الأنواع من الأمور السهلة، فبعض العلماء يعتبر بعض المجموعات أنواعاً جديدة في حين يعتبرها علماء آخرون مجرد (تنوعات) ونحن نلتقي بالتنوعات دائماً حين نبحث آلاف النماذج من أحد الأنواع الحيوانية أو النباتية، وهذه القدرة على التنوع من أهم خصائص الأحياء فهي تيسر لها ملاءمة البيئة المحيطة بها، وذلك يتيح لها أن تتطور وترتقي من حيث بناء الجسم وقدرته على العمل
وعلم ترتيب الكائنات ينطق بصحة نظرة التطور (1) لأن الوفرة الهائلة في عدد الكائنات الحية التي يمكن على الدوام إثبات وجود أشكال انتقالية بينها، تسير كلها ببطء طريق التحول والتغيير (2) ولأن (النوع) لا يمكن تحديده تحديداً تاماً، فلا بد أن يكون شيئاً متغيراً
من علم الحفريات
تتكون طبقات الأحجار الرسوبية في وضع أفقي، ويكون أسفلها أقدمها عمراً، وتحتوي كل
طبقة على حيوانات ونباتات دفنت فيها في العصر الذي تكونت فيه تلك الطبقة، وقد وجد إن الحفريات التي دفنت في طبقة قديمة العهد تكون أبسط في تكوينها وتركيبها من حفريات الطبقات التي هي أحدث منها عهدا. من الأمور الهامة أننا نجد حفريات كل سلسلة من سلاسل الأنواع الحيوانية على النحو الذي كنا نتصورها عليه قبل أن نعثر بها وذلك ما حدث مثلاً في ما يتعلق بقدم الحصان، فقد تعودنا أن نجد معظم الحيوانات الثديية الراقية ذات خمس أصابع فإذا أختلف الأمر عن ذلك في الحصان، ألزمتنا نظرية التطور بافتراض أن أصابع أسلافه كانت خمسا فبقيت منها واحدة وضمرت الأربع الأخرى، ونحن نميز في قدم الحصان الحالي إصبعاً واحدة ونجد في الخيل المتحجرة في عهد البليوسين أن قدمها ذات 3 أصابع وفي الخيل المتحجرة قبل ذلك في عهد الميوسين أنها ذات 4 أصابع وفي المتحجرة في عهد الأيوسين أنها ذات 5 أصابع
من علم التشريح المقارن
يرينا التشريح المقارن ذلك التشابه العظيم بين جسم الإنسان وأجسام باقي الحيوان وفي مقدمتها (الشبيهة بالإنسان) وهي الشيمبانزي (البعام) والجوريلا (الغول) والأورانج أو أوتان (إنسان الغابة) والجيبون. ويقابل التشريح المقارن بين الأعضاء في مختلف الأنواع الحيوانية فيثبت ما بينها من أوجه الشبه سواء فيما يختص بالشكل الخارجي أو الوظيفة. فإذا نظرنا إلى جناح الخفاش وذراع الحفر عند الخلد وذراع الإنسان وجدناها متشابه تشابهاً عظيما في تركيب عظامها رغم تباين وظائفها، وما ذلك إلا لأن هذه الحيوانات متسلسلة من أصل واحد
ينظر معظم الناس إلى الحوت باعتباره ضرباً من السمك، وذلك لإقامته في الماء ولشكله الوشعي (المغزلي) ولوجود زعانف الصدر والذنب، ولكن تشريح الزعنفتين الأماميتين يرينا في كل منهما هيكلاً عظيماً يشبه مثيله في الطرف الأمامي من الحيوانات الثديية الأخرى. أما الزعنفة الذنبية فيدعمها محور عظمي هو نهاية العمود الفقري. ولبعض أنواع الحيتان زيادة عما تقدم زعنفة ظهرية بيد أنها خالية من أية دعامة عظمية، ولا إيضاح لهذا التباين في بناء الزعانف المختلفة في الحوت الواحد، ولهذا التعقد في بناء هيكل الزعنفة الصدرية إلا أن الحوت متسلسل من حيوان بري كان يستعمل طرفيه الأماميين في المشي
ثم تطور بتطور معيشته من برية إلى بحرية. وهنالك إثباتات أخرى تؤيد أن الحوت حيوان ثديّ متسلسل من أصل بري، وهي كونه يتناول الأوكسجين اللازم لحياته برئتيه من الهواء لا بالخياشيم من الماء، وكونه من ذوات الدم الحار فلا تنخفض حرارة جسمه - كالأسماك - بانخفاض حرارة الماء الذي يعيش فيه، وكون أنثاه تلد صغارها تامة التكوين وترضعها.
من علم الأجنة
يجتاز كل حيوان في نموه من خلية البيضة حتى يكتمل سلسلة من التغيرات المحتومة، ويمر بسلسلة من الأشكال المختلفة، هي إعادة موجزة للسلسلة الطويلة من الأشكال التي اجتازها أسلاف هذا الحيوان أي أصول نوعه منذ أقدم أزمنه الخلق العضوي حتى الوقت الحالي
فالحوت - مثلاً - يمتاز في كبره بعد اشتمال جسمه على الشعر والأسنان والعنق والطرفين الخلفيين، ولكن هذه الأعضاء توجد في جنينه، وذلك ما يشير إلى تسلسله من أصل ثدي له هذه الأعضاء
كذلك يحوي جسم الجنين الإنساني أعضاء عدة لا إيضاح له إلا أنها موروثة عن الأسلاف الحيوانية، فهو مغطى بشعر كثيف يذكرنا بفروة القرد، وقد يبقى الثوب الشعري جنيني في أحوال مرضية شاذة عند من يسمونه بالإنسان الكلبي. وللجنين الإنساني ذنب واضح، وله في كل ناحية خمس مجموعات من غدد لبنية، وذلك ما يدل على أن العضو اللبني - كما هو الحال عند الحيوانات الثديية الدنيئة - ولم يكن في الأصل زوجاً واحداً فقط
من علم الانتشار الجغرافي
تُقدم لنا الجغرافي الحيوانية كثيراً من الحقائق الناطقة بصحة نظرية التطور. فمن ذلك أن المناطق والأقاليم المنعزلة عن غيرها تحوي أنواعاً حيوانية خاصة بها لا توجد في سواها. ولئن كانت حيوانات أمريكا الشمالية شبيهة بحيوانات شمال آسيا وشمال أوربا فإن لحيوانات أمريكا الجنوبية (أعني التي كانت بها قبل أن يستعمرها الجنس الأبيض) صفات ومميزات خاصة بها نتجت من نمو تلك الحيوانات في عزلة وعدم اختلاطها بحيوانات
أمريكا الشمالية. وذلك لأن أمريكا الوسطى كانت في عصر الميوسين مغمورة بالماء، فلم يكن ثمة وجود لذلك المعبر الأرضي الذي أنبثق بعد ذلك فوق اليمِّ فأصبح يصل بين الأمريكتين. ومما يؤيد هذا التفسير وجود بعض الأسماك والقواقع مشتركة في المحيطين شرقي أمريكا الوسطى وغربيها مع أنه لا يوجد نوع من الأسماك والقواقع مشترك في شرق أمريكا الجنوبية وغربها
ومما يلفت النظر تلك الجزائر التي طلعت في المحيط بعمل براكين تحت الماء مثل جزيرة سانت هيلانة (وتبعد 1800 كيلو متر عن أفريقيا) فهي خالية تماما من الحيوانات الفقرية البرية والطيور البرية، وبها من الطيور البحرية نوع واحد من النورز له قرابة بالأنواع الأفريقية، وبها أنواع من الخنافس ذات الخرطوم وهي الأنواع التي تعيش هي ويرقاتها وعذاراها على الخشب وفي داخله. وفي ذلك ما يبين أنها انتقلت إلى تلك الجزيرة النائية محمولة على أخشاب طافية. ولو كانت حيوانات تلك الجزيرة قد خلقت على حدة لما كان هنالك سبب مفهوم لإيثارها بالأنواع ذوات الخرطوم من الخنافس.
التفاعل الحيوي الكيميائي للدم
إذا تركنا دماً طازجاً في مكان ما، رسبت منه الكرات الدموية والألياف وبقى سائل أصفر هو المصل. ولكل حيوان فقري مصل خاص به من شأنه أن يضر بالكرات الحمراء التي في دماء الأنواع الحيوانية الأخرى. بيد أننا إذا كررنا حقن مقادير صغيرة من مصل دم حصان - مثلاً - في الأوعية الدموية لأرنب، تغير دمه بعد فترة من الزمن فأصبح مصل دمه يؤدي عند وضع قطرات منه في محلول يحوي قليلاً من مصل دم الخيل، إلى تكوين راسب زَغَبي، وهو يحدث الترسيب أيضاً - ولكن بدرجة أضعف، مع دم الحمار، وذلك ما يوضح قرابته به. فإذا حَقنَّا أرنباً بمصل دم إنسان أصبح مصل هذا الأرنب يرسب الدم الإنساني، بيد أنه أيضاً - وبنفس القوة - يرسب دم القردة (الشبيهة بالإنسان)، أما القردة الأخرى فيرسب دماءها بدرجة ضعيفة. وهذه التجربة تبرهن لنا على وجود (صلة الدم) بمعناها اللفظي
الإنسان في ضوء نظرية التطور
يتعين علينا من الوجه الفنية المحض أن ندخل الإنسان في نطاق نظرية التطور وقوانينها، فليس الإنسان من حيث العلوم الطبيعية سوى حيوان فقري يمشي قائماً، ومن مميزاته الظاهرة على سائر الحيوانات الثديية القريبة منه أنه يعتمد في سيره على قدميه فقط، وكثير من خصائصه الجسمانية الأخرى موجود في عالم الحيوان وإن لم يكن مجتمعاً بهذا التوافق إلا في الإنسان والإنسان عظيم الشبه بالقردة الراقية إلى حد جعل أحد العلماء يقول: إن الفرق بين أحط الأجناس الإنسانية والقردة (الشبيهة بالإنسان) أقل كثيراً منه بين هذه وأحط القردة
ولئن كان المنظر الخارجي للجوريلا يبعث فينا النفور من تصور صلة قرابة تربطنا بها، فأننا نجد حين نسلخ جلدها أن التشابه بين جسمها وجسم الإنسان لافت للنظر. فكل عظمة ولك عصب وكل عضو من الأعضاء المختلفة موجود عندها في مثل موضعه عند الإنسان. وهي تشبه الإنسان كذلك في كونها بلا ذنب ناتئ خارج الجسم، وبلا انتفاخ في الإلية، وبلا شعر كثيف في الخدين كما تشبهه في بناء عضو التفكير أي المخ، فإن مخها يحوي نفس الأجزاء والأخاديد والتلافيف التي يحويها مخ الإنسان
مستقبل الإنسان
من المرجح جداً أن يستمر الإنسان في التطور مدى أزمنة طويلة جداً، ولكنا لا نستطيع أن نقطع: هل يكون هذا التطور إلى أرقى أم إلى أحطّ؟
لقد اكتظت الأرض بالحياة أحقاباً طويلة دون وجود الإنسان. ومن الممكن أن تبقى حافلة بالحياة ولو انقرض الإنسان؛ فالأرض لم تخلق هي وعالم الأحياء، من أجل الإنسان، ولكن مجده وقوته في كونه يعرف كيف يستغلها ويستخدمها لقضاء أغراضه.
عصام الدين حفني ناصف
رسالة الفن
الفن الأمريكي
العمارة
للدكتور أحمد موسى
لا يرجع الفن الأمريكي المقتبس من أوربا لأكثر من وصول الأسبان إليها. وبدت أولى مظاهره في تشييد الكنائس التي تميزت بضخامة مظهرها وطرازها الباروكي مع بساطة الزخارف وقلة النقوش، على نقيض ما كان جارياً في تلك المرحلة الزمنية. كما أنها عندما شملت شيئا من التحلية كانت ضعيفة إلى حد لا يتناسب مع التصميم الإنشائي.
وأول المباني الضخمة (الثقيلة) كانت بسان فرانسسكو وتولا التي تمت بين سنتي 1540 و 1561 وبعدها كنيسة مريدا المقببة التي تم تشييدها سنة 1598، ثم الكاتدرائية الهائلة بمكسيكو (1573 - 1656) بمنارتيها اللتين بلغ ارتفاعهما نحو الستين متراً.
ولعل كنيسة لاجوس الباروكية الطراز (1649) وكنيسة شايهواهوا (1789) توضحان لنا أثر الفن الأوربي الإسباني وتطوره في أمريكا.
وبدأ تطور الطراز المعماري تطوراً شاملاً منذ القرن الثامن عشر، فاتجه الميل إلى إهمال الزخرفة واعتبارها عملاً يضيع الوقت والمال، وظهرت الرغبة في تبسيط البناء، إلا أنه بالنظر إلى اتساع الأراضي وقلة ازدحام السكان ورخص التشييد لخلوه من كثرة النقش والتحلية، فإن الضخامة والثقل ظلا على حالهما الأول وحافظا على مكانتيهما من نفس المهندس المعماري. وخير مثل نسوقه لهذا مباني سان فرانسسكو وساجراريو متزو بوليتانو في مكسيكو وكتدرائية ليون.
ولم يكن هذا المظهر منحصراً في الكنائس وحدها، بل كان شاملاً للمباني العامة والمباني العادية؛ فترى السراي الأهلية التي يرجع تاريخها إلى عام 1692 بواجهتها التي يبلغ طولها مائتي متر، وسراي البلدية (1720 - 1724) ومدرسة برج (1797 - 1813) في مكسيكو، خالية كلها من النقوش والزخارف التي تعتبر في (الدنيا القديمة) ضرورية لتجميل البناء وأهم كنائس جنوب أمريكا كنيسة كوسكو التي بدأ إنشاؤها سنة 1537
وكنيسة ريودي جانيرو، وباهيا، وبونس أيرس، وليما، وسانتياجو حيث توجد الكاتدرائية العظيمة (1647 - 1748)، واختلف المجموع الإنشائي في كل منها اختلافاً يحتاج إلى التفصيل الذي لا يتسع له المجال لاتصاله بأصول العمارة.
وقد لوحظ أن فن العمارة الذي انتقل من إنجلترا وهولندا إلى أمريكا كان أميل إلى الناحية العملية منه إلى الناحية الفنية لجملة أسباب؛ منها أن الذين هاجروا إلى (الدنيا الجديدة) كان معظمهم ممن ضاق بهم العيش في بلادهم، أو من الذين اتسع لهم مجال التبسيط على اعتباره تجديداً، فضلاً عن العطش والرغبة الصادقة في الاستغلال السريع. أما الأسبان الكاثوليك فقد ظلوا سائرين في اتجاههم المعماري الذي مال إلى الزخرفة والتنميق؛ فترى في المدن الجديدة التي منها سانتافيه أمثلة عدة تؤيد ذلك.
وبينما اتجه الفن المعماري في الجنوب اتجاه البلاد الكاثوليكية كما هو الحال في كاتدرائية نيو أورليانز (1792 - 1794) التي لا يخرج طراز بنائها عن كونه خليطاً من العمارة الكلاسيكية الفرنسية والعمارة القوطية إلماماً؛ نراه اتجه في الشمال نحو البعد عن الزخرفة والميل إلى تبسيط الواجهات. وهذا يؤيد ما يلاحظه المشاهد المدقق على كنيسة كرست في فيلادلفيا التي تم بناؤها سنة 1727 والتي يذكرنا مظهرها الإنشائي العام بالتصميمات التي حملت طابع المعماري الإنجليزي كرستوفرورين في لندن، وكذلك بيت البلدية في بوستون والبيت الأبيض في واشنجطون، كلاهما حمل مظهر البساطة والرغبة في جعل المباني عملية أكثر منها فنية، فكانت متأثرة بالفن الهولندي المجرد.
أما في القرن لتاسع عشر فقد كان تأثير العمارة الأوربية عم وأكبر، وذلك بالنظر إلى كثرة المعماريين الذين ذهبوا إلى أمريكا. وقد ظهر أثر الفن الكلاسيكي على أشده في البناء الرائع المسمى كابيتول واشنجطن (ش 4) الذي ابتدأ بناؤه سنة 1793 والذي جعلت أعمدته من الطراز الكورنتي والتي أقيمت فوق أعتابها القبة فارتفعت عن الأرض تسعين متراً. على أن هذا البناء ليس الوحيد من نوعه الذي حمل هذا الطابع وهذه الروعة؛ فهناك مشيدات أخرى مثل بيت الاختراعات في واشنجطون ودار الجمرك في بوسطن وفي نيويورك وغيرها في فيلادليفا، كلها شاهد على هذا الاتجاه.
ونجد أيضاً أثر الطراز الرومانتيكي ظاهراً في التكوين الشكلي العام للكنائس وغيرها من
المباني الجديرة بالاعتبار. وهذا لا يمنع من أن تكون كاتدرائية باتركس في نيويورك على الطراز القوطي المتأخر وعلى جانب من عظمة المظهر، ولو أنها بدت في مجموعها نحيفة التكوين بالنسبة للمألوف في هذا الطراز. وعلى نفس المنهج بنيت كنيستا ترينيتي وتوماس وغيرها في نيويورك وكان الواضع لتصميمها المعماري الإنجليزي أبجون
ولا نذكر كنيسة كانت على جانب عظيم من روعة الفن الخالص سوى كاتيدرائية (جميع القديسين)(ش 2) التي كانت ولا تزال ضيقة المساحة، وهذه الروعة تتلخص في دقة التعبير عن الطراز القوطي المبكر.
ولعله جدير بالذكر أن المباني التي تجلى فيها الطراز الرومانتيكي هي كنيسة هولي كوميونيون في فيلادلفيا وردهة كاتدرائية ترينيتي السابق ذكرها، وكنيسة نيو أولد ساوث بمنارتها التي تأثرت بالفن الإيطالي فكانت مثلاً جيداً له في أمريكا.
أما في المباني العامة فبرلمان أوتاوا في كندا وكابيتول الدولة في هارتفورد والمكتبات في بورلنجتون ووبرن، وكاونتي كورت هاوس في بِتسُبرج، ومتحف الفن في سنسناتي، والناشيونال أكاديمي التي تذكرنا كثيراً بقصر الدوج في فينيسيا، ومتحف التاريخ الطبيعي في نيورك. . كل هذه آيات بينات لفن البناء الأوربي في أمريكا، كما أنها خير دليل على الغنى الفني المعماري والمقياس الصادق لتقدير الفن الخالص.
ومن الغريب أن أمريكا لم تقتبس من فن (عصر النهضة) شيئاً يذكر، ولكنه يخيل إلينا أن الرغبة العملية كانت لا تزال الحائل بين العمارة وبين الاقتباس. ولهذا السبب نجد أن الحلقة الفنية المعمارية ناقصة.
وذلك ما انبنى عليه عدم وجود الرابطة بين الطراز السابق اقتباسها وبين المسلك المعماري الذي مثل الضخامة والبساطة في المظهر.
وهذا بلا شك سبب جوهري في الانتقال المفاجئ من عمارة القرون الوسطى من حيث (الثقل والضخامة) كما هو الحال في كابيتول الدولة بنيورك إلى عمارة بيت البلدية في فيلادلفيا، التي كان المنهج فيها مشابهاً لما اتبع في بناء اللوفر، هذا فضلاً عن منارته التي تعد أعلى منارة في العالم. وهذا نفسه نعاينه في مباني بيوت الدولة والمكتبات والمحطات والمتاحف ودور التمثيل وغيرها من حيث اتساع مساحاتها وكبر أحجامها - ولكنها مع هذا
الاعتبار ضئيلة القيمة المعمارية الفنية لما بدا عليها من مظاهر البساطة وقلة التنسيق.
وحتى القصور والفيللات في (الدنيا الجديدة) بنيت دون قيد فني أو شرط من شروط الجمال العام، فهي لا تخرج عن كونها خليطاً من طُرُز مختلفة تجاورت وارتفع بعضها وانخفض البعض الآخر فظهرت خالية من الجمال؛ هذا في بيوت شيدها عظماء البلاد الذين يظن غالباً أنهم أدرى من غيرهم بأصول الجمال، أو على الأقل ممن لا عذر لهم في وجوب العمل على تشجيع الفن أيا كان نوعه.
من هذه الاتجاهات المختلفة وعلى ضوء هذا الخلط وعدم التقيد بقاعدة معينة أو فن معروف بدأت فاتحة اتجاه جديد في أمريكا، هذا الاتجاه هو إشغال أصغر مساحة من سطح الأرض بأكبر عدد ممكن من طبقات العمارات والبيوت، وساعد على ذلك عدم إمكان التوسع في مساحة مدينة واحدة أكثر من المعقول، إذ لا يجوز أن تسافر ساعتين من طرف إلى طرف الآخر في بلدة واحدة، هذا إلى جانب نمو عدد السكان نموَّا هائلاً.
وأولى هذه العمارات بيت بيركشير في نيويورك؛ فقد بنى شاملاً لتسع طبقات، وتدرج الحال حتى وصل إلى مائة وعشرين طبقة وأزيد! ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ بل سار كل في اتجاهه حسبما أراد وتبعاً لما تسمح به دولاراته، فتجد إلى جانب بيت يناطح السحاب منزلاً لا يتجاوز خمس طبقات.
وبعد أن كانت أمريكا تقلد أوربا في أول الأمر، أصبحت أوربا تقتبس من أمريكا وتقلدها. وطغت هذه الموجة على القاهرة أيضاً فأصبحت ترى عمارات يبلغ عدد طبقاتها عشراً وثلاث عشرة بنيت كلها متلاصقة أو متجاورة لا ينفذ إليها نور ولا هواء، مع أننا لسنا في حاجة ماسة إلى مثل هذا المنهج السقيم، لا سيما وأن عدد سكانها ضئيل جداًّ بالنسبة إلى مدن أمريكا الكبرى، ومساحة القاهرة أكبر نسبياً من مساحة تلك المدن.
(له بقية)
أحمد موسى
صوت الآنسة أم كلثوم
من الوجهة الفنية
يعتبر صوت أم كلثوم أجمل وأكمل وأقوى صوت نسائي في العصر الحديث. ولعله أخلد الأصوات جميعاً في تاريخ الطرب بعد صوت (ألمظ) زوجة عبده الحمولي ومطربة الخديو إسماعيل.
فهو يمتاز بتكوين سليم لا عيب فيه، وبضبط نسب مقاماته ضبطاً محكما لا يحتاج لشرح ولا تحليل لأننا جميعاً نسمعه.
فهو غني بتريولاته (ذبذباته) التي تفعل في النفس فعل السحر أو أكثر، والتي تعطي السامع لوناً لامعاً ونبرة صافية غنية بكل الدوافع التي تسلب الإنسان حسه ونفسه.
يتكون من (ديوانين) تقريباً. وهو من نوع (الكونترآلتو)(واالميزوسبرانو) ويبلغ 15 مقاماً تقريباً (12 كونترآلتو) و (3 ميزوسبرانو)
أم كلثوم أقوى مطربة في الشرق، تتصرف في عقود النغم وعنصره تصرفاً فنياً سليماً. فهي مثلاً تتصرف في العقد الأول (بياتي ذي الأربع على الدوكا) وتتصرف في العقد الثاني (راست ذي الأربع على النوى). كذلك عشاق ذي الأربع على النوى، والحجاز ذي الأربع على النوى، وتهبط من البياتي ذي الأربع على الدوكا (نغمة الكارجهار)
وكل هذ الا يخرج عن عقود النغمة وعنصرها ولا يؤذي أذن السامع بل يصور له ذوقاً رفيعاً سامياً في التصرف، وفي تذوق النغم وفهمه.
وهي أقدر المطربات قاطبة في فن الإلقاء، وفهم الغناء، وإعطاء كل كلمة المعنى الذي يترجمها ترجمة صادقة. وأكبر الظن أن هذا يرجع إلى أنها اشتغلت كثيراً مطربة ومغنية (للقصائد النبوية) في المدائن والقرى.
تجيد كل ما تغنيه: ففي الطقطوقة، والدور، والتوشيح، والمنولوج، والقصيدة، لا تستطيع أن تسمو في ناحية على الأخرى ولا في نوع على نوع، لأن التوفيق يأبى إلا أن يلازمها في جميع ما تغني.
تدين للملحنين بكثير من مجدها، وإن كانت هي لا تحب أن تعترف بهذا
تعزف على العود وتفهم في علم النغم، وتلم إلماماً بسيطاً ببحور الشعر وقوافيه.
سننتظر طويلاً حتى نجد صوتاً كصوتها، وتصرفاً كتصرفها، وذوقاً فنياً كذوقها.
محمد السيد المويلحي
رسالة الشعر
جيش أسامة
للأستاذ أنور العطار
ضجَّ مَهد الصحراء بالتغريد
…
وسَرى النور في رمال البِيِد
هو ذا في غَيَابة البعد خطٌّ
…
ينجلي من سَرابها المعقود
سال ذَوْبُ النضار في مصحف الأف
…
ق فزان الدنيا بحُلم رغيد
نَهَرٌ من هداية يتلوى
…
في فضاء رحْب المطاف مديد
ضم في شاطئيه صَيّابةَ العُرْ
…
ب وبأس الممرّسين الصِّيد
والأمير الفتِيْ يَدرَّع البي
…
د بجيش من الكماة عديد
رفرفت رايةُ النبي عليه
…
ورعته بالنصر والتأييد
مَن هو القائد الفِتُّيِ وما ين
…
شدُ في قصده الطَّروُح البعيد
ولمن هذه الزُّحوف تَوَالى
…
كوفود تنهلُّ تِلوَ وفود
يقدُم الفيلق الذي أفزع القف
…
ر وهز النجود إِثر النجود
تتمشى في سُبْله البيد نشوَى
…
ثملاتٍ برملها العِربيد
يا صحابي هذا (أُسامة) يختا
…
ل بِبُرْد من الشباب نضيد
رأس الأكرمين وهو ابن عشري
…
ن بعزمٍ ماض ورأي سديد
وعليه جراءة الأسَدِ الوَرْ
…
د وتحديقةُ العُقاب الصيوُد
يا له قاحماً نمته البطولا
…
ت وألقت إليه بالاقليد
والبطولات شعلة الأمل السا
…
طع في ظلمة الليالي السود
حدث النفس وهو يحلم جذلا
…
ن بنصر داني القطوف عتيد
إيه يا نفس لا تَرُعْك المنايا
…
فالمنايا أمنية الصنديد
اطلبي المطمحَ القصيَّ مداه
…
ودعي الضعف للجبان الرَّقود
واذكري نائماً (بمؤتة) باع الن
…
فس زُلْفَى رب البرايا الحميد
وانهضي للجهاد في نصرة الح
…
ق وبثي رسالة التوحيد
ودعي اسم النبي تعبقْ به الدن
…
يا وترتع في عالم من سعود
وتلاقى الجمعان فارتجت الأر
…
ض وغابت في العاصف المشهود
هل رأيت الأتِيَّ يزُبد جيّا
…
شاً ويرمي الجلمود بالجلمود
وتعالت في القفر تكبيرة الل
…
هـ فدوَّى الوجود بالتحميد
ثبت المسلمون في لقية الرو
…
م وغاصوا في القسطل المزرود
وفَروُهم بكل ماض صدوق
…
كصباح يفري الدجى بعمود
لا يرُى منهمُ ضحى اليوم إلا
…
آيسٌ من نجاته أو مُود
وأُسودُ الصحراء قد غنموا النص
…
ر وفازوا بالمأمل المنشود
مَنْ يُردْ فرحة النعيم المرجى
…
يصدق الله في ظلال البنود
الصحارى ياسحر هذي الصحارى
…
آيةُ الله في كتاب الوجود
ثورة الشمس في خِضَمٍّ من النو
…
ر سحيق نائي المرام عهيد
الأراذيُّ في حماها تَنَزَّى
…
قاذفات باللاهب الموقود
يالها الله من جحيم تَلَظَّى
…
تخطف الروع من جنان الجليد
هي للائذ المحب أمان
…
وهي للغاصبين نار الوعَيد
أي زهو تثيره هذه البي
…
د بقلب بحبها معمود
نهض الفجر في حماها بهيا
…
حافلا بالسنا النقِّي الفريد
عانقتها الأضواء في هبة الصب
…
ح فأزرت باللؤلؤ المنضود
سكبت في فضائها العسجد الصر
…
ف وحلَّتْ أفياءها بالعقود
أشرق اليمن من محاريبها الزُّه
…
ر ومحرابها محط السجود
ها هنا يا صاحبتي معبد الل
…
هـ على غابر الزمان الأبيد
ها هنا مشرق النبوة، مهوى ال
…
خير مجلى الحلم السنِّي السعيد
ها هنا دارة الهناءة والبش
…
ر وما شئت من سخاء وجود
ها هنا البأس والجراءة والحز
…
م ومستعصم الفخار الوطيد
ها هنا معقل الغطارفة الغ
…
ر ومستوطن العلاء التليد
ها هنا السيف صورة الأمل البك
…
ر وترنيمة الشجاع النجيد
وعلى البيد صورة تبهر العي
…
ن جلالا بسحرها المسرود
طوَّف الدبن ساحها ثم أسرى
…
يغمر الكون بالضياء الجديد
أسمع الرمل يملأ الأرض تسبي
…
حاً بشدو محبب مودود
هدهدته قيثارة تتغنى
…
بلحون قدسية الترديد
جازه العُرْب في مواكب للنص
…
ر تفادي على اللواء المجيد
أذن الله للصحارى فماجت
…
ساحتاها بقاحمين أسُود
يا جنود الحق المبين سلام
…
أنتمُ للعلاء خير جنود
بكم عزت الحنيفة في الكو
…
ن ونالت شأو المرام البعيد
فتحوا الأرض فاستقادت لفتح
…
ناصع كالسماء هاد رشيد
غيرهم يفتحون للذل والعا
…
ر وهم للعلاء والتشييد
ثم دال الزمان من ناسِه الغ
…
ر فقرت سيوفهم في الغمود
واستكانت إلى الكرى فعليها
…
صدأُ الدهر من طويل الهمود
(بغداد)
أنور العطار
لله.
. .!!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(سألتني القوت حسناء، وهي لا تدري أني. . . شاعر!)
مَالي أَرَاكِ الْيَوْمَ؟. . . نَارُ الضَّنَى
…
تَكَادُ مِنْ عَيْنَيْكِ تْلِقي الشَّرَرْ!
رُفَاتُ نُورِ فيهما لْلِمُنَى
…
رَغْمَ الْمَآسِي عَبْقَريُّ الْحَورْ
وَنْعشُ أَحْلَامٍ طَوَاهُ السَّنَا
…
وَسارَ. . . لا يَعْلَمُ أَيْنَ الْمَقَرْ
أَيْنَ؟! وَلَمْ تُبْقِ الَّلَياِلي بِنا
…
مِنْ رَحْمةٍ تَأسُو جِرَاح الْقَدَرْ
لا تَنْدُبِيِه عِنْدَنَا. . . إِنَّنَا
…
أَقْسَى قُلوباً مِنْ صَفَاةِ اْلَحَجرْ!
والصَّوْتُ. . ماذا في صَدَى نَبْرِهِ؟
…
أنينُ ثُكْلٍ أمْ تَشاجي يَتِيمْ؟!
شَاكٍ أَذَابَ الرُّوحَ في حَمْرِهِ
…
لَكنَّهُ رَغمَ التَّشَكّي رَخيِمْ
سَاقِ مَضَى بِالدَّمْع في دَهْرِهِ
…
يَسْقِي اَلْحزَانَى مِنْ شَرَابِ اَلْجحِيمْ
لَوْ طَافَتِ الدُّنْيَا عَلَى خَمْرِهِ
…
لَما صحا في الْبُؤْس مِنها نَدِيمْ
لَكِئهَا صَمَّاءُ عَنْ سِحْرِهِ. . .
…
مَا يَفْعَلُ الشَّاكي لِسَمْعٍ لَئِيمْ؟!
وهذِهِ الْكَفُّ الَّتِي ما بَرَى
…
مِعْصَمَهَا الْبارِي لِغْيرِ السِّوارْ!
بَيْضاءُ كالزّنْبقِ فَوْقَ الثّرَى
…
أَلْفَتْهُ رِيحٌ في هَجيِرِ الْقِفَارْ
الذُّلُّ سَوَّى حُسْنَهاَ مِنْبَرا
…
يَهْتَّزُّ بِالّليْلِ فَيُبْكِي النهّاَرْ
والنَّاسُ مَلُّوا شَدْوَهُ. . . يا تُرَى
…
لِمَنْ يُناَدِي يا تُرابَ الدِّيارْ؟
سائِلَةَ الْقُوتِ بِهَذَا الْوَرَى
…
كُفِّي. . . فما تَلْقَيْن إِلاّ اَلْخسَارْ!
الثّغْرُ رَفرَافُ اَلهوَى لِلْقُبَلْ
…
لِكنْها ذابَتْ عَلَى بُؤْسِهِ
والصَّدْرُ نامَتْ في أَسَاهُ الشُّعَلْ
…
وَاهْتاجَ لِلْقُوتِ لَظَى حِسِّهِ
والسِّحْرُ في اْلأَجْفان يَنْعَى الأَمَلْ
…
وَيَسْأَلُ اَلْخَيْبَةَ عَنْ رَمْسِهِ!
بِنْتَ الطّوَى! ذُوبِي بُكاءً وَهَلْ
…
يَوْمُكَ إِلاّ مِنْ صَدَى أَْمْسِهِ!
الدَّهْرُ بِالرُّكْبَانِ لَاهِ ثَمِلْ
…
واَلْحظُّ مَطْوِيٌّ عَلَى نَحْسِهِ!
سأَلْتُهَا: ما بالُ هَذا اَلْجَمالْ
…
أَسْيَانُ في الدُّنْيَا، حَزينٌ، لهيفْ؟!
ماتَ اَلْهوَى في ظِلِّهِ والدَّلَالْ
…
وفِتْنَةُ اللّمْحِ، وسِحْرُ الرَّفِيفْ
وَاصْفَرَّ حَتَّى عادَني في اَلْخيالْ
…
رَيْحَانَةً أَبْلَى شَذَاهَا الْخريفْ
قالَتْ: مَحا سِحْرِيَ ذُلُّ السُّؤَالْ
…
وَخَيْبَةُ اَلْحظِّ لِحُسْنِي الْعَفِيفْ
إِنْ قُلْتُ: قُوتاً! قَالَ إِثْمُ الرِّجَالْ:
…
باْلعِرْض لَا نَبْخَسُ حَقَّ الرَّغيفْ!
محمود حسن إسماعيل
القصص
الدموع
مترجمة عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان ريكاردس أرملاً يعيش مع ابنته الوحيدة. وكان كثير التنقل من مسكن إلى مسكن، ولكنه لم يترك لوندرا في وقت من الأوقات. وكانت المساكن التي يقيم فيها من النوع الحقير الذي تؤجر فيه كل غرفة على حدة، وتدفع أجرتها مقدماً
وكان كثيراً ما يلجأ إليه المجرمون للاستشارة، فيفتيهم بما يدفع عنهم العقاب أو يجد لهم الوسيلة للخلاص. ولكنه هو نفسه لم يكن مجرماً، وإن أعتمد في رزقه عليهم وعلى مؤلفات صغيرة يضعها عن المجرمين والإجرام
كان أكثر زواره من طبقة الحدادين والنشالين واللصوص المبتدئين وخدم المنازل. وكانوا يطلقون عليه لقب (العلامة لتفننه في ضروب الحيل) وكان يقول لهم إنه قضى الشطر الأول من شبابه طالباً في جامعة اوكسفورد، وإن له أصدقاء من بين الوزراء واللوردات. وكانوا يجدون أمامه كل ما زاروه أكداساً من الكتب، ومجاميع من صور العظماء. وكانت بنته فيوليت ذهبية الشعر جميلة العينين رشيقة القد. وهي تقوم في المنزل بكل أنواع الخدمة، من الطبخ إلى الكنس إلى مشترى الحاجات من السوق. وكانت زكية نشيطة، وقد بدأ أبوها يحد من حريتها ويراقبها مراقبة شديدة لما بلغت عامها الرابع عشر. وذلك لأنه لاحظ أن بعض زواره كانوا يغمزونها بألاحاظهم، وظن أنها كانت تنتهز فرصة يكون فيها غافلاً فتبسم لاحدهم. وقد لاحظ مرة أو مرتين أنها تركته في أثناء حديث له معتذرة بعذر من الأعذار. ولكن اتضح أن العذر مكذوب، وأنها خرجت لتحادث أحد الشبان على السلم وكان في مثل هذه الحالة يغضب ويحتد ويطرد زائرهُ ويأمره بعدم العودة، ثم يستدعي فيوليت فيأمرها بملازمة حجرتها
وفي يوم من الأيام استأذنته فيوليت في الذهاب إلى السينما مع أحد أصحابها فقال: (كلا لا تذهبي)
قالت: (حتى ولا مع سواني جيمز؟). فقال: (لا تذهبي مع أي إنسان)
قالت وقد بدا عليها ما يبدو على سائر الفتيات في حالة العناد: (ولكنني أريد أن أذهب فلماذا تمنعني؟) فقال: (لأني آمرك بعدم الذهاب)
فهزت رأسها الجميل الشعر وقالت: (هب أنني ذهبت بالرغم من منعك؟). فقال: (إذن أضربك عند عودتك)
قالت: (وهب أنني لا أعود إلى المنزل؟). ثم اغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع وقالت: (هب أنني ألقيت بنفسي تحت الترام أو القطار أو في البحر؟)
فهز العلامة كتفيه وأجابها بجواب خشن. واعتادت أن تسكت عند مثل هذه الحالة وتكف عن مطالبته بالذهاب
ولكن لا يحسب القارئ أن معاملته إياها كانت خشنة على الدوام، فقد كان كثيراً ما يلاطفها خصوصاً إذا شرب وانتشى، ويصفها بأنها عزاؤه وتسليته ويقول لها إن أمها أوصته وهي تموت بأن يعني بها، وإنه لهذا السبب يحرص عليها ويبذل من أجلها كل ما يستطيع، وإنه إذا منعها عن جيمز وأمثاله فإنه يعلم أن أمثال هؤلاء سيجرون إليها المتاعب في المستقبل، وإنه سيجد لها الزوج الكفء في الوقت المناسب لكن كل شيء من هذا قد ذهب وفات أوانه وأصبحت فيوليت في السابعة عشرة فلم يعد يستطيع تهديدها بالضرب ولم تعد تجدي معها النصائح، فإذا ما أراد إرغامها على رأيه هددت بالانتحار فيضطر إلى الإذعان. ولم يعد له من سلاح غير لسانه الذي يلجأ إليه في قليل من الأحيان
وكانت في هذه الحالات تلجأ إلى الدموع
ولما تجاوزت العام السابع عشر وجد أبوها وسيلة جديدة للرزق هي إرسال خطابات يطلب فيها المساعدة من كبار المؤلفين والكتاب وإلى من يقيمون من أنفسهم مقام الرعاية لحملة الأقلام. وكان يقول في خطاباته إن حرفة التأليف كسدت في مدة الحرب وفي العهد الذي تلاها، وإنه يرتزق من قلمه، وإنه لا يملك حتى طابع البريد الذي يرسل به الخطاب، وإنه لذلك يبعث به مع أبنته الوحيدة فيوليت.
ثم يسلم الخطاب إلى ابنته ويأمرها بأن ترتدي أقدم ثيابها وتضع في كفيها قفازين باليين، ويبحث في فهارس الكتب عن أسماء المؤلفين وعناوينهم، ويوصي ابنته بأن تتصنع الكآبة
وتزعم أنه ليس في المنزل طعام وبأن تقلل معهم من الكلام بقدر المستطاع
قالت: (وهل أقول ليس في المنزل شراب أيضاً؟) فقال: (إياك أن تذكري اسم الشراب، ولتقفي حتى يسلم إليك الرد)
وفي أول مرة كلفها بذلك ذهبت وعادت فوضعت أمامه عشرة جنيهات فاستخفه الطرب وقال: (كيف أمكنك الحصول على كل هذا؟)
فقالت: (لقد فعلت كما أمرتني، فأبى الرجل أن يعطيني شيءً ولكني بكيت)
قال: (بكيت؟ كيف؟ هل آذاك؟)
فقالت: (كلا)
قال: (ولكن كيف تبكين؟ هل تأثرت من ذهابك بهذه الرسالة؟) فقالت: (كلا يا أبي ولكني وجدت البكاء وسيلة لتنفيذ المهمة التي ذهبت من أجلها)
قال وقد بدت عليه علائم الراحة والاطمئنان: (خبريني يا فيوليت. هل في استطاعتك البكاء كلما أردت؟). فقالت: (نعم. فإن معاملتك إياي منذ الصغر سهلت عليَّ اصطناع البكاء)
فلاطفها وواساها وقال: (تعالي يا ممثلتي العزيزة. إنني أهنئك بمستقبل باهر)
وكان ذلك اليوم بداية عهد جديد ترك فيه العلامة إفتاء المجرمين وترك حرفة التأليف، وعكف على تحرير الخطابات وإرسال ابنته بها ولقد أغنته هذه المهنة فأيسر، ولكنه ما زال عاكفاً على إرسال الخطابات
وفي يوم من الأيام جاءت إليه الخادم بخطاب وقالت: إن الفتاة التي حملت هذا الخطاب تنتظر مقابلته بالباب. فقال: (أسمعيني ما في خطابها) فقرأته، وهو خطاب من مؤلف كسدت سوق بضاعته، وليس في منزله طعام، ويريد مساعدة مالية لا تقل عن عشرة جنيهات
قال ريكاردس: (اطردي التي جاءت بهذا الخطاب).
فقالت الخادم: (أخشى يا سيدي إلاَّ يكون هذا في استطاعتي. إنها تبكي وحالتها مؤثرة جداً، وتقول أنه ليس في منزلها طعام)
قال: (اطرديها. فلماذا يلجأ إليَّ من أرسلها؟ عنده نقابة المؤلفين وعنده الجمعيات الخيرية
المختلفة)
فخرجت الخادم وهي تفكر في وحشية سيدها الذي يأمر بطرد فتاة مسكينة لا تجد هي ولا أبوها القوت الضروري. ثم عادت فقالت: إن الفتاة أبت أن تنصرف، وألحت عليه أن يقابلها. فنزل ريكاردس ووجد الفتاة في ثياب سوداء وفي يدها قُفاز كله ثقوب. وبكت أمامه بدموع حارة، وأقسمت بصوت متهدج، أنه ليس في منزلها قوت. فأضطر ريكاردس أمام هذه الدموع إلى إعطائها خمسة جنيهات)
وربما أدرك القارئ أن تلك الفتاة لم تكن سوى فيوليت متنكرة، وقد غيرت صوتها، وأنها تمثل أمام أبيها نفس الدور الذي كان يرسلها لتمثيله أمام الناس
وفي يوم قريب من هذا الحادث طلبت فيوليت إلى أبيها أن يأذن لها بالذهاب مع جيمز للنزهة. فأبى وأصر على إبائه، وأطاعته وقد كظمت غيظها وأصرت على فكرتها
في عصر ذلك اليوم سلم إليها أبوها خطاباً إلى أديب كبير في ضاحية من ضواحي المدينة لأنه كان قد استنفذ أسماء المقيمين فيها، فذهبت لأداء هذه المهمة بعد أن زارت مكتب أبيها وأخذت منه أوراقاً وانقضى اليوم ولم تعد، وانقضى اليوم التالي كذلك، وكاد أبوها أن يجن وأشيع أنها تزوجت من جيمز وأنها تقيم معه في منزل قريب من منزل أبيها
وتفقد مكتبه فوجد كيس نقوده مفقوداً، وكذلك دفتر مذكراته الخاص وبيان طويل بأسماء المؤلفين وعنواناتهم، فكان حزنه على البيان والدفتر أكثر من حزنه على المال المفقود لعلمه أن هذين هما مصدر ثروته. وأدرك أنها ذهبت إلى جيمز لتؤدي له الخدمة التي كانت تؤديها لأبيها فامتلأت نفسه بالأحقاد على هذا المزاحم
وبعد أسبوع واحد تقابل ريكاردس وجيمز في الطريق فأمسك الأول بتلابيب الثاني وطلب إليه أن يرد أبنته أو يسوقه إلى البوليس، لأن فيوليت لم تبلغ العام الحادي والعشرين فلا حق له في الزواج منها إلا بإذن أبيها. وقال إنه إما أن تكون معاشرته إياها سفاحاً معاقباً عليه لعدم بلوغها تلك السن، وإما أن تكون متزوجة بعقد مزور
قال جيمز: (إذن فلنذهب إلي البوليس وأنا مستعد للعقوبة إن كان ثمة عقوبة، ولكني سأقدمك للمحاكمة وعندي الأدلة بخطك من دفتر مذكراتك، ومن بيانك بأسماء المؤلفين. وسأقول إنك تعيش من أموال تحصل عليها بطريق النصب لأنك تطلبها بأسباب غير
صحيحة؛ وبنتك تشهد عليك)
لما سمع ريكادس ذلك وجف قلبه وفتر تحمسه وترك خصمه وذهب قانعاً من الغنيمة بالإياب
وفي اليوم التالي نشرت الصحف إعلاناً هذا نصه: (رجل من المشتغلين بالأدب متقدم في السن يريد أن يتبنى فتاة يتيمة في السابعة عشرة من العمر. العنوان: صندوق البريد رقم 7315)
وليس في استطاعتي إلا أن أفهم أن صاحب هذا الإعلان هو ريكاردس وأنه يريد الاستعاضة باليتيمة عن بنته وممثلته فيولت.
عبد اللطيف النشار
البريد الأدبي
الدكتور طه حسين في ذكرى الأستاذ صادق عنبر
دعت (رابطة الإصلاح الاجتماعي) جمهوراً كبيراً من رجال العلم والأدب والصحافة إلى حفلة أقامتها بدار الجمعية الجغرافية الملكية بمناسبة مرور عام على وفاة المرحوم الأستاذ صادق عنبر. وقد افتتح الحفلة الأستاذ أنطون الجميل بك بكلمة بليغة ثم تعاقب الأدباء والعلماء من أصدقاء الفقيد وتلاميذه والمعجبين بأدبه، فتكلم الأستاذ جاد المولى بك عن شخصيته، والأستاذ الههياوي عن أدبه، وألقيت قصيدة للأستاذ الكاشف، وألقى الأستاذ محمود بيرم التونسي زجلاً رقيقاً، والشاعر الشاب أحمد عبد المجيد الغزالي قصيدة
وكانت الحفلة تليق بذكرى الفقيد الراحل وتدل على أن الأديب يعيش في أدبه العالي ويمتد عمره في أصدقائه الخلصاء
وهنا مسألة لا بد من الإشارة إليها، فقد ذكر الأستاذ الههياوي أن الأستاذ صادق عنبر هو الذي كان يكتب تلك المقالات المعروفة في نقد النضرات للمنفلوطي، وأن الدكتور طه لم يكن له فيها إلا الإمضاء؛ وقد أيده الأستاذ عبد الرحيم بن محمود في هذه الدعوى الجريئة؛ وأذكر أن كاتباً كتب مثل هذا الكلام منذ سنوات في مجلة الزهراء
ونحن بشهادة العيان ننكر هذه الدعوى أشد الإنكار، لأننا كنا مع الدكتور ساعة كان يمليها ويدفع بها إلى الجريدة، وقد ذكرنا في بعض مقالاتنا أسباب ذلك. ولا ندري كيف يسيغ العقل هذا والدكتور طه كان يومئذ أقل من الأستاذ صادق عنبر سنًّا ونفوذا وشهرة. وما الحكمة في أن يكتبها الأستاذ عنبر ويمضيها الدكتور طه وذاك موظف في جريدة (العلم) وهذا أجنبي عنها؟ إن الدكتور طه يأبى عليه طبعه أن يضع اسمه هذا الموضع، وإنا لنعلم أنه نحل كثيراً من الناس مقالات وبحوثاً وكتباً نالوا بها الشهادات والدرجات والثروة
فلم (الدكتور)
تعرض (شركة مصر للتمثيل والسينما) هذه الأيام في مدينة القاهرة شريطاً مصرياً محضاً عنوانه (الدكتور). وبعيد أن أقف هذه الكلمة على العرض والوصف والبحث؛ فإنما الذي في نيتي أن أحدث قراء هذا الباب من (الرسالة) عما خلص لي من قصة (الدكتور). وذلك لأن الذي يعنيني من المظاهر الأدبية والفنية في مصر إنما يرجع إلى الناحية الاجتماعية
خاصة
أما تمثيل القصة فيدلنا على أمرين: الأول مهارة الممثلين المصريين في فن (المهزلة)(مثلاً مختار عثمان وفؤاد شفيق)، ولن أنسى ساعة يدخل الخادم الريفي على الباشا وزوجه فيجري حديث صامت يضحك المصلوب. والسبب في ذلك أن التمثيل في مصر قام - أول ما قام - على المسرحيات الهزلية، وأن سليقة المصري إلى الخفة والظرف والمرح والمحاكاة الساخرة ميّالة. وأما فن المأساة فالمصري لا يتقنه بعد لأنه لا يحكم كيف يمثل الإنسان، الإنسان من غير صفة تصفه، الإنسان على سجيّته. وتعليل هذا أنه تجذبه المبالغة في التعبير على الغالب وتعوزه قوة الصدق في الإحساس الدفين أحياناً
والأمر الثاني مضّي الممثلات في طريق الإتقان، من حيث أنهنه طرحن التكلف وسلّمنا بأن التواضع فضيلة وأدركنا أن الكلام الملقى مصدره القلب أو العقل لا الذاكرة ولا الدعابة (الشخلعة). . . وما ضرّ الأستاذ سليمان نجيب وهو بطل القصة (مع لقب بك) لو حذا حذوهن فتحلّى بالبساطة وأطلق وجهه من الإطار الذي حبسه فيه: إطار يغلب عليه الجفاء ويطرد فيه الانقباض مع شيء من العجب؛ إطار يحصر ابتسامة لا تتبدلّ كأنها مسمرة به، ولا تَرِف لأنها على حظ من التقبّض
بقيت القصة (وهي من تصنيف الأستاذ سليمان نجيب). ومجمل القول فيها أنها تصلح موضوعاً لخطبة يخطبها مصلح اجتماعي متطرف. وإليك فقرات من البرنامج المطبوع، وقد ذكرت بحروفها أو بمعانيها في أثناء التمثيل
(فلم الدكتور صراع بين الحب العاطفي والحب الأبوي)، (مشكلة العصر: الرجل، المرأة: أيهما يسسود) (فلم الدكتور يعالج داءً قاسياً داء التماسك بالطبقات والتغاضي عن قيمة الأشخاص)(فلم الدكتور يعيد إلى الريف المصري مجده وعظمته ويرد إليه أبنائه الذين سحرتهم مدنية المدن وبهاؤها البراق الخداع)، (حياة اللهو وحياة الاستقامة: أيهما أفضل)، (حياة الترف في الحضر وحياة البساطة في الريف) الخ. . .
يا الله ما هذا الداء المتفشي في المؤلفين عندنا ولاسيما الذين يؤلفون للمسرح والسينما؟ يريد كلهم أن ينقلبوا وعاظاً. فهل لهم - أصلحهم الله وأبقاهم ذخراً للفضيلة ومكارم الأخلاق؟ -
أن يضعوا العمائم على رؤوسهم، أو يجلسوا القلانس على مقدَّمها فيرتقوا المنابر ليوعدوا خلق الله أو يعدوهم؟
ما هذا التهويل؟ الأديب المصلح يشير ويغمز لأن الأدب فن، أو يظن المؤلفون عندنا أن جمهورنا بليد أيةّ بلادة حتى أنه يحتاج إلى التنبيه الصريح؟ ثم ما هذا الادعاء؟ هل سألهم الجمهور أن يسقطوا الفن إلى التأديب؟ وما هذه المشكلات التي يعرضها شريط (الدكتور)؟ الحب العاطفي والحب الأبوي الريف والحضر. اللهو والاستقامة. . . تلك أحاديث طريفة جداً حقاً!
ثم إن مثل هذا اللون من القصص السينمائية الناهضة على الوعظ والنضال الفكري يعوزه أجل العناصر شأناً: الحركة، نقاش وتدافع حجج وتبيين وتدليل، كل هذا ربما صلح للمسرح إلا أنه بعيد كل البعد عن السينما
و (الدكتور) - على هذا - يشمل قطعاً لطيفة بفضل حذق المخرج نيازي مصطفى وجودة الموسيقى على أيدي محمد الشجاعي وعبد الحميد عبد الرحمن ومهارة طائفة من الممثلين (وقد ذكرت بعضهم فوق) والممثلات أمثال فردوس محمد فدولت أبيض فأمينة رزق. فلا عدمنا (شركة مصر للتمثيل والسينما)
على الهامش: - متى يأتي الزمن الذي فيه نزن الكلام؟ ففي البرنامج المطبوع ما حرفه: (فلم الدكتور أروع ما جادة به قريحة مؤلف (هل هنالك غلطة مطبعية فتقرأ: المؤلف) وأعظم ما أخرجته عبقرية مخرج) (كذا). . . رحم الله هوليود!
- كانت لغة القصة العامية على وجه الإطلاق، بل العامية السوقية أحياناً. ومهما يكن من شيء فقد ساء أذني قول الآنسة أمينة رزق (يا دَكتور)(بفتح الدال) و (يا دُكْتر)(باختلاس الواو). وقد يحق لها هذا اللحن لو كانت ترتدي (ملاية لَفّ) والحال أنها تنعم في (فساتين) على جانب عظيم من الأناقة
بشر فارس
معهد للغات الشرقية القديمة والحية
من المسائل التي نظرها مجلس جامعة فؤاد الأول، في آخر الأسبوع الماضي مذكرة من
كلية الآداب بمشروع قانون بإنشاء معهد للغات الشرقية
وقد قرر المجلس إحالة المشروع إلى لجنة اللوائح والقوانين لدراسته ووضعه في الصيغة القانونية
وقد علمنا أن هذا المعهد سيضم ثلاثة أقسام: الأول خاص باللغات الشرقية الإسلامية القديمة. والثاني خاص بالغة السامية. والثالث خاص باللهجات العربية القديمة والحديثة. وربما تقرر أيضاً تدريس اللغات الفارسية والتركية والصينية
وسيقصر دخول هذا المعهد على طلاب كلية الآداب الذين يحصلون على درجة اللسانس، وستكون مدة الدراسة فيه ثلاث سنوات. والمفهوم أن تلاميذ قسم اللغة العربية هم اللذين سيمونون المعهد. ولكن سيباح لطلاب الأقسام الأخرى أن يتقدموا إليه إذا تحققت فيهم الشرائط التي تستوجبها الكلية في الطلاب
التعليم الديني في المدارس
قامت وزارة المعارف في خلال العام الماضي بجهود مشكورة للتوسع في التعليم الديني بمدارسها، عاملة على جعله أساساً للنهضة القومية الحديثة، وتنشئة الطلاب على مبادئه وآدابه تنشئة تقوم عليها تقوية الأجيال المقبلة روحاً وعقلاً ونظاماً
وتقوم الوزارة الآن سيراً على هذا النهج بإعادة النظر في هذا الموضوع من حيث الاعتبارات الآتية:
1 -
تقدير أثر العناية التي بذلتها الوزارة أخيراً لمناهج الدين
2 -
المقارنة بين المناهج الحالية والمناهج السابقة من وجهة خطوات التعديل
3 -
الإطلاع على مبلغ عناية المدرسة وتلاميذها بهذه المادة بدراسة تقارير المفتشين
4 -
وضع بيان بالموضوعات التي يجب أن تشملها كتب الدين المقررة لمدارس الجنسين، واختبار وفاء الكتب الحالية بهذه الموضوعات
5 -
النظر في هل تقتصر العناية بالدين على ما بين المدرس والتلميذ من تجارب يرجع إلى مقدرة كل منهما، أو العمل على جعله مادة أساسية يمتحن فيها الطلبة في آخر العام مثل غيرها من مواد اللغات والعلوم
وتتجه العناية أيضاً إلى اختيار مدرسي الدين من بين الذين أهلتهم ثقافتهم إلى عدم الاعتقاد
بوجود تعارض ما أو جفوة بين تطبيق تعاليم الإسلام وبين مقتضيات العصر الحاضر، وهم الذين عرفوا أسرار الدين معرفة عقلية وقلبية دون الوقوف عند حد النظريات
ويطلع كبار مفتشي اللغة بوزارة المعارف الآن على الكتب المؤلفة في هذا الموضوع لإبداء ملاحظاتهم عليها بما يلائم هذا التوسع توطئة لوضع تقرير توجيهي للعناية الواجبة نحو هذه المادة
بعثة ألمانية للأبحاث العلمية في الحبشة
سافر في منتصف يناير من مدينة ميونخ عشرة من أعلام الألمان بينهم الدكتور فون سالفلد الذي اشتغل في الجامعة المصرية أربعة أعوام، في رحلة إلى بلاد الحبشة وكينيا وتنجانيقا، للقيام بأبحاث تتعلق بعلم الانتروبولوجيا وعلم الأجناس والحيوانات، كل هذا لحساب متحف ميونخ الطبيعي
ويرأس هذه البعثة العلامة الدكتور هارتل ماير الذي سبق أن تولى رياسة مثل هذه البعثات من قبل في أفريقيا أو الهند
ولا شك أنها ستجد كل معاونة من السلطات الإيطالية في الحبشة
ترقية الأغاني المصرية
تقوم وزارة المعارف الآن بمشروع هام لإصلاح ناحية لها خطرها في النهضة الاجتماعية العامة عند الشعب، وهي ناحية الغناء والموسيقى. فقد لوحظ من زمن بعيد أنه على الرغم من الخطوات الواسعة التي خطتها مصر في سبيل مجدها وقوتها وثقافتها فإن الجانب الفني منها، والجانب الغنائي على الأخص، لا يزال متأخراً عن الهدف الرفيع الذي تتمشى إليه
ويلخص مشروع الوزارة في أن تعهد إلى طائفة من الشعراء الممتازين تأليف خمسين قطعة غنائية في مختلف الموضوعات التي تفي بما يجب توفره في أغاني أمة قوية معتزة ناهضة، على أن تعهد إلى طائفة أخرى من كبار الملحنين وضع الألحان المناسبة لها
وستترك الحرية لهؤلاء الشعراء والملحنين في القيام بعملهم خاضعين فيه لوحي شعورهم وإلهامهم الخاص؛ وتعطى على القطعة الواحدة عشرة جنيهات للتأليف وعشرة أخرى للتلحين. على أن يتجدد تأليف هذه الأغاني كل سنة حتى يتوفر منها العدد الكافي الذي
يقضي على ما هو موجود الآن
وستتبع الوزارة في موضوع (الأناشيد) نفس ما تتبعه في الأغاني، إذ رأت أن الذين يضعونها الآن من ناحية الصناعة لا ناحية الشعور يضرون بالقيمة الفنية التي لو توفرت فيها لأثمرت فيما وضعت له
ترشيح عميد الآداب لعضوية معهد التعاون الفكري
تلقت وزارة الخارجية كتاباً من وزير الخارجية الفرنسية، بوصفه مقرراً لمعهد التعاون الفكري، يرشح فيه صاحب العزة الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب عضواً في المعهد، لما له من ظاهر في الثقافتين العربية والفرنسية
وينتظر بعد أن توافق مصر على هذا الترشيح، أن يعرض الأمر على سكرتيرية عصبة الأمم لإقراره
المباراة الأدبية بين رجال التعليم
طلبت وزارة المعارف، إلى اللجان الفرعية التي كلفت لدراسة المؤلفات التي وضعها رجال التعليم في مختلف نواحي المباراة الأدبية وبحثها، أن تقدم تقاريرها قبل يوم 18 فبراير القادم
وقد بدأت الرسائل الخاصة بالموسم الثاني لهذه المباراة ترد على الوزارة توطئة لدرسها واتخاذ قرار فيها
التدريب والتكليب
استفاض على ألسنة الكثرة المثقفة قولهم (الكلب هول ومدربه فلان. . .) وهو خطأ لغوي إذ الصحيح أن يقال: (الكلب هول ومكلبه فلان. . .) سواء أرادوا بفلان أن يكون مسلطة على الجناة للدلالة عليهم أو هو الذي ضراه وعلمه طريقة الإرشاد إليهم، إذ بكل من المعنيين وردت كلمة (مكلب) في لغتنا بصدد الحديث عن كلاب الصيد ولا يصح استعمال غيرها في هذا الصدد، وما تسليطه على الجناة للدلالة عليهم إلا كتسليطه للصيد وتعويق المصيد.
وقد جاء في لسان العرب ص 217 من الجزء الثاني (ومكلب مضر للكلاب على الصيد
معلم لها؛ وقد يكون التكليب واقعاً على الفهد وسباع الطير. وفي التنزيل العزيز وما علمتم من الجوارح مكلبين.
والكلاَّب - بتضعيف اللام - صاحب الكلاب، والمكلب الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد. وفي حديث الصيد: إن لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها. المكلبة المسلطة على الصيد المعودة بالاصطياد الذي قد ضريت به والمكلب بالكسر صاحبها والذي يصطاد بها)
احمد عبد الرحمن عيسى
مؤلفات موسيقي نابغ
جاءنا من وارسو أنه سيصدر في فبراير القادم الجزء الأول من مؤلفات الموسيقي شوبان البولوني المشهور.
وسيشرف الموسيقي المعاصر المسيو بدرفسكي على إخراج هذه المؤلفات. وينتظر أن يتم إخراجها جميعا في مدى أربعة أعوام
فيا ليت هذا العمل يكون له مشابه في مصر وفي الشرق فنجد من يعنى بإحياء مؤلفات تعد من الكنوز سواء في العلم أو الأدب أو الفن.
ولا يصعب العثور في دار الكتب المصرية على مخطوطات إذا عمل على نشرها وإذاعتها فإنها ستكون موضع عناية أمم العالم وتصبح بمثابة دعاية قيمة تسجل لنا السير في مضمار الأمم الناهضة فعلاً لا قولاً.
أحياء ذكرى العلماء والأدباء
قررت الحكومة التركية إصدار مجموعة من طوابع البريد لمناسبة انقضاء خمسين عاماً على وفاة الشاعر القومي نامق كمال، وستحمل تلك الطوابع صورة وبعض كلمات من شعره
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
المخرج فلاندر وسكرتير الفرقة
الخواجة فلاندر مخرج استقدمته الفرقة من بلده باريس ليعمل فيها بعد إذ عاف الأستاذ زكي طليمات العمل، وبعد إقصاء الأستاذ عزيز عيد والاكتفاء بالمخرج عمر الجميعي ريثما يعود فتوح نشاطي الموفد إلى فرنسا للتخصص في فن الإخراج
والخواجة فلاندر له ذوق وله فن، وهو رغم جهله لغتنا العربية وعادات أمتنا وتقاليدها، قد استطاع أن يساهم في إخراج بعض روايات موضوعة فكساها رونقاً وأضفى عليها بهاء فنياً، كما أخرج رواية مترجمة يعرفها في الأصل إخراجاً تقليدياً لا اعتراض عليه في الشكل المسرحي، والحركة التمثيلية. ولا أقول شيئاً في الإضاءة لأن معداتها ناقصة نقصاً لا سبيل إلى تداركه
ولعل أحسن الروايات التي أخرجها، وأدناها إلى الدلالة على استعداده الفني هي رواية (المتحذلقات) المكونة من فصل واحد
أزعم أن لمحة واحدة من الناقد يلمح لمعانها في رجل الفن تكفي للدلالة على أن وراءها ما بعدها. فلمعان فن الخواجة فلاندر بدا في قدرته على إلجام ممثلات وممثلي رواية المتحذلقات وتقييدهم كما يفعل مروض البغال الشموسة ومدرب الببغاوات، وفي صدهم عن الإسراف في العطاء أكثر من اللازم الواجب. مثال ذلك: الممثل الضحاك فؤاد شفيق كان أكبر همه استلفات النظر إلى حركاته وإشاراته، غير آبه لإرشادات المخرجين بدعوى أنه يفهم فنه أكثر منهم، ويدرك رغبات النظارة وميولهم، وغير حافل بما تحدث حركاته وإشاراته من خلل في سياق الرواية ومن صرف الأذهان عن الغرض الصارم الذي مهد له المؤلف بنكتة أو إشارة، إذ كانت غايته كما قلت إضحاك الناس فقط
وهكذا الممثلة أمينة نور الدين اقتبست بعض حركات من بعض ممثلي السينما أمثال هاردي ولوريل وإضرابهما ممن يقوم تمثيلهم على الحركة المفتعلة. ولم نكتف بالأخذ عنهم كالقردة بل أخذت تغرق في التقليد والافتعال إغراقاً ممجوجاً وهذا ما دعاني إلى تشبيهها (بالساروخ) إذا اشتعل وارتفع في الفضاء تبدو نجومه لامعة وضاءة بعض لحظة، ولكن
كثيراً ما لا يشتعل لفساد مادته فينخنق وهو في الأرض
أما هذا المخرج، أو بعبارة أصح هذا المروض، فقد استطاع أن يجعلهما يقومان بدورهما على وجه مقبول، وهذا بعض المطلوب منه
ما كنت أبتغي الإلماع إلى هذه الناحية من النقد لولا حوافز ثلاثة:
1 -
إدعاء قطب من أقطاب لجنة القراءة أن رأى النقاد المسرحيين لا يتعدى، بل يجب ألا يتعدى ناحية إخراج الرواية وطولها وقصرها على الوقت المناسب
2 -
إدعاء قطب ثاني أن ليس في مصر نقاد
3 -
شكوى الخواجة فلاندر من سكوت الصحف وإغضاء النقاد عنه
أما أنا فلن أسكت عن دحض الادعاء وعن نفي التهمة عن الناقدين المترفعين والأدباء المنصرفين عن الفرقة اشمئزازاً من أعمال رجالها الذين يتخبطون في ظلمات الادعاءات، ولن أتراجع حتى أظهر العلل التي أخذت تتأصل في الفرقة لوزارة المعارف المغضية عنها، ولأعضاء البرلمان الذين يغذونها من مال الأمة، ولكني أقتصر الآن على تفهم الخوجة فلاندر بأن في مصر صحافة قوية، وفيها نقاد يحسب لهم ألف حساب، وإن مصر تتوقل في نهضتها الثقافية سلم الارتقاء، وتتوجه بدوافع فردية، لا جماعية ولا حكومية، صوب المثل العليا، وإن قول المغرضين أن قحطا يعتور الأدباء إنما هو محض افتراء على مصر الناهضة وشبابها اليقظ.
وإن في الفرقة القومية - ويا للأسف - جماعة، وصلوا في غفلة الزمن، إلى وظيفة لم يخلقوا لها، ومن هؤلاء موظف يقول أنه سكرتير الفرقة القومية واليد المنفذة لما يرتئيه أو يشير به مديرها والحامل (كرت بلانش) منه، فهذا المخلوق المكلف بتوجيه الدعوات إلى رجال الصحافة وجماعات الأدباء بقبض يده عن الصحافة الناقدة ويبسطها بسخاء على الصحافة التي تنشر المدائح والتقريظ مأجورة بالمال، ويفيض بها فيضاً على من لا أذكرهم وعلى نسوة ما عرفن من الأوبرا سوى بابها الخارجي
وهذا المخلوق يعطي تذاكر الدعوات، لا جوداً ولا كرماً كأصحاب البدوات. بل حرماناً وتشفياً من صحافة ومن أدباء يرون الفرقة قد تحولت إلى (تكية)، وأن رجالها تهاونوا في تحقيق غرضها الثقافي، ومن هؤلاء المحرومين من (نعمة) سكرتيرها المحجل ناقد مجلة
الرسالة
كم من صحيفة أمثال (الرسالة) لم تشملها نعمة الفرقة؟ وكم من أديب مغضوب عليه من سكرتير آخر الزمان لأنه لا يذكره إلا بقدر فهمه المحدود؟
ليت الخواجة فلاندر الذي يشكو من إهمال الصحافة والنقاد لفنه يعرف أنه ما من سطر واحد ينشر في الصحف إلا بأجر يدفعه المدير. وليته يعلم مدير الفرقة ويفهم السكرتير الذي لا يفهم أن الفرقة القومية للتمثيل هي للأدباء ورجال الصحافة والمتأدبين وطلاب الجامعات والكليات والمدارس العليا. هي لهؤلاء قبل كل شيء، وليست للمثلات يدعون إليها أترابهن ومعهن أصدقاؤهن، ولا للمثلين يوزعون الدعوات على المارة وجلاس القهوات وموظفي المحلات التجارية
ليت الخواجة فلاندر يقول لمدير إدارة الفرقة إن (بيت موليير) يرسل تذاكر الدعوات إلى أساتذة الكليات، وهؤلاء يوزعونها بالقسط على الطلاب، وأن الطلاب يتهافتون على مسرح الكوميدي فرانسيز والأوديون وسواهما من المسارح التي تغذيها وزارة المعارف بالإعانات كما يتهافتون على مطالعة الكتب المفروضة عليهم
ليت الخواجة فلاندر يقول لمديره إن واجبه يحتم عليه تفقد مندوبي الصحف إذا تغيب واحد منهم، وأن يسعى إلى الناقد يسأله عما عاقه حضور التمثيل، وأن يأمر ببيع عدد من التذاكر بأثمان منخفضة كما هي الحال في كل فرق التمثيل الذي ترعاه الحكومة
ليت سعادة المدير يعرف أن الفرقة هي للأديبات والأدباء وأن مقاصير الأوبرا ليست لتاجر الخمور، وبائع الأقمشة والخياط والحذاء الذين لا يعرفون ولا يفقهون من فن التمثيل شيء، وأن الأليق من هؤلاء بجلوس المقاصير هم الذين يفهمون الحياة عن غير طريق جمع الملاليم إلى قروش والقروش إلى جنيهات تدخر لبناء مسرح خاص بالفرقة يغنيها عن استعارة الأوبرا بعض الوقت
أحسب أني لو قلت في خور الفرقة وهزالها وعجزها عن تحقيق بعض ما هو مطلوب منها تحقيقه أضعاف ما قلته لعددت نفسي من المقصرين، ولكني أرى لزاماً عليّ حرصاً مني على حياتها، وتفادياً لما قد يخالط أذهان بعض الذين لا يرون سوى ظواهر الأشياء، أن أشرك معي طائفة من الأدباء في إبداء الرأي في هذه المؤسسة التي أرادتها وزارة المعارف
وأرادها نواب الأمة لغرض ثقافي نبيل، فتحولت بفضل الرجال الأفذاذ إلى (مصطبة) للشيوخ العلماء المتعالين و (تكية) للكسالى من الممثلين والمتعطلين وفساكل الصحفيين وحثالة المتأدبين
ابن عساكر