المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 292 - بتاريخ: 06 - 02 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٢٩٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 292

- بتاريخ: 06 - 02 - 1939

ص: -1

‌كيف نعالج الفقر؟

سؤال طالما وقع في رَوع النبيين والمصلحين والفلاسفة ممن يملكون القول والدعوة، ولكنه لم يدرْ أبداُ بخلد الأمير فلان والباشا علان والبيك ترتان ممن يملكون الفعل والتنفيذ. ومن بدائه العقل أن يفكر الأنبياء والحكماء في معضلة الفقر، فإنهم نشأوا في مهده الخشن، ودرجوا في فنائه الضيق، وعاشوا في مرعاه الجديب، ورأوا بأعينهم العَبْري أثقال العيش تنوء بالظهور الضعيفة فتسقط في طريق الحياة عرضة لزواحف الرذيلة وجراثيم المرض. ومن بدائه العقل كذلك أن تبقى معضلة العقر من غير حل يطهر الأرض من سمومه، وينقذ الناس من همومه؛ فإن أرباب الحكم والتشريع والتنفيذ هم من سلائل النعمة وكناز المال، فلا يخطرون ببالهم الفقر، ولا يحبطون في حبالهم الفقير؛ وهم يظنون إذا محا الإحسان الفاقة، ونفي التعليم الجهالة، أنهم لا يجدون الخدم ولا يملكون العبيد؛ والجاه من غير أذلاء زفة من غير نظَّارة، والمال من غير فقراء مُلك بلا رعية من أجل ذلك كان الفزع إلي الأقوياء والأغنياء من عوادي الفاقة تزييفاً على الطبع وتكليفاً بالمحال. ومن أجل ذلك كان تنظيم العلاقة بين القوة والضعف، والغنى والفقر، عملاً من أعمال الله وحده، يرفِّه عليه النفوس، ويرفع به الإنسانية، ويجِّمل به الحياة. فإذا حاربنا الفاقة بسلاح الاقتصاد المحض كسنِّ النظم، وتوسيع الموارد، وتوزيع العمل، وأغفلنا أثر الحظوظ والميول والأحوال والأمراض في حياة المرء، قتلنا الفقر بقتل الفقير، كما يقتل الطبيب المرض بقتل المريض. إنما يحارَب الفقير بسلاح الدين ليس غير. وسلاح الدين في مجاهدة البؤس أنه يجعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يصح إسلامه إلا باعتقاده وأدائه؛ وأنه يقوي الإنسانية في الإنسان حتى يشعر بالأخوة لكل مسكين، وبالرحمة لكل بائس. وبقوة الإنسانية وحدها في الدول المتدينة كإنجلترا وأمريكا أوشك البؤس أن يزول، فوجد كل مريض مستشفى، وكل هَرِم ملجأ، وكل يتيم مدرسة. وقد بلغ ما أنفقته الحكومة الإنجليزية على أعمال البر في سنة من السنين ثلاثمائة مليون جنيه، ولا يقل ما يتبرع به الشعب البريطاني للمستشفيات وحدها عن خمسين مليون جنيه في العام!

الدين هو الطب الوحيد لأدواء المجتمع؛ فإذا غرستموه في قلوب النشء، وقويتموه في نفوس الشباب، جعل من الأمة أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، يعين سعيدها الشقي، ويحمل قادرها العاجز، حتى يقطعوا مراحل الحياة رافهين لا يمسهم نصب، ولا

ص: 1

تجافي بينهم عداوة

مَن غير الله يستطيع أن يرقق هذه الكبد الغليظة في هذا الغني المبطان الذي غلا في الكبر، ولج في الهوى، ودلَّل نفسه على ذل الناس، وأمسك رزق الله في خزائنه فلا يطلقه إلا لشهوة أو نزوة؟

من غير الله يستطيع أن يقلَّب العَبر على عيني هذا المغرور فيريه بالشكل والمرض والهمم أن الراحة في النفس ألذ منها في الجسم، وأن الجمال في الرحمة أسمى منه في الجبروت، وأن السعادة في الإعطاء أعظم منها في الأخذ، وأن خير ما في الدنيا هو ما انتقل معه إلى الآخرة؟

هيهات أن يكون في الأرض إيمان ما دام في الأرض فقر. فإن أسباب الفقر ممدودة من الطمع والشح والأثرة؛ وهذه الخلال السوء لا تطمئن عليها نفسٌ مؤمنة. وإن من ضلال الإفهام أو الأقلام أن نعالج الفقر على أنه ناجم من ندرة العمل في البلد أو قلة الخير في الدنيا، فإن العمل ميسور للقادر، ورزق الله موفور للحي. وإذا شكت الأمم اكتظاظ المعامل ونضوب الموارد وضيق الرقعة، فإن مصر الجديدة البكر بينها وبين هذه الشكوى أن تمصِر المصانع والمعامل والمتاجر والمصارف والشركات، وما بالقليل ذلك

لا تطلبوا من الفقير العمل قبل أن توفروا له القدرة عليه. إنه جاهل فاشرعوا له منهل العلم؛ وإنه عليل فانهجوا له سبيل الصحة؛ وإنه معدم فدبروا له رأس المال. ومن بلادة الحس أن الغني يسمعك وأنت تقرأ هذا الكلام، فلا يظن المخاطَب به أحداً غير الحكومة، فيشارك في النقد، ويسرف في الإنكار، ويلح في الطلب، لأن الحكومة في رأيه يجب أن تلبي كل نداء، وأن تؤدي كل واجب. والحكومة لو درى هذا المتواكل القدم لا تتسع مواردها بكل رغبة؛ فإنها لم تجبُ منه ومن أمثاله إلا حق العمارة والأمن؛ أما حق الله عنده فقد وكلت أداءه إلى ضميره، يعطيه من يشاء متى يشاء وكيف يشاء؛ ولكن الضمائر نامت على هدهدة الشهوات، والعواطف قست على جفاف المادة؛ وبين غفوة الضمير، وقسوة العاطفة، ذهب وازع الدين فلم يبق إلا وازع السلطان

فهل يفكر أولو الأمر أن يعالجوا الفقر بما عالجه الله به فيجبوا الزكاة وينظموا الإحسان؟ إنهم إن يفعلوا ذلك لا يجدوا في البيوت عائلاً، ولا في الطريق سائلاً، ولا في السجون

ص: 2

قاتلاً، ولا في المواخير ساقطة!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌مشابهات

للأستاذ عباس محمود العقاد

في شهر واحد عرضت دور الصور المتحركة بالقاهرة روايتين متشابهتين في كثير من السمات والمعاني، وإن كانت إحداهما في باريس والأخرى في بتروغراد، أو كانت إحداهما في القرن الثامن عشر والأخرى في القرن العشرين، أو كانت إحداهما عن لويس السادس عشر والأخرى عن القيصر نقولا الثاني

كتبنا مقالنا الماضي بالرسالة عن (مارى أنطوانيت) فلم تمض أيام حتى شهدنا رواية (راسبوتين والقيصرة) وشهدنا كيف تتشابه الحوادث والنكبات، وكيف يصدق في بعض الأحايين قول من قال إن التاريخ يعيد نفسه، وإن كانت الإعادة لا تخلو من تبديل وتنقيح: شيمة الراوية الماهر الذي لا يعيد القصة الواحدة مرتين بأسلوب واحد!

في مأساة لويس السادس عشر ومأساة نقولا الثاني مشابه كثيرة يرجع بعضها إلى المصادفات وبعضها إلى تشابه النتائج عند تشابه الأسباب

فكانت لكليهما ملكة أجنبية من أصل ألماني، وكانت لكلتا الملكتين يد في الكارثة التي حاقت بالرجلين، وكان التاريخ في كليهما يجرى على سنة (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون) ولا يعمل بآية العدل في القرآن الكريم:(ولا تزر وازرة وزر أخرى)

فقد كان نقولا الثاني مظلوماً فيما أصابه كما كان لويس السادس عشر

كان كلاهما طيباً رؤوفاً يريد الخير لشعبه؛ وكان نقولا الثاني محباً للسلام ينادي بالتحكيم في الأزمات الدولية؛ وكان يجنح إلى مشاركة الأمة إياه في تبعات الحكم ما استطاع، وكان منقاداً لمن حوله كما كان لويس من قبله، ولم يكن مشاكساً ولا بطاشاً يحب الفتك وسفك الدماء، ولكنه جاء في زمن وبيل فأصابه وبال الزمن وأخذه مع التيار الجارف الذي لا يتأنى ولا يتدبر في حكمه على الجناة والأبرياء

ليست هذه هي المشابهات الهامة في تاريخ الرجلين المظلومين، فربما كانت أو كان معظمها من أثر العوارض والمصادفات، ولكن المشابهة العظمى هي تلك (الحالة العقلية) التي تحيط بالعوالم المنهارة والدول الدائلة والكواكب الآفلة، ونعني بها العهود التي تجمع بين الأدبار والإقبال وبين النظر إلى الغيب والخوف من الحاضر وقلة الاطمئنان إليه

ص: 4

في تلك العهود يحس الناس أنهم ضعاف عاجزون، لأن زمام الحوادث يفلت من أيديهم وتيار الحوادث يجرفهم على غير إرادتهم إلى غير الطريق الذي يختارونه لأنفسهم، فهم من أجل هذا الإحساس بالعجز والضعف ينظرون إلى الغيب ويتطلعون إلى عالم الأسرار ويؤمنون تارة بالقديسين وتارة بالمشعوذين، على قدر نصيبهم من العلم والبصر بحقائق الحياة

وفي تلك العهود يضمحل الأمل ويغلب اليأس ويبطل الإيمان بالمثل العليا والصفات الرفيعة فيقبل الناس على المتعة والسرور، ويأخذون من الحاضر كل ما يعطيهم من اللذة واللهو، لأنهم لا يرجون غداً ولا يركنون إليه

وقد تجمع النفس بين النقيضين: فهي مغراة بالشعوذة والنظر إلى المغيبات المجهولة، وهي مغراة باللذة في حاضرها؛ لأن الحاضر بغير شاغل من الشواغل لا يطاق في أمثاله تلك الأزمان

إنما المراجع في طلب الغيب وطلب اللذة معاً إلى سبب واحد، وهو أن الحاضر مشؤوم والمستقبل غير مضمون، والإنسان بينهما عاجز عن التصرف بمشيئته فيما يزاول من كبار الأمور وصغارها على السواء

من أجل هذا ظهر (كاليسترو) الدجال الأعظم في عهد لويس السادس عشر

ومن أجل هذا ظهر (راسبوتين) الدجال الأعظم في عهد نقولا الثاني

وكلاهما دليل على تشابه الحوادث والدوافع النفسية بين بني الإنسان وكلاهما دليل على أن التشابه في بني الإنسان لن يمحو الفوارق بين الشعوب، ولن يزيل الخصائص القومية التي اشتهر بها كل شعب من تلك الشعوب

فراسبوتين لم يكن يصلح في مكان كاليسترو. . . وكاليسترو لم يكن يصلح في مكان راسبوتين

راسبوتين ظهر بين الروس وهم أمة لا شرقية ولا غربية، لا مؤمنة كل الإيمان بالدين، ولا مؤمنة كل الإيمان بالوثنية، لا متحضرة بحضارة العلم الحديث، ولا مستغرقة في البداوة أو جهالة القرون الوسطى

فظهر لما ظهر بين هؤلاء القوم برسالة من الدين ومن الوثنية في وقت واحد، أو برسالة

ص: 5

من الشعوذة ومن اللذة في عقيدة واحدة، أو برسالة يمت بعضها إلى زهادة المسيح ومت بعضها إلى المزدكية القديمة، وإلى عبادة (عشتروت) التي هي أقدم منها، وإلى ما قبل ذلك من المذاهب الخفية التي لم تنقطع بقاياها قط في الرقعة الغربية الجنوبية من القارة الأسيوية؛ أي في ذلك المكان المعزول الذي تصل إليه آثار الحضارات جميعاً في آسيا وأوربا وأفريقيا، ثم يحفظها جميعاً في عزلته المطوية بعد أن يصبغها بماله من صبغة قلما تمسحها الأجيال

في تلك الرقعة بقيت عبادة الشيطان، وبقيت الشواذ من فرق الباطنية، وبقيت تلك النحلة التي تبيح في تكاياها وصوامعها باسم الدروشة الإسلامية ما ليس يرضاه دين من الأديان الكتابية، وبقيت نحلة (الخليستي) التي انتمي إليها آخر الأمر (راسبوتين) وكانت أصلح ما ينتمي إليه رجل يدل نعته القديم على طبعه القديم. فإن (راسبوتين) كلمة روسية معناها الفاجر أو الداعر. . . وهو لقب اشتهر به الرجل في شبابه من جراء عبثه وعيثه واستهتاره بالشراب والفسوق

ما هي هذه (الخليستية) وما عباداتها وشعائرها المفروضة على أتباعها؟

هي نحلة مدارها على أن الخطيئة مطلوبة لأن الغفران صفة إلهية فينبغي أن تتحقق لله هذه الصفة التي هي أخص صفات الخالق جل وعلا. وإلا فكيف يكون الله غفوراً بغير الخلائق الخاطئين؟ ومدارها من جهة أخرى على أن الإنسان يعيش بالروح مع الله ويعيش بالجسد مع الناس، وأن لله قديسين هم الذين يقودون عباده في طريق المعيشة الجسدية وفي طريق الغفران. فليس يحق للعبد أن يخطئ وحده بغير قيادة من قديسه المختار

وعلم راسبوتين (سلطانه المغناطيسي) العظيم على نفوس أتباعه فزعم أنه قديس الزمان المرسل من قبل الله لالتماس الغفران، فبغيره لن يهتدي أحد في (الطريق) إلى حظيرة الرحمن!

أما هذا (السلطان المغناطيسي) فقد كان في راسبوتين كأقوى ما عرف في إنسان من الناس، حتى بلغ من سطوته أنه سلطه على رجل يمقته وينصب حوله الفخاخ لقتله بالسم أو الخنجر فأنامه وشل حركاته. ولا ريب أن هذا السلطان المغناطيسي مستمد فيه من تلك القوة الحيوانية الهائلة التي أنقذته من السم ومن الخنجر مرتين، وكادت تنقذه المرة الثالثة

ص: 6

لولا إطباق المتآمرين عليه بالعصي والسيوف بعد إطلاق الرصاص عليه وتسميمه بما يكفي لقتل بضعة رجال، ولا ريب كذلك أن هذا السلطان المغناطيسي هو الذي أعانه على شفاء ولي العهد بالسيطرة على أعصابه وسريرته بعد ما يئس منه الأطباء وأنذروا بموته من أثر سقامه الموروث

بهذه العدة كان الدجال الروسي يستعد لإنجاز (مهمته التاريخية) في ذلك العالم المنهار من الدولة الروسية

فبماذا استعد زميله (كاليسترو) من قبله حين تصدى (لمهمته التاريخية) بين الفرنسيين في عصر الفلاسفة المشككين والدعاة الملحدين الثائرين؟

لابد له من عنصر الغيب والخفاء، ولا سبيل إلى هذا العنصر من طريق النحل الدينية في تلك الآونة الملحدة المستريبة، فلينقل أتباعه إذن إلى صوامع الماسون وهياكل الجماعات السرية ومكامن الدسائس والمؤامرات ولابد له من عنصر الغواية والمتعة، ولا سبيل إليهما من نحلة الدروشة والعبادة، فليسحر أتباعه إذن باسم عقاقير الشرق التي تجدد الشباب وتطيل العمر وتكسو غضون العجائز مسحة الصبا ورونق الصباحة

وهكذا كان لكل (عالم منهار) دجاله الأعظم، ومن ثم موضع التشابه بين العوالم المنهارة

وهكذا كان دجال كل أمة على غرارها أو على نموذج أخلاقها وأطوارها، ومن ثم موضع الخلاف بين تلك الأشباه

وإنما عبرة التاريخ أن نخلص إلى هذه المواضع المتشابهات، وهذه المواضع المختلفات من حوادث الشعوب في قبضة القانون الخالد المستعاد.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌ابن الرومي

الشاعر المصور

للأستاذ عبد الرحمن شكري

يولع الناس في الحياة عادة، لتسهيل فهم الأنفس والأمور وتبسيطه، بأن يجعلوا لكل نفس أو أمر صفة يرمزون بها أو معادلة أو قاعدة، وفي ذلك أضرار، منها أن العجلة قد ترمز للأمر أو النفس بصفة لا تتفق وأكثر الخصائص المراد تلخيصها بالرمز أو تختلف عنها كل الاختلاف، وإذا تعلق الناس بالرمز صعب إصلاح خطئهم وصعب حملهم على تغيير زيهم وصعب عليهم فعل الأمر الذي يعالجونه أو النفس التي يتفهمونها، أو قد يكون الرمز منطبقاً على جانب صغير منها فيغفل الناس عن الجانب الأكبر. على أن الرمز إذا وافق الجانب الأكبر فهو قد يغري أيضاً بالغفلة عن الجانب الآخر الذي لا ينطبق عليه الرمز فيتسرب الخطأ في هذه الحالة أيضاً، ولكن إذا تأنى المفكر في وضع الرمز واختياره وقدّر أن يكون مخطئاً في بعضه أو كله وحسب حساب مالا ينطبق عليه الرمز حتى في حالة الإصابة كان فعله مسهلاً للتفكير والفهم وتذوق الأمور. وعلى هذا الشريط نبيح لأنفسنا أن ننظر إلى كبار الشعراء على ضوء رمز نرمز به إلى كل منهم وصفة نصفه بها، فنقول إننا نتذوق أبا تمام كأنه خطيب عبقري بصير بأساليب البيان وأثرها في النفس، جرئ في ابتداع الأقوال، بصير بما يعالج من أمور البيان بالرغم من جرأته؛ وسواء أكانت أقواله في أمور حسية أو نفسية فإن كلماته تبلغ صميم القلب بما فيها من الخيال المشبوب وقوة الإيجاز مع الدلالة التامة والإلمام بالمعنى المراد ومع تجنب الإطالة الفاترة. وفنه من هذه الناحية يشبه أيضاً فن صانع القصص التمثيلية في الاعتماد على قوة الأداء مع صدقه الفني وإيجازه مع استيفائه المعنى. وندرك على هذا الوصف أن لأبى تمام ولمن نشبهه به جوانب لا يتفقان فيها ولا يلتقيان عليها، لأن النفس الإنسانية تشبه البِلَّوْر ذا الأضلاع والجوانب العديدة التي تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال وجهات مختلفة متعددة. ونتذوق البحتري كأنه ممثل قدير يلوك حلو الكلام ويتأثر به وينتشي بحلاوة الصنعة حتى تخلق له الصنعة عواطف فنية كما في حياة بعض كبار الممثلين؛ ونقدر مع ذلك أن لنفسه جوانب أخرى تنعكس عليها أشعة الفنون. ونتذوق الشريف الرضي كأنه موسيقى يحكم

ص: 8

الوجدان ويؤثر في النفس بأنغامه؛ ونقدر أيضاً ما للنفس البشرية من مرام مختلفة. ونتذوق المتنبي على أنه محارب مغامر مدجج بسلاح الحنكة والخبرة والاعتداد بالنفس ونعرف له جوانب أخرى. أما ابن الرومي فإننا قد أدركتنا في أول الأمر حيرة في اختيار صفة واحدة له، إذا أنه قد يقف موقف الخطيب المؤثر كما في قصيدته في التحريض على قتال العلوي صاحب الزنج بعد أن خرَّب البصرة وهي التي يقول في مطلعها:

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام

شغلها عنه بالدموع السجام

وابن الرومي مثل أبي تمام مُغْرَى بابتداع التشبيهات والأخيلة والمعاني، ولكنها لم نشأ أن نختار له الرمز الذي اخترناه لأبي تمام لأنه قد يدركه الفتور، وأبو تمام لا يدركه الفتور؛ وقد يطيل حتى يمل سامعه خصوصاً في المدح، وأبو تمام لا يطيل مثله. وقد تدركه اللجاجة الفكرية في إيراد الحجة ودفع الحجة بالحجة على طريقة المجادل المناقش المناظر لا على طريقة الخطيب الذي يؤثر بالعبارات والأخيلة المشبوبة النارية المستقلة في معناها بعضها عن بعض في إيجازها وتركزها تركز الأحماض أو الروائح العطرية المنعشة أو المخدرة أو المميتة، وابن الرومي يبسط معناه بسطاً كما تتسع دائرة موقع الحجر في الماء أو كما يبسط الخباز الرقاقة في قول ابن الرومي نفسه:

ما بين رؤيتها في كفه كرة

وبين رؤيتها قوراء كالقمر

إلا بمقدار ما تنداح دائرة

في لجة الماء يُرمْى فيه بالحجر

وهذا هو الوصف الذي ينطبق على ابن الرومي نفسه في صناعة المعاني فكأنه خباز المعاني. ولابن الرومي في الأهاجي ما هو أشد من الأحماض فتكاً، ولاكن أثرها ناشئ أيضاً من تَقَصِّيهِ أجزاء المعنى وصوره المختلفة وتوليد المعنى من المعنى. ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به البحتري الذي ينتشي بما يصوغ من حلوى الصناعة وما يلوكه منها كما ينتشي الممثل بما يمثل من الأحاسيس. لم نشأ أن نصفه بهذا الوصف لو أنه وصف ينطبق على كل ذي فن إلى حد ما فهو ينطبق على الشعراء جميعاً ولكن ليس كانطباقه على البحتري.

وابن الرومي لا يبلغ به التفاني في فن الألفاظ وصناعتها والانتشاء بها ما يبلغه البحتري بل يستخدم ابن الرومي الألفاظ استخدام السيد الآمر لعبده محبوباً كان العبد أو غير

ص: 9

محبوب؛ أما البحتري فكان لا يقرب الألفاظ إلا كما يقرب المحب حبيبته ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به الشريف الرضي الذي نتذوقه كموسيقي يحكم الوجدان والفطرة السليمة؛ لم نشأ أن نصف أبن الرومي بهذا الوصف لو أن له من الغزل والعتاب والشكوى أشياء عميقة الأثر في النفس كقوله في الغزل:

أعانقها والنفس بعدُ مشوقة

إليها وهل بعد العناق تدانى

كأن فؤادي ليس يشفى غليله

سوى أن يرى الروحين يمتزجان

وقوله في العتاب:

تخذتكم ترسا ودرعا لتدفعوا

نُبال العِدَى عني فكنتمْ نصالها

وقد كنتُ أرجو منكم خير ناصر

على حين خذلان اليمين شمالها

فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي

ذِماما فكونوا لا عليها ولا لها

قفوا موقف المعذور عني بمعزل

وخلوا نبالي والعِدَى ونبالها

ولكنه بسبب لحاجته الفكرية أحيانا وتَتَبُّعِهِ أو موازنته بين أجزاء المعنى وتلمسه دقائق الصور قد تضيع منه النغمة الشعرية وإن كان شعره يكتسب ميزة أخرى. وقد أحس ابن الرومي مع ذلك في نفسه بذلك الجانب منه الذي يشبه به الموسيقىّ أو الطائر الصادح فقال زاعما أنه لا يمدح ممدوحه:

إلا كما راقت القمريَّ جنَّتُهُ فظل يُتبعُ تغريدا بتغريد ولم نشأ أن نصفه بما وصفنا به المتنبي من أنه محارب مغامر يغالي في الاعتداد بالنفس لأن ابن الرومي لم يطلب مُلْكاً ولا حُكماً ولا رياسة وإنما طلب السلامة من الناس وإنصاف أدبه وفضله وفنه وإعطاءه حق ذلك الأدب والفضل مما في أيدي الوجهاء والرؤساء والأمراء من أموال الله والناس التي كانت كثيراً ما تنهب نهبا. وكان ابن الرومي مرهف الحواس منهوما بالجمال في كل مظاهره ومطالبه، وهذا يكفي أن يكون شغله الشاغل في الدنيا بعكس المتنبي. وكان ابن الرومي يخشى الأسفار في طلب الرزق وله في وصف خشيته منها أشعار، ويخشى ركوب البحر ويخشى لقاء الناس ويتشاءم بهم، فكانت صفاته النفسية تختلف اختلافا كبيراً عن نفس المتنبي، ولا نحسب أن المتنبي كان يذرع في مخاطبة ممدوح كما فعل ابن الرومي في قوله:

ص: 10

أصبحتُ بين خصاصة وتجمُّل

والمرء بينما يموت هزيلا

فامدُدْ إليَّ يدا تَعَوَّد بطنها

بذلَ النوالِ وظهرُها التقبيلا

وفي قوله:

تعرفتُ في صحبي وأهلي وخادمي

هواني عليهم مذ جفاني قاسمُ

وبعد ذلك بأبيات الرئيس المعاتَبَ ألا ينسى أنه خادم. أما شدته في هجائه فشدة الرجل المرهف الحس إذا جُوِفَي أو غُبنَ أو أُسيءَ إليه أو اضطهد. ونكرر أن النفس كالبلور ذي الأضلاع والأشعة المنعكسةُ عليه مختلفة النواحي. ولكن لعل أصدقُ وصف يوصف به ابن الرومي هو أن يوصف بالمصوِّر أو الرسام أو النقاش. ويخيل إلينا أنه لو كان عائشا في إيطاليا في عهد نهضة الإحياء واشتغل بالنقش والرسم ما كانت قدرته تقل عن قدرة مصور مثل تشيانو (تيتيان) في ولوعه بألوان الجمال. وجمال الألوان. ولا نعني أنه كان مصورا في وصف مناظر الطبيعة والنبات فحسب، وإنما كان مصورا في كل أبواب شعره من مدح أو ذم أو غزل أو وصف للغناء أو المآكل أو الأشربات. وقد ذكرنا قدرته الخطابية في قصيدة التحريض على قتال صاحب الزنج ولكن أعمق أجزاء القصيدة أثرا هو وصفه دخول الزنج، المدينة ووصفه ما فعلوا بها وبأهلها. فولوع ابن الرومي بالألوان لم يكن مقصورا على ألوان المرئيات بل تعداها إلى ألوان الآراء، فتراه يُغري بوصف لون من الرأي ثم بوصف اللون الذي هو نقيضه. والولوع بالألوان وشدة الإحساس بمعانيها وجمالها وأثرها من صفات المصور، وكذلك تَقَصِّي الأجزاء وربط أجزاء الصورة في القصيدة. ومن مظاهر ولوعه بوصف ألوان الرأي قصائده في مدحه الحقد وذمه؛ وليس من المرفوض أن نقول إن مدحه الحقد كان بسبب إحساسه المرهف وحقده على الذين آلموا هذا الإحساس المرهف من مناوئيه. فمن مدحه الحقد قوله:

أديمي من أديم الأرض فاعلم

أُسئُ الريع حين يسئ بذرا

يُسمى الحقد عيبا وهو مدح

كما يَدْعُونَ حُلْوَ الحق مُرَّا

وقوله:

وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى

وبعض السجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعض

وإني أشك في أن الحقد توأم الشكر دائماً فإنه إذا قُرِنَ بالحسد، ولكل نفس نصيب منه قل

ص: 11

أو كثر، منع من الشكر. وقد راجع ابن الرومي نفسه ولامها على مدح الحقد في قصائد منها قصيدته التي يقول فيها:

يا مادح الحقد محتالا له شبها

لقد سلكتَ إليه مسلكاً وعثا

وأبدع منها وأعظم قصيدته التي مطلعها:

يا ضارب المثل المزخرف مُطْرياً

للحقد لم تقدح بزند وارى

وعندي أن هذه القصيدة من أعظم وأجل قصائده، وكل منتخبات من شعره لا تشملها تعد ناقصة، وفيها يحث على مغالبة النفس لطابع الشر وعلى تنمية طباع الخير. وقد بلغت قوة التصوير عند ابن الرومي مبلغاً جعله يُصوِّر الطبيعة وكأنها من الأحياء. وربما كان ولوعه بذلك أكثر من ولوع شعراء العربية الذين كانوا يجردون من الجماد أشخاصاً فيخاطبون الليل أو السري أو الرياح أو النجوم أو الربوع والأطلال أو الفراق، فيحدثونها وتحدثهم، وهذه الصفة من قبيل تلك الصفة في ابن الرومي وإن كان إحساسه بحياة الطبيعة أعم وأشبه بطريقة الشعراء الآريين. وليس شبه ابن الرومي بالشعراء الآريين مقصوراً على إحساسه بحياة الطبيعة وإشاعة المعنى في أكثر من بيت وتقصي أجزاء المعنى، بل هو يشمل أيضاً تفضيله فكاهة الصور الخيالية ومعانيها على الفكاهة اللفظية الشكلية، وكانت فكاهة الصور الخيالية ومعانيها على الفكاهة اللفظية الشكلية، وكانت فكاهة الصور الخيالية مفضلة في العصور المتقدمة في الآداب العربية فلم يبتدعها ابن الرومي وهي ليست ملكاً له ولا ابتكاراً ولكنه زاد فيها زيادة كبيرة، ثم إن المتأخرين من الشعراء صاروا يفضلون فكاهة المغالطات اللفظية، وهذا النوع كان معروفاً شائعاً في الأدب الأوربي وإن كانت الصور الخيالية أفضل وأعلى مرتبة.

ولعل عظم نصيب ابن الرومي من فكاهة الصور الخيالية كانت من أسباب تبريزه في الهجاء تبريزاً لا يضارعه فيه شاعر آخر. ولو حذفنا هجاءه الذي أفحش فيه مثل هجاء ابن الخبازة المعروف بهجاء بوران وغيره من الفحش القاذع الذي لا يصح نشره في هذا العصر بقيت لنا في هجائه صور فكاهية خيالية لا يستطاع تجنب اختيارها إذا أحصيت خلاصة من شعره، لأنها أعلى مرتبة من مدحه بالرغم من إجادته فيه. وقد كان الهجاء سبب موته مسموماً. والظاهر أن الأمراء والوجهاء كانوا يسيئون الظن ببعض مدحه غلاوة

ص: 12

على خشية الذم، وهذا أمر يشاهد كثيراً في الحياة؛ فإذا اشتهر رجل بالسخر ظن الناس كل ما يقول من قبيل السخر أو الذم حتى ولو لم يقصد إلا المدح والتودد والصفاء. ومن شواهد سوء الظن هذا ما حدث عند ما مدح ابن الرومي أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني بقصيدته الرائعة التي مطلعها (أجنت لك الوردَ أغصانٌ وكثبان) فأساء الممدوح الظن بقول الشاعر:

قالوا أبو الصقر من شيبان قلتُ لهم

كلا ولكن لعمري منه شيبان

وكم أبٍ قد علا بابن ذر اشرف

كما علا برسول الله عدنان

ولم أُقصرْ بشيبان التي بلغتْ

بها المبالغ أعرقٌ وأغصان

وظن أنه يهجوه بضعة الأصل مع أن المدح ظاهر للأصل والفرع. ولا نظن أن الغباء هو الذي سما بالممدوح إلى مرتبة الوزارة، وقد كان وزيراً فلم يبق إلا التعليل الذي ذكرناه، وهو أن الرجل إذا اشتهر بالسخر والذم حُملُ مدحه على محمل الذم والسخر، والشك في نية القائل يُغطي على فهم السامع، وكثيراً ما تراه في الحياة يُغطي على فهم ذوي الفهم حتى تراهم كالأغبياء. والظاهر أن حادث أبي الصقر لم يكن الحادث الوحيد من نوعه وإن كان أظهر حادث. فإن لابن الرومي أشعاراً كثيرة يشكو فيها من خذلان الممدوحين مثل قوله:(مالي لديك كأني قد زرعتُ حصى). وقوله: (فلا تعتصر ماء الصنيعة بالمطل). وقوله: (طال المطال ولا خلود فحاجة). وقوله: (أبا حسن طال المطال ولم يكن). ومثل هذا كثير في شعره. وكان يغبط البحتري لإقبال الممدوحين على شعره، ومن أجل ذلك كان يتعرض ابن الرومي للبحتري، وله أهاجٍ منها قوله:

الحظ أعمى ولولا ذاك لم نره

للبحتري بلا عقل ولا حسب

(البقية في العدد القادم)

عبد الرحمن شكري

ص: 13

‌من برجنا العاجي

كل شيء أمامي في الريف يرتل نشيد السلام. فشجيرات الفول الخضراء ترقص مع النسيم، وترسل في الفضاء من حولي أريج زهرها الأبيض كما ترسل القبلات المعطرة. والبقرة ذات الأهداب الشقراء تتمطى في أشعة الشمس كأنها حسناء تستيقظ في فراش دافئ. والكلب رابض أغمض عيناً وفتح أخرى تلقي على الكائنات نظرات الرضا والصفاء. والدواجن والهوام والأرض السمراء وجداول الماء، كلها بأصواتها الصغيرة وأزيزها اللطيف وصمتها الدائم وخريرها الهامس تتراءى للمتأمل كأنها تتبادل حواراً خفياً مفعماً بكلمات الود والحب والأخاء الأبدي، وكأنها جميعاً في حركتها وسكونها جوقة موسيقية تخضع إلى يد غير منظورة كي توقع لحناً متناسقاً أزلياً لا يسمعه غير الأنبياء والشعراء.

صوت واحد نشز في أذني عن هذه المجموعة: هو صوت الإنسان. متى ظهر ظهرت معه الفوضى، ونشأ الخلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف. تلك طبيعته. وقد تكون تلك أيضاً عبقريته.

جلس إليّ رجلان لا يختلفان في الزي ولا في اللغة ولا في اللهجة. لكن سرعان ما سمعت أحدهما يقول لصاحبه:

- أنت فلاح. أما أنا فعربي.

فعنيت بالأمر، وبادرت أسأل الرجل السؤال الذي طال ما ألقيه في مثل هذا الظرف:

- وما الفرق بين الفلاح والعربي؟

فأجاب الرجل بذلك الجواب الذي سمعته كثيراً في مثل هذا الموضع: مروءة العربي وشجاعته وشهامته وإكرامه الضيف وحمايته الجار. ثم. . . ثم شرف النسب. لم يدهشني ذلك ولكن الذي أدهشني حقيقة، وقد لا يصدقني البعض إذا ذكرته هو أن هذا الرجل غير المتعلم قد أشار إلى صاحبه وقال:

- أما جماعة الفلاحين فما هم إلا أولا توت عنخ آمون!

عجباً! إذن منشأ الخلاف بين العروبة والفرعونية ليس أدمغة المفكرين والمثقفين، إنما هو في الريف وفي قلوب ساكنيه!

توفيق الحكيم

ص: 14

‌من الشعر المنسي لحافظ!

(لحافظ إبراهيم كثير من القصائد والمقطوعات قد أهملها الناشرون، فلم يحفظها ديوانه في طبعته الأهليه، ولا في طبعته الحكومية، على إنها من الشعر الرائع الذي تشرق فيه روح حافظ وتتمثل فيه شخصيته؛ ولذلك رأينا من الوفاء لشاعر النيل، ومن الرعاية للأدب، ومن الإنصاف للتاريخ أن نذيع ما لدينا من ذلك - وهو قدر لا بأس به - بين قراء الرسالة، وربما لو اجتمع لنا مقدار كبير جعلناه تذييلاً لديوانه، ونرجو ممن عنده العلم بشيء من ذلك أن يدلنا عليه وله الشكر منا ومن أبناء الضاد في سائر الأقطار ومن قراء الرسالة)

فؤادي. . .!

يا خافقاً قل لي متى تسكنُ

لله ما تخفى وما تعِلنُ

يا ليت شعري عنك في أضلعي

ماذا تقاسي أيها المثخَنُ

وما الذي أبقاه من مهجتي

ومن حياتي داؤك المزمِنُ

يا ثغره، من ذا الذي يحتسي

برد ثناياك ولا يؤمنُ

يا قده، هذي قلوب الورى

معروضة طوبى، لمن تطعنُ

يا لحظه، مُرْنا بما تشتهي

كل محال في الهوى ممكنُ

ص: 16

‌خيبة أمل.

. .!

وخيّب آمالي وقوفُك دونَها

وأنك عند الظّالمين مَكين

يَسرُّك أني نائم اَلجد عاثر

وُيرضيك أني للخطوب أَلين

// ليهنك ما بي من أسىً وخصاصةٍ

وتقليبيَ الكفين حيث أكون

م. ف. ع

ص: 17

‌صحائف من تاريخنا القومي

قاسم أمين - الرجل

للأستاذ أحمد خاكي

اشتهر قاسم أمين بدفاعه عن المرأة لأن ذلك كان أوضح ما كتب عنه، لكنه عندنا من أكبر المصلحين المصريين الذين ظهروا في أوائل هذا القرن. وليس دفاعه عن المرأة إلا شعبة من آرائه في الحرية والتربية واللغة وسائر وجهات الإصلاح.

ولو أنك تصفحت كلماته قبل أن تقرأ كتابيه في (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) للمحت عقلية جديدة نفذت وراء الحجب التي تكاتفت على عقول المصريين خلال قرون طويلة، ورأيت كيف تستطيع النفس الحساسة أن تندسّ إلى ما وراء الحجب فتلقي الحقيقة سافرة غير مقنعة، ثم لشاقك من حياة هذا الرجل أنه كان شجاعاً، ولاتخذت من حياته مثلاً أعلى للتفاني دفاعاً عن الفكرة

ظهر في أعقاب القرن الماضي قليل من أمثال قاسم أمين، لكنهم لم يلقوا ما لقي هو من العنت والسخرية والاستهزاء. كان يعيش أكثر إضرابه في أجوائهم، لكن قاسماً كان يعيش في جو خاص به هو ونفسه. وذلك ما استعدى عليه المتعصبين من أصحاب الدين وأنصاف المتعلمين من أصحاب العلم؛ وقليل أولئك الذين قدروا تلك النفس الحساسة التي تؤمن بالحرية إيمانهم بنعيم الحياة. وكثير أحسوا بما كانت ترسف فيه المرأة المصرية من أغلال، لكن أحداً من هؤلاء لم يؤتَ من شجاعة النفس ما استطاع أن يصمد به للمهاترين والمغالين ممن أعمتهم التقاليد على أنه ليس يعنينا اليوم في حديثنا عنه وجوه الإصلاح التي فيه إليها وتحدث فيها وإنما يعنينا أن نرى قاسم أمين الرجل وأن نتعمق في درس تلك النفس الزكية التي أوتيت كثيراً أمن الغضب الكريم. وأشهد لقد هممت بالكتابة عن النقاش الذي دار بينه وبين الدوق داركور، لكنما رأيت أن الكلام في ذلك سوف يصبح ناقصاً لا غناء فيه ما لم أتحدث عن قاسم أمين (الرجل) لأن قاسم أمين (الرجل) هو الذي غضب للقومية المصرية، وهو الذي غضب. للإسلام والمسلمين؛ وهو بعد ذلك الذي دافع عن مصر والإسلام بحرارة المجاهد الرشيد

وأول ما يمتاز به قاسم أمين (الرجل) نفس محسّة تجيش بمختلف العواطف، فهو قد أوتي

ص: 18

الكمال من الحس الدقيق والشعور المرهف، وهو من أول المصريين الذين اعترفوا بأن النفس جماع لمختلف العواطف والمشاعر والوجدانات إلى غير ذلك مما يتصل بالدراسات النفسية الحديثة. ولعله أحد المصلحين القلائل الذين اهتدوا إلى تلك النتائج قبل أن يتعمق الناس في دراسة علم النفس. فهو يعترف بأن الإنسان مجموعة من الأعصاب تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وأن القلب الذي يكنّ البغض هو نفسه الذي يكنّ الحب، وأن النفس الشريرة تنمو - إذا نمت - لأنها تصادف جواً صالحاً يؤثر فيها

وقد كان شديداً على البيئة التي نشأ فيها قاسم أمين تؤمن بما جاء به، كان شديداً عليها أن تعنو للنتائج القيمة التي وصل إليها لأنها كانت بيئة نصف متعلمة ونصف متدينة في وقت معاً، أما العلم الذي تشبثت به فقد كان خليطاً من القشور والخطل، وأما وجهتها الدينية فقد كانت ملتوية تمتاز بالنفاق والجدل. لذلك لم يعترف أنصاف المتعلمين بالغرائز التي تندفع في نفس الإنسان، ولم يحاول أنصاف المتعلمين أن يتبصروا فيما انحدر إليهم من أصول القرآن والسنة. ولو أن أولئك وهؤلاء قد اجتمعوا على أن يذوقوا ما ذهبت إليه تلك النفس الحاسة لرأوا رأياً آخر غير الذي بسطوا فيه أقلامهم وألسنتهم عن جهالة

على أن تلك النفس الحساسة التي اعترفت بالخير والشر جميعاً هي النفس التي أعانت صاحبها على أن يستوعب الآثار الدقيقة التي مارسها في حياته. هو قد اعترفت بالغرائز الدنيا وقد اعترفت بالعواطف العليا، وهو قد رأى الشر إلى جانب الخير، فكان في كل ذلك يمثل المعلم المتبصر الرشيد، ولن يكون الزعيم ولا المعلم حتى ولا القاضي أهلاً لما يرجى منه حتى يرى النفس الإنسانية من ناحيتها وحتى يقدر الشر والخير والرذيلة والفضيلة، وحتى يعترف بالشر والرذيلة ويتفحص هذه وذلك ليترسم السبيل السوية نحو الخير والفضيلة وكل ما ينطويان عليه من معان

تلك النظرة الدراسة هي التي أقامت عند قاسم أمين كل المعايير التي حاول أن يطبقها على المجتمع المصري، ولأنه كان يؤمن بأن النفس جماع العواطف والوجدانات فقد قال: (إن الفضيلة والرذيلة يتنازعان السلطة على نفس الإنسان في جميع أدوار حياته. فتارة يخضع للأولى وتارة تتغلب عليه الثانية، ولا يوجد رجل مهما بلغ في التربية والعلم يكون آمناً من السقوط يوماً في الرذيلة، كما لا يوجد رجل مهما أحاطت به الرذيلة إلا وفيه استعداد لأن

ص: 19

يأتي يوماً بأفضل الأعمال

(وحقيقة الأمر أن أخلاق الإنسان ليست شيئاً يتم دفعة واحدة، وليس لها حد تقف عنده، إنما هي في تحليل وتركيب، في تكوين مستمر يعتريها الانحلال زمناً وتعود بعده إلى التماسك) بل هو قد استطاع أن يقيم معياراً صحيحاً يقيس به رغبات الرجال ونزعاتهم. ولسنا ندرى هل كان يتنبأ بكشوف علم النفس الحديث حين قال: (إن الإنسان أسير الشهوات ما دام حياً. وإنما تختلف شهواته باختلاف سنة: فشهوة اللعب عند الطفل، وشهوة الحب عند الشاب، وشهوة الطمع عند رجل الأربعين. وشهوة السلطة عند شيخ الستين، جميعها شهوات تعرض صاحبها للهفوات واقتراف الخطايا)

وقد كان قاضياً، على أنه كان ينظر إلى نفس المجرم نظرة دارسة أخرى. كان يرى أن المجرم مسير أكثر مما يكون مخيراً، وأنه (لابد أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة - العفو عن أكبر خطيئة، العفو عن كل خطيئة)

(هل المخطئ مسئول أو غير مسئول؟ وما هي درجة مسئوليته؟ مسألة عظيمة يجب على من يريد الحكم على غيره أن يحلها. لكن حلها يكاد يكون محالاً، إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تتركب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي، والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا. وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه لم يكن متولداً عن الحيوان المفترس مباشرة، فهو مشابه له في شره وأطماعه وشهواته. خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم. خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية صدفة سعيدة وعارضاً مؤقتاً)

(فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه. تركه آدم وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن اقتربا من الشجرة المحرومة. . . من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتهما، وانتقلت منهما إلى ذريتها جيلاً بعد جيل. وذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقاً إلى الفضيلة. . .)

(وأخيراً، فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب، فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا هي عولجت)

ص: 20

وإذا أنت نثرت بين يديك كل ما قيل عن تنازع الغرائز، وإذا أنت نشدت فكرة تأخذ بجماع الغرض الأسمى للتربية، لم تجد تصويراً أدق مما ترسّمه قاسم أمين في تلك الكلمات. كل كلمة تنضح من ينبوع من الحكمة والحق والحب، وكل فقرة تجبهك بحقيقة من الحقائق التي يعيها رجال التربية ويعلمون مداها في تربية العقل والوجدان في العصر الحاضر. وإنما النفس الحساسة التي تفيض رحمة وحناناً هي التي شعرت بكل ذلك. وقاسم أمين القاضي هو الذي آمن ذلك الأيمان. أليس القاضي هو الذي يستطيع أن يبلغ بإحساسه إلى مستسرّ النفس ويتعمق بشعوره إلى أطوائها؟ إلا أنه كان قاضياً فذاً ذلك الذي استطاع أن يوفق بين العدل وبين العفو. فهو يشعر بنواحي الضعف البشري كما يشعر بها شاعر مثل شكسبير ثم لا يمنعه ذلك من أن تجري أحكامه بقسطاس مستقيم

قاسم أمين المربي وقاسم أمين القاضي هو الذي شعر بكل ذلك؛ لكن قاسم أمين المتفنن الأديب هو الذي استطاع أن يؤلف بين العفو وبين العدل وأن يداول بين المثل الأعلى وبين الفطرة الدنيا. والمتفنون في العالم هم أولئك الذين ألفوا بين المتناقضات وجمعوا الأبيض والأسود في صعيد واحد يفرقون بين هذا وذاك بما يوحي إليهم من الحكمة وبما يُلهمون من شعر أو حديث أو تصوير. ولولا أن المتفننين القدامى والمحدثين قد اعترفوا بالرذيلة والخطيئة والشر لما ورث العالم ذلك الفن الذي رفّه على الإنسان حياته. وقد أوتي قاسم أمين نفس المتفنن الأديب وهي التي ألهمته أن يرد حياة المجتمع في عصره إلى عناصرها الأولى فاستطاع أن يفرق بين الحق والباطل واستطاع أن يدافع عن الأصول التي اهتدى إليها حرارة الأدباء والمتفننين

ولسنا ندري: أإذا أتيح لقاسم أمين أن يكتب في الأدب التمثيلي أكان يكتب من المسرحيات ما يشاكل تلك النفس الفنانة التي ترددت بين جنبيه؟ لكن قاسماً كان فيما يكتب يستروح نفحة نقية من الأدب، ويتهدّي بشعور عميق من الفن. إلا أنه لأمر ما لم يتجه إلى الأدب المسرحي، أو أقل إنه أوتي الكثير من عدة. الفن لكنه لم يتهيأ لإنتاج الفن نفسه. وإنما قوام الفن تلك الحساسية البريئة التي تستطيع أن تشفق على المجرم وأن ترى الغرائز الدنيا مصطخبة مع الأفكار العليا. أنها نفس حساسة تلك التي تستجيب لكل الآثار التي تلقاها، وهي هي نفس المتفنن الأديب. وأي الرجال كان شكسبير، وأي الرجال أبسن أو برناردشو

ص: 21

إذا هم لم يمتازوا بتلك النفس الحساسة التي تستجيب لكل الدواعي؟ وعندنا أن قاسم أمين كان أحد الذين انفعلوا لأثار البيئة التي عاشوا فيها، ثم أعطوا بعد ذلك أضعاف ما أخذوا. وهو يشبه في ذلك جمهرة الروائيين الذين صوروا الحياة كما كانت وكما ينبغي أن تكون. ولو أنه أوتي حظا من التأليف الروائي لخرجت من بين يديه مسرحيات تطاول ما ألفه الآخرون. وحسبه أن كلماته التي لم تبلغ الستين صفحة لم تزل معرضاً لنواح كثيرة من حياة الجيل السالف: معرضاً احسن تصويره أي إحسان. ولعلنا نطيل كثيراً إذا حاولنا أن نتأثر ما صوره قاسم أمين من حياتنا المصرية، فهو في مرة يصف حياة خمس من الشيوخ أحيل إلى المعاش وقضوا أوقات فراغهم في لعبة الطاولة وفي مناقشات بريئة صاخبة عن السن. قضي الموت على أربعة منهم (وبقي خامسهم منفردا كئيبا لا يتكلم ولا يخرج من بيته لا يدري ماذا يصنع بحياته ويراقب الموت الذي يخلصه منها.) وهو يكتب في مرة عن متطفل اقتحم بيت أحد أصدقائه وفيه قوما يسمرون فأفسد سمرهم. وهو في كل ما يصف شاعر بالجدل الذي يملك نفس الروائي، وهو يقول في ذلك:(يقصد الناس التياترات لرؤية الحوادث الغريبة، وسماع القصص المضحكة أو المبكية. والعاقل يكتفي بما يراه حوله ويسمعه، يتفرج مجانا على وقائع لم تبلغها مخيلة المؤلفين، ولا مهارة الممثلين).

وشيء آخر شارك قاسم أمين فيه أهل الفن والأدب، ذلك هو الشعور بالجمل. فلقد كان خياله سخيا لدنا، اتسع لألوان كثيرة من الجمال. وقد حاول أن يسبقه على غرائز الفطرة الأولى التي اعترف بها. فهو إذا اعترف بأن الإنسان يولد شريرا فقد ذهب إلى أن الغريزة قد يستعلي بها إلى المكان الأسمى. وهو في ذلك يختلف عن كل معاصره الذين ثاروا به. ولأن هؤلاء لم يدركوا ذلك الإحساس الأول من أسس التربية والإصلاح فقد ضل قاسم أمين عرضة لسوء الضن، وضلت كلماته غرضا لسوء التأويل؛ وهو قد كان يؤمن بأن (اعظم ما يصاب به المرء أن يحرم من الذوق السليم) وبأن (الذوق السليم هو الإحساس الفطري الذي ينمو ويتهذب بالتربية. وهو الشعاع اللطيف الذي يهدي صاحبه إلى أن يقول ويفعل ما يناسب المقام)

وكأنما قد ألهمت تلك النفس الحساسة حب الجمال إلهاماً، وكأنما تشرفت على ما تندفع به نفس الإنسان من عواطف نبيلة، كما اطلعت على ما يتدفق في أغوارها من غرائز

ص: 22

وشهوات. والحق أن باحثاً يدرك الشر لا بد أن يرى ناحية الخير ناصعة بريئة. وقد داول هو البحث بين الخير والشر فأقام حدوداً جمالية نرى أن مصر لم تأخذ بالكثير منها. فهو قد كان يرى أن أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى، وأن هذه الفنون ترمي جميعها على اختلاف موضوعها إلى غاية واحدة هي تربية النفس على حب الجمال والكمال، فإهمالها هو نقص في تهذيب الحواس والشعور وهو يقص عليك القصة التالية لتدرك تقديره للجمال، ولترى في أي بيئة كان عايش:(دخلنا قصر اللوفر، وكنا أربعة من المصريين لنمتع النظر لأبدع ما جادت به قرائح أعاظم الرجال في العالم، فبعد أن تجولنا في غرفتين جلس أحدنا على أحد الكراسي قائلا: أنا اكتفيت بما رأيت وهاأنا منتظركم هنا. وقال الثاني: اتبعكما لأني احب المشي واعتبر هذه الزيارة رياضة لجسمي، وسار معنا شاخصاً أمامه لا يلتفت إلى اليمين ولا إلى اليسار، وما زال كذلك حتى وصلنا قاعة المصاغ والحلي. وحينئذ تنبهت حواسه وصار ينظر إلى الذهب ثم صاح: هذا ألطف ما في الدار. وصلنا إلى تمثال إلهه الجمال الفريدة في العالم أجمع، فسألت دليلنا ماذا تساوي هذه الصورة إذا عرضت للبيع؟ فقال إنها تساوي ثروة أغنى رجل في العالم. تساوي كل ما يملكه الإنسان. تساوي ما يقدر لها حائزها ويطلبه ثمناً لها، إذ لأحد لقيمتها)

وأنت تستطيع أن تقدر المرارة التي تخبث النفس الزكية حين تهتز لقطة من التصوير والنحت؛ تحس بهذه المرارة إذا ابتلاك القدر بأن تسير وشخصاً تجافى نفسه كل نوع من أنواع الجمال، فلا يرى من جمال الشعر إلا البيت المتهتك السخيف، ولا من جمال الموسيقى إلا النغم الصاخب المنفر. ولعلك تحس بالمرارة التي كان يشعر بها قاسم أمين إذ كان يساير رجلاً استغلقت عليه آيات الفن الخالدة غير بعض حلى من الذهب والفضة لأن لها بريقاً يلمع! حقاً إن قاسماً كما أسلفنا القول كان يعيش في جو خاص لا يشاركه فيه إلا القليل

احمد خاكي

ص: 23

‌أعلام الأدب

هوميروس

للأستاذ دريني خشبة

(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)

ألم ينظر هوميروس غير الإلياذة والأوديسة؟

لقد ذكر كالينوس الشاعر اليوناني القديم (660 ق. م) منظومة لهوميروس تدعى لما يعثر عليها إلى عصرنا هذا. ويظن بعض المؤرخين أنها لا تعدو أن تكون الإلياذة في صورة أفخم نظمها للإنشاد في طيبة اليونانية ولذلك أطلق عليها هذا الاسم

وعثروا على آثار للشاعر سيمونيدز (أمورجوس) الذي كان يعيش في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وردت فيها مقتطفات من هوميروس يُظن أنها من الإلياذة - منها ذلك البيت المشهور:(وكما تَسَّاقط الأوراق (في الخريف) فكذلك تَسَّاقط أرواح البشر)

وبعد ذلك بقرن كامل (556 - 468) رَوى شاعر آخر يدعى: سيمونيدز (من كيوس) بالتواتر عن هوميروس شعراً من ملحمة مفقودة لا تمت بصلة لا إلى الإلياذة ولا إلى الأوديسة

أما بندار (522 - 448 ق. م)، وهو زعيم الشعر الغنائي في اليونان القديمة، فقد كان مشغوفاً بهوميروس وإن لم يمنعه شغفه به من مآخذ أخذها عليه فيما يتعلق بأوديسيوس. . . وقد ذكر لهوميروس ملحمتين طويلتين عن أخيل ما تزالان وا أسفاه مفقودتين إلى اليوم. . . وإذا كانت الأوديسة قد بلغت هذه الغاية من الإبداع في سمو القصص وكثرة الوقائع وهي لبعض أبطال الإلياذة، فما بال هوميروس في ملحمتيه في أخيل وهو بطل أبطال الإلياذة جميعاً؟! أية ثروة أدبية من شعر البطولة قد فقدها العالم!! لقد كان يندار يعجب بهاتين الملحمتين (الإلياذة الصغيرة والأثيوبيون) إعجاباً فائقاً جعله يشدو بهما كما يشدو عصفور الكناريا باللحن الموجع. . .

أما إسخيلوس فقد كان يقول عن مآسيه التي نيفت على الثمانين ولم يصلنا منها ويا للأسف إلا سبع: (إنهن فتات من موائد هوميروس الحافلة!!) والثابت أنه استخدم أبطال الملاحم

ص: 24

الهومرية في أكثر ما ألف إن لم يكن في كل ما ألف. . . فهل كانت جميع مآسي اسخيلوس عن أبطال الإلياذة والأوديسة فقط؟!

وقد ألف سوفوكليس أربعاً وعشرين ومائة مأساة. . . وكانت ثلاثياته تحوم حول أبطال هوميروس كما كان يفعل إسخيلوس، فهل كانت أبطاله في هذه الأربع والعشرين والمائة المأساة كلها من الإلياذة والأوديسة؟

يقول المؤخرون حين يعرضون لهذا إن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس كان يعد كل ما وصل إليه من ملاحم العصر القديم هومريا، ولو لم يكن من نظم هوميروس. . . ومن هذا التراث العظيم استمدا موضوعات مآسيهما. . . بل يقولون إنهما كان يدعوان ذاك العصر كله العصر الهوميري. . . على أنه ليس في هذا الكلام دليل على أن هوميروس لم ينظم غير الإلياذة والأوديسة، وإلا يقل إسخيلوس إن مآسيه فتات من موائده الحافلة، لأن إسخيلوس كان يعني ما يقول أكثر مما يحاول مؤرخو زماننا هذا أن يفهموا من عبارته وجهها الصحيح، وهو ولا شك كان يعني هوميروس نفسه، ولم يعن عصره كله وبعض العصر الذي سبقه وبعض العصر الذي جاء بعده أو ما يسميه المؤرخون العصر الهوميري، أو ما يزعمون أن إجزنوفان (القرن السادس) كان يدعوه كذاك

هذا وقد اعترف تيوسيديدز لهوميروس بالإلياذة وبالأوديسة وبترتيلة أبوللو؛ أما أفلاطون فلم يستشهد بأكثر من نتف من الإلياذة والأوديسة وملحمة فكاهية تدعى (مارجيتس) ضاعت فيما ضاع من تراث الإغريق. . . أما أرسطرخوس الإسكندري العظيم (160 ق. م) فلم يعترف له بأكثر من الإلياذة والأوديسة

وعلى ذكر أفلاطون وأرسطو نروي أن كلا منهما كان يقني نسخة من الإلياذة مختلفة في كثير من فصولها عن النسخة الأخرى، ولم يستطع المؤرخون تعليل ذلك بعد، الهم إلا ما يعزى إلى بِزِسْتراتوس - منظم أشعار هوميروس فيما يقال - من أنه تناول الإلياذة بشيء من التحوير، وأقحم عليها زيادات في تمجيد الأثينيين. . . وهو ما يشك في صحته الأساتذة لانج وموراي وبوروا والعلامة كارل موللر

على أنه ليس بزستراتوس وحده الذي اتهم (بتحشية) الإلياذة والتزوير على هوميروس، بل إن صولون نفسه قد أتهم بمثل ذلك. . . بل اتهمت به كل مدينة يونانية. . . وما حدث

ص: 25

للإلياذة من ذاك القبيل هو ما حصل لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما اختلفت الأحزاب وأراد كل منها أن ينصر مذهبه بأثر من كلام الرسول، فكثر التلفيق وشاع الوضع، ثم نشأ بعد ذلك ما نشأ من مدارس الحديث وشمر الأئمة للتجريد والتضعيف وما إلى ذلك. . فمثل هذا حدث في اليونان القديمة

ولقد ساهمت مدرسة الإسكندرية بأوفى نصيب في درس الإلياذة والأوديسة، وفرغ من تلاميذها الأفذاذ لكلتا الملحمتين عدد عظيم استطاعوا عرفان الزائف من غيره، وكان إمام هذه المدرسة المؤرخ الناقد الكبير أرسطرخوس الذي وضع لنقد الأدب الهوميري قواعده الرائعة

ويحددون عصر البطولة الذي وقعت فيه حوادث الإلياذة ثم حوادث الأوديسة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك إن القبائل اليونانية (الأيونيّة والأيوليّة والدوريّة) كانت قد أخذت تنهض فجأة وتناضل في سبيل مجدها وتناوئ الحثيين والمصريين على السواء، وكان لابد لها قبل كل شيء من أن تقهر طروادة المحصنة القوية الرابضة على ضفة الهلسبنت (الدردنيل) الشرقية. . . وبعد أن وضعت الحرب أوزارها. . . وبعد أربعة قرون أو نحوها، جاء هوميروس ليروي وقائع هذه الحرب في منظومته الخالدة، أو وقائع السنة الأخيرة من السنوات العشر من حصار طروادة - أو اليوم - كما كان يدعوها غالباً.

فالإلياذة من هذه الوجهة قصيدة حربية حافلة بأنباء المعارك، تكاد تسمع صليل القتال وأنت تتلوها، وتكاد تشرف منها على ميدان صاخبٍ ثائر النقع، شديد الروع، فائر بالدماء. . . وإذا كنت من رجال الحرب سرتك الخطط المرسومة والخُدَع المحبوكة، وراعتك هذه الفيالق المجيّشة تأخذ أماكنها ثم تتحرك كالموج، ثم ترتد قطعة بعد قطعة وهي في حالتي الكر والفر كالرجل الواحد، أو كالبنيان المرصوص. . . والإلياذة من هذه الوجهة أيضاً تصور لك حياة الجند في الثكنات أبرع تصوير وأروعه، كما تصور وأروعه، كما تصور لك حياة البحارة والرياضيين والرعاة ورجال الجبال. . . لكنها لا تبلغ من ذلك ما بلغه هسيود في ملاحمه، وذلك ما نرجئه لفصل آخر

الإلياذة وصف قوي لهذه المجازر التي نشبت بين جيل من الناس. يسكن في طروادة، وبين جيل مختلف عن جيل طروادة. . . لأنه جيل من أنسال الآلهة، وذراري أرباب الأولمب،

ص: 26

فيما تزعم أساطير اليونان. . . جيل توالد من تزاوج عجيب بين هذه الأرباب الأولمبية وبين إنسيات فاتنات من بنات حواء. . . فليس أخيل العظيم ولا أوديسيوس ولا أجاممنون ولا منالايوس ولا ديوديميد ولا نسطور ولاأجاكس ولا أبطال أخايا جميعاً أشباهاً لهكتور ولا باريس ولا أبيهما بريام ولا لأبناء طروادة، لأن الأولين أبناء آلهة والآخرين أبناء بشر مثلنا

شخصيات عجيبة جداً تلك الشخصيات التي أخترعها هوميروس فهو لم يكتف بأن صنع للإغريق لا هوتا يعج بكل زوج من الآلهة بل زاح يزاوج بين تلك الآلهة وبين الناس ثم ينسل أولئك الأبطال العظام الذين دوخوا طروادة، وأرووا سوحها بالعزيز الغالي من دماء أبنائها

فالسيدة هيلين، التي بسببها نشبت الحرب، هي ابنة زيوس كبير الآلهة من ليدا التي أحبها الإله الأعظم في غفلة من زوجة هيرا.

وأخيل - بطل الإلياذة - هو ابن بليوس ملك فتيا - لكن أمه عروس الماء الحسناء المفتان ذيتيس - التي استطاعت أن تزلزل قلب الإله الأكبر - زيوس - بجمالها الساحر، وأن تجعله، وهو سيد أولمب، بعض عبادها، كما استطاعت كذلك أن تسحر قلوب الآلهة الذين أهرعوا من كل مكان ليشاركوا في زفافها ويشربوا النخب في أكواب مما أهدى إليها الصب المدنف، إله الخمر، باخوس!

وأوديسيوس - بطل الأوديسة، وثاني أبطال الإلياذة، وصاحب فكرة الحصان الخشبي - يتصل بزيوس من أمه مايا - وكذلك ابنه تليماك

أما أجاكس، وهو من أبرز فرسان الإلياذة وأشدهم بأساً، فهو من حفدَة دردانوس

وأجاممنون، وأخوه منالوس، هماولدا أتريوس حفيد تنتالوس، ذلك الملك القاسي المتحجر القلب الذي حاول مرة أن يطعم الآلهة من شواء صنعه لهم من بدن ابنه. فكان جزاؤه النفي إلى ظلمات هيدز حيث قاسى الظمأ الممض وهو غريق في نهر من الماء العذب لا يصل إليه فوه، وإن بينه وبين الماء لشبراً واحداً

وجميع الأبطال الآخرين هم حفدة الآلهة، وأبناء السماء كما دعاهم هوميروس (الإلياذة ج 2 سطر 513)

ص: 27

على أن أبطال طروادة يمتون هم أيضاً بوشائج النسب إلى بعض الآلهة. فبريام وأبناؤه التسعة (هكتور وباريس. . . الخ) ينحدرون من أسلاف أجاكس (دردانوس)

وفي كثير من كتب الإلياذة مفاخرات عجيبة بالأنساب بين أبطال اليونان وأبطال طروادة، إذا يرد الطرفان أصولهما إلى الآلهة (اقرأ المفاخرة الجميلة بين أخيل وبين إيناس - إلياذة - الكتاب العشرون)

بيد أن أبطال اليونان في الإلياذة يبدون أكثر اقتراباً إلى الآلهة وأشد اتصالاً بهم مما تبدو العناصر المكونة لجيش طروادة

وكذلك الحال بين آلهة الأولمب، فأكثرهم يعطفون على اليونانيين ويناضلون عنهم، ويُسْدون لهم أحسن الجميل فيما تقتضيه معاركهم من تيسير وترشيد

أما طروادة، فيعطف عليها أبوللو، وتنحاز إلى صفوفها فينوس. . . أليس باريس قد قضى بالتفاحة لها من دون هيرا وميزفا؟

لذلك تكاد تكون حرب الإلياذة قائمة بين قبيلتين متفاوتين في الطبائع، فأحدهما أقرب إلى الآلهة منه إلى الناس، والآخر أقرب إلى الناس منه إلى الآلهة، وفي ذلك ما فيه من ميل هوميروس الذي يبدو هواه مع اليونانيين في الإلياذة التي نملكها، والتي هي من تمحيص اليونانيين من أهل أثينا والإسكندرية

على أن هذا الميل لم يكن حاداً أو مبالغاً فيه كما هي الحال في القصص الشرقي الذي خلفته لنا عصور البطولة ومن نحو قصة عنترة أو أبي زيد أو سيف بن ذي يزن، فالغالب في هذه القصص أن يطبع الراوي سامعيه بطابع خاص، فيجعل هواهم في جهة واحدة بحيث يطربون أبلغ الطرب وأشده إذا جال عنترة جولة فأطاح برؤوس مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين. أو إذا انهزم الزناتي أمام أبي زيد. . . لا. . . لم يفعل هوميروس كما فعل هؤلاء، فهو بالرغم مما جعل لأبطال الإغريق من شرف النسب وكرم الحسب، وبالرغم مما أنهى به الإلياذة من فتح طروادة وإشعال النيران فيها وقتل أبطالها البارزين إلا أنه قد خصهم بنوع عجيب من البطولة يرفعهم درجات فوق الأبطال الإغريق. وذلك أنه جعلهم أناساً، وجردهم في المعمعة من هذه الحضانة الربانية التي خلعها على أخيل وغير أخيل، ومع ذلك فقد صبروا وصابروا ولقوا جموع اليونانيين بمثل الشجاعة التي لقيهم اليونانيين

ص: 28

بها، فلم يجبنوا، ولم يهنوا، ولم يتخاذلوا عند اشتداد اللقاء، وكانوا يَقتلون ويُقتلون، وكانت الكرة تكون لهم مرة ولخصومهم مرة. . . وكانت لهم مواقف عجيبة مشرفة تنتزع من القارئ استحسانه أو رثاءه. . . وقد استطاع هوميروس أن يستدر دموع سامعيه وهو يصور وداع هكتور لزوجه وولده، وفزع هذا الولد العجيب وأبوه يتناوله من يديه أمه ليقبله القبلة الأخيرة التي لم يره بعدها، لأنه ذهب ليصاول أخيلا فيقتله أخيل بمساعدة الآلهة. . . لا لأنه أقوى منه وأشد مراساً. . .

لقد استطاع هوميروس أن يستدر دموعنا وهو يصور لقاء أخيل لبريام المحزون وقد ذهب - وهو ملك طروادة - يرجو بطل الإغريق وزعيم الميرميدون في أن يدع له جثة ولده هكتور، وأن يخلي بينه وبينها، فما كان من أخيل إلا أن أصاخ ودموعه تنزف، فترك الجثة، جثة هكتور الذي قتل بتروكلوس حبيب أخيل، ووكيله على جنده وأعز الناس إلى نفسه، والذي بكيناه أحر البكاء حينما قتل، وحينما انتزعت أسلابه، وحينما جيء به إلى معسكر أخيل معفراً بتراب المعمعة، وحينما سهدت عليه العيون، وسهرت عليه حبيبة أخيل

وهكذا يرتفع هوميروس بأبطاله في الناحيتين، ويوزع إعجاب القارئ على المعسكرين، مما سنبينه في العدد القادم

دريني خشبة

ص: 29

‌عرض سريع

يوم الفتوة في بغداد

للأستاذ علي الطنطاوي

ذلك هو يوم الجمعة 27 يناير، الذي انتقلت فيه بغداد كلها، استقرت في شارع الرشيد، فينشئ المجد الجديد، على أساس المجد التليد. . . وقد أتى الناس من كل فج عميق، ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبنائهم أسوداً صغاراً، أشبالاً، يدافعون عن الحمى، ويحمون العرين. . . ويبصروا ببصائرهم الآتي المجيد، والمستقبل الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان، التي تبرق بريق الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الموتى، ويصب الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهز البنادق، تقول بلسان حالها: إنا نحقق ما نقول!

مرحى يا فتيان العراق، عشتم للعروبة، وسلمتم للسلام!

أقبل الناس على شارع الرشيد، قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملئوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن، وشرفات المنازل والفنادق، حتى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار، ولا ترى في الشرفة مقعداً، ولا على رصيف مكاناً، وتعلق الناس بالأعمدة، وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كانت الطبيعة متهللة باسمة في هذا اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة، والأنس في الأرض وفي السماء. . .

وأنتظر الناس ساعات، لا يملون ولا يضجرون. . .

وكنت في غرفتي في (الأعظمية) أهم بالنزول إلى بغداد، ثم يردعني خوف الزحام، وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللج البشري الهائل. . . وكنت أنظر في ركام الكراسات التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كل تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والحماقات، لأموت بتصحيحها، وتقدير درجاتها، فلا أمسها، ولا أدنو منها، وإنما أنصرف عنها أفكر في بلدي وأهلي. . .

أأنا أهجع آمنا في بغداد، وآنس مطمئناً، وأهلي في دمشق يمشون على النار، ولا يدرون أإلى موت أم حياة؟ أأستمتع بالجمال، وأتذوّق الحب، وأنفق الأماسيّ الهادئة، في مسارب الأعظمية، أساير (الشط) وأتفيأ ظلال النخيل والشام قد ثار من تحتها البركان وزلزلت منه

ص: 30

الأركان وهب أهله هبّة المستميت، يريدون الحياة كاملة، أو الموت صرفا زعافا؟ فكرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد، وما أدراك اليوم ما بغداد؟

بلغت (الباب المعظم) وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً، فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها في بعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى الميدان، فوقفت حائراَ لا أتقدم ولا أتأخر. وطال بي الوقوف، وخشيت أن أبقى كذلك إلى المساء، فتشددت وقلت: ويحك يا نفسي! لماذا الجبن؟ وعلام التأخر؟ ولماذا كنت تدفعينني إلى أن أمارس ألوان الرياضة، إذا كنت لا تستطيعين النجاة في مثل هذا اليوم العصيب؟ وظننت نفسي قد اشتدت، فشمرت عن ساعديّ وأقبلت أدفع هذا، وأزيح ذاك؛ وكلما دفعت عني واحداً حلّ مكانه عشرة، فخارت قواي وأيست من النجاة، واعترفت لنفسي باني لم أبلغ بعد مبلغ عنتر (عنتر القصة) الذي يقبض على الرجل فيرفعه بيده فيضرب به الآخر فيقتل الاثنين. . . فوقفت فاشتد على الضغط من كل جانب، حتى أحسست كأن أحشائي ستخرج، وضاق نفسي، ولكن كل ضيق إلى فرج، فلم يكن إلا أن فرج الله عني فبعث رجلاً من رجال الشرطة أعرفه فحملني إلى الفندق الذي أريد. . .

وكان في شرفة الفندق سعادة القائد البطل فوزي القاوقجي وأخي الشاعر أنور العطار في جماعة، فحللت فيهم، ولبثنا ننتظر الموكب، ونتحدث عن الفتوة في العراق، ونستمع إلى أحاديث فوزي وهي للأديب كنز لا ينفذ. . . وأشهد أن في العراق فتوة وشباباً، وأنه شعب عرف طريق الحياة فسلكه.

ولقد رأيت من مظاهر الفتوة في بغداد ما جعلني أبكي من فرط التأثر! رأيت في بغداد طفلاً يدرج على باب منزله، لم يتعلق المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند، ويوعز إيعاز القائد: يس. يم. يسرى. يمنى. . .

رأيت في بغداد أطفال المدارس الأبتدائية، يسيرون سير الجنود. يقودهم مدرس بلباس ضابط، يدربهم على فنون القتال وذهبت مع الطلاب إلى معسكر الإنكليز في (سن الذبان) لمباراة رياضية. فرأيتهم قد قبلوا المدينة الإنكليزية

إلى حي من أحياء العرب، وأفاضوا عليها روحهم وشبابهم وفتوتهم، فقلت: تبارك الله! إذا

ص: 31

كان جيش من لاعبي الكرة لا يتجاوز الخمسين شاباً فعل هذا كله، فكيف لو جاء الجيش العربي جيش المستقبل؟ وسألت الطلاب في الامتحان هذا السؤال الأزلي: ماذا يريد أحدهم أن يكون؟ فكان جواب الأكثرين أنهم يريدون أن يكونوا جنوداً، مشاة وركباناً، وبحارة وطيارين، يدافعون عن أمتهم ويذبون عنها كل طاغية أو جبار ينبع من الأرض أو يهبط من السماء. . . ورأيت أثر الروح العسكرية واضحاً في الطلاب، فالطاعة من غير استخذاء، والحرية من غير تمرد، والنظام من غير جمود. تلك هي صفات طلاب العراق. وإن في مدرستنا العربية لثلاثمائة طالب، والمدرسة سائرة سير الساعة المتقنة وليس في إدارتها إلا مدير ومعاون، مع أن مثل هذا العدد يحتاج في دمشق إلى عشرة ضباط (معيدين) ثم لا تكون المدرسة كالساعة، وإنما تكون كالبركان الذي يهدد كل لحظة بالانفجار. فيا ليت شباب دمشق يعرفون الروح العسكرية، كما عرفها أشقائهم شباب العراق

لبثنا ننظر إلى الضحوة الكبرى، والناس لا يزدادون إلا تدفقاً، فكأنهم سيول تصب في هذا الخضم العظيم، والشارع يموج بالناس موجاً، ويزخر بالخلائق، وكلهم يتطلع وينتظر، وكلهم يسأل متى يأتي الموكب، وعمال الشركة الأمريكية للسينما ماثلون بآلاتهم في الشرفات والزوايا، ليصوروا معالم الحياة في بغداد. . .

وإن البحر ليموج ويزخر، وإن أمواجه لتصخب وتضطرب، وإذا بالمعجزة قد وقعت فانشق كما انشق البحر لموسى، وانفتح الطريق، فنظر الناس ونظرنا فإذا الأعلام العربية تلوح بألوانها الأربعة التي تجمع شعار دول الإسلام كلها بأميتها وهاشمها وعباسها وترمز لفضائل العرب كلها:

بيض صحائفنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا

وإذا الموكب قد لاح من بعيد، كما يلوح الهلال الهادي، للقائد الآيس ويسطع نجم الأمل في ظلمة القنوط، وإذا موسيقاه القوية تدوي في الآذان، فيكون لها أثر في النفوس أحلى من نداء الحبيبة في نفس المحب المشوق، فحبس الناس الكلمات ووقفوا الأنفاس، يتطلعون ويترقبون، والموسيقى تعلو والفتيان يتقدمون حتى وصلت طليعتهم. . . فما استطاع ذو شعور إمساك دموع الفرح والرقة والتأثر أن تسيل، وارتجت الأرض بالتصفيق والهتاف، كما ارتجت من قبل بهذه الموسيقى القوية المحبوبة، وهذا النشيد الذي يسمع من خلاله

ص: 32

صوت المستقبل البارح وتلوح في أثنائه خيالات المعارك المظفرة. . . وكان الفتيان أطهاراً مثل الزهر اليانع، لدنا كأغصان الروض، ولكنهم كانوا أقوياء كدوح الغاب، أشداء كأسود العرين؛ وكانوا يسيرون صفوفاً متعاقبة على عرض الشارع، مرفوعة رؤوسهم، منتصبة قاماتهم، موزونة خطاهم، على أكتافهم بنادقهم وعدة قتالهم، يتقدمهم قادتهم ومدربوهم والقائد العام المقدم محمود فاضل ومساعده الجرموز الأكبر بهاء الدين الطباع على الخيول البلق، أمام الجيش الفتي

لا والله ما أحسست بالعجز مرة عن وصف ما أرى مثل عجزي اليوم. ومنذا الذي يقدر على وصف هذا الشيخ الهم، ذي الشيبة السائلة على صدره وهو يلحظ حفيده الصغير، يحمل البندقية ويمشي مختالاً مزهواً، يحلم بأمجاد المستقبل، ويذكر ما درس من أمجاد الماضي، فلا يطيق منع الدموع أن تسيل من عينيه وتتحدر على لحيته البيضاء. . . إني لأسمعه يحمد الله على أن لبلاده جيشاً من أبنائها ولم يكن يرى إلا جيشاً واغلاً أو دخيلاً. .

ومنذا الذي يقدر على وصف هذه الأم التي أمسكت بيد طفليها الصغيرين وهما يتوثبان ليلحقا بالموكب ليريا أخاهما، وطفقت تدعو الله دعاء هامسا يتصعد من خلال الزفرات أن يحفظ لها ابنها، والوطن بنية:(يا رب سلّم، ما شاء الله كان. . يا رب سلم. .) وتبكي!

ومنذا الذي يقدر أن يصف شارع الرشيد في هذا اليوم؟ يا أيها الرشيد قم تر المجد الذي بنيته لا يزال قائماً. قم تر الأحفاد قد نهضوا يسلكون طريق الأجداد. قم ترنا لم نضع الأمانة ولم نهلك التراث. قم تر مجد غازي يتصل بمجدك كما اتصل الشارع بالشارع فعادا مهيعاً واحداً؟

هؤلاء يا مولاي عدة المستقبل، وهذا الجيش وهذه الآمال!

وفكرت فجأة في بلدي وأهلي. . .

نحن هنا في فرحة والنار مشتعلة في فلسطين، والنار توشك أن توشك أن تلتهب! أي مصيبة لم يرها الشاميون، وأي خطب لم ينزل بهم؟ أما خرب الأقوياء بلادهم ضرباً بالمدافع وقصفاً بالحديد وحرقاً باللهيب؟ أما أخذوا ذهبهم وأبدلوهم به ورقاط أقفرت به الخزائن وافتقر به ذوو الغنى واليسار؟ أما قطعوا البلاد حكومات، وجعلوا من القرى دولات، وقسموا الناس بدداً ليجعلوهم طرائق قدداً؟ أفما جروا على هذا كله؟ بلى، لقد حتى

ص: 33

لم يبق في قوس الصبر منزع، واحتملوا مالا يحتمل؟ فلما نفذ الصبر، وباد طوق المحتمل، هبوا هبة الحليم إذا غضب، ويا ما أشد غضب الحليم!

أنكون نحن في فرحة، وقومنا في الشام في ألم؟

وكدت أشعر بالحزن في قلبي، ثم قلت: لا، إن هذا هو الجيش الذي يجب أن يفرح به قومي. أن بطولة العراق وفتوة العراق صفحة من سفر المجد العربي، كما أن تضحية فلسطين، وجهاد دمشق، ونهضة مصر، صفحات منه أخرى. إن هذه كلها قوى متحدة، تتوجه وجهة واحدة!

ثم إن دمشق لا تخاف شيئاً ولا تخشى!

ولم تخاف؟ الرصاص؟ لقد فتح له أهلوها صدورهم! المدافع؟

لقد أعدو لها منازلهم! اليتم والثكل؟ لقد تعوده أبنائهم وأمهاتهم! إنهم يريدون أن يحيوا حقاً أو يموتوا. فهل يغلب شعب وطن نفسه على الموت؟

وكان جيش الفتوة لا يزال يسير، والأرض ترتج بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قوياً، هذه (بيه مونت) الوحدة العربية، هذه (بروسيا) العرب،

هؤلاء عدة المستقبل، وهذا الجيش، وهذه الآمال!

فيا أهل دمشق، ويا أهل فلسطين، ويا أيها العرب، في قاص من الأرض ودان.

اطمئنوا فإن لكم جيشاً!

ولما جاوز جيش الفتوة شارع الرشيد واتجه إلى شارع غازي ماج البحر واضطرب، وتدفقت وراءه الجموع، وأسرعت إلى (الأعظمية) لأدرك الصلاة، ونفسي تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور، ولكن جمالها لا يستتم في نفسي. إن في الموكب لنقصاً ظاهراً. أفما كان في الإمكان سدّه؟ أكانت تخر السموات على الرض، ويفسد نظام الكون لو قدم الموكب ساعة أو أخّر ساعة، ولم تضع الصلاة على هؤلاء الفتيان كلهم؟

هذا هو النقص، فيا ليت الوزارة لم تنسه. . . يا ليتها ساقت هؤلاء الجنود كلهم إلى المساجد ليقيموا فيها الصلاة، فإن أجدادنا ما غلبوا عدوهم إلا بالصلاة، والالتجاء إلى الله، وهو أن الدنيا وأهلها عليهم، وابتغائهم إحدى الحسنيين الظفر لإعلاء كلمة الله، أو الشهادة!

ص: 34

إذن لكما لهذا اليوم جلال الدنيا، وجلال الدين، وإن في الآتي لإصلاحاً لما مضى، وأنه على هذا ليوم مشهود!

(بغداد)

علي الطنطاوي

ص: 35

‌من ذكريات لندن

عربيد

للأستاذ عمر الدسوقي

في لندن للمصرين نَدِىّ، يختلف إليه الأخيار والأشرار؛ بعضهم لرؤية صديق، أو التزود من أبناء الوطن، أو الاستجمام من عناء الدرس؛ وبعضهم لقتل الوقت في لعب الميسر واللهو في غير كرامة ولا وقار

وكانت لنا فيه جلسات ممتعة، لمصر منها قِسط الأسد، ننتقد الساسة من غير تحرج ولا هيبة، ونضع خطط الإصلاح الجريئة، وتنفطر قلوبنا أسى ولوعة على مصر وما تعانيه، ونحتدم في جدال عنيف كله لمصر ولخير مصر

وفي ذات مساء، بينما نحن جلوس حول المدفأة، ندفع بحر ناره زمهرير الشتاء، نجول ونصول كعادتنا، في السياسة تارة وفي الأدب أخرى، إذ دخل علينا فتى في شرخ الشباب، رَبعةَ عريض المنكبين، غائر العينين بارز الجبهة، أسمر البشرة؛ فحيا بأدب، ثم اتخذ مجلسه بيننا، ينصت إلينا ولا يشاركنا، ثم بدا له فزج بنفسه في الحديث، وخب فيه ووضعن وبعد لأي قصّ علينا قصته، قال:

جئت ناديكم اليوم، أطلب الغياث والنجدة، فقد نزحت إلى لندن طلباً للعلم منذ شهرين، وأقمت مع زوجي وابنتي الصغيرة في منزل مؤثث؛ وفي ذات يوم تسلمت كتاباً من سيدة إنجليزية، تعرض فيه استعدادها لخدمتنا، مدة شهر الصوم، وتدعى أنها مسلمة من ذوات التقى والورع، وأن الذي حداها للكتابة إلينا، إشفاقها علينا، فخدعنا بكتابها المعسول، وبرحنا منزلنا إلى منزلها؛ وقضينا اليوم الأول لا نلاقى إلا كرماً وأريحية، فذهبت الوحشة واطمأنت النفوس؛ وخرجت في اليوم التالي مبكرا، وأُبت متأخراً، فوجدت زوجي تبكي وتنتحب، وقد ضمت طفلتها إلى صدرها، فسألتها، ما بالُها؟

- لقد مر بنا يوم عبوس قمطرير، قَفَّت فيه أوصالنا من القر، وجمدت أطرافنا من البرد، وجاعت فيه الطفلة حتى أشرفت على الموت، واستغثنا بربة البيت مراراً، فلم يزدها نداؤنا إلا إعراضاً عنا وازوراراً. ذهبت إليها استعطفها وأسترحمها، فأرتني وجهاً كالحاً كئيباً، وأسمعتني من هجر الكلام ما تعافه آذان الأحرار، وها أنت ذا تراني أعاني والطفلة السغب

ص: 36

والبرد، وأضمها إلى صدري لعلها واجدة فيه دفئاً أو سلوى

- ويل لها من كذوب ماكرة! هكذا قلتن وأنا أنتفض غيظاً وْموجدة، وبودي لو أذهب إليها فأحطم رأسها أو أهشم عظمها، أو أمزّقها إرباً، ولكن عَّن لي أن أستعمل الحيلة حتى اخلص منها لا على ولا لي. فغادرنا المنزل تواً، وتركنا متاعنا إلى الصباح، ثم أرسلت من يحضره، فأبت أن ترد إلينا. فقلت: يا لعجب! إني قد وقعت منها على داهية؛ وأسرعت إلى منزلها غضبان أسفاً، فاستدرجتني حتى دخلت إحدى الغرف، ثم أوصدت الباب وأحكمت رتاجه، وأخذت تهدد وتتوعد، وتبرق وترعد. وتقول: قد أتلفتم أثاث المنزل ولن تبرح حتى تنقدني عشرين جنيهاً، أو تكتب بها صكاً؛ فكتبت ما شاءت فداءً لنفسي، وإبقاء عليها؛ وخرجت لا ألوي على شيء، وذهبت من فوري إلى محل الشرطة، وذكرت ما عانيته منها، فصحبني أحد رجاله؛ وما إن رأته حتى أصفر وجهها فرقاً ورعباً؛ فسألها عن الصك فأنكرته. فقال: إني على ذلك شهيد، وأخرج أمتعني عنوة، وحذرها بالعقاب الأليم إن هي فكرت في إيذائي. فانطلقت شاكراً له، وحمدت الله على أن نجوت من مخالبها

ولكن وا أسفاه! قد طاردني شرها في كل مكان، فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت؛ إذ أنها كتبت للإرسالية تصمني بالعربدة؛ ومرضت زوجتي وطفلتي من أثر ذلك اليوم المشئوم؛ وقد نصحني الأطباء ألاّ أبقيهما يوماً واحداً في لندن حيث لا يعين جوها على البرء والشفاء؛ فودعتها والدموع تنهمر، والقلب ينفطر وسافرا إلى مصر على ما بهما من مرض، وعدت أدراجي إلى منزلي وحيداً غربياً، لا أجد مواسياً أو حبيباً

وهأنذا يا سادتي، أناشدكم أواصر الوطنية ولإخاء، إلا أقلتموني من عثرتي، وانتشلتموني من وحدتي. فقد حجب الحزن بصري عن النظر، وغشىّ الأسى قلبي عن التفكير، وكل ما أبغيه أسرة تحنو عليّ، وتأسو ذلك الجرح حتى يندمل، وتعيني بعطفها على الدرس، وبحسن معاملتها على السلوى

فحركت مأساته الأفئدة رثاءً له وحدباً عليه، وعلت الآهات، والزفرات توجعاً لمصابهن وأخذنا نقدح زناد الفكر حتى اهتيدنا إلى سبيل نزود به وحشته، ونخفف كربته، فقلت:

- إني أقيم في أسرة أحلتني مكاناً علياً، وأنا عندهم ملء السمع والبصر، أتقلب في أعطاف الهناءة والدعة، فإن شئت أن تشاطرني ما أتمتع به من الراحة والطمأنينة، فلن تزيدني إلا

ص: 37

سروراً

- شكراً لك، ثم شكراً؛ إني محتاج ليد قوية رشيدة في هذا البلد الغريب تهديني سبيل الحق حتى أقف على أسراره وعاداته، ولن يسعني حيَال هذه السماحة إلا القبول، والثناء العاطر، والاعتراف بالجميل

- هيا بنا الآن أريك المنزل وأقدمك للأسرة، وكن واثقاً بأنهم سيضعونك في منزلة العزيز المكرم

أخذت ألمح له أثناء الطريق بما يؤهله لاكتساب محبة الناس في هذه البلاد، وأننا هنا رسل الدعاية لمصر البائسة، فلزام علينا أن نتحاشى السفاسف والدنايا، وأن الأسرة التي سيقيم فيها، تربا بمنزلها أن يدنس، أو يكون موئلاً للفحش والخنا، أو يكون ضيفها عربيداً ماجناً، وخليعاً مستهتراً؛ لأنها متزمتة وقورة، وربها أستاذ كبير في الموسيقى، ولم ير مني إلا كل ما يشرح صدره، ولم اعهد عليه إلا التفاني في سبيل راحتي

بدت على محياه إمارات الارتياح، وأكد لي أنه سيكون مضرب الأمثال في نبل الأخلاق والرجولة، وأني سأكون فخوراً بصحبته تيّاهاً بخلاله وسجاياه

قدمته للآسرة وزكيته وأطنبت في مديحه، وقصصت ما لاقاه من عنت وإرهاق، فرثوا لحاله ورحبوا به، واخذوا يبعدون من مخيلته هذه الصورة المزرية عن بلاد الإنجليز وخلال أبناء التاميز، بحديثهم الحلو ومداعباتهم الطريفة

مضى على صاحبنا أسبوع، بدا فيه نموذجاً عالياً للأدب والظرف والدماثة والوقار، فزدنا في إكرامه والاحتفاء به. بيد أنه أخذ يتخلف عن جلسات السرة بعد العشاء، ويلزم الصمت أثناء الطعام، ثم يفر إلى غرفته فرار الظليم، فرابنا أمره وخشينا أن تكون قد حلت به كارثة، فتبعته مرة، وطرقت باب غرفته، فلم يجب، فواصلت الطرق فترة غير وجيزة، وأنا أناشده الله إلا أفضى إليّ بدخيلته، وبدواعي وجومه وعبوسه؛ ففتح بعد لأي، وشرر الغيظ يتطاير من عينيه، وفي وجهه اكفهرار وامتقْاع ويداه ترتعدان كالمحموم، وابتدرني قائلاً بصوت متهدج يفصح عن الوجل والحنق:

- ماذا تريد؟ لن أسمح لك بدخول حجرتين، اقصر عطفك على نفسك، فلست حدثاً غِراً!

- أسف يا هذا! فلم يدر بخلدي أن مثلك، وقد كان بالأمس سمحاً وديعاً، سيظهر اليوم سافلاً

ص: 38

وضيعاًن ما حفزني للمجيء إليك إلا عطفي عليك، وظننت أنك تقاسي همَّاً دفيناً، وأنك ستهش لحديثي وتبش، وقد جئتك لأسري عنك، أما وقد طرقت أذنيَّ كلماتك البذيئة، فأعد نفسي متطفلاً وأنت وشأنك

انطلقت إلى غرفتي، موهماً الأسرة أني لا أزال عنده وأخذت أفكر فيما عساه يكون سره، ولم حرص جد الحرص على عدم السماح لي بدخول مخدعه، ولكن أعياني الفكر، فلم أهتد إلى إجابة مقنعة، بيد أن الشك أخذ يساورني، ويخيله إليّ شيطاناً مريداً، قد أتى أمراً إداً، ورغب في إخفائه عنا

جاءتني ربة المنزل بعد يومين وأنا أتناول طعام الفطور وقالت:

- إن صاحبك هذا مأفون معتوه، فقد خرج بملابس النوم في الطريق لابتياع إحدى الصحف، ولا ريب أن هذا مخل بالآداب في عرفنا وتقاليدنا، وأخشى أن يراه رجل الشرطة فيقبض عليه تركت الخوان مسرعاً؛ وهرولت وراءه، وحاولت أن أرده إلى صوابه، وأبين له أن خروجه هكذا خطل سيعرضه للبرد القارس، والانتقاد المر؛ وتدخل رجال الأمن، وأن إنجلترا ليست كمصر فوضى لا يعرف الناس فيها نظاماً للأزياء

- لقد نهيتك من ذي قبل ألا تُعنَى بأمري، وأن تدعني وشأني، فأنا أعرف بآداب اللياقة منك

- إننا أبناء وطن واحد، وما يلحقك من العار والمهانة سيلحقني كذلك؛ لن يتحدث الناس هنا بأن فلاناً أخطأ، بل سيقولون: أحد المصريين أجرم؛ فرفقاً بسمعتنا، وتقبل نصحي، فقد مضى عليّ بهذه الديار أمد غير قصير

عاد إلى المنزل وهو يزمجر كمن أخذته العزة بالإثم، وكبر عليه أن ينصاع لطلبة غيره

عزوت كل هذه التصرفات لجهله بعادات القوم، فلم آبه لتعنيفه وتقريعه، وأخذت أتلمس العلل والمعاذير لكل ما يصدر عنه فعال يندى منها الجبين خجلاً أمام أناس لا يذكرون عن مصر إلا المشوه من الحقائق. ولكن صاحبنا ظل سادراً في غوايته لا يستمع لموعظة، أو يتعلم من تجربة؛ فجاء ربة البيت في ظهيرة أحد الأيام، وطلب منها أن تطهي له دجاجة على الطريقة المصرية، فاعتذرت بأنها لا تعرف قليلاً أو كثيراً عن الطعام المصري، وأولى له أن يباشر طهيها بنفسه، إن كان لا يزال على رأيه.

ص: 39

فأخذ يكيل لها السباب، ويؤول رفضها بامتهانها له، وعدم تقديره، ولج في وقاحته وسلاطته حتى أبكاها.

فذهبت محنقة تتميز من الغيظ، وانتظرت مقدمي على أحر من الجمر، وما أن دخلت المنزل حتى قصت على قصته منفعلة، وأصرت على طرده من المنزل، لأنها لم تسمع مثل هذه البذاءة طوال حياتها؛ فأخذت أهون عليها الأمر، وأعذر تصرفه هذا لشدة حساسيته، شأن كل غريب في بداية حياته ببلاد لم يألف طباع أهلها.

ضقت بهذا الغبي ذرعاً، ولعنت الساعة التي لاحت فيها طلعته الكئيبة علينا؛ وأعملت الفكر عسى أن أوفق إلى سبيل أصرف به هذا الوباء، وقد أصبح كالدمل الممد، أحمله في رقعة من جلدي، ينغص عليّ هناءتي، ويكدر راحتي. أي شيطان رجيم سول له أن يطهى دجاجة على الطريقة المصرية؟ ذهبت علني أجد عنده جواباً شافياً، وطرقت بابه بشدة وغضب، وفي عزمي أن أعطيه درساً لا ينسى؛ فسمعت همس سيدة من الداخل تحذره من الفضيحة إن استجاب لقرعي، بيد أنه فتح الباب على مصراعيه، وقال بصوت المستهتر الماجن المجازف، الذي غاض الحياء من وجهه وكان يترنح سكراً، ويبتسم ابتسامة داعرة:

- هذه فلانة، وقد كانت هنا حينما أنبتك في المرة السالفة على طرقك بابي، وأبيتُ أن أدخلك غرفتي؛ ولا يعنيني الآن، أن تطلع على ما كنت أخفيه، فسوف أنتهج طريق العربدة، ولا أعيرك أو غيرك التفاتاً.

- لكنك رجل متزوج، ولك طفلة، وهذا مُزْرِ بك، محط لقدرك، وسيلهب أهل المنزل عليك سخطاً وغضباً؛ ثم إن ما تأتيه من المنكر، مخالف للقانون، فليس هذا بيتاً من بيوت الخنا والدعارة، ويخيل إلى أن رفيقتك لم تبلغ بعد سن الرشد، وسيكون جزاؤك، إن فضح أمرك، السجن أو الطرد من هذه الديار، فعجل بإخراجها، وإلا داهمك رجال الشرطة.

- هاها. . . هاها. . .! نعم أنا متزوج ولكني أرسلت زوجتي إلى مصر تخلصاً منها، لا لمرضها كما أخبرتك كذباً؛ ولست أعبأ بما يحط من قدري في هذه البلاد، فقد استمرأت هذه الحياة بمصر وأنا لا أزال عزباً؛ أنا مستعد لأذكر لك تاريخ حياتي، إني رفعت راية الشر والفسق عالية خفافة، وما تزوجت رغبة في الزواج، ولكن طمعاً في مال من تزوجتها؛ وقد تنازلت لي الساذجة عن كل ما تملك، فليس ثمة حاجة إليها بعد ذلك، بل إني أريد أن أبين

ص: 40

منها إلى الأبد، حتى أكون حراً طليقاً. نحن نختلف، يا صديقي، في نظرتنا إلى الحياة؛ ولست أخشى رجال الشرطة، فما أتت هذه الفتاة إلا طواعية واختياراً؛ ولن أترك المنزل، بل عليك أنت أن تغادره، إذا كان مقامي به يزعج وقارك وتزمتك. لِمَ لا أنهل من مورد اللذات وأثمل، أينما شئت وكيف شئت؟ أليست هذه بلاد الحرية كما ينعتها قاطنوها؟ ليست هذه أول فتاة وليس ما ترى أول كأس من الخمر أحتسيها، افعل ما شئت!!

- أيها الوغد الدميم، إنك تبحث عن حتفك بظلفك، ولن تجد مني بعد الساعة هوادة في التنكيل بك، تطهيراً للمجتمع من حثالاته، وعبرة لأمثالك الطائشين، الذين لا أخلاق لهم، ولا ضمير يعنفهم، ولا شرف يردعهم.

أخبرت ربة البيت بكل ما حدث، فاقشعر بدنها هلعاً وقطبت أساريرها احتقاراً، وعدت ابنتها تنادي رجل الشرطة؛ ولكن الطير قد أفلت من سجنه، فلم نقف للفتاة على أثر، وطرد العربيد شر طردة، ووضع تحت مراقبة شديدة صارمة.

هجر لندن بعد أن سدت في وجهه المسالك أنىّ ذهب، وأقام في إحدى ضواحيها غير متوان عن الغواية والضلال.

علم أترابي الذين سمعوا قصته الأولى بما آل إليه أمره، وما أقترف في حق مصر من الآثام، وما لطخ به سمعتنا من الوصمات، فعزموا على شكايته للقنصلية المصرية، حتى تقصيه، ولكن رقت قلوبهم فلم يفعلوا، وإن كان عجبهم قد بلغ أشده، حينما علموا أنه من أعضاء البعثات، وأنه طلق زوجه في النهاية.

ليت شعري لِمَ يُوفد مثل هذا؟ أليكون سبة وعاراً علينا، ومثلاً حياً متنقلاً تقذي منه العيون، ويعافه المجتمع، ويلعنه الناس أينما حل، والبلاد التي لفظته، والأمة التي ينتمي إليها؟؟

عمر الدسوقي

ص: 41

‌دعيني أنام!

للأستاذ محمد سعيد العريان

دعيني أنام!

إن عينيّ لم تذوقا طعم الكرى منذ بعيد!

سنوات وسنوات، وأنا دائب السًري في هذه الطريق أفتش عن نفسي فلا أجد نفسي، وأنشد سعادتي فلا أجد إلا شِقْوة النفس وظمأ الروح وقلق الضمير! والطريق لا تنتهي إلى غاية، والعثرات تتكاءد السالك في كل منعرج وكل ثنية!

دعيني أنام!

فهل رأيت السعادة إلا حلماً هنيئاً يتخايل للنفس في لحظة ناعسةٍ ضرب النومُ على آذانها في ليلٍ مطبق؟

ما أجمل هذه الفراشة تتواثب في مطارفها الموشَّاة على أعين الناس! ولكن هيهات أن تنالها يد! كم جهدت جهدي في اللحاق بها فما بلغتْ. . .!

دعيني أنام! لعلي أن أنالها في سِنةٍ حالمةٍ تبلغ بي مالا مَبلغ إليه في يقظة الحياة!

دعيني، دعيني. . .! إنني وجدت نفسي هنا، وطالما نشدت نفسي فما وجدتها. . .!

إن بي حنيناً إلى هذا الفراش الدافئ بعد طول السُري وجهد السهر وكدّ الطريق!

افتحي عينيك يا عزيزتي على حقائق هذا الوجود ثم خبِّرني. . . ذكِّريني ما كان من ماضيَّ، فقد أَنسانيه ما ترادف عليّ من أحداث الزمان!

هل تذكرين يا عزيزتي تلك الأيام البعيدة، يوم كنا وليس لنا ماضٍ نأسَى عليه، ولا مستقبلٌ نتطلّع إليه، والدنيا تدور بالناس في حلقتها المفرغة وتدور بنا، فما يعنينا شيء من الدنيا ومن الناس، وما نشعر من الزمان إلا باليوم الذي نعيش فيه، هو كلٌّ تاريخنا في الحياة لا ماضيَ لَه ولا آت. . .؟

ذلك زمان كان فما له من معاد!

مَن كنتُ أنا عند الناس يومئذ ومن كنت؟

هل كنا يومئذ إلا فتاة وفتى قد ألفّ الحبّ بين قلبيهما! فما يُريان في الطريق إلا ذراعاً إلى ذراع، وخطوة إلى خطوة، وقلباً يعطف على قلب، وروحاً تهفو إلى روح، وعلى الشفاه

ص: 42

همسات تُخافت بها، وفي العيون نظرات تتناجى. والناس تنظر إلينا فما يهمنا شيء من نظرات الناس ولا من حديث الناس؛ لأننا كنا يومئذ نعيش في أنفسنا بعيدين عن دنيا الناس. . .

هل تذكرين. . .؟

كان ذلك منذ بضع عشرة سنة. . . وكنا صغيرين. . .!

وجلسنا ذات يوم في حديقة على الشاطئ. . . وكانت يدك بين يديّ وقد أطرق كلانا، وتراءى لنا في لحظةُ حلم رائع سعيد تجاوز بنا الزمان والمكان إلى حيث لم يكن لنا عهد، يظلنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب. . . وظلت في إطراقك وظللتُ، نتناجى ونتبادل الأفكار صامتين؛ فما كانت بي حاجة لأحدِّثك عما في نفسي ولا كانت بك حاجة؛ وتفاهمنا على صمت. . . ونظرتُ في عينيك ونظرتِ، فتضرُّمَتْ وجنتاكِ من حياء، وأحسستُ يدك تختلج بين يديّ. . .

ونهضنا صامتين فأوصلتك إلى دارك وعدتُ وحيداً إلى داري وأنا أفكر. . .

وعرفنا من يؤمئذ أن غداً هو يومٌ من عمر الزمان؛ وما كان يعنينا قبلٌ إلا حاضرنا الذي ننعم به. . .

أما زلت تذكرين يا عزيزتي؟

ولما ضٌرب الحجاب بيننا وقامت دونه التقاليد، تلفت القلب ينظر؛ ولزمت الوحدة أياماً أعرض ذكريات الماضي ولهفت الحاضر وأمل المستقبل فعرفت. . .

. . . عرفت يومئذ أن حقيقة الزمان ليست هي في هذا الحاضر، ولا في الغد المنتظر؛ ولكنها في اليوم الذي مضى ولا سبيل إليه. . . أمس!

حينما يكون معنى الزمان في نفس الحي هو اليوم الذي يعيش فيه وحسب، فهو في حقيقة الحياة ومعنى السعادة؛ فإذا سولت لها الأمانيّ أن يتعجّل أيامه فيتطلّع إلى ما قد يكون في غد، فقد آذنته الدنيا بيوم يٌطْرد فيه من جنة السعادة نادماً أسوان. . . ثم لا تكون إلا الثالثة، حين يتذكر أن له ماضيا كان وطواه الزمن؛ فما هو يومئذ حيٌّ يعيش في حاضره، ولا آملٌ يفكر في مستقبله؛ ولكنه ذكرى بلا رجاء، ولهفة مالها انقضاء!

الحاضر هو الحقيقة، هو السعادة، هو الحياة؛ وما الغد إلا وهمٌ يدعمه خيال الحيّ ليفر إليه

ص: 43

من حاضره الذي هو به حيٌّ يسعد بالحياة؛ وما الأمس إلا الجزء الذي مات منا وسبقنا إلى الفناء!

ولكن الزمان على ذلك هو أمس، واليوم، والغد جميعاً: هذه الثلاثة هي حياة الحيّ وعمر الزمان؛ لا سبيل إلى تجاهل ذلك بعد عرفانه!

ليتني لم أعلم! ليتني لم أعلم!

لتني ظللت حياتي أجهل معنى الزمان؛ لا أفكر فيما كان، ولا أتوقع ما يكون، ولا أعرف من عمر الزمان إلا اللحظة التي أعيش فيها!

. . . وتلاقينا مرة على ميعاد. . . هل تذكرين يا عزيزتي؟. . . وجلستُ أقرأ لك فصلاً من كتاب كان معي؛ فتندّت عيناك بالدمع!. . . إنني ما أزال أذكر ذلك كأنه أمس، على أن بيني وبينه عشر سنين!. . . لقد قلتِ لي يومئذٍ كلمة ما زال صداها يرنّ في أذني:

(يا عزيزي! ليس في البشرية كلها من يقدر على خلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها غير الأديب البليغ!)

وقلتِ كلاما آخر لا أذكره، ولكن أثره ما زال يعمل في نفسي؛ فجهدت جهدي لأخلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها. . . ولم أذق طعم الكرى من يومئذٍ. . .!

ليت شعري، هل جاءك - وبيني وبينك حجاب التقاليد - نبأ ما كنت أبذل من أعصابي ومن دمي في سبيل هذه الغاية حرصاً على أن أكون يوم اللقاء كما تريدين أن أكون؟

يا ليت يا عزيزتي، يا ليت!

عشر سنين من عمر الشباب وأنا أُخرج للناس كل يوم جديداً في الأدب، إلا يكن من إلهامك فإنه بسبيل إلى تحقيق أملك!

يترادف الليل والنهار، وتتعاقب الظلمة والنور، وأنا عاكف على دفاتري وأوراقي، أكتب وأفكر جاهداً لأخلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها. . .!

تُرى هل بَلَغْت؟

هأنذا على شَرفٍ من الأرض في طريق لا حب، وثمة بارقةٌ تلوح من بعيد. . .

وما تزال الفَراشة الجميلة تتواثب في مطارفها الْموَشَّاة، لا تنالها يدي على طول السُّرَي وجهد السَّهَر وكدِّ الطريق. . حَتَّامَ المسير؟

ص: 44

من أنا اليوم عند الناس ومن أنت؟. .

هانحن أولاء التقينا منذ عام يظلّنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب؛ ووجدنا تعبير رؤيانا. ولكن. . . أين أنا؟ وأين أنت؟

ماذا أجدى عليّ هذا الجهد المتواصل عشر سنين أبتذل شبابي وأنفق من دمي في سبيل المجد والشهرة والصيت البعيد!

المجد؟ الشهرة؟ الصوت المسموع؟. . . ما كل أولئك يا عزيزتي في حقيقة الحياة وفي دنيا الناس؟

وا خسارة الصفقة! إن الفراشة الجميلة لا يجتذبها شيء من كل أولئك إنها جميعاً أوهام وأباطيل ليست من السعادة ولا هي سبيلاً إلى السعادة

أين مني نفسي وأين أنتِ مني؟

لقد التقينا يا عزيزتي كما تراءى لنا في أحلام الشباب منذ بضع عشرة سنة، ولكنني لستُ هنا، ولكنكِ لستِ هنا. . .!

إنك أنتِ التي أغريتني بسلوك هذا السبيل منذ سنوات وسنوات فنذرتُ نفسي للفن حتى أبلغ إعجابك، فلا تسأليني بعدُ عن نفسي!

هذا العبوس في وجهك يا عزيزتي ألمٌ إلى آلامٍ على كاهلي. .

حدثيني صريحة: لماذا أنتِ غضبانة؟

أنت تريدينني كما كنتُ منذ بضعة عشرة سنة: فتىً لفتاة لا يشعر شعورَ الحيّ إلا معها؟

أنت تدْعينني لرحلة من مثل ما كان في سالف الأيام ذراعاً إلى ذراع على الطريق؟

أنت تسألينني: متى أراك إلى جانبي كعهد مضى لا يعنيكَ من أمر شيء إلا أن تكون لي وأكون. . .؟

وأنت إلى كل أولئك تريدين لي المجد والشهرة والصيت البعيد؟

لقد أذكرْتِني ما كان من أمري وأمرك يا عزيزتي، وأيقظتِ في نفسي ما كان راقداً من زمان؛ وهجتني إلى ذكرى اللهو والهوى والصبابة وسعادة الحب في سالف الأيام، حين لم يكن في الدنيا غيري وغيرك، ولم يكن الزمان إلا اللحظة التي نعيش فيها لا ماضيَ له ولا آت!

ص: 45

ما كان أسعدني بهذا الماضي!

فماذا أجد عليّ ما نلت من دنياي بعد هذا الجهد؟

هاهنا شيء وشيء. فمنذا يهديني بينهما سبيل الرشاد؟

دعيني أنام!

إن عينيّ لم تذوقا طعم الكرى منذ سنوات وسنوات. . .

دعيني دعيني. . . إنني وجدت نفسي هنا. . .!

ما المجد، والشهرة، والصوت المسموع، إلا وهم من الوهم وحيلة من الحيلة لتفسد على السعيد دنياه!

لا تَدْعيني يا عزيزتي بعدُ إلى الجهاد والعمل. إن بي حنيناً إلى الفراش الدافئ بعد طول السري وجهد السهر وكدّ الطريق. . .!

دعيني أنام لعلي أبلغ من السعادة في سِنةٍ حالمةٍ ما لا مبلغ إليه في يقظة الحياة!

بل دعيني يا عزيزتي أستيقظ من ذلك الحُلْم الطويل الذي ضرب على عينيّ بضع عشرة سنة أهذي باسم الفن والأدب والشهرة والجاه والصيت

هذه هي الحياة، هذه هي الدنيا، كل ما عدا ذلك خداع وتلبيس ووهم من الأوهام!

دعيني، دعيني!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 46

‌أسطورة.

. .!

(تصوير فربان)

قالوا: وكيف كان ذلك؟

قال الراوي: زعموا أن الرئيس رزفلت سفير السلام بين السامية ولآرية، ورسول الوئام بين الديمقراطية والدكتاتورية، أولم لأقطاب الحكم في الدول الأربع ذوات الرأي في مصير العالم اليوم وليمة ليستخرج من بين الأفواه والكروش، علل الخلاف بين الأساطيل والجيوش. فلما فرغت الصحون، وامتلأت البطون، دارت الكؤوس، فدارت الرؤوس، ونم كل لسان بكمين سره قال الدتشي وقد نهض معتمداً على كتف الفوهرر:

إن تشمبرلين ودلادييه لا يزالان على الرياء القديم يتبجحان بالحرية والمدنية والسلام، وهما يخفيان وراء الحرية استبعاد الشرق، ووراء المدنية اهتضام الحق، ووراء السلام الحب والشطارة. أما أنا وهتلر فمبدأنا أننا عراة جياع، وسياستنا الصراع لا الخداع، ووسيلتنا الإخضاع لا الإقناع. فإذا جنح خصومنا للسلام، فليقاسمونا ما في أيديهم من الطعام وإلا فالحرب التي تجعلنا سواء في الضعف، إن لم تظهرنا عليهم بالقوة

فنظر السيد رزفلت إلى عميدي الديمقراطية فوجدوهما يتلاحظان ولا يتكلمان. فقال للرؤساء جميعاً:

- إن الذئاب تتهارش ولا تتفارس. وإن أراكم متفقين على الغاية، بعضكم بالطيش وبعضكم بالحذر، وموافقين على هذا الراي، بعضكم بالكلام وبعضكم بالنظر. وليس أمامكم ما يقبل القسمة إلا بلاد العروبة! فهي التي غزتها فرنسا بالتعليم والربا، وفرقتها أمريكا بالتبشير والهدى، ومزقتها إنجلترا بالتفريق والتجارة. وفي تقسيم القارتين العجوزين بينكم على السواء، نجاة المدينة والديمقراطية من الفناء

- قال الراوي: فانبسطت أسارير الرؤساء لهذا الرأي الصريح، وشربوا كما ترى نخب هذا الحل المريح!

ابن عبد الملك

ص: 47

‌دراسات في الأدب

للدكتور عبد الوهاب عزام

موضوع الأدب

الإنسان إما أن يبين عن حقائق خارجة عن نفسه لا يصلها بخياله ولا يصبغها بعاطفته، وإما أن يعّبر عن حقائق امتزج بها الخيال ولَّونتها العاطفة، أو عن خيالات مخترعة ليست صورة من حقائق العالم

إذا قال الجغرافي في وصف أرض: فيها أدوية عميقة بين جبال عالية، فقد أبان عن حقيقة رآها أو سمعها؛ لم يصلها بالعاطفة فيبيّن إعجابه بها أو خوفه منها أو انبساطه أو انقباضه لمرآها أو ما تخيله حين شاهدها

وإذا قال كاتب في وصف هذه الأرض: (تهولك بها أدوية عميقة تطلّ عليها جبال شامخة عاتية يحلق الطرف دون ذراها).

فقد أبان عن الحقيقة مشوبة بما شعر هو به من رهبة وما تخيّل من إطلال الجبال على الأدوية وتحليق البصر دون قممها

وكذلك يقول الجغرافي: (صحراء منبسطة مستوية طرقها متشابهة، شديدة الحر، كثيرة الرياح) فينقل إلى السامع صورة الصحراء لم تغيرها عاطفته، ولم يزد عليها خياله

ويقول الشاعر في وصف هذه الصحراء:

ومَجٌهل كاطِّراد السيف محتجز

عن الإدلاّء مسجور الصياخيد

تمشي الرياح به حسري مولَّهة

حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد

موقف المتن لا تمضي السبيل به

إلا التخلل ريثا بعد تجهيد

فتراه قد أفاض على الصورة الطبيعية ألواناً من شعوره وتخيله

وانظر الفرق بين فلكيّ يتكلم عن الشمس طلوعِها وغروبها ودورتها السنوية، وعن القمر ومنازله، والنجوم وحبكها؛ يصف الحقيقة كما هي على قدر إدراكه، وبين من يقول - مثلا -:

منع البقاَء تقلبُ الشمس

وطلوُعها من حيث لا تمسي

وطلوُعها حمراَء صافية

وغروبها صفراء كالورس

ص: 48

وقول الآخر:

مخبأة أمَّا إذا الليل جَنّها

فتخفى وأما بالنهار فتظهر

وقد انشقَّ عنها ساطع الفجر فانجلى

دجى الليل وإنجاب الحجاب المستّر

والْبِس عُرض الأفق لوناً كأنه

على الأفق الشرقيّ ثوب معصفر. الخ

وقول ابن الرومي:

إذا رنْقت شمسُ الأصيل ونفَّضت

على الأفق الغربيّ ورسا مُذعذَعا

وودْعت الدنيا لتقضيَ نحبها

وشول باقي عمرها وتشعشعا

ولاحظت النُّوار وهي مريضة

وقد وضعت خدَّا على الأرض اضرعا. الخ

الفلكي يصف حوادث لا صلة لها بقلب الإنسان وخياله. والشعراء يصفون شعر الإنسان بفنائه على مر الزمان، ويتخيلون في طلوع الشمس وغروبها صوراً تخلع على الشمس شعور الإنسان وعاطفته.

تمثل نفسك تقرأ نظرية هندسية أو معادلة جبرية ثم تمثلها تقرأ قصيدة لشاعر نابغة أو خطبة لخطيب عظيم؛ إنك حين تقرأ الهندسة أو الجبر لا تفرح ولا تحزن، ولا تغضب ولا ترضى، ولا تخاف ولا تأمن، ولا تضحك ولا تبكي. ولكنك حين تقرأ القصيدة أو الخطبة لا تخلو نفسك من بعض هذه المعاني أو ما يشبهما.

وإذا قال طبيب: (إن مرض كذا منتشر في كل بلد) فهذا خبر لا يعبر عن شيء من عوطف الطبيب بل يخبر عما هو كائن، ولكن أبا العلاء المعري حين قال:

ما خص مصراً وبأوحدها

بل كائن في كل أرض وبأ

أنبأنا اللب بلقيا الردى

فالغوث من صحة ذاك النبأ

أراد أن يبين عما يحيط بالإنسان من الآفات ويعرب عن خوف الإنسان وحزنه في هذه الحياة، وإنما ذكر عموم الوباء وسيلة إلى الإبانة عن آلامه ومخاوفه

وهكذا يستطيع الناظر في هذا الموضوع أن يوالي الأمثلة في غير عسر.

كل ما أبان عن عاطفة أو خيال صلح أن يكون موضوع للأدب؛ وهو مادة الأديب يؤلف منها أدبه. ولكن من هذا البيان ما هو شائع بين الناس يشترك فيه الخاصة والعامة والصغار والكبار، فهذا لا يعد في الأدب وإن اتصل بالعاطفة والخيال؛ فلابد من سمو

ص: 49

الإدراك، وجودة التصوير. لابد من الصنعة أو الفن.

لا يعد الإنسان مصوراً حتى يجيد التصوير، ولا يعد نجاراً كل من نجر خشبة أو دق مسماراً بل لابد أن تكون له صنعة لا يستطيعها كل من حاولها. كذلك ليس كل من عبّر عن عاطفة أديباً. لا! حتى يكون في بيانه إدراك يرفعه عن العامية ولابتذال، وصنعة تميزه عن الدهماء وتميزه باسم الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الخ - حتى يأتي بكلام معجب يحس فيه سامعه أو قارئه إدراكاً قيماً، وتصويراً بارعاً كما تُرى صنعة نجار فيُعرف أنها عمل لا يستطيعه كل من وجد الخشب وآلات النجارة.

الحزن - مثلا - عاطفة تبين بالوجوم والصياح، والأنين والبكاء والعبارة المعتادة، والقصيدة. وكل هذه الدلالات تبين عن العاطفة ولكن لا يعد من الأدب إلا القصيدة.

وكذلك الأمور النفسية الملونة بألوان النفس تملأ كلام العامة والخاصة ولكنها لا تحسب أدبا حتى ترتقي إلى مستوى الفن وفي هذا درجات تتوالى إلى حد الإعجاز.

الفرق بين الأدب والعلم

يتبين مما تقدم أن قضايا العلوم المحضة ليست مادة للأدب؛ فإذا قلنا: زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، أو الخط المستقيم أقصر خط بين نقطتين، أو حاصل ضرب خارج القسمة في المقسوم عليه يساوي المقسوم، أو هذا الدواء ينفع لهذا المرض الخ فهي قضايا علمية ليست من موضوع الأدب في شيء

ليست هذه القضايا من الأدب ولكن يجوز أن تدخل فيه لتكون مقدمة لغيرها أو للتشبيه بها أو نحو ذلك كما قال المعري:

طرق العلا مجهولة فكأنها

صم العدائد مالها أجذار

وقوله:

الخلق من أربع مجمعة

ماء ونار وتربة وهوا

والكتب العلمية ليست من مباحث الأدب إلا أن ينظر الأديب إلى حسن البيان فيها والترتيب والتقسيم ووضوح الألفاظ فيجوز للفن أن يتناولها من هذه الناحية

فإذا اتحدَت المسائل في كتب علمية واختلفت أساليبها فقيل هذا الكتاب واضح العبارة، صحيح الألفاظ جيد الأسلوب فهذا تقدير موصول بالفن يجعل الكتاب من هذه الناحية ذا

ص: 50

صلة بالأدب. ويستخلص من اختلاف موضوعي العلم والأدب هذه الفروق بينهما:

1 -

الأدب مرجعه نفس الإنسان، والعلم مرجعه الطبيعة

2 -

فمقياس الأدب صدق التصوير لما في النفس خطأ أم صواباً، ومقياس العلم صدق الإدراك للحقائق الواقعة دون نظر إلى أثرها في النفس.

3 -

والأدب الإنساني موضوعه الإنسان: سعادته وشقائه في هذا العالم. والعلم يستوي عنده الإنسان والحيوان الأعجم والنبات والجماد. فالطبيعي يبحث في قوانين الطبيعة السارية في هذا العالم والحيويّ يبحث عن قوانين الحياة في الأجسام الحية، والطبيب يشرّح الأجسام ليتبين تركيبها. وهم في هذا البحث يتحرون الحقائق كما هي لا يبالون أن تكون في الإنسان أو في غيره. وأما الانتفاع بنتائج العلوم في إحياء الإنسان أو قتله وإسعاده أو أشقائه، فهو أمر خارج عن موضوع العلم

4 -

والآراء والكتب العلمية تترك إذا تبين خطؤها أو كتب ما هو خير منها فلا يرجع إليها إنسان إلا إذا أراد أن يؤرّخ العلم؛ فلا تجد من يقرأ في كتاب هندسة أو حساب قديم وقد كتب ما هو أحسن منه؛ ولكن كتب الدب تتضمن عواطف الإنسان فإيّان اطّلع القارئ فيها وجد عاطفة إنسانية تؤثر في نفسه لا يضيرها الخطأ أو القدم. فنحن نقرأ اليوم شعر هومير وشعر امرئ القيس وغيرهما، ونجد فيه من متعة النفس ما نجده في الشعر الحديث

اختلاف المنشآت الأدبية

قد تبين أن مدار الأدب على العاطفة والخيال والأمور النفسية لا الحقائق الثابتة خارج النفس. وليست كل القطع الأدبية سواء في ذلك، بل تتفاوت قرباً من هذا المركز وبعداً. وادخلها في الأدب أقربها إلى المركز. وفي الأدب موضوعات يقل نصيبها من العاطفة والخيال حتى تنتهي إلى المحيط الذي يفصل الأدب عما سواه، ويكاد يشك القارئ أنها من الأدب

ومن أجل ذلك اختلف النقاد في شعراء من أئمة البيان كأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلا. قال بعض النقاد: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري. ويميل بعض النقاد إلى إخراج لزوميات المعري من الشعر. والحق أن دواوين هؤلاء الشعراء جميعاً تحوي أدباً لا علماً، ولكن حظها من العاطفة وعمل الخيال يختلف؛ فتجد البحتري أكثر

ص: 51

نصيباً من العاطفة والخيال في جملة شعره؛ وأبو العلاء في لزومياته أقل حظَّاً منهما ولكنه لم يخرج عن دائرة الأدب. وأبو تمام والمتنبي بين عاطفة البحتري وحكمة أبى العلاء

وبهذا يفسر قول القدماء: (أعذب الشعر أكذبه) فالأكذب أدخل في الخيال وأبعد عن الحقيقة. ولكن ينبغي ألا يخدعنا هذا القول؛ فربما نجد الشعر القريب من الحقيقة والبعيد عن الخيال أعذب واحب إلينا من شعر كثر خياله وبعد عن الحقيقة. وقد تبين العاطفة قوية واضحة حيث لا خيال كما يؤثر مرأى الطفل الحزين في رائيه، ويعجب المنظر الجميل شاهده، وليس هناك إلا الحقيقة المؤثرة

انظر قول كثير عزة:

خليليّ! هذا ربع عزة فاعقلا

قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت

لا تجد فيه مجازاً ولا استعارة ولكنه مثّل لك الشاعر واقفاً على دار عزة وقد خلت منها وهو يطلب إلى صاحبيه أن يعقلا ناقتيهما ليفرغا للبكاء معه. ليس في هذا تخيل ولا صنعة ولكنه يكشف عن عاطفة محزونة ساذجة لها أثرها في نفس الإنسان

وانظر هذه الأبيات:

أقول لصاحبي والعيس تهوي

بنا بين المنيفة فالضمار

تمتع من شميم عَرار نجد

فما بعد العشية من عَرار

ألا يا حبذا نفحات نجد

وريّا روضه بعد القنطار

وأهلك إذ يحلَ الحيُّ نجداً

وأنت على زمانك غيرُ زاري

ليال ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سرار

إنك تجد في هذا الشعر الطبيعي الصادق الخالي من الكذب والخيال والإغراق من الإبانة عن العاطفة مالا تجد في شعر متكلف قد أعرب فيه الخيال وافتنَّت فيه الصنعة

عبد الوهاب عزام

ص: 52

‌استطلاع صحفي

الأندية الأدبية في مصر

نادي الحلمية

لمندوب الرسالة الأدبي

مقهى ضئيل المنظر، تافه الموقع، يطل على ميدان ضيق محدود، يعج بالسابلة، ويضج بالحركة، وترتفع فيه أصوات الترام والسيارات منحدرة من القلعة وصاعدة إليها، فلا رواء فيه ولا بهاء ولا شيء مما يبعث الشعر ويهز الفكر ويحبب إلى الأدب، ويغمر النفس بشعور الرضا والأطمئنان؛ ولكنه على الرغم من هذا كله فهوى الشعراء والأدباء، ومراد الأفكار والآراء، وله في ذلك عمر طويل وتاريخ حافل

ترى ما الذي حبب هذا المكان إلى إخواننا الأدباء وهم طلاب الهدوء والسكون، وعشاق المناظر الشعرية اللطيفة؟! أهي تلك الدرجات الأربع التي يصعدها الداخل إليه فتشعره بالرفعة والصعود والعظمة! وحب العظمة! وحب العظمة شيء في نفوس الأدباء؛ أم هي تلك الديمقراطية الصريحة التي يتميز بها ذلك المكان، إذ يجلس القوم في غير كلف، والتملص من الكلفة شيء محبوب لدى الشعراء؛ أم هي قلة النفقة، والأدباء لاشك قروشهم معدودة، وجيوبهم مكدودة، فهم يرتاحون إلى قلة المصاريف وعدم التكاليف؟!

أنا والله لا أدري السبب في ذلك. ولقد سألت إخواننا الأدباء أنفسهم فما وجدت عندهم شيئاً من علم ذلك السر، بل لقد ذكر ليَ الشاعر (الأسمر) أن أدباء الحلمية تمردوا منذ سنوات على ناديهم، وحالوا أن يكون مجلسهم في مقهى فخم بميدان الأوبرا حتى يليق بمكانتهم، ولكنهم فشلوا في تمردهم، وعادوا إلى مكانهم صاغرين! حيث مازالوا يصعدون الدرجات الأربع! وقد يكون للمسألة تعليل من التاريخ، فلنرجع إلى التاريخ

إن نادي الحلمية يتصل بحي الحلمية، وحي الحلمية حي يتميز بطابع خاص، وينفرد بتاريخ حافل، وهو أول حي أسس في مصر على طراز منظم، وقد كان موطن الأسر العريقة والسلالات التركية التي تحكم البلد، وتملك ثروته؛ وقد كان لهذا الحي ناد يشرف على شارع محمد علي في مواجهة جامع قوصون، وكان يختلف إليه كثير من الكبراء

ص: 53

والأدباء الذين يقطنون ذلك الحي، فكان يجلس فيه المرحوم حسين باشا رشدي، والمرحوم شوقي بك قبل أن ينتقل إلى المطرية، وحفني ناصف، وإبراهيم هلال، وحافظ إبراهيم، والشيخ عبد المطلب، وأحمد نسيم، واحمد الزين، وبيرم، والهراوي، وعماد، والسيد حسن القاياتى، وكان يتردد عليه المازني أيام كان يسكن بالإمام؛ وقد أخبرني الهراوي أنه لا يذكر أدبياً في مصر لم يتصل تاريخه بذلك النادي القديم، وإنه ليتحدى من ينكر الجميل على أصحابه، وإنه على استعداد لأن يذكر من لا يذكر ماضيه!

وقد ظل ذلك النادي قائماً أيام الثورة المصرية، فانتقل إليه الشيخ مصطفى القاياتي رحمه الله، وكان الشيخ القاياتي عنصراً قوياً من عناصر الثورة، وكانت له حاشية حافلة بالشباب المفكر الجريء أمثال الشيخ عباس الجمل، والشيخ الجديلي، والشيخ البنا، والأستاذ إبراهيم عبد الهادي، وإضرابهم، فاختلط الأدب بالسياسة بين جدران النادي، فكانت تنطلق منه التدابير المفزعة والقوافي المقذعة، فضاق به الإنجليز، وأطلقوا عليه الرصاص؛ وللهراوي في ذلك شعر. . .

فلما كان سنة 1926 مات صاحب المقهى، فانفض السامر، وانقطع الزائر، وبطل الندى الحافل، وقام مكانه مطعم للفول ومستخرجاته، والعدس بجميع ألوانه؛ وراح الأدباء يتلمسون المكان الذي يجمعهم، فتأخروا خطوات عن جامع قوصون إلى جهة القلعة فوقعوا على النادي الذي هو مجمعهم اليوم والذي هو موضوع حديثاً في ذلك المقال

ولقد غدا النادي الجديد صورة كاملة للنادي القديم، فحفل بالأدباء والشعراء، وعمرت مقاعده بمجالسهم في الليل والنهار، وقصده الكبار في الأدب والصغار!

فكان يجلس فيه الشيخ عبد المطلب شاعر البادية، والحاج محمد الهراوي شاعر الأطفال والرجال، والأسمر أديب القبلتين وشاعر الأزهر، والزين شاعر دار الكتب، وحسين شفيق المصري الشاعر الحلمنتيشي المعروف، والدكتور زكي مبارك عبقري سنتريس ومعبود باريس، والسيد حسن القاياتي شاعر النبل والورع، و (مجنون) إحسان. وكان ينضم إليهم كثير من شباب الأزهر ودار العلوم وغيرهم ممن يشدون بالأدب ويعملون في الصحافة؛ وكان حافظ رحمه الله يتردد عليهم من وقت لآخر خصوصاً في الفترة التي أحيل فيها على المعاش؛ وبين جدران ذلك النادي نظم قصيدته الطويلة في هجاء صدقي باشا التي لم ينشر

ص: 54

منها في الديوان إلا أبيات. . .

ولقد استبدت تكاليف الحياة ومطالب العيش بكثير من الأدباء فألهتم عن مجالس السمر، وحرمتهم من ذلك المجلس الطيب الشهي، ولكن ما زال النادي عامراً بأبنائه المخلصين، وما زال المتخرجون فيه يهبطون عليه بين وقت وأخر حتى الذين يسكنون في الضواحي على بعد الشقة وكثرة الكلفة. ويا له من حنين طيب ووفاء عجيب! وقديماً قيل (ما لحب إلا للحبيب الأول) ويعتبر الهراوي في هذه الأيام عميد نادي الحلمية، أو عمدة مصطبة الحلمية كما يقول صديقنا الدكتور زكي مبارك، أو شيخ السقيفة على حد تعبير المهدي مصطفى الشاعر الظريف

فالهراوي من الجلساء المخضرمين أدرك النادي السابق وكان من رجاله، وأسس النادي اللاحق وآثره بكثير من عطفه وإخلاصه، فقل أن يتغيب عنه في يوم من الأيام ودائماً يحلو له أن يأخذ مجلسه عند المدخل على سفح (الدرجات الأربع) ومن حوله الأسمر والشيخ عبد الرسول ومرتضى الخطاط، أجزاء لا تتجزأ وعصبة لا تفترق

وأدباء الحلمية نمط واحد وطراز متفق، ولهم ذوق عملت فيه الثقافة العربية أكثر من أي شيء آخر؛ وهم يعشقون الديباجة القوية السليمة، ويطيرون بالأساليب المشرقة المونقة ويذكرون شوقي وحافظ وعبد المطلب بالخير والحمد، ويترحمون على المنفلوطي والرافعي وإضرابهما؛ والزين لا يعدل بالزيات أديباً في مصر بل في الشرق. وهم يضحكون من أولئك الشعراء والأدباء المستغربين الذين يذكرون جوتة وشكسبير ولا يعرفون المتنبي والبحتري وشيخ المعرة، ويسميهم الهراوي بدجاج القريض، وفي رواية أخرى يغاث الشعر.

وكثيراً ما يدخل أدباء الحلمية في مناقشات حادة، وجدال عنيف، يصل ضجيجه إلى الشارع، ويطول فيه اللسان ويسفه، ولكنهم دائماً خلصاء أصفياء على الكراسي متقابلين.

ويجري أدباء الحلمية في فنون وأمشاج من أحاديث الأدب والنقد والدعابة، فإذا كان الحديث في ذكريات الماضي، فالهراوي فارس الحلبة، يزكيه الشيخ عبد الرسول؛ وإذا كان القول في أخبار الأدباء والشعراء فالحكم للزين والويل لمن يعترض؛ وإذا تكلم القوم في الشعر رأى الأسمر أن يخرج من وقاره فيخب ويضع؛ فإذا انتهى القوم إلى الدعابة حاولوا

ص: 55

جميعاً أن يمدوا ألسنتهم؛ ولكن لا يلبث الشاعر الحلمنتيشي أن يضع يده على رؤوس القوم وأن يجرفهم بتياره الزاخر، حتى يقول كل منهم لصاحبه:

انج سعد فقد هلك سعيد.

وقد يبتدئ القوم حديثهم في شيء يهمهم، أو في مشكلة تعينهم، ولكنهم سرعان ما يخلعون عليه ثوب الأدب ويجعلونه حديث السمر.

فهذا الشاعر الأسمر قد جاء في أمسية يشكو إلى إخوانه أمر ساعة أهدها إليه صاحبه الهراوي فأتعبته وصارت تمشي كما يقول الأسمر تارة (عربي) وتارة. (إفرنجي) وتارة لا عربي ولا إفرنجي أما الدكتور حسين الهراوي فتناولها ثم جس نبضها وقال:

هذه (عندها ضغط دق) وهي (تحتاج إلى الراحة التامة).

وأما الدكتور زكي مبارك فنظر إليها ثم اندفع ينشد:

واها لبعض الهدايا

بعض الهدايا رزايا

ساعات باريس عندي

لها جميع المزايا

تدق دقاً لطيفاً

كمثل همس مُنايا

وساعة الهراوي

أولى ببعض التكايا

تدق دقاً عنيفاً

كما تدور رحايا

وأراد أن يسترسل في إنشاده فهدده الهراوي بإهداء (منبه) إليه، فامسك وجبن

وأما الأستاذ حسين شفيق المصري فقال: (دي ساعة دايرة على كيفها) و (ماشيه مشى مسخرة) و (قلبها فاضي) و (عاوزة بوليس يضبطها) و (الساعاتي لما يشوفها قلبه يدق) و (أنها الساعة التي هي أدهى وأمر. . .)

وكان مجلس طيب لم يسع الهراوي نفسه إلا أن يسجله بالشعر فقال:

وساعة أهديتها

إلى الأديب الأسمر

حسبتها في مخبر

كما لها من مظهر

فظرفها من معدن

مرقش منمّر

فمن بياض فضة

إلى سواد عنبر

وعقربا مينائها

من النضار الأصفر

ص: 56

أحجارها كأنها

من لؤلؤ وجوهر

فلم يكن كمثلها

هدية من موسر

ولم يكن كمثلها

من بائع لمشتري

وليس من تقدم

فيها ولا تأخر

تمشي عليها الشمس في

عطاردٍ والمشتري

وقد ظننت أنه

بمثلها لم يظفر

حتى احتوانا مجلس

يزخر بالتندر

فمن طبيب ماهر

إلى أديب عبقري

وكاتب مفكر

وشاعر مصورّ

فجاءنا الأسمر في

زمجرة الغضنفر

ثم رمي بساعتي

بهيئة المسنتكر

وقال فافتح محضراً

واذكر وقل في المحضر

بأنني من ساعتي

ومنك في تحيّر

فإنها تذبذبت

من سنةٍ فأكثر

فتارة تَقَدُّمٌ

إلى مدىً لم يحصر

فتسبق الليل إلى

صباحه المبكر

وتارة تأخُّر

لغاية لم تقدر

والآن فانظر ترها

في وقفة المستكبر

وإن ما ذكرته

دون الذي لم أذكر

فقلت مهلاً يا أخي

فضحتني في معشري

فانهمرت نكاتهم

مثل السحاب الممطر

فقائل: حق نشِو

ق لفقيه أزهري

وقائل: محبرة

من اختراع (بَركر)

وقائل: رقاصها

يحتاج للمجبر

وقائل: قوموا بنا

نسأل عنها السمكري

ص: 57

فقلت كفوا ساعة

عن ساعة لم تستر

أليس منكم عاذر

حتى أخي لم يعذر

إن قصرت فإنها

في زمن مقصر

آليت لا أهدي لكم

شيئاً - يمين منذر

ومن أراد ساعة

فليشتر أو يكتر

وكم في (نادي الحلمية) من مثل هذه المجالس الطيبة لو حفل أديب بتسجيلها لحفظ للناس كثيراً من السمر الطيب والدعابة الحلوة والأدب الرائع. . . ولكن هيهات

م. ف. ع

ص: 58

‌السلام

نظم الصورة القلمية المنشورة في العدد 289 من الرسالة

(مهداة إلى الأستاذ ابن عبد الملك)

للأديب عبد الحميد الهيتي

ذي صورة في وحيها صادقهْ

توحي إلى الشاعر

صامتة لكنها ناطقهْ

في منطق ساحر

المن في صفحتها الشارقهْ

يشرق مثل الأمل الزاهر

واْلخَلْقُ في ساحتها غارقهْ

في أمنها هادئة الخاطر

هنا قطيع الغنم الراتع

في عيشة راضيهْ

منبثة في حلقها الواسع

آمنة لاهيه

فبعضها في وقفة الخاشع

وبعضها جاثية غافيه

يا عجباً للحمَل الوادع

ترضعه الأم على ناحيه

قد نام عنها كلبها الحارس

على أثيث العُشُبْ

كأنه وهو به طامس

من نومه لم يهبْ

قد نسى الذئب ولا هاجس

يَمرُّ في خاطره أو يدبْ

حتى ولم يهمس له هامس

في الطيف ما يدعوه أن يكتئبْ

هناك بالقرب من الساحل

عائلة تبسمُ

ما فكرت في الزمن الزائل

ولا الذي يقدم

تلهو بصفو الزمن الماثل

لها ولا في غيره تحلمُ

يا لجلال الأسرة الكامل=لو خط في الرسم أَبٌ مفهمُ

هناك عن بعد على اليمين

مغروسة أشجارُ

ريانة مورقة الغصونِ

توقرُها الأثمارُ

وربما في عشها المكينِ

آمنة تزقزق الأطيارُ

قد نسيت مرارة السكين

ولم تداهم عشها الأخطارُ

ص: 59

أرى طيوراً في السما حائماتْ

من مرح صادحهْ

في هدأة الكون مضت سابحاتْ

غادية رائحهْ

فلم تروع سربها الطائراتْ

ولم تجيء قاصفة صائحهْ

والبحر رهوٌ فوقه الباخراتْ

تمخر لا تجتاحها جائحهْ

يا صورة صورّ فيها السلامْ

صورته الخالدَهْ

توحي كوحي الصحو بعد الغمامْ

في الأنفس الراقده

ما السلم إلا الغيث في الابتسام

والحرب إلا السحب الراعده

فلفسة الله هما في الأنام

ضلت بها ألبابنا شاردهْ

(هيت)

عبد الحميد الهيتي

ص: 60

‌قصائد في أبيات

للأستاذ محمود غنيم

المطر

بدت الأرض مرة في الشتاء

ثرَّةً مثل صفحة الدأماء

فسألت الغمام هل بك خطب

مثل خطبي حتى بكيت بكائي

قال لا بل دنَّسْتم الأرض بالإث

م فطهرت وجهها بالماء

لؤلؤة

شاهدت لؤلؤة كالبرق تأتلقُ

على جبين أمير سار مختالا

فقلت ما أنت؟ قالت إنني عرقُ

من جبهة الزارع المسكين قد سالا

الناس تنعم والفلاح يحترقُ

وليس يحرز لا جاهاً ولا مالا

السعادة

لم ادر ما طعم السعادة في الصبا

فإِذا بها موفورة أسبابها

حتى إذا أصبحت أدرك كنهها

سلب السعادة من يدي سلابها

الغرب

قلت للشمس يا عروس السماء

إنما تغربين في عين ماء

فلماذا لمحت وجهك إذ اشر

ق مثل العقيقة الحمراء

قالت الشمس إنما طفت حول ال

غرب والغرب سابح في الدماء

محمود غنيم

ص: 61

‌رسالة العلم

أرض تدور وإنسان يحيا ويموت

للدكتور محمد محمود غالي

الفراغ الذي تنتقل في أنحائه - الزمن والحوادث - الأرض

التي تدور - الكون مجموع العوالم - الإنسان يحيا ويموت

نبدأ الكلام عن الفراغ أو الحيز الذي نتنقل فيه، ونتكلم عن الزمن الذي يمر علينا لاتصالهما بفلسفة كل علم، وأي علم نستطيع أن نتعلمه أو فلسفة نستطيع أن نناقشها لا يكون الفراغ والزمن عاملين أساسين في دراستهما؟ هذان العاملان ظلا أساساً للعلوم من عهد المصريين والإغريق؛ فليس في وسعنا أن نتحدث عن الأرض والكون والإنسان المفكر دون أن نرجع مبدئياً إلى هذين البحرين اللذين تكتنف لججهما جميع المخلوقات: الحيز والزمن.

وسنعرض لهما في هذه الكلمة حسب الأوضاع التي ألفناها فلا نتعرض اليوم لفهمهما وفق أحداث الآراء

أما الفراغ أو الحيز فإننا نلمسه بحواسنا وندركه بتحركنا. كلنا يعلم أننا، ونحن في مكان معين، نستطيع أن ننتقل شرقاً وغرباً أو شمالا وجنوباً أو إلى أعلى وأسفل، كما نستطيع أن ندور حول نقطة ثابتة، أو نكون في حالة نلفي فيها حركتنا مجموعة من هذه الحركات كحركة شخص داخل سفينة تتأرجح فوق عباب الماء بالنسبة إلى منارة على شاطئ البحر

وأما الزمن وفق تصورنا البدائي فكلنا يعرفه ويدركه بالحوادث التي تقع لنا، فنقول: لم نر فلاناً منذ رحيله للإسكندرية، ونقدر طول غيبته بعدد من الأيام، وينشأ من ذلك أن أهم الحوادث بالنسبة لنا دورة الأرض حول محورها، فهي التي تولد الليل والنهار ويسمى مجموعها (يومياً) وقد اعتدنا تقسيمه إلى 24 ساعة، وكان من الجائز أن نقسمه إلى عشرين ساعة أو عشر، فتقسيم اليوم إلى أي عدد من الساعات عمل اعتباطي من اختيار الإنسان لا دخل للطبيعة فيه. فلو أننا اتفقنا على أن نجعل اليوم عشر وحدات جديدة تسمى كل منها احتجنا إلى إدخال أي تغيير في آلات قياس الزمن التي نسيمها (ساعة) سوى تغيير في

ص: 62

تقسيم ميناء الساعة أما دورة الأرض حول الشمس التي يتكون منها السنة والفصول فتحوي 365 يومياً وسدس اليوم تقريباً، وهذا العدد ليس اختيارياً كعدد الساعات في اليوم، وإنما هو حدث طبيعي لا نستطيع تغييره؛ فقد لوحظ أنه بمرور كل عام أي بإتمام كل دورة للأرض حول الشمس يتكون هذا العدد من الليل والنهار أما فترة الحياة للإنسان فهي تختلف لكل فرد، فليس من الميسور لنا أن نعين الذين ستنتهي حياتهم هذا الأسبوع من أهل القاهرة وإن كنا نعرف من مجموع القاهرين أنه يولد في الأسبوع القادم حوالي التسعمائة ويموت حوالي الخمسمائة. . .

ونحن أكثر إحساساً بالزمن منا للحيز، فإن الزمن يتغلغل في مشاعرنا، وفترة من الزمن أقرب لإحساسنا من مسافة في الفراغ. وقد يخطئ المرء في تقدير أو مقارنة مسافتين ولكنه لا يخطئ في إدراك وترتيب حادثين، فإذا وقفنا في ميدان الأوبرا فقد لا يسهل علينا أن نعرف أيهما أقرب إلينا: مسجد القلعة أم الجامعة المصرية بالجيزة. بل كثيراً ما يخطئ المرء في تبين الأطول من بين اثنين من أصدقائه رغم تكرر رؤيته إياهما

أما شعورنا بالزمن فلا يتسرب إليه الخطأ. فنحن واثقون أن حصولنا على تذكرة الترام حادث لاحق لارتقائنا إياه، وأن وجودنا به حادث لاحق لمبارحتنا المنزل. وإذا اشترينا صندوقاً من السجائر فمما لا يداخلنا الشك فيه أن الكتابة المطبوعة على ذلك الصندوق قد تم طبعها قبل شرائنا إياه، وعندما نذهب بأولادنا إلى المدرسة لا يكون ثمة ريب في أن حادث ولادتهم سبق بكثير دخولهم المدرسة. ويدخل عامل الزمن في التجارب العلمية، ففي مقدور العلماء أن يقيسوا فترات صغيرة جداً منه، وقد بين لي الأستاذ جييه في إحدى زياراتي له كيف نتوصل إلى قياس فترة من الزمن لا نتجاوز جزاً من خمسة ملايين جزء من الثانية. ولا متسع هنا لشرح التجارب الخاصة بهذا التحديد الدقيق على أن كل هذه الحوادث قصر أم طال مداها تتعين بأمر ثابت لنا هو: دورة الأرض حول الشمس التي نسميها عاماً.

فعندما يقول إنسان لقد مضى على إقامتي بهذه الدار ثلاث سنوات وستة أشهر، فمعنى ذلك أن الأرض في مدارها حول الشمس عادت لمكانها الأول ثلاث مرات، ولا تزال سابحة في دورة رابعة قطعت منها نصف الطريق

ص: 63

كل الكائنات، وكل ما في الحياة، وكل شيء نستطيع أن نحس به أو نراه، يكتنفه أو يشمله هذان البحران: الفراغ والزمن. إذ لا يمكن لخيالنا وحواسنا أن تتخيل أو نستوعب شيئاً كائناً ما كان غير موجود فيهما، فهذه النملة في طريقها على هذه البقعة من الأرض تقطع هذه المسافة في الحيز ويمر عليها الزمن. وهذه الأرض التي تحمل النملة وتحملنا تقطع أيضاً في هذه الفترة جزءاً من طريقها الذي تدور فيه حول الشمس. وهذا الحجر من أحجار الهرم يشغل حيزاً معيناً وقد مضى عليه أكثر من خمسين قرناً وهو في هذا الوضع؛ أعنى أن الأرض قد دارت حول الشمس منذ وضعه أكثر من 5000 دورة، وحول نفسها حوالي المليونين من الدورات، وليس هذا عمر هذا الحجر منذ تكونه، بل هو الفترة التي مرت على وضعه بين الأحجار. أما عمره فمن تكوين الأيوسين وهو عصر جيولوجي بعيد قد ولى منذ 60 مليوناً من السنين

ولو التزمنا جانب الدقة لقلنا إننا نحن والحجر أقدم من ذلك بكثير فإن العناصر التي نشأنا منها ترجع إلى تكون الأرض التي يغلب على الظن أنها انفصلت عن الشمس؛ فكل ما نتكون منه كان موجوداً منذ تلك اللحظة التي لعلها تبعد في الزمن ألفى مليون من السنين، بل كان موجوداً قبل ذلك منذ تكون الشمس، بل قبل تكون السديم الذي نشأت منه الشمس، بل منذ كانت الخليقة. .

هذا هو الحيز حسب الإدراك البدائي والزمن وفق الوضع البسيط. ولكن تصور العلماء لهما قد تغير اليوم

في رواية تناقلها الصحف إبان الضجة التي أثارتها نظرية إينشتاين في النسبية أن ابنه سأله ذات يوم أن يوضح له تلك النظرية؛ فأجابه: إنه لو فرض جدلاً أن كائناً سيسافر بسرعة تقرب من سرعة الضوء واتفق معه مودعه أن يغيب عنه سنة فأنه لا يحق له عند وداعة على المحطة أن يقول له: إلى اللقاء! لأنه عندما يعود المسافر بعد عام يكون قد مر على الذي ينتظره مائتا عام، وبذلك يكون قد ثوى في رمسه منذ نيف ومائة سنة

هذا الوضع الجديد في الزمن والحيز الذي كان الأساس فيه معادلات لورتنز

يختلف عما عهدناه، وسنرجئ الدخول في فهمهما إلى مقال آخر

أما في هذه الأسطر فلدينا مسألة أكثر بساطة تتعلق بالأرض التي تعيش عليها والكون التي

ص: 64

هي جزء منه

لئن كان بين الشموس ما يقرب حجمه من حجم الأرض، فإن أغلبها كبير لدرجة أن ملايين الأرض ممكن أن تدخل في أحدها وتدع مكاناً لملايين غيرها. وليس لنا أن نعجب من هذا، فلو أن قروياً لم يخرج في حياته عن بلدته لظن أن كل ما على الأرض من ماء هو من نوع الجداول والمساقي التي اعتاد أن يراها في حدود موطنه الضيق. وما أشد ما تتملكه الدهشة حين يسافر بالبحر للحجاز مثلاً أو لأوربا فإن هذه البحار التي يعبرها تحوي من الماء ملايين أمثال ما تحويه الجداول التي اعتادها

على أن ملايين الملايين من هذه الشموس تكون عالماً واحداً كعالم المجرة الذي شمسنا إحدى شموسه - ويدلنا العلم اليوم أن ملايين الملايين من العوالم تكون الكون

ينتج من ذلك أن الأرض بقاراتها ومحيطاتها هي بالنسبة للكون كشوكة من أشواك التين بالنسبة لإقليم متسع غرس فيه نبات التين، أو كقطرة من الماء بالنسبة لمجموع البحار

هذا هو مركز الأرض من الضآلة بالنسبة للكون الذي هي جزء منه. على أن هذه الملايين من الملايين النجوم تسبح في مجراها على مسافات شاسعة جداً بين الواحد والآخر بحيث يعد اقتراب واحد من حادثاً نادراً جداً

فالمسافة بين الأرض والشمس التي هي مليون مثل ارتفاع الهرم الأكبر صغيرة جداً بنسبة المسافات بين الشموس التي نتحدث عنها. ويكفي أن نعلم أنه بينما يصلنا الضوء من الشمس في 7 دقائق تقريباً فأنه يصل لنا من أقرب شمس بعد ذلك (الفاسانتور) ويسمونها (قضيب الكرم) في أكثر من أربع سنوات.

ولو أن الشمس على بعدها عنا تمثل مصباحاً في الردهة المجاورة بالمنزل فأن الفاسانتور تمثل مصباحاً في فينا أو طهران

على أن الغالب على الظن أنه أكثر من ألفي مليون سنة اقترب أحد هذه النجوم وهو في طريقه من شمسنا، وكما أن اقتراب القمر يحدث على بحار الأرض ظاهرة المد والجزر أي ارتفاع الماء في جزء الكرة وانخفاضه في الجزء المقابل؛ ويبلغ ارتفاع الماء المد قريباً من الشواطئ المصرية 30 سنتمتراً وفي الجزائر60 س م وفي فرنسا متراً أو أثنين وفي فندي في أمريكا 19 متراً و60 سنتمتراً فقد حدث في جسم الشمس مد كبير جداً يبلغ حجمه

ص: 65

آلاف أمثال حجم الأرض كافة؛ وازداد اقتراب النجم فارتفع المد لدرجة سببت انفصال كتلة من جسم الشمس انقسمت إلى الأجزاء التسعة التي هي السيارات المعروفة وأقمارها وهي التي تدور من ذلك الحين حول أمها الشمس

ولو شخص القارئ ببصره إلى السماء في الليل لاستطاع أن يلحظ الفارق الكبير بين السيارات التسعة التي تكون مع الشمس مجموعتنا الشمسية وبين الشموس الأخرى، فإن ضوء السيارات كضوء القمر يبدو ثابتاً لاكتساب هذا الضوء من الشمس. أما النجوم فهي تتوهج كالشمس، وأثر هذا التوهج واضح على العين

أما السيارات التسعة فمنها ما هو أصغر من الأرض مثل عطارد والزهرة والمريخ وبليتون، ومنها ما هو أكبر منها مثل المشتري وزحل وإيرانوس ونبتون. وحجم الشمس يقرب من مليون وثلث مليون (1. 301. 200)

حجم الأرض بينما حجم عطارد 1005

من الأرض والزهرة 109 والمريخ 10016 والمشتري

1295 وزحل (وهو سيار يمتاز بطوق حوله) 745 مرة

وإيرانوس 63 ونبتون 78؛ أما بليتون فنظن أن حجمه 101

من حجم الأرض ولم يكتشف إلا منذ نحو سبع سنوات

ولكل سيار عدد من الأقمار تابع له يدور حوله، وليس لعطارد والزهرة أقمار. وقد أشرنا في الشكل إلى مواضع الأقمار بعلامة

وللأرض قمر واحد وللمريخ قمران، وكنا نعرف للمشتري تسعة أقمار، وقد كشف المنظار الجديد لمرصد مونت ولسون بأمريكا قمرين جديدين فأصبح عددهما 11، والمعروف لزحل حتى الآن تسعة أقمار ولإيرانوس أربعة ولنبتون قمر واحد

أما بليتون فلم يشاهد له حتى الآن أقمار.

وفي الشكل الأول تمثل الدائرة الكبرى الشمس وفيها دوائر صغيرة تمثل حجوم السيارات التسعة بالنسبة للشمس وترى مرتبة في داخلها بترتيب بعدها عن الشمس فأبعدها هو سيار

ص: 66

بليتون إذ هو يتم دورانه حول الشمس في 252 سنة

هذه هي المجموعة التي تنتمي إليها الأرض التي تحملنا

وما شمسنا كما قدمنا إلا إحدى ملايين الشموس من نهر المجرة الذي هو عالم واحد من ملايين الملايين العوالم التي تكون الكون. ويمثل الشكل الثاني أحد هذه العوالم، وفي هذه الصورة نرى صورة ضوئية لأحد هذه العوالم وهو عالم تبدو مجموع شموسه للناظر في شكل الحلزون، ويغلب على الظن أن هذا الشكل الحلزوني لا يوجد في واقع الأمر على هذا النحو، وإنما هي ظاهرة خاصة بالعوالم البعيدة. فلو افترضنا أن في ذلك العالم البعيد كائناً ينظر إلى عالم المجرة (عالمنا) لرأى جماع شموسه في هذه الصورة الحلزونية.

وسنتكلم في المقال الآتي عن الفكرة في منشأ الحياة على أحد هذه الكويكبات وهي الأرض وعلى احتمال نشوئها كذلك على غيرها من السيارات، ونحاول على قدر الاستطاعة أن نفسر الحياة ونرى هل هي ظاهرة كغيرها من الظواهر الطبيعية مثل الإشعاع المادي والمغناطيسية أم هي أمر آخر

وقد وجدنا من الأيسر قبل أن نطرق باب الحياة ولا سيما فيما يتعلق بالإنسان أن نبدأ اليوم بوصف البيت الذي يعيش فيه قبل أن نصف صاحب الدار. وموعدنا المقال القادم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ص: 67

‌رسالة الفن

الفن الأمريكي

النحت والتصوير

للدكتور أحمد موسى

أما النحت فلا يرجع لأكثر من القرن الثامن عشر. على أن ما هو جديد بالفحص والدرس منه لا يعود إلا إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ لأن ما تم عمله منذ تلك الفترة يمكن اعتباره مقياساً صادقاً لمدى ما وصل إليه النحت الأمريكي

وأول من يمكن ذكره من رجال الفن في (الدنيا الجديدة) رجلان هما باورز نالا في بلدهما درجة من التقدير. وقد سافرا مبكرين إلى روما للمشاهدة والمعرفة، والتقيا هناك بكل من كانوفا وثوروالدسين المعاصرين لهما واللذين كانا من رجال النحت المعروفين. فشاهدا في روما واقتبسا الكثير مما فيها ومن رجال الفن الذين لم يتلقوا على مدرس أو أستاذ مع هذا أنتجوا إنتاجاً يستحق الاعتبار كرافورد وأراسموس يالمر

وكان المسلك الذي سار عليه باورز متأثراً بفن (عصر النهضة) الإيطالي والفرنسي، ولكنه مع هذا انتمى إلى مذهب الفن الواقعي الذي تجلى في منحوتاته للأشخاص بطريقة قوية دلت على المقدرة والثقة بالنفس، فجمع بين الأناقة في الإخراج، وبين القوة التي تمكن بها من إبراز الشخصية

وبالرغم من أن الاتجاه السياسي في أمريكا كان أميل إلى إظهار الروح الوطنية عند بعض الأفراد؛ فإن فن النحت كإنتاج عالم لم يخف أثر الاقتباس الأوربي الذي إليه يرجع الأصل في خلقه

ولا يمكن أن نسجل هنا مع الإعجاب خلقاً فنياً في مجال النحت إلا لمثّالين محدثين نسبياً إلى من ذكرناهم. وأول هؤلاء الذي نأتي له هنا بصورة من إحدى تماثيله الرائعة (ش. 1). ألا وهو التمثال البرونزي لتسجيل شخصية لينكولن، فترى الرجولة والقوة والاحترام متمثلة كلها في التمثال أنظر إليه وتأمل الكيفية التي وقف بها لينكولن، وبساطة المظهر الذي ارتسم على ملابسه، ثم شاهد الموضع الأنيق للذراع اليسرى والكيفية التي بها أمسكت

ص: 68

اليد المعطف. هذا إلى الجانب التكوين للرأس والنظرة الثاقبة التي تجلت على العينين. ولا أبدع من تلك الوقفة حيث ترى القدم اليسرى تخطو إلى الأمام؛ أما المقعد خلف التمثال فهذا وإن خرج عما نألفه الآن، إلا أنه طابع مميز ومسجل للاقتباس كما ذكرنا وثاني نحات جدير بالذكر هو وثالثهم ماكنايل. الذي نحت ما يعبر به عن عادات الهنود الحمر من (رقص الأفاعي) و (تمجيد الشمس)

وغير هؤلاء هربت أدمز الذي وضع تصميم البناء التذكاري في أوبرن، ودانيل شيستر فرنش صاحب تمثال ميلمور وتمثال المهندس المعماري هنت في نيويورك، وله أساليب خلابة في الكيفية التي أخرج بها منحوتاته التي نذكر منها تماثيل واردوبارتردج والجنرال جرانت في بروكلين

ولابد من أن نذكر على الخصوص النحات بويل ودونج الذي يعطينا التمثال (ش - 2) فكرة عنه. أنظر إلى سفوكليس، وقد بدا نحيلاً كما ينبغي لمن وصف نفسه بالجمال والشباب، وتأمل امتداد الذراعين وجمال حركة اليدين إلى جانب الرأس

ومن بين النحاتين الأمريكيين من أظهر في صدق وقوة مقدار تأثره بفن أجنبي. وخير مثل لذلك الفنان ستوري الذي عمل تمثال (أورشليم الحزينة)، وإذا نظرت إليه (ش - 3) رأيت أن التكوين الكلي للجسم والطريقة التي جلست بها (أورشليم) والتفاصيل التي تبين ثنايا الملبس كلها إيطالية.

أما الوجه وما أرتسم عليه من كآبة فقد عبّر خير تعبير عن الحزن واليأس والاستسلام وهو ما يتمشى مع المقصود من وضع التمثال. وكان كل من روجز في نفس الاتجاه متأثراً بالفن الإيطالي

أما من تأثر بالفن الألماني فكان كل من راينهارات وإيزيكيل وكايزر، هذا عدا الفنانين الألمانيين أصلاً والذين اتخذوا أمريكا وطناً ثانياً لهم، أمثال كارل بيتر وإيزيدور كونتي ويوهان جيلبرت

سار كل هؤلاء في طريقهم تحت لواء الفن الواقعي المنتمي قليلاً حيناً وكثيراً حيناً آخر إلى فن (عصر النهضة) الإيطالية والفرنسية وقد ظهر بعدئذ فن جديد في الأفق الأمريكي لا يخالف في مظهره العالم (الفن الحديث) من حيث الرغبة في التبسيط والابتعاد تدريجياً عن

ص: 69

الضوابط والمقاييس الفنية

وهذا لا يستغرب إذا تذكرنا أن العلاقة بين العمارة والنحت والتصوير موجودة دائماً، وأن البيئة التي يتأثر بها البناء هي نفسها التي تؤثر في النحت وفي التصوير

على أننا لا نريد أن نتناول اتجاهات (الفن الحديث) أو الفن المعاصر في أمريكا بالدرس والنقد لأننا قد وعدنا القارئ بمقال خاص عنه نكتبه في فرصة أخرى

أما في التصوير فإن الأثر الأوربي ظاهر أيضاً وواضح إلى حد لا يحتاج للبراهين، فقد ارتبط فن التصوير في أول أمره ارتباطاً وثيقاً بالفن الإنجليزي، وتقدم على هذا الأساس تقدماً باهراً، فما كاد ينتهي القرن الثامن عشر إلا وقد ظهر مصوران عظيمان، أولهما وست الذي سجل موت الجنرال وولف في موقعه كوبيك تسجيلاً رائعاً. أنظر إلى المجموع الإنشائي للصورة (ش - 4) وفكر في الكيفية التي استطاع بها الفنان إظهار هذه المجموعة من الوجوه الناظرة إلى الجنرال المحتضر، وكلها تعتبر عن الأسى والحزن والجزع، ولاحظ العدد الهائل من الجنود الذي يبدو كأنه ظل في مؤخر الصورة، وتأمل إلى جانب ذلك حركة الأيدي والروعة التي تجلت في الإخراج

وثانيهما جون اشتغل كالأول أيضاً بتسجيل المناظر التاريخية والوطنية وغيرهما جلبرت ستوارت ولورينج إليوت الذي اشتهر بتصوير المناظر الشخصية!

وهكذا استمر أثر المدرسة الإنجليزية في فن التصوير الأمريكي حتى النصف الأول من قرن التاسع عشر، وبعدئذ ظهر اتجاه جديد بظهور الفنان أظهر أثر مدرسة دوزلدورف الألمانية - في الصورة (ش - 5) واشنجطون واقفاً في وسط قارب صغير ازدحم برجاله، منهم من حمل العلم الأمريكي ومنهم من اشتغل بالتجديف في ماء مملوء بالثلوج. وليس هذا المنظر مما يستهان بتصويره، فهو محتاج إلى مقدرة عظيمة ودراسة عميقة لقانون الحركة الجسمانية إلى جانب صعوبة التلوين لإبراز تفاصيل الثلج والماء المتجمد

وأعقبه الفنان اشتغل بتصوير المناظر الطبيعية التي وقعت تحت نظره. وظهر أثر المدرسة الفرنسية في أمريكا بعد انقضاء الستين أو السبعين سنة الأولى من القرن التاسع عشر، ذلك بالرغم من تأسيس جمعية الفنانين في أول يونيو سنة 1877 وإنشاء أكاديميات على نمط ما هو موجود في أوربا. وهذا يدل على أن الفن الأمريكي كان أوربيّاً

ص: 70

في الأصل ولم يجد منهلاً صافياً يستقى منه إلا فيها

واشتغل فريق من رجال الفن بتصوير الحيوان وعلى رأسهم وبور كما اشتعل فريق آخر بتصوير المناظر الطبيعية وحدها، وأهم هؤلاء توماس وبيتر موران الذي صور لوحته الرائعة (مزاج الغروب) (ش 6 (والتي أظهر فيها انعكاس أشعة الشمس الذهبية على صفحة الماء.

وغيرهم من هو جدير بالذكر مثل وهارت وجاي. عدا من كانوا في الدرجة الثانية مما لا يتسع المجال لذكرهم

وكان الفنان شاز من الذين أجادوا تصوير الأشخاص وتسجيل المناظر الشعبية، وكنا نود أن نأتي بأكثر من صورة لإنتاجه. ولعلنا بالنظر إلى (ش - 7) نتمكن من الوقوف على جانب من مقدرته، فقد صور الشيطان يفرغ الخمر في كاس وعلى شفتيه ابتسامة السخرية وتخصص هنري كون المناظر التاريخية كما تفرغ هومر للمناظر الشعبية البحتة التي اتصل بها واندمج فيها وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن.

وظهر جماعة من الذين انتقلوا بخيالهم المحلي إلى خيال أوسع مدى، فمنهم من نقل صورة الحياة كما هي دون تعريج على المثل العليا، ومنهم من رسم مناظر رآها في بلاد انطبعت صورتها في مخيلته، ومنهم فريق أكثر من الأسفار، وسجل كل ما شاهدته عيناه.

ولعنا نرى في (ش 8) التي صورها بردجمان خير دليل على انتقال الخيال، لا إلى (الدنيا القديمة) بل إلى الشرق! سمى هذه الصورة (على باب الحريم) فصور مدخلاً تعلوه (مشربية) لبيت على الطراز العربي واهتم بإبراز الزخرفة والنقش كما حرص على تصوير امرأتين إلى يسار الباب، وقد جلست كل منهما تعرض ما تريد بيعه، وأمام المدخل سيدتان جاءت أحدهما على ما يظهر في الصورة راكبة حماراً وقف بالقرب منهما وبجانبه صاحبه. والمجموع إنشائي رائع لا يستطيع تصويره إلا المتمكن.

وترى على اليسار شجرة اللبخ الكبيرة وقد وقعت ظلالها على حائط البيت، وجلس إلى اليسار بعض الصبية أمام شباك الكتاب).

هذا ولا يفوتنا أن نذكر مورلروبيرس وويكس ممن ينتمون إلى المدرسة الباريسية في أوائل القرن العشرين.

ص: 71

أما بعد الحرب العظمى فقد سرت موجة جديدة غيرت معالم الفن القديم، سيكون الحديث عنها ضمن مقالنا الخاص بالفن الحديث.

احمد موسى

ص: 72

‌الأستاذ محمد عبد الوهاب

من الوجهة الفنية

لم يخدم (الحظ) في دنيا الموسيقيين أحد كما خدم عبد الوهاب، ولم

يتطوع الزمن في ركاب كما تطوع في ركابه حتى أبدله نعمى بيؤس،

ويسراً بعسر. . .!

هو من صدور (الملحنين) في الشرق، ولكنه سيد المطربين فيه. بز القدماء بقديمة، وعز على قرنائه بجديده وتجديده.

سما بالموسيقى سمواً كبيراً حتى جعل منها شيئاً محترماً، وارتفع بمنزلة (المطرب) ارتفاعاً عظيماً حتى أصبح العظماء يتوددون إليه بعد أن كانوا يحسبونه مهرجاً لا أكثر. . .!!

صوت رخيم جميل، ولعله أسلم أصوات مطربينا وأقدرهم على التطريب الحق الذي يأسر النفس، ويملك الحس. لا نستطيع أن نقول عنه إنه غني (بتريولاته) ولكننا نستطيع أن نقول إنه غني بالطاعة لصاحبه، والخضوع لكل أوامره ونواهيه

يبلغ أربعة عشر مقاماً (أوكتافين)، خمس مقامات (تينور) ثقيل، وتسعة مقامات (بريتون) تقريباً كلها سليمة قوية واضحة لامعة

لا يرتجل، ومع كل ذلك فهو (يشتغل)! ويشتغل شغلاً عجيباً يدر عليه الآلاف المؤلفة. والسر في هذا أنه لا يؤمن بالتصرف ولا بالارتجال، ولا يغني إلا بعد أن يكون قد لحن الكلام وجربه أكثر من عشرين مرة مع رجال تخته. فإذا طلبت منه (مقطوعة) له قديمة غناها كما سجلها دون تصرف أو خروج كالأسطوانات تماماً. . .!

يحب فنه أكثر مما يحب نفسه؛ ولذلك لا تعجب حينما تعرف أنه لا يرى بأساً من مواصلة ليلة بنهاره ونهاره بليله ملحناً وعازفاً دون أن يراعي صحته الضعيفة! درس (الصولفيج) دراسة طويلة، وهذا ما أفاد صوته كثيراً، ولكنه مع هذا لم يستطع أن يسجل لنفسه لحناً واحداً (بالنوتة) بل يستعين في ذلك بالأستاذين جميل عويس، وعزيز صادق

هو أول من أدخل على التخت العربي آلات الكونترباس. . . الفيولانسيل. . إلاكورديون الكاستنيت. . المثلث النحاسي. . النقرزان. . .

ص: 73

له مدرسة واسعة تضم أغلب الشرق مطبوعة بطابعه، ملونة بلونه، لا تحب إلا إياه ولا تستسيغ إنتاجاً إلا إنتاجه وكفاه فخراً أنه (متبوع) أبداً فلا يكاد يخرج شيئاً جديداً حتى ترى بعض الملحنين الذين يتعقبونه ويترسمون خطاه قد حاكوه وقلدوه. فالموسيقى العربية لم تكن تعرف أو لم تكن تعترف بالرومبا، والتانجو، والكاريوكا. فلم يكد يمصرها يخضعها للذوق الشرقي حتى تهافت عليها غيره كالذباب عدداً وهم يحسبون أنهم ملحنون مجددون كعبد الوهاب

تدين له الموسيقى بالشيء الكثير؛ فهو وإن كان لم يخلق كبتهوفن، ومونسارت، وفجنر، وهندل، ودي لاسو (مثلاً) إلا أنه جدد، وجمع من هنا وهناك بذوق سام حتى خلع على الموسيقى إهاباً قشيباً متيناً! أصبح الآن (مقلاً) لدوجة تبعث على النقد؛ وهو يحتج بتفرغه للسينما ولكننا لا نعفيه من اللوم، فالمال لا يدوم، وإن دام فالسمعة وحب الشعب والمجد والشهرة، كل هذه الأشياء لا يغذيها إلا العمل، والعمل المتواصل الذي يمدها بالحياة.

سن للمطربين سنة (الطراوة والاسترخاء، والدموع) فقلما يغني شيئاً حماسياً أو وصفيا، بل أغلب أغانيه غزلية فحسب فإذا سألته السبب قال: إن الشعب لا يحب ولا يشجع إلا هذا اللون، وما درى أنه وحده الذي يقع عليه أغلب هذا الوزر. المعروف أن المغني الحق هو الذي يقع لا يعرف إلا فنه، وفنه فقط ولكن عبد الوهاب أراد أن يخالف هذه النظرية فعرف الفن وغير الفن، وتأثر بميول ضد ميول وقد عرف عنه ذلك ومع ذلك كل فهو يصر على لونه. . .

إن الفن موطنه السماء؛ ومن في السماء فوق الجميع وللجميع. فمن ترك فنه وسماءه ليعيش فوق الأرض جرفه التيار الذي لا يرحم

محمد السيد المويلحي

ص: 74

‌القصص

من مآسي التاريخ

مصرع الدون كارلوس

للأديب محمد محمد مصطفى

قال الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه (تاريخ المؤامرات السياسية)

(. . . ما أفاضت سيرة من سير القصور في القرن السادس عشر على دولة الخيال والشعر قدر ما أفاضت سيرة الدون كارلوس، وما تبعت قصة إلى النفس من روعة وكآبة قدر ما تبعث أساطير هذه القصة العجيبة

وأي سيرة أدعي للروعة والوحشة من سيرة ملك يقضي بالموت على ولده لمؤامرة قيل إنه دبرها لقتله. ثم يذهب في بطشه إلى حد تنفيذ هذا الحكم

هذا ما يحفظ التاريخ من سيرة فيليب الثاني ملك أسبانيا وولده الدون كارلوس)

فوجئ الأمير بتحية صدرت إليه من خلفه، فاتجه ببصره إلى مصدر الصوت فرأى صديقه الأمين الكونت (أجمونت). . . فقل اضطرابه قليلاً وسأل الكونت:

- أتبعك جواسيس الملك الليلة يا كونت؟

فابتسم هذا في خبث وأجاب:

- أبداً يا مولاي، فقد ألحت صورة الخمر على أعينهم فرنق بها الكرى فدلفت إلى جناحك من الباب الخلفي بعد أن تخطيت الأهوال في اجتياز الحدود سراً. . .

- أبخير أتيت؟

- فأجاب والابتسامة لا تفارق شفتيه:

- بكل خير

- ثم أخرج الكونت منة ثنايا ثوبه ورقة نشرها أمام ولي العهد، وجعل يمر عليها بإصبعه هامساً للأمير:

- بين شعاف هذه الجبال يا مولاي ستمكن قواتي، فإذا ما جن الليل انضمت إليها قوات أمير أورانج تتبعها قوات الكونت هورن. وعلى سموك اجتياز الحدود سراً مساء منتصف

ص: 75

مايو القادم لتعودوا على رأس هذه الجيوش إلى أسبانيا لتثل بها عرش هذا الشيخ الذي لم يتورع الليلة عن الزواج بطفلة في سن حفيدته

- وحمل الدون كارلوس آماله وأحلامه، ومضى بها إلى حديقة القصر الملكي يرسل بين الحين والحين صفيراً خافتاً حتى عثر بين الخمائل على دوحة استذرى بها حتى لا يناله برد الليل إن غلبه النوم تحتها

وتسربت خيوط الفجر من ثوب الليل، ولما يغمض لعروس الملك جفن، وتشعر الفتاة لرؤية عريسها الشيخ الذي يغط إلى جانبها بهم يجثم على روحها، فتتسلل مارقة إلى حديقة القصر الملكي، وتسير بين رياضه على غير هدى. . .

سارت بين الخمائل تناجي النجوم وقلبها الغض يخفق في عالم مجهول. ثم أفلتت منها صرخة خافتة إذ رأت أمامها شاباً كأنما قد تثاءبت عنه الأرض

- ترى بعثت روعة هذا الفجر في نفسك الاكتئاب أيها الشاب؟

- وي. . . من أنت. . . ومن أي فردوس فررت يا فتاة؟

فيشرق الابتسام على ثغر الفتاة وتقول للشاب الماثل أمامها في سذاجة الطفولة ومرحها:

- الملكة. . . ومن أنت؟ فيقف الدون كارلوس في تؤدة ويشخص ببصره إلى الصبية يعبث الهواء بشفوف نومها فيبرز الصغيران، ويظهر تقاسيم وجهها الفتان، ويتمتم الشاب في خفوت:

- عروس أبي. . . أقصد الملك. . . وإلى أين؟

- إلى الفجر وسحره

ويأسى الأمير لهذا الجمال الذي سيذوق في ظل والده الشيخ ويدرك من حديثها نقاء سريرتها فيدرج بها على العشب النضير هْوناً. . . يتسامران فتجرده من قلبه ولبه، ويأخذها بشبابه وحبه، ويبدو لها وجه الشيخ بلحيته المرسلة كأنه شيطان مريد، وتنظر إلى ولي عهده فتدخل من عينيه الجميلتين إلى جنة الحب، ويخفق له قلبها الغض المتعطش إلى الغرام. . .

وفي غفلة من الدهر كانا يختلسان اللقاء على الربى وبين الخمائل، فهي لا تعرف السعادة إلا في قلب الفتى الحبيب، وهو قد تدله بها فلا يعدل بقبلاتها المسكرة ما في بطون الأرض

ص: 76

وعلى سطحها من أذخار وكنوز. . .

وينظر الملك إلى طول لبثها في الحديقة فيرتاب ويحوطها بعيونه فتنتقل إليه الأخبار. . .

وعلى إحدى الربى وقف الملك مستتراً يرى العاشقين الصغيرين وكيف ينهلان السعادة ويستمتع إلى وسوسة قبلاتهما الناعمة فيحرق الأرم ويستجمع ما تبخر من صبره ويولي عنهما هامساً بينه وبين نفسه:

- ليكن هذا بينهما لقاء الوداع ويتأوه من أعماق نفسه ويهتف:

أما وقد بليت أيضاً بحبها فستعيش هذه الفتاة لأن قلبي يريد لها الحياة. . . أما هذا الوغد. . . وهدد بقبضته في الهواء ومضى لسبيله في طريق القصر

وراح ولي العهد يستعرض أصدقاءه ليختار من بينهم من يمده بخيل يرحل عليها خفية إلى الحدود، فيقع اختياره على مدير البريد. . .

ويشفق مدير البريد أن ينكشف أمره فتناله يد الملك، فينقل إليه رغبة الأمير. . .

ويأمر الملك بالقبض على ولده وإيداعه السجن، فتضبط أسلحته ونقوده وأوراقه التي دلت على مشروع محاولة استيلائه على الأراضي السفلى ودحر الملك ثم الجلوس على عرش أسبانيا. فأبلغ الملك الحادث إلى الجهات الكبرى وانتدب محكمة عليا برياسته المحاكمة ولده

كان سجن الأمير غراماً على نفس الملكة فطوت جوانحها على حرق حبه، وأضحت ذاهلة وانية ترى القصر كأنه قطعة من الجحيم، وعزفت عن الطعام حتى رق جلدها وشحب لونها ولقد تتحامل على نفسها التطوف بمجالس غرامها وأعشاش حبها تدب في رفق كأنما قد حطمت قواها السنون، فإذا جلست في مكان ضمهما يوماً خيل إليها أنه إلى جانبها يضمها ويحنو عليها فتخشى أن يكون ذلك وهماً فتتحسسه بيديها فلا تقع على شيء فتقف فزعة وتحوم حول نفسها وتسقط صارخة:

- يا كارل. . .

فتردد جوانب القصر صيحتها:

- يا كارل. . .

وكان صفاء عينيها الجميلتين وتدلهما ينمان عما تكابده من حر الحب وبالغ الوجد

وينظر الملك إليها فيراها متلفة آيسة وقد أطفأ الحزن بريق عينيها فين هدم لها قلبه انهداما

ص: 77

ويسألها عن سر وجومها واكتئابها فتنفجر باكية وتجثو عند قدميه.

ويعلم الملك أنه الحب فيستضحك حتى تبدو نواجذه ويمسك بيديها الصغيرتين لينهضها فتأبى إلا أن يسمع لشكاتها. . .

- خير. أأستنزل لك من السماء نجما تقرين به عيناً يا طفلتي الحبيبة؟

- أتقسم على طاعتي فيما أرجوه منك.

- لك هذا.

- أن تطلق سراح ولدك.

- فأربد وجه الملك وعبست أساريره وأشاح عنها قائلاً:

- أشغفك حباً ذلك الولد الغر؟

- حباً ملك عليّ نفسي

- فلم لا تدفعين هذا الحب عن قلبك وهو لم يزل بعد وليداً؟

- إنه ولد عاتياً قوياً

- فلن أفرج عنه إذاً أبداً. وسأجعل من جسده للطيور طعاماً شهياً. . .

ويظلم الفضاء في نظر المسكينة وتقول وما تملك نفسها:

- فإذا ما قلت لك إني سأقضي على نفسي وأحملك وزري إن مسته بسوء؟

ففكر الملك ثم فكر. . . وفتقت له أفكاره حيلة

فدنا منها وقد زال أثر العبوس من وجهه قائلاً:

- إنني لم آمر بسجنه يا صغيرتي إلا لدفع بغيه عني، ولئن أطلقته ختر بميثاقه وأعاد المؤامرة بعد أن قتلتها في مهدها

- سيفيد من درسك هذا له عبرة

- أفتجعلين من ذمتك عهداً ألا يعيد الكرة؟

فأبكاها فرط السرور لقرب انتصارها ومدت إليه يدها باسمة

- هذا عهد فرقت لها نفس الشيخ وقال:

- إني أعدك بالحكم ببراءته

- فهزتها نشوة الفرح وطوقت عنقه قائلة:

ص: 78

- هل قلت إنك ستبرئه؟

فطرب الملك لعناق فتاته وأعاد القول باسماً: لك هذا

وفي هدأة الفجر تسللت عروس الليل على أطراف قدميها وقلبها يخفق ويدها عليه. . . حتى إذا ما اجتازت الباب السري ركبت عربة كانت تنتظرها خارج القصر وانطلقت بها في مسارب الوادي لتنقلها خفية إلى سجن الحبيب

وما اقتربت الملكة من باب السجن حتى تخلى عنه حراسة، فطوقت سلالم القبو أربعاً أربعاً. . .

وألفت حبيبها الموموق مكباً على نضد عتيق وقد سقط رأسه الجميل على صدره تتناوبه فورات اليأس والحمى؛ فلما رأى الملكة انتعشت نفسه وصاح: إيزا

- كارل

وألقت نفسها بين أحضانه وأهوت بقبلاتها على فمه وشعر الدون كارلوس بأنه في حاجة إلى الحياة عن ذي قبل وأحس أن قوة هرقل قد حلت فيه وأن قوى العالم لن تستطيع إفلاتها من بين يديه ولو تكالبت عليه جميعاً وكان بعضهم لبعض ظهيراً

ولم يخف افترار ثغرة عن عين طفلة الحبيبة ما رسمه الأسى على وجهه وما يلاقيه في غياهب سجنه. فانتشرت نفسها عليه رقة ورحمة وأرسلت من عينيها عبرات حرارا. . .

قال الدون كارلوس:

- لم البكاء يا إيزا وهو يتلف عينيك؟

- ومن أحرى منى بطول البكاء؟

- أنا. . . لهول ما أفكر فيك ولفرط ما عاث الحب في قلبي وأماتني حياً لبعدك بينا يحيا هذا العجوز الحيزبون بين أعطافك ناعماً بجمالك مخفرجاً في ظلك؟

ففاظت عيناها بالدمع فحبس عبراته وكبت عاطفته، ولم تشأ أن تخبره بوعد الملك لها بتبرئته لعدم ثقتها بتنفيذ هذا الود وخشية أن يظن الدون كارلوس أنها خدعته إذا ما حنث الملك بوعده حتى إذا أشرقت غرة الصبح انتزعت نفسها من بين أحضانه وعادت إلى القصر تتأوه قلبها المعذب المفؤود

سيق الأمير إلى قاعة المحاكمة وقد بدا على وجهه الساهم علائم العناء.

ص: 79

فلما رآه الملك عبس في وجهه وبسر. وأخذت عينا الملكة الجميلتان ترسلان الدمع مدرارا فتنضو عن صدرها الجميل ثوبها لتخفيه فيه وتقدم الدون كارلوس تنوء قدماه بحمل جسمه الواني حتى انتهى إلى مقعد أعدله فجلس عليه وأخذ يردد الطرف بين الملك حيناً وأعضاء المحكمة أحياناً فيرى على وجوههم مسحة الجد والاهتمام.

وقطع الملك رهبة السكون حيث أمر بابتداء المحاكمة فوقف المدعي (البرنس إيفولي) وألقى بياناً مسهباً عن محاولة الدون كارلوس الاعتداء على الذات الملكية بوضعه مشروعاً لاغتيال أبيه ومحاولته انتزاع الأراضي السفلى، واختتم بيانه بطلب إعدامه فتحرك الملك في مقعده قليلاً وقال بصوت هادئ:

- ألديك ما تقوله يا كارلوس؟

فنهض الدون كارلوس متثاقلا وقال بثبات:

إنني لا آنس في وجه أحدكم رأفته ولا رحمة، وكلكم كشقي مقص الفناء، كل يتمم للأخر مهمة القضاء عليّ؛ بيد أنني أود أن أتلقى حكم إعدامي من شفتين غير شفتيك، فهل لي أن أرجو المحكمة أن تنطق مليكتي بهذا الحكم؟

فرد المدعي قائلاً:

- ولكن الملك رأس الدولة ورئيس المحكمة فهتف الدون كارلوس:

- والملكة جسم الدولة فهل تعيش رأس بلا جسم؟ فاشتد غضب الملك وموجدته على ولده وتهامس قليلاً مع الأعضاء، ثم اعتدل في جلسته ونطق بالحكم

ودوى حكم إعدامه في أذن الملكة كهزيم الرعد فاستهولته وهبت عجلانة إلى الدون كارلوس فاحتضنته وأخذت ترسل من عينيها إلى الملك شرراً كالقصر وهتفت صاخبة:

- ألا أيها العجوز الحانث بوعده. . لن تناله بأذى حتى تمر على جثتي. . . فلتأت أنت وحرسك وجندك فإني لكم وصمت الملك قليلاً ثم قال:

- انظروا كيف تدافع الملكة عن عشيقها الفاجر. . . وأشار إلى جنوده فانتزعوه منها حتى إذا بلغوا به السجن ألقوه فيه في انتظار تنفيذ الحكم

وانصرف أعضاء المحاكمة تاركين الملك والملكة وحدهما فجثت إيزا تحت قدميه جثو الراهب في محرابه وأخذت تستعطفه في ذلة وانكسار أن يرد على ولده حياته وأن يقف

ص: 80

تنفيذ إعدامه وأعطته موثقاً ألا تلتقي به بعد اليوم إن أجاب سؤلها ولكنها كانت تستدر القطر من الصخر، وتبذر الحب في المهمة القفر. . .

وشدد الملك الرقابة على السجين حتى لا تلقاه الملكة فتدبر لفراره أو تحاول إنقاذه. فتبدلت في عينيها وضاق أمام نظرها فضاء الأرض التي لم تتسع على رحبها لحبيين فعزفت عن الطعام وتساقطت نفسها حسرات عليه

وأومأ الملك إلى طبيب القصر أن ينفذ بنفسه الحكم على أن يبقى شرف الأمير مصوناً وانخلع قلب الملكة لسماعها نبأ إعدامه بجرعة سم دسها إليه الطبيب، فعصفت برأسها نوبة جنون جرت على أثرها حافية القدمين إلى السجن. . . ومنعها حارس الباب فبكت إليه وتوسلت فقال الحارس إن أوامر الملك مشددة. . . فهوت بشفتيها الرقيقتين الناعمتين على قدمي الحارس الموحلتين فتركها تمر وقال:

ليفعل بي الملك ما يشاء

ووجدت جثة الحبيب مسجاة على فراش خشن فأخذت رأسه الجميل بين يديها وشخصت ببصرها إليه فكان في غفوته الأبدية كطائر الأفنان؛ وسكنت حتى لقد خيل لمن رآها أن روحها قد تسللت من جسدها تاركة وجهها على هذه الصورة الجامدة

واختلط عقل الفتاة المسكينة فكانت لا ترى إلا في الطريق لقبره ذاهبة أو عائدة، وأرقت فلم تعد تنام إلا لماما

وهاجها الوجد إليه فجر ذات يوم فقامت إلى قبره بفأس تريد اقتحامه وأخذت تحطم رخامه وتكتشف عنه التراب حتى إذا انفتحت لها فيه فجوة أدخلت فيها يديها ورأسها وأخذت تعالج غطاء ناووسه حتى رفعته فانهال عليها حجر كبير فسقط رأسها الجميل على صدر حبيبها ولفظت آخر أنفاسها.

محمد محمد مصطفى

ص: 81

‌البريد الأدبي

انتهاء الدورة السادسة لمجمع فؤاد الملكي

عقد مجمع فؤاد الأول اللغة العربية في الأسبوع الماضي آخر جلسة من جلساته في هذه الدورة (وعددها 25) وعقد في المساء جلسته أكمل فيها بعض الدراسات التي يضطلع بها

وشهد الجلسة الختامية الأعضاء جميعاً، عدا أربعة منهم، هم حسن حسني عبد الوهاب باشا، وقد اعتذر من عدم حضور الدورة كلها، والأستاذ أحمد احمد العوامري بك، والدكتور فيشر بسبب تغيبهما لمرضهما، والأستاذ جب إذ سافر إلى وطنه إنجلترا منذ أسبوع

وقد أتم المجمع في دورته السادسة طائفة كبيرة من المصطلحات العلمية قاربت الألف

فأنجز في علوم الأحياء زهاء 250 مصطلحاً، وفي علوم الطبيعة

نوع الحرارة زهاء 200 مصطلح، وفي الموسيقى حوالي 250 مصطلحاً، وفي علم الهندسة نحو 200 مصطلح

وأرجأ إلى الدورة القادمة قسماً كبيراً من المصطلحات في شتى العلوم وفي الاقتصاد السياسي. وستضم المسائل المؤجلة إلى ما تضعه لجان المجمع في الفترة القائمة بين الدورتين الحاضرة والقادمة

أما المصطلحات العسكرية فكان المجمع قد كتب إلى وزارة (الدفاع الوطني) يطلب إليها أن توافيه بما قامت به في شأن المصطلحات العسكرية التي سبق أن وضعتها اللجنة المختصة، غير أنه لم يتلق رد الوزارة حتى الآن. وستنتظر اللجان المختصة هذا الرد لتعد بمساعدة الخبير الحربي المختص ما يمكن وضعه منها تمهيداً لعرضها على المجمع في الدورة المقبلة

ويرى كثير من حضرات الأعضاء ضرورة الأشراف على وضع المصطلحات العسكرية في صيغ عربية صحيحة، استكمالاً لظاهر الاستقلال القومي، وحرصاً على استخدام لغة الدولة

المصطلحات الطبية

كان من أهم الدراسات التي قام بها المؤتمر الطبي العربي، موضوع المصطلحات الطبية في اللغة العربية. وقد رأس الجلسة التي دار فيها بحث هذه المسألة حضرة صاحب العزة

ص: 82

محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف. وقام بأعمال سكرتيريتها صاحب العزة للدكتور عبد الواحد الوكيل بك

وقد أدلى الدكتور الوكيل بك عن الجهود التي قامت بها الجمعية الطبية المصرية في هذا الشأن، إلى أن انتهت بالقرار الذي اتخذه مؤتمر بغداد وهو أن تتصل الحكومة المصرية بجميع البلاد العربية لتأليف لجان البحث المصطلحات والقواميس والمجموعات اللغوية الطبية الموجودة في كل منها، على أن تؤلف لجنة عليا، وتجتمع، في مصر شهراً أو أكثر من كل سنة لاختيار أوفق تلك المصطلحات، بحيث تكون قراراتها ملزمة للجامعات والكليات والمؤلفين والأساتذة في التدريس

وقد ذكر سعادة الدكتور على إبراهيم باشا في هذا المقام قراراً أصدره مجلس كلية عقدت قبيل العيد يتضمن إدخال اللغة العربية بالفعل لتدريس بعض الفروع على أن تكون الإجابة باللغة العربية إجبارية عن الأسئلة التي تلقي في الامتحانات في موضوعات الطب الشرعي والقوانين واللوائح الصحية المصرية. كما قرر المجلس تكليف الأساتذة المصريين بكلية الطب تلقين الطلاب التقارير الطبية باللغة العربية في أثناء تدريسهم العلوم التي تقدم ذكرها باللغة الأجنبية وأشار سعادة الرئيس في هذه الجلسة إلى جهد وزارة المعارف في صدد تعزيز صلات الثقافة والعلم بين مصر والبلدان الشرقية، وأنه قد أنشئت لجنة لهذا الموضوع مضت في طريقها شوطاً بعيداً وقد قرر المؤتمر في هذا الموضوع التوصية بإبلاغ قرارات لجنة المصطلحات إلى مجمع (فؤاد الأول) للغة العربية حتى لا تتعارض أعماله مع قرارات المؤتمر

مدينة في مسقط لا يعرف العالم عنها شيئاً

وصلت البعثة الجيولوجية التابعة لشركة النفط العراقية إلى البصرة وبدأت أعمالها في الأراضي الواقعة في جبل سنام ويقوم مدير البعثة بتعين المواقع المراد حفر الآبار فيها

وقد صرح المدير انه قبل وصوله البصرة، قام بجولة جوية في سلطنة مسقط، اكتشف في أثنائها مدينة آهلة بالسكان ولا يعرف أهل هذه المدينة شيئاً عن العالم كما لا يعرف العالم عنهم شيئاً. وقد ظهر للبعثة التي ارتادت تلك المنطقة للبحث عن النفط أن جبل الأخضر المعروف في مسقط لم يكن سوى كثبان رملية كانت السبب الأول في جهل هذه المدينة

ص: 83

واعتقاد الناس بأنه جبل حقيقي تنتهي عنده أطراف تلك البلاد من سلطنة مسقط

معرض المثالين الفرنسيين المعاصرين والمثال مختار

دعت جمعية محبي الفنون الجميلة بعد ظهر الجمعة الماضي رجال الصحافة والفن إلى زيارة معرض المثالين الفرنسيين المعاصريين والمثال مختار بعد أن انتهت من تنسيقه وأعدته للافتتاح. فلما اكتمل عقدهم في الساعة الرابعة والنصف ألقى عليهم المسيو جورج جراب أمين متحف رودان في باريس كلمة استهلها بالإشادة بذكر مصر مهد الحضارة والفنون ولا سيما فن النحت، ثم تكلم عن الفنانين الفرنسيين أصحاب التحف المعروضة

وقد اشتمل هذا المعرض على حوالي 140 قطعة تعد من آيات النحت في العالم منها 28 تحفة للمثال العظيم رودان (1840 - 1917) الذي يعد بحق في مصاف فيدياس نحات اليونان العظيم وميكائيل انجلو الفنان الإيطالي الشهير في عصر النهضة بأوربا

أما بقية القطع فهي لتلاميذ رودان مثل بورديل وديسبيو ومايول وبومبون وديجا الذين يؤلفون مدرسة النحت الحديثة في فرنسا وهى المدرسة التي بلغت أوج العظمة في هذا الفن

وتدل مجموعة تحف رودان على ما امتاز به من مقدرة فائقة على تصوير الحياة في تماثيله، فتسجل للخلود الخواطر المضطربة من عقائد دينية أو حب الوطن أو الحنان الأموي أو لهيب الغرام أو الحقد الدفين أو التفكير العميق وغير ذلك من مظاهر الحياة

وقد نسج تلاميذه على منواله حتى كاد بورديل يضارعه في المقدرة، كما امتاز بومبون بتماثيله عن الحيوان فأودعها من الفن والبراعة كل ما يمكن أن يمثل في الطين والشمع من حياة

وقد رأى المسيو جراب منظم المعرض أن يعبر عن شعوره نحو صديقه مثال مصر المرحوم مختار فخصص جانباً من المعرض لتحف مختار فعرض منها 34 قطعة كانت دليلاً ساطعاً على أن صانعها أول من وفق من النحاتين المصريين المعاصرين للبروز في هذا الفن فكان خير خليفة لأسلافه النحاتين المصريين الذين سموا بفن النحت في عهد الفراعنة إلى ذروة النبوغ

وقد وفق المسيو جراب في عرض تحف مختار مع تحف الأساتذة الفرنسيين الذين أحاطوه بمحبتهم وتقديرهم

ص: 84

وأعد للمعرض دليل واف باللغتين العربية والفرنسية اشتمل على نبذة تاريخية عن تطور فن النحت وبلوغه حدا الكمال في هذا العصر في فرنسا، ويلي ذلك وصف مختصر لكل قطعة من المعروضات

تاريخ كلمة أدب

كتب الدكتور عبد الوهاب عزام بالعدد 291 من الرسالة بحثاً قيماً في (تاريخ كلمة أدب) تتبع فيه مراحل استعمال هذه الكلمة إلى عصرنا هذا، في دقة العالم الباحث وإمتاع الكاتب الأديب. بيد أنه قال في افتتاح البحث لا نجد (كلمة أدب) فيما بين أيدينا من الكلام المأثور عن الجاهلين) الخ. . .

ولما كنت قد رأيت هذه الكلمة في كلام جاهلي فقد رجعت إلى مظانها، فرأيت أبا على القالي في الجزء الثاني من الأمالي (ص 104) يورد قصة زواج أبى سفيان بن حرب من هند بنت عتبة. وصف عتبة لأبنته هند أبا سفيان فجاء في وصفه:(يؤدب أهله ولا يؤدبونه) وجاء في رد هند: (وإني لآخذه بأدب البعل مع لزوم قبتي وقلة تلفتي)

وقد أشار إلى ذلك الأستاذ محمد هاشم عطية في مطلع كتابه (الأدب العربي وتاريخه) في نفس الموضوع وبعنوان (تاريخ كلمة أدب). وللدكتور عزام تحيتي وإجلالي

(ع. ح. خ)

غريب

قرأت في عدد 289 من (الرسالة) مقالاً دبجته براعة الأستاذ عمر الدسوقي وقد أعجبني الشعور النبيل والثورة للكرامة المهانة والدفاع عن القومية المثلومة

وأود أن ألفت النظر الأستاذ إلى الغلطة الكبرى التي وقع فيها. إنه دافع عن نفسه خير دفاع وأبان حقيقة المدنية المصرية إبانة لا ينكرها عليه عاقل، ولكنه حط مقام شعوب لها كرامة تعتز بها وقومية ومدنية حافلة زاهرة، فإنه تبرأ من أن يكون (زنجياً أو هنديا ًأو نوبيا ًأو حبشياً) وذلك ظاهر في كلام الأستاذ الفاضل، إذ يقول: (بل إني مصري، تجري في عروقي أنبل الدماء وحسبك أن تعرف أننا من أرقى الشعوب مدنية وحضارة قديماً وحديثا ًولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين

ص: 85

الازدراء والامتهان وبعدهم دونه في الذكاء والمدنية)

إنني لست في مقام جدال، وفي هذا الموضع لا يمكنني إلا أن أذكر الكاتب الهندي كاراكا وكتابه (إلى الغرب) فإن هذا الشاب عند ما كان يدافع إنما كان يشمل قضية المهضومين كلهم ولا يفرق بين اسود وأدكن وأسمر وقمحي. كلهم سواء استعبدوا واستذلوا ظلماً وعدواناً. وكان الأحرى بأستاذنا أن يحذو حذوه ويدافع عن (قضية الظلم والاستعمار والاستعباد)

لا شك في أن القوم هناك ينظرون إلينا (الملونين) بعين ازدراء والاحتقار ويعتبروننا أقل ذكاء وعقلية منهم، ولكن العلم الحديث برهن على خطل هذه النظرية التي روجها بعض (العلماء التجار) المغرضين كي يجعلوا له حقاً سماوياً منزلاً لاستعباد الشعوب الضعيفة واستعمارها

إن الدافع الذي أملى على الأستاذ كتابة المقال، هو نفسه الذي حفزني لأن أسطر هذه الكلمات التي لا تفي ولكنها تذكرة. إن الحبشي لا يقبل أي إهانة لوطنه، والهندي لن يرضى بطعن في عقليته أو وطنيته. ولا أدري كيف زل قلم الأستاذ هذه الزلة فإن النوبيين قد مصريو الأصل. . . وربما رد الأستاذ هذا القول بقوله إنهم سودانيون. . . وفي هذه الحالة ستزداد دهشتي لأن المعروف لدينا أن مصر والسودان قطر واحد، ولكن السياسة المغرضة جزأته ولعبت فيه ما شاء لها، وأرجو أن يعمل العاملون لرتق هذه الثغرة. والغريب أن كثيراً من فقرات المقال ينافي قوله هذا!

الخرطوم)

(م. ح. ب)

الأندلس الجديدة

لما أخذ الأسبانيون يكتسحون البلاد الأندلسية فلا يدعون في واحدة منها أثراً لما كان فيها للإسلام من سلطان وحضارة اهتزت البلاد الأخرى واضطرب سكانها فارتفعت الأصوات من كل جانب تدعو ملوك المسلمين وأمراءهم لنصرة إخوانهم الأندلسيين. ودفع عادية الأسبان عن بلادهم.

ص: 86

فلما لم تلق الدعوة مجيباً، ولم يتقدم أحد من ملوك المسلمين. منفردا - بنجدة - ولا كان بينهم من الاتحاد واجتماع الكلمة - ما يجعل لهم - مجتمعين، قوة يستطيعون بها للأندلس إنقاذاً - نفذ القضاء وتم للأسبان فيها ما أرادوا.

عم الأسى، وشمل الحزن جميع المسلمين. ففاضت ألسنة شعرائهم وخطبائهم قصائد وخطباً - لا تزال تملأ الكتب وتبعث في النفوس أليم الذكريات - في رثاء الأندلس، والتفجع لمصابها،

أما اليوم فالمسلمون يشاهدون (طرابلس الغرب) تقتطع من بين أقطارهم لتصبح إيطاليا الأفريقية، وتمحي منها آثار العروبة والإسلام لتقوم على أنقاضها صروح الحضارة الرومانية، ويستبدل بإخوانهم فيها عنصر لا يمت إليهم بصلة، ولا يحمل لهم غير البغضاء والطمع فيما يتصل من أوطانهم شرقاً وغرباً بطرابلس الغرب

يشاهدون كل هذا متفرجين، ويقرءون أخباره في الصحف ولكن كما يقرءون أخبار حوادث الشرق الأقصى أو أمريكا الجنوبية، لا يثور فيهم اهتمام ولا يهتز لهم شعور ولا ترتفع بينهم أصوات حتى بالاحتجاج والاستنكار

فهل ينتظرون أن يغمرها الخطب وحينئذ ترتفع أصواتهم ولكن بالرثاء والتفجع والبكاء على الأطلال - أطلال العروبة والإسلام الدارسين - في طرابلس الغرب:

يا طالبي وحدة الأوطان هل طرقت

أبواب آذانكم ذكرى طرابلُس؟

أيصبح العرب (طلياناً) تضهم

(روما) و (مكة) في صمٍّ وفي خرس؟

(غزة)

محمد خلفة شعبان الطرابلسي

ص: 87

‌الكتب

أقلام الناشئين

للأستاذ فليكس فارس

أمامي كتابان نشرهما الشيخ أحمد جمعة الشرباصي، الأول بعنوان (حركة الكشف) صدر منذ سنتين، والثاني بعنوان (محاولة) صدر في هذا الشهر

ولقد رأيت في هذين الكتابين من روعة الإنشاء ودقة الشعور والنضوج المبتسر ما أهاب بي إلى إرسال كلمة فيهما

إن المؤلف يرمي في كتابه الأول إلى إظهار ما في نظام الكشافة من محاسن وفوائد، داعياً إلى تكوين فرق تعمل بهذا النظام من الشبيبة المنتسبة إلى المعاهد الأزهرية، مستنداً في دعوته هذه إلى أن تقويه الناشئة، وتعويدها الصلابة والطاعة وتدريبها على توحيد الحركة والسير نحو هدف واحد في غاياتها الأخلاقية، إنما هي جميعاً من قواعد الإسلام الأساسية. فلا يمكن أن يعد تكوين هذه الفرق في المعاهد الدينية بدعة أو اقتباساً لطريقة تخالف العقيدة، أو تشذ عن التقاليد الموروثة عن السلف الصالح

ومما تجدر الإشارة إليه أن كتاب (حركة الكشف) صدر سنة 1936 حين كان المؤلف في السابعة عشرة من عمره، وقد وقفت فيه متعجباً بل مندهشاً أمام هذا التسلسل في تدوين تاريخ الكشف وتطور أساليبه وأمام هذا المنطق الرصين يقدر الحوادث ويزن أعمال الرجال ويتغلغل في التاريخ ليثبت فضل العرب المهتدين بنور الوحي على نهضة الغرب في تفكيره وتنظيمه

أما في الكتاب الثاني فالمؤلف يذهب في محاولته ذهاب من رسخت عقيدته متعالية عن تردد المحاولين، فيأتي بسلسلة مقالات أولها عن الصديق الصدوق يجيء فيها على وصف إخلاص أبي بكر الصديق للرسول الكريم سارداً ما حدث للأول مع عمر فيرسم أروع صورة شهدها التاريخ للوفاء والإقرار بالخطأ وإنصاف سيد المنصفين. ثم يدبج مقالاً بعنوان (محمد عبدة، النابغة الذي عاش في وطنه غريباً) فتقع بصيرة القارئ في هذا الفصل على الصورة الخالدة التي ستحل للأمام الكبير في روع الجيل الآتي بعدنا فترى هذا الجيل أشد إنصافاً منا نحن أبناء حقبة الانتقال وأوسع إدراكاً لعظمة أبطال النهضة وأعمق

ص: 88

تأثراً مما لاقوا في زمانهم من أذية واضطهاد

ويكتب الأزهري الناشئ قطعة (أمام المحراب) بشعر منثور فإذا هي صرخة نفس تتجه إلى خالقها بإيمان يختلج له القلب ويتنبأ لرجال اليوم بتفوق رجال الغد عليهم في إدراك عظمة العبادة ومبادئ الدين الحق

وتقرأ بعد هذه الصلاة مقالاً بعنوان (نزعة الإجرام) يقف فيه الفتى المعمم - وهو لما يبلغ العشرين من سنيه - وقفة الشيخ الحكيم ينفذ بنظراته إلى ما وراء القانون المدني من وازع في الشرع والأخلاق يجتث الإجرام من أصوله

وهكذا يسير الفتى الناضج فيكلمك عن غدر الصديق وعن أيام قضاها في رأس البر يرجع منها يعبر عن الصيانة ومكارم الأخلاق وعن أمل المحبين في مناجاة للقمر، كلها وصف دقيق وشعور رقيق، وعن إصلاح الصحافة فيعرض لها في منازعها وأحزابها وفي قوتها وضعفها. ويصور لك الفراش الدائر بالمصباح وخيانة ابنة ساطرون لأبيها في سبيل عشقها لعدوه كسرى سابور بقصة من أروع وقائع التاريخ، ثم يورد أسطورة الأميرة ليستغل منها عبرة التعاون بين الناس، وينشدك بعد ذلك قصيدة عامرة يهيب فيها بالشباب للدفاع عن الوطن ثم يرسل نجواه إلى لليل فيريك كيف يتجلى النضوج في روح الشباب إذ هو اتخذ الدجنة مركضاً للتفكير لا ستراً للمعاصي وارتكاب الموبقات، ويوجه بعد ذلك خطاباً للمرشدات تدلك على احترام فتى مصر لفتاته ورفعه لمقامها إلى حيث أراد الشارع الأعظم، ثم يعطف على زهرة القبور يناجيها فتى شاعراً وشيخاً مؤمناً، فلا تدري أيسمعك هذا الهاتف قصيدة أم ابتهالاً. ولا يفوت الشيخ الفتى أن يعقد فصلاً عن شهر الصيام يتجلى فيه الزهد والعزم قوة واحدة تجاه الحياة

وأخيراً يعرض عليك قصة عربية عن الحب اتخذ الأندلس مسرحاً لها ليعرض للحب الأسمى وللشهوة الدنيئة بتحليل رائع، ويتبع هذه القصة بأخرى عن سرعة الخاطر عند العرب وبأسطورة عن السعادة ويختم الكتاب برواية مسرحية للأطفال.

إن العبقرية العربية تنتبه في هذا الجيل الذي يتقدم ليحل محلنا على الذروة نحن النازلين منها إلى الأغوار.

لقد ولدت أقلامنا أقلاماً خيراً منها، وما كان بيننا من يكتب بين الخامسة عشرة والعشرين

ص: 89

ما تكتبه الناشئة في نضوجها المبتسر في هذه الأيام. فليعطف شيوخ الدب على هؤلاء الأحفاد. إن أقلامنا ستبعث في أقلامهم، وصوتنا سيدوي في أصواتهم حين تتحطم أقلامنا ويخرس الموت أصواتنا.

فليكس فارس

ص: 90

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية

ما هي الوسائل لإصلاح المسرح

هل من عقاب أشد وقعاً على النفس من تركك شخصاً وشأنه في المجتمع لا يأبه له أحد ولا يلفت إليه ملتفت خصوصاً إذا كان له خطرة الأدبي والاجتماعي؟

هكذا ترك الأدباء الفرقة القومية وانصرفوا عنها لا يلتفتون إليها فلولا كتابة مأجورة تنشرها الفرقة في بعض الصحف الأسبوعية، ولولا إعلانات عن أربع أو خمس روايات تمثل في الفصل، لكانت هذه الفرقة التي استنفذت من مال الأمة ستين ألفاً من الجنيهات أشبه بحلم يتبخر في اليقظة، أو بعابر سبيل لا يلتفت إليه أحد

ولما كانت غايتنا المحافظة على هذه المؤسسة الثقافية، واستنهاض بقايا الهمة الباقية في القائمين عليها، عمدنا أولاً للتنبيه إلى الغرض الخبيث الذي ترمي إليه إدارة الفرقة من إغضاب النقاد واستغلال انصراف الصحافة وصدوف الأدباء عنها ليقبع رجالها الأفاضل كالتماسيح المبشومة يهضمون الغنيمة على مهل، وثانياً إلى استفتاء أدبائنا أصحاب الدراية في فن الرواية والمسرح فيما يحب عمله لإنقاذ هذه المؤسسة العزيزة على الأدباء

بدأنا بسؤال كبار الأدباء كالعقاد والمازني وغيرهما، ولهؤلاء الأساتذة الإجلاء رأي مجمل نرجئه إلى ما بعد، ثم سألنا الأستاذ زكي طليمات عن وسائل إصلاح المسرح، وللأستاذ طليمات دراية نظرية وعملية لا ينكرها عليه سوى المتعنت صاحب الغرض، فأجاب:

يتكون المسرح من ثلاثة عناصر: رواية، وممثل، وجمهور فإذا نشدنا الإصلاح للمسرح وجب أن نقوم بإصلاح هذه العناصر الثلاثة، بعد أن نتبين ما هي عليه الآن، وما كانت عليه بالأمس وما يجب أن تكون عليه في المستقبل

الرواية: أقامت وزارة المعارف المصرية لتأليف المسرحية المصرية بقصد ترقيتها ورفع شأن التمثيل، فكان أن حظي المسرح ببعض روايات جيدة، إلا أنها لم تسم بكثير عما كان شائعاً إخراجه على المسارح ولم تسفر عن المخرج الحق المرجو الذي بيده وضع طابع أصيل للمسرحية، والذي يرجى منه خلق مدرسة جديدة في التأليف، وعليه فإني أعتقد أن إقامة المباريات وسيلة تكميلية أهم منها حث الفرق العاملة على إخراج أكثر عدد من

ص: 91

المسرحيات المصرية، وذلك بتنشيط الأفلام، وحفز النابهين من المؤلفين على الإكثار من نتاجهم، لأن المؤلف إذا لم يجد سوقاً لرواياته تولاه اليأس وأمسك عن الكتابة. وأرى من واجب الفرقة أن تضطلع بمهمة تقديم المسرحيات المصرية قبل أي مهمة أخرى، فإذا انحرفت عن ذلك فإنها لا تحقق الغرض من قيامها، ولذاك أشير لترقية المسرحية المصرية أن تعمل وزارة المعارف على ترجمة نفائس الروايات المسرحية الغربية ترجمة أنموذجيه وإذاعتها بين المتأدبين، وذلك لأحياء ثقافة للمسرح نحن في أشد الحاجة إليها بحكم أننا نفتقر إلى هذه الثقافة في الأدب العربي القديم والأدب العربي المستحدث.

الممثل: فن التمثيل عامة حديث في مصر، دخيل في الأدب العربي، لم نعرفه باللسان العربي إلا منذ ثمانين عاماً. جاء مصر فيما جاءها ضمن موجة الثقافة الغربية التي طلع علينا بها البحر الأبيض في النصف الأخير من القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين ونحن نباشر فن التمثيل على طريقة ارتجالية، وإن شئت قل بدائية، أعني أنها لا تقوم على قاعدة ولا ترتكز على أساس. وفن التمثيل، أي فن الأداء كسائر الفنون الشكلية مثل النحت والتصوير وغيرهما، له قواعد وأصول يجري تدريسهما في معاهد خاصة تخرج الممثلين الحاذقين بعد أن يكونوا قد أحسنوا تعرف هذه الأصول والقواعد. وإذا قلت إنه واجب على الممثل أن يتلقى أصول فنه في معهد، فهذا لا يحجزني عن الاعتراف بأن هناك طبائع غنية بمواهبها، خصبة بإحساساتها، هي في غنى عن الصقل والتهذيب في معهد أو مدرسة، إلا أن الطبيعة ضنينة بخلق هذا النفر العزيز الذي يطلع على الدنيا وهو يحمل في روحه الطبع القوي، والذوق الصافي، والحساسية اليقظة، والصوت الجهير، واللفظ الفصيح، ولإيقاع المحكم؛ وهذه هي أهم المصادر التي يصدر عنها الممثل الحق مثل هذا من الشواذ - والشاذ لا قاعدة له - وعليه فإنشاء معهد للتمثيل هو الوسيلة الفعالة ذات الأثر في تكوين نشء جديد من الممثلين يجمعون إلى فيض الموهبة الطبيعية، حذق التعليم، وصقل التهذيب وثقافة الفن

الأكثرية الغالبة من محترفي التمثيل في مصر يقومون بعملهم على إيحاء الفطرة وهدى التجارب وما يستقر في أذهانهم مما يشاهدونه من آثار الفن الغربي أو على الشاشة البيضاء

ص: 92

ومن هؤلاء طائفة احترفت فن التمثيل، لا عن عقيدة وموهبة وإنما عن حاجة، فهم عمال خصتهم الطبيعة بشيء من الموهبة الصادقة فإن ضعف التحصيل العلمي، وافتقار الثقافة الفنية، يجعلان هذا القدر من الموهبة لا يرفع صاحبه إلى الممثل الموهوب المفتن الذي يترجم بأدائه أعمال مؤلفين نبهاء ويسمو بفكره إلى حياة سامية مثل حياة شكسبير مثلاً أو موليير أو أبسن وغيرهم

أما عنصر الممثلات فاقل شاناً من عنصر الممثلين ولا سيما في الناحية الثقافية والعلمية. ويؤلمني أن أقرر أن بيننا ممثلات لا يحسن القراءة، فإذا قرأن يتعثرن، وإذا كتبن فليأتين بأغرب النقوش وأعجب الخطوط

بعد هذا أرى أنه لزاماً على المهتمين بترقية المسرح أن يعملوا على إنشاء معهد للتمثيل في معناه الكامل وفوق هذا أرى أن ترسل بعوث إلى الخارج من خريجي هذا المعهد، لا أن ترسل بعوث من أفراد كل مؤهلاتهم صلة قرابة أو محسوبية

الجمهور: الجمهور في مصر خليط عجيب، فيهم من يعيش بعقلية القرون الوسطى أو ما قبله، ومنهم من يعيش بعقلية عصر النهضة، ومنهم من يعيش بعقلية عام 1939 ولكل فريق منزع خاص وذوق خاص، وهذا أمر لا نجده في الجمهور الأوربي، فمهمة إرضاء هذه الجماهير عن طريق المسرح صعبة وعرة.

هناك نظريتان يأخذ بهما العاملون في المسرح، الأولى الارتقاء بالجمهور إلى آفاق الأدب الرفيع، والثانية مجاراة الجمهور في مرغوبة وممالأته فيما يريد من تملق عواطفه. حاول بعض أصحاب الفرق الأهلية أن يأخذوا بالنظرية الأولى فلم يوفقوا إلى الكسب الوافر فانحدروا إلى الجمهور، كما اخذ البعض الآخر في بدء اشتغاله في المسرح بالنظرية الثانية وما زال أرجوحة بين الفشل والنجاح

وسبب ذلك فيما أرى اختلاف المستوى العلمي والفكري، والجمهور المصري حديث العهد في المسرح ليست له فيه ثقافة أو تقاليد، يؤم دورة بغية التسلية لا ارتجاء الغذاء الفكري أو العاطفي. فواجب مصلح المسرح أن يعمل تدريجياً على إيجاد جمهور يحسّ التمثيل ويتذوقه.

- هل قامت الفرقة القومية بواجبها في إيجاد الجمهور والرواية والممثل؟

ص: 93

- الفرقة القومية ما برحت تتطوع وتتهادى في عملها، ولم تستقم لها بعد طريقة خاصة أو سياسة مقصودة وذلك بحكم أنها مؤسسة جديدة تقوم بمهمة إذاعة فن جديد في مصر، ولا ادري ما الذي يمنعها من أن تستخلص لها خطة بعد التجاريب التي أفادتها في السنوات الأربع التي مضت على تأسيسها.

المال لا يعزها، ومعينها في عطف وزارة المعارف واسع المدى، فهي بذلك تعمل في ظروف جيدة لم يسبق لفرقة مصرية أن عملت فيها.

فمن حيث فن التمثيل لم تقدم الفرقة جديداً، لأن المشتغلين فيها عملوا على المسرح سنوات عديدة، والبعوث التي بعثت بها إلى الخارج لم تعد بعد. فلا ندري ما عسى أن تلقاه في هذه الناحية من توفيق ونجاح. وشأن فن الإخراج كشأن فن التمثيل

ومن حيث الرواية فإنها لم تقدم كاتباً يأبه له، وعملها في المسرحيات المترجمة يطغي على حرصها على تنشيط المؤلفين المصريين وتجيعهم. وهنا موضع العجب، ففي الوقت الذي يقول فيه أحد أعضاء لجنة قراءة الروايات:(إن الفكر الروائي المسرحي آخذ في التقدم إلى الكمال بل إلى الكمال السريع) نرى أن نتاج هذا الفكر ضئيل يتنافى مع ما يقرره أعضاء اللجنة فلا ندري هل الجنة أخطأت في تقديرها؟ أم إن مدير الفرقة لا يؤمن بما تؤمن به اللجنة، وأنه لا يحب الرواية المصرية لوجه الشيطان. . .!

أما من حيث الجمهور فقد أخفقت الفرقة إخفاقاً تاماً في اجتذاب أي طبقة من طبقات الجمهور في مصر، ولو اقتصر معينها المادي على إيرادها من جيوب الجمهور لما استطاعت أن تصمد شهراً واحداً

ابن عساكر

ص: 94