الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 293
- بتاريخ: 13 - 02 - 1939
يا أذن الحي اسمعي!
أوشكت هذه الصفحة أن تحترق لطول ما أنَّ عليها الفقر وزفر فيها الشقاء، وأغنياؤنا - أحياهم الله - لا يسمعون لأن آذانهم مبطنة بالذهب الأصم، ولا يشعرون لأن قلوبهم مغلفة بالورق المالي الصفيق؛ وبال الخليّ أطول من ليل الشجيّ، وسمع الناعم أثقل من همّ الشقى، ودنيا اللذة أشغل بمباهجها وملاهيها عن دنيا الألم!
لعل من القارئين من يختلج في رأسه هذا السؤال:
لماذا يمتد نفَسي بهذا الأنين الموجع، ويستمد قلمي من هذا الدمع القانىء؟ وجوابي أني نشأت في قرية من أولئك القرى العشرين التي سلط القدر عليها الباشا والأمير؛ فانشق بصري على مناظر البؤس، وتنبَّه شعوري على مآسي الجور؛ وعلمت حين تعلمت أن وطننا يفيض بالخير، وديننا يأمر بالإحسان، فأيقنت أن فقر الناس، ناشئ من فقر الإحساس؛ فإذا عرف الفقير حقه، والغني واجبه، تلاقت الأنفس على حدود الإنسانية الكريمة، فأنا أحاول بمواصلة هذا الأنين أن أعالج وقْر المسامع وسدَر العيون وخدَر المشاعر، عسى أن يتذكر المترفون أن لهم اخوة من خلق الله يأكلون ما تعاف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء مالا يقاسيه حيٌّ في غير مصر. ولكني علمت وا حسرتاه بعد شهرين مضيا في الشكوى والاسترحام، أن بين أبناء الذهب وأبناء التراب أطباقاً من اللحم والشحم، والحديد والأسمنت، ترتد عنها أصوات الضارعين أصداءً خافتة؛ ثم تتجاوب هذه الأصداء في أكواخ المساكين؛ ثم تتهافت على بريد الرسالة تهافت الأرواح الهائمة على الشعاع الهادي تتلمس في ضوئه الطريق إلى الله وائِلِ الضعيف وعائل المعدم!
من لنا بمن يفتح عيون السادرين على هؤلاء الأيامى اللاتي يقضين ليل الشتاء البارد الطويل على بلاط الأفاريز وقد تطرح أطفالهن على جنوبهن طاوين ضاوين لا يفهمون عطف الأب، ولا يعرفون دفء البيت، ولا يدركون إلا أنهم أجساد تعرى ولا تجد الكساء، وبطون تخوى ولا تصيب الغذاء، وأكف تمتد ولا تنال الصدقة؟
من لنا بمن يفتح قلوب المالكين لأولئك الفلاحين الذين اصطلحت عليهم محن الدنيا وبلايا العيش، وجهلتهم الحكومة فلا يعرفهم إلا جباة الضرائب في المالية، وفرازو القرعة في
الحربية، وحراس السجون في الداخلية! أما المعارف والصحة والأوقاف والأشغال فشأنها شأن المترفين والمثقفين لا تعرف غير المدينة ولا تعامل غير المتمدن؟
من لنا بمن يقول لهؤلاء المثرين المستكبرين إن ركفلر ورتشلد لم يرفعهما إلا حب الإنسان، وإن الدمرداش والمنشاوي لم يخلدهما إلا بذل الإحسان، وإن لديهم من فضلات الثروة كربح الأموال في المصارف، ومكافأة النيابة في البرلمان، وحثالة الزروع في العزب من التبن والقش والحطب، ما يوفر الغذاء والدواء والعلم لألوف الألوف من بني الوطن؟
بالأمس كانت ذكرى وفاة المرحوم السيد عبد الرحيم الدمرداش، وهو والمنشاوي وبدراوي سمنود من ملائكة الأرض الذين يرفرفون بأجنحتهم النورانية على شقاء الكثير من الناس. فلماذا لا يقام لهؤلاء الخيِّرين البررة وأمثالهم تماثيل في الميادين العامة، ليتشبه بهم الغني، ويترحم عليهم الفقير، وليكون في رفع ذكراهم على هذا النحو إعلاء لمعنى الإحسان، وإطراء لأريحية المحسن، وتفريق بين من دَلَله الوطن فعقَّ، وبين مَن رباه الوطن فبرَّ، فلا تستوي الحسنة ولا السيئة، ولا ينبغي (أن يكون المحسن والمسيء بمنزلةٍ سواء، فإِن في ذلك تزهيداً للمحسن في إحسانه، وتدريباً للمسيء على إساءته)
احمد حسن الزيات
نقص أم ماذا.
. .؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان معي - وأنا مدرس في مدرسة دار العلوم - أستاذ إنجليزي كانت بيني وبينه صداقة وثيقة. وكنا نعلم الطلبة مبادئ اللغة الإنجليزية، فأقبل علي يوماً يقول:(لقد أخفقت وأحسب أن من واجبي الآن أن أقنع رؤسائي بنقلي إلى مدرسة أخرى، فما في بقائي هنا خير، ولست أدري كيف تصنع أنت، ولكن الذي أدريه أني أنا أخفقت)
فقلت له وأنا أمازحه: (أقعد، أقعد، وحدث (عمك) المازني بما تعاني وتكابد. ما هي الصعوبة اليوم؟)
قال: (سأخبرك. إن كل طالب يسألني مثلاً عن الفعل - يجلس - كيف انقلب فصار - جلس - فلا أستطيع أن أجيب بكلام معقول مقبول يرتاح إليه العقل. هم يريدون سبباً ويطلبون تعليلاً، وأنا لا أعرف إلا أن هاتين صيغتاه في الحالتين. وقس علي هذا)
قلت: (هل تطيعني إذا أشرت عليك بأمر؟)
قال: (أتمزح؟)
قلت: (أمزح. . . أجد. . . سيان. المهم إنقاذك من الورطة. اسمع يا صاحبي. لقد كنت أظن أنك أفدت شيئاً مما تعلمته من قواعد اللغة العربية. وكنت أحسب أن ذهنك مرن، وأن لك قدرة على الاقتباس والقياس. وكنت أتوهم أنك تستطيع أن تخاطب كل فريق من الناس بما يفهمون)
قال: (لست فاهماً)
قلت: (ألم يعلمك شيوخك في اللغة العربية أن (قال) أصلها (قَوَلَ) وأن الواو فُتح ما قبلها فصارت ألفاً؟)
قال: (نعم)
قلت: (هل تستطيع أن تزعم أن هذا كلام معقول مقبول يستريح إليه العقل؟)
قال: (لا)
قلت: (ولكنك سلمت به بلا جدال، وأخذته عن مشايخك بلا مناقشة أو تفكير، وأجبت به في الامتحان بلا تردد، وأنت تزعم اليوم أنك تعرف العربية حق معرفتها، وأنك أخذتها عن
أهلها)
قال: (ولكن ما دخل هذا في موضوعنا؟)
قلت: (كنت أحسبك ذكيّاً ولبيباً، فإن هذا هو حل المشكل. بهذه العقلية التي جعلتك تسلم بإن قال أصلها قَوَل، فُتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، يجب أن تخاطب الطلبة. فاذهب وقل لهم إن أصلها وإن حرف العلة فتح ما قبله فانقلب فسترى أن هذا يسرهم ويكفيهم، وستجد أنك استرحت بعد ذلك من كل عناء)
فصاح بي: (ولكن هذا غير معقول)
قلت: (إنه معقول كقولك إن قال أصلها قَوَل وأن الواو فُتح ما قبلها إلى آخر هذا الهراء. ولا تحتقر تلاميذك حين تراهم يصدقون أن أصلها وأن حرف العلة فُتح ما قبله إلى آخر هذا الهراء، أو حين يتوهمون أنهم فهموا. فلست خَيراً منهم، وما أكثر ما يتوهم الإنسان أنه فاهم، وهو غير فاهم شيئاً. اذهب وافعل ما أشير به وأخبرني بالنتيجة، وإن كنت أعرفها من الآن كلها. لن تقول لي بعد الآن إنك أخفقت، وإنك ستطلب من الوزارة النقل إلى مدرسة أخرى)
وقد كان، وسكنت الثورتان: ثورة الطلبة على المدرس، وثورة المدرس على نفسه.
وهذا استطراد بدأت به، أما ما كان العزم أن أقوله فهو أن هذا الصديق المدرس سألني يوماً وقد علم أني رُزقت طفلاً:(حدثني عنه. صف لي كيف تحبه!)
قلت: (لا أعلم أني أحبه)
قال: (لا تتكلف الفلسفة)
قلت: (الحقيقة أني حائر، لا أشعر بأية عاطفة، ولا أحس أن لي به سروراً كذلك الذي أسمع وأقرأ أن الأدباء يحسونه بنيهم؛ وإني لمستغرب)
قال: (أتتكلم جاداً؟)
قلت: (إني جاد جداً. وثق أني حائر)
قال: (لعل العاطفة راقدة، وعسى أن تكون محتاجة إلى ما يوقضها وينبهها)
قلت: (عسى)
وانتقلنا إلى حديث آخر، ومضت الأيام وماتت البنت - فقد كانت بنتاً - فلم أرني حزنت
أو جزعت، ولم يكن هذا كافياً لتنبيه عاطفة الأبوة التي قال لي صاحبي أن أكبر ظنه أنها راقدة. ولي الآن من البنين ثلاثة، وقد استطعت أن أوحي إلى نفسي حب بنتي التي ماتت، وحب أخرى جاءت وذهبت مثلها، وحب البنات على العموم دون البنين، أو أكثر من البنين، ولكني أدرك أن هذا فعل الإيحاء لا فعل الطبيعة، وأعرف من نفسي أني لا أعرف لبنيّ مثل ما يعرف الآباء غيري. نعم أشفق عليهم وأعني بهم، ولكني لا أشعر لهم بتلك الرقة التي أسمع بها. ويخيل إلي أن العادة هي منشأ ما أحسه لهم، وأني أرحمهم لأنهم صغار ضعاف، وأعني بهم لأني جئت بهم فأنا مسئول عنهم. وكثيراً ما أضجر وأمل، وأسأل نفسي متى يكبرون ويستغنون عني، فأحط عن كاهلي عبئهم، وأرتاح منهم، وأعيش وحدي مستقلاً عنهم؛ وأرحل وأغيب، فلا أحن إليهم إلا حنة المرء لعشيره وصديقه، ولمألوفه.
وكان لي أخ أسن مني، وكنت أوقر سنه، ولكني لم أكن أشعر له باحترام أو حب، كالذي يكون بين الأخوين عادة. ولم أبكه لما مات، وإنما سخطت على ضعفه الذي قتله، فقد كانت امرأته تركبه كالحمار، وكان يشكو لي هذا، فأضجر، وأقول له:(ما الفائدة؟ إنك ضعيف، وهي تركبك، ولا أمل فيك ولا خير في الشكوى، فاحتمل على قدر طاقتك، فما خلقك الله لغير هذا)
فيقول: (نعم، صدقت. يجب أن أحتمل) فأنهض من مجلسه مشمئزاً، وإن كنت فيما عدا ذلك أستظرفه وأستخف ظله، وأحب فكاهته، ولكن ضعفه كان يهيج نفسي عليه، وقد مرضت جدتنا فلم يعدها لأن امرأته أبت عليه ذلك، فلما ماتت جاء ليمشي في جنازتها، فأبيت عليه ذلك وقلت له:(كان الأولى أن تعودها في حياتها لتسرها على الأقل ولتعفيها من شعور الحسرة، أما الآن فأولى بك أن تذهب إلى بيتك) ففعل.
وانقطع ما بيني وبينه سنوات لم أشتق إليه فيها قط، ثم التقينا اتفاقاً فتصافحنا في صمت ثم نزعت يدي، ومضيت لشأني ومضى في سبيله. وقد قصصت هذا لأصف شعوري الحقيقي.
فهل هذه بلادة؟ أو هي نقص في بعض جوانب النفس؟ أم ذلك لأن عاطفتي الأدبية تستغرق نفسي كلها؟ أم لأن حبي لأمي استنفد ذخيرة النفس من هذا الحب؟ فقد كان حبي
لأمي - وما زال - أقوى ما استولى على نفسي، وكان هو العامل المؤثر في سيرتي، فكنت إذا هممت بأمر أسأل نفسي:(ماذا ترى يكون رأي أمي في هذا؟) فإذا كان الجواب خيراً أقدمت، وإلا صددت نفسي وكبحتها عن مرادها، وصرفتها عما تحاول. أم ترى التعليل الصحيح أن البنين والأخوة والأقرباء على العموم نتيجة المصادفة، ليس إلا؟
لا أدري. وأكبر الظن أن بي نقصاً، فإني فيما عدا حبي لأمي، لم يغلبني حب قط - لا حب امرأة، ولا حب أحد من البنين أو الأقارب. ولست أرى الناس كذلك، وليس من المعقول أن أزعم أن الناس غيري شاذون، وأني أنا وحدي الطبيعي، والأولى والأقرب إلى العقل أن آخذ بمنطق (قراقوش) فأصدق الناس، وأرفض زعم الفرد.
إبراهيم عبد القادر المازني
التاريخ السياسي
النزاع الإيطالي الفرنسي
وموقف المستر تشمبرلين
للدكتور يوسف هيكل
لم تأت سياسة (تهدئة الخواطر) بما كان يتوخاه المستر
تشمبرلين منها. بل إن هذه السياسة أكثرت المشاكل الأوربية
وعقدتها. فنجاح الهر هتلر في ميونخ قاد ألمانيا إلى مهاجمة
بريطانيا والتهكم بها، وجعل الفوهرر يعد العدة لتحقيق
مشروعاته الواسعة في شرق أوربا؛ فعظم الخطر الألماني
وتفاقم. . .
أما إيطاليا فقد ازدادت تدخلاً في أسبانيا وازدادت جرأة وتبجحاً، فقامت تهاجم فرنسا مطالبة إياها بقسم من أملاكها. واشتدت مظاهرات هذه المطالب فتحولت إلى نزاع بين باريس وروما يهدد العالم بحرب ضروس. فما هي المطالب الإيطالية؟ وماذا كان تأثيرها في فرنسا؟ وهل تستند إلى حق صحيح؟ وما هو موقف المستر تشمبرلين منها؟
بينما كانت فرنسا آخذة في تحسين علاقاتها بجاراتها اللاتينية، فعينت سفيراً لها في روما، واعترفت بالإمبراطورية الإيطالية، جابهتها إيطاليا بمطالب جديدة فيها اعتداء على أملاك حكومة باريس، وإهانة للجيش الفرنسي. وللتهرب من مسؤولية ذلك، لم تضع حكومة روما هذه المطالب في قالب رسمي، بل عمدت إلى التمثيل في إسماع حكومة باريس مطالبها. وكان مسرح التمثيل قاعة البرلمان في روما، وكان الممثلون وزير الخارجية وأعضاء مجلس النواب. وموجز المشهد أنه في 30 نوفمبر سنة 1938 ألقى الكونت شيانو وزير خارجية إيطاليا خطاباً سياسياً في مجلس النواب، نوه فيه بـ (مطالب الشعب الإيطالي الطبيعية) وعندما لفظ الوزير هذه الجملة، وقف النواب وقفة رجل واحد صائحين: (نريد
تونس وكورسيكا ونيس). . . وفي الأيام التالية أخذت الجموع الإيطالية تطوف الشوارع مطالبة فرنسا بمطالب نوابها، وقامت الصحافة الإيطالية وهي شبه رسمية تبرر موقف النواب، وتوضح شعور الجماهير الإيطالية المطالبة بحق طبيعي لها في الممتلكات الفرنسية الثلاث السالفة الذكر. ولم تكتف الصحف الإيطالية في بيان ما تدعيه حقاً لإيطاليا، بل أخذت ولا تزال تأخذ في التنديد بفرنسا وانتقادها انتقادات مرة؛ فقابلتها الصحف الفرنسية بالمثل، فنشأ بين البلدين جدل صحفي كان من تأثيره ازدياد توتر العلائق بين روما وباريس. وفي هذه الأثناء لم يرد الطلبة في فرنسا الوقوف موقف المتفرج، بل قرروا الرد على المظاهرات الإيطالية، فقامت جموعهم بمظاهرات في أنحاء المدن الفرنسية هاتفة بهتافات تهكمية منها (صقلية وسردينيا لفرنسا) و (إيطاليا للنجاشى)
كان للمشهد التمثيلي في البرلمان الإيطالي وقع سيئ في الدوائر الفرنسية. وقد اهتمت حكومة باريس به اهتماماً كبيراً، فدعا المسيو بونيه وزير خارجية فرنسا سفير إيطاليا لمقابلته في اليوم التالي للحادث، وقابل المسيو فرانسوا بونيه سفير فرنسا في روما الكونت شيانو في 2 ديسمبر واحتج على حادث مجلس النواب الإيطالي، فنفى الوزير مسؤولية الحادث عن حكومته بقوله (إن الحكومة الإيطالية لا تعد مسؤولة إلا عن مسلكها ومطالبها الرسمية)
لم تكتف الحكومة الفرنسية بهذا الرد، وعولت على أن تبرهن أنها لا تتهاون في مصالحها ولا تسمح بالتفكير في الاعتداء على أملاكها، فردت على مظاهرة البرلمان الإيطالي المدبرة رسمياً، بزيارة المسيو دلادييه لكورسيكا وتونس في 3 يناير سنة 1939، بموكب عسكري، فقوبل فيها بترحاب عظيم. وقد هتف أهل كورسيكا وسكان تونس الفرنسيون بحياة فرنسا، وأظهروا أنهم فرنسيون لا يريدون من جنسيتهم بديلاً. أما أهل تونس العرب فأكدوا - إن كان لا بد من المفاضلة بين فرنسا وإيطاليا - أنهم لا يترددون في التمسك بفرنسا، ولا يقبلون قط الانتقال إلى الحكم الإيطالي. وزيادة على ذلك فقد صرح المسيو دلادييه، والمسيو بونيه داخل البرلمان وخارجه، أن الحكومة الفرنسية لن تتنازل عن شبر واحد من أملاكها.
لم ترتح إيطاليا لزيارة المسيو دلادييه لكورسيكا وتونس، بل رأت فيها اعتداء صريحاً
عليها وسبباً لزيادة توتر العلاقات بين الجارتين. كما إن تأكيد الدوائر المسؤولة في باريس برفض المطالب الإيطالية، أغضب رجالات إيطاليا وصحافتها. فاشتدت في حملتها على فرنسا، وحاولت إثبات عدالة تلك المطالب الطبيعية.
لم تكن نيس وكورسيكا يوماً ما تابعتين لإيطاليا الحديثة، إذ أن نيس ومقاطعة سافوا كانتا من أملاك الدون دي سافوا وجزءاً من مملكة سردينيا. ولما قام الملك فكتور عمانوئيل ووزيره كافور بتوحيد إيطاليا، احتاجا إلى مساعدة فرنسا لهما ففاوضا نابليون الثالث في مساعدتهما على إخراج النمساويين من اللومباردي وفي موافته على توحيد البيمون مع الدول الوسطى. ووعداه مقابل ذلك بالتنازل لفرنسا عن نيس ومقاطعة سافوا. فتم الاتفاق بينهم على ذلك عام 1860. وعندما جرى استفتاء التنازل لفرنسا في 15 أبريل عام 1860، كان 25743 صوتاً محبذين الانتقال و 160 صوتاً فقط ضد التنازل.
أما كورسيكا فقد كانت تابعة لجنوا منذ القرن الخامس عشر حتى عام 1768، الذي فيه باعت جنوا سيادتها على هذه الجزيرة لفرنسا. ومنذ ذلك التاريخ وكورسيكا جزء من فرنسا.
وأما تونس فقد تدخلت فيها الدول الاستعمارية عن طريق قرض الأموال لها. ثم تذرعت هذه الدول كعادتها باضطراب الأحوال المالية والإدارية، ففرضت على تونس عام 1869 رقابة مالية قوامها ممثلون لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وأخذت هذه الدول الثلاث تتنافس وتسعى كل منها بأن يكون لها القسم الأول من التدخل في شؤون تونس ونشر نفوذها عليها. وكانت إيطاليا تأمل في احتلال تونس وجعلها مستعمرة لها. ولما أرادت تنفيذ رغبتها، أبدت ما عزمت عليه لإنكلترا لأخذ موافقتها، فأجاب رئيس وزارتها حينئذ، أن بريطانيا العظمى لا ترى بعين الارتياح ساحل تونس وساحل صقلية في يد حكومة واحدة. ولا تزال بريطانيا تحتفظ بهذه السياسة حتى الآن حفظاً لسلامة طرق المواصلات في البحر الأبيض المتوسط. وكانت فرنسا ترغب فيما كانت ترغب فيه إيطاليا من ضم تونس إليها، فاتفقت مع بريطانيا بأن تترك لها حرية العمل في تونس نظير موافقة فرنسا على ضم إنكلترا جزيرة قبرص.
وفي عام 1881 سارت قوة عسكرية فرنسية إلى داخل تونس بحجة مطاردة بعض القبائل
التي اعتدت على حدود الجزائر، وأخذت تتوغل في البلاد التونسية وتستولي عليها. . . فاضطر (باي) تونس إلى النزول عند رغبة الغزاة، وتوقيع معاهدة (بردو) في 12 مايو 1881 التي بموجبها قبل الحماية الفرنسية.
تأثرت إيطاليا من عمل فرنسا كثيراً، واعتبرته اعتداء على أمانيها وعلى حقوقها الطبيعية، حتى أنها لم تعترف بفتح فرنسا لتونس إلا عام 1896، الذي به تم الاتفاق بين باريس وروما على منح الرعايا الإيطاليين البالغ عددهم حينئذ 55 ، 572 إيطالياً، امتيازات خاصة، يحافظ الإيطاليون بموجبها على جنسيتهم.
وقد تجدد الخلاف بين فرنسا وإيطاليا فيما بعد الحرب العالمية، بسبب الجالية الإيطالية في تونس، تلك الجالية البالغ عددها الآن نحو مائة ألف إيطالي تقريباً، مقابل ما يزيد على مائة وعشرة آلاف فرنسي، عائشين بين مليونين ونصف من العرب. وأخذ هذا الخلاف يتفاقم حتى أن الصحف أخذت تتحدث عام 1931 عن احتمال وقوع حرب إيطالية فرنسية، وظل توتر العلاقات بين الجارتين شديداً حتى 7 يناير 1935، وهو التاريخ الذي تم فيه الاتفاق بين السنيور موسوليني والمسيو لافال على تسوية الخلاف القائم بين الحكومتين.
نالت إيطاليا، بموجب هذا الاتفاق، لرعاياها في تونس امتيازات جديدة. فالإيطاليون الذين يولدون في تونس قبل 28 مارس سنة 1945 يحافظون على جنسيتهم الإيطالية، والذين يولدون بين 1945 و 1965 يحق لهم اختيار الجنسية الفرنسية، وأما الذين يولدون بعد 1965 فيخضعون للقانون العام. وأما المدارس الإيطالية فتحافظ على وضعها الحالي حتى عام 1955، ومن ثم تصبح تحت الرقابة الفرنسية. وفي هذا الاتفاق أيضاً قام المسيو لافال بتنفيذ البند 13 من اتفاق لندن عام 1915، الذي بموجبه تعهدت فرنسا بتعويض إيطاليا ببعض المزايا الاستعمارية نظير دخولها الحرب ضد ألمانيا، وذلك بالتخلي لإيطاليا عن منطقة تبسي البالغة مساحتها 114 ألف كيلو متر مربع في صحراء أفريقيا، وبالتنازل عن جزيرة دوميرا في البحر الأحمر، وعن قسم من الساحل الصومالي الفرنسي المواجه لباب المندب، وعن عدد من أسهم سكة حديد جيبوتي - أديس أبابا. وظن حينئذ أن هذا الاتفاق وضع حداً للخلاف بين الجارتين.
غير أن تطور الحالة الدولية، وطموح إيطاليا إلى سيادة البحر الأبيض المتوسط، أديا
بالسنيور موسوليني إلى تجديد الخلاف مع فرنسا على بساط المطالب الاستعمارية. ولم يكن في الواقع الداعي لهذه المطالب سبباً تاريخياً، أو حرص على تطبيق حق تقرير المصير، وإنما هو سبب حربي.
فلكورسيكا أهمية كبيرة في نظام الدفاع الفرنسي، كما أن بيزرت الواقعة في غربي تونس هي الميناء الحربي الرئيسي للأسطول الفرنسي في شمال أفريقيا. فوضع إيطاليا يدها على كورسيكا يضعف وضعية فرنسا الحربية في البحر الأبيض المتوسط ويزيد في أهمية المواقع الإيطالية الحربية. وأما استيلاء إيطاليا على تونس فمعناه، زيادة على إضعاف فرنسا، تمكنها من وضع رقابتها التامة على القسم الضيق من البحر الواقع بين تونس وصقلية، والذي لا تزيد مسافته بينهما على 90 ميلاً، ولا سيما أن جزيرة بانتلاريا الإيطالية قد حُصنت تحصيناً حربياً عظيماً. وبذلك تتمكن إيطاليا من شطر البحر الأبيض المتوسط إلى شطرين، ومن قطع المواصلات بين قسميه، وفي ذلك ما فيه من الأخطار الفادحة على أملاك فرنسا الآسيوية والأفريقية الشرقية، وعلى الإمبراطورية البريطانية. ومن الغريب أن بعض الصحف الإيطالية لم تخف هذا السبب، إذ قالت: إن إيطاليا لن تتغاضى عن المطالبة بكورسيكا وتونس لأن وجودهما في يد فرنسا خطر عليها. . .
ولكيما يكون لإيطاليا عذر قانوني في تجديد الخلاف مع فرنسا ومطالبتها بمزايا استعمارية جديدة، نقض السنيور موسوليني معاهدة 1935، وذلك بتبليغ الكونت شيانو في 22 ديسمبر المسيو فرانسوا بونسيه أن حكومته لا تعد المعاهدة الفرنسية الإيطالية التي عقدت عام 1935 نافذة، لأنها لا تتفق مع مقتضيات الحالة الحاضرة، ولأن فرنسا لم تنفذها ولم تحافظ على نصوصها أو روحها بل اشتركت في العقوبات الاقتصادية التي وضعتها عصبة الأمم على إيطاليا خلال الحرب الحبشية. على أن فرنسا متمسكة باتفاق 1935 الذي سوى في نظرها كل أسباب الخلاف بينها وبين إيطاليا، بدليل توقيع الحكومة الإيطالية رسمياً عليه في 7 يناير سنة 1935، والتصريحات التي أفضى بها السنيور موسوليني في ليتوريا يوم 18 ديسمبر سنة 1936 وجاء فيها قوله:(إن مشاكل إيطاليا في القارة الأفريقية حلت كلها حلاً نهائياً مشرفاً) وهي تقول إنه إذا كان اتفاق 1935 لا يلائم أحوال إيطاليا الحاضرة، فإن اتفاقات 1896 بشأن الإيطاليين في تونس لم تعد ملائمة للحالة الحاضرة
أيضاً، ولذلك يكون لفرنسا الحق في وضع نظام جديد للرعايا الإيطاليين فيها. أما مسألة العقوبات فمن نكران الجميل التحدث عنها، لأنه لولا ولاء حكومة باريس للاتفاق الذي عقد مع حكومة روما لما تمكن السنيور موسوليني قط من اكتساح الحبشة وإيجاد الإمبراطورية الإيطالية.
أما ما هي المطالب الرسمية الإيطالية فلم تعلنها بعد حكومة روما، وهي تقول إنها ستتقدم بها إلى فرنسا في الوقت المناسب وبالصورة المناسبة. غير أننا نستبعد أن تكون نيس وكورسيكا من ضمن هذه المطالب. وإن ما تطمع فيه إيطاليا على ما يظهر هو الاستيلاء على تونس، أو جعلها منطقة حرة على مثال طنجة والاشتراك في إدارة قناة السويس، والاستيلاء على خط حديد جيبوتي - أديس أبابا، وعلى جيبوتي نفسها أو الاشتراك في استعمال مينائها من غير مقابل.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الصحافة الألمانية، الناطقة بلسان حكومة الريخ بصورة غير رسمية، تؤيد إيطاليا في موقفها. وقد ذكر الهر هتلر موقف بلاده تجاه إيطاليا في خطابه الذي ألقاه في 30 يناير، ومما جاء فيه إنه (إذا كان يراد إثارة حرب تحت أي ستار كان ضد إيطاليا فإن الواجب يدعو ألمانيا إلى الوقوف بجانب صديقتها).
ومما لا شك فيه أن إثارة السنيور موسوليني الخلاف الاستعماري مع فرنسا من جديد، هو نتيجة لاتفاق مونيخ، وأن زعيم إيطاليا ما كان يجرؤ على ذلك لو أن فرنسا في المكانة الدولية التي كانت فيها قبل تضحية تشيكوسلوفاكيا. فالسنيور موسوليني أراد الاستفادة من ضعف فرنسا بسبب انهيار ما كانت تعتمد عليه من نظام التحالف بعد اتفاق مونيخ. ورأى في زيارة المستر تشمبرلين فرصة سانحة لمساعدته على تحقيق ما يريد من فرنسا، لأنه كان يعتقد أن بريطانيا ترى من الحكمة توطيد صداقتها مع إيطاليا بالنصح لفرنسا بإيثار خطة المسالمة على العمل على تبديد روح ميونيخ والقضاء عليها.
ولما كانت إيطاليا تعلم أن لا أمل لها في تحقيق مطالبها من فرنسا عن طريق المفاوضات المباشرة، أرادت أن تنقل خلافها معها إلى مجال المسائل الدولية. وبما أنها متأكدة من مساعدة ألمانيا لها في مطالبها عملت على إقناع بريطانيا بعقد مؤتمر رباعي لبحث هذه المطالب. ولنقل إيطاليا مطالبها إلى مجال المسائل الدولية وجعلها من اختصاص
المؤتمرات الدولية، أعلنت أن اعترافها بالحماية الفرنسية على تونس كان مقيداً باحترام حقوق الإيطاليين في البلاد التونسية. وبما أن فرنسا لم تحترم هذه الحقوق فقد أصبحت إيطاليا في حل من الاعتراف بالحماية الفرنسية. وترى أنه من الواجب على الدول الأخرى ألا تكون مقيدة بهذا الاعتراف. وقامت الصحافة الإيطالية تؤيد هذه النظرية وتمهد الرأي العام الدولي لتحبيذ عقد مؤتمر رباعي حفظاً للسلام، وحرصاً على إيجاد التفاهم بين الدول الأوربية الكبرى. فحملت حينئذ الصحافة الفرنسية على هذه النظرية وأكدت أن مثل هذا المؤتمر لن يعقد لبحث المطالب الإيطالية؛ وإن عقد فلن تشترك فيه فرنسا. وعلى أثر ذلك أخذت الصحافة الإيطالية تلفت النظر إلى أن في نية بريطانيا التوسط لتسوية النزاع الإيطالي الفرنسي. وكان السنيور موسوليني يعلق أهمية كبرى على زيارة المستر تشمبرلين للعاصمة الإيطالية؛ فخشيت الحكومة الفرنسية من أن يتمكن زعيم إيطاليا من الضرب على الوتر الحساس عند رئيس الوزارة البريطانية، ومس نقطة الضعف فيه، فيحمله على التوسط كما حمله الهر هتلر على ذلك في المسألة التشيكوسلوفاكية.
وللحيلولة دون ذلك قابل المسيو كوربان في لندن اللورد هاليفاكس، وأعلمه أن فرنسا ترى أن المطالب الإيطالية من الشؤون التي يجب أن تسوى بينها وبين إيطاليا وحدهما؛ وأن فرنسا لا توافق، وعلاقاتها سيئة مع حكومة روما، على منح إيطاليا شيئاً ما بقناة السويس. وفي 11 يناير يوم وصول المستر تشمبرلن واللورد هاليفاكس باريس في طريقهما إلى روما نشرت جريدة (الطان) الناطقة بلسان وزارة الخارجية الفرنسية أن لا وساطة هناك، لأن فرنسا لن تسمح بأي مناقشة دولية عندما يتعلق الأمر بمصالحها الحيوية ووحدة إمبراطوريتها، وهي لن تشترك في أية مساومة رباعية أو ثلاثية في هذا الموضوع. ومن الأكيد أن بريطانيا تشارك فرنسا في وجهة نظرها، ويستطيع السنيور موسوليني أن يتحقق ذلك بنفسه، إذا رأى فائدة من مفاتحة الوزراء البريطانيين في هذا الصدد.
وقبل أن يزور المستر تشمبرلين روما زار باريس وتحدث مع وزارتها، وفي هذه الزيارة أكد المسيو دلادييه أنه لا يريد التوسط في الخلاف القائم بين روما وباريس. فكان ذلك خيبة للآمال التي كان السنيور موسوليني يعقدها على توسط المستر تشمبرلين، وصدمة للدول التي كانت تعمل على التفريق بين لندن وباريس.
أما محادثات روما فقد فشلت فشلاً تاماً في جميع المسائل التي طرحت على بساط البحث. وكان هذا الفشل نجاحاً باهراً من وجهة نظر بريطانيا وفرنسا، لأن تلك المحادثات لا تعد ناجحة في نظرهما إلا إذا فشلت. وكل ما استفيد من هذه المحادثات هو إدراك إنكلترا أن المستقبل قاتم على رغم إظهار إيطاليا نيات سليمة، وتأكد إيطاليا من متانة التضامن الفرنسي الإنكليزي، وأنه ليس من السهل زعزعته أو الحفر تحته.
وفشل هذه المباحثات جعل جريدة (تلغرافو) ذات العلاقات الوثيقة بالكونت شيانو تصرح بأن (ليس معنى نقض إيطاليا لاتفاق 1935 أنها تريد الحرب، بل معناه أنه يجب البحث عن اتفاق آخر. فالحكومة الفاشية لا تعارض في مباشرة مفاوضات جديدة، ولكن ذلك يعد أمراً متعذراً في الجو الحالي). وذلك الجو لم يصف منذ ذلك الحين بل تلبدت غيومه، فاشتد الجفاء، وتعاظمت حملة صحف الطرفين، مما جعل السنيور جايدا يشير إليها بقوله (إن المدافع ستطلق من تلقاء نفسها) على أن إيطاليا لم تفعل شيئاً لتحسين علاقاتها بفرنسا، بل زادت الحالة خطورة بدعوة فرق من الإيطاليين لحمل السلاح، وبحشد فرق من الجيش الإيطالي في الحبشة قرب حدود الصومال الفرنسي، مما جعل فرنسا ترسل فرقاً وبوارج حربية إلى جيبوتي. ولعل السنيور موسوليني يأمل نيل مطالبه عن طريق التهديد بالحرب، وإرهاب الرأي العام.
فهل ينجح بذلك كما نجح الهر هتلر خلال شهر سبتمبر الفائت؟ هذا ما نشك فيه.
يوسف هيكل
ابن الرومي
الشاعر المصور
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وترى ابن الرومي بالرغم من إطالته في المدح وإكثاره فيه يذم هذه الخطة فيقول:
وإذا أمرءٌ مدح امرأً لنواله
…
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
ويقول للممدوح:
فإن الله أعلى منك جِدّاً
…
ويرضيه من الحمد اليسيرُ
على أن له بالرغم من كل ذلك مقدرة كبيرة على توليد معاني المدح كما في الأبيات التي يقول فيها:
والناس تحت سماء منك مُشْمِسةٍ
…
والناس تحت سماء منك مدرار
فيتتبع هذه المعاني الشائعة ويولد منها معاني أخرى، وله الأبيات التي يقول فيها:
هب الروض لا يثنى على الغيث نشره
…
أمنظرة يُخْفي مآثره الحُسْنى
والتي يقول فيها:
له هيبة لم يكتسبها بكلفة
…
إذا اكتسبت ذاك الوجوهُ العوابس
والتي يقول فيها:
آراؤكم ووجوهُكم وسيوفُكم
…
في الحادثات إذا دَجوْنَ نجوم
والتي يقول فيها:
خِرْقٌ تَعَرَّضَتِ الدنيا له فصبا
…
إلى المكارم منها لا إلى الفتن
له حريم إذا ما الجار حل به
…
أضحى الزمان عليه جد مؤتمن
كأنه جنة الفردوس قد أمنت
…
فيها النفوس من الروعات والحَزَنِ
ولكن أهاجيه بالرغم من ذلك أبرع وأشد أثراً، وهو فيها أكثر ابتداعاً للمعاني والخيالات، وأحياناً يسوق فيها الأخيلة الفكاهية مترادفة ويولد الذم من الذم والهجاء من الهجاء وينتشي بالهجاء ويعربد كل عربدة ويطلق لنفسه العنان كراكب الجواد الذي يطلق العنان لجواده
يعدو ما شاء العدو. ومن شعره المشهور في الهجاء قوله:
ولو يستطيع لتقتيرِهِ
…
تَنفّس من منخر واحد
وقوله:
إن للجد كيمياء إذا ما
…
مسَّ كلباً أَحالهُ إنسانا
وقوله:
فلو لم تكن في صُلبِ آدم نطفة
…
لخر له إبليس أول ساجد
وقوله:
لو كنتمُ صحتي وعافيتي
…
فررتُ من قربكم إلى السِّقمِ
وقوله في هجاء طبيب:
سلَّط الله عليه طبَّهُ
…
وكفاه طبه لا بل كفاني
وقوله:
وأخرق تضرمه نفخةٌ
…
سفاها وتطفئه تفلة
وقوله:
وقال اعذروني إن بخلي جِبلةٌ
…
وإن يدي مخلوقة خلقة القفل
طبيعة بخل أكَدَّتها خليقة
…
تخلَّقتُها خوفَ احتياجي إلى مثلي
وقوله: وقد أبدع واستطرد في وصف صور السعادة التامة وتصويرها تصويراً بارعاً كي يقول: إن سعادة الناس التامة لا تقتضي الشكر عليها ما دام المهجو منهم، فانظر إلى براعة الرسم والتصوير في قوله:
ما كرَّمَ الله بني آدم
…
إذ كان أمسى منهمُ خالد
والله لو أنهمُ خلِّدُوا
…
حتى يبيد الأبد الآبد
وأصبح الدهر حفياً بهم
…
كأنه من بِرِّهِ والد
ولم يكن داءٌ ولا عاهة
…
فالعيش صافٍ شربه بارد
ودامت الدنيا لهم غضة
…
كأنها جارية ناهد
ما كلِّفوا الشكر وقد ضمهم
…
وخالد اللؤم أب واحد
على أن هذا كله أهون ما في شعره من الهجاء، وأسهل تحملاً من فحشه الذي أطلق لنفسه
العنان فيه وخلع الحياء، وأتى بأشد مما جاء به كل الشعراء. فلا الحطيئة ولا الأخطل ولا جرير يدانيه في الهجاء، وهو مع ذلك أحياناً يخلط الهجاء بالحكمة والمثل كما في قوله:
توَقىِّ الداء خيرٌ من تصدِّ
…
لإيسره وإن قرب الطبيب
وكما في الأبيات المشهورة التي يقول فيها:
رأيت الدهر يرفع كل وغد
…
ويخفض كل ذي شِيَم شريفهْ
كمثل البحر يغرق فيه حي
…
ولا ينفكُّ تطفو فيه جِيفهْ
أو الميزان يخفض كل وافٍ
…
ويرفع كل ذي زنةٍ خفيفهْ
فترى أنه مُغْريً دائماً بتتبع الصور وبالتصوير سواء أكان ذلك في مدحه أو ذمه. وتظهر مقدرته على التصوير أعظم ظهور في وصف الأزهار أو الأنهار أو الأشجار أو القفار أو الرياح أو السماء أو السحاب أو الفواكه أو الروائح أو المأكولات، وله في كل هذه الأشياء أشعار كثيرة. أنظر إلى وصفه للنسيم:
وشمائل باردة النسيم
…
تشفي حزازات القلوب الهِيْم
كأنها من جنة النعيم
وقوله في وصف الأرض والمطر:
أصبحت الدنيا تروق من نظرْ
…
بمنظر فيه جلاء للبَصَرْ
أثنت على الأرض بآلاء المطر
…
فالأرض في روض كأفواف الحبر
نَيِّرَةَ النوار زهراء الزَّهَرْ
…
تَبَرَّجَتْ بعد حياء وخَفَرْ
تَبَرُّجَ الأنثى تصدت للذكر
ويقول في غروب الشمس:
كأن خُبوَّ الشمس ثم غروبها
…
وقد جعلت في مجنح الليل تمرض
تخاوُص عينٍ مس أجفانها الكرى
…
يُرَنِّقُ فيها النوم ثم تُغَمِّضُ
ومن بدائعه القصيدة التي يقول فيها (حيتك عنا شمال طاف طائفها) والتي يقول فيها: (ورياضٌ تخَايَلُ الأرض فيها) والتي يصف فيها النرجس والورد في قوله (للنرجس الفضل المبين لأنه) والأخرى التي يصف فيها فواكه أيلول ويقول: إنه لولاها لزهد في الحياة. وله القصيدة البديعة التي يصف فيها غروب الشمس.
وأول وصفها قوله فيها:
وقدر نَّقَت شمس الأصيل ونفَّضت
…
على الأفق الغربيِّ ورسا مذعذعا
وفيها يتخيل أن الشمس تودع النبات ويودعها النبات وكأن كلا منهما يحس لوعة الفراق. ويخيل إلى أنه لو كان نقاشاً لرسم ونقش صورة مملوءة بالحياة كأبدع ما صنع المصورون في معنى هذه القصيدة، ولكن ما أحسب أن مصوراً يأتي بأحسن مما جاء به في الشعر، وله وصف العنب الأبيض الذي يقول فيه:
لم يُبْق منه وَهَجُ الحرور
…
إلا ضياءً في ظروف نور
وله في وصف الخمر:
لطفت فقد كادت تكون مُشاعَةً
…
في الجو مثل شعاعها ونسيمها
وأمثال هذا الوصف كثير في شعره. وهو مصور أيضاً في غزله. أنظر إلى وصفه محاسن النساء في قصيدة (أجنت لك الورد أغصان وكثبان) ووصفه الجمال والغناء في قصيدته الدالية في وحيد المغنية وهي التي يقول فيها: (يا خيلليَّ تَيَّمَتْني وحيد) وكأنما هو فيها يُصورُ الألحان كما يصور الوجوه الحسان. ومن بدائعه في الغزل قوله: (وحديثها السحر الحلال لو انه) وقوله: (لو كنتَ يوم الفراق حاضرنا) وقوله: (لا تكثرنَّ ملامة العشاقِ) وقوله: (وفيك أحسن ما تسمو النفوس له) وقوله: (شفيعك من قلبي شفيعٌ مُشَفَّعُ). وله غزل كله شهوة، وله مجون شنيع، وكان يفتخر بالقدرة الجثمانية على الملذات. وهذا كله لا يليق نشره ولكن له مع ذلك غزلاً وجدانياً رقيقاً، فهو قد جمع الأطراف لأنه كان مرهف الإحساس كما كان مرهف الحواس وتراه يجمع الوجدان والتصوير في قوله في حب الوطن:
بَلدٌ صحبتُ به الشبيبة والصِّبا
…
ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثَّل في الضمير رأيته
…
وعليه أفنان الشباب تميد
فهنا أيضاً نزعة التصوير غالبة عليه في البيت الثاني. وله أشعار أخرى في حب الوطن، ولا غرو فإنه كان يمقت الأسفار. ومن رأيي أن تحسُّرَ ابن الرومي على ذهاب الشباب ليس له مثيل في شعر الشعراء وإن كانوا قد أكثروا في هذا الموضوع. وأحسن قصائده فيه قصيدته التي يقول فيها (كفى بالشيب من ناهٍ مطاعٍ) ومن أبياته فيها، وقد غلبت عليه
النزعة إلى التصوير في هذه الأبيات:
يُذَكِّرُِني الشبابَ جنانُ عدن
…
على جنبات أنهار عِذَابِ
تفيء ظلها نفحات ريح
…
تهز متون أغصان رطاب
إذا مَاسَت ذوائبها تداعت
…
بواكي الطير فيها بانتحاب
يذكرني الشباب وميض برق
…
وسجع حمامة وحنين ناب
وكانت أيكتي لِيَدِ اجتناء
…
فصارت بعده ليد احتطاب
وهو لا يكتفي بما يكتفي به غيره من جعل الحياة بعد الشباب كالموت بل يقول إنها عذاب. وله قصائد أخرى في التحسر على الشباب منها قصيدة (دَابَرَ أوطارَهُ إلى الذِكَر) و (خليليَّ ما بعد الشباب رزية) و (لا تَلْحَ مَنْ يبكي شبيبته) و (أيام استقبل المنظور مبتهجاً) وقوله:
اكتهلتْ همتي فأصبحتُ لا أب
…
هج بالشيء كنتُ أبهج بِهْ
وحَسْبُ من عاش من خلوقتِه
…
خلوقة تعتريه في أَرَبِهْ
وهذا الرجل المنهوم بمحاسن الحياة ولذاتها، المولع بوصف مباهجها وفتنها وأطايبها، له حالات إذا وصف فيها الزهد أتى بالقول المؤثر، كما في قصيدته في وصف الزُّهَّادِ، وهي قد جمعت أيضاً بين التصوير والوجدان، وهي التي يقول فيها:
تَتَجافَى جنوبهم
…
عن وطئ المضاجعِ
ولكن الجمع بين التهافت على الملاذ في وقت من أوقات الحياة وشدة الشعور الديني في وقت آخر أمر مشهود؛ وقد يتردد صاحبهما بينهما مرات عديدة.
وقصائد ابن الرومي في الإخوان والعتاب متنوعة الأغراض والمعاني والأنغام والصور. وأشهرها قصيدة: (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء) وفيها يتخيل مناظرة ونقاشاً طويلاً بينه وبين هنات صاحبه، وهي بارعة في التصوير والتفكير؛ ولكن له من القصائد ما هو أكثر وجداناً وعاطفة، وله مقطوعات موسيقية كقوله:
طلبتُ لديكم بالعتاب زيادة
…
وعطفاً فأعتبتم بإحدى البوائق
فكنتُ كمستسْقٍ سماءً مخيلة
…
حياً فأصابته بإحدى الصواعق
وقوله:
عدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرنَّ من الصحاب
فإن الداَء أكثر ما تراه
…
يحول من الطعام أو الشراب
والأبيات التي ذكرت من قبل وأولها: (تخذتكم درعاً وترساً لتدفعوا) وهي من أبدع ما قال في العتاب الوجداني، وكذلك قوله:(أتاني مقال من أخ فاغتفرته). وقوله: (إني لأغضى عن الزلات مجتنباً). وكثرة العتاب في شعره تدل على أنه كان منكوباً في الإخاء والأنصار. وقد أجاد ابن الرومي أيضاً في الرثاء لأنه كان منكوباً في أولاده، وإنما هذه نكبة الرزء والموت لا نكبة الجفاء التي دعت إلى إجادة العتاب، ولا أذكر قصيدة في رثاء الأبناء في اللغة العربية تقارب قصيدة ابن الرومي الدالية في رثاء ابنه الأوسط غير قصيدتي التهامي، ومطلع قصيدة التهامي الأولى:
حكم المنية في البرية جاري
…
ما هذه الدنيا بدار قرار
ومطلع الثانية:
أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري
…
فخيِّلَ لي أن الكواكب لا تسري
وفيهما يرثي ابنه كما رثى ابن الرومي ابنه بقصيدته التي أولها مخاطباً عينيه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدِي
…
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
وتغلب نزعة الرسم والتصوير على الشاعر، فيصف ابنه يعالج المرض والموت، ويصف حزنه إذا رأى أخويه يلعبان في ملعب له. وهذه القصيدة من أجلِّ ما قال ابن الرومي من الشعر، بل من أجلِّ ما قال شاعر من الشعر، وهي أكبر دليل على أن الشعر الرفيع المقام لا يكون إلا إذا وجدت العاطفة، وأما الصنعة وحدها فلا تخلق شعراً عالياً. ولابن الرومي قصائد أخرى في الرثاء تستجاد، منها رثاء يحيى بن عمر العلوي التي مطلعها:
أَمامك فانظرْ أي نهْجيك تنهج
…
طريقان شتى مستقيمٌ وأعوج
وفيها يقارن بين ترف العباسيين وبين ما كان العلويون فيه من تشريد واضطهاد. ومما يؤسف له أنه شانها بالفحش الشنيع في هجاء العباسيين؛ وهذه القصيدة تذكرني بقصيدة دعبل الخزاعي الرائعة في آل البيت وهي أعمق أثراً ومطلعها:
مدارس آيات خلت من تلاوة
…
ومنزل وحي مقفر العرصات
والذي يقرأ شعر ابن الرومي يرى أنه أشد ذوي الفنون عجزاً عن حبس بعض ما يجول في خاطره من الخواطر، وهذا العجز يجعل صاحبه كأنه أسوأ خلقاً ونفساً من الناس، وهو
قد يكون وقد لا يكون، فإن كان إنسان - كما قال سمرست موام - القصصي الإنجليزي في كتاب (الخلاصة) تخطر على خاطره خواطر السوء حتى على بال القديسين المطهرين الذين كانوا يشكون في نقاوتهم وطهارتهم بالرغم من أنهم كانوا لا يفعلون ما يدعو إلى هذا الشك؛ وذوو الفنون، بسبب النزعة الفنية إلى تصوير أنفسهم والتعبير عن خوالجها، قد يعجزون عن كتم هذه الخواطر التي يكتمها غيرهم. وإني أميل أحياناً إلى الاعتقاد أن قصص المجون في شعر أبي نواس وابن الرومي لم تحدث حقيقة ولم يفعلوا ما زعموا أنهم فعلوا أو على الأقل بعضها لم يحدث، وإنما هي خواطر السوء التي تمر بخاطر الناس ويكتمها الناس ويعجز بعض الفنانين عن كتمها بل يصنعون منها قصصاً فخراً بها أو صنعة. وعلى هذا القياس نستطيع أن نفهم قصيدة ابن الرومي التي أولها:(لهف نفسي على رصاص مُذابٍ) أي رصاص منصهر كي يصبه في فم عدوه حتى يموت ويتشفى بسؤاله عن صحته أثناء ذلك، وهي قصيدة شنيعة. ولكن كم من الناس إذا تألم من عداء رجل ألماً شديداً لا تخطر له مثل هذه الخواطر إذا اشتد به الألم وكان مرهف الإحساس؟ أما أن يصب الرصاص المنصهر في فم إنسان فهذه مسألة أخرى، فقد يكون صاحب هذه الخواطر أعجز الناس عن إتيان الشر كما هو أعجز الناس عن كتمان ما يجول بخاطره من خواطر السوء. ولا ننس أن ابن الرومي كان مرهف الإحساس حتى أنه أعد خنجراً مسنوناً كي يقضي به على حياته فيما زعموا إذا اشتد به الألم في الحياة، وقد اشتد واشتد ولم يفعل.
عبد الرحمن شكري
من برجنا العاجي
يقع لي أحياناً أن أهبط محلاً عاماً فيتقدم إلى شخص لا أعرفه، يحييني تحية رقيقة ويقول:(أحد قرائك المعجبين) ثم يمضي دون أن يزيد. ويحدث لي دائماً في كل عيد أن أفض البريد فأجد بطاقات التمنيات ورسائل التهاني كأنها باقات الورد من قراء كرام لم تبصرهم عيني ولم يروني إلا فكرة تعيش في سياج السطور على أديم الصفحات
هنا معنى الاتصال الروحي، أرفع ألوان الاتصال، وأسمى أنواع المشاعر. وإني ليملؤني العجب حيناً، ويداخلني الزهو أحياناً إذ لأجد في الشرق مثل هؤلاء القراء!
لكن مهلاً. . . فيم العجب؟ ألسنا القائلين الشرق هو قلب (الروحانية)
النابض؟
إنما المدهش حقاً هو أن نرى قراء الغرب يبعثون كل صباح ملايين الرسائل إلى كتابهم المحبوبين! نعم أين هذا الاتصال الروحي من ذاك! إذا قلنا إن الفرق في عدد القراء وانتشار الأمية أو التعليم لكذبتنا النسب والأرقام، ولتبين لنا آخر الأمر أن الشرق متخلف في هذا المضمار على كل حال
إن عيب الشرق هو (الكسل). والقارئ الشرقي على وجه عام رخو المزاج فاقد النشاط. إنه يطالع وتتأثر نفسه ويتفتح قلبه، ثم لا يلبث أن يتثاءب ويلقي الكتاب وينسي المؤلف وتخمد فيه الجذوة. ثم هو بعد ذلك كثير الإهمال قليل الاكتراث. فأين القوة الداخلية التي تدفعه إلى طلب الاتصال بذلك الروح الذي أنس إليه؟
إنه (يستهلك) مادة الكتاب مثلما يستهلك مادة الطعام دون أن يلقي بالاً إلى الطاهي الذي أعده لمادته. وهكذا ينكشف الأمر عن هذه النتيجة العجيبة:
إن روحانية الشرق قد هبط بها (كسل النفس) إلى المادية، وإن مادية الغرب قد ارتفع بها (تيقظ النفس) إلى الروحانية!
توفيق الحكيم
أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدى هذه الفصول)
كان هوميروس يخفض الآلهة إلى مراتب الناس فيجعل لهم من الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة، أو ما ليس يتوفر إلا للآلهة.
وعجيب أن تتخذ آلهة هوميروس مثلها العليا من البشر الذين خلقتهم بأيديها، لأن هوميروس - على ما يبدو في ملاحمه - لا يرى الحياة الدائبة النشيطة المفعمة بالغرائز المتضاربة، إلا في محيطها المرئي المعترف به الذي يتكون منا نحن البشر. . . ولكي تتم الصورة الشعرية التي هي روح ملاحمه، والتي تفوّق بها على ضريبه هسيود، تراه يلجأ إلى الأساطير يلون بها فصوله، وليثير بغرابتها اشتياق سامعيه، وليجدد فيهم الحماسة التي هي أولى غايات الملاحم. لذلك تراه يعقد مجالس الآلهة للتشاور فيما ينبغي أن تكون الوسيلة لنصرة فلان أو لخذلان فلان، فإذا اجتمع شمل الأولمب فلا بأس أن تثور الحفائظ بين أرباب وأرباب وبين ربات وربات، ولا بأس أن يُعيّر أحد الآلهة فلكان إله النار بما وقع بين زوجه فينوس وبين مارس إله الحرب من خطيئة وفسوق. . . ولا بأس أن يدس هرمز أنفه في الموضوع فيصرح أن مارس معذور جد معذور فيما حدث له من الصبوة إلى فينوس، وأنه أول من يشتهي أن يكون الذي وقع لمارس كان قد وقع له. . .
وليس يرى هوميروس بأساً في أن ينزل الآلهة في معمعان الحرب ينافحون عن الأبطال الذين ينتمون إليهم. . . ففي الكتاب العشرين من الإلياذة يستأذن الآلهة سيد الأولمب فينقسمون فريقين، فتكون هيرا ومينرفا وهرمز وفلكان في صفوف الإغريق، وينحاز أبولو ومارس وديانا وفينوس إلى صفوف الطرواديين. . . فإذا ثار النقع، واضطرمت الحرب، والتقى أخيل وهكتور (الكتاب العشرين) وقعقعا بالسلاح، وأوشك هكتور أن يظفر ببطل أبطال اليونان عندما يسقط رمحه. . . تتقدم مينرفا فجأة وعلى عجل فتأخذ الرمح من فوق
الأرض وتناوله لأخيل فتنقذه من قتلة لم يكن فيها شك ولا عنها متحول. . . وهي تفعل مثل ذلك في الكتاب الثاني والعشرين فتنقذ أخيل وتمهد له بذلك فيقتل هيكتور. . . ومع أن مينرفا هي ربة الحكمة في الميثولوجيا اليونانية فهوميروس في هذا الموقف ينحط بها إلى أسفل مراتب الإنسان لأنها تكون سبباً في قتل رجل عظيم مثل هكتور يدافع عن وطنه ويذود عن حمى بلاده. . . وهي لا تتسبب في قتله فقط بل تحرمه فرصة نادرة أوشك أن يبطش فيها بأخيل.
وليتها فعلت كما صنع نبتيون في الكتاب العشرين حينما أنقذ إينياس من رمح أخيل مرتين حتى لا يغضب زيوس كبير الآلهة على بطل الإغريق.
هوميروس يزخرف الإلياذة بمثل تلك الأساطير ليقطع تسلسل المعارك، وليتقي سأم السامعين، وليجدد حماستهم، وهو في ذلك أستاذ أرباب المسرح من أمثال شكسبير وموليير. . . وهو لا تعييه الحيلة في اختراع ما يخفف وطأة الحزن إذا استعرت نيرانه في قلوب الناس حوله، فلا بأس عنده إذن من أن يترك جدث بتروكلوس ويقيم حفلاً أولمبياً للألعاب يشترك فيه أبطال الحرب فينافس بعضهم بعضاً فيتسابقون ويتلاكمون ويصطرعون ويقذفون القرص ويرمون الطوق ويحملون الأثقال ويسابقون على الخيل. . . وتكون حفلة باهرة كأحسن ما شهد العالم الحديث في أولمبياد برلين. . . ثم ينهض أخيل المحزون المرزّأ، في إثر كل مباراة، فيوزع الجوائز السنية على الفائزين (الكتاب الثالث والعشرين).
وقارئ الإلياذة يتولاه العجب وتأخذه الدهشة لبراعة هوميروس الأعمى في الوصف. . . فكأس نسطور في الكتاب الحادي عشر، ودرع هكتور في الكتاب السادس، والنقوش الأخاذة التي حفرت في درع أخيل، والستر الأزرق الجميل في قصر ألكينوس، وشروق الشمس وغروبها، وتكاثف الضباب، والنقع المثار فوق المعمعة. . . كل هذه آيات من الوصف الدقيق الذي يشهد لهوميروس بملكة فنية قوية تتجلى في أكثر أنحاء منظومته، وتربك المترجم خاصة حتى يستعصي عليه أن يساير هوميروس، ملك الشعراء، الذي تراه فيما ينظم مصوراً ورساماً وقائد جيوش وإلهاً وسحاباً وبرقاً ورعداً وحداداً. . ثم جزاراً وشواءً. . . ثم راهباً وواعظاً وما شئت من فنون الحياة التي لا حصر لها. . .
لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس. . . فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم (يوضّبها!) ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها من أعواد الند والرند والصندل ثم يلقي فيها بالقراميد ثم يقطع اللحم ثم ينتشر القُتار (رائحة اللحم المشوي). . . ثم. . . ثم. . .
حقاً إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه، ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يُرهق بما حُشد في كتب فقه اللغة، لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل برداً وسلاماً على القراء.
وبعد فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة، أم الأوديسة؟
لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل، كما نظم الأوديسة للمرأة. الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعاً، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع، لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.
نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالاً للرجال يحتذونه. . . إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعاناً. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراماً، وَصَلَوْها أعواماً. . .
ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالاً رائعاً من الوفاء يحتذينه. . . إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن فلا يفرطن في أعراضهن، ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمناً طويلاً، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة، وصابرت، وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فحصد شوكتهم واستأصل شأفتهم.
فالإلياذة خشنة كخشونة الرجال، والأوديسة لطيفة رقيقة فيها كثير جداً من رقة النساء. . . وهي رقة جعلت صمويل بطلر الأديب الإنجليزي العظيم يؤمن بأن هوميروس لم ينظم الأوديسة ولم يعرفها ولا تمت إليه بسبب، وبأنها من نظم فتاة من جزيرة صقلية استطاعت أن تدرس هوميروس والميثولوجيا اليونانية دراسة هادئة ثم فرغت لنظم الأوديسة فأتمت عملها في سهولة وفي يسر، وأخرجت هذه الدرة الفريدة التي تسمو في كثير من فصولها إلى ذروة الإلياذة.
لشد ما يدهش المرء لهذه الفكرة الغريبة التي قذف بها منطق بطلر! إن كثيراً من القرائن يؤيد هذا الرأي، بيد أننا لا نميل كثيراً إلى الأخذ به لأن الأخذ به شرود خطير مبالغ فيه عن حيز الأدب اليوناني القديم، وقليل من الاستقراء في المآسي التي ألفت بعد هوميروس تهدم رأي بطلر وآراء الذين تشككوا في صحة نسبة الأوديسة إلى هوميروس، فثلاثية إسخيلوس (الأورستية) مثلاً والتي تتركب من مآسيه أجاممنون وحاملات الكئوس والأيومينيدز قد أشير إليها في الأوديسة (الكتاب الحادي عشر) إذ يقص أوديسيوس على ألكينوس الملك رحلته إلى هيدز (الدار الآخرة) وما تحدث إليه به الكاهن تيرزياس عن أوبة أجاممنون، وما حدث له من الغيلة على يدي زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجستوس ثم ما كان من ثأر الفتى أودست لأبيه وقتله أمه. . . الخ.
فهذه الثلاثية التي أخذها إسخيلوس من الأوديسة وقدمها للمسرح تنقض وحدها دعوى الأديب بطلر، لأن الفتاة الصقلية التي يزعم أنها نظمت الأوديسة لم تكن قد وجدت بعد.
وقد جاء سوفوكلس فوضع مسرحيات كثيرة معظمها مفقود بكل أسف متخذاً موضوعاتها من صميم الأوديسة، ومما وصل إلينا من أسمائها تلك المسرحية الجميلة المسماة نوزيكا، وقد أخذ فكرتها من الكتاب السادس، وهي المسرحية التي يُروى أن سوفوكلس نفسه قد قام فيها بتمثيل دور الفتاة نوزيكا ابنة الملك ألكينوس حينما ذهبت إلى شاطئ البحر في سرب من وصيفاتها لغسل أثواب عرسها وتنشرها في الشمس فوق أغصان أشجار الغابة التي كان أوديسيوس مختبئاً فيها بعد نجاته من الغرق.
وهناك أدلة كثيرة تهدم ما رآه بطلر خطأ في نسبة الأوديسة إلى مؤلف غير هوميروس ولم أعثر في الكتب التي درست فيها ملك الشعراء من يوافق الأديب الإنجليزي على وجهة
نظره هذه.
والذي يقرأ مآسي اليونانيين القديمة يلاحظ أن الشعراء قد عنوا بالإلياذة أكثر مما عنوا بالأوديسة، فأخذوا من الأولى أضعاف ما أخذوا من الثانية. وقد لا يكون بعيداً أن إسخيلوس قد أخذ من الإلياذة ستين مأساة على أقل تقدير من الثمانين التي ألفها والتي قال فيها إنها فتات من موائد هوميروس الغنية. . . وكذلك أخذ سوفوكلس مادة مآسيه في أكثر ما وضع للمسرح.
والإلياذة حقيقة بهذا الالتفات من شعراء اليونان، فهي النهر العظيم الجياش المتدفق الذي تفرعت منه الأوديسة والإلياذة الصغيرة والإلياذت الكثيرة التي ألفها شعراء القرن الثالث قبل الميلاد في كل من أثينا والإسكندرية، والتي لا نستطيع هنا أن نحصرها، بل أن نتكلم عنها.
وليس من شك في أن شخصية أخيل هي أبرع شخصيات الإلياذة. ولا غرو، فقد سمى هوميروس إلياذته (قصيدة غضب أخيل!!). وروح أخيل هي كهرباء الحماسة في الإلياذة من أولها إلى آخرها.
أنظر إليه وقد ذهبت به أمه إلى نهر الخلود تغطه فيه حتى لا ينفذ في جسمه رمح ولا سهم من رماح الحرب أو سهامها لأن لماء هذا النهر ذاك الفعل العجيب! وانظر إليه كيف يبتل جسمه كله ما عدا عقبه. . . ثم يكبر أخيل ويشب ويصبح بطل أبطال اليونان، ثم تكون حروب طروادة فيمضي إليها بخيله ورجاله، ويقتل الأبطال الصناديد، ثم يصوب إليه باريس سهماً من سهامه يقر في العقب التي تبتل بماء نهر الخلود فيكون فيه حتفه!
وانظر إليه يختلف، وأجاممنون من أجل الجارية بريسيز التي هويها أخيل وعلقها قلبه فيرفض أن يغشى المعركة، ويعتزلها وجنوده الميرميدون، فتدور بذلك الدائرة على جيوش اليونان ولا يغنيها أن يكون في صفوفها الأبطال المغاوير أودسيوس وأجاكس وديوميدز ومن إليهم. . . وأنظر إليه يكلمه بتروكلوس في نصرة بني جلدته حين يعز عليه أن يصطلمهم أبطال طروادة فيأذن له، ويضفي عليه درعه العظيمة التي ذهبت أمه فصنعتها له عند فلكان الحداد. . . ويذهب بتروكلوس فيكسر شوكة الطرواديين ويصيبهم القرح على يديه وأيدي الميرميدون جنود أخيل.
وانظر إلى أجاممنون يعتذر إليه ويرد عليه بريسيز ويقسم له أنه لم يطمثها ولم يمسسها بسوء. وانظر إلى أخيل لا يفيء ولا يلين ولا ينهض لحرب الطرواديين، فيغضب الآلهة ويسخط أرباب الأولمب ويخرق الشرائع وقوانين الأخلاق، فتكون النتيجة أن يُقتل بتروكلوس الحبيب العزيز.
وانظر إلى أخيل كيف تسود الدنيا في عينيه حزناً على بتروكلوس فيمضي إلى المعمعة فيصرع أبطال طروادة ويجول فيها ويصول ويزأر ويزمجر ويطويها كالعاصفة. . . ثم انظر إليه يظفر بهكتور قاتل بتروكلوس فيصرعه ويجره خلف عربته ويدور حول طروادة غير موقر قدس الموت ولا حافل بتقاليد السماء.
ثم قف عند أروع مناظر الإلياذة جميعاً: بريام الحزين! والد هكتور! هذا الرجل المحطم يمضي وحده إلى أخيل باكياً ضارعاً متوسلاً، يرجو الرجل الذي قتل أولاده في أن يدع له جثمان هكتور ليشفى بالبكاء عليه جوى نفسه، وليطفئ بتحريقه السعير المضطرم بين جوانحه، فيعصف الحزن بأخيل العظيم، ويعانق الرجل العظيم، ويتبادلان البكاء، ثم يأذن له ببدن ولده. . .
هنا نبل هوميروس، وهنا إنسانيته وسموه، وهنا فرق ما بينه وبين قصاصينا الذين يشتركون مع سامعيهم في السخط على بطل الناحية الثانية.
دريني خشبة
الإسلام دين تبشيري
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
للأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية أصول الدين
كان المرحوم السير توماس أرنولد المتوفى في التاسع من يونية سنة 1930 - أستاذاً للغة العربية في جامعة لندن، وكان واسع الاطلاع في علوم الدين الإسلامي واللغة العربية، وأهم مؤلفاته كتاب:(الدعاية الإسلامية وهو بحث عظيم الخطر جليل القيمة في تاريخ انتشار الدين الإسلامي. طبع للمرة الأولى سنة 1896، وأعيد طبعه سنة 1913؛ ثم طبع بعد وفاة المؤلف طبعة ثالثة سنة 1935 كتب مقدمتها المستشرق العلامة (رينولد نيكلسون). وأهم ما يلفت النظر في هذا الكتاب هدوء البحث، وسلامة التفكير، وعدم التحيز. ولا غرو فقد كان مؤلفه من أكثر المستشرقين اعتدالاً وأصدقهم نظراً وأكثرهم تجرداً من النزعات التعصبية، وهذا جعل لكتاباته في الموضوعات الإسلامية أهمية خاصة، ونحن نكتفي بهذا التعريف القصير لنقدم لقراء (الرسالة) ترجمة الفصل الأول من هذا الكتاب القيم، وهذا الفصل يعتبر مقدمة لما تناوله المؤلف بالبحث في بقية فصول الكتاب، وسنوافي الرسالة بترجمة الفصول الأخرى تباعاً، كما أننا سنعد دراسات أخرى لمآخذنا على بعض آراء المؤلف
(ع. س)
برح الخفاء منذ ألقى الأستاذ ماكس مولر محاضرته بكنيسة وستمنستر يوم الشفاعة للجماعات التبشيرية في ديسمبر سنة 1873. وأسفر الموقف عن أن الديانات الست العالمية العظيمة يمكن تقسيمها إلى تبشيرية وغير تبشيرية. فالنوع الثاني تنضوي تحت لوائه اليهودية والبراهمية والزرادشتية. ويضم النوع الأول البوذية والمسيحية والإسلام. ولقد حدَّد الأستاذ في وضوح ما اصطلح على تسميتها (ديانة تبشيرية) فقال: إن معناها أن يكون نشرها وإدخال الكفار فيها قد سما إلى مرتبة الواجب القدسي في نظر منشئ الديانة أو خلفائه الأولين. . . إنها روح اليقين في نفوس المؤمنين لا يقر قرارها حتى تنبعث فكرةً
فقولاً فعملاً، ولا ترضى وتطمئن حتى تبلغ رسالتها إلى كل نفس إنسانية، وحتى يؤمن بما آمنت به أفراد البشرية جميعاً.
ومثل هذه الغيرة التي بدت من المسلمين لتشهد على صدق دينهم هي التي حفزتهم على أن يحملوا رسالة الإسلام إلى كل أرض ينفذون إليها، وهي التي جعلت لدينهم بحق تلك المكانة بين الديانات التي نطلق عليها (الديانات التبشيرية). وتاريخ نشأة هذه الغيرة التبشيرية والقوى الدافعة إليها وطرائق نشاطها كلها موضوع الصحائف القادمة، ولا ريب أن أولئك المائتي مليون من المسلمين المنتشرين اليوم في الأرض دليل جهاد هذه الروح طوال القرون الثلاثة عشر الماضية.
وأعلن تعاليم هذا الدين لأول مرة في القرن السابع عشر على أهل بلاد العرب نبي انضوت تحت لوائه قبائلها المتفرقة فأضحت شعباً واحداً، ثم دبت فيهم الروح القومية الجديدة فملأتهم حياة ونشاطاً، ثم سرت في جيوشهم حماسة وغيرة فملأتاها بأساً وقوة لا مرد لهما، وبهذه العدة كلها خرج المسلمون إلى القارات الثلاث يفتحون البلاد ويخضعون العباد، فاستولوا في أول الأمر على سوريا وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا وبلاد فارس، وانطلقوا بعد هذا غرباً إلى أسبانيا وشرقاً إلى ما وراء الأندوسيا، ولم يمضي على وفاة النبي مائة عام حتى وجد المسلمون أنفسهم سادة إمبراطورية أوسع رقعة من إمبراطورية روما في أوج قوتها.
ورغم أن هذه الإمبراطورية قد تصدعت فيما بعد وانهارت قوة الإسلام السياسية فإن فتوحه الروحية قد بقيت لا تحول دون سبيلها الحوائل. نعم أغار المغول على بغداد سنة 1258 وسلبوها، وأغرقوا في الدماء مجد العباسيين وقد ذبل عوده وحال لونه، وقام النصارى في الأندلس وعلى رأسهم فرديناند صاحب ليون وقشتالة فطردوا المسلمين من قرطبة سنة 1236، ودفعت غرناطة آخر حصن للمسلمين في الأندلس الجزية للملك المسيحي. كان ذلك كله يجري والمسلمون يضعون أقدامهم في أرض جديدة يدخلون أهلها في دين الله، تلك هي جزيرة سومطرة، ثم كانوا على وشك أن يبدءوا تقدمهم الموفق في جزائر أرخبيل الملايو، وهكذا يقوم الإسلام في ساعات انهياره السياسي بطائفة من أعظم غزواته الروحية. وفي التاريخ ظرفان خطيران وطئ فيهما الكفار بأقدامهم أعناق المسلمين، أولهما:
حين دهمهم الأتراك السلاجقة في القرن الحادي عشر؛ والثاني حين غزاهم المغول في القرن الثالث عشر. ورغم أن الغزاة أخضعوا المسلمين لسلطانهم السياسي في كلتا الحالتين فإنهم خضعوا لسلطان الدين الإسلامي ورضوه ديناً لأنفسهم. وفي مرة أخرى نجد المبشرين المسلمين في غير اعتماد على سلطان الحكم وصولة الجيوش يحملون الدين الإسلامي إلى أواسط أفريقيا والصين وجزائر الهند الشرقية.
واليوم يمتد نطاق الإسلام من مراكش إلى زنجبار، ومن سيراليون إلى سيبيريا والصين، ومن البوسنة إلى غيانة الجديدة. ولو أننا تركنا البلاد الإسلامية البحتة أو التي يسكنها عدد كبير من المسلمين كالروسيا والصين، وجوزنا حدودها إلى البلاد التي لم تؤمن بالإسلام لوجدنا بها بعض الجماعات الإسلامية القليلة العدد المحدودة الكيان تشهد على قيام الإسلام بين من كفروا بدعوته. ومن أمثلة ذلك لتوانيا التي يعيش فيها مسلمون من أصل تتري يتكلمون اللغة البولندية ويسكنون أقاليم كوفنو وفلنو وجردونو، وكذلك المسلمون الذين يتخاطبون باللغة الهولندية في مدينة الرأس، كذلك أجراء الهنود الذين حملوا معهم الدين الإسلامي إلى جزر الهند الغربية وغيانا البريطانية والهولندية، وأخيراً نجد للإسلام أنصاراً في إنجلترا وشمال أمريكا واستراليا واليابان. . .
ويرجع انتشار الإسلام في تلك المساحات الواسعة على ظهر الأرض إلى أسباب كثيرة اجتماعية وسياسية ودينية، ولكن من أهم العوامل التي أحدثت هذه النتيجة المثيرة للإعجاب جهود المبشرين المسلمين المتتابعة، وهؤلاء اقتدوا بالنبي (ص) نفسه فضحوا بحياتهم معه في سبيل إدخال الكفار في دينهم.
ولم يكن واجب الدعوة إلى الدين فكرة متأخرة في تاريخ الإسلام، بل كان أمراً محتوماً على المؤمنين من أول الأمر، يدل على ذلك ما نسوقه إليك من آيات القرآن المرتبة ترتيباً زمنياً بحسب نزولها:
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(س16)(126)
(وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب، فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير)(س42)،
(15 - 16)
ونجد نذراً كثيرة كهذه في السور المدنية التي نزلت ومحمد على رأس جيش عظيم وهو في منتهى قوته، نسوق منها ما يأتي:
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)(س3)(21)
(. . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(س3)(104 - 105)
(لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)(س22)(68 - 69)
والآيات الآتية مأخوذة من السورة التي تعتبر على وجه الإطلاق آخر ما نزل من القرآن:
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)(س9)(8)
إذاً فالإسلام منذ نشوئه دين تبشيري من الوجهتين النظرية والعملية؛ وحياة محمد مثلٌ لهذا المبدأ التبشيري، كما أن النبي نفسه قد ظهر على رأس جماعات تبشيرية عديدة نجحت في إدخال الكفار في الإسلام. ولا يصح فوق هذا أن نغتنم الأدلة على الروح التبشيرية في الإسلام فيما قام به أهل الاضطهاد من ضروب العنف والقسوة، أو أن نبتغيها في جهاد هذه الشخصية التي تكاد تكون إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، شخصية المحارب المسلم يحمل سيفه في إحدى يديه ويحمل القرآن في الأخرى؛ وإنما يجب أن نلتمسها فيما بذله المبشر والتاجر من جهد هادئ بعيد عن الفضول، فحملا دينهما إلى كل مكان على وجه الأرض. ويريدنا البعض أن نحذو مثالهم في الاعتقاد بأن المسلمين لم يلجئوا إلى مثل هذه الطرق السلمية في التبشير والإقناع إلا حين أقعدتهم الظروف السياسية فجعلت من المستحيل أو من غير الكياسة استعمال العنف والقوة، ولكن الحقيقة أن القرآن في كثير من الآيات يحض على الرفق في الدعوة؛ ومن أمثلة ذلك:
(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً. وذرني والمكذبين أولي النَعْمة ومهلهم قليلاً)(س73)(11 - 12)
(إلا بلاغاً من الله ورسالاته)(س72)(24)
(قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون)(س45)(13)
(وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم، فهل على الرسل إلاَّ البلاغ المبين)(س16)(36)
(فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين)(س16)(83)
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن إلاَّ الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)(س29)(47)
(فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاَّ البلاغ)(س42)(49)
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(س10)(100)
(وما أرسلناك إلاَّ كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(س34)(29)
وليست أمثال هذه الوصايا قاصرة على السور الملكية، ولكنها تكثر كذلك في السور التي نزلت في المدينة. ومن أمثلتها ما يأتي:
(لا إكراه في الدين)(س2)(256)
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين)(س64)(13)
(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلاَّ البلاغ المبين)(س24)(55)
(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين)(س22)(50)
(إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً)(س48)(9 - 10)
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلاَّ قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين)(س5)(15)
والغاية من كتابة الصحائف الآتية أن نبين كيف تحققت هذه المثل في التاريخ، وكيف
تناول الداعون إلى الإسلام تلك المبادئ التي تعتزي إلى النشاط التبشيري فجعلوا منها أموراً عملية، كما أود في بداءة البحث أن يفهم القارئ في وضوح أنني ما قصدت من وضع هذا الكتاب أن أدون تاريخ العنف والاضطهاد في الإسلام، وإنما قصدت أن أدون تاريخ التبشير الإسلامي. وليس غرضي من تأليفه أن أتناول الظروف التي تحوَّل الناس فيها إلى الإسلام بوسائل الإكراه والقسر - وهي مبعثرة هنا وهناك في صحائف التاريخ الإسلامي - فقد أمعن الكتاب الأوربيون في التنقير عنها والتهويل في تدوينها على وجه لا يخشى معه من نسيانها، ثمّ هي لا تدخل على وجه الدقة في نطاق تاريخ التبشير الإسلامي. فلنجاوز هذا إلى تاريخ التبشير المسيحي، وفي بطونه نتوقع بطبيعة الحال أن نقرأ عن الجهود التي بذلها القديس ليدجار والقديس ويليهاد بين الوثنيين السكسون أكثر مما نقرأ عن حالات التنصير التي أمر شارلمان أن تكون، فكانت تحت قراع الرماح ورنين القسي، في جو من الرهبة تداعت فيه الأصوات وتجاوبت الأصداء. كذلك الحال في الدانمرك فقد اجتث ملكها كنوت الوثنية من بلاده بحد السيف، ولكن بالرغم من هذا فالقديس أنسجار وخلفاؤه هم الممثلون الصادقون للتبشير بالنصرانية هناك. وفي بروسيا يمثل التبشير بالمسيحية القسيس جوتفريد والأسقف كرستيان برغم ما منيا به من الفشل في كسب الوثنيين البروسيين إلى دينهم، وبالرغم مما كتب من التوفيق لجماعة (إخوان السيف) وبقية الصليبيين الذين تيسر لهم أن يتموا بقوة النار والحديد ما بدأه جوتفريد وكرستيان. وفي ليفونيا نهضت طائفة من الفرسان تدعى (جماعة الإخوان المسيحيين الحربيين) بإدخال أهل هذه البلاد في النصرانية بوسائل الحرب والقسر، ومع ما اقترن بجهدهم من المضاء والغناء فالرهبان مينهارد وتيودوريك هما بحق رسولا المسيحية إلى هذه البلاد. ولقد لجأ الجزويت أحياناً إلى وسائل الإرهاب والعنف، ولكن هذا لا يحط من قدر المآثر التي كسبها أمثال القديس (فرانسيس اكسافيير) والمبشرين الآخرين من الجزويت. ولا يقل عن أولئك كل ما يعزى إلى (فالنتين) رسول جزيرة أمبوينا إذ صدرت الأوامر سنة 1699 لكل راجا من حكامها أن يعد عدداً من الوثنيين ينتصرون على يد هذا الرسول في إحدى جولاته في الجزيرة.
وتبدو حركة التبشير في تاريخ الكنيسة المسيحية متقطعة غير متصلة، فهذا عصر انتعاش
وحماسة في التبشير يعقبه عصر بلادة وجمود، وذاك عصر تحل فيه وسائل الإرهاب والقسوة محل وسائل الإرشاد والدعة. وهذا بعينه هو شأن الدعاية في الإسلام تنساق إلى المد، ثم لا تلبث أن تستطرد إلى الجزر. ولكن لما كانت الحماسة التبشيرية في كلتا الديانتين ظاهرة متميزة، فتاريخ الدعاية في كل منهما حريٌّ بأن يكون موضوع درس مستقل. وليس معنى هذا أن نبعد عنه بقية المظاهر الأخرى للحياة الدينية، ولكن معناه أن نفرغ جهدنا في واحد من هذه المظاهر له مميزاته الخاصة. إذاً فتاريخ الدعاية وتاريخ الاضطهاد يجب أن يدرس كل منهما درساً مستقلاً بعيداً عن الآخر، سواء أكان ذلك في تاريخ الكنيسة المسيحية أو في تاريخ الديانة الإسلامية رغم ما حدث من تلازمهما في بعض الظروف في كلتا الديانتين، ذلك لأن الدين المسيحي لم يستفض هذه الاستفاضة وينتشر هذا الانتشار في كل الظروف بمثل الوسائل التي استخدمها في فيكين جنوب النرويج الملك أولاف تريجفسون الذي عمد إلى من رفضوا الدخول في المسيحية فذبحهم أو قطع أيديهم وأقدامهم أو نفاهم خارج بلاده، وبهذا نشر النصرانية في كل أنحاء فيكين. كذلك لم تكن نصيحة القديس لويس مبدأً يسير عليه المبشرون النصارى، تلك النصيحة التي يقول فيها:(إذا سمع أحد العوام شخصاً يطعن في الشرع المسيحي، فلن يذبَّ عن دينه إلا بسيفه، وليوغل بذلك السيف في أحشاء الكافر إلى أبعد مدى يستطيع)
ونجد بالمثل جماعات تبشيرية إسلامية لم تستن تلك السنة البربرية التي عبر عنها مروان آخر الخلفاء الأمويين بقوله: (من لم يدخل من أهل مصر في ديني ويصل كما أصلي ويتبع مذهبي لأقتلنه وأصلبنه)
كذلك لم نعتبر المتوكل والحاكم وتيبو سلطان أصدق أمثلة المبشرين المسلمين لنخرج من الميدان أمثال مولانا إبراهيم الداعي إلى الإسلام في جاوة وخواجة معين الدين ششتي في الهند وغيرهم ممن لا يحصيهم العد وكان لهم فضل في إدخال الناس في الإسلام عن طريق الهدى والإِرشاد السلمي وحدهما.
ولكن بالرغم من أنه يمكن وضع فاصل للتمييز بين اعتناق الدين عن طريق الاضطهاد والعنف وبين اعتناقه نتيجة الإِرشاد والدعاية السلمية، فإنه ليس يسيراً أن نتحقق الدوافع التي حملت الشخص على أن يستبدل بدينه القديم ديناً آخر. كذلك ليس من السهل أن ينجلي
لنا إذا كان المبشرون بالدين قد تساموا إلى حد اعتبار الدعوة الدينية واجباً روحياً مقدساً، واسترشدوا بالمثل الأعلى الذي أوضحناه في الفقرة الأولى من هذا الفصل، ففي كلتا الديانتين نجد نفوساً متحمسة تحل دينها محل الحقيقة العليا في حياتها، وقد وَجَدَ مثل ذلك الكلف الشديد بالشئون الروحية مخرجاً في تلك الحماسة التي أدَّت إلى اعتناق الحقائق الجزلة السديدة، وإلى سيادة المذاهب والعقائد التي آمن الناس بصحتها، وهذا كله مصدر القوة التي اشتدت بها عرى الحركات التبشيرية وثبتت قواعدها. وهناك قوم لم يعملوا أكثر من الاستجابة إلى دعوة الداعين، ولكنهم اعتنقوا الدين الجديد بحماسة لا تقل عن حماسة الأولين، وعلى نقيض هؤلاء وهؤلاء عرف الإسلام كما عرفت النصرانية قوماً آمنوا بكلتا الديانتين، وكانت الشرائع الدينية لديهم مجرد ذرائع إلى ما يبتغون من الأغراض السياسية أو وسائل إلى ما يلتمسون من أوضاع للنظم الاجتماعية، وهكذا اعتنق أولئك القوم دينهم الجديد على أنه ضرورة يخطرون أنفسهم عليها إخطاراً، أو على أنها حلول مناسبة للمشاكل التي لم يعنوا بالتفكير فيها وإيجاد حلها بأنفسهم، ومثل هؤلاء نجدهم على السواء في كلتا الديانتين، إذا فقد اعتنق الإسلام كما اعتنق النصرانية في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قوم لا تصلهم صلة بهذه الحرقة الروحية، وذلك الغليل النفساني الذي يسهِّد المبشرين الصادقين، وفوق هذا فتاريخ الحركات التبشيرية وما يصادفها من الأحداث إنما يعنى عادة بتدوين حالات التحول من دين إلى آخر دون العناية بتحليل الدوافع التي حملت الناس على استبدال دينهم بغيره، وتاريخ التبشير الإسلامي على وجه الخصوص يفتقر افتقاراً بيناً إلى المادة في هذا الصدد لأن الأدب الإسلامي معوز إلى أخبار حالات التحول إلى الدين الإسلامي، بينما اهتم أدب الكنيسة النصرانية بمثل هذه الحالات في الدين المسيحي وأحلها منه محلاًّ رفيعاً، وعلى هذا فنحن في عجالتنا القادمة لموضوع النشاط التبشيري الإسلامي لم نستطع الوصول إلى طبيعة العوامل التي حملت الناس على الدخول في الإسلام، سواء منها السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية البحتة، ولو أننا استطعنا في بعض الظروف أن نشير إشارات عرضية لما أحدثته بعض هذه العوامل من الآثار.
عبد الفتاح السرنجاوي
قلت لنفسي.
. .
عجيبٌ أمر ابن آدم اليوم!! يكاد لا يعطف بعضه على بعض إلا المادة أو السطوة أو الشهوة! أما أُلفة الجنس للجنس، ومتعة الإنس بالإنس، وإجابة الحس للحس، فقد أصبحت في هذا الزمان، من الصفات الأثرية في الإنسان.
كانوا يقولون إن الناس مع الزمان، يقبلون متى أقبل، ويدبرون متى أدبر. فكنا نقول: كان ذلك والزمان كلب ٌيجري وراء سيده، ما دام الرغيف في يده. أما اليوم فالزمان إنسان حر مفكر لا يتبع إلا المبدأ ولا يطيع غير الضمير. ولكن الواقع وا أسفا علمنا أن الزمان لا يزال كلباً، وأن المال لا يزال رباً، وأن حكمة الأولين لا تزال صادقة!.
لي صديقي من رءوس العراق المرفوعة بالفضل والنبل والكفاية، كان
وهو في سلطان السيف وعزة القلم مرجع الرأي والهوى والحاجة. فلما
نكتبه في نفسه وأهله السياسة العشواء الجموح، تجرد كالسيف، وتفرد
كالأسد، وأصبح فإذا الوجوه أقفاء، والأنصار أعداء، والأحياء في دنياه
موتى؛ فلا رأس ينحني، ولا لسان يحي، ولا يد تصافح. وظل وحده
يعالج مرارة الحزن والحرمان والغربة حتى صحا الدهر من غفوته،
ونهض الحظ من كبوته، فعاد إلى الوزارة، وعاد الناس إلى الزيارة،
وقال الوجه الذي عبس وأشاح، والسان الذي ذم ونم: والله يا مولانا لا
يعدُل حزننا لغيبتك، إلا فرحنا بأوبتك. . . ثم انعكست الصفات في
الصحف، فصارت الخيانة أمانة، والبلادة زكاتة، والعقوبة شهادة. . .
ابن عبد الملك
على هامش الفلسفة
الحقائق الأخلاقية
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
ليس من الحق برغم ما سقناه في الكلمة السابقة من الشواهد على اختلاف الآراء والأفكار الأخلاقية تبعاً لاختلاف الأمم والشعوب والزمان والمكان - ليس من الحق مع هذا كله أن ننكر أن هناك حقائق أخلاقية عامة سايرت العُصُر وسادت في جميع البيئات.
ذلك أنه من السهل أن نلاحظ أن الناس على ما بينهم من اختلاف مرجعه الجنس والبيئة والزمن يمتثلون لما يعتقدونه واجباً على أوجه مختلفة، وقد تتباين كما رأينا أحياناً؛ ولكنهم جميعاً يقبلون في قرارة أنفسهم فكرة الواجب ويعتقدون أن بعض الأعمال أعلى خلقياً من البعض الآخر. الكل يعلم أنه يوجد خير وشر، ويحس الاحترام لبعض الناس والاحتقار لآخرين. الرجل الساذج في أفريقيا وأستراليا في خضوعه لتقاليده العجيبة وعده ذلك واجباً، والمجرم الذي لا يخلف ما وعد بعمله من مآثم ومناكر، والذي يرى نفسه ملزماً من نفسه بعدم خيانة عصابته؛ أولئك جميعهاً عندهم خلقية مشابهة في صورتها لا في مادتها ومحتواها لخلقية الرجل الفاضل من هذه الناحية، مادام الجميع يرون القيام بالواجب أمراً مقضياً. ليس علينا إلا إثارة عقول هؤلاء المساكين الذين يخضعون هذا الخضوع الأعمى لتلك التقاليد الظالمة، وتفهيمهم أي الأعمال تعتبر واجبات يجب أن يقوموا بها ويعدوا تنفيذها أمراً إلزامياً. هذا التحقق وهو أنه يوجد لدى جميع الناس بلا استثناء منذ ابتدءوا يفكرون ويعملون نظريات وعواطف أخلاقية، يجيز لنا أن نصف فكرة الواجب والخضوع له وعدِّ من يقوم به خيِّراً بأنها حقيقة أخلاقية عامة. ثم على رغم هذا الاختلاف الذي لا ريب فيه بين ما يسمى واجباً هنا وواجباً هناك، ليس من النادر أن نلاحظ تماثلاً بين بعض النظريات الأخلاقية لدى جميع الناس. إنه من العسير بل من المستحيل أن تذكر وسطاً أو عصراً يعتبر الجبن فيه أفضل من الشجاعة أو الظلم أفضل من العدالة. العدالة اختلف الناس في فهمها وطبقت بطرق متغايرة في الأمم المختلفة، هذا حق؛ ولكن الرجل العادل
كان ولا يزال محترماً دائماً لعموم فكرة اعتبار العدالة فضيلة خلقية. الرجل الذي على الفطرة، بل الطفل الغرير، يقبل بطيبة خاطر عقاباً يعتقد عدالته، ويثور في نفسه على عقاب يراه ظالماً. ذلك معناه تأصل فكرة العدالة لدى الجميع، العدالة العامة التي يحسها الناس جميعاً ويحنون لها الرؤوس إكباراً وإجلالاً، لا العدالة القانونية المدونة في بطون كتب القانون والتي تتغير بتغير البيئات. وفي هذا يقول مُونْتاني الشاك الذي يرفض كل ما لم يقم عليه دليل لا ريب فيه:(العدالة في نفسها الطبيعية العامة، فيها من النبل ما ليس في العدالة الخاصة الأممية التي تنفذ عند الحاجة بسلطة الشرطة ورجال الأمن العام) كذلك (فُولتير) نراه يدلل على عمومية عاطفة الدولة، بعد أن بحث الأمر بحثاً دقيقاً، بدليل مقنع إذ يقول:(فكرة العدالة تظهر لي حقيقة من الطراز الأول، يقبلها الجميع ويشعرون بوجوب احترامها، حتى أن أكبر الجرائم نراها ترتكب تحت حجة باطلة من العدالة. الحرب، وهي أكبر الجرائم الهدامة التي تتعارض والغرض الإنساني النبيل وهو المساعدة والتساند، يجتهد في تبريرها من يشعل نارها أولاً بحجة الدفاع عن العدالة)
لا أراني بحاجة لتدعيم هذا الرأي الذي يذكره (فولتير)، فالحوادث التي تتوالى أمام أعيننا منذ سبتمبر الماضي للآن تؤيد لأقصى حدود التأييد هذا الرأي. لقد أنذر هتلر العالم بحرب ضروس دفاعاً عن السوديت وحقوقهم المهضومة كما زعم؛ واليوم يلعب هذه اللعبة موسيليني دفاعاً عن حريات الإيطاليين وحقوقهم ومصالحهم المهدرة في تونس وغيرها كما يقول! وقبل ذلك استعمر الشرق والأمم المستضعفة تحت ستار من العدالة أوهى من بيت العنكبوت!
وإذا كان من الحق اعتبار العدالة حقيقة عامة أخلاقية فكذلك عاطفة الضيافة والكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان؛ الأمم تعيّر بالبخل وتتمدح بالكرم إذا جدت دواعيه.
وليس عجيباً أن ترى تقارباً بل اتفاقاً على كثير من الآراء والصفات الأخلاقية؛ بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق. ذلك أن الناس، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، أي هم جميعاً لديهم معين للأخلاق يكاد يكون واحداً، أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعاً لاختلاف الأزمان
والبيئات؛ ذلك المعين هو الضمير.
وفي هذا يقول العلامة بارتلمي سانتهلير مترجم أرسطو من اليونانية للفرنسية في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو: (ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة ليست منذ الآن محلاً للجدل بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها. يمكن أن يقع الجدل في النظريات، ولكن لأن سلوك الناس الأخيار هو في الواقع واحد، يلزم حتماً أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك يستند إليه كل واحد منهم من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه ولا أن يدركه هو نفسه. ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عليه عند جميع الناس؛ وبيّن أن هذا الإقرار العام سببه أن هذه الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع، وتقع على مقتضاها من حيث لا يشعر الفاعل لها في غالب الأحيان)
ثم يقول في موضع آخر: غير أن قانون الأخلاق ليس قانوناً شخصياً بل هو قانون عام، قد يكون في ضمير أشد قوة وأكثر وضوحاً منه في ضمير آخر، ولكنه موجود في كل الضمائر بدرجات تختلف قوة وضعفاً. إنه ليناجي جميع الناس بلهجة واحدة، وإن كانت أفئدتهم لا تصغي إليه على السواء. ينتج من ذلك أن قانون الأخلاق ليس فقط قاعدة للفرد بل هو أيضاً العامل لوحدة الروابط الحقيقية التي تربط الفرد بأمثاله. لئن كانت الحاجات تقرب بين الناس فإن المنافع تباعد بينهم إذا لم تكن تذكي بينهم نار الحرب. فلولا الاتحاد الأخلاقي لكانت الجمعية البشرية محالاً.
ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء. فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلمة بشهادة الواقع من الجميع لصدورها عن معين واحد، قد يختلف قليلاً أو كثيراً بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
على أن التاريخ يكشف لنا أمراً آخر يجب أن يكون موضع تقديرنا وأن نعلق عليه أهمية لها خطرها: المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي تراها حجر عثرة في طريق المصلحين دائماً. تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة سعدت الإنسانية ببعض كبار الأحلام والفكر الراجح الذين كانت
رسالاتهم معارضة للتقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم بمثل عليا رحبة صالحة للجميع. حقاً إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم على حق فيما بشروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات، الثورات المدينة لها بخلقية أعلى وأفضل، وأذاعت في جنبات الأرض أن هؤلاء الذين ثاروا على التقاليد هم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة.
ولعل من الخير ومن الواجب أن نلاحظ أن تلك التقاليد الدينية أو الاجتماعية التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية، والمثل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجاماً خارقاً يجيز لنا أن نقدر أنهم كانوا يصدرون عن معين واحد فيما وقفوا أنفسهم على تحقيقه. وموعدنا ببيان ذلك الكلمة الآتية إن شاء الله.
محمد يوسف موسى
استطلاع صحفي (ريبورتاج)
البحث العلمي في كلية العلوم
جولة في معاملها
(في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول نهضة علمية يسودها روح البحث والاكتشاف ويشرف عليها الأستاذ الرياضي الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد الكلية.
وقد آثرنا أن نقدم لقرائنا نبذة قصيرة عما يدور بين جدران هذا المعهد من أبحاث ترفع رؤوسنا وتشعرنا بأننا نقدم للعلم نصيباً من البحث كأمة حية ناهضة).
معهد للبحث
في الطابق الثاني من بناء كلية العلوم غرفة صغيرة هادئة، تشاهد فيها دائماً شخصين، أحدهما يواجه النافذة وينظر إلى مجهر يكبر له أنسجة النبات فيرسمها على قطعة من الورق؛ بينما اختار الثاني لنفسه ركن الغرفة بعيداً عن الأيدي والأرجل، فجهازه معقد طويل يتكون من عدة أوان زجاجية تتصل بآلة كهربائية تسجل درجات الحموضة أو القلوية في التربة أو النبات.
الأول هو الدكتور جريس والثاني هو الدكتور عبد الحليم منتصر، يبحث الأول في النباتات المصرية القديمة ومنها يعرف تاريخ الأمراض التي تصيب النباتات كما يعرف شيئاً عن التطور الذي تناول النباتات المصرية الحديثة، ويقوم الثاني بتجاربه ليبين للناس خواص التربة المصرية ونباتاتها، فقد صرف الدكتور منتصر كثيراً من وقته وعلمه حتى قدم عدة أبحاث عن تركيب التربة المصرية وعلاقتها بالنبات.
وكلا الأستاذين من أعضاء هيئة التدريس في كلية العلوم. فالأستاذ أو المدرس أو المعيد في كلية العلوم لا يقصر همه على تلقين الطلاب بعض الدروس؛ ولكنه مسئول أمام نفسه وأمام العلم أن يقدم للعالم بحثاً يدل على أنه يصرف وقته لمنفعة الإنسانية؛ ولذلك لا يكاد يمر شهر واحد حتى نرى بحثاً جديداً تنشره مجلات العالم العلمية التي يدل النشر فيها على أن البحث جديد على الناس وأن البحث أضاف مادة جديدة تدعم مدنية المجتمع.
الأدوات الأولية للبحث
ومهمة الأستاذ في كلية العلوم تختلف عنها في الكليات الأخرى؛ فقد يقتصر الأستاذ في كلية الآداب مثلاً على إلقاء المحاضرات وتلقين الطلاب مختلف أساليب البحث، ولكن أستاذ كلية العلوم مطالب بأن يجعل من أبنائه علماء باحثين يكشفون أسرار الطبيعة ويظهرون للناس خواص المادة، يهتمون بالمجهول أكثر مما يهتمون بالمعلوم. فعملهم هو إزاحة الستار عما غمض فهمه، ولذلك قلما يهتم المدرس أو الأستاذ بما حصله تلاميذه من قوانين معروفة أو نظريات ثبت وجودها، فإن هذين الشيئين يعتبران الأدوات التحضيرية للعمل في كلية العلوم.
ومقياس النجاح عند الأستاذ أن يرى طلبته يصلون إلى نتائج سريعة، ولذلك يهتم بأن يدل كلا منهم على أفضل المراجع التي يلم فيها الطالب بموضوعه. وإذا قلنا المراجع فليس معنى هذا أن الأستاذ مستعد لأن يرشد تلميذه في أي موضوع بل إنه مستعد لأن يقدم له المعونة والإِرشاد في الناحية التي تخصص في دراستها. فقد اتسع مجال العلم حتى قسم إلى أقسام تجزأت إلى فروع والفروع إلى موضوعات. ولذلك يحتاج الباحث كثيراً أن يترك بلاده ومن فيها من أساتذة ليذهب إلى جهة معينة حيث يجد أستاذاً اختص في نفس البحث الذي يقوم بتحقيقه. وهناك جامعات بكافة فروعها اشتهرت بالبحث في موضوع واحد كما هي الحال في إحدى جامعات إنجلترا العظيمة التي أصبحت قاعدة لدراسة مادة الراديوم وخواصه.
استقرار
وليس اتجاه جامعة من الجامعات إلى دراسة معينة من الأمور الهينة فهو يحتاج إلى استقرار الحياة في تلك الجامعة مدة طويلة كما يحتاج إلى أساتذة ثابتين يضمنون مراكزهم إلى أن تأتي نهايتهم. فطبيعة البحث والاستقراء العلمي بطيئة يُحسد فيها العلماء على طول صبرهم. فهناك علماء قضوا طول حياتهم جادين وراء مبحث واحد. ولعلك تذكر ما ذكرناه في عدد ماض من أن أحد أطبائنا صرف عشرين عاماً ليكشف أسباب مرض تضخم الطحال.
ويحتاج البحث العلمي إلى أجهزة خاصة بعضها دقيق وبعضها كثير التكاليف مما تعجز
عن شرائه مالية الأفراد، ولذلك لا مفر من هيئات قوية تحمي تلك الأبحاث وترعاها حتى يجد العلماء واسطة يقدمون عن طريقها ما في رؤوسهم من جذوات تنير طريق المجتمع.
وعدم الاستقرار هو الظاهرة السيئة المشاهدة في كلية العلوم، فإن أكثر أساتذتها من الأجانب الذين يشتغلون بعقود محدودة الأجل. فلا يضمن الأستاذ بقاءه في مصر أكثر من المدة التي نص عليها عقد استخدامه، وهو لذلك ضنين بجهده أن يضيع فيما لا ينتج، فقد يبدأ بحثه وينتهي عقد استخدامه وهو في خطواته التمهيدية.
فمن الطبيعي لهذه الأسباب أن يقصر الأستاذ بحثه على موضوعات قصيرة سهلة التناول سريعة الفحص. ولا شك أن مجهود الأساتذة الأجانب مجهود مشكور؛ إلا أن أبحاث كليتنا لن تتخصص إلا بعد أن ينعم كل أساتذتها بالاستقرار. وهذا لن يتحقق إلا إذا أصبح كل أساتذتها مصريين، وأملنا عظيم في أن يحل ذلك اليوم سريعاً. ففي كل معمل كيمياوي أو نباتي تشاهد الأيدي المصرية تقوم بنصيبها لتقرن الغاية العلمية بالفكرة الوطنية فيسيطر المصريون على جامعتنا ليوجهوها إلى الناحية المقصودة.
هبة العلم
وتقوم الدراسات في كلية العلوم على أساس البحث العلمي. فالطالب في سني الدراسة النظامية إلى أن يحصل على درجة البكالوريوس مطالب بأن يحقق نظريات معروفة ويختبر بنفسه عمليات فرغ منها سواه ليتدرب على طرق البحث العلمي، ويطلع على أساليبه. فإذا جاز امتحان البكالوريوس فهي شهادة بأنه قادر على البحث العلمي تحت إشراف أستاذه. ويراقب أساتذة الكلية أبحاث خريجيهم، فيسدون إليهم النصح ويدلونهم على المراجع التي تسهل لهم الوصول إلى النتائج التي يبحثون عنها.
وإن المشاهد ليدهشه أن يرى هيئة التدريس في الكلية تعمل بنشاط مستمر فتتقدم بأبحاثها في كل شهر وكل سنة، فإن الموظف يبدأ في الكلية معيداً بدرجة بكالوريوس ليرقى بعد فترة فيحصل على درجة ماجستير ثم دكتور. فمن المظاهر البارزة هناك أن كل شخص مقيد ببحث يعمل ليله ونهاره لتحقيقه. وقد أتاحت لي الفرصة أن قضيت الصيف الماضي مع أحد معيدي الكلية فكان دائماً يجلس إلى شاطئ البحر في أوقات فراغه ليقرأ كتاباً عن (الامتصاص السطحي) وهو جزء من بحث يقوم به بين جدران الكلية.
وتنصب أكثر أبحاث الكلية على موضوعات مصرية، فتجد موريس أفندي يبحث في الامتصاص السطحي للقطن، ووديع أفندي يبحث في تركيب أنواع الأصباغ. وقد تمكن بعض الأساتذة المصريين من اكتشاف عائلات من النباتات والحيوانات المصرية التي لم تكن معروفة من قبل. ونظرة واحدة في تقارير الكلية تبين لنا ضخامة العمل الذي يقوم به أولئك الباحثون في غرفهم.
ففي كل قسم عشرات من الأبحاث. وتصدر الكلية نشرة صدر منها حتى الآن ثمانية عشر عدداً، وتحتوي على أبحاث قومية جديدة على العلم. هذا خلاف ما ينشر في المجلات العلمية الأجنبية التي تشعر العالم الخارجي بوجود العلماء المصريين أكثر مما نشعر نحن بوجودهم. فما زلت أذكر ما أصاب ذراعي من (تنميل) أصابه لثقل مجموعة النشرات التي حملتها إلى داري لأعرف بعض ما يفعل أولئك الناس. ففي الكلية ثمانية أقسام لا يقل عدد الموضوعات التي تبحث في كل منها عن عشرين بحثاً، إلى أن إنتاج الكلية لا يقل عن مائة بحث في السنة.
وتعتمد هذه الأبحاث هيئات علمية أجنبية محترمة فيرسل البحث إليها لمراجعته وتحقيقه وإبداء الرأي فيه؛ فإذا وافقت الهيئة المنتدبة على اعتباره بحثاً جديداً صحيحاً منح صاحبه الدرجة التي يستحقها إذا كان الغرض من تقديمها الحصول على درجة. والدرجات ثلاث: البكالوريوس وقد تكلمنا عنه، ودرجة الماجستير وهي اعتراف بأن حائزها يمكنه أن يقوم بأبحاثه مستقلاً تمام الاستقلال وتؤهله للحصول على درجة دكتور التي يجب للحصول عليها أن تقرر لجنة الامتحان أنها تضيف مادة مبتكرة إلى الإنتاج العلمي.
نسيج العلم الحي
وقلما تجد في كلية العلوم طالباً لا يطمع في الحصول على إجازة الدكتوراه ويسعى إليها. فإن روح الكلية لا تفهم إلا معنى واحداً وهو إضافة مادة جديدة إلى نسيج العلم الحي. وقد يعجب الناس ويقولون: وما لنا لا نسمع عن هذه الأبحاث ولا نراها؟ والجواب على ذلك سهل بسيط، فإن الباحث العلمي يضع الحجر الأول للاستغلال الاقتصادي والصناعي فهو يضع النظرية اليوم ليمكن استغلالها بعد عشرات السنين. وما زال كثير من النظريات التي تحقق وجودها علمياً بعيدة عن التطبيق في الحياة العامة. فهل تمكن العالم بعد من الاستفادة
من تحطيم الذرة؟ إنهم يعرفون ما فيها ولكن هل وصلوا إليه؟
وثمة سبب آخر حجب أعمال هذه الكلية عن الشعب حتى اختلط على الناس اسمها واسم دار العلوم، فقد حكى لي أحد الأساتذة أن أحد الوزراء السابقين كان يجهل الفرق بين كلية العلوم ودار العلوم! ويرجع هذا الجهل إلى اعتزال الكلية وعدم اهتمامها بالدعاية اللازمة لها. فإن الدكتور مشرفة عميد الكلية من ألمع الشخصيات العلمية في الخارج وخصوصاً لأبحاثه عن العلاقات بين المادة والإشعاع التي علق عليها عظماء العلماء في أوربا كالسير أليفرلودج والسير جيمس جينز. ولكن هذه الأبحاث ما زالت مجهولة من أكثر المصريين.
وللكلية مكتبة كبيرة يشرف عليها برهان الدين أفندي وهي مكتبة خاصة بالكتب العلمية التي يحتاج إليها الطلبة والأساتذة في دراساتهم. ومن أهم أقسامها المجلات فإنها الرباط الوحيد بين الباحثين ومنها يعرف الإنسان ما يدور في المعاهد الأخرى وقد يصل بعض أعداد هذه المجلات إلى عدة جنيهات. ويصرف على المجلات وحدها 500 جنيه وعلى الكتب 800 جنيه في السنة.
فوزي جبر الشتوي
رسَالة المَرأة
بين المرأة والرجل
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
الشرق والغرب شرع واحد في المسائل التي تتناول الأحاسيس والعواطف، بل الحب - بنوع خاص - في مختلف أنواعه وحالاته، والمرأة هي هي في كل مكان وزمان. والتحليل الدقيق للقصص الأربع التي حضرة الأديبة الكبيرة محررة (رسالة المرأة) باستطلاع آراء القارئات فيها، يجعلني أردّ تصرفات المرأة في كلٍ منها إلى تلك الأصول البدائية التي ركزتْ في نفسها مركبات قوية متناقضة تكاد تكون من الغرائز النسوية لأنها اندست في أغوارها حقباً طويلة دون أن تدريها، فطبعتْ سمتها على حياتها وآرائها، ووجهتها إلى نواح متشعبة كانت مصدراً خفياً لأعمال تنفع وتضر على السواء. ولعلّ من أعظم هذه المركبات ما يسمى (مركب النقص) فإن المرأة منذ بدء عصور التاريخ البشريّ قد كانت في الغرب موضوع حب الرجال وإعزازهم، وكان التغني بمحاسنها والتشبيب بها موضوع قصيدهم وأناشيدهم، على أنهم رغم بلوغهم أوج التعبد لها، ما برحوا حتى العصور الوسطى بل والحديثة يوجسون خيفة منها ويعدونها بلاءً مقيماً وشراً مستطيراً. وكانوا إذا تفوقت إحدى النساء في ذكائها أو بسالتها يتهمونها بالسحر والشعوذة، ويجعلونها غرضاً لسهام طغمة كبيرة من رجال الدين. أما في عصور الوثنية والجاهلية في الشرق فقد أجلسوها على عروش الربوبية، وجعلوا من العذارى الجميلات كاهنات لمعابد أصنامهم، ثم بقيت من العصور الوسطى وما بعدها كأنموذج لحسنٍ ضائع، وكقنية ثمينة يدخرها الملوك والولاة في قصورهم، أو ملهاة جميلة يتسلون بها بعد عودتهم من غزواتهم ورحلات قنصهم، ثم اتخذوا منها إكليل الغار الذي يتوّجون به كل بطل صنديد مكافأة له على شجاعته، أو ثمناً لعبقريته ومواهبه. . . ولقد أدّى هذا كله إلى إشعار المرأة بعجزها ونقصها، ودفعها إلى تغذية رغبتها في الظهور أمامهم لا بمظهر الندّ والنظير فقط، بل محاولة التفوق عليهم وعدم الاستخذاء لهم، والجدّ في الظفر بإخضاعهم لنفوذها الآمر. وعندي أن هذا هو (مركب النقص) الذي يعدّه كثيرون من كتّاب المرأة غريزة أساسية من غرائزها، بل ميلاً قوياً من ميولها الفطرية التي تغريها بحب السيطرة في إيجاع وإيلام
الرجل، ولكني أرى أن هذه الغريزة المزعومة ليست أصيلة في المرأة، بل هي في الحقيقة صورة ظاهرة من صور الحب التي مرجعها حب الذات، والتي تختصر تاريخ النزاع المديد الشديد الذي قام بينها وبين ذلك الرجل الذي ظل أحقاباً متعاقبة يقهرها ويحتجزها كغرضٍ من أغراض العاطفة الرخيصة. على أن ذلك النزاع لم يلبث أن استحال إلى حرب نظامية تطورت وصارت خطة سياسية أو وسيلة نسوية، أخذت الآن تتضاءل وتتقلص حتى لتكاد تختفي في أعلى طبقات السيدات تهذيباً وأرقاهن علماً وثقافة. .
أجل، هي صورة ظاهرة من صور الحب التي مرجعها الذات والرغبة في إثباتها بشكل أكمل وأوضح، وتحديد مكانها في حيز الوجود. بل هي مظهر راق لحب الذات مصدره إعجاب المرأة بالقوة، ذلك الإعجاب الذي ينسبه سبنسر فيها إلى نمو شعورها الديني، وحنينها إلى اللياذ بقوة أعظم من قوتها، فهي حين تظهر سيطرتها على الرجل، إذ تطالبه باستعراض مجازفات إقدامه وصلابة مكسره وصرامة بأسه أمام الملأ، إنما تريد أن تتبذخ بقوته، لأنها كما تقول الكاتبة الإنجليزية جورج أليوت:(لا تستطيع أن تتعلق بالرجل الخوار الهشيم). ثم إنها حين تستفز فيه روح المنافسة والغيرة، ولو عن طريق الخطار بحياته، تعمد إلى امتحان حبه، وتتطلع إلى مبلغ تهافته على الاستئثار بإعجابها، وإرضاء نزعات تدللها وتيهها، بطرائق تسير ذكرها في الآفاق، وتفشي تدلهه بحبها على الألسنة، وترجِّع صدى هيامه بها في المحافل، وتذهب سمعه في الناس، ولا تتوانى في سبيل سعيها لامتلاك قلبه عن إثارة زهوه بتقريظ شهامته وتملق رجولته وإطراء نخوته، فلا يتوانى هو بدوره عن حمل نفسه على المخاوف والمعاطب واقتحام الهلكات والمتالف.
ولكي نقرب من إنصاف المرأة مع ذلك، أصرح بأن ما يبدو منها من حب السيطرة، لا يمكن أن يؤخذ على معناه المطلق، لأنه لا يتجاوز ميلها الفطري إلى التسلط على قلب الرجل، ونيل الحظوة في عينيه. ولئن رغبت في أن تكون محبوبة منه بكل قواه، فإنما رغبتها الأولى أن تكون هي المحبّة. وأكبر اعتقادي أن ما تبذله من قبيل استمالته إليها، ليس إلاّ نتيجة لتلك الرغبة الملحة، وعلى كل حال فرغبتها ورغبته مترابطتان، والغالب أن يكون الحب متبادلاً بينهما. ولقد قدمتُ أن المرأة الراقية المهذبة، قد تمكنت بفضل العلم الناضج من معالجة (مركب النقص) الذي أذكته فيها سيادة الرجل في مثل البيئات
والأحوال الخاصة التي سردتها حضرة الآنسة الفاضلة (زينب الحكيم) في قصصها، وأصبحت الفتاة اليوم تتوخى في عهد خطبتها وسائل متزنة للسيطرة على قلب خطيبها وشريك حياتها، فأبت أن تتبع ما كانت تتبعه أختها في العهد الماضي من ضروب إحاطته برعاية الأم الحانية على طفلها الرضيع بنواهيها العديدة، لأنها قد تحققت أن فتى اليوم، يكره القيود التي تغلّ الإرادة وتشلّ القوى، ويرفض الانصياع لمنْ تمخضه النصح على الولاء، بارتداء الملابس الصوفية إذا ما لاحت بوادر الشتاء، واستصحاب زوج إضافي من الجوارب السميكة إذا خرج لمباراة في لعبة الجولف ليتقي بها الأمطار في حالة هطولها، وأن يتعشى بفالوذج اللبن والبيض، وأن يعني بتهوية مسكن العزوبة المجدب من أناقة المرأة وعنايتها؛ لأن الحياة الرياضية، التي يحياها فتى اليوم، في فرق الكشافة والجوالة والتدريبات العسكرية، قد جعلته واسع الحيلة في شؤون المعيشة، شديد الاعتماد على نفسه، كبير القدرة على العناية بصحته وبمسكنه، وأصبحت فتاة اليوم تتجنب إظهار امتلاكها له أمام الناس، والتحدث بحقوق الاختصاص التي وضعتها عليه كما لو كان بعض الدواجن التي تدللها وتستصحبها معها في المنتديات العامة مباهية بسيطرتها عليه. وأصبحت تتجنب الاعتداد بنفسها، والاستعلاء عليه وإبداء البرودة نحوه والإكثار من معاتبته والتفلسف في تحليل كل صغيرة وكبيرة من تصرفاته ومحاسبته على كلماته والإغراق في أخذه بمغالبات جدلية ومناقشات منطقية، وإملاله بسرد النظريات العلمية والتخيلات الروائية، وإذاعة المعلومات وآخر النشرات الإخبارية الشائعة بين أفراد طبقتها، والظهور أمامه بمظهر الحزن والاكتئاب والتجهم ويقظة الضمير والإفراط في ادعاء الورع والتدين، وتحوير الأمور وتحريفها وقلب ظاهرها لباطنه؛ وأخذت تبدو أمامه على الدوام متهللة الغرة، قريبة منال البشر، طيبة النفس فكهة الأخلاق، في احتشام الفتاة، وخفر العذراء، وكرامة السيدة وجلالها وصراحتها وثقتها ومحبتها ووفائها وطاعتها. . ولعله يحسن بي أخيراً أن أنتحي ناحية الرجل فأقول إنه يستطيع تحقيق المثل الأعلى للفتاة كزوج حين تجتمع فيه أنبل ميزات الرجولة وأكرم أخلاقها وأمجد مناقبها، فتجد فيه القوّام المخلص العطوف المطاوع، والشريك الحازم الرشيد الأمين الكريم الذي يتفانى في توفير أسباب الراحة والطمأنينة لها، ويتعاون معها على إسعاد العمران، والسمو بالمجتمع الإنساني إلى مراقي الكمال المنشود.
الزهرة
رسَالة العِلْم
الحياة
هل هي وليدة المصادفة؟
للدكتور محمد محمود غالي
من تفكير مدام كيري - هل نحن والتفاحة شيء واحد - هل تكتب القردة بيتاً من الشعر - وهل يرفع الماء طوبة مغمورة فيه - إمكان الحياة على كويكبات أخرى - شعورنا بأنها غير وليدة المصادفة.
في خطاب لمدام كيري مكتشفة الراديوم لبنت أختها (زلاي) ما يدعو لإنعام النظر، لهذا أذكر منه بعض الفقرات:
(عُني ابنتاي في الربيع بتربية دود القز وكنت وأنا مريضة أتتبع مدة عطلتي بالمنزل التطورات التي تحدث عند تكوين الشرانق، وكانت لي في ذلك لذة عجيبة، فقد لفت دود الحرير نظري إلى الشعور بجنسها العجيب الذي يُشبهنا في ناحية الجلد على العمل والنشاط والمثابرة.
لقد ثابرت طول حياتي على العمل لغرض واحد، وقمت بهذه المهمة دائماً نحو غرضي رغم علمي أن حياتنا سريعة العطب محتومة الفناء لا تترك شيئاً أياً كان وراءها، ولا بد أني فعلت ذلك لأن ورائنا شيئاً يحفزنا للعمل، لعله نفس الشيء الذي يحفز الدودة لتبني هذه الشرنقة. هذه الدودة المسكينة يجب عليها أن تبدأ هذه الشرنقة التي من المستحيل عليها أن تتمها، فهي كما نعلم لا تصل إلى نهاية مهمتها بل تموت في طريق العمل دون تعويض.
فليستمر كل منا يا عزيزتي في نسج شرنقته دون أن يسأل لماذا وإلى أية نهاية)
حياة النملة أو دودة القز أو الإنسان، هذه الحياة وما تخفي وراءها من حافز شخصي وما تكنه من وراثة بعيدة المدى، تلك الوراثة التي تحفزنا للعمل المستمر، هذه الحياة - وأدهش ما فيها الإنسان الحي - نريد أن نعرف الفكرة في منشئها ونتبين علاقتها بالكون، ويتناول هذا الموضوع مدرستان أو مذهبان:
الأولى تعتقد أن الحياة وليدة لمصادفة وقعت في الكون، وأن الكون لم يكن في نشأته
مخصصاً أو مقصوراً عليها. والمدرسة الثانية تقول عكس ذلك وتعزو للحياة وللإنسان أهمية خاصة.
أما عن نفسي فإن إحساساً خفياً وإن كان غير مَبْنِيّ على حقائق علمية أو على أساس في العلم التجريبي يدفعني إلى أن أكون من أنصار المدرسة الثانية.
أن تحاول إقناعي اليوم أنني والتفاحة التي أكلتها شيء واحد، وأنني والمحبرة التي أكتب الآن منها مركب متشابه من النيترون والإلكترون وغيره وأن ترتيباً خاصاً من هذه الذرات وما يدور في غلافها من إلكترونات هو الذي جعل هذه تفاحة تُنبتُ غيرها من التفاح وجعلتنا آدميين ننسل غيرنا من جنس الإنسان وجعلت هذه محبرة لا تصلح إلا لتمكنني من أن أمد القارئ بهذه الأسطر.
أن تحاول أن تُدخل في روعي أنني وبقية النبات أو الجماد شيء واحد وأن الحياة ظاهرة وليدة الصدفة كظاهرة المغناطيسية أو الإشعاع المادي، وأنني وهذه الكائنات نتساوى، كل هذه مسائل لا أجد من نفسي تساهلاً في قبولها.
قد تكون بليغاً جدّاً في محاولتك، وقد تكون براهينك العلمية والعملية من القوة بحيث نطأطأ الرأس لحججك، وبحيث لا نستطيع اليوم أن نُقنعك بطريق العلم النظري أو العلم التجريبي بخطأ علمك وتجاربك، ولكن غريزة في النفس تشبه الغريزة التي تحمل دودة القز السابقة على العمل وتحملك على الخروج من المنزل كل يوم لكسب عيشك، تدفعني إلى أن أخالفك في الرأي، ويداخلني شعور يستقر في نفسي يوحي إلي أننا نختلف عن التفاحة والمحبرة اختلافاً مبيناً، وأن في جوهر حياتنا ما يجعلنا نفترق عن الأشياء وعن الظواهر الأخرى للكون.
في محاضرة لمسيو روجيه عميد كلية الطب السابق بباريز حضرتها في شتاء 1934 بين آلاف المستمعين في إحدى ردهات بوليفارد سان جيرمان بالحي اللاتيني، ألقاها في جماعة العقليين التي هو وكيلها تعرّض للحياة وعلى الأخص لما نسميه الروح والعقل. ولو أنك حضرت هذه المحاضرة لأيقنت أن روجيه على حق، ولخرجت مثل الكثيرين مقتنعاً بأنك والتفاحة وباقي الكائنات شيء واحد، وأن ما نسميه العقل والروح والنفس وغير ذلك ما هو إلا نوع من الآمال التي نتصورها لأنفسنا، وأنه لا وجود لها إلا في خيالنا. ليست أمامي
الآن محاضرة الأستاذ روجيه حتى أعيد قراءتها وألخص لك نقطها القوية التي تستند إلى وقائع فعلية وتجارب عملية في الطب والتشريح المقارن والتي تعرّض في ختامها لفلسفة برجسون التي لا يعترف بصحتها ويهاجمها هجوماً عنيفاً.
ولعل رأي روجيه يمثل رأي غالبية العلماء زملائه اليوم من الأطباء والبيولوجيين. والظاهر لي أننا إن أردنا أن نستدل على تفسير للحياة بين علماء الطبيعة والرياضة المعاصرين فإنه يغلب على الظن أننا نصل إلى النتيجة نفسها. وهاهو ذا السير جينز في كتابه (العالم الغريب) يقول وهو يتكلم عن الأرض كسيار انفصل عن الشمس: إننا لا نعرف كيف ومتى ولماذا تولدت الحياة بطريق الصدفة في واحد من هذه الأجزاء التي تناثرت من الشمس وهو الأرض.
هذه الحياة التي بدأت في مخلوقات بسيطة لا تعرف في المبدأ شيئاً غير أنها تتوالد ثم تموت. أجل هذه الحياة التي استمر خيطها يطول ويتعاظم إلى أن وصلت إلى هذا الوضع المعقد الذي تتوالد فيه كائنات تهب الجزء الأكبر من عمرها لأطماعها ورغباتها بل لأديان وضعت فيها أكبر آمالها. وإن شيئاً من التأمل في البحث عن صلتنا بالكون المحيط بنا يحملنا كما يقول ذلك السير جينز على الفزع، فالكون يفزعنا بعظم مسافاته الشاسعة وطول الزمن الذي يمر ويبدو كأنه لا نهائي، والذي لا يُعد تاريخ الإنسانية فيه إلا لمحة من البصر - الكون يفزعنا بوحدتنا وبضآلة المادة التي يتكون منه عالمنا الشمسي بالنسبة إلى ملايين العوالم، وإن أرضنا على حد تعبير السير جينز ما هي إلا جزء واحد من مليون جزء من حبة رمل من مجموع كل رمال الشواطئ - إنما الفزع أن ندرك أن العالم أصم لا يشعر بنا وأنه ممانع لكل نوع من الحياة تشبه حياتنا. فالفراغ بين العوالم أو الشموس من البرودة بحيث أن كل حياة تنتهي فيه بالجمود والموت، والجزء الأعظم من المادة المكونة للنجوم، من الحرارة المرتفعة بدرجة تجعل كل حياة فيها مستحيلة، ويصل إلى هذه الأجرام من الأشعة المختلفة ما هو غير ملائم للحياة وقاتل لها. ويكفي أن أذكِّر القارئ أن طبقة الأوزون المحيطة بالكرة الأرضية تحمينا من الإشعاعات القاتلة.
في عالم هذا وصفه ألفينا أنفسنا مخلوقات فيه تتحرك وتفكر، ولو اعتقدنا كما يعتقد جينز وغيره أن وجودنا حادث وليد الصدفة فإن فناءنا أيضاً سيكون وليد الصدفة، فإن من
المعقول في رأيهم أنه باستمرار الزمن يحتمل أن يقع أي نوع من الحوادث.
ويعتقد السير جينز أن (هكسلي) هو الذي قال:
(لو فرضنا وتركنا ستة من القردة تكتب على الآلات الكاتبة دون أن تَعي ما تخطه مدة طويلة تبلغ ملايين الملايين من السنين، فإننا في سير الزمن نرى بين أسطرها بطريق الصدفة كل الكلمات المحفوظة في المتحف البريطاني. ولو أننا اختبرنا آخر صفحة من الصفحات التي سطرتها القردة فقد نلاحظ أن توقيعاتها العمياء قد خطت أحد أبيات شيكسبير، وعند ذلك يحق لنا أن نعتبر هذا البيت من الشعر حادثاً من أغرب الحوادث. ولو أننا بعد ذلك تصفحنا ملايين الصحائف التي كتبتها القردة في ملايين السنين فإنه مما لا شك فيه أننا سنعثر مرة أخرى على سطر آخر من أبيات شيكسبير كان هو أيضاً وليد الصدفة العمياء).
وهكذا لا بد أن يحدث لعدد قليل من الشموس بين ملايين الشموس الأخرى الحائرة ما حدث للشمس من وجود سيارات تدور حولها، مما أوردناه في مقالنا السابق، ويدل الحساب على أن هذا العدد من الشموس قليل جداً بالنسبة لعدد شموس الكون.
ومن البديهي أن الحياة كما نستوعبها لا تحدث إلا على سيارات شبيهة بالأرض إذ يجب لوجودها شروط طبيعية ملائمة مثل اعتدال درجة الحرارة، وعلى هذا الاعتبار تستحيل الحياة في الشموس نفسها التي هي نيران متقدة كما تستحيل في الحيز بعيداً عنها، فهذا لا تزيد درجة حرارته على أربع درجات فوق الصفر المطلق (أي أقل من 268 درجة تحت الصفر العادي)
فالحياة جائزة كويكبات تقع على مسافة معينة من هذه الشموس، إذا ابتعدنا عن هذه المناطق المعينة امتنعت الحياة للبرودة المهلكة، وإن اقتربنا امتنعت أيضاً بسبب الحرارة المحرقة.
ونستدل من الحساب على أن المناطق التي تجوز فيها الحياة لا تكون إلا واحداً على مليون البليون من مجموع الحيز. على أن الحياة تندر في هذا الجزء النادر من الحيز، ذلك لأن تناثر جزء من إحدى الشموس وانفصاله عنها يعد حادثاً نادراً جداً، ويغلب على الظن أنه يوجد نجم واحد في كل مائة ألف نجم يشبه الشمس في وجود سيار يدور حوله كالأرض حيث الحياة على هذا السيار قد تكون جائزة.
لهذا يجوز الاعتقاد أن الكون لم يخلق خاصاً لغرض الحياة، هذا رأي يميل إليه السير جينز وغيره، والواقع أنه لا تناسب مطلقاً بين عظمة الكون والنتيجة الضئيلة الموجودة في بعض أجزائه والتي ترى أثرها في الحياة.
على أننا لا نعلم هل توجد شروط طبيعية كافية بذاتها لإيجاد الحياة، فَثَمَّ مدرسة تعتقد أنه عندما بردت الأرض كان لا بد من ظهور الحياة في أثناء ذلك، ومدرسة أخرى تقول إن حادثاً أولاً أوجد الكائن وأنه كان لا بد من حادث ثان ليوجد الحياة في الكائن.
على أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية عادية، هي الكربون كالذي نجده في دخان المصانع، والأكسجين والهيدروجين كالذي نجدهما في الماء، والأزوت الذي يُكوِّن الجزء الأكبر من الجو المحيط بنا - كل هذه الجزيئات والذرات الموجودة في الكائن الحي كانت موجودة حتماً في الأرض، هذه المولودة الجديدة، وقد حدث في وقت من الأوقات أن مجموعة من هذه الذرات - بطريق الصدفة - ترتب بالطريقة الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وكان لا بد من ذلك مع طول الزمن، كما كان لا بد للقردة الستة من أن تُسَطِّر يوماً أحد أشعار شيكسبير. وعلى هذا لنا أن نتساءل هل هذه الذرات بترتيبها هذا هي التي كونت بمفردها وبهذا الترتيب الخلية الحية؟ وبعبارة أوضح، هل الخلية الحية هي مجرد مجموعة من الذرات العادية مرتبة بشكل خاص أو هي شيء آخر؟
هل المادة الحية مجموعة من الذرات أو هي مجموعة من الذرات مضافاً إليها الحياة؟ وبعبارة أخرى هل يستطيع كيميائي ماهر أن يوجد لنا الحياة على أي شكل باستعمال عدد معين من الذرات أو تنقصه قوة أخرى غير العدد والترتيب؟
هذا ما نحاول أن نتناوله في المقال القادم. ويبدو لي أنه للإجابة على ذلك لا مناص من الدخول في عميق العلوم الطبيعية فنبدأ وصفاً وجيزاً للمادة وللمادة الحية وفق آراء العلماء اليوم.
وخلاصة القول أنه بالرجوع إلى فكرة ترجع في الواقع لشيء أشبه بحساب الاحتمالات وبالرجوع إلى جواز طول الزمن وجد العلماء مخرجاً وتفسيراً محتملاً لوجود الأرض ولوجود الحياة عليها، تفسيراً مبنياً على الصدفة.
في مثال ذكره العالم الكبير جان بيران الأستاذ الكبير هنري موتون إن اعتبرنا الحركة
البروانية التي تتلخص في أن ما يصيب أي جسم داخل السائل من ضغط هو مجموع صدمات جزيئات السائل عليه، فان لنا أن نعتقد أنه يصح بعد ملايين السنين أن يحدث مرة أن يرفع الماء قالباً من الطوب مغموراً في ماء ساكن، وعندئذ لنا أن نعتبر حادث رفع هذا القالب على سطح الماء من المعجزات النادرة، وإن كان هذا الحادث ليس مستحيلاً عند العالم الذي يعرف الحركة البروانية والذي يتوقع حدوثه يوماً.
ومع جواز تسليم القارئ بما يذهب إليه كل من هاكسلي وبيران فالحياة عندي رغم القردة التي يصح أن تكتب يوماً ما سطراً من الشعر ورغم الطوبة التي يصح أن ينهض بها الماء، من الغرابة بحيث لا تطاوعنا النفس على أن نعتبرها وليدة الصدفة وأنها طرأت عن غير قصد.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوريون
ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة، دبلوم
المهندسخانة
النباتات آكلة الحشرات
بقلم رضوان محمد رضوان
تتشابه النباتات بوجه عام في نظم تركيبها واحتياجاتها الغذائية سواء كانت هذه النباتات مائية أو نامية في الصحارى أو على قمم الجبال؛ إلا أن شكلها الظاهري وتركيب بعض أعضائها الداخلية تتحور وتعدل تبعاً للبيئة التي يوجد بها النبات حتى يمكنه أن يعيش في الظروف التي تحيط به؛ وهذا هو الحال في النباتات آكلة الحشرات.
فمن المعلوم أن النبات يحتاج في غذائه إلى عناصر خاصة. لا بد من توفرها في البيئة التي يعيش فيها النبات حتى يمكنه النمو والحياة. والنباتات الخضراء حساسة جداً لعنصر الأزوت فهو من أهم العناصر المكونة للبروتوبلازم الحي؛ كما أن النبات لا يمكنه امتصاص الأزوت إلا على صورة أزوتات، وعلى ذلك فوجود الأزوتات أمر ضروري لحياة النبات.
ويقوم بتجهيز أملاح الأزوتات للنبات أنواع من الأحياء الدقيقة تعرف باسم (بكتريا التأزت) فهي تحول النوشادر إلى حمض الأزوتوز ثم تؤكسده وتحيله إلى حمض الأزوتيك الذي يتحد بالأملاح القلوية مكوناً أملاح الأزوتات.
أما في الأراضي التي لا تعيش فيها بكتريا التأزت لعدم ملائمة الظروف لها كأن تكون الأرض حمضية مثلاً، فعلى ذلك لا تتوفر أملاح الأزوتات اللازمة لحياة النبات، كان لا بد للنباتات التي تعيش في مثل هذه الأراضي أن تبحث عن وسيلة جديدة للحصول على الأزوتات اللازمة لها، وفعلاً قد هيأتها الطبيعة بتحورات خاصة لتجعلها ملائمة لاقتناص الحشرات حتى تستطيع أن تستمد منها عنصر الأزوت. وسنذكر فيما يلي أهم أنواع هذه النباتات وطريقة كل منها في الاقتناص:
نبات الدروزيرا
ينمو في وسط حمضي فيستحيل على الجذور أن تمتص أملاح الأزوتات، وفيه الأوراق ضخمة بها عدد من الزوائد الحساسة التي تفرز مادة لزجة حمضية؛ فإذا ما سقطت حشرة ما على ورقة من هذه الأوراق، التصقت بالمادة الرحيقية حالما تلامسها، وعبثاً تحاول الحشرة الفرار، فإنها إذا حاولت ذلك اشتبكت بزوائد أخرى، فتصير داخل شبكة محكمة من
هذه الزوائد الحساسة، وبهذا يصبح خروجها ضرباً من المحال. فإذا ما اقتنص النبات فريسته تنحني تلك الزوائد فوق الحشرة وتفرز عليها أنزيم الببسين لهضم الحشرة وإذابة جسمها، وبعد ذلك يمتص النبات تلك المواد المذابة، ثم تعتدل الزوائد وتعود الورقة إلى شكلها الطبيعي وتتهيأ لاقتناص فريسة أخرى.
نبات النيبنثس
يوجد هذا النبات في بلاد الملايو، وهو يحتال على اقتناص الحشرات بطريقة طريفة، فنجد أن جزءاً من الورقة يتحور إلى شكل جرة ذات غطاء يتحكم النبات في فتحه وقفله حسب حاجته. وتتجمع قطرات ماء المطر داخل هذه الجرة؛ ويستعين النبات على جذب الحشرات برحيق حلو الطعم يفرزه داخل الجرة، فإذا ما دخلت فيها حشرة لامتصاص الرحيق انزلقت أرجلها وسقطت في الماء. وفي الوقت نفسه يغلق الغطاء وبذا توصد أوجه الخلاص أمام الحشرة وتفقد كل أمل في النجاة، حينئذ يبتدئ النبات في عملية الهضم بواسطة إنزيما خاصة يفرزها لإذابة الحشرة حتى يتمكن من امتصاص المواد الناتجة. بعد ذلك يفتح غطاء الجرة وتستعد الورقة لاستقبال قادم جديد وهكذا.
وهناك نبات معروف في شمال أمريكا يسمى مثل نبات النيبنثس.
نبات الديونيا
تحتوي ورقة هذا النبات على مصراعين يتحركان على العرق الأوسط وتنتشر على السطح العلوي لكل منهما زوائد شوكية دقيقة، فإذا وقفت حشرة ما على الورقة انقفل المصراعان فجأة وبسرعة وتنغرز الأشواك الحادة في جسم الحشرة فتمزقها وبذا تبدأ عملية الهضم والامتصاص.
حامول الماء
ويوجد هذا النبات في مصر منتشراً في المياه العذبة، وتحمل أفرعه أجزاء منتفخة أشبه بالمثانات بها خلايا خاصة ولها غطاء يفتح للداخل فقط، فإذا لامست إحدى الحشرات المائية الشعور الحساسة، انفتح الغطاء بسرعة إلى الداخل، واندفعت الحشرة مع الماء إلى داخل المثانة، وتبقى هنالك حتى تموت وتتعفن. ثم تمتص بعد ذلك بواسطة الخلايا المبطنة
لجدر المثانة.
هذا وقد قرأت أخيراً في إحدى المجلات الأمريكية نبأ العثور على نوع من الأشجار يفترس الإنسان؛ فقد روى العلامة الدكتور كارل ليشي أحد الرواد النمسويين ومن أقطاب العلماء، أنه أثناء رحلته في ارتياد مجاهل جزيرة مدغشقر اتفق أن رأى منظراً غريباً ملك عليه حواسه وأخذ بلبه. ذلك أنه رأى جماعة من الزنوج يدفعون فتاة عارية نحو شجرة هائلة تشبه شجر الأناناس ولها أوراق ضخمة، ويبلغ محيط الشجرة من أسفل ست أقدام أو أكثر، ويخرج منها أفرع طويلة ذات أوراق عريضة إبرية الحافة، ويسيل من الشجرة رحيق مسكر، حتى إذا ما وصلت الفتاة إلى الشجرة أرغموها على شرب الرحيق. فلم تكد تفعل حتى انتابتها نوبة من الإغماء قد تكون من تأثير الخوف، وقد ترجع إلى أن الشراب مخدر للأعصاب.
وما لبثت الأوراق أن التفت حولها واحتوتها بين أسنانها وبذا اختفت عن الأنظار، وما لبث أن سال دم الفتاة مع رحيق الشجرة فأقبل الزنوج عليه يشربونه بشراهة وغلظة.
وقد أيد هذه المشاهدة الكابتن هرست الإنجليزي الذي قام على رأس بعثة علمية لارتياد مجاهل مدغشقر؛ فقد وصف ما شاهده وقال إن أوراق تلك الشجرة تلبث مطبقة ستة أيام أو أقل قليلاً ثم تنفرج عن هياكل عظمية تذروها الرياح.
أقول إن هذه المشاهدات سواء كانت واقعية أو خيالية لا تخالف العلم فقد رأينا كيف أن النبات يفترس الحشرات في احتياجه إلى الأزوت؛ ولن يميز النبات بين حشرة أو حيوان أو إنسان إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً. وأغلب الظن أن الشجرة المذكورة في جزيرة مدغشقر، تعتمد في غذائها على الحيوانات التي تلجأ إليها ليلاً أو فراراً من القيظ أو هرباً من عدو، وأن الأهالي وقد عرفوا فيها تلك الخاصية قدسوها وأخذوا يقدمون لها القرابين من الفتيات، ويشربون من رحيقها المسكر المختلط بدم الضحايا، وهم يعتقدونه شراباً إلهياً قدمته إليهم الآلهة تقبلاً منها وكرماً.
هذه كلمة موجزة عن النباتات آكلة الحيوان، وهي جديرة بأن تسمى:(النباتات آكلة اللحوم) أسوة بالحيوانات (آكلة اللحوم).
رضوان محمد رضوان
بكالوريوس في العلوم الزراعية
رِسَالة الفَن
فيدياس
للدكتور أحمد موسى
كان لاستيقاظ الشعب الإغريقي ونمو الروح الوطنية فيه بعد الحروب الفارسية أن ازدهر فن النحت على أيدي الذين استطاعوا السيطرة على الخلْق التكويني، ووصلوا إلى أقصى درجة من الإعجاز في إخراجه، فكان لمنحوتاتهم أن مثلث المثُل العليا أسمى تمثيل وعبرت عن الوصول إلى درجة الكمال؛ فارتبط الواقع بالجمال المُثلى، وظهر النحت الإغريقي بمظهر لا يزاحم فيه إطلاقاً.
وكان استعداد الإغريق للنحت هائلاً، فجعلوا من تماثيلهم البارزة ونصف البارزة ما سجلوا به الموهبة الفطرية والعقلية والفنية في هذا المجال.
ولهم من منحوتاتهم ما أظهر عقائدهم الدينية والكيفية التي كانت تسير عليها عاداتهم فضلاً عن حياتهم العامة التي كانت الألعاب الرياضية ركناً هاماً من أركانها.
وكان ولا يزال وسيظل النحت الإغريقي مثار إعجاب الإنسان المتحضر ورمزاً للتفوق ومثلاً عالياً يحلق في سماء الفن، لا يمكن لطامح أن يعلق بأطرافه.
وللنحت في بلاد الإغريق مناطق ومراحل ومدارس. أما من حيث المناطق فخيرها لهذا المقال منطقة أثينا، وأما المرحلة الزمنية فهي المحصورة بين سنة 470 وسنة 330 قبل الميلاد، لأن هذه هي مرحلة (عصر الرفعة) أو (الازدهار).
على أنه يمكن تقسيم هذا العصر إلى قسمين: أولهما أو أقدمهما استغرق القرن الخامس قبل الميلاد (من كيمون إلى حرب البيلوبونيز) وفيه تناول النحات الإغريقي الحقيقة الواقعة أمام عينيه في أحسن وضع لها؛ فلم تكن تنتحي هذه الحقيقة إلى فرد بعينه، بل إلى النوع كلية، في شيء من السمو في الخيال والتصور، فكانت طابعية النزعة وليست طابعية الإخراج.
ومع هذا لا يزال المشاهد يتصور أو يظن (وحيناً يعتقد) أن التماثيل - في تلك المرحلة
على الأقل - قد عبرت بتفاصيلها وطريقة إخراجها عن أصحابها التي نحتت من أجلهم تعبيراً حقيقياً أو طبيعياً، ولكن هذا بعيد الاحتمال بالنظر إلى ما في تكوينها من جمال ساحر قلما يوجد مثله في النوع الإنساني.
ولعله جدير بالذكر أن المظهر الكلي والمجموع الإنشائي لمنحوتات (عصر الرفعة) أو (الازدهار) يعطي فكرة المبالغة في الأحجام مع تمام التناسب، ولم يقصد النحات الإغريقي من ذلك إلا إبراز المعالم في مظهر من القوة وعلو الهمة ووجود الشخصية، في هدوء نفساني وبعد عن العنف.
وأما الحركة الجسمانية التي تعبر عن الحيوية فهذه مع بساطتها - نسبياً - من حيث التنويع؛ فإنها عبرت خير تعبير عن اليقظة والنشاط.
ولا يوجد من يمكن اعتباره في مقدمة هذا العصر سوى زعيم المدرسة الأتيكية القديمة (نسبة إلى أتيكا) ألا وهو فيدياس الذي لا يزال ليومنا من أعظم فناني العالم أجمع.
ولد فيدياس بن خرميدس الاثيني في عام 500 ق. م. واشتغل مصوراً في أول الأمر ثم تتلمذ على وبعدئذ استقل في عمله حتى استدعى لنحت تمثال زويس المعروف في أوليمبيا، وعاد إلى أثينا والتقى فيها ببركليس وعمل في البارتنون.
وبعد ما أتم تمثال أثينا سنة 483 اتهم بالخيانة وطلب للمحاكمة ولكنه مات قبل الحكم عليه.
وأبرز مميزات فنه أنه أول وأعظم مثال مُثلى بكل معاني الكلمة، لا سيما وأنه حصر مجهوده الجبار في خلق تماثيل الآلهة واستطاع التعبير عن المثل الأعلى في التكوين الجسماني المتناسب مع تمثيل الآلهة، فاتخذ من جسم الإنسان مادة بيانه، ولكنه ارتفع بتماثيله إلى المستوى الذي أبعدها عن الصفات البشرية وقربها من الألوهية؛ فبدت في غاية كمال الانسجام التفصيلي للأعضاء ونهاية الكمال المجموعي للإنشاء، وأصبحت مدرسة أتيكا تسير على منواله وعرفت بهذه الميزات الرائعة من بعده.
اشتغل فيدياس بنحت تماثيله من سن الفيل والذهب حيناً، ومن البرنز حيناً آخر ولكنه نحت في الرخام نادراً.
أما أعماله التي استطعنا أن نقف عليها فأولها تمثاله لأثينا برماخوس على مرتفع أكروبوليس وكان ارتفاع هذا التمثال نحو العشرين متراً. وقد سبق أن نوهنا بذكره في
مقال سابق.
وله أيضاً مجموعة رائعة مثلت ملتيادِس القائد الذي انتصر على الفرس في موقعة ماراتون سنة 490 ق. م. وحوله الآلهة وأبطال أتيكا، كما مثل الأثينيين يقدمون الهدايا والقربان في دِلفي.
هذا إلى جانب تماثيل معبد زويس الذي اعتبره الإغريق إلهاً للسماء والبرق والضوء، والذي يقابله الإله جوبيتر عند الرومان، وتماثيل معبد أثينا بارتنوس
وكان الجسم مكوناً من سن الفيل والملبس من صفائح الذهب؛ وقد تم تمثال زويس سنة 448 ولكنه حرق بعدئذ، ولولا الصور التي سُكّت على نقود إليس لما أمكننا أن نعرف من شكله شيئاً. جلس زويس (ش1) على عرش بديع حاملاً بيمينه إلهة النصر وفي يساره العصا، وواضعاً قدميه على كرسي صغير خصص لهذا الغرض، وأحيط الرأس بغصن الزيتون فوق شعره المجعد، كما أحيط الوجه بذقن كثيف. وإذا تأملت صورة اليمنى فإنك تجد القوة والنبل والجمال السامي مرتسماً في وضوح على وجه زويس. وقد تحلى الملبس ببعض رسومات ملونة على الذهب. أما قاعدة العرش فقد تحلت برسومات تمثل مولد أفروديت إلهة الحب عند الإغريق، والتي خلقت كما هو مذكور في قصص الآلهة، من زبد ماء البحر. ولا بد لنا من أن نذكر أن نظرة زويس تدل على الحلم والجبروت، وهذا منطبق على صفة الألوهية في معناها الكامل.
وكان تمثال أثينا بارتنوس من سن الفيل والذهب أيضاً، أتمه سنة 438 إلا أنه اختفى منذ أوائل القرن الرابع. وكان ما حصلنا عليه تمثالان منقولان عن الأصل، أحدهما كبير عن الآخر، وهما محفوظان في متحف أثينا. ويخيل إلينا أن الأكبر منهما أقرب إلى الأصل بالنظر إلى ما فيه من تفاصيل تتناسب مع ما عرف عن فيدياس وما امتاز فنه به من طابع خاص.
وله قطعة تمثل أثينا وهي من بدائع معروضات متحف عاصمة بلاد اليونان. هذا عدا تمثال برنزي على جانب عظيم من الجمال لأثينيا ليمنيا قدّمه الليمنيون إلى مرتفع أكروبوليس.
وفي متحف درسدن تمثالان رخاميان مماثلان له يظهر أنهما منقولان عنه. أما في روما فله
تمثال لأفروديت أورانيا، ولهِرمس ابن زويس الذي اعتبره الإغريق إلهاً للرعاة ورسولاً للآلهة وإلهاً للطرق والتجارة، وهو الذي يقابل عند الرومان الإله مِركور.
وكان لفيدياس تلامذة أمجاد منهم من سار على خطاه مثل أجور الذي ساعده في العمل بأوليمبيا، ومنهم من ارتسم لنفسه خطة خاصة مثل ليكيوس بن ميرون وتلميذه، وسترونجيليون الذي كان بارعاً في نحت تماثيل الخيل في حالة السير والتسابق، وكريزيلاس.
واستعان في خلق تمثال زويس بشعر هوميروس الذي فيه وصف الإله وصفاً مكن النحات من خلقه (ش2). ولعلنا بالمقارنة بين الرأسين نجد غنى الفنان واضحاً جلياً، فلا ملامح متشابهة ولا الشعر على أبسط جانب من التماثل.
ونختار هنا جانباً من التماثيل المنحوتة في جزء من وسط المثلث الواقع تحت جمالون الواجهة الغربية لمعبد زويس في أوليمبيا لنقف على مدى العظمة الفنية التي تجلت في عمل فيدياس (3).
أنظر إلى تفاصيل الأجسام، وتأمل تكوين العضلات، وشاهد الحركات الرائعة في كل جزء من أجزاء القطعة، ثم انتقل بنفسك فجأة إلى مصر وإلى من يقدّر الفن فيها ويفهمه، تجد أننا بحالتنا الراهنة لا نستطيع أن نخلق جيلاً يتذوق الجمال في الوقت الحاضر.
أما المستقبل فهو رهين بما نعده الآن، فإن لم يتكاتف الشعب المصري مع الحكومة كلٌّ في دائرته على إحياء الفن والعمل على تعليم النشء كيف ينظر وكيف يتأمل وكيف يتذوق فلا أمل عاجلاً أو آجلاً في شيء.
أحمد موسى
الشيخ محمد رفعت
من الوجهة الفنية
للأديب محمد السيد المويلحي
أكبر الظن أن القراء سيعجبون ما وسعهم العجب، ويدهشون ما مكنتهم الدهشة لأننا نعتبر الأستاذ الشيخ محمد رفعت المقرئ المعروف بل سيد قراء هذا الزمن - موسيقياً قبل أن نعتبره مقرئاً. ولكنهم لو علموا أن الأستاذ موسيقي بفطرته وطبيعته وأنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها، وأقدس وأزهى ألوانها، لكفوا أنفسهم مؤونة العجب والدهشة. . . لو علموا أنه (بصوته) فحسب يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى (أوركستر) يشد أزره ويهيئ الأذهان لفنه ويرسم الطريق لصوته، للمسوا موضع الإعجاز في فن هذا الرجل العجيب. وليتصور كل منا مطرباً أو مطربة يغني أو تغني دون مصاحبة (تخت) ماذا يكون، وماذا تكون. . .؟؟
إن البعض يستتر خلف هذه الموسيقى لتضفي عليه لوناً من الحسن والقبول، ولكن أستاذنا لا يعتمد إلا على نبرته اللامعة، وصوته الملائكي الحنون، وفنه المرهف، وأسلوبه المقتدر المبتكر. .!
(محمد رفعت). . . اسم يخطه القلم بسهولة وبساطة وسرعة فما إن يخط. . . حتى يهيئ للأذهان جواً غير الجو الذي كانت تعيش فيه. . . جواً من النور تسبح فيه أطياف الملائكة، وتغرد فيه بلابل الجنان، ويعطره أريج شذى ندى نقي. جو القرآن الكريم، المرتل، المفسر، الذي تخشع له القلوب، وتخضع له النفوس، وتؤسر له الأرواح مهللة مكبرة، جو الصفاء والنقاء الذي يتخلص فيه الإنسان من أدرانه وأوضاره، وشروره وآثامه. الجو الذي تصفو فيه الروح لتحلق في سماء قدرة الله ورحمته وحنانه، الجو الذي يخضع له العاصي، ويخشع له المتكبر المتجبر الذي يظن أنه كل شيء وما هو بشيء أمام جبروت الله وكبريائه.!!
صوت تبارك من خلقه وصوره، وخصه بهذا السحر الذي ينشر ألويته، ويرفع بنوده فوق ملايين البشر في أنحاء العالم الفسيح.
صوت لم يخلق الله مثله في لونه ونوعه، كما لم يخلق - جل شأنه - بصمتين متشابهتين،
فجاء فريداً وحيداً غنياً بكل ما في الفن من قدرة واقتدار. . .!!
يقول البعض أنه ضعيف (ضيق الحجم) لا يستطيع أن يظهر في المجتمعات المحتشدة، ونقول لهذا البعض إن الجمال لا يتوقف على القوة والشدة، والارتفاع. فالحمار كبير والبلبل صغير والفرق واضح بينهما. .!
يتكون صوته من ديوانين ونصف (18 مقاماً) تقريباً. ديوان (بريتون) وديوان (تينور) ثقيل ونصن ديوان (تينور) خفيف ويمتاز (باستعارته) التي لا يستطيع أن يحاكيها إلا كل صوت سليم قوي. . .
استعارة تزيد على الديوانين والنصف بنصف ديوان تقريباً. فهو كما نرى صوت سليم قوي وإن كان صغيراً في حجمه. . .
أنبل ما في هذا الرجل السامي تواضعه الجم وحياؤه الإيماني، تواضعه الجم مع أن عرشه من فلذات القلوب والأرواح ومع أن جمهوره يزري بجمهور أكبر مطربينا ومطرباتنا لا في مصر وحدها بل في بقاع العالم المترامي، لا من المسلمين فحسب بل من جميع الملل والأديان. . .
أعرف تاجراً كبيراً (مسيحياً) في الموسكى لا أمل له ولا سلوى إلا سماع رفعت. وأذكر في هذا الصدد أن ابنته - وهي متزوجة - كانت على شيء من التعصب فأتلفت (الراديو) عمداً حتى لا يتأثر والدها فيغير عقيدته - كما صور لها الوهم - فلما علم بالأمر طردها هي وزوجها وأولادها من بيته، ثم اشترى آلة جديدة ليرضي روحه من فن رفعت العالي، وقرآنه المرتل المفسر! والقس (م. ع) الذي أسلم في العام الماضي لم يسلم على يد واعظ أو عالم، وإنما أسلم على (صوت) رفعت وحسن ترتيله، وسحر تأثيره.
لو أتيح للقراء أن يذهبوا إلى - الشام - لعلموا أن رفعت هناك مقدس، إذا قرأ سكنت الأصوات وانقطعت الهمسات، وعم السكون، وامتلأ الجو كله تأثراً وخشوعاً ونوراً، فكل بيت وكل فرد يتمنى أن يجود بكل ما يملك حتى يسمعه دواماً.
هذا الرجل وهذه منزلته ومكانته يأبى أن يلقبه المذيع بكلمة (الأستاذ) لأن بعض المقرئين طالبوا أن يلقبوا هم أيضاً كما يلقب فرفضت المحطة فتنازل عن لقبه حتى لا يتألم إخوانه!
تقواه مضرب المثل، وكرمه يشمل الجميع. يعتقد أن توفيقه من الله وحده لا من صوته ولا
من فنه؛ لهذا يخلص له الإِخلاص كله. فإذا قرأ، قرأ بخشوع وفهم لما يقول. يعينه على ذلك إلمامه ببعض علوم العربية وعلم القراءات.
لم يتعلم الموسيقى على معلم ولا في مدرسة، بل ربى نفسه بنفسه، وله في أذنه الموهوبة خير ضمان. وقد عوده الله أبداً أن ينصره ويوفقه، ويجمع حوله القلوب. . .
قد يدهش القارئ إذا علم أن بعض إخوانه يحاربه ويشيع حوله الشائعات المختلفة التي بلغت مرة درجة (الموت)، وقد يدهش أكثر إذا علم أن محطة الإذاعة (لسبب مجهول) تشايع من هم دونه في كل شيء فإذا سألته: ولم لا تظهر هذا للملأ. . .؟ قال: (عودني الله أن يوفقني أبداً. فماذا يصنع العبد أمام إرادة خالقه. . .؟!)
كما أن للورد أريجه، وللماس بريقه. . . فللأستاذ (رفعت) سحره الآسر، وأثره الساحر، وسيبقى اسمه متألقاً ساطعاً في سماء الخلود. . .!!
محمد السيد المويلحي
رسَالة الشِّعر
ابنة الفجر
للأستاذ إيليا أبو ماضي
حينما يغمض الحِمام جفوني
…
ودوي صوت مصرعي في المدينة
وتمشي في الأرض داراً فداراً
…
فسمعتِ دويه ورنينه
لا تصيحي وا حسرتاه لئلا
…
يدرك السامعون ما تضمرينه
وإذا زرتني وأبصرت وجهي
…
قد محا الموت شكه ويقينه
ورأيت الصحاب جاثين حولي
…
يندبون الفتى الذي تعرفينه
وتعالى العويل حولك ممن
…
مارسوه وأصبحوا يحسنونه
لا تشقي عليّ ثوبك حزناً
…
لا ولا تذرفي الدموع السخينه
غالبي اليأس وأجْلسي عند نعشي
…
بسكون إني أحب السكينة
إن للصمت في المآتم معنى
…
تتعزى به النفوس الحزينة
ولقول العذال عنك (بخيل)
…
هو خير من قولهم (مسكينة)
وإذا خفت أن يثور بك الوج
…
د فتبدو أسرارنا المكنونة
فارجعي واسكبي دموعك سراً
…
وامسحي باليدين ما تسكبينه
يا ابنة الفجر من أحبك ميت
…
ولأنتِ بمثل هذا رهينة
زايل النور مقلتيه وغابت
…
تحت أجفانه المعاني المبينة
فأصِيخي هل تسمعين خفوقاً
…
كنت قبلاً في صدره تسمعينه
وانظري ثم فكري كيف أمسى
…
ليس يدري عدوه وخدينه
ساكتاً لا يقول شيئاً ولا يس
…
مع شيئاً وليس يبصر دونه
لا يبالي أأودعوه الثريا
…
أم رموه في حمأة مسمومة
وإذا الحارسان ناما عياء
…
ورأيتِ أصحابه يتركونه
فتعالي وقبلي شفتيه
…
ويديه وشعره وجبينه
قبل أن يسدل الحجاب عليه
…
ويوارى عنكِ فلا تبصرينه
واحذري أن تراك عين رقيب
…
ولئن كان حل ما تحذرينه
فإِذا ما أمنت لا تتركيه
…
قبلما يفتح الصباح جفونه
وإذا الساعة الرهيبة حانت
…
ورأيتِ حراسه يحملونه
وسمعت الناقوس يقرع حزناً
…
فيرد الوادي عليه أنينه
زودي الراحل الذي مات وجداً
…
بالذي زود الغريب السفينة
نظرة تعلم السموات منها
…
أنه مات عن فتاة أمينة
طوت الأرض من طوى الأرض حياً
…
وعلاه من كان بالأمس دونه
واختفى في التراب وجه صبيح
…
وفؤاد حر ونفس مصونة
وإذا ما وقفت عند السواقي
…
وذكرت وقوفه وسكونه
حيث أقسمت أن تدومي على العه
…
د وآلى بأنه لن يخونه
حيث علمتِه القريض فأمسى
…
يتغنى كي تسمعي تلحينه
فاذكريه مع البروق السواري
…
واندبيه مع الغيوث الهتونة
وإذا ما مشيت في الروض يوماً
…
ووطأتِ سهوله وحزونه
وذكرت مواقف المجد فيه
…
عندما كنت بالهوى تغرينه
حيث علمته الفتون فأضحى
…
يحسب الأرض كلها مفتونة
حيث وسدته يمينكِ حتى
…
كاد ينسي شماله ويمينه
حيث كنتِ وكان يسقيك طوراً
…
من هواه وتارة تسقينه
حيث حاك الربيع للروض ثوباً
…
كان أحلى لديه لو ترتدينه
فالثمي كل زهرة فيه إني
…
كنت أهوى أزهاره وغصونه
ثم قولي للطير مات حبيبي
…
فلماذا يا طير لا تبكينه
وإذا ما جلست وحدك في اللي
…
ل وهاجت بك الشجون الدفينة
ورأيت الغيوم تركض نحو الغ
…
رب ركضاً كأنها مجنونة
ولحظت من الكواكب صداً
…
ونفاراً، وفي النسيم خشونة
فغضبتِ على الليالي البواقي
…
وحننت إلى الليالي الثمينة
فاهجري المخدع الجميل وزوري
…
ذلك القبر ثم حيّي قطينه
وانثري الورد حوله وعليه
…
واغرسي عند قلبه ياسمينة
(الولايات المتحدة)
ايليا أبو ماضي
توبة المكرَه
للأستاذ حسين شفيق المصري
كبرتُ وهدني طولُ الليالي
…
فلا حالٌ تسُر ولا وَسامة
فماذا تبتغي الغاداتُ مني
…
أضعفي يبتغين أم الدّمامة؟
وماذا أبتغي منهن ويحي؟
…
أيهوى الشيخُ أم يشكو سقامه
كبا فرسُ الهوى فسقطتُ عنه
…
ومات فلستُ بالراجي قِيامه
وأقعدني عن اللذات عجزي
…
فليست توبتي عقبى ندامة
فما صومي الغداة ولا صلاتي
…
بشيءٍ نافعي يومَ القيامة
حسين شفيق المصري
حنين
للأستاذ حسن حمدي بك
يا غائبين عن العليل لأنتمُ
…
في القلب مهما غبتمُ شُهّادُ
يا عائديه في الكرى عودوا، فِدىً
…
لخيالكم في اليقظة العُوّاد
لا تحسبوا الآحاد طابت بَعدكُمْ
…
طابت لكمْ ما عِشتُمُ الآحاد
لا تحسبوا الأعياد عادت بَعدكُمْ
…
أيّام قربكمُ هي الأعياد
بحياة من وقف الجمال عليكمُ
…
وحياتكم قولوا متى الميعاد
كم قلت من أسفي عليكم نائحاً:
…
بانت، فيا أسفاً عليَّ، سُعاد
فمتى أقول من ابتهاجي شادياً:
…
(يا مصر أهلك بالسلامة عادوا)
حسن حمدي
من الشعر المنسي لحافظ
إلى الرئيس روزفلت!
(مر مستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة بمصر وهو عائد
من الصيد والقنص في أواسط أفريقيا في مارس سنة 1910،
فخطب في الجامعة المصرية خطبة أشاد فيها بأبناء عمومته
الإنجليز وحمد صنيعهم في مصر. فقال له حافظ هذه
الأبيات):
إي خطيبَ الدنيا الجديدة شَنِّف
…
سمعَ مصرٍ بقولك المأثور
إنما شوقها لقولك يا (روز
…
فلت) شوق الأسير للتحرير
قف غداً أيها الرئيس وعلم
…
أهل مصرٍ حرية التعبير
أخبر الناسَ كيف سُدتم على النا
…
سِ وجئتم بمعجزات الدهور
وملكتم أعنَّة الريح والما
…
ء ودُستم على رقاب العصور
قف وعددْ مآثر العلم واذكر
…
نِعَم الله ذكر عبدٍ شكور
وإذا ما ذكرت أنعمَه الكب
…
رى فلا تنس نعمةَ الدستور
يا نصير الضعيف مَالك تطري
…
خلةَ القوم بعد ذاك النكير
لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم
…
في حمامكم من دونهم ألفَ سُور
أنت تطريهمو وتثني عليهم
…
نائياً آمناً وراء البحور
ليت شعري أكنت تدعو إليهم
…
يوم كانوا على تخوم الثغور
يوم كانوا قذىً بعين (نيويور
…
ك) وداء مستحكما في الصدور
يوم نادى (واشنجطون) فلبّا
…
هـ من الغاب كلُّ ليثٍ هَصور
يوم سجلتمو على صفحات الد
…
هر تاريخ مجدكم بالنور
ووثبتم إلى الحياة وثوباً
…
ونفضتم عنكم غبار القبور
إنما النيل و (المسيسبي) صنوا
…
ن هما حَلْبتان للمعمور
وعجيب يفوز هذا بإِطلا
…
ق وهذا في ذلة المأسور
يا نصير الضعيف حبب إليهم
…
هجر مصر تفز بأجر كبير
فعليهمْ أن يهجروا وعلى المص
…
ري ذكر المتيَّم المهجور
م. ف. ع
البَريد الأدبي
غريب
قرأت بدهشة وعجب كلمة الأستاذ (م. ح. ب) من الخرطوم في العدد (292) من الرسالة، ولا ألومه أن يغضب إذا أهينت كرامته، أو مست قوميته بسوء؛ بيد أني حين تبرأت من أن أكون (زنجيّاً أو هنديّاً أو نوبيّاً أو حبشيّاً) كنت أشير إلى ما يعتقده الإنجليز في هذه الأجناس خاصة، ولذلك قلت فيما بعد:(ولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين الازدراء والامتهان، ويعدهم دونه في الذكاء والمدنية). وقلت: (إني لست في مقام جدال) حتى أفند هذا الرأي الخاطئ، إذ كنت حريصاً على إيجاد مأوى أستريح فيه من عناء السفر، وشدة الداء؛ وحين لاحت الفرصة دافعت بكل ما أوتيت من قوة عن (الشعوب الملونة) فقلت:(الآن عرفت الحقيقة، إذاً لا يوجد هناك تفوق في الذكاء كما لا يوجد تفوق في ميدان الحضارة والاستعداد لتقبلها، ولكن المسألة استعمارية بحتة)؛ وتكلمت عن الشرقيين عامة كما تكلمت عن المصريين خاصة، ولا يلمني الكاتب الفاضل إذا دافعت عن نفسي أولاً ثم عن غيري ثانياً.
الواقع أن الإنجليز وبعض الأوربيين حينما يرون شخصاً أسمر اللون، لا يفكرون إلا في هذه الأجناس؛ لأن الأمريكيين نشروا الدعاية السيئة ضد الزنوج، والاستعماريين شوهوا سيرة الهنود والنوبيين والأحباش ووصموهم بكل رذيلة وعيب. أما أنا يا سيدي فلم يزل قلمي، ولم يخطر قط ببالي أن أهين شخصاً ما، ولو عرفت مقدار صلتي بالهنود والسودانيين والأحباش لما اتهمتني بما ذكرت؛ ففي الهنود ذكاء عظيم، وفضل كبير، وعلم جم؛ والسودانيين إخواننا في الوطن والعروبة والدين، ومنهم أعز أصدقائي الأستاذ الأديب توفيق البكري كاتم سر (النادي السوداني بمصر) وأنا أعطف على ناشئتهم في مدارسنا المصرية عطف الأخ الأكبر على اخوته الصغار. إما الأحباش فقد اتصلت بهم في لندن أيام نضالهم مع الإيطاليين، وعرفت فيهم خلالاً حميدة، وأدباً غزيراً؛ ودرست اللغة الحبشية في معهد اللغات الشرقية بلندن على آخر وزير لخارجية الحبشة المستقلة الأستاذ (هروي) ويعد من إنكار الجميل أن يخطر ببالي إهانتهم ولعل في كلمتي هذه ما يزيل الشك، إن كان ثمة شك.
عمر الدسوقي
تاريخ العرب
لما كانت الظروف الحاضرة قد أحيت بين بلاد الشرق العربي صلاته القديمة، وجمعتها على أمل وحدتها التاريخية، للتعاون المشترك على النهوض والاستقلال، فقد تقدم اقتراح إلى وزارة المعارف لتعمل على وضع تاريخ للشعب العربي منذ أقدم العصور على أن يدلل هذا التاريخ، بحسب ما وصل إليه محققو العرب، على حقيقتين خطيرتين لازمتين للوحدة العربية: أولاهما أن الشعب العربي أعرق الشعوب جميعاً وهو واضع أسس الحضارة الإنسانية ومنظم العدالة ومبادئ العلم وتعتبر أرضه مهبط الشرائع السماوية جميعها. وثانيتهما أن الأمم الشرقية الحالية مما يحيط بجزيرة العرب أمم عربية خالصة مما يمتنع معه الاندفاع مع الدعايات السياسية الغربية من أن العراق آشوري وسوريا فينيقية ومصر فرعونية وبلاد المغرب بربرية وغير ذلك.
وقد رحبت وزارة المعارف بهذا الاقتراح، وشرعت في دراسته.
الشيخ طنطاوي جوهري وجائزة نوبل للسلام
سبق أن أشرنا إلى تقدم فضيلة الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري ببعض مؤلفاته لنيل جائزة نوبل للسلم في هذا العام، وقد كان من شروط التقدم لمثل هذه الجائزة أن يكون صاحب المؤلفات من أساتذة الجامعة أو أن يرشحه أحد الوزراء أو عضو في البرلمان أو أستاذ جامعي في الفلسفة أو التاريخ أو القانون أو السياسة.
ولقد تطوع لترشيح فضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، والدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان، فأخذت وزارة الخارجية بهذا الترشيح وأرسلت مؤلفات الأستاذ إلى البرلمان النرويجي مشفوعة بتقرير عن جهوده في سبيل العلم والسلام وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في قيمة مؤلفاته.
اللغة العربية في مدارس إيران
رغبت وزارة المعارف الإِيرانية في الأخذ ببعض مناهج التعليم في مصر على أثر اطلاعها عليها بمناسبة الدعوة لعقد مؤتمر شرقي للتعليم. وقد تبودلت رغبة أخرى في
دراسة اللغة العربية في إيران إذ لوحظ أن انتشار هذه اللغة يكون عاملاً على توثيق الروابط بين إيران وبين جاراتها الشرقية.
وينتظر أن تبدأ وزارة المعارف في أوائل العام المقبل في ندب عدد من مدرسي اللغة العربية للعمل في مدارس إيران.
الأغاني المصرية وتعميمها في العراق
تلقت وزارة المعارف من حكومة العراق طلباً بإرسال صورة من الأغاني المصرية والمقطوعات الشعرية الغنائية لتعميمها في بلاد العراق.
وقد أرسلت الوزارة بعض المقطوعات التي منح أصحابها جوائز مالية وبعض مقطوعات أخرى تمثل النهضة المصرية الحديثة ومنها النشيد القومي للأستاذ محمود محمد صادق.
وقد ذكرنا من قبل أن وزارة المعارف تعني الآن بإحياء الأغاني المصرية وتوجيهها التوجيه التهذيبي لتتمشى مع روح النهضة الحديثة.
قصيدة مولد الليل
سيدي الأستاذ صاحب الرسالة الغراء:
سلام الله عليك. وبعد فقد ورد في قصيدة الأستاذ الشاعر محمود الخفيف (مولد الليل)(الرسالة عدد 290) بيتان شذ عجزاهما عن تفاعيل بحر القصيدة، أحدهما (ومضت تمسح كف الدجى) والآخر (إن دجا فوقِيَ ليل الردى) ولعل هذا تطبيع فنرجو تصويبه ضناً منا بجمال هذه القصيدة أن يصيبه تشويه الكسر. وفي شعر الأستاذ الشاعر رقة وسمو في الخيال يغريان على حفظه والترنم به. وبقاء العجزين على حالهما فيه نبوٌ باللسان عن إنشادهما ونبوٌ بالأذن عند سماعهما.
هذا وحفظ الله ابن عبد الملك الزيات.
(نابلس)
فدوى
(الرسالة): نشكر للأديبة الفاضلة حسن التفاتها ودقة ملاحظتها ونرجو منها أن تقرأ الشطرين هكذا:
(ومضيت ماسحة كف الدجى)
(إن دجت فوقي دياجير الردى)
حول الفرقة القومية
نشر الأستاذ (ابن عساكر) حديثاً لي في العدد رقم 292 من مجلتكم الزاهرة أسقط منه - لعلة لا أعرفها - فقرة خاصة بالمؤلفين المسرحيين المصريين الذين أخرجت لهم الفرقة القومية روايات مسرحية، فذكر في الحديث المنشور ما يأتي:(ومن حيث الرواية فإن الفرقة لم تقدم كاتباً يؤبه له. . .)
هذا في حين أن العبارة التي أمليتها عليه إملاء - وإنني دائماً أملي أحاديثي أو أكتبها - هي: (ومن حيث الرواية فإن الفرقة لم تقدم كاتباً جديداً يؤبه له إلا الأستاذ توفيق الحكيم)
أمليت هذا إحقاقاً للحق، وتنويهاً بمجهود الأستاذ توفيق الحكيم في حين أنني لم أغمط قدر المؤلفين الذين تقدموه في كتابة المسرحية أمثال الأساتذة: إبراهيم رمزي ومحمود تيمور ولطفي جمعة وعباس علام ومحمد خورشيد وغيرهم.
لهذا أرجو التفضل بنشر هذه الكلمة استدراكاً لأمر خرج عن محاوره.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
زكي ظليمات
كلمة (فطاحل)
عثرت وأنا أقرأ المقدمة التي وضعها الأستاذان الكبيران العوامري والجارم عضوا المجمع الملكي، لكتاب البخلاء (طبع دار الكتب المصرية) على الجملة الآتية:
(وليس من غرضنا في هذه الكلمة أن نجلو على القارئ فن الجاحظ وأدبه ولا. . . أن نقايس بينه وبين فطاحل العصر العباسي من الكتاب والمنشئين) ص3 سطر 4
وكلمة فطاحل هذه هي جمع فِطَحْل، وقد استعملها كثيرون وأرادوا بها معنى العظيم. على أنها ليست من هذا المعنى لشيء على ما نحسب. جاء في اللسان:
(فِطَحْل كهزبر: الأرض قبل أن يخلق الإنسان. البعير الضخم.) وذكر مثل ذلك صاحب القاموس والتاج والنهاية. ولم يذكرها الأساس.
ونحن لم نعثر على هذه الكلمة في شعر العرب أو كلامهم بهذا المعنى. وقد ورد: فحل، وقرم. . . ولم أجد أحداً من العرب استعملها مجازاً. فهل للأستاذين أن يبينا لنا وجه استعمالها، أو يذكرا لنا أحداً من العرب الخلص استعملها، أم كان ذلك جرياً وراء الخطأ الشائع؟
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
الفاعل عند البصريين
يمتنع عند البصريين أن يكون الفاعل متقدماً على فعله. وفي الصبان ج2 ص32 جاء (وفي كلام الدماميني ما يفيد أن من المانعين للتقدم من يخص منعه بالاختيار حيث قال نص الأعلم وابن عصفور في قول الشاعر:
صددت فأطولت الصدود وقلما
…
وصال على طول الصدود يدوم
على رفع وصال بيدوم وقدم للضرورة وهو ظاهر كلام سيبويه)
فأنت ترى أن من المانعين للتقدم من يخص المنع بالاختيار مستدلاً بهذا البيت. ولو أنهم فسروه تفسيراً آخر غير التفسير الذي فسروه به لما جروا علينا خلافاً كنا في غنية عنه. . . والتفسير المقبول هو: قل وصال يدوم على طول الصدود. فيكون قل فعل ماض وما زائدة ووصال فاعل قل. يبرر ذلك عندي:
(1)
أن قلما تستعمل في وجهين: تستعمل للنفي المحض فيمكن أن تكون حرفاً نافياً (كما) فلا تطلب فاعلاً. وقد قرر البصريون إعرابهم على هذا الوجه (ب) وتستعمل لإِثبات الشيء القليل كما قال الرضى. وقد قررت إعرابي على هذا الوجه.
(2)
أن الفعل وفاعله كجزأي كلمة ولا يجوز تقديم عجز الكلمة على صدرها ج2 ص32 صبان. على أن هذا البيت الوحيد الذي يحتج به قد أخطأ في اللغة قبل أن يخطئ في النحو. فصحة أطولت أطلت. ولكن الشاعر اضطر إلى هذا لضرورة الوزن. فيجوز أن يكون في البيت ضرورتان. ولعل هذا الوجه من الإعراب يسنده ما رأيته (للقاني) في المغني في بحث (ما الزائدة): (إن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل في نثر ولا شعر).
فهل آن لنا - ونحن في دور تبسيط النحو - أن نحذف من كتبنا أمثال تلك الخلافات التي لا تجدي ولا تفيد؟
عبد العليم عيسى
كلية اللغة
في الشعر العربي
أخذ الأستاذ بشر فارس علي الجارم بك كثرة استعمال المحسنات المعنوية والألفاظ التي لا ترى إلا في المطولات من المعاجم، والتي لا يقوم شعر الجارم إلا بها، وعندي أن هذا خير ألف مرة ومرة من هذا الضرب الذي ارتضاه الجارم بك لنفسه.
وإني أقتطف شيئاً من قوله يوم نقل رفات سعد الخالد وأضع بجواره قول أحمد شوقي بك (على قبر نابليون) وقصيدة أخرى له أيضاً (دمعة وابتسامة)
قال شوقي في الأولى:
قف على كنز بباريس دفين
…
من فريد في المعالي وثمين
وفي الثانية:
ارفعي الستر وحيّي بالجبين
…
وأرينا فلق الصبح المبين
فيقول الجارم بك:
اكشفوا الترب عن الكنز الدفين
…
وارفعوا الستر عن الصبح المبين
ويقول شوقي:
وانتقد جوهرة من شرف
…
صدف الدهر بتربيها ضنين
فيقول الجارم:
واجتلوه درة ساطعة
…
صدف الدهر بشرواها ضنين
والقصيدة كلها على هذا النمط الذي إن قبله الأستاذ الجارم لنفسه فلن يرضاه له أحد.
(إسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن
بيان من جريدة الشباب
يسرنا أن نخبر القراء أن جريدة الشورى ستعود إلى الصدور قريباً وسنرسلها إلى القراء بدلاً من جريدة الشباب التي سنوقف إرسالها. وستكون الشورى مثل الشباب تماماً إن شاء الله. وإننا من الآن نوصي حضرات المشتركين والقراء والأصدقاء والزملاء بأن يجعلوا جميع مخابراتهم معنا على هذا العنوان:
محمد علي الطاهر
جريدة الشورى بمصر
حول شريط الدكتور
تعقيباً على ما كتبه الدكتور بشر فارس عن رواية (الدكتور) السينمائية، أقول إن من العيوب الموجودة بالفلم أيضاً أن تبرز صورة الحمار الناهق حينما أطل (الباشا) من نافذة المستشفى القروي، لكي يتمتع بهواء الريف العليل، ويتمتع بجمال الطبيعة الساحر!. أما كان الأجمل ألا تبرز صورة الحمار هنا، وأن يكون بدل ذلك شتى المناظر الفتانة والصور الخلابة؟
ولست أدري سبب تلك الصورة المشوهة التي أعطتها لنا الرواية عن أسرة الدكتور حلمي. وأظهر موضع لتشوهها حينما جلس الباشا وزوجته وابنته إحسان مع حلمي وأبويه، لتناول الغداء بالعزبة، فهل يعقل أن تقدم (الشوربة) والأطعمة في صحاف فخمة وأدوات (مودرن) ونظام مدني؛ ثم يقدم بعد ذلك (الخروف) المطبوخ، فلا يؤثر في لحمه السكين، ولا يقدر على تقطيع أوصاله إلا كف الشيخ عبد السلام الشثنة؟!
وعندما دخلت أم حلمي على الضيوف. . . هل يعقل أن تسلم فقط على إحسان، ثم تترك أباها وأمها، فلا تخاطبهما ببنت شفة؟ أهذا ما يوحي به الطبع الريفي والعادات المصرية؟!
وهناك مظهر اصطدام السيارة المقلة للضيوف بالجمل المثقل بحمله في حمى العزبة. . . أحقاً يفعل أبناء القرى بالسيارة الفارهة وفيها راكبوها وهم غرباء ذوو مظهر وجاه ونعمة، مثل ما رأينا في الرواية، مما توحيه الجرأة ويمليه التبجح؟ أظن أن الريفي بعيد كل البعد عن هذه الروح؛ فهو لا يزال يجل الغريب ويحيطه بأنواع التجلة والإكبار.
أحمد الشرباصي
الكُتُب
رجعة أبي العلاء
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
أبو العلاء المعري رجل عبقري الذهن ما في ذلك شك، وهو في عبقريته هذه نفاذ مستوعب يقتحم كل شيء ويحيط بكل شيء. ولقد اهتم به كثير من النقاد والباحثين في هذه الناحية، فدرسوا آثاره، وشرحوا أقواله، وحللوا ملكاته، وقال كل فيه بما يرى وعلى ما يفهم، والأستاذ العقاد في جملة هؤلاء الذين عنوا بشيخ المعرة، بل إنه لأشدهم مصاحبة له، ونظراً فيه، وإدماناً عليه. اتخذه رفيقاً في جميع أطوار فكره، وجرى معه في كل أدوار عمره، وكتب عنه في (المطالعات) عدة فصول هي أدق وأعمق ما كتب عن المعري في عبقريته وفلسفته وتحليل ملكاته. . .
والمعري أيضاً رجل عبقري النفس ما في ذلك شك، وعبقرية النفس هي الشعور بالواجب والحرص عليه، والإيمان بالحق والتفاني فيه، والإحساس القوي الذي يملأ النفس بالروحانية والثقة والكرامة والأنفة والترفع عن كل ما يشين ويزري بصاحبه. وغاية الكمال في (الشخصية) الإنسانية أن تجتمع لها العبقريتان: عبقرية الذهن وعبقرية النفس، فتتوازن من الجانبين، وتتعادل في الجهتين، فإذا هي على استواء في التفكير والتقدير، والعواطف والأهواء. . .
وإذا كان المعري في الناحية الأولى قد أشبعه الباحثون قديماً وحديثاً بالبحث والدرس، فإنه في الثانية مطمور مغمور، لم يفطن إليه كاتب، ولم ينتبه له ناقد، ومن هذه الناحية المجهولة، أراد العقاد أن يكشف عن أبي العلاء في (رجعة أبي العلاء) فبلغ من ذلك غاية ما يبلغه الناقد البصير في الكشف عن (مجهول) بالفرض والاستنتاج والحدْس والتخمين والمقارنة بين العبقريات والشخصيات، والمقابلة بين الآراء والأفكار، مع مراعاة الزمان والمكان، والظروف والملابسات.
ففي المقال الذي كتبه العقاد عن (صاحب الجلالة المعري) دراسة قويمة نافذة، تتجلى فيها عبقرية العقاد في البحث والتحليل وتنكشف فيها عبقرية المعري النفسية، أو ما يسميه العقاد بشيمة السمت والوقار، أو كما نقول في لغة العصر الحاضر: أدب البيئة وأصول اللياقة
(ص 24) ومن رأي العقاد أن هذه الخصلة في الرجل ترجع إلى مراجع كثيرة: هي التربية في بيت العلم والوجاهة، والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وعزة النفس، ووهن البنية، وضعف الخوالج الجسدية ضعفاً أتاح له أن يكبح نوازع اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات.
وفي الفصل التالي يمعن العقاد في التحليل والكشف عن عبقرية المعري النفسية، ويحاول أن ينظر إليه في (عالم السريرة) فيسأل: هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة، خصلة السمت والوقار؟ ثم يسأل: وماذا كان المعري صانعاً لو أنها تغيرت بعض التغيير أو كل التغيير؟ ثم يجيب العقاد على ذلك بأن تغييرها كان مستطاعاً كما يستطاع كل تغيير في عوارض الصفات، وأكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان يخرج لنا نمطاً جديداً يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيام في ديوان الآداب الشرقية.
ولقد بلغ العقاد في هذا الفصل والذي قبله غاية لا تطاول في التحليل والتقدير والاستنباط، وهذان الفصلان هما خير ما في كتابه من الدراسة، وأمتع ما فيه من نفاذ الذهن العبقري في إدراك السر العبقري.
ولقد فرض العقاد لشيخه المعري فروضاً كثيرة، ونظره في أوضاع مختلفة، ولقد حاول أن يلبسه لبوس قاضي المعرة، أو أن يظهره في مظهر النواسي، أو يجعله على نهج الخيام وطريقته، ولكنه انتهى به إلى حقيقته الكائنة (فأبو العلاء هو أبو العلاء) حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هواجس قلبه، وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره، وآثار نعمته وحرمانه.
وبهذه الطبيعة الكائنة رجع العقاد بشيخه المعري إلى الحياة، وطوّف به في أنحاء الأرض، واستطلع طلعه في شؤون العالم الحاضر مما رأى وسمع. فلما بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، رجع به إلى مثواه، وانتهى به إلى حيث هو في رقاده، بعد أن ودّعه بقصيدٍ على طريقة اللزوميات. والفكرة في رجعة أبي العلاء قد حاولها المنفلوطي رحمه الله من قبل، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين العقاد والمنفلوطي في رجعة أبي العلاء وبعثه، فقد كان المنفلوطي يبغي دراسة المعري من أقواله وأشعاره فانتهج لذلك نهجاً قصصياً قريباً
إلى النفوس، سهلاً في التناول. أما العقاد فقد تخيّل (رهن المحبسين) يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر. ثم راح ينطقه بالرأي في شؤون زماننا بالقياس على المعهود من كلامه، والمقابلة بين المعروف من آرائه، وهو في كل هذا يستشهد بشعره، ويتمثل بقوله، ويصطنع لغته، ويجري على طريقته. . .
ولقد أخذ على العقاد بأنه في كتابه قد أظهر شخصيته هو لا شخصية أبي العلاء، وأبدى رأيه هو لا رأي شيخه في الحياة، وأنه أنطق الرجل بالقرآن وما كان ديدنه ذلك، وكأني بقائل هذا قد فاته الغرض الذي قصد إليه العقاد. وأشار إليه في المقدمة بصريح العبارة، فإن العقاد لم يقصد إلى دراسة المعري ولكنه فرضه حيَّا في هذا العصر، وعلى هذا الفرض أنطقه بالرأي قباساً على المعهود من كلامه وآرائه كما يقول، فله أجر المجتهد إن أخطأ أو أصاب في مجال الفرض والتخمين. . .
وفي الكتاب أقوال يجوز فيها بيننا وبين الأستاذ الخلاف، فهو يقول مثلاً: أما الخمر فلا أستبعد أن الشيخ قد ذاقها في بعض الأديرة التي كان يغشاها للدرس (ص 46) وأنا أخالف الأستاذ في ذلك وأرى أن وصفه للخمر لا يقوم دليلاً على ذلك. والأستاذ العقاد نفسه يأخذ بهذا الرأي فيما كتبه عن المعري في المطالعات فبأي قولي الأستاذ نأخذ؟
ويقول على لسان المعري لتلميذه حسبك حسبك وهو يشرح له فلسفة العصر في المرأة، وعهدنا بالمعري يتلهف على المعرفة، ويضرب إليها أكباد الإبل، فليس من طبعه أن يقول: حسبك حسبك. في مثل هذا المقام.
ويقول العقاد: أما أبو العلاء فهو قريب من أبو نواس في الثقافة، وكان الأنسب أن يقول: ولقد كان أبو نواس قريباً من المعري في ثقافته. . . والفرق واضح بين القولين.
ويحاول الأستاذ العقاد أن يقف بالمعري في المناقشة والمحاجة دائماً موقف المتريث المجمجم الممتعض، وما كان المعري كذلك بطبعه إلا في مواقف التقيّة والمداراة.
وأعود فأثني على كتاب أستاذنا الكبير خير ثناء، وأشكره على يوم قضيته في استجلاء (كتابه) فلم أندم عليه، بل ربحت منه الكثير، وأفدت منه النافع الجليل.
م. ف. ع
المسرَح وَالسِينما
الفرقة القومية
هل هي في تقدم أم في تأخر أم في ركود؟
لقد ساير الأستاذ توفيق الحكيم الفرقة القومية منذ نشأتها وكانت أولى
مسرحياته، أهل الكهف (حسن طالع) لها، افتتحت بها عملها الفني، وقد
غذى المسرح بروايته الثانية (سر المنتحرة) وله مجالات في فن
القصة تدل على روحه القوي واندفاعاته الجريئة في ارتياد آفاقها
ليتعرف أسرار الحياة وليشرك قارئه معه في الفرح بالحياة أو الاكتئاب
منها.
قلت للأستاذ الحكيم: لقد سايرتَ الفرقة القومية منذ افتتاحها وغذيتها بمسرحياتك، وعاونت مديرها وسندته في مهمته، وها قد مضى على ذلك أربعة أعوام، فهل في وسعك أن تقول هل الفرقة في تقدم أو في تأخر أو في ركود؟ فأجاب:
من يطلع على التقرير الذي وضعه سعادة الدكتور عفيفي باشا وفيه بيان الغرض من إنشاء الفرقة القومية ير أن المقصود من وجود هذه الفرقة ورصد مبلغ كبير من مال الأمة، هو إنشاء دار تحدث نهضة عظيمة تشعر البلاد والجمهور المثقف بها، يكون من شأنها ترقية الفن والأدب المسرحي وحركة الترجمة أيضاً مما يجعل هذه الدار عنواناً تفخر به مصر. لذلك كان المفهوم أن خطة الفرقة سائرة في هذا السبيل، ولكن اتضح مما قدمته في مواسمها العديدة أنها لم تؤد أكثر مما أدته الفرق الأهلية من قبل، بل إن البلاد شعرت بنهضة مسرحية في أول عهد ظهور مسارح جورج أبيض، ورمسيس، وفاطمة رشدي. حيث أخرجت للناس بعد روائع الأدب الغربي المعروفة أمثال عطيل ومكبث وسيرانو دي برجراك وغادة الكاميليا وغيرها، كما أن مسرح الأزبكية كان قد نهض إلى حد ما بالرواية المسرحية الغنائية. وكان المنظور بمجرد ظهور الفرقة القومية بما لها من وفرة المال والممثلين؛ وتعضيد الحكومة أن تتجه بالفن اتجاهاً جديداً، ولكنها خيبت ظن الجمهور،
فرواياتها المترجمة هي من سقط متاع الغرب ومن أقلام شبه مجهولة، وكذلك التأليف. كما أن الإخراج والتمثيل ليس لهما قاعدة ثابتة لعدم إسنادهما إلى أيد مختصة مسؤولة عن الإدارة الفنية كما هو الحال في جميع المسارح والسينما المحترمة، وقد وضحت جميع هذه النقط في التقرير الذي كلفت بتقديمه إلى وزارة المعارف.
إذن يمكنني أن أقول إن الفرقة القومية ليست في تقدم كما تدعي هي، بل هي في جمود سيؤدي إلى التأخر ولا شك.
- هل علة هذا الجمود هي الإدارة العامة، أم لجنة القراءة، أم المؤلفون الذين لا يغذون المسرح؟
أعتقد أن المسؤول الوحيد عن سير الفرقة هي الإدارة العامة، وأن لجنة القراءة والمؤلفين ليسو غير وسيلة يتوسل بها المدير للانتفاع بهم في الوصول إلى الغرض الأسمى للفرقة، فلجنة القراءة ليست هي المدير، والمقصود من وجودها إعانة المدير على اختيار الروايات من بين الأكوام التي تقدم إليه. أما المؤلفون فهم على نوعين: مجهول ومشهور، فظهور الأول رهين بالظروف والمصادفات، والمباراة في التأليف هي إحدى الوسائل التي تعجل اكتشافه وتيسر إبراز مواهبه. أما الثاني أي ذلك المؤلف الذي لا تشغله ميادين نشاط أخرى فهو في الغالب لا يمكن أن يقحم نفسه في الفرقة بغير دعوة منها، وفي العالم كله نجد المسارح وشركات السينما هي التي ترسل في طلب المؤلفين المشهورين وتتعاقد معهم. أما قول بعضهم إن كبار المؤلفين يتهيبون الوقوف مع الكتاب الناشئين فغير صحيح، لأن الكاتب المشهور مهما أسفّ فإنه يخرج عملاً له قيمته الفكرية على كل حال، مطبوعاً بطابع شخصيته الأدبية التي عرفها الجمهور ورضى عنها واشتهر من أجلها في مناحي الأدب الأخرى.
- أراك أزحت عن عاتق لجنة القراءة أسباب تأخر الفرقة في حين أن مديرها يقول إنه ينفذ قراراتها، وإن الفرقة لا تمثل إلا الروايات التي تقرها اللجنة.
قلت: إن مهمة لجنة القراءة تصفية المتراكم من الروايات المقدمة للمدير، وليس من شأنها إحداث النشاط الأدبي والفكري اللازمين لحياة الفرقة ورقيها. فليس مثلاً من شأنها البحث عن أمهات الآثار الغربية التي تلائم المزاج المصري فتدفع بها إلى المترجمين،
والمقتبسين؛ وليس من شأنها أيضاً أن تتعاقد مع المؤلفين الذين ترى أن مصلحة الفرقة في أن يكتبوا لها؛ وليست هي التي تبحث عن وسائل إخراج هذه الروايات التي يسترعي إخراجها انتباه الجمهور، فكل هذه المسائل من اختصاص مدير الفرقة وحده، وهو إما لكسله أو لعدم تحمسه لإحداث النشاط الفكري والفني المطلوب يحاول أن يلقي تبعة هذا الجمود على لجنة القراءة أو على كبار المؤلفين، وهي في حقيقة الأمر حجة يستتر خلفها تبريراً لما يشعر به من خيبة الأمل التي كانت معقودة على الفرقة.
قلت: أعرف مدى نفوذ أعضاء لجنة القراءة على مدير الفرقة، كما نعرف جميعاً مبلغ تسامح المدير في كل شيء، وحبه للسلام، وبعده عن النضال والجدل الأدبي فهل لك أن تقول بصراحة هل يمكن لأعضاء لجنة القراءة أن يكونوا رجال حكم صحيح في الفن المسرحي والرواية المسرحية، وهل ما جاء في أحاديثهم يدل على أنهم أهل لمساعدة المدير في تحقيق رسالة الفن المسرحي.
فقال: أعتقد أن أسباب نفوذ لجنة القراءة مستمدة من ضعف مدير الفرقة، وأن أسباب ضعف المدير آتية من استئثاره بالعمل والضن على نفسه بمساعدة يستمدها من صاحب دراية ومعرفة، وهو الكسول كما عرفنا، فلو أنه كان يشفع الرواية التي يقدمها إلى اللجنة برأي فني قاطع، ويترك للجنة النظر إلى الرواية من الناحيتين: اللغوية والخلقية، لكانت اللجنة لزمت حدها. ولو أنه ألف لجنة فنية من المخرجين وكبار الممثلين مسؤولة عن نجاح الرواية وعن سقوطها، لكانت الفرقة مشت في طريقها الطبيعي، وقامت كل هيئة بما هو موكول إليها من أعمال. ولو أن الأمور كانت تسير في هذا الطريق وهو الطريق القويم المتبع في فرق التمثيل في العالم، لما كان يضير الفرقة أن تكون لجنة القراءة فيها مؤلفة من شيوخ أو غير شيوخ. وفي الختام أقول لك ولقرائك: سامح الله مدير الفرقة، فقد أبطأ جد الإبطاء في تيسير الأدب المسرحي في سبيله الممهد.
ابن عساكر