المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 294 - بتاريخ: 20 - 02 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٢٩٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 294

- بتاريخ: 20 - 02 - 1939

ص: -1

‌الطفولة المعذبة

في الأقوال السائرة أن الفقير كلما طلب من الله قرشاً أعطاه كرشاً. وفي ذلك حكمة للعليم الحكيم تستسر دلائلها على الفطن المحدودة. فإن قوام العيش ونظام الدنيا منوطان بالسعي المرهق والعمل المهين، وهذان لا يقوم بهما إلا الكثرة، ولا يحفز عليهما غير الحاجة. والغني المترف يحسب أن يديه لم تخلقا إلا لصرف النقود وقطف الخدود ورفع القدح؛ فمثله كمثل السبع من الوحش والطير: يهلك ولا ينتج، ويدمر ولا يعمر؛ فكان من صلاح الأرض أن يقل نسله كما يقل نسل الأسود والنمور، ويكثر نسل الفقير كما يكثر نسل الضأن والبقر. ولكن حكمة الله ضاعت في غفلة الناس، فبغي الغني على الفقير حتى أصبح وهو مصدر الإنتاج في النسل والحرث، مفدوحاً بحمله فلا ينهض، ومكدوداً بعمله فلا يستطيع. ثم نبا كوخه الجديب الضيق عن بنيه فدرجوا في أفازيز الشوارع وزوايا الطرق وعليهم هلاهل من أخلاق الثياب تهتكت على الصدور والجوانب، يستندون الأكف بالسؤال، أو يستدرون الجيوب بالسرقة، أو يأكلون ما طرح الناس من فضلات الطعام في المزابل. هؤلاء الأطفال المشردون هم الذين تراهم يطوفون طول النهار وثلثي الليل على القهوات والحانات، كما تطوف الكلاب والهررة على دكاكين الجزارة ومطاعم العامة، وهمهم أن يصيبوا ما يسد الرمق ويمسك الحياة. فإذا أغلقت المقاهي وهجعت المدينة تساقطوا من السغوب واللغوب على العتبات وفي الحنايا وتحت الجدر، فيقضون آخر الليل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا عصفت الريح أو قرس البرد.

هؤلاء الأطفال المهملون هم الذين يستغل ذكاءهم تجار الرذيلة، وسماسرة الجريمة، يسلطونهم على القلوب البريئة والجيوب الآمنة، فيسلبونها العفة والمال، ثم لا يكون نصيبهم من هذه الثمار المحرمة إلا الخوف والجوع والأذى والمطاردة. يغرون الصبيان بالشر، ويوزعون المخدر في السر، ويسرقون السابلة بالحيلة، ويستجدون الجلوس بالرحمة، ويجمعون الأعقاب من الطرق، وكل أولئك لطغمة من المتعطلين يتعقبونهم بعين النسر من بعيد؛ حتى إذا اخذوا ما معهم تركوهم لأهوال الليل، فإذا خشوا منهم نفاراً أو فراراً كدسوهم في أقباء المنازل المهجورة فلا تدركهم عين الشرطة ولا تنالهم رعاية البر. ولا أدري كيف سالت على قلمي كلمة البر هنا، وهي لو كانت في لغة الناس لما كان كل هذا!

ص: 1

إن سادتنا المترفين ليأنفون أن تقع أعينهم على هذا القبح، وتدنو أثوابهم من هذا القذر، فهم ينهرونهم كما ينهرون الكلاب، ويذبونهم كما يذبون الذباب، ويفورون غضباً على الحكومة أن تسمح لهذه الحشرات أن تدب على الطرق المغسولة، أو تحوم حول الموائد المزدانة!

شق الله هذه الأشداق المنفوخة يا سادة! إن هؤلاء الأطفال الذين يحملون العلب بالأصباغ، أذكى من أطفالكم الذين يحملون القماطر بالكتب؛ وإن عباقرة العالم في الأدب والفن والعلم والحكم قد ولدوا كهؤلاء في مهاد اليتيم والعدم، ونشئوا في حجور الألم والفاقة، فاضطرهم الشقاء الباكر أن يعرفوا أن لهم أذهاناً للتفكير، وعقولاً للتدبير، وأيدياً للعمل؛ ففكروا ثم قدروا ثم علموا، فكان من آثرهم هذه الدنيا، ومن سيرهم هذا التقدم. أما أبناؤكم أبناء الدعة والسعة والرفاهة فانتفى عنهم العمل لقلة الحاجة، وضعفت فيهم أداته لكثرة البطالة، فاصبح المخ مستوياً أملس كالصحيفة، والجسم صقيلا املط كالديباجة، واليد رقيقة رفافة كالزنبقة. فهم تماثيل ناطقة للغباء الأنيق، تطعم وتنعم وتلهو على حساب الفقير الذي يعمل ولا يأكل، والأجير الذي يشقى ولا ينال!

بالله ما ذنب هذا الطفل الشريد الذي تتحامون مسه، وتتفادون مراه إذا كان القدر قد اختار له ذلك الأب البائس الذي يتزوج ولا يعاشر، ثم يلد ولا يعول؟ هل من طبيعة الحي أن يلقى أفلاذ كبده مختاراً في مدارج الطرق تطأها الأقدام وتتحيفها المكاره؟ هل تستطيعون أن تجدوا لذلك إذا وقع علة غير الفقر الذي يحمل الأب في أزمات القحط والحرب على بيع بنيه واكل بناته؟ فإذا كنتم تشفقون على نعيم عيشكم من رؤية البؤس، وتخشون على جمال حياتكم دمامة الفقر، وتضنون بسلام وطنكم على أدواء التشرد، فاقتحموا على الفقر مكامنه في أكواخ الأيامي وأعشاش العجزة، ثم قيدوه بالإحسان المنظم في المدارس، والصدقة الجارية في الملاجئ، تجدوا بعدئذ أن الدنيا جميلة في كل عين، والحياة بهيجة في كل قلب، وتشعروا أن روحاً عامة قد وصلت بين جميع الأرواح فاصبح الشعب كله جسماً حياً متآلفاً متكاتفاً تتغذى خلاياه بدم واحد، وتتساير نواياه إلى غاية واحدة!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌كتاب مصطفى كامل

للأستاذ عباس محمود العقاد

الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك جدير أن يسمى بحق مؤرخ النهضة القومية الحديثة، لأنه أرخها في مرحلتها التي بدأت بالحملة الفرنسية، وأرخها في مرحلتها التالية التي بدأت بقيام محمد علي الكبير على الأريكة المصرية، وصحبها فيما أعقب ذلك من المراحل إلى عهد الثورة العرابية فالاحتلال البريطاني فالحركة الوطنية في عهد هذا الاحتلال

وهاهو ذا قد تأدى في تاريخه لها إلى ختام القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي إلى الفترة التي ظهر فيها زعيم الوطنية في أبناء ذلك الجيل مصطفى كامل باشا رحمه الله

ونهج الأستاذ الكبير في كتابه عن مصطفى كامل شبيه بنهجه في الكتب المتقدمة من حيث الطريقة والوجهة، يتتبع الوقائع ويستقصي ما احتاج إليه من الأسانيد وينصف في الحكم على الرجال والحوادث مع ميل يسير إلى تخفيف التبعات أو تجميل المحاسن في بعض الجوانب، وسهولة في التعليل والتعليق لا تثقل على ذهن القارئ ولا تكتفي مع ذلك بالظواهر دون ما يلازمها من الأسباب والعواقب

إلا أنه في كتابه عن مصطفى كامل قد اقترب من ميدان الحياة الحاضرة أو من معترك السياسة الذي يعيش فيه، فكان لذلك آثره في الميزان دون قصد في بعض الأحيان، وعلى قصد ظاهر في بعض الأحيان

ولتوضيح ما نقول نرجع إلى الحركة الوطنية ومذهبيها المختلفين بعد احتلال الإنكليز لهذه البلاد

فقد كانت الدعوة الوطنية كما قلنا في كتابنا عن سعد زغلول (شعباً مختلفات في المقصد والنتيجة المأمولة، فمنها ما كان يتجه إلى الدولة العثمانية، ومنها ما كان يتجه إلى فرنسا لأنها أكبر الدول التي كانت تناوئ في مطامعها الشرقية، ولم يشترك مع هؤلاء ولا هؤلاء حصفاء الثورة العرابية الذين شهدوا بأعينهم تذبذب السياسة الفرنسية والسياسة العثمانية قبل الاحتلال. فقد رأى رجال هذا الفريق ما هو حسبهم وزيادة في هذه الآمال الكاذبة وهذه الجهود العقيمة، فاستقاموا على الطريق الوحيد المفيد الممهد لهم وهو طريق النهضة

ص: 3

المصرية الصميمة واستقلال المصريين أنفسهم بطلب الاستقلال، وتزويد الأمة بعدة العلم واليقظة والمثابرة، لأنه ما من وسيلة إلى الاستقلال في رأيهم أنجع من وسيلة فهمه والاستعداد له والإصرار على طلبه. ومن هذا الفريق كان أناس من فطاحل المصريين أمثال محمد عبده وسعد زغلول).

هذان هما المذهبان اللذان شاعا من مذاهب الحركة الوطنية بعد الاحتلال: مذهب مصر للمصريين، ومذهب الاعتصام بالسيادة العثمانية، أما لأنها دولة الخلافة، أو لأن السيادة العثمانية (حجة شرعية) لمحاربة الغاصب وإظهار مركزه (غير المشروع)

ولا يخفى أن مصطفى كامل رحمه الله كان من أنصار السيادة العثمانية، وكان يذكر الاستقلال ولا يذكر الاستقلال التام، وكان يقيم المحافل كل عام في عيد جلوس (المتبوع الأعظم) عبد الحميد سلطان آل عثمان ليؤكد ولاء المصريين للسيادة العثمانية. وقد انشأ الحزب الوطني فكان المبدأ الأول من مبادئه (استقلال مصر كما قررته معاهدة لندرة سنة 1840، ذلك الاستقلال الذي يضمن عرش مصر لعائلة محمد علي مع الاستقلال الداخلي عن تركيا).

وكان المبدأ العاشر من مبادئه (تقوية العلائق بين مصر والدولة العلية).

ولبث أشياع مصطفى كامل على هذا الرأي حتى كتب اللواء يعيب على الأستاذ الكبير (أحمد لطفي السيد بك) أنه يطالب بالاستقلال التام ويخرج بذلك على أحكام القانون وعلى سنة الولاء للسيادة العثمانية، فاضطر الأستاذ يومئذ إلى التفرقة بين الاستقلال التام والاستقلال الكامل توفيقاً بين ما يدعو إليه وبين الصيغة الشرعية

ثم لبث أشياع مصطفى كامل على هذا الرأي إلى ما بعد الحرب العظمى وبعد الثورة الوطنية التي أعقبتها، فحولوا الأمر إلى أصحاب السيادة في الآستانة ثم في أنقرة، كأنهم هم الأصلاء وليس للمصريين أن يبرموا أمراً في هذه السيادة إلا بعد إبرام الأصلاء رأيهم في موضع الخلاف!!

وقد تعاقبت الحوادث وتمخضت الآراء فظهر بعد حين موقع الصواب من المذهبين، وضعفت حجة السيادة العثمانية شيئاً فشيئاً حتى أصب الجيل الحاضر يعجب كل العجب كيف كان هذا الرأي في يوم من الأيام موضع خلاف!!

ص: 4

وقد كان الأنصاف التاريخي يقضي ببيان هذه لحقيقة في تاريخ مصطفى كامل ولا يمنع المؤرخ أن يفصل أعذار المعتصمين بالسيادة العثمانية في ذلك الحين، بل يوجب عليه أن يذكر هذه الأعذار وإن يذكر معها صواب المخالفين ولا سيما حين يشعر أنه صواب

ولكننا بحثنا في كتاب مصطفى كامل فلم نر فيه إشارة إلى هذا أو ذاك، وكأنما غلبت عليه النزعة الحزبية على النصفة التاريخية فوجدنا أن الأستاذ الكبير قد اغفل الموضوع كل الإغفال، فلم يذكر محافل المتبوع الأعظم ولم يذكر حملة اللواء على طلاب الدستور والحرية في البلاد العثمانية، وكتب أكثر من عشر صفحات عن تأسيس الحزب الوطني مفصلا أسماء أعضائه وأقوال الصحف فيه دون أن ينشر مبادئه أو يأتي بالمهم منها وهي أهم ما يثبته المؤرخ في سيرة زعيم حزب من الأحزاب

ولو أنه فعل هذا لأقر الحقائق في نصابها وأتاح للقارئ أن يحيط بمعاني الحركة الوطنية من جميع نواحيها، وإن يستخرج العبرة المقصودة بالتاريخ من صواب أو خطا لكل فريق، وما من فريق واحد معه كل الخطأ أو كل الصواب

وبينما الأستاذ الكبير ينسى هذه الحقائق التي لا يبطلها النسيان إذا به يأخذ بالظنون التي لا سند لها ولا معول عليها فيما يكتبه عن سعد زغلول فيقول عن علاقة سعد بالجامعة المصرية (وتبين أن انسحابه من رياسة اللجنة كان تحقيقاً لرغبة الاحتلال لكي يحبط المشروع، وقد أصابه الفتور والركود فعلاً بعد انسحابه من اللجنة، وبخاصة لأن الحكومة خلقت في ذلك الحين بإيعاز من الاحتلال أيضاً حركة إنشاء الكتاتيب واستحثت الأعيان في مختلف الجهات على التبرع لها معارضة بذلك مشروع الجامعة).

ثم أشار الأستاذ الكبير إلى مسألة التعليم باللغة العربية فقال (وقد كانت خطبته - أي خطبة سعد - دفاعا عن سياسة الاحتلال في التعليم. لأن الاحتلال هو الذي احل اللغة الإنجليزية محل اللغة العربية في التدريس بالمدارس الأميرية. . .)

تبين أن انسحاب سعد زغلول من رياسة الجامعة كان تحقيقاً لرغبة الاحتلال. . . يا عجباً! كيف تبين ذلك؟ ومن أين جاء ذلك البيان؟

أما الحقيقة فهي أن الحكومة تبرعت للجامعة بالمال واعترفت بشهاداتها كما تعترف بشهادات المدارس الأميرية. وسألناسعداً في ذلك فقال في بيان نشرناه في كتابنا عنه: (. .

ص: 5

كل هذا والذين يريدون إخراج الجامعة من قبضة الحكومة قد يجهلون أنها دفعت مرة واحدة خمسة أضعاف ما دفعه المتبرعون في أنحاء القطر المصري بأجمعه، وليس هذا كله كل ما أمدت به الحكومة هذه الجامعة فإن اعتبارها لها مدرسة منتظمة وقبول شهادتها بين بقية الشهادات المدرسية ينشط الناس إلا الإقبال عليها إقبالاً لا تظفر بمثله إذا كان الغرض منها مجرد تحصيل العلم وتوسيع العقل، وربما لا تنسى أن بعض هؤلاء كان يطلب من الحكومة إعانة المشروع مادياً، فرفضهم الآن إشرافها عليه بعد أن أدت الحكومة ما طلبوه منها بعد من الغرابة بمكان).

هكذا كان موقف سعد من الجامعة وهو وزير، وأنه لأصوب ألف مرة من موقف الداعين يوم ذاك إلى إحباطها وتشكيك الناس في مصيرها. أما إنشاء (الكتاتيب) واعتباره حرباً للجامعات والمدارس العليا فقد عشنا بحمد الله حتى رأينا الدستور المصري يفرض التعليم الإلزامي فرضاً ويجعله واجباً من الواجبات الوطنية، وعشنا بحمد الله حتى علمنا أن سعداً قد سبق النهضة القومية سنوات إلى ذلك العمل المجيد الذي كان محسوباً يوم ذاك من الجنايات

ومن السهل على الإنسان أن ينق سعداً حين يعارض الهجوم على تقرير التدريس باللغة العربية في جميع المدارس المصرية قبل إعداد الكتب وإعداد المدرسين والنظر في عواقب هذا التبديل؛ ولكن من السهل أيضاً أن يعلم الإنسان أن المستطاع هو المستطاع وإن سعداً قد عمل في سبيل اللغة العربية والتمهيد لتدريسها جهد ما يعمله وزير في تلك الأيام، وإن مدرسة مصطفى كامل نفسها لم تكن تستغني بالمدرسين المصريين عن المدرسين الإنكليز، اعتماداً على ما كان يقال في ذلك الحين من أن تدبير الدراسة والكتب المدرسية ليس بالأمر العسير.

هذه ملاحظاتنا على موازين الأستاذ الرافعي في تاريخ هذه الفترة، فهو يمسح من هذا التاريخ كل ما يبين وجه الصواب عند من خالفوا صاحب السيرة في الأساس أو التفصيل، ويثبت من جهة أخرى ظنوناً لا ثبوت لها لتقرير الصواب في جانب المؤيدين والمناصرين.

ومع هذا نقول أن مكتبة (النهضة القومية) لا تكمل بغير كتاب الأستاذ عن مصطفى كامل،

ص: 6

لأنه يشتمل على وقائع صحيحة وأسانيد صادقة وملاحظات قيمة. أما المواضع التي ينحرف فيها بعض الانحراف عن سنته في الإنصاف والتمحيص، فليس للقارئ أن يطلب الحق كله من كتاب واحد، ولا سيما في تاريخ تختلف فيه الميول والآراء.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌رد على رد

بين القديم والجديد

(لأحد أساطين الأدب الحديث)

يجمع الأستاذ الغمراوي في نفسه من صفات الخلق العظيم ما لا يتفق إلا لقليل من المهذبين الأفاضل؛ فهو يغار على الفضيلة والدين، ويجمع إلى غيرته لطف المناظرة والأنصاف وآداب الحديث والمجادلة بالتي هي احسن؛ وهذه رعاية من الله، نرجو أن يديم الله عليه نعمته. وقد ظهر عدل الأستاذ وأنصافه في اعترافه بأن في الأدب القديم أكثر مما يشكو منه مما في الأدب الحديث، وفسر القديم بأنه ليس القدم الزمني، فالقديم والحديث في اصطلاح الأستاذ صفات لا تدل على الزمن، وضرب مثلاً بشعر عمر بن أبي ربيعه وقال: أنه لو كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه له نفاه بسبب غزله. فعمر بن أبي ربيعه إذاً على قدمه الزمني ليس من المذهب القديم في الشعر والأدب على سد اصطلاح الأستاذ، إذ أن القديم في اصطلاح الأستاذ هو من لم يقل غزلاً يثير شجون النفس وشهواتها وتعلقها بفتنة الحسن. وليعذرني الأستاذ إذا قلت أنه يصعب عليه أن يجد شاعراً واحداً يصح أن ينطبق عليه اصطلاح القديم في عرفه، فهذا الرافعي على تقواه ودينه وفضله له في الغزل نثراً وشعراً أشياء (أشهى) من شعر عمر بن أبي ربيعه. ألم يقرأ الأستاذ الغمراوي للرافعي وصفه للراقصة ومحاسن جسمها وقصته معها؟ ومع ذلك فالأستاذ الغمراوي يقول أن أدب الرافعي يمثل الأدب القديم في اصطلاحه، مع أن الأستاذ الغمراوي لو كان خليفة وعرض عليه غزل عمر بن أبي ربيعه وبعض ما قاله الرافعي شعراً ونثراً في الغزل ووصف مفاتن الحسن ولذة التقبيل ومحاسن جسم المرأة لأمر الأستاذ بنفي الشاعرين: ابن أبي ربيعه والرافعي معاً. وإذا كان الأستاذ في شك من أن الرافعي له أشياء أشهى من أشياء عمر بن أبي ربيعه ذكرنا له طرفاً منها ورضينا بحكمه وهو اعدل الحاكمين من الناس. بل نحن نترك للأستاذ الخيار فليختر أي شاعر ونحن نورد له ما يستحق به النفي لو وكل الأمر إلى الأستاذ الغمراوي في نفي الشعراء ونورد ما يستحق به النفي ونقارنه بما استحق به عمر بن أبي ربيعه النفي ونقبل حكم الأستاذ الغمراوي في المقارنة وهو خير الحاكمين.

أننا ما أردنا أن نعذر شطط المتأخرين بشطط المتقدمين كما ذكر الأستاذ وإنما أردنا أن

ص: 8

نبين أولاً أن النفس البشرية واحدة في كل زمان ومكان مهما اختلفت الفروق الظاهرة وبالرغم من شذوذ الآحاد بالنقاوة النادرة أو النجاسة البالغة النادرة. وأردنا أن نفسر أثر المتقدمين في أقوال المتأخرين وإن نقول أن الشطط في وصف المفاتن وفي شرح الشكوك النفسية لم يأتنا من ناحية الإفرنج وحدهم بل جاءتنا به مؤلفات العرب ولا سيما عندما أدخلت الطباعة وطبعت المخطوطات العربية القديمة والحديثة. على أن النفس الإنسانية يا سيدي الأستاذ ينبوع يفيض بكل ذلك من غير حاجة إلى كتب العرب أو كتب الأوربيين؟ وإن شاء الأستاذ فليرتد أماكن الناس الذين لم يتأثروا كثيراً بكتب العرب ولا بكتب الإفرنج وليسمع هواجس نفوسهم.

على أن في ذكر الأستاذ التجاء عمر بن الخطاب إلى النفي ما يدل على أن النفوس في عهد عمر رضي الله عنه لم تكن تمتنع عن التعلق بمفاتن الحسن ومحاسن الحياة، ولعل الأستاذ قد أذكرته التجاء عمر إلى النفي قصة سماع عمر غناء التي تغنت بهذا البيت:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

فنفى عمر رضي الله عنه نصراً هذا. ولو رجع الأستاذ إلى ما قبل سيدنا عمر وتدبر حكمة الآية الكريمة التي تنهي الناس عن قرب الصلاة وهم سكارى لرأى عبرة تسلك النفوس البشرية في كل عصر في صعيد واحد بالرغم من تفاوتها. وأستحلف الأستاذ أن يحكم على تلذذ كعب بن زهير بذكره كبر عجز حبيبته في قصيدة (بانت سعاد) عندما قال (هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة) وتلذذه بذكر كبر العجز في قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة يتبرك بها بعض الناس، وبعضهم يتخذها حجاباً وتميمة بما فيها من التلذذ بذكر كبر العجز من غير فطنة إلى ما فيها. ومع ذلك قد مر النبي صل الله عليه وسلم بغزل كعب هذا مر الكرام بما كان يدعو إليه من العقيدة السمحة وتألف النفوس ومعرفته ضعف النفس وقصورها. فماذا كان يصنع الأستاذ الغمراوي لو أن شاعراً مدحه بقصيدة تغزل في أولها وتلذذ في غزله بذكر كبر عجز حبيبته؟ هل كن يتغاضى كما تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أم كان ينفيه كما أراد أن ينفي عمر بن أبي ربيعه؟ وماذا كان يقول الأستاذ لو أن شاعراً إنجليزيا مدح ملك إنجلترا ومقام الملك دون مقام النبوة فقال الشاعر في قصيدته (إن حبيبتي يا كنج جورج لها عجز كبير)؟ أننا يا

ص: 9

أستاذنا نضرب هذه الأمثال لنبين أن الناس ناس في كل زمان ومكان، وإن النفس البشرية واحدة مهما تباينت واختلفت صفاتها. ولو كان الأستاذ في شك من ذلك فليراجع ديوان حسان بن ثابت فيراه في قصيدة يتهم أبا الوليد ابن المغيرة بمحبة غلام رومي جميل كان مملوكاً له، وبأنه علق صورة الغلام كي ينظر إليها إذا غاب عن نظره، ويتهم أمه بمحبة الغلام أيضاً. (صفحة 329 طبعة السعادة شرج العباني). ولو رجع الأستاذ إلى كتاب (العقد الفريد) لقرأ أن سائلاً سأل عبد الله بن العباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم: هل قول المجون ينقض الوضوء؟ فقال: لا. وانشد بيتاً فيه مجون وكانت قد حانت الصلاة فقام وصلى للدلالة على أن شعر المجون لم ينقض وضوءه. وفي حالة أخرى سمع وهو يحدو ببيت فيه مجون. ولو تقصى الأستاذ أخبار سبي الرقيق من المدن الفارسية والرومية التي فتحت عنوة واثر ورود هذا السبي إلى شبه جزيرة العرب، وما كان يرد قبله من جلب تجارة الرقيق قبل الإسلام لعلم أن الولوع بمفاتن الحسن لم يكن مقصوراً على الشعراء المتقدمين أو المتأخرين. ونحن لا نريد أن نعذر حالة الناس في عصرنا. فلعل التعلق بمفاتن الدنيا في عصرنا أضر وأفسد إذ أن القوى الحيوية الخلقية العظيمة في نفوس المتقدمين كانت تستطيع موازنة ضعف هذا التعلق، وانعدام هذه القوى الخلقية الحيوية في عصرنا يزيد ضرر التعلق بمفاتن الحسن وشهواته. نعلم ذلك ونوافق الأستاذ على ضرورة معالجة هذه المسألة، ولكن لا يكون ذلك إلا بالتربية وتطهير الكتب ولا سيما القديمة. أما أننا رجعنا إلى مبدأ نهضة التجديد فالأستاذ نفسه يعترف بأن التجديد في الأدب روح لا قالب، وإن هذه الروح مستمدة من نظام التعليم الحديث، ومن الأنظمة التي اقتبست من الأنظمة والشرائع والسنن الأوربية، ومن البعثات العلمية إلى أوربا وأثرها في النفوس، ومن الكتب التي ترجمت؛ وما دامت المسألة مسألة روح لا قالب فلا يستطيع الأستاذ فصل التجديد في العلوم والتعليم والنظم والشرائع عن التجديد في الأدب وهو لم يحاول أن يفعل ذلك. أما أننا فسرنا قوله:(تغليب دين على دين) بغير ما أراد فعذرنا في ذلك أنه كان يقارن بين الثقافة والحضارة والدين عند العرب وعند الأوربيين فلم يخطر ببالنا أنه يعني بالدين عند إطلاقه على الأوربيين معنى الضلال والباطل وإنما ظننا أنه يعني دينهم، ولنا العذر أو بعض العذر. وأما قول الأستاذ أن حافظ إبراهيم رجع بالغزل إلى طريقة الجاهلية

ص: 10

وصدر الإسلام أي طريقة الغزل بالعاطفة كما فعل العذريون فهذا ما لا يقول به حافظ نفسه ولم يقل به أديب قبل الأستاذ. والأصح وهو ما قلناه من أن البارودي وشوقي وحافظ أنقذوا الأدب من طريقة ابن حجة الحموي وخليل بن أبيك الصفدي وصفي الدين الحلي وأشباههم ورجوا به إلى طريقة مسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري وحسبهم هذا فخراً. وقد جعلنا أكثر قولنا في التجديد في الشعر لأن الباعث على مقالات الأستاذ كان شعر الرافعي والعقاد، ولم نقصر التجديد على محاولة إدخال العاطفة كشرط أساسي في الغزل بل قلنا أنها شرط أساسي في كل شعر، وإن الصنعة لازمة. ولكن كخادمة للتعبير عن النفس والحياة وعواطف النفس وأحاسيسها فيهما، فتحجر الصنعة من غير بحث في النفس قيد، والتخلص من جمود ذلك التحجر حرية، وهي الحرية التي أردناها في قولنا. وقد فسرنا ذلك بإطالة وأوضحنا أن هذه الحرية ليس معناها التخلص من قيود العرف أو الدين، فنرجو الأستاذ أن يرجع إلى ما فصلنا من الكلام عنها. وقد اعترفنا للأستاذ بما في نزعة التجديد من عيوب وحبذا لو رجع الأستاذ إلى ذلك التفسير والتعليل، وقلنا أنها عيوب عارضة وليست كل شيء. أما المسائل الاجتماعية التي ذكرها الأستاذ فهي أمور يختلف فيها الأدباء وغير الأدباء ويختلف فيها الناس في كل عصر؛ ولو شاء الأستاذ لذكرنا من أقوال كتاب العرب وشعرائهم ما هو اشد من أقوال طه حسين وهيكل وقاسم أمين. ومن الغريب أن الأستاذ لا يرى حرجاً في الاقتباس من علوم أوربا ويرى حرجاً في الاقتباس من مذاهبهم وأبواب أدبهم، وإذا كان هناك حرج فالحرج في الحالتين.

(قارئ)

ص: 11

‌من برجنا العاجي

جاءني بريد (بيروت) هذا الأسبوع بمجلة أدبية فاضلة ما كنت ألقي نظرة على صدرها حتى وجدته زاخراً بسب مصر ورجال الأدب في مصر. مع استنكار (لامتداد الأدب المصري والثقافة المصرية في أجواء البلاد العربية) وبعد أن نفى الكاتب الكريم عن مؤلفات المصريين كل قيمة في بضعة أسطر. ختم الكلام بقوله: (أنني أنكر هذه الثقافة (اللقيطة) ويعز علي كلبناني عربي أن تؤخذ بلادي بالتدجيل وتخدع بالدعايات المجانية أو المأجورة)

ما هو الدافع إلى هذا القول؟ أهو نقد الجهود في ذاتها حتى نستيقظ قليلاً ونرى أن قراءنا في البلاد الشقيقة قد بدءوا يسأمون إنتاجنا، ويستحثوننا على تجديد طرائقنا وتعزيز وسائلنا، حتى يظفروا الأدب العربي الحديث بالنهضة الباهرة المنشودة؟ أن كان هذا هو قصد المجلة والكاتب فهو قصد نبيل، لا يسع مصر وكتابها إلا أن يبعثوا إليهما من أجله أصدق عبارات الشكر

أما إذا كان الباعث هو مجرد الغضب لأن مصر بالذات هي التي تنبعث منها أشعة الثقافة العربية الحديثة في الوقت الحاضر، فتلك عاطفة لا تشرف صاحبها ولا نحب نحن أن نسلم بوجودها، خصوصاً في بلد تربطنا به أواصر النسب

ومع ذلك فهذا أمر لا ينبغي أن يكون موضع جدال، لأنه أمر يتعلق بالواقع

فإذا كان الواقع هو أن نسيم الثقافة يهب علينا اليوم من جبال لبنان، فلا أحب إلينا نحن المصريين من هذا. وهو خير لنا وأشرف من أن يهب علينا من جبال الألب.

غير أن الذي يؤلمني هو أننا معشر الشرقيين يكبر علينا دائماً أن نرى الفضل يأتينا من شرقي، ولا نغضب بل نفخر إذ يأتينا الفضل من غربي!

ولأرفع صوتي صريحاً: أن الشرق لن تقوم له قائمة إذا بقيت فيه ذرة من روح التنابذ والتحاسد. فإن لم يسعفنا التعاون والتساند فلنوقن بسقوطنا العاجل بين فكي الغرب النهم.

توفيق الحكيم

ص: 12

‌أعلام الأدب

هوميروس

للأستاذ دريني خشبة

(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)

(تابع)

ومن ألمع شخصيات الإلياذة شخصية أجاممنون. . . تلك الشخصية العجيبة التي رفعها هوميروس فوق شخصياته جميعاً، وخصها بالقيادة العامة للأسطول في البحر وللجيوش في البر

وأجاممنون هو شقيق منالوس زوج هيلين التي بسببها شبت الحرب بين اليونان وطروادة. وهو الذي ضحى بابنته إفجنيا كي تتحرك الريح وتتأذن الآلهة للأسطول أن يقلع من أو ليس بعد إذ لبث هناك زماناً طويلاً لا يقوى على حركة لسكون البحر وجمود الرياح. . . قد اتخذ إسخيلوس من مأساة الفتاة إفجنيا موضوعاً لمأساته الرائعة التي دبرت فيها كليتمنسترا زوجة أجاممنون غيلة زوجها بعد أوبته من طروادة وذلك بمعاونة عشيقها إيجيستوس ثم تتسلسل ثلاثية إسخيلوس المشجية (الأورستية) التي ترجمناها لقراء الرسالة منذ ثلاثة أعوام

ومن المشاهد المؤلمة التي ينقم فيها القارئ على أجاممنون ذلك المشهد الذي يقص علينا فيه هوميروس ما شجر من الخلاف بينه وبين البطل أخيل. . . وذلك أن الجيوش اليونانية كانت قد ظفرت في إحدى المعارك بسبي عظيم كان في جملته الفتاة خريسيز ابنة كاهن أبولو والفتاة الحسناء بريسيز. وقد كانت خريسيز من نصيب أجاممنون وبريسيز من نصيب أخيل. . . ولما علم والد خريسيز بما آل إليه أمر ابنته كمد كمداً شديداً وذهب إلى خيمة أجاممنون يتوسل إليه أن يرد إليه ابنته، لكن القائد العام أغلظ للوالد المنكوب ورده رداً شديداً. فدعا الكاهن آلهة أبولو أن يصيب سوط عذابه على اليونانيين ما داموا لا يردون عليه فلذة كبده وقطعة قلبه. . . واستجاب له إله الشمس فسلط عليهم طاعوناً راح يبيدهم ويفتك بأجنادهم. . . ثم جاءتهم النبوءة بوجوب رد الفتاة إلى أهلها إذا أرادوا رفع

ص: 13

البلاء عنهم، فوافق أخيل كما وافق كل رؤساء الجيش، لكن أجاممنون أبى أن يرد الفتاة إلا إذا قبل أخيل أن ينزل له عن بريسيز التي ملكت عليه فؤاده وامتزج حبها بدمه. . . ولما رأى أخيل ما يحل باليونانيين من بلاء قبل مكرهاً أن يهب أجاممنون معبودته، لكنه اشترط ألا يخوض المعركة مع بني جلدته بعد ذاك

هذا مشهد يثير السخط على أجاممنون، كما أثاره تسليم رأس ابنته للجلاد قرباناً للآلهة حتى تثير الرياح كي يقلع الأسطول. . . وبمثل هذه المشاهد التي سنضع بين يدي القارئ صوراً رائعة منها وضع هوميروس أساس المأساة اليونانية ومهد السبيل لمن جاء بعده من الشعراء فخلقوا الدرامة وخلقوا المسرح وتركوا للذهن البشري ثروة ما يزال يستغلها وما يزال يروي ظمأه منها

وقد ورد ذكر أجاممنون في الأوديسة كما أسلفنا وذلك عندما لقي أودسيوس الكاهن تيريزياس في العالم الثاني واخذ يقص عليه ما آل إليه أمر أبطال الإلياذة بعد أوبتهم إلى أوطانهم، وقد ذكر له من أمر أجاممنون ما دبرته له زوجه

وللبطل ديوميد منزلة رفيعة في الإلياذة، ويكاد بشجاعته النادرة يتفرد بالإعجاب بعد إذ هجر المعركة أخيل. ففي الكتاب الخامس الذي قصره هوميروس على هذا البطل لا تقتصر شجاعته على التفوق على الآدميين الذين خاضوا الحلبة بل تتعداها إلى الآلهة، وحسبه فخراً أنه جرح فينوس ربة الجمال التي كانت تتفانى في مساعدة جيوش طروادة، ثم مارس إله الحرب الجبار، المدله بهوى فينوس. . . وكلما حاق بأحد اليونانيين كرب في المعمعة كان ديوميد أسرع الفرسان إلى نجدته بل إنقاذه. . . وقد ذهب في الكتاب العاشر في صحبة أودسيوس إلى معسكر الطرواديين في حلك الليل حيث اغتالا ريسوس بعد أن اجتازا ساحة تعج بالمنايا وتضطرب بألوان المهلكات

أما أودسيوس فله شخصية فذة. . . أنه بطل مخاطر لا يبالي الردى ولا يرهب المنايا، إلا أنه يمتاز بناحية أخرى أظرف وألطف. . . ناحية تثير المرح وتبعث على الضحك، ضحك الجد الصارم لا ضحك المشعبذين، ورجال المساخر. . . أنه كان من عشاق هيلين قبل أن تنشب مدة الحرب، فلما فاز منالوس بهيلين، حزن وتولاه الكمد، لكنه تزوج من إحدى قريباتها (بنلوب التي لم تكن تقل عنها جمالاً ونضرة وطلاوة، والتي استطاعت أن

ص: 14

تحتل من قلبه فراغ هيلين كله. . . فلما نشبت الحرب بسبب هيلين وعلم أودسيوس أنه مدعو إلى خوض غمارها فيمن دعي من ملوك هيلاس وأمرائها أثر السلامة، فادعى العته، وذهب إلى شاطئ البحر بمحراث عظيم يجره ثور وجواد، وجعل يحرث الأرض ويبذر فيها الملح كما يفعل المجانين. . . ولم تنطل هذه الحيلة على بالاميد رسول منالوس فقد عمد إلى تزييفها بوضعه الطفل تليماك بن أودسيوس في طريق المحراث. فكان أودسيوس يتفادى ولده في مهارة اشد الناس وعياً وأكثرهم إدراكاً. . . وفي الإلياذة كثير من المشاهد التي تدل على براعة أودسيوس وجمال حيلته وعمده إلى الخدعة في الحرب أكثر من الاتكال على الشجاعة المجردة. كما كان يصنع ديوميد أو أجاكس أو أخيل. . . وخدعة الحصان الخشبي التي فتحت طروادة هي من تدبير أودسيوس. . . أما الأوديسة فإنها غاصة بحيل هذا الرجل العجيب، وكل حيل خلابة لا يمكن استيعابها في هذه الفصول المقتضبة عن هوميروس. وتنتهز هذه المناسبة فنشير إلى ما تسرب إلى قصص ألف ليلة وليلة من خدع أودسيوس. فأكثرنا قد قرأ رحلات السندباد البحري، وأكثرنا يذكر المارد الذي حبس السندباد ورجاله في كهفه، وراح يسمنهم ويغتذي بهم واحدا بعد واحد حتى دبر السندباد حيلة سمل عيني المارد بالسيخ (السفود) المحمى وما تم بعد ذلك من هرب السندباد ورجاله إلى زورقهم ونجاتهم بأنفسهم في البحر. . . هذه صورة كاملة من صور الأوديسة اقتبسها الراوية العربي وكساها هذا الرواء القشيب مباعدا بينها وبين الأصل غير مشير إلى مصدرها. ونحسب نحن أن قصة السندباد كلها لم تكتب إلا بعد العصر الذي فشت فيه الترجمة عن اليونانية واشتدت فيه أواصر الصداقة بين هارون عاهل بغداد، وشرلمان عاهل بيزنطة، وما تبع ذلك من وفود تجار القسطنطينية إلى بغداد ووفود تجار بغداد إلى العاصمة الرومية، وما كان يصحب هذه الرحلات من تبادل القصص وسرد الأخبار. . . وليس يبعد كذلك أن يكون لاختلاط العرب بأهل الإسكندرية من مصريين ويونانيين أثر فيما نلحظه من تلقيح القصص العربي بطرائف القصص اليوناني.

هذه بعض الشخصيات اليونانية من المذكور في إلياذة هوميروس، تقابلها شخصيات أخرى في معسكر طروادة. . . ولسنا ندري بأيها نبدأ؟ أن باريس الذي كان سبب هذه الحرب الضروس شخصية هزيلة مريضة شاحبة، وليس يستطيع الإنسان أن يفهم كيف جاز أن

ص: 15

تنشب هذه المجزرة الشنيعة المروعة بين هذين الحلفين الكبيرين من أجل هذا الفتى باريس ينزل ضيفاً على منالوس فيكرمه ويحتفي به ثم ما يلبث الضيف أن يغازل زوج مضيفه. ثم ما هو إلا أن يفر بها بعد تدبير هو اسفل ما عرف في تاريخ الهمجية والقحة!! حقاً، لقد وعدته فينوس قبل أن يقضي لها بالتفاحة المشؤومة أن تمنحه اجمل زوجة وأفتن امرأة. أفلم يكن هذا النذر الإلهي يقضي إلا على هذا النحو؟ والغامض الذي لم يفسره علم الأساطير هو كيف أنه قد ساغ صنع باريس في ذهن أبيه ملك طروادة؟ وكيف رضى بطل عظيم مثل هكتور عن هذه الدعارة التي أثار بها أخوه الحرب بين هذين العالمين؟ قد نلتمس العصبية الجنسية عذراً واهياً لهذا الرضى، بيد أنه يكون عذراً متهدماً على كل حال

يدرس الإنسان شخصية بريام الملك فيعجب لنبالة الرجل وفطرته التي فطره الله عليها من محبة للعدل وميل إلى الإنصاف وإشفاق على الرعية، فكيف وزن عمل ولده حين أبى أن يأمره برد هيلين إلى زوجها حقناً لكل تلك الدماء؟! أين المرض إذن؟ أفي رأس بريام وملثه؟ أم هو في رأس هوميروس؟! هنا موضع الضعف في عقدة الإلياذة، وهو ضعف يشبه الضعف في عقدة الأوديسة، حين يجتمع عشاق بنلوب في قصر أودسيوس، وحين تمر عليهم السنون الطوال منتظرين أن تختار منهم رب الدار بعلاً لها، فهم بذلك يشبهون القطط ويحاكون الديكة حين تقتتل على الأنثى. . . هذا ضرب حيواني من تفكير هوميروس يشوه جمال ملحمتيه، ولعل للوثنية نصيباً كبيراً في توجيه شاعر الخلود هذه الوجهة. . . ولعل المصريين القدماء لم يكونوا متجنين حين قالوا عن ملاحم اليونانيين أنها نتاج صبياني، ولذا لم يأبهوا لها ولم يعنوا بها برغم ما مدحها لهم صولون

والعجيب في هوميروس أنه لم يبال أن ينحط بالمرأة اليونانية إلى مستوى دون مستوى المرأة الطروادية بمراحل هائلة. . . لقد جعل المرأة اليونانية متاعاً شائعاً وغرضاً تتحيفه لبانات الرجال؛ فهيلين زوجة منالوس ملك أسبرطة تفر مع باريس إلى طروادة دون أن تتأبى أو تتمنع. ثم تشب الحرب بسببها فلا تحاول مرة أن تفر إلى معسكر اليونانيين. بل تظل طوال السنوات العشر متعة حلالاً لباريس، وتنتهي الحرب، وتضطرم النار في كروادة، وتعود هيلين إلى أسبرطا، فلا تثور نخوة منالوس، ولا يضطرب قلبه بقليل من غيرة الرجال

ص: 16

أما بنلوب فقد ضربت المثل الأعلى لحفاظ المرأة ووفاء الزوجة، لكنها مع ذلك عوملت من أمراء هيلاس معاملة عجيبة مضحكة تدعو إلى السخرية التي فاجأ بها المصريون القدماء المشترع صولون. . . وإلا فما هذه العصبة من العشاق المعاميد تحتل منزل أودسيوس فتزيغ خيره وتأكل زاده وترتع في شرفه وتستبيح عرضه؟! أكانت منزلة المرأة عند اليونانيين - ولو في عصر هوميروس - بهذه الدرجة من الهوان! زوجة ملك إيثاكا تكون بطلة هذه المأساة الغرامية الوضيعة، وقد قدم هوميروس من خيوس لينشد ملحمته في المدائن اليونانية ليسمع أهلوها كيف كان أسلافهم يعاملون زوجة بطل أبطالهم؟!

وكليتمنسترا زوجة أجأممنون. . . لقد عشقت هي أيضاً إيجستوس المتآمر على عرش مولاه والذي دبر له تلك القتلة الهائلة الشنيعة بعد عودته ظافراً من طروادة. . . فما هذا الذي صنعه هوميروس بنساء اليونانيين؟ لقد عبث بهم وهو يرفع أبطالهم إلى ذروة المجد، ولها بعقولهم حين عرض عليها بضاعة البطولة المزجاة ملفوفة في أكفان تلك الأعراض الممزقة. . . حتى آلهتهم. . . لقد تناولها كما يتناول الطفل دماه ولعبه يعبث بها ويلهو. . . حتى كبير الآلهة وسيد الأولب. . . انظر إليه كيف احتالت عليه زوجه جونو (حيرا) - الكتاب الرابع عشر - فجعلته يغفى ثم يغط في نوم عميق كيما يذهب نبتيون لنصرة الإغريق، فإذا استيقظ في الكتاب الخامس عشر وعلم ما كان من أمر نبتيون أرسل إليه ينذره في المعركة، فيعود رب البحار وينبري أبولو لمشاكسة اليونانيين فترتد جموعهم إلى قواعدها عند الأساطيل. . .

أما المرأة الطروادية فقد سما بها هوميروس سمواً بلغ الغاية وأوفى على المأمول. . . أنظر إلى الأزواج والعذارى والأمهات يجتمعن حول هيكتور في الكتاب السادس في عودته من المعركة يسألنه عن ذويهن؛ وانظر إلى أمه تبرز إليه من حريم بريان عابسة مقطبة ترجوه لأنه عاد من المعركة وهي على أشدها، ثم تحضنه على اللحاق بإخوانه ينصرهم ويشد أزرهم ويرد عادية الإغريق. . . ثم أنظر إلى هذه المرأة المرزأة - هيكوبا - تجمع المتضرعات من بنات طروادة وتذهب فيهن إلى هيكل مينزفا تصلي وتعقر القرابين كيما تشمل جيش طروادة بحسن رعايتها وجميل حمايتها. . . ثم استمع إليها تحنو على هيكتور في الكتاب الثاني والعشرين بعد إذ وعظه والده خوفاً عليه من أخيل (الجني!) وقد أفزعها

ص: 17

منظره يصول في الحلبة ويجول، فتذرى دمعها وتساقط نفسها بعد إذا أرسلت إلى المجزرة بأكثر أبنائها. . . أو أنظر إليها تمزق نياط القلوب في الكتاب الرابع والعشرين إذ هي تبكي هكتور بعد إذ عاد أبوه بجسمانه من لدن أخيل. . . أو أنظر إليها تتعلق ببريام وقد انقض بيروس (ولد أخيل) على آخر أبنائها يخترمه برمحه، ثم ينقض على بريام الشيخ الفاني المسكين فيجهز عليه، ثم يقتاد هيكوبا. . . هكيوبا المحزونة المفجعة فتكون في جملة السبي الذي يعود به اليونانيون من طروادة، ويكون سبباً يجر عليهم النحس فيقتل من يقتل ويردي من يردي

وأندروماك! لشد ما يدوي في فؤاد القارئ هذا المشهد الرائع بينها وقد حملت طفلها وبين زوجها هكتور في الكتاب السادس من الإلياذة! إن هوميروس يرتفع في هذا المشهد إلى ذروة فنه في ملحمته الخالدة! لشد ما يحرق القلب وداع أندروماك الزوجة لهكتور الزوج

أنظر إليها واقفة فوق برج من أبراج طروادة وقد قتل أخيل زوجها وراح يجره وراء عربته في الساحة حول اليوم. والرأس الكريم العظيم يثير التراب المنضوج بالدم، وأخيل يلهو بكل ذلك ويشتفي!

بل أنظر إليها وقد وقفت تضرب صدرها وتسكب دمعها على جثة هكتور بعد إذ عاد بها أبوه بريام من عند أخيل، ثم تقول:

(زوجي! أهكذا تمضي في عنفوان الصبا وشرخ الشباب، وتتركني وحيدة فريدة كاسفة! هذا ابنك ما يزال في المهد، وهذان أبواك الشقيان! لن يشب ابنك يا هكتور عن طوقه، لأن من دون هذا دك تلك الحصون، وتقويض طروادة التي كنت حاميها وحامي نسائها والذاب عن بنيها! يا لشقاء الحرائر اليوم يا طروادة! إن هي إلا لحظات ثم يحملهن البجر إماء للغزاة، وأنا وولدي في جملة السبي يا هيكتور. . . ولدي! ولدي البائس الشقي! إلى أين المسير؟! إلى بلاد العدو الظالم لنكون من جملة الخدم والخول. . . ليراك من يحسب أباك قد قتل أباه أو أخاه فيبطش بك، وينتقم منك، ويقذف بك من فوق برج أو حصن. . .

(لشد ما كنت حزنا لأبويك يا هكتور! بيد أنك كنت حزناً ممضا لمخلوق تعيس آخر هو أنا. . .!)

وهكذا بكت هذه الزوجة المخلصة الوفية زوجها، وهكذا كانت دموعها الغوالي مداداً لا ينفذ

ص: 18

لمآسي يوريبيدز

ما أجمل هوميروس!!

وما أضيق هذه الفصول بأدبه الخالد الذي لا يبيد!!

دريني خشبة

ص: 19

‌دراسات في الأدب

للدكتور عبد الوهاب عزام

الأدب والنقد والتاريخ

يبين الأديب شاعراً أو كاتباً عما يدرك ويتصور ويتخيل من مشاهد العالم ومعانيه. يصف مرأى جميلاً أو دميماً ويعرب عن إحساس مؤلم أو لذيذ. وتارة يكون موضوع الأديب مظاهر الأدب لا مظاهر العالم. يصف قصيدة أو مقالاً يبين ما فيهما من بلاغة وجمال أو ما يعوزهما من قوة في المعنى وسلاسة في اللفظ، أو يعرض للشاعر والكاتب يبين ما فطرا عليه من طبع وما واتاهما من علم، وما يسر لهما في موضوعات البلاغة وأساليبها أو يأخذ عليهما قصوراً في الإدراك أو عياً في البيان وهلم جرا. وربما يتناول الباحث موضوعات من الأدب يصف تقلبها على مر العصور، أو طائفة من الأدباءيصف تواليهم على الزمن واخذ بعضهم عن بعض وتقبل بعضهم بعضاً. فيخرج للناس صورة للأدب في عصر أو أعصر.

هذا كله من الأدب، ولا يسوغ أن نخرج من الأدب المقالات التي تنقد الأدب أو تؤرخه

1 -

لأن الباحث في قصيدة أو مقال يصف ما أوحت إلى نفسه هذه القصة وهذا المقال وما أدرك فيهما من جمال وما اشرب قلبه من حب أو بغض. وفرح أو حزن. فهو كالذي يصف مشهدا جميلاً أو دميماً في العالم أو أمراً حزيناً أو بهيجاً من أمور الحياة

2 -

ولان الناقد والمؤرخ مهما يستعمل الفكر والعقل ويذكر العلل والنتائج إنما يحكم بعاطفة ويقيس بوجدان فلن يستطيع أن يدخل دائرة العلم المحض ما كان موضوع بحثه الأدب والأدباء

يتبين من هذا أن الأدب له فروع: إنشاء ونقد وتاريخ. ويمكن أن نرد هذه الفروع إلى فرعين: أدب ذاتي وأدب موضوعي، وهذا يشمل النقد وتاريخ الأدب ويزيد وضوحاً فيما يلي:

الأدب الذاتي النفسي هو الكلام الذي ينشئه صاحبه إبانة عما في نفسه. والأدب الموضوعي هو الكلام الذي يقصد به تبين ما في الكلام الأدبي من محاسن ومساوئ، أو الإبانة عن فضل شاعر على آخر، أو ترجيح طريقة من البيان على طريقة، أو بيان أطوار الأدب في

ص: 20

عصوره المختلفة الخ. . .

والخلاصة أنه الكلام الذي يراد به وصف الأدب والأدباء وفيما يلي أمثلة توضح هذين الضربين من الأدب:

- 1 -

قال البحتري في وصف دمشق:

إذا أردتَ ملأتَ العين من بلد

مستحسنٍ وزمان يشبه البلدا

يمشي السحابُ على أجبالها فِرَقاً

ويصبح الروضُ في صحرائها بددا

فلست تبصر إلا وأكفاً خضلا

أو يانعاً خضراً أو طائراً غَرِدا

وقال أبو هلال العسكري:

أما ترى عود الزمان نَضْرا

ترى له طلاقة وبشرا

أتته ألطافُ السحاب تتري

وساقت الجنوب غيما بكرا

تبسط في الصحراء بُسطا خُضرا

وتمنح الروضة زهرا صُفرا

ونرجسا مثل العيون زهرا

وأقحوانا كالثغور غُرَّا

كأنما يصوغ فيها تبرا

كأنما يروق فيها عطرا

كأنما ينثر فيها درّا. . . الخ

وقال أبو الطيب في رثاء أخت سيف الدولة:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدعْ لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

تعثرت به في الأفواه ألسُنها

والبرد في الطرق والأقلام في الكتب

وقال الحسين بن مطير الأسدي أحد شعراء الحماسة يرثي معن بن زائدة الشيباني:

ألِمَّا على معن وقولا لقبره:

سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا

فيا قبر معن أنت أول حفرة

من الأرض خُطِّت للسماحة مضجعا

ويا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البر والبحر مُترعا

بلى قد وسعت الجود والجود ميت

ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا

فتىِ عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا

ص: 21

ولما مضى معن مضى الجود فانقضى

وأصبح عرنين المكام أجدعا

وقال ابن المعتز يصف سامرا بعد أن تركها الخلفاء إلى بغداد فسارع إليها الخراب:

(كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد جدرانها، فشاهد الناس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وكأن خرابها ينشر، وقد وكلت إلى الهجر نواحيها، واستحث باقيها إلى فانيها، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حق جوار، فالطاعن منها ممحو الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف، وسروره أحلام؛ ليس له زاد فيرحل، ولا مرعى فيرتع الخ)

في هذه القطع كلها تجد المبين ينشئ ما يترجم عما شعر به وتخيله وتصوره حينما رأى منظراً بهيجاً من السحاب والرياض، أو مرأى كئيباً من الخراب والإقفار، وحينما علم موت صديق يعز عليه أو عظيم، كان يزجى آماله إليه. وكل هذا تصرف

- 2 -

فإذا تبينت هذا فانظر إلى الأمثلة الآتية:

قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة:

(وقد علمت أن الشعراء قد تداولوا ذكر عيون الجاذر، ونواظر الغزلان، حتى أنك لا تكاد تجد قصيدة ذات نسيب تخلو منه إلا في النادر الفذ. ومتى جمعت ذلك ثم قرنت إليه قول امرئ القيس:

تصدُّ وتُبدي عن أسيل وتتِّقي

بناظرة من وحش وَجرةَ مطفل

أو قابلته بقول عدى بن الرقاع:

وكأنها بين النساء أعارها

عينيه أحورُ من جآذر جاسم

رأيت إسراع القلب إلى هذين البيتين، وتبينت قربهما منه؛ والمعنى واحد، وكلاهما خال من الصنعة، بعيد من البديع. إلا ما حسن به من الاستعارة اللطيفة التي كسته هذه البهجة. وقد تخلل كل واحد منهما من حشو الكلام ما لو حذف لاستغنى عنه وما لا فائدة في ذكره لأن امرئ القيس قال:(من وحش وجرة). وعدياً قال. (من جآذر جاسم) ولم يذكرا هذين الموضعين إلا استعانة بهما في إتمام النظم وإقامة الوزن، ولا تلفتن إلى ما يقوله المعنويون في وجرة وجاسم فإنما يطلب به بعضهم الأغراب على بعض، وقد رأيت ظباء جاسم فلم

ص: 22

أرها إلا كغيرها من الظباء، وسألت من لا أحصى من الأعراب عن وحش وجرة فلم يروا لها فضلاً على وحش ضرية وغزلان بسيطة. وقد يختلف خلق الظباء وألوانها باختلاف المنشأ والمرتع، وأما العيون فقل أن تختلف لذلك. وأما ما تمم به عدى الوصف، وإضافة إلى المعنى المبتذل بقوله على أثر هذا البيت:

وَسْنان أيقظه النُّعاس فرنّقت

في عينه سِنة وليس بنائم

فقد زاد على كل من تقدم، وسبق بفضله جميع من تأخر. ولو قلت: اقتطع هذا المعنى فصار له، وحظر على الشعراء ادعاء الشرف فيه لم أرني بعدت عن الحق) أهـ

الجرجاني في هذه القطعة يفضل بيتي امرئ القيس وعديّ على أبيات الشعراء في معناهما، ثم يبين ما فيهما من الحسن وما تخللهما من الحشو، ثم يصف بيت عديّ الثاني بأنه احسن بيت في معناه. فالجرجاني لم يبين هنا عما أحسه هو في وصف العيون، ولكنه ينظر فيما قال غيره فيبين ما فيه من إجادة وتقصير ويبين أي الأبيات ابلغ وهكذا. فهو إنما يصف كلام غيره ويقيسه بذوقه وتصوره

فهذا أدب موضوعي. . .

وقال بشر بن المعتمر:

(ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات: فإن كان الخطيب متكلماً تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه عبر عن شي من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين إذ كانوا لتلك العبارة أفهم، واليها أحن، وبها أشفق. . . الخ)

وقال أبو العباس الناشئ:

لعن الله صنعة الشعر ماذا

من صنوف الجهّال منه لقينا

يؤثرون الغريب منه على ما

كان سهلاً للسامعين مبينا

إنما الشعر ما تناسب في النظم

وإن كان في الصفات فنونا

فأتى بعضه يشاكل بعضا

قد أقامت له الصدور المتونا

ص: 23

كل معنى أتاك منه على ما

تتمنى، لو لم يكن، أن يكونا

فتناهى عن البيان إلى أن

كاد حسناً يبين للناظرينا

فكأن الألفاظ فيه وجوده

والمعاني ركِّبن فيه عيونا

فإذا ما مدحت بالشعر حراً

رُمتَ فيه مذاهب المسهبينا

فجعلت النسيب سهلاً قريبا

وجعلت المديح صدقاً مبينا الخ

ترى في قول بشر والناشئ وصف خطة للبيان، ودعوة إلى طريقة في الإنشاء يريانها الطريقة المثلى وهذا أدب موضوعي أيضاً

واقرأ هذه القطعة أيضاً: قال أبو منصور الثعالبي في مقدمة اليتيمة:

(لم ينزل شعراء الشام وما يقاربها بها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام. . . والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم

ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة العبارة وحلاوة الحضارة ورزقوا ملوكاً وأمراء من آل حمدان، وبني ورقاء هم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل - انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا)

يوازن الثعالبي في هذه الأسطر بين شعراء الشام وشعراء العراق، ويفضل الأولين، ثم يبين الأسباب لتي فضلتهم على غيرهم؛ فهو يصف كلاماً بالجودة وشعراً بالتفوق ويحاول أن يعدد الأسباب التي أجادت هذا الكلام، وقدمت هؤلاء الشعراء

وهذا أدب موضوعي كذلك

واقرأ بعد هذه الجملة من مقدمة كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة:

(هذا الكتاب ألفته في الشعر؛ أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره؛ وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطأ في

ص: 24

ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرين

وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها، ويستحسن لها إلى غير ذلك)

تجد صاحب الكتاب يعمد إلى تأريخ الشعراء بذكر أخبارهم وازمانهم والى تاريخ الشعر بذكر ما أخذه المتأخر عن المتقدم من المعاني والأساليب - زيادة على النقد وتبيين المستحسن المستقبح، والخطأ والصواب. وهذا يدخل في الأدب الموضوعي كذلك.

كل الأمثلة التي قدمتها في إجمال هذا الفصل تدخل في الأدب؛ ولكنها يمتاز بعضها عن بعض: في القطع الأربع الأولى أدب ينشئه الشاعر إنشاء ويبتدئه لا يصف فيه كلام غيره، بل يصف ما رأى هو من مناظر، وما شعر به من حزن وألم ونحو ذلك فهذا الذي يسمى الأدب الذاتي

وفي القطع الأخرى تجد أدباً يدور حول الكلام البليغ، أدباً يصف أدباً آخر أو يبحث في قوانين الأدب وأحواله وأطواره وهذا الذي يسمى الأدب الموضوعي

ولكن بعض هذا الأدب الموضوعي يبين محاسن القطعة من الشعر أو النثر أو يبين احسن المناهج التي يسلكها الشاعر أو الكاتب، كما في قطعة القاضي الجرجاني وقطعة بشر ابن المعتمر وقطعة الناشئ وهذا يسمى النقد.

وبعض الأدب الموضوعي يبين التاريخ والتطور كما في قطعة ابن قتيبة. . وهذا تاريخ الأدب.

وفي العدد الآتي نجمل الكلام في النقد وتاريخ الأدب.

عبد الوهاب عزام

ص: 25

‌دراسات في الأدب المصري القديم

للآنسة الفاضلة الزهرة

إنّا سلالة أمة تباهي بتاريخها الأمم، فمن الواجب علينا أن نلم بذلك التاريخ المجيد، ونستعرض صوره، لنمكن حلقة من تلك السلسلة الجميلة الغالية، التي تصل بيننا وبين القدم، وتقربنا إلى آبائنا الكرام، أولئك الذين بنوا المجد وشادوه، واستذلوا الزمان وأخضعوه، واكرهوه بباهر أعمالهم على أن يسجل أسماءهم في ديوان الخالدين.

ولقد رأيت أن استمد ذرائع الاتصال والقربى بالتغلغل في قرارة الماضي السحيق، للإحاطة بحياتهم الأدبية، بحيث نستطيع أن نلمس فيها زمانهم وبيئتهم، ونلمح قبساً من نظرياتهم في الوجود، وما اتخذوه لأنفسهم فيه من نظم الاجتماع والسياسة، والدين والأخلاق، لعلنا نتدرج من هذا كله إلى إقامة الدليل القاطع، على سمو المنزلة التي بلغها الأدب المصري القديم، ودحض ما رمى به من النقص والقصور. وقد كان علماء المستشرقين إلى منتصف القرن التاسع عشر يعتقدون أنه قد خلا من القصص وطول العبارة، وانسجام التفكير واستمرار الخيال، وافتقر إلى الفلسفة والنظريات. والواقع أن الأدب المصري القديم كان حافلاً بالثروة المعنوية، وافانين القول، وكان متعدد الفروع والأبواب حتى أنه لم يترك فرعاً إلا تناوله، خلا فرع الشعر التمثيلي. ويرى الدارس للكتابات القديمة خصائص بارعة تميزها عن باقي آداب الشعوب السامية لما يتجلى فيها من حسن الوصف، وكمال الصوغ، وبساطة التعبير، وطلاوة اللغة ومتانتها، وسهولة الألفاظ ورقتها، في إمتاع جزل بليغ. ولقد كان من اظهر تلك المميزات، الوضوح والاستقامة، وأناقة الأسلوب، وروعة التركيب، وجودة المقاطع، ونصاعة المبنى، وإيجاز المعنى وإصابته. على أن هذا الإيجاز كان ينتهي بالكاتب الضعيف في أحايين إلى السخف والعي والركاكة. غير أن الكاتب الأريب، كان يستطيع بقليل من التفنن أن يصور سجية من السجايا. وضاءة الجبين إذ يصف عاطفة من العواطف، قدسية الجوهر سافرة المحيا ولم يكن للكاتب المصري ند في حسن اختيار الألفاظ ووضعها في المكان الملائم لها في الجملة، فأنت تراه يكتب كمؤلفي هذا العصر المجيدين دقة ورقة ومتانة وظرفاً، ويمثل لك الحياة كما تقع في صورة كلامية لا تقل تأثيراً وإبداعاً عن الصورة اللونية المتقنة، فإذا نزل بك إلى ميدان السياسة، تجده يصف لك

ص: 26

الملوك والحكام وصفاً دقيقاً، فيقول عن العاهل الجليل:(إنه يعرف كيف يأسر القلوب ويملكها) ويصف القاضي العادل بقوله: (إنه يسلك مناهج الاستقامة ونزاهة القلب). وبألفاظ قليلة منتقاة كان يجلي لنا الحاكم المحبوب المترفق، والقاضي الحكيم المنصف. وإذا عرج على الحياة وألوانها ألفيناه يصف الشباب ولذاته، والمشيب وحسراته، والهرم ومرارته، كل ذلك بأسلوب سهل وإيجاز مبين، لا أثر فيه للصناعة الأدبية المتكلفة فكان فنه الفن الصحيح. وكان من مميزات هذا الأسلوب الموجز الممتع، ما حملته ألفاظه من صور ومقدمات معنوية كانت في الأدب المصري القديم روح المجاز المرسل وعنصر الكتابة البليغة، ويمكننا أن نقتبس أمثلة لذلك كقولهم:(المطيع يطاع!) و (الجاهل حي ميت) وهكذا كانت الجملة القصيرة في الأدب المصري تفرغ في مثل هذا القالب من البساطة وانسجام التفكير ودقة السبك. ومعلوم أن الجملة القصيرة الصحيحة تلخص فكرة العقل القوي الحصيف لأن الإيجاز في الإفهام ممدوح مستحب. ولقد كان الأسلاف يكرهون الإسهاب المخل. والإطناب الممل، فتراهم يجنحون دائماً إلى قرب المجتني، ويعتقدون أن خير الكلام ما قل وجل، ودل ولم يمل، وكانوا في حياتهم اليومية يشمئزون من الثرثار ويعدون الثرثرة مما ينافي عقيدتهم الدينية في اشرف المواهب، واعتاد من يقف منهم في محكمة العدل والدينونة، أمام قضاة (العالم السفلي) في دار الآخرة أن يقول:(أشهد أني لم أكثر من الكلام في حياتي ولم أسترسل فيه بإطناب تمجه الأذان) وكانوا يحبون تنميق اللفظ وزخرفته ولكنهم أجادوا تنقيحه ووفقوا فيه توفيقاً عجيباً دون أن يداخله التعمل. وكذلك كانوا لا يطاولون في دقة التشبيه. والحق أنهم كانوا يرتفعون إلى اجمل سماواتها وأعلاها كلما التمسوها من الطبيعة. وبين أن التفوق في تقريب المثال، دليل القدرة على بعد المنال، والتعميم والإطلاق في رسم الحقائق الناصعة رسماً صادقاً، وعنوان البراعة في الموازنة العقلية والمقارنة الذهنية، بل أنه مجلي الحماسة والحرارة والإخلاص للفن ومعرض العاطفة العميقة الصحيحة التي تفنن الألباب بصحتها وقوتها. مثال ذلك تشبيه الملك رمسيس الثاني (بأسد ظافر يضرب بمخلبه ولا يدبر، يزأر ويزمجر بصوت هائل في وادي الظباء. . .) أو قولهم فيه: (أنه يشبه ابن آوى في سرعة خطاه وسعيه لاقتناص ما يجده والانقضاض عليه كالبرق الخاطف).

ص: 27

وكانت التعبيرات المتجافية الوعرة، والكلمات الغثة المثقلة بالاستعارات الرثة والتوريات المتنافرة، والمترادفات المتقعرة الفجة والمحسنات اللفظية الجوفاء من الأخطاء التي يجهلها المؤلف المصري الذي كان يميل في أسلوبه ولغته إلى الوضوح دون أن يتسامح في لفظة واحدة تطن بلا معنى وبلا غرض. . . وكان آية في الجلاء والأحكام حين يروي حديثاً أو يدون حادثاً، ولعل ذلك راجع إلى سلامة طبعه، واستقامة خلقه، وتمسكه بالصدق، ومقته للمبالغة والغلو، ولم تكن تأليفه صادرة بحال من الأحوال عن انحطاط في التخيل، أو قصور في التصور، أو عجز عن عمق التفكير، لأننا حين نطالع سيرة عظيم من العظماء من خلال منظار الحقيقة، ثم نعمد إلى قراءة الشخصيات البارزة في أقاصيص أولئك المؤلفين ومن جعلوا أبطالاً لها كما ابتكرتها تصوراتهم الخصبة واخترعتها عبقريتهم المبدعة، نرى تخيلاً سامياً معتدلاً رصيناً، يحدوه العقل الراجح، ليطابق الواقع المعقول، ويمنح تلك الشخصيات سحنة جميلة، تدب فيها الحياة الناشطة، فتراها متجسدة حيالنا، لا أشباحاً ضعيفة لا كيان لها ولا جسم. . .

وفي هذا العالم الأدبي العجيب، الذي كان يعنى بالأنواع والنماذج التي يكثر أشباهها في الحياة اليومية، نرى مواطن الشبه الموجودة بين كل فروع الأدب القصصي المصري القديم، وبين القصص التي يتحفنا بها المؤلفون المجيدون في القرن العشرين من اتباع المذهب الواقعي. وتزداد إيماناً بأن عقول أهل الأجيال السالفة لم تكن دون عقول أبناء العصور الحديثة. هذا ولعلنا واجدون في قصة (سانيهات) - ابن الجميزة - صورة أمينة واضحة للحياة والعادات القديمة. ولا يبعد أن هذا الاسم قد أطلق على بطل القصة لكونه عاش حيث توجد شجرة من أشجار الجميز المقدسة التي اشتهرت بها مصر منذ القدم، ولا سيما أن الاسم (سانيهات) معناه (ابن الجميزة) ونحن نرى في موضوع القصة ما كتبه سانيهات هذا عما شاهده في مغامراته أثناء تنقلاته ورحلاته في جنوب شرقي فلسطين. وإني كمصرية يسرني أن اذكر بلسان الإعظام والاكبار، هذا الدليل الذي تقيمه القصة على أن المصريين قد سبقوا ماركوبولو وكولمبس وفاسكودي جاما وماجلان وغيرهم من كبار المستكشفين إلى ارتياد المجاهل، وانهم قد كتبوا قصص هذا الارتياد بيد أجادت نقل ما انطبع في الذهن من صور المرئيات والحوادث بخاصة عجيبة وقوة انتباه فائقة. وقد

ص: 28

وصف سانيهات هذه الأصقاع التي رآها وصفاً بارعاً، ورسم الحياة الاجتماعية لسكانها، ومثل أخلاقهم وعاداتهم ونزعاتهم وميولهم اكمل تمثيل واظهر بعد عودته إلى مصر، الفرق العظيم بين حضارة بلاده والحياة البدائية الخشنة التي كان يحياها أولئك القوم. . . وسانيهات هو هذا (الأمير الملكي وحامل خاتم الملك، والصديق المخلص، وأمين شؤون الاجانب، هو المحبوب الملكي التابع للمقام الأسمى) وقد فر من مصر حالما سمع بوفاة الملك امينمعهت الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة، أي قبل الميلاد بألفي سنة. وهو لا يحدثنا في القصة عن هروبه، ولكننا نرجح أنه هرب لأنه كان أحد أبناء الملك من أم لا يجري في عروقها دم الفراعنة ولذلك لا يقدر أن يرث عرش أبيه والى جانبه (أوسرتسن) الابن (الملكي للفرعون) فهو يخشى أن يقتله الفرعون الجديد حتى لا يكون له من ينازعه العرش وينافسه فيه، ويشجعنا على التمسك بهذا التعليل ما جاء في سياق القصة، من اللهج بالإكرام الذي صادفه سانيهات من أفراد البيت المالك عند أوبته من ديار الغربة. ومعلوم أن الفراعنة كانوا شديدي التمسك بعصبيتهم، عظيمي التعلق بأقاربهم فلا يقربون منهم غير كريم النسبة. . .

نعود إلى حديثنا الأول فنقول: أن سانيهات يذكر أنه ولى هارباً من مصر في الليل، وكان (يختبئ في الأدغال نهاراً لئلا يراه أحد من الجيش المرابط على الحدود) وبعد صعوبات جمة ومخاطر عدة وصل إلى سلسلة الحصون التي أقيمت لصد غارات الأعداء على الحدود، وجاوزها في دياجير الظلام، وأنه حين شارف (البحيرات المرة) خارت قوته (وشعر بظمأ شديد، وجف ريقه، وضاقت أنفاسه) فقال في نفسه: هذا نذير الموت. ولكن ثغاء الماشية كان يتطرق إلى سمعه فينعشه وينفخ فيه روح القوة ويطمئنه فيواصل سيره إلى أن يصادفه زعيم إحدى القبائل، فيعطيه (ماء ولبناً مغليا) ويخبرنا بعد ذلك أن كل قبيلة من القبائل العائشة في تلك الأقاليم كانت تكرم مثواه وتستضيفه بدورها، حتى حط رحاله في أرض (أيدوم) حيث أقام سنة ونصف سنة، وإن أمير (تنو) التي زرتها منذ أعوام في جنوب شرقي فلسطين وتقع بين الخليل وبيت جبرين، قد ارسل إليه ودعاه إلى الإقامة عنده. ويحسن بي أن أتقل هنا ما ذكره سانيهات من حسن معاملة ذلك الأمير بقوله: (ومنحني اختيار ما أريده من الأرض حتى تلك الأرض التي كان يملكها في الخارج وهي

ص: 29

أرض حسنة. والحق يقال أن ما اعطانيه كان عظيماً، وقد قدمني على أولاده وزوجني من كبرى بناته وأقامني أميراً على قبيلة من خيرة قبائل أرضه). ثم يحدثنا عن اغاراته على القبائل الأخرى ويقدم لنا وصفاً فريداً عن قيامه بمنازلة أحد أبطال تنو. والظاهر أنه كان محسوداً على المكانة التي كانت له في قلب الأميرة العظيمة، وعلى ما أحرزه من مجد الشهرة وفخر الانتصار، فجاء ذلك البطل ذات يوم ودعاه إلى النزال، (رجلاً قوياً لا أخ له في القوة)، وقد (اخضع لجبروته وكان: كل إنسان). وقال: (فلينازلني سانيهات)، وكان يريد أن يقتله، ولكن بطل تنمو تضاءل أمام المصري لخبير بفنون القتال والقائل في ذلك:(وجاء الموعد فالتقينا وناديته أن يبدأ فصوب سهامه ولكني تحاشيتها كلها، وسقطت بقربي سهماً أثر سهم. وهنا فوقت نحوه قوسي وأطلقت السهم. فنفذ إلى عنقه فصاح من شدة الألم وخر على انفه فأخذت قناته وأنفذتها في جسمه، وضعت قدمي على ظهره فهلل البدو، واستحوذت على جميع مقتنايته وماشيته. الشيء الذي كان يريد أن يفعله بي فعلته أنا به).

وأظنني بعد هذا كله لست في حاجة إلى الإشارة إلى أن الآداب القصصية العالمية لم تمنح آية أمة في الوجود ما منحت الأسلاف من التفوق في القصص الخيالية الممتعة التي يعدها العلماء المشتغلون بالمصريات في الوقت الحاضر غاية في سمو التصور ودقة التفكير وسعة التصوير وخصوبة الخيال وسلامة اللغة وسلاسة الأسلوب. ولعل أبدعها (قصة السحرة) التي جمعت ورتبت على طريقة كتاب (ألف ليلة وليلة). فهي في الحقيقة قصة واحدة طويلة. تضم ثلاث أقاصيص متتابعة، ادخل المؤلف كل واحدة منها في التي تليها، وقد عارض سير القصة عينها عند نهاية الجزء الأول منها بشيء جديد، لأنه رأى كما يرى كتاب العصر الحديث في قصصهم ضرورة وقوف القارئ عليه قبل الخاتمة، وهي مهارة أرادها فوفق فيها رغم ما تفيض به سطورها من تحول ساذج معجب لا ترون مثاله في غالبية ما يكتبه كتاب اليوم من الفرنج وغيرهم! وهذه القصة البديعة أشهر من أن تعرف. إلا أن السبيل إلى تلخيصها الآن غير ميسور، ولا يسمح المقام باقتباس شيء مما حفلت به تصانيف الأسلاف من الحكم الخالدة والمواعظ الأبدية والأمثلة العالية والكتب السياسية التي تبودلت بين الفراعنة وملوك الشعوب الأخرى من معاصريهم والرسائل المتبادلة بين الإخوان والأصدقاء وأغاني الحب والتسابيح الدينية، والأناشيد الغنائية

ص: 30

والأشعار القصصية الطويلة التي أتوا فيها على ما سعد به ملوكهم من جلال الانتصارات وعز الفتوحات. بيد أنه لا يسعني إلا أن المع في إيجاز إلى كتاب (المحاورة بين مصري ونفسه) تلك المحاورة التي يزخر فيها كل ما يزخر في الحياة النابضة من قوة دافقة، وتمثل صراع الروح والجسد، وأزمات الوجدان الطاحنة، وفورات العواطف المتأججة، وهجسات الضمائر، في مهاوي ضعفها ودركات فورها، أو درجات مجدها وذروات قوتها

وهناك ثلاثة كتب جديرة بالعناية أولها كتاب (بتاهوتب) وهو اقدم كتاب في الدنيا كما يقول المؤرخون. وفي هذا الكتاب فصول ممتعة، فانتم ترون مؤلفها حين يعرض لذكر المرأة يكتب عنها كمؤلفي القرن العشرين - حفاوة وإجلالاً وإكباراً -

أما الكتاب الثاني فهو (حكم الكاتب آني) ولست أريد أن أطيل الوقوف عند هذا الكتاب وإنما أريد أن اذكر منه نبذة واحدة نصح فيها المؤلف الولد برعاية أمه فقال: (ضاعف الطعام والشواب اللذين تقدمهما لأمك فهي التي تعبت في تربيتك ووجودك وأدخلتك المدرسة وعنيت بتهذيبك وتثقيفك. أحذر من أن ترفع يدها إلى السماء ضدك فتسمع الآلهة شكاتها) ويظهر من هذا جلياً أن رياسة الأسرة في ذلك الحين كانت للأم حيث ينبئنا الكاتب أنها هي التي عنيت بتهذيب الولد وأدخلته المدرسة

أما الكتاب الثالث فهو سياسي بحث وعنوانه تعاليم أمينمعهت الأول وهو غاية في الحكمة والحيطة، كتبه إلى امينه يحذره ممن حولهم من أهل البلاط ومن دسائسهم الكثيرة

وهنا اكتفى بما تقدم مبرهنة على أن مصر بأدبها القديم قد كانت أستاذة الدنيا ومعلمة الوجود، وحسبي أن اختم بقول مسيو سانتهلير:(لست أريد أن أرد على الذين يتهمون اليونان بعدم معرفتهم القراءة ولكتابة إلا بهذه الكلمة وهي: كيف يجهل اليونان القراءة والكتابة وقد كانت تربطهم بالمصريين صلات قوية؟!!)

وجدير بهذا كله أن ينبه غافلنا، ويشعرنا بحاجتنا إلى أيجاد أدب قومي يصور المزاج العقلي المصري، ويستمد من صميم الحياة المصرية مادته وعناصره ومسالكه، فيمثل حالتنا الاجتماعية، وحركاتنا الفكرية، والعصر الذي نعيش فيه لكي تكون لأدبنا شخصية بارزة ممتازة، تضمن لنا المكان العالي الذي نريد أن نشغله بحق في خريطة الوجود.

(الزهرة)

ص: 31

‌أين أنا؟

للأستاذ محمد سعيد العريان

(أين أنت يا صديقي؟ منذ كم ألتمس لقياك فلا أجد سبيلاً إليك!)

هكذا سألني صديقي وقد لقيني على الطريق منطلقاً لبعض شأني على غير ميعاد. . . فأخذت أسال نفسي سؤاله إياي: (أين أنا؟)

هأنذا واقف بازائه على حيد الشاعر استمع إليه وهو يفيض في الحديث سائلاً ومجيباً، وعاتباً وعاذراً؛ ولكنني مع ذلك لسن هنا!

أن نفسي هناك. . . بل أنني على التحديد لا أعرف أين نفسي!

في هذا المكان الذي يجمعني وإياه، كنت وكان، ولكني مع ذلك لا أكاد أشعر أنني وإياه في ذاك المكان!

(أين أنت يا صديقي؟)

عجباً؛ أنه ليراني بازائه لأراه، وأنه ليعرف مكانه من نفسي؛ وإن الحب الذي وجد بين قلبينا لخليق بأن يلهمه الجواب ولكنه مع ذلك يسأل، ولكنني مع ذلك لا املك الجواب!

(أين أنا؟)

لقد اخطر هذا السؤال في بالي معاني وصوراً جمة، تذكرني حيث كنا. . . ويوم كنا. . . وتنشر على عيني صحائف من ذكريات الماضي ومشغلة الحاضر وأماني المستقبل!

هأنذا واقف بازائه على حيد الشارع جسداً إلى جسد، فإنني لمعه، ولكنني لست في هذا المكان! وإنني لبعيد عنه، ولكنه معي في سياحة فكرية طويلة تنتقل حيث شئنا في ذكريات الماضي الغابر ونطوي السنين في لحظات!

أتراه كان يراني؟ أتراه كان يعرف أين مكاني؟ هل كان بازائه في تلك اللحظة إلا جسداً وصورة؟

أنه ليسألني: (أين أنت؟. . .) وإنني لأسال نفسي. . .

هل كنت معه؟ هل كنت بعيداً عنه؛ هل كان يجمعني وإياه مكان؟ هل لقيني جسداً أم لقيني فكراً وعاطفة؟ هل كان الذي معي هنا على حيد الشارع هو الذي معي هناك في وهمي وفي ذكرياتي؟

ص: 33

أين كنت وأين كان؟ أين وأين؟

ليت شعري ما الحقيقة؟ وما الخيال؟ أين يلتقيان وأين يفترقان؟ وأين الحد الذي يفصل بين دنيا المنظور ودنيا التصور؟

هانذا ما أزال أسال نفسي: (أين أنا؟) وهذا سؤال صديقي ما يزال يرن في أذني: (أين أنت؟) وما تزال يدي في يده، وما زلنا واقفين جسداً إلى جسد على حيد الطريق!

وتحدث صديقي إلى ما شاء وتحدثت إليه، وهم أن ينصرف لشأنه وهممت؛ وعاد يسألني:

(وأين ألقاك بعد؟)

أين يلقاني وأين ألقاه؟

ها هو ذا يوليني ظهره ماضياً إلى غايته، ولكنه معي، ولكنني معه، ولكنه يسألني:(أين ألقاك؟)

أتراني وإياه الساعة على فراق أو على لقاء؟

منذ لحظة كان وكنت وأنه ليسألني: أين أنت؟ وأنه ليسألني الساعة أين ألقاك! وما افترقنا بعد!

أتراني معه هناك أصحبه في طريقه أم تراه هنا يصحبني؟

جسدان كانا معاً منذ لحظة فافترقا ومضى كل منهما على وجهه، ولكنه ما زال معي يصحبني في طريقي وما أزال أصحبه لا ريب

أأنا الذي معه هناك يناجيه في طريقه أم أنا الذي هنا؟

أهو الذي معي الساعة أتحدث إليه أم هو الذي مضى وخلفني؟

اثنان هنا: أنا وهو، واثنان هناك: هو وأنا، واثنان كانا جسداً إلى جسد يتناظران على حيد الشارع منذ قليل. . .!

أي هؤلاء أنا وأيهم هو؟. . . أينا الحقيقة وأينا الخيال؟. . .

أأنا واحد أم اثنان؟. . . وهو، ما هو؟ وكم هو؟

أنني أنا مع نفسي الساعة لا ريب، فمن ذاك الذي يزعم صاحبي في وهمه أنها يماشيه ويسر إليه النجوى؟

وإني لأشعر أن صاحبي هو معي الساعة؛ فمن ذاك الذي مضى بعيداً؟

ص: 34

أترى ذاك الذي مضى بعيداً يعرف هذا الذي معي أو ينكره؟

أم تراني أعرف ذاك الذي يماشيه صديقي ويزعم أنه أنا وما هو أنا؟

يا عجبا! أنني لا أكاد أنكر نفسي!

ها هنا أصل وصورة؛ فمنذا يمايز بينهما؟

ها هنا حقيقة وظل؛ فأي الاثنين أنا؟

. . . وطال علي الطريق وما ظفرت بجواب؛ وبرمت بصاحبي الذي كان يماشيني وأناجيه فأنسيت ذكره؛ وأحسب صاحبي الذي هناك قد مل ملالتي فأنسى ذكرى. . . . . .

وشعرت فجأة كأنما ثابت إلى نفسي. . .!

وكأنما كان جزء مني بعيداً عني فآب أليّ!

وأحسست إحساس الحي بوجوده!

ووجدت بعد لأي جواب ما سألت نفسي!

(هأنذا. . . هانذا. . . أنني أنا هنا!)

أين كنت؟ ومن أين عدت؟

وهل كنت شيئاً قبل له كيان وله مكان؟

سل الطفل ساعة مولده: أين كنت أيها الوليد قبل أن تصير جنيناً في بطن أمك؟)

فلو عقل لسؤال وعني الجواب لما أطاق

سله أولاً: هل كنت؟ قبل أن تسأل: أين كنت؟

أنا ونفسي شيء واحد: لو انفصل منهما شي عن شيء لما كان ثمة شيء!

ما أنا؟ حين يكون خيالي بعيداً عني؟

ما أنا؟ حين تتعلق أوهامي بما ليس في يدي؟

ما أنا؟ حين تمضي بي الذكريات إلى غير عالمي وتحاول أن تعيش بي في غير أيامي؟

ما أنا؟ حين أفكر فيك، أو فيه، أو فيها وأغفل عن حقيقة نفسي؟

ما أنا حينئذ بشيء؛ فلا أنا هنا ولا أنا هناك ولكنني أشلاء!

نحب الشيء ونتمانه، ونتخيل ساعة الظفر به؛ فنحس في أعماقنا ساعة نحب ونتمنى ونتخيل - أننا لا نشعر بوجودنا الكامل في أنفسنا؛ لأن الشيء الذي يكمل وجودنا ليس في

ص: 35

يدنا؛ ثم نظفر بما كنا نحب ونتمنى ونتخيل، فلا نشعر حينئذ بوجودنا الكامل في أنفسنا؛ لأن الشيء الذي يكمل وجودنا لا يمكن أن يأتي من خارج انسفنا!

ونأسى على ما فات، ونتلهف على سوالف اللذات، ونتخيل عودة الماضي إلينا أو رجعتنا إليه؛ فما نحس ساعة نأسى ونتلهف ونتخيل أننا إحياء لنا وجود محدود بزمان ومكان؛ ولكننا فكرة أو حلم أو أمنية: صورة ما لها مثال، ووهم ما له حقيقة!

. . . ولكن الإنسان على ذلك لابد له من أمل يسعى إليه، أو ماض يحرص على ذكره؛ أفيكون ذلك لأن الله الذي برا الخلق حين منح الإنسان نعمة الوجود قد حرمه نعمة الشعور بالوجود؟

إلا الطفل: أنه هو وحده الذي يعيش في حقيقة الوجود، ليس له ماض وليس له أمل؛ أنها هو نفسه شيء واحد منذ كان إلى أن يأذن الله! ولكنه لا يدري! ولكنه لا يدري!.

تعاليت يا رب! شهدت أن لا إله إلا أنت؛ لأنك أنت وحدك الموجود؛ وكل ما عداك ظلال وأوهام وأباطيل!.

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 36

‌من مزاح الشعراء

ساعة الهراوي

متاعب لا تنتهي

للأستاذ محمد الأسمر

أصبحت مع ساعة الهراوي كما يقول البهاء زهير:

كلما قلنا استرحنا

زارنا الشيخ الإمام

فهذه الساعة الملعونة كلما قلت استرحت منها (جدّ لي منها سبب) وفي العام الماضي حينما ظننت أن الله أراحني منها ودعتها بكلمة في جريدة الأهرام الغراء، ولكن ما لبث هذا التوديع غير قليل حتى أعادني إليها - ولا أقول أعادها أليّ - فانه تبين لي أنني التابع لها، وأنها صاحبتي ولست أنا صاحبها. . . أقول ما ظهر هذا التوديع حتى كانت الأبيات التي قلناها على لسان الدكتور أو (الدكاترة) زكي مبارك موضع أخذ ورد ودراسة وتمحيص أثارها حضرة المربي الفاضل الأستاذ عبد الحليم خطاب بين تلاميذه بدار العلوم في درس من دروس العروض، وكتب عن ذلك البحث العروضي صديقنا الأستاذ عباس خضر كلمة بالأهرام مما حدا بنا إلى رد الشبهة التي وجهت إلى بعض أبيات الدكتور - استغفر الله - بل الدكاترة زكي مبارك.

ثم انتهت بعد ذلك أخبار هذه الساعة ومتاعبها، ولكن مجلة الرسالة الغراء طلعت علينا في العدد 292 وبين صفحاتها كلمة ممتعة عنوانها (نادي الحلمية) للكاتب المجيد (م. ف. ع) مندوب الرسالة الأدبي، وقد حوت هذه الكلمة فيما حوته قصيدة الشاعر الكبير الحاج محمد الهراوي، قصيدته الطيبة في ساعته الملعونة التي أراها في جلبها المتاعب لي كحذاء (أبي القاسم) وما جره على صاحبه من ويلات. وكيف لا تكون هذه الساعة أخت هذا الحذاء - حذوك النعل بالنعل - وهانذا بعد عام كامل أجدني مضطراً إلى التحدث عنها:

يقول الأستاذ الهراوي فيما يقوله عن ساعته في قصيدته ما يأتي:

وساعة أهديتها

إلى صديقي الأسمر

أحجارها كأنها

من لؤلؤ وجوهر

ص: 37

فلم يكن كمثلها

هدية من موسر

ولم يكن كمثلها

من بائع لمشتر

وليس من تقدم

فيها ولا تأخر

تمشي عليها الشمس في

عطارد والمشتري

وهذه الأبيات يصدق عليها قول القائل في الشعر - أعذبه أكذبه - إلا أن البيت الأخير تجاوز الحدود المعقولة كلها لعذوبة الشعر جميعها. فنحن إذا صدقنا أن هذه الساعة أحجارها من لؤلؤ وجوهر وأنه لم يكن كمثلها هدية من موسر. . الخ الخ، فإننا لا نصدق بحال من الأحوال أن الشمس تجري عليها في عطارد والمشتري. فإن الشمس إذا انحرفت عن أبراجها ومشت على أحد الكوكبين عطارد أو المشتري لكان هول في السماء والأرض والسموات غير السموات. وحينئذ لا تغني ساعة الهراوي عن العالم شيئاً، وحينئذ يعلم الأستاذ الهراوي كم كنت أنا مبتلي بهذه الساعة

لو أن صديقي الشاعر الكبير نظر نظرة في النجوم لتبين له أن (عطارداً) و (المشتري) كوكبان من الكواكب السبعة، لا برجان من أبراج الشمس.

. . . قد تناول أبو إسحاق الصابي الكواكب السبعة في الأبيات الآتية. قال مادحاً:

نَلِ المنى في يومكَ الأجورِ

مستنجعاً بالطالع الأسعد

وارق كمرقى (زحلٍ) صاعدا

إلى المعالي أشرف المقصد

وفض كفيض (المشتري) بالندى

إذا اعتلى في أفقه الأبعد

وزد على (المِريخ) سطواً بمن

عاداك من ذي نخوة أصيد

واطلعُ كما تطلعً (شمس) الضحى

كآسفة للحِنْدِس الأسود

وخذ من (الزُهرة) أفعالها

في عيشك المستقبل الأرغد

وضاهِ بالأقلام في جريها

(عُطارِدَ) الكاتب ذا السُّودد

وباه بالمنظر (بدرَ) الدجى

وأفضُله في بهجته وازدد

هذا والله سبحانه وتعالى هو المرجو - بعد اليوم وقبل اليوم - في إراحتنا من هذه الساعة، ومن متاعبها، وهو أرحم بعباده وألطف من أن يجعل الشمس تجري في عطارد والمشتري من أجلها.

ص: 38

محمد الأسمر

ص: 39

‌القمر بين الحقيقة والخيال

للأستاذ قدري حافظ طوقان

طرائف وعجائب

لو سار قطار إلى القمر بسرعة خمسين ميلاً في الساعة لوصل إليه في مائتي يوم. ولو وأطلقت قنبلة في الجو بسرعة 1640 قدماً في الثانية لوصلت إليه في ثمانية أيام وبعض يوم. والأمواج اللاسلكية التي تدور حول الأرض في سبع ثانية! تصل إلى القمر في ثانية وربع ثانية!

قد يعجب القارئ إذا علم أن بعد القمر عن الأرض ضئيل جداً إذا قورن بغيره من أبعاد السيارات والنجوم عن الأرض. ويزيد استغرابه إذا قيل أنه على الرغم من هذا البعد الذي يبدو هائلاً بالنسبة للأبعاد الأرضية، فإن القمر هو أٌقرب جسم سماوي إلى الأرض يبعد عنها بمقدار 240000 ميل!. . .

القمر من الأجرام السماوية التي تستمد نورها وحرارتها من الشمس، يدور حول الأرض مرة في كل 28 يوماً، يومه طويل ونهاره طويل، طول كل منهما أربعة عشر يوماً، فنأمل!. . . يشرق متأخراً ويغيب متأخراً خمسين دقيقة ونصف دقيقة عن إشراقه ومغيبه في اليوم الذي تقدمه. يظهر في أشكال مختلفة فمرة نراه هلالاً ومرة نراه نصف دائرة ومرة نراه دائرة كاملة وفي بعض الأحيايين يغيب ولا نستطيع رؤيته. وعلى هذا فالقسم المنير منه يزيد وينقص، يزيد إلى أن يصبح بدراً كاملاً، ثم ينقص إلى أن يطلع مع الشمس فيكون محاقاً. وسبب هذا أن الشمس تنير نصفه كما تثير نصف الكرة الأرضية، وفي أثناء دورانه حول الأرض من الغرب إلى الشرق يكون القسم المظلم متجهاً نحونا إذا صدف أن وقع بيننا وبين الشمس. ثم يتقدم قليلاً نحو الشرق، وهذا التقدم يظهر جانباً صغيراً منه منيراً ويزداد هذا القسم المنير كلما تقدم نحو الشرق إلى أن يطلع من الشرق وقت غروب الشمس وحينئذ يبدو لنا قرصاً منيراً وبدراً كاملاً. ثم يبدأ القمر بإتمام دورته حول الأرض فينقص ما نراه منيراً، وتستمر هذه الحركة والقمر المنير في تناقص إلى أن يطلع مع الشمس فيكون حينئذ وجهه المظلم هو المتجه نحونا ويكون عندئذ محاقاً. ونظراً لقربه منا فهو يبدو كبيراً إلا أنه في الحقيقة صغير بالنسبة للنجوم وبعض الكواكب، فقطره

ص: 40

أكبر من ربع قطر الأرض بقليل كما تبلغ مساحته مساحة أمريكا الشمالية والجنوبية. وعلى هذا فجاذبيته أضعف من جاذبية الأرض، والرجل الذي يزن 60 كيلو جراما على سطح الأرض يزن سدس هذا المقدار على سطح القمر. وإذا قدمنا حجراً إلى علو خمسة أمتار هنا، واستعملنا نفس القوة والسرعة فإن الحجر يرتفع إلى علو ثلاثين متراً في القمر، وقد تكون رغبة لاعبي الكرة شديدة في أن تجري اللعبة على القمر إذ يستطيعون رميها وإرسالها مسافة تفوق ستة أضعاف مسافة رميها هنا

ولضعف جاذبيته فهو تقريباً خال من الهواء والماء إذ ليس في القمر قوة جذب كافية لحفظ دقائق الهواء محيطة به فهي (أي الذرات) دائمة الحركة والتصادم بسرعة (450) متراً في الثانية، وليست حركتها في جهة واحدة بل في جميع الجهات، لذا فهي تفلت تماماً من سطح القمر ولا تستطيع البقاء عليه

ولقد نتج عن خلو القمر من الهواء انعدام المياه وعوامل النحت أو التفتت، فلا نرى على سطحه أثراً من ذلك وبقيت الجبال على حالتها الطبيعية لم يحصل فيها أي تفتيت في الصخور ولم تتكون أودية بالمياه الجارفة ويمكن القول أنه عالم قاحل هادئ ساكن خال من أنواع الحركة وعلامات الحياة

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن خلوه من الهواء أدى إلى تعرض سطحه لحرارة الشمس المحرقة وللبرودة الشديدة، إذ الهواء هو الذي يلطف حرارة الشمس وهو الذي يحتفظ بالحرارة التي تشعها الشمس حائلاً دون خروج الحرارة

وعلى هذا ترتفع الحرارة على سطحه أثناء النهار الطويل ارتفاعاً عظيماً حتى تصل إلى درجة الغليان؛ وقد تزيد حتى تقترب من درجة ذوبان الكبريت، وتهبط الحرارة في الليل الطويل فجأة وتستمر في الهبوط حتى تصل إلى أكثر من (250) درجة فهرنهيت تحت الصفر

وإذا تحادث اثنان على سطحه فلا يسمع أحدهما الآخر فيضطران عندئذ إلى التفاهم بلغة الإشارات، ذلك لعدم وجود أمواج هوائية تنقل الصوت، وأظن أن القمر يلائم الذين يعنون بالمدفعية إذ لو أطلق مدفع في القمر لما سمعه أحد هناك ولما حصل على الأُذن أي أثر ولما اضطر الإنسان إلى استعمال ما يقي أذنه من شدة الأمواج التي يحدثها صوت المدافع

ص: 41

القمر يعوق حركة الأرض

كانت الأرض قبل وجود القمر تسير حول الشمس في مدة أربع ساعات أي أن يوم الأرض كان أربع ساعات ولم يكن أربعا وعشرين ساعة كما هو الآن!

لقد زاد القمر في طول يوم الأرض، فما السبب في ذلك؟ لكل شيء سبب، وكل ما في الكون يسير ضمن نواميس لا يتعداها. ولقد استطاع الإنسان بفضل ما وهبه الله من القوى العقلية أن يكشف عن السبب ويعرف المجهول في بعض الحالات، وهو لا يزال سائراً في ذلك، وقد كشف من القوانين الكونية والأنظمة الطبيعية ما أمكنه الوقوف على كثير من عجائب الكون وروائعه.

استطاع الإنسان أن يحسب سرعة القمر حول الأرض فوجدها 2300 ميل في الساعة، كما ثبت له أن القمر يدور على محوره مرة واحدة كلما دار حول الأرض مرة واحدة في 28 يوماً ورأى في الجاذبية ما يفسر له الإعاقة التي يحدثها القمر على حركة الأرض فثبت له أنه لولا قوة الجذب بين القمر وبين الأرض لاستمر في سيره على خط مستقيم، ولأصبح بعيداً عنا الآن ملايين الأميال

ولكن هذه القوة المستمرة، هي التي تغير اتجاه سيره وهي التي تجعله يسير في خط منحن (فلك) حول الأرض على الكيفية التي نعرفها

إن الجاذبية بين الأرض والقمر متبادلة، فكما أن الأرض تجذب القمر وبينهما قوة تجاذب تجعله يسير في مسار منحن حول الأرض، فكذلك القمر يجذب الأرض وبينهما قوة تجاذب، وهذه القوة أثرت على الأرض ولا يزال أثرها يعمل فيها (في الأرض) إذ أبطأت حركة الأرض وجعلت دورتها حول نفسها تستغرق 24 ساعة بدلاً من أربع ساعات!

وعلى أساس قانون الجاذبية العام الذي ينص على أن قوة التجاذب بين جسمين تتوقف على مقدار كتلتيهما وعلى المسافة بينهما - أقول على هذا القانون حسب العلماء وزن الأرض وغيرها من الأجرام السماوية. فلقد حسبوا وزن الأرض من جذبها طناً من الرصاص (مثلاً) أو من جذبها القمر أو غيره من الكواكب

وهكذا توصل الإنسان بفضل قانون الجاذبية وبفضل ما أخرجته (الرياضيات) من معادلات ونواميس من الإتيان بالعجب العجاب وبالسحر يخلب الألباب!. . .

ص: 42

القمر والتجارة

ما علاقة القمر بالتجارة؟ أو ما علاقة التجارة بالقمر؟ وهل القمر يساعد على التجارة أو يعوقها؟

إن للقمر أكبر الإثر في أحداث المد والجزر، ولولاها لما كان في الإمكان أن تدخل البواخر إلى الموانئ أو أن تخرج منها. ومن هنا تتبين لنا علاقة القمر بمصالح الناس واتصاله الوثيق بها. ويذهب بعض الفلكيين إلى أن هذا الاتصال قوي إلى درجة أن القمر في نظرهم هو من عوامل تقدم المدنية وارتقائها، فإذا تلاشى من الوجود أو بعد كثيراً عن الأرض اضطربت التجارة واختل نظامها.

يحصل مدان وجزران في كل يوم؛ والمد هو ارتفاع الماء والجزر هو انخفاضه. ويحدث ذلك من جراء الجاذبية بين الأرض والقمر، هذه الجاذبية ليست من القوة بحيث تجعل دقائق الأرض تتحرك، ولكن مياه البحار تطيعها حسب قوتها وتتجمع في البحر من هنا ومن هناك تجاه القمر، ومن هذا وبتأثير الشمس يحصل المد والجزر. وكثيراً ما نسمع بأن للقمر علاقة بالزراعة، ولكن إلى الآن لم يثبت شيء من هذا. ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن الزراعة تتأثر (قبل كل شيء) بالحرارة، فالشمس تؤثر على النبات بحرارتها. أما حرارة القمر فهي من الضآلة بحيث أنها لا تحدث أي تأثير يذكر على النبات أو على غير النبات

ولقد قاس الفلكيون حرارة القمر وهو بدر كامل فوجدوها لا تزيد على جزء واحد من 185 ألف جزء من الحرارة التي تخرجها الشمس إلينا

وقد جرب العالم الفلكي (فلاماريون) عدة تجارب في ضواحي باريس ليتحقق مما إذا كان للقمر أي تأثير على المزروعات، فزرع بعض الخضر كالفول والبطاطس والجزر في أوقات مختلفة تطابق اوجه القمر الأربعة فلم يثبت لديه أقل تأثير في نموها. وإذا كان هناك تأثير للقمر في النبات فقد يكون من الزوابع والعواصف التي يثيرها القمر بجاذبيته للأرض

القمر والبحار

ص: 43

إذا نظرنا خلال التلسكوب إلى القمر فأنا نراه غير مستوٍ كثير الارتفاعات والفوهات البركانية. ويقال أن عدد هذه الفوهات يزيد على ستين ألفاً يبلغ قطر بعضها 140 ميلاً وعمق البعض الآخر 18 ألف قدم. أما الارتفاعات فهي سلاسل لجبال كثيرة، فهناك من السلاسل ما يمتد إلى أربعمائة وخمسين ميلاً، ومنها ما يشتمل على أكثر من 3000 قلة أعلاها جبل (هيجنز) ارتفاعه 21000 قدم وهو أعلى من (أفريست) أعلى جبال الأرض. وكذلك يوجد على سطحه سلسلة تعرف باسم (الألب) تشتمل على 700 قنة من قنن الجبال ولها وأد طوله أكثر من ثمانين ميلاً وعرضه يزيد على خمسة أميال

ولهذه الجبال ميزات لا نجدها على جبال الأرض، منها عدم وجود مغاور وكهوف ومنها جمال مناظرها الخلابة وما لها من ظلال تفي على ما تحتها من صحارى. هذه الجبال سهلة التسلق لا يجد الإنسان صعوبة أو مشقة في السير عليها أو التسلق إلى أعلاها، بل يشعر بخفة وسرعة ما كان ليشعر بهما لو كان يتسلق جبال الأرض. وإذا صدف أن زلت قدماه وهوى من محل عال فلا أذى يصيبه، ولا ضرر يعتريه. وقد يستغرب القارئ من هذه التفصيلات، وقد يختلط الأمر عليه فيظن أن القمر موطن المعجزات وموطن السحر. ولكن لا معجزات ولا سحر، فكل ذلك آت من ضعف جاذبية القمر إذ قوة التثاقل تعدل سدس مقدارها على الأرض

هذه هي التي تجعل المستحيل هنا ممكناً هناك (على القمر)، وتجعل المعجزة هنا أمراً عادياً هناك، وتجعل من الحركات الصعبة هنا سهلة هناك باستطاعة من (يزود نفسه بالأكسجين) وغير ذلك من الألبسة الواقية من الحر الشديد والبرد الشديد - أن يقوم بها ويتفنن فيها

وفي القمر أودية كثيرة يربو عددها على عشرة آلاف واد، منها ما هو واسع جداً كالسهول الفسيحة ومنها ما هو ضيق فيبدو كمجاري الأنهار

وإذا نظرنا إلى القمر حينما يكون بدراً واستعملنا نظارة صغيرة لذلك رأينا أنه ملئ بالبقع المنيرة التي هي جبال عالية، وبقع أخرى مظلمة هي سهول فسيحة. وقد ظن العلماء في أول الأمر أن هذه البقع المظلمة بحار فسميت بأسماء البحار كبحر الزمهرير وبحر الرطوبات وبحر الخصب وبحر الرحيق وبحر الغيوم

ص: 44

وعلى ذكر البقع يقول أحد الفلكيين أن هذه البقع لم تعرف إلا عند اختراع النظارات، ولكن رأيت في الشعر العربي ما يدل على أن العرب عرفوا هذه البقع المظلمة قبل اختراع النظارات

من ذلك ما قاله التهامي:

فبات يجلو لنا من وجهها قمراً

من البراقع لولا كلفة القمر

القمر من الأرض

لاحظ العلماء أن كثافة القمر تقرب جداً من كثافة الصخور الموجودة في أعماق الأرض، وثبت لديهم أن العناصر التي يتألف منها القمر هي نفس عناصر جوف الأرض؛ ومن ذلك تحققت النظرية القائلة بأن القمر كان يوماً من الأيام جزءاً من الأرض انفصل عنها من المكان الذي هو اليوم قاع المحيط الهادي؛ وهذا يطابق رأي العالم الإنكليزي (جينز) الذي يرى أن التوابع أو الأقمار ليست إلا قطعاً انتزعت من السيارات كما انتزعت السيارات من الشمس على أثر سلسلة من الحوادث تشبه أن تكون واحدة في الحالين

أما الدكتور علي مصطفى مشرفة بك فلا يميل إلى هذا الرأي ولا إلى الأخذ به لأن الأرض (على رأيه) كانت في حالة سيولة عندما انفصل القمر عنها

وقد يكون من الطريف أن يعرف القارئ أنه لما انفصل القمر عن الأرض وافلت إلى الفضاء نشأ (على رأي الأستاذ بكرنج) انفصال أمريكا عن أوربا فكان الأوقيانوس الأتلنتيكي وكان ذلك عندما كانت الأرض مائعة أو شبه مائعة

اقتراب القمر

قد يظن البعض أن اقتراب القمر من الأرض مما يزيدها جمالاً ومما يغمرها بهاء وسناء وسحراً، ومما يجعل الإنسان يتمتع بنوره وبأشعته الفضية أكثر من تمتعه الحاضر. قد يكون هذا الظن في محله فينعم الإنسان حينئذ بمناظر القمر ويجد فيها كل الجمال وكل المتاع

ولكن ذلك لا يكون إلا بثمن؟ وعلى حساب كوارث وبلايا تصيب الأرض من اقترابه منها. فعلى فرض أن هناك من العوامل ما يقرب القمر من الأرض وما يجعله على بعد ستين ألفاً

ص: 45

من الأميال فقط فحينئذ يزيد المد والجزر 64 مرة. وإذا كان ارتفاع المياه عشرة أمتار فسيصبح 640 متراً وستغمر الموانئ والمدن وما يجاوزها، وقد يلتقي من جراء ذلك البحران الأبيض والأحمر ولا ينجو من اليابسة إلا القليل كالجبال والربوات العالية

وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى الملاحة فلا تعود تأمن سلوك البحار ودخول الموانئ.

منظر الأرض من القمر

إذا تصورنا أنفسنا على سطح القمر ولدينا ما يلزمنا من الأكسجين وما يقينا من الحر والبرد فكيف نرى منظر الأرض؟

وهنا يختلف الوضع عن منظر القمر من الأرض، فلا إشراق ولا مغيب لأن أحد وجهي القمر يبقى متجهاً إلى الأرض دائماً، وأذا اتفق أن ذهبنا إلى الوجه الآخر فلا نستطيع رؤية الأرض بحال ما، وتبدو الأرض كالقمر ولكن أكبر منه، لا تغير مكانها في الفضاء تظهر في بعض الأحيان مظلمة وفي أحيان أخرى منيرة كلها أو نصفها أو ربعها. أما جمالها فيتجلى عندما تكون بدراً إذ يكون ضوءها شديداً أخاذاً.

أما السماء المحيطة بنا ونحن على سطح القمر فغير السماء التي نعرفها، لا شفق هناك ولا سراب، ولا سحب ولا ضباب، نرى الشمس على حقيقتها كرة هائلة في سماء حالكة الظلمة شديدة السواد، ضروها ساطع، ولونها إلى الزرقة مائل. قد يبدو هذا غريباً، ولكن ليس في هذا أي غرابة، فلا جو حول القمر يشتت الضوء ويحلله إلى ألوانه، ولا امتصاص ولا انعكاس لهذه الألوان. وهذا ما يجعل السماء تبدو سوداء ليس فيها ما نراه في سماء الأرض من جمال فاتن وألوان مختلفة خلابة.

نرى القمر عالماً هادئاً يطيب للمفكرين فلا زوابع ولا عواصف ولا غبار تعكر السكينة وتفسد الهدوء، عالماً يكتنف الجبال الكثيرة ويحوي الوديان والفوهات العديدة حيث لا مدن ولا غابات، ولا حقول ولا بحار

القمر والشعراء

لا تعجب من هذا العنوان: فهناك علاقة وثيقة بين القمر والشعر، وكيف لا يكون هناك

ص: 46

علاقة والقمر هو الجرم السماوي الذي لفت أنظار الشعراء وشغلهم، وهو الوحي الذي يستهلون منه، كما أنه المعين الذي يغرف الأدباء منه الخيال؛ وقلما تخلو قصيدة غزلية من التشبيه به أو التحدث عنه. لا يفارق مخيلتهم، يأخذون من تزايده ونقصانه ومن اكتماله بدراً ومن أشعته الفضية - ميداناً لنظم الشعر ومسرحاً للأدب الرفيع

ولا أدري لماذا كل ذلك؟

إني على يقين أنهم (الشعراء والأدباء) غاضبون حانقون لما ورد في هذا المقال من حقائق، وأقول كما قال الأستاذ توفيق الحكيم (إن كل الجمال المحيط بنا إنما هو من صنع عيوننا القاصرة. والويل لنا إذا أبصرت أعيننا الآدمية أكثر مما ينبغي لها أن تبصر. . .)

ولئن أبصرت عيوننا أن القمر خال من الهواء، وإن نهاره محرق وليله بارد لاذع، وإن أشعته مستمدة من الشمس وهي أشعة أكذب من سواد الخضاب في اللمة البيضاء

ولئن أدى البحث إلى أكثر من هذا فصنع لنا عيوناً نبصر بها فوهات براكينه المخيفة، ووديانه الموحشة، وأراضيه المقفرة؛ أقول لئن أبصرت عيوننا كل هذا وفجعتنا في القمر، فلقد دلتنا عيون العلم الحادة إلى ما هو خير منه وأبانت لنا الشمس على حقيقتها وأماطت اللثام عن روائع كثيرة ما كنا لنعرفها أو نبصرها بعيوننا الآدمية القاصرة

كشفت لنا عن الشمس وأنها باعثة الجمال على القمر ومصدر الحياة على الأرض، ولولاها لما دارت الأرض ولا دار القمر

فلماذا إذن لا يتغنى بها الشعراء والأدباء؟ ولماذا ينكرون عليها خيراتها وبركاتها

ولئن جحد الشعر والأدب افضال الشمس عليهم وعلى الناس فلقد انصفها العلم ورعى حقها وبوأها مكانها اللائق بها وبما تسديه إلينا من نعم لا تحصى ولا تعد

وأخيراً أعزى الشعراء عن حبيبهم القمر بقول المتنبي:

لو فكر العاشق في منتهى

حسن الذي يسبيه لم يسبه

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 47

‌التاريخ في سير أبطاله

محمد شريف باشا

كان شريف في عصره رجلا اجتمعت فيه الرجال وكانت

مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال

للأستاذ محمود الخفيف

كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب وإلا لما كان له ما كان من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معاً أمام لجنة من الأجانب تريد أن تظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشد الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان ذلك الغضب ثورة؛ وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت أمام الأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل رجلها ورأس أبطالها

ورب قائل يقول وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الابتعاد عن الميدان رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ ما وصل إليه نفوذ الأجانب يومئذ، ومبلغ ما مني به المصريون من خور، وما عرف عنهم من الحرص على المناصب الحكومية، يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية. هذا إلى ما سبق الاستقالة من تحد للجنة وسلطانها. ولو أن الخديو آزر شريف يومئذ لما ترك منصبه تاركاً اللجنة بذلك في أحرج المواقف ممعناً في عصيانه وترفعه. . . ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة في لهجة تشبه الرجاء أن تكتفي من شريف أن يرد على أسئلتها كتابة. ولما رفضت اللجنة ذلك لم يرد الخديو عليها بعمل أو بقول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهراً من مظاهر الاحتجاج على تدخل الأجانب في شؤون البلاد، فكان ذلك المظهر أول نذر الثورة. . .

أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة. ولقد جعلت اللجنة هدفها بطبيعة الحال العمل الصالح للدائنين، ولذلك فلم تأل جهداً في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة

ص: 48

الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جره جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غدر وبهتان وزور واختلاس.

تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلاحون يومئذ من شقاء، ولم تراع في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيراً ما يفرون من أرضهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيل جارف لم يكن أقل هولاً عليهم من سيل الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم المرابون والأمراض معاً وباتوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه

وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون بها من الجمارك ثم لا يدفعون عنها شيئاً داخل البلاد في ظل تلك الامتيازات المشؤومة التي كانت من أكبر المساوئ التي منيت بها مصر والتي قل أن يجد المؤرخ مثيلاً لها فيما كانت تتضمنه من الجور، وما كانت تقوم عليه من الباطل والبهتان؛ وكذلك تغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين تزايد عددهم في الحكومة المصرية، والذين كانوا يتقاضون الأجور العالية جزاء على ما اتصفوا به من الكسل وقلة المروءة وجمود العاطفة؛ بينما كانت مرتبات الوطنيين لا تدفع لهم إلا في مشقة وعناء وهي من القلة بحيث كانت تحفز الكثيرين إلى الاختلاس والتهاون في العمل.

واقترحت اللجنة في قرار تمهيدي أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة إلى وزراء مسؤولين، وإن ينزل عن أملاكه في نظير مرتب معين، وكذلك تنزل أسرته عن أملاكها. . . كل ذلك دون أن تفكر اللجنة في أن يتنازل الدائنون عن شيء من ديونهم وهي تعلم كيف تراكمت تلك الديون وكيف تزايدت أرباحها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه

وقبل الخديو تأليف الوزارة المسؤولة فاستدعى نوبار من أوربا وعهد إليه تأليف وزارة يتضامن أعضاؤها في التبعة وتقوم بالحكم في البلاد، ونظر المصريون فإذا وزارة المالية تسند إلى رجل إنكليزي، وإذا وزارة الأشغال تسند إلى رجل فرنسي، وهكذا سيطر الأجانب على مصر سيطرة تامة!

ومن غريب أمر هذه الوزارة أنها بينما كانت تسمى (وزارة مسؤولة) لم يكن لمجلس

ص: 49

شورى النواب حق إسقاطها بل لم يكن له حق محاسبتها، ولم يك للخديو سلطان عليها، ومع ذلك كانت تلقب بذلك اللقب! فليت شعري كيف كانت مسؤولة ومن كان إليه يرجع الأمر يومئذ؟

كان الوزيران الأجنبيان هما صاحبي السلطان الحقيقي في البلاد، فلئن كانت ثمة مسؤولية على نوبار ومن معه من الوزراء المصريين فأمام الأجانب كانت تلك المسؤولية، وعلى ذلك فمن هذه الوجهة يصح تسمية تلك الوزارة بما سميت به، أما أن تعتبر وزارة مسؤولة كالوزارات التي يكون للشعوب حق محاسبتها وإسقاطها من مناصبها فتلك سخرية من سخريات الأجانب كانت في ذاتها من أبلغ نكاياتهم يومئذ بالبلاد وأهل البلاد

ولكن شريفاً كان عضواً في تلك الوزارة، أسندت إليه وزارة الحربية، وحل محله رياض في الداخلية. ولنا أن نتساءل كيف قبل شريف أن ينضم إلى تلك الوزارة؟ والذي نستطيع أن نستخلصه من حوادث ذلك العهد وملابساته أنه فعل ذلك على الأرجح لأن الخديو كان يرى فيه يومئذ الرجل الذي يستطيع بما أوتي من شجاعة وثقافة أن يراقب أعمال نوبار ومن معه من الأجانب، وفي هذا من الغض من شخصه ما لم يكن يسعه السكوت عليه

على أن شريفاً على رغم ثقة الخديو به وإيثاره إياه بالمحبة كان يكره استبداد الخديو بالأمر بقدر كراهته لنفوذ الأجانب، وكان يضمر ذلك في نفسه حتى تحين الفرصة كما سيظهر من أعماله عما قريب

وسرعان ما دب الخلاف بين الخديو ووزرائه أو على الأصح بينه وبين نوبار والعضوين الأجنبيين، فلقد كان في الوزارة رجال غير شريف يدينون بالولاء لحاكم البلاد الأعلى ومن هؤلاء علي مبارك ورياض. . . وتزايد هذا الخلاف حتى أصبح إسماعيل ولا هم له إلا أن يتخلص من تلك الوزارة التي لم تترك له من السلطة إلا اسمها

وسنحت له الفرصة في حادث مظاهرة الضباط، فإن نفراً من الضباط الذين استغنى عنهم عملاً بسياسة الاقتصاد قد تجمهروا أمام وزارة المالية واعتدوا على نوبار والعضو الإنكليزي السير ريفرزولسن، وكادوا يلحقون بهما الضرر البالغ لولا أن شخص الخديو بنفسه وفرق المتظاهرين. . . وأعلن إسماعيل على أثر ذلك أنه غير مسؤول عن شيء في البلاد ما دام محروماً من السلطان ومن ثم رأى نوبار أنه لا قبل له بمواجهة الحال بعد ذلك

ص: 50

فرفع إلى الخديو استقالته، وبذلك تخلص الخديو وتخلصت البلاد من تلك الوزارة التي اعتاد الناس أن يسموها الوزارة الأوربية

وإنا لا نستطيع أن نمر بحادث الضباط هذا دون أن نشير إليه ولو في أيجاز، فنقول إن هذا الحادث كان أول خطوة في الحركة العسكرية التي سوف تكبر حتى تكون الجانب العسكري في الثورة العرابية، ذلك الجانب الذي سوف يفسد على الثورة مبادئها ويميل بها عن وجهتها ويكون في النهاية سبب فشلها وتحويلها إلى كارثة تجرف البلاد إلى هوة بعيدة القرار. . ذلك الجانب الذي كان له بسيرة شريف صلة وثيقة، فلسوف نرى أنه لا تطوف العرابيين وشططهم لسار شريف بالبلاد سيراً كان يصل بها بلا شك إلى غاية لو أنها أتيحت لها لتغير بها تاريخها واتجه وجهة غير التي سيق إليها

وكانت تولد بالبلاد يومئذ حركة وطنية قوية، حركة سوف تلتقي فيما بعد بالحركة العسكرية فيتألف من التيارين تلك الثورة التي تعمد كثير من المؤرخين تشويهها والتي أخطأ فهمها عدد منهم ليس بالقليل حتى تبينت آخر الأمر على حقيقتها. . .

وكان لتلك الحركة الوليدة مركزان أولهما المركز الرسمي وهو مجلس شورى النواب، وثانيهما المركز الأهلي وهو بيت البكري حيث كان يلتقي الأحرار من العلماء والنواب والأعيان. . وبهذين المركزين كان شريف دائم الاتصال لا يسهو ولا تفتر له همة

كان شريف دائم الصلة بالنواب أن جاز أن نسمي أعضاء المجلس على حالتهم هذه نواباً؛ وكان يتمنى أن يتخذ منهم قوة يناوئ بها الأجانب ويحد من سلطان الخديو، ولن يتم ذلك فيما يرى إلا أن يكون الوزراء مسؤولين أمام هذا المجلس كما هو الحال في المجالس الأوربية التي تسير على القواعد الدستورية. ولقد بذل شريف جهداً محموداً في إنشاء هذا المجلس وظل يتعهده بنصحه ورعايته، وأنه ليأمل أن يتطور مع الزمن حتى يصبح هيئة لها مكانها في النظام الحكومي في مصر

وكان شريف يرقب حركة هؤلاء الأحرار من الرجال الذين كانوا يجتمعون في بيت البكري، وكان لا يفتأ ينصح لهم ويشير عليهم بما يعملون، وإن له بينهم لمكانة تجعله مناط آمالهم ومعقد رجائهم، وما أشبه تلك الظروف بظروف مصر غداة الهدنة التي انتهت بها الحرب العظمى يوم كان الرجال يجتمعون خفية يفكرون في مصير بلادهم ويتجهون

ص: 51

بأفكارهم وإن لم يقصدوا إلى رجل بعينه يحسون أنه سيغدو عما قريب زعيم ثورتهم

سقطت الوزارة الأوربية ولكنها ألفت من جديد برياسة الأمير توفيق، فلقد رفض قنصلا إنجلترا وفرنسا أن يرأس إسماعيل نفسه الوزارة كما طلب. ولقد أرادت الدولتان على لسان قنصليهما أن يدخل نوبار الوزارة الجديدة فرفض الخديو وصمم على الرفض ورأت الدولتان مبلغ حرص إسماعيل على إبعاد نوبار، فاشترطتا انهما تقبلان ذلك إذا أعطى العضوان الأوربيان في الوزارة حق (الفيتو) على قرارات مجلس الوزراء، ورضى إسماعيل بذلك فصار للعضوين الأوربيين حق إيقاف أي قرار لمجلس الوزراء لا يوافقان عليه؛ ومعنى ذلك انهما صارا يحكمان البلاد حكما ديكتاتورياً لا يدع للخديو في مصر سلطة أو ظلها!

وآن لمجلس شورى النواب أن يخطو خطوة ما كان أعظمها من خطوة؛ نمى إلى المجلس فيما نمى إليه من أنباء الوزارة الأوربية أنها تأتمر بالمجلس وتنوي التخلص منه فصمم الأعضاء ألا يتفرقوا وإن يظلوا في أماكنهم للنظر في شؤون البلاد في تلك الآونة العصيبة. . . ألسنا نرى في ذلك صورة مما حدث في فرنسا في مستهل عهد ملكها لويس السادس عشر، حين اشتدت الضائقة المالية ورأى نواب الشعب وجوب العمل على وضع حد لسوء الحال؟ لقد أدت الظروف إلى أن يصبح مجلس شورى النواب تلك الهيئة التي لم يكن لها حول ولا قوة - هيئة تحاسب الوزراء وتملك حق إقصائهم عن مناصبهم إذا ما تهاونوا في حقوق البلاد

لقد كان لشريف الفضل كل الفضل فيما وصل إليه المجلس من حقوق حتى ليعد شريف بذلك مؤسس الحركة الدستورية في مصر.

كان المجلس في وزارة نوبار قد أرسل إلى السير ريفرزولسن وزير المالية يدعوه ليحضر أمامه ليسأله عن بعض الأمور، فسوف وما طل ولم يحضر أو يرسل إلى المجلس شيئاً مما طلب المجلس أن يطلع عليه من المشروعات؛ وضاق المجلس بما فعل وزير المالية وأصبح يفسر عمله بأنه إهانة موجهة إلى الأمة في أشخاص نوابها

وفي وزارة الأمير توفيق استصدر وزير الداخلية رياض باشا أمراً من الخديو إلى النواب بأن مدة مجلسهم قد انتهت فعليهم أن ينفضوا؛ وذهب رياض يتلو على النواب هذا الأمر؛

ص: 52

وهنا وقف النواب وقفة جديرة أن تفخر بها مصر فيما تفخر به من مواقف البطولة، فلقد رفضوا أن يذعنوا، وهددوا رياضاً بما عساه أن يقع من الحوادث في البلاد تجاه سياسة الوزارة، وجعلوا تبعة ذلك عليها. . ولكم نرى من أوجه الشبه بين موقف هذا المجلس ومجلس طبقات الأمة في فرنسا حين وقف فيه نواب العامة يتحدون قرار الملك أثر صيحة ميرابو المدوية التي نقلت تاريخ فرنسا من فصل إلى فصل

ولكن النواب هنا لم يكونوا في الحقيقة يتحدون الخديو، ولقد كانوا يعلمون أنه يعطف على حركتهم ليتخلص بهم من تدخل الأجانب في شؤون مصر، ذلك التدخل الذي حرمه كل سلطة وإنما كان النواب يتحدون الوزارة الأوربية ويريدون أن يأخذوا السبيل عليها

وكانت مطالب المجلس يومئذ تنحصر في المسألتين الدستورية والمالية، أما أولاهما فتتلخص في أن تكون الوزارة مسؤولة أمام المجلس بحيث يصبح هيئة لها مكانها الفعلي في حكومة البلاد، وأما الأخرى فمؤداها أن يبحث المجلس المسألة المالية دون الأجانب وإن يقرر في أمر الدين والضرائب ما تمليه عليه مصالح البلاد.

وأصر النواب على تلك المبادئ فكانت حركتهم هذه حركة قومية بأوسع معاني تلك الكلمة؛ وكان يظاهر النواب أحرار البلاد من العلماء والأعيان والتجار، الذين لم تنقطع اجتماعاتهم في بيت البكري. وأخيراً اتفقت كلمة الجميع على أن يتوجهوا إلى الخديو بما عرف باسم اللائحة الوطنية، وفيها يعترض النواب على اقتراحات ريفرز ولسن التي كانت ترمي إلى إعلان إفلاس مصر، ويقررون أن إيرادات مصر تفي بدفع ديونها؛ ويطلبون إلى الخديو تقرير مبدأ مسؤولية الوزارة أمام المجلس وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام هذه الوزارة الأوربية التي ضاقت بسياستها البلاد. . .

ولقد وضعت هذه اللائحة لجنة من النواب تحت إشراف شريف؛ فكانت هذه اللائحة الخطيرة كبرى حسناته إلى هذه البلاد كما كانت أهم خطواته السياسية وأبعدها في مجرى الحوادث اثراً؛ ووقع على اللائحة ستون من أعضاء المجلس ومثلهم من العلماء وفي مقدمتهم شيخ الأزهر والبطريرك والحاخام، كما وقع عليها عدد كبير من الأعيان والتجار والموظفين والضباط، ورفعت بعد ذلك إلى الخديو فرأى أن قد حان الوقت ليوجه إلى النفوذ الأجنبي ضربة قوية، فالبلاد من ورائه تؤيده وتشد ازره، ولذلك لم يتردد في الموافقة

ص: 53

على اللائحة، وسرعان ما هزت فعلته البلاد هزة قوية، هزة الفرح بانتصار الحركة الوطنية والأمل في مستقبل تحطم فيه البلاد أغلالها وتنعم فيه بالراحة والرخاء

واستقالت وزارة توفيق، فاتجهت الأبصار إلى شريف وأنفقت عليه القلوب والأهواء، فما لبث أن تضاعف سرور البلاد بأن أسندت إليه رياسة الوزارة الوطنية، واصبح شريف زعيم الحركة الوطنية ورئيس وزارة الأمة فكان بذلك في مصر صاحب الرياستين

(البقية في العدد القادم)

محمود الخفيف

ص: 54

‌قلت لنفسي.

. .

لا أدري لأية حكمة قضى الله على قادة العرب أن يختلفوا دائماً في

الأسماء دون الأفعال، وأن يدعوا الموضوعات وينصرفوا إلى

الأشكال؟ ما هذه العصبية الجاهلية التي عجزت عن محوها الحنيفة

المؤلفة، والمدنية المهذبة، والثقافة المتحدة، والآلام المشتركة،

والخطوب التي تكفكف النفوس الأثرة، وتطرف العيون الرغيبة؟!

هذه القضية المصرية لم يصبها بالضعف والبطء والتأخر إلا تكالب الزعماء على الرياسة، وإقحامهم الأهواء الحزبية في باب السياسة، ووزنهم الأمور العامة بميزان المنفعة الخاصة؛ فزهق الحق، ونفق الزور، واستخذى المنطق، وطاش الرأي الحصيف بين غفلة الشعب وأثرة القادة!

كذلك سياسة الأحزاب في سوريا والعراق، لم تخل يوماً من هذا النفاق ولشقاق. وهذه قضية فلسطين يجتمع لحلها وفود الدول العربية، وتتفق على أمرها الأحزاب الإنكليزية، وتتحد في سبيلها الطوائف اليهودية، ثم لا يختلف إلا أقطاب الرأي فيها! وقد اشتد هذا الخلاف واحتد حتى أوشك أن يقطع أسباب الأمل، وأن يحول بين المؤتمر وبين العمل!

حتى الأدب والثقافة! لابد أن يكون لهما زعامة وخلافة، ثم يختلفون في مقر هذا السلطان، أفي مصر يكون أم في لبنان؟. . . فهل فرغنا من الجد يا قوم حتى نشتغل في بهذه الصغائر؟ أم عجزنا عن استبطان الأمور فوقفنا عند الظواهر؟

ابن عبد الملك

ص: 55

‌عند الثلاثين

للأستاذ محمود الخفيف

تَمهَّليِ والْتًفتيِ لَفْتةً

لا تَذهَليِ عَنْ دَهْرِكِ الرَّاحلِ

لا تَعبْسيِ مَا إن تُرى لَذَّةٌ

أشْهىِ مِنَ الآمالِ للآمِلِ

عِنْدَ الثلاَّثِينَ قِفيِ ساَعَةً

وَجَاوِزي الْيَمَّ إِلَى السّاحِلِ

هَذَا هُوَ الماضِي فَماذَا تَرىَ

عَيناَيَ مِنْ طَيفْ لَهُ مَاثلِ؟

مَطارحُ الأيّام مَبسْوُطةٌ

كَمْ بَيْنهاَ من أَثَر حَافِلِ!

كَمْ اجْتَلىِ يا نَفْسُ مِنْ صورةٍ

عَرَفْتُها فيِ عَيْشيَ الزائلِ

كَمْ بَهْجةٍ قَدْ بِتُ يا وَيْلتاَ

في شُغُلٍ عَنْ ذِكْرهاَ شاغل!

أرَى وَكَمْ يُبْهجُنيِ أَنْ أَرَى

مَسارحي في قَرْيتيِ الضاحِيةَ

هُناَكَ حَيْثُ الأمن مَمْدُودةُ

ظَلالُهُ والِبشْرُ وَالعَافَيه

هُناكَ حَيْثُ الحسنُ رَفّافَهٌ

طُيُوفُهُ للأعْيُنِ اللاّهِيهَ

وَحَيْثُ تَحْلو الأرضُ مَنْضُورَةً

وَيعْلقُ السِّحْرُ بهاَ خَالِيهْ

وَتُعجبُ الأدْوَاجُ فَيْناَنةً

وَمَا خَلَتْ مِنْ رَوْعةٍ عَارِيةْ

هُنَاكَ حَيثُ الصَّمتُ أُنشُودَةٌ

لا تَفتَأُ النَّفسُ بِهاَ شَادِيَه

فيِ جَنَّةٍ عِشتُ زَمَاناً بِهاَ

يا لَيتَ ليِ أيّامَهاَ ثَانِيَهْ

هَذِى هِيَ السَّرحَةُ في ظِلِّهَا

أبْنُ ثمَانٍ في الضُّحَى يَلعَبُ

في ثغرِهِ مِنْ بَسَماتِ الرِّضَى

مِثلُ ابِتسَامِ الزَّهرِ أو أعذَبُ

وَعَينهُ مِنْ لَمَحَاتِ المُنَى

كَمَا انجَلَى في أفِقِه الكوكب

مِثلُ فَرَاشِ الرَّوْضِ في لَهِوِه

وَدأبِهِ لَكِنَّهُ أوثَبُ!

دنياه هذى النَّخلُ. فيِ جَانِبٍ

مِنهَا يُرَى للأعيُنِ المكتُبُ

كمْ رَتلَ الآيَاتِ فيِ مَقعَدٍ

فِيِه وَكَم بَاهَى بِماَ يَكتُبُ

أجرَتْ له الفُصحَى بِهِ كَوثَراً

مَعِينُهُ فيِ القَلبُ لا يَنضُبُ

يا ناشِئاً أوْحَتْ لَهُ سِحرَهُ

شَمسٌ من الفُرقَانِ لا تَغرُبُ

يا لاعِباً لم يَدِر غَيرَ المُنَى

كَمْ يَطرَبُ القَلبُ لمرأَى صِبَاه

ص: 56

كَمْ يَسحَرُ النَّفسَ خَيَالٌ له

يَنقلُ في تِلك النَّوَاحي خُطاهْ

فيِ عَيشِه الحَالِمِ كَمْ هَزَّهُ

مِنْ عَالَمِ السِّحْرِ جَمالٌ رآه

أعرِفُهُ! فيِ صَدِرِه خَافِقٌ

غَضٌّ يَرَى في الرِّيِفِ دُنيا مُناَه

هَاهُوَ ذَا فِي كَوِنِه هاَئِمٌ

تَغَرقُ في نور الضُّحَى مُقلَتاه

هاهو ذا الكَوُن عَلَى بُعِدِه

عَن حَاضِرِي، تملأَ عَينِي رؤاه

كَأَنما تَهزِجُ في مسمَعِي

أصْدَاؤه اليَوْم َويَسِري شَذَاه!

مَغناَي في الرِّيفِ أرَى طَيَفهُ

في زَحَمِة المَاضِي وفي لُجَّتِهُ

إن ذَهِلَتْ عَيناَيَ عَنْ مَوضِع

سواهُ لَنْ تَذهَل عَنْ صُورَتِه

هذا الفِناَءُ الرَّحُب لَمْ أنْسَهُ

والقَلبُ هيمان إِليَ فِتنْتِه

وَهَذِهِ الشُّرفَةُ يَا حُسنَهَا

يَا حُسنَ شمْس الصُّبْح في جَبهَتِه

الأمْنُ فِيهِ بَاسطٌ ظِلَّهُ

وَاليُمْنَ وَالإقبَالُ فيِ سَاحَتِه

وَالأهْلُ، والولدانُ من حَوْلَهمِ

أَرْوَعُ مَا فيِ البَيْتِ مِنْ زِيِنتَه

صَلاتُهُمْ يَزْخَرُ تَسْبيِحُهَا

بِالحَمْدِ ِلله عَلَى مِنَّتِه. . .

عِشْتُ زَمَاناً حُمَّ النوَىَ

وَذقتُ طَعْمَ الهَمِّ مِن فرْقَتهِ

في غُرْبِتي كم مَسِّ قَلْبيِ الضَنَى

وهَاجَ تَحْنَانيِ إِلى رُؤْيَتِه

يَا نَازِحاً عَن أهِلهِ قَلْبُهُ

يَذُوبُ مِنْ شَوْقٍ إلى جَنَّتِه

يَسْتقبلُ الدَّرسَ عَلَى وامِضٍ

يَسطَعُ كالكَوكَبُ مِن أمِسِه

مَا كَاَدَ يَخطُو لِلعُلَى خُطوَةَ

حَتَّى شَأى الأقْرانَ فيِ دَرِسِه

السّبقُ مِن عَادَاتِه، طَعمُهُ،

أشْهَى مِنَ الشَّهِد إلى نَفسِهِ

خَيَالُهُ المَشبُوبُ يُوحِي لَهُ

ما يُبهِجُ المُرهَفَ مِن حِسِّهِ

يَلهَجُ بِالشِّعرِ فَفِي رُوحِهِ

وَحيٌ لَهُ يُصِغي إلى هَمسِهِ

إن ضاَقَ بِالوَحشَةِ طَارَتْ بِهِ

أجِنحَةٌ مِنهُ إلى أُنسِهِ

أوْكلَّتْ الَّنفْسُ حداها إلى

ما أنْبَتَ العِرفَانُ من غَرْسِهِ

فيِ حَلبَةِ العِلمِ مَضَ سَابِقاً

يَسْتقبِلُ الياِفعَ من سِنِّهِ

ما أوْهَنَ الجَهْدُ لَهُ عَزْمَهً

في سَهلِ ما يَطْوِى وَفِي حَزنِهِ

ص: 57

يُسَدِّدُ الحَزْمُ له خَطوَهَ

وتنطوي الأيَّامُ فيِ يُمِنهِ

يَرْسِمُ آمَالاً عِرَاضاً ولا

يَدِري من الَّدهرِ مَدَى ضَنَهِ

فِي كُلِّ ما يَقرَأُ مِن سِيرَةٍ

صَدىً لمِا يَهجِسُ في ظَنِّهِ

فَفِي غَدٍ (سَعدٌ) بهذا الحِمَي

يَذودُ ذَودَ اللَّيثِ عن رُكِنِه

وتارَةً ذو صَولَةٍ قاَدِرٌ

يُصَرّفُ الأمرُ عَلَى إِذْنِهِ

أوْ مِدرَةٌ مُقتِدرٌ نَابِه

الحقُ والقِسطاَسُ في وَزِنِه

أحَبُّ مَا مَنَّى بِهِ نَفسَهُ

شَادٍ تَغَارُ الطَّيُر مِن لَحِنِهِ

مُقَدّمٌ فيِ قَومِهِ شِاعرٌ

السِّحرُ والإعجاَزُ فيِ فَنِّهِ!

غَنِّى زماناً بِالمُنى حالماً

في عُمرِهِ المزدَهِرِ النَّاضِرِ

يبيتُ جَذلَانَ هني الكَرَى

مُمَتعَّاً بَاُلْحلمِ الزَّاهِرِ

ماذا دهى قيثاره فاشتكى؟

يا ويله من حُبِه الباكِرِ!

طافت بِه من خَمرِ هذا الهوى

كؤوسهُ. . . يا ويحِ للشَّاعِرِ

تكَشَّفَت دُنيَاهُ عن عالَمِ. . .

يا قُدسَ هذا العالم السَّاحِرِ

ياَ حَيرَةَ الشِّعرِ لَدَى وَصِفِه

يا زَحَمةَ الأطياَفِ في الخَاطِرِ!

هذى الرؤى تَرجِعُ رفَّافَةً

من غَمرَة الماضي إلى ناظِرِي

يَهِدفُ لِلعِشرِينَ في نَفسِهِ

وَحيُ الذي يخفق في جنبه

مُحَبَّبُ العِشرَةِ في وَجِهِه

بَشَاشَةُ الوَردِ أليّ صحبه

وفي حنايا صَدرِه رُقيَةٌ

عن الخنا والهُجرِ مَالتْ بِهِ

يا نَفَحَةَ الخُلدِ لأَنْتِ التي

أيْقَ ظتِ هذا الطُّهرَ في قَلِبهِ

يَا ومضَةَ الُّروح جَلَبتِ الهُدَى

وطُفتِ بالنُّورِ على هُدبِه

يَا نَسَمةَ الحُبِّ بِهَذَا الشِّذَى

الرَّوحُ وَالرَّيْحَانُ مِن رَبِّهِ

في كُلِّ حُسن حَولَهُ لَمحَةٌ

تُلقِى عَلَيهِ السِّحرَ مِن حُبِّهِ

والكَونُ، ما دارت به عينه

مُلق معاني الحُبّ في لُبِّهِ

كَمْ عَادَ لَلْقرْيةَ فيِ لَهْفَةٍ

لِلعَيْشِ في أَكْناَفِهاَ الواسِعَةْ

والصَّيْفُ في أنحائها رَائِعٌ

بَاتَتَ بهِ أمْسَاؤُهاَ رَائِعةَ

ص: 58

هُنَاكَ لَا يَلْبَثُ حَتَّى يَرىَ

فَتاَتَهُ بَعْدَ النَّوَى رَاجِعهَ.

هُنَاكَ كَمْ سَارَا على مَوْعِدْ

وَاّللْيلُ يَغْشَي القَرْيَةَ الهَاجِعَه

فالتقيا لا عَيْنَ تَرْعَاهَمَا

إِلا عُيوُن الأَنْجُمِ اللاّمِعَة

يَا قُدْسَ هذا الحبَّ في خَلْوَةٍ

صَلَّتْ بِهَا مُهْجَتُهُ خاشعهَ

في رَوْعَةِ الصُّبْحِ يرى وُحْدَه

جَبيِنهاَ فيِ شَمْسِهِ الطَّالِعَه

وَيَمْلأ الَّنْفسَ صَدَى صَوْتِهاَ

والطيرُ في أَفْناَنِهاَ سَاجعه

وَينْطَوِي الصَّيفُ وَأَحلامُهُ

والوَصْلُ في عيشه الوادِعه

يَا لَيْلَةَ التَّوُديعِ كَمْ لَوْعَةٍ

هَاجِسَةٍ في نفسِه الجازِعه

يا حَيْرَةَ الأَعْيُنِ في مَوقِفٍ

تُرَى بِهِ بَاسِمَهً دَامِعَه!

صَحَا عَلى اَلعُيش وَأكلَافِهِ

فَساَرَ سَيرَ النَّابِهِ المَاجِدِ

هذا هو الزورَق يَجري بِهِ

يا رَحَمتَا للزَّورَقَ الجَاهِدِ

ما هذه الدنيا وأوضاعها

كم ذا يرى مِن طَبِعهاَ الفاسِدِ!

الجاهُ فِيهَا للخنا تَوأَمٌ

والحظَّ للِلاَّهِي وَلِلقَاعِدِ!

كمْ جَاهِلٍ يَعلُو بِهِ جَهلُه

فيها وكم من غَاِفلٍ جَامِدِ!

وَالصَّابِرُ الَمكدُودُ يَشَقى بها

ما أضيَعَ الآمَالَ للِحَاصِدِ

وَكم يَرَى ذو الِبرِّ من جَاحِدٍ

وذو الحجا والفَضلِ من حَاسِدِ

والناسُ إلا قِلّةً أذوبٌ

وحَاقدٌ يَنعَى عَلَى حَاقِدِ

مَا ضَرَّهُ من عَيشِهِ ما رَأى

أو صَدَّهُ عن سَيِرِهِ القاصِدِ

يَحتَقِرُ الدُّنياَ وأوهَامَهاَ

مِن طَارِفٍ فيها ومِن تِاِلدِ

يَكِيدُ لِلدَّهرِ بِأقدَامِهِ

فَلَيسَ هذا الدَّهرُ بالكائِد!

مَا هَذِهِ الدُّنياَ لِيَشقَى بِهاَ

أمَا تُرَى هَازِلَةً لاعِبَهْ؟

وَيلٌ لِمَنْ تَطغَى عَلَى لُبِّه

بُرُوقُهاَ الكاذِبَةُ الخَالِبَه

يَا أيُّهاَ الباكي على حَظِّهِ

لا يُرجِعُ الدَّمعُ مُنيٍ ذاهِبَه

عَجِبُت للشَّاكِين أيّامَهُمْ

ما نَفعُ تِلك العِيِشة الصاخِبة؟

الهَمُّ، والدُّنَيا على حالهِاَ

غِذاءُ هَذي الأنفُسِ الغاضِبَة

ص: 59

حَيَاتُهُم لا يَستَسِيغُونَهاَ

حَتَّى تُرَى شَاحِبِةً غَارِبَه

يَا عَجباً حِين يَلُوحُ الرَّدى

تَلمَحُهُ أنفُسُهُمْ هَائِبه!

ابتَسِميِ يا نَفسُ لا تَعبِسي

لا خَيرَ لَلعَابِسِ مِن دَهرِهِ

الحُرُّ لا يَأسَى عَلَى فَائِتٍ

والدَّهرُ لا يَقْوى عَلَى قَهْرِهِ

هذا هُوَ الماضِي خُذِي وَحيَهُ

واسْتَقبِليِ الغَيبَ عَلَى ذِكرِهِ

مَاضِيكِ لا تَذهَبُ أطيَافُهُ

أو تُطفِئُ الأيَّامُ من بِشرِهِ

باَتَ مِن الأقدَارِ فيِ نَجوَةٍ

هذا هُوَ المعُجِبُ مِن سِرّهِ

ما غابَ من عيش الفَتَى من أسىً

لا يُقِدمُ المَرءُ عَلَى نَشرِهِ

أمَّا سَنَا الماضي فيوحي لَهُ

ما كَرَّتْ الأيَّامُ، مِن نورِه

ما لَذَّةُ العَيشِ إذا ما خلا

من رَوعِةَ الماضي ومِن سِحر

مَوتٌ من الموتِ بِقَلبِ الفتى

نِسيَانُهُ السَّالِفَ مِن عُمْرِه

آليتُ لا آسَى عَلَى ذاهِبٍ

أوْ أذْرِفُ الدَّمعَ عَلَى دَارِس

هواي لن أشقَى بِهِ بَعدَ مَا

عِشتُ زَمَاناً عِيشَةَ اليائِسِ

سَّيانَ عنِدي بَعدَهُ ما أرى

من بَاسِمِ الأيامِ والعابِس

لكنني أمِضي إلى غايَتِي

أحنو على المحزُونِ والبائِس

أصِغي من الماضِي إلى ماثِلٍ

من طَيِفْهِ في مِسمعِي هَامِسِ

أحيا عَلَى الذِّكرَى حَياَةَ امرِئِ

ما كانَ من دُنَياهُ بالآيِسِ

إن فَاتَهُ فِيها لذيذُ الجَنَى

كفاَهُ مِنهاَ لَذَّةُ الغاَرِسِ

عِندَ الثلاثين قفي وَانظرِي

وَغَازِلِي يا نَفسُ حُلوَ الأمَلْ

مَن لَمْ يُشَمِّرْ للِمعَالَي فَتىً

هَلْ يَعرِفُ العَزمَ إذا ما اكتَهَلْ؟

العَيْش في الدُّنيا قَليِلٌ فَهَل

مِن مَوضِعٍ فِيِه لغَيِر الجذَلْ؟

كَم شدَّةٍ يا نفسُ مخبوءة

وَلَذّةٍ في عَيِشكِ المُقَتَبلْ

لا تَلعَنِي دَهرَكِ أو تحَمِدي

الدَّهْرُ لا يُسألُ عَمَّا فَعَل

هَّيا إلى الزورَقِ خُوضي بِه

غِمَارِ هذي اللُّجَجِ القَاذفَهْ

لا تَطرَبي للرِّيح إن سْالمت

أو تَرْهبي أنواَءهَا القاصِفه

ص: 60

السَّبْقُ أن تَجرِي عَلَى ثائِرٍ

وَالفَخرُ أن تَقتَحِمي العاصفه

الضفَةُ الأخرى إذا ما دنت

لا تَنِفري مِن قُرْبَها خائفه

الخفيف

ص: 61

‌رسالة المرأة

فن التجميل

للآنسة زينب الحكيم

التطور سنة الحياة، ومعناه النمو التدرجي والتكشف، ومعناه أيضاً نشوء الأشكال العليا من الدنيا في الحياة كما يقول القاموس

إذن نفهم من هذا أن كل شيء حي، وأي شيء يمت لذلك الحي بأدنى صلة، يسري عليه ناموس التطور التدرجي في الحياة. ومن غير الضروري أن نثبت منطقياً أو علمياً سلسلة تطور الإنسان مثلاً من عصور ما قبل التاريخ إلى البربرية الأولى فالثانية فالثالثة، ولا أن نعدد الأطوار التي قطعها حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. فلسنا في حاجة إلى ذلك في هذا المجال. إن هذه أشياء مقطوع بصحتها على الأقل من ناحية التدرج النشوئي الذي استغرق آلاف السنين

إنما الذي يعيننا هو أن نوضح أن الحياة في مختلف نواحيها تخضع للناموس ذاته؛ فكلما تطورت حالة الإنسان اختلفت بيئته وتغيرت طرقه ووسائل معيشته من تجارة وصناعة، وعادات ونظم، وتعاليم ومبادئ، وعلوم وفنون وغير ذلك

وفن التجميل ولو أنه يبدو فناً كمالياً، فانه في الواقع فن ضرورة ولزوم إذا أخذنا بالمبدأ القائل بسذاجة الطبيعة وأنها جرداء قاحلة ما لم نضف عليها من رائع خيالنا وبديع تصويرنا

فإذا وضحت النظرية الآن، وصح تطبيقها على الجمادات والعجماوات، فمن الضروري لزومها للكائن المفكر الذي يسوقه تفكيره إلى بلوغ أقصى درجات الكمال في كل شيء. ولا جناح عليه إذا لحظ أنه يعمل للارتقاء في جهات قبل أخرى، أو إذا تباينت درجات ذلك التطور، فهذه سنة الحياة ونظام تكوينها

وفن التجميل على هذا الأساس من اعرق الفنون وأكثرها حركة واشدها اقتحاماً. فالكوخ لم يبق ذلك الشكل الساذج، بل تحول وتحور حتى صار بيتاً، والبيت تطور وتطور على أشكال وأنماط. . .

والقدر لم يبق ذلك الإناء الضروري لحمل الماء أو غليه، وإنما تطور فتحور وهذب،

ص: 62

واختلف أنواعاً وأشكالاً، ونقش تارة، ولون وزركش أخرى

وكذلك الناس تطوروا، ولم تعد المرأة تلك البربرية التي كانت تحمل نفسها الأحجار وقطع المعادن الثقيلة للتزين مثلا، وإنما تطورت زينتها إلى ما هو ألطف وأجمل

لهذا نقول: إن فن التجميل في كل العصور بالنسبة للمرأة في الشرق والغرب، يتغير مثله الأعلى بالنسبة لدرجة تطورها، وإن اتفقت بعض مظاهره في أشياء

فمثلاً من زمن بعيد كانت منضدة التزين هي المرآة التي انعكس عليها نشاط المرأة. وقد وجد المنقبون في بلاد أشور، وفي مصر، مناضد للزينة تكاد تكون محملة بضروب من وسائل الزينة، كما قد يرى على أفخم مناضد التزين اليوم في البيوت، وفي محال التجميل العامة

والتاريخ يبرهن، مع الأسف أو مع الغبطة، على أن الجمال لم يكن طبيعياً أبداً (وهذا يتفق مع النظرية التي أشرنا إليها في أول هذا المقال) ثم قرر العقل البشري إثبات ذلك في الشرق والغرب، بدليل ما اتخذه الناس من وسائل للتجميل، ومن تحايل لأسبابه انتفعت به النساء بوجه خاص؛ وإذا اختلفت وجهات النظر في ذلك، فإنما تختلف من حيث التقدم في التطور لا من حيث المبدأ

ففي الغرب اخترعت محسنات البشرة ولون الوجه وفق أسس فنية وعلمية. أما الشرق فقانع بهذه النتائج غير المتقنة، التي يمكنه الحصول عليها من أنواع الكريم والحناء، والكحل الأزرق الذي تكحل به الجفون من الداخل، فيحدث تهيجاً في العين بسبب ملأها بالدموع، ويجعلها شديد اللمعان، ويعتبر ذلك من الجمال، وهو خطأ مضر بالعين

ويستعمل الروائح العطرية القوية التي تضعف من أعصاب نساء الشرق البدينات فتزيدها وهناً على وهنها، وبالجملة فإن نساء الشرق لا يحسن استعمال وسائل تزين الغربيات، وكثيراً ما يخطئن في تطبيقها العملي، ويخلطن بينها مما يؤذي أجسامهن ويسيء إلى أخلاقهن بوضعهن الأشياء في غير موضعها

كل ذلك لجهلهن تراكيبها، وعدم دراستهن لأنفسهن بحيث يعرفن ما يلزم لهن، وكذلك لعدم استعمالهن مبتكرات بلادهن، التي تكون وليدة حاجاتهن، وما يتناسب مع طبيعتهن

إن غفلتهن عن التعليل المنطقي تجعلهن مقلدات مسرفات في التقليد، فكثيرات منهن قلدن

ص: 63

وما زلن يقلدن النجمة السينمائية فلانة، والممثلة المسرحية علانة، وغاب عنهن أن زينة الفتاة الممثلة على المسرح أو السينما، لا يمكن أن تجعلها جميلة أو متزينة بالمعنى الذي يقصد من التزين، لأن المقادير الهائلة التي تصبغ بها وجهها، إنما يقصد بها أولاً أن تساعد على إظهارها بوضوح على المسرح الشديد الضوء، أو أمام أنوار التقاط الأفلام السينمائية، كيلا تظهر شاحبة ذابلة، غامضة الملامح إذا ما سطعت عليها تلك الأنوار القوية.

والصورة البشعة، التي نراها هنا وفي كل مكان من المعمورة بوجوه النساء، إنما تدل على الجهل الذي تحمل المرأة عنوانه على ابرز جزء فيها، مما ينفر من مزاولة فن التجميل الذي يعتبر من أرقى الفنون وأعرقها.

لو عاشت جدتنا لتسمع ما نقوله اليوم عن التزين، ولو رأت بعيني رأسها حال وجوه السيدات اليوم، لذهلت وطار لبها، لأنه ما كان يستعمل للتزين في أيامها إلا أنواع من الصابون الصحي غير المهيج للبشرة كصابون القطران والكبريت الممتازين.

بينما كان الرجال في ذلك الزمن، يوضحون رجولتهم بنحو قدم أو أكثر من لحية مربعة مهذبة حول ذقونهم.

أما وسائل التزين التي يعلن عنها بلا انقطاع في جميع المجلات النسائية وغيرها الآن، أو ما يسمع عن علاجات البشرة المختلفة وما شابه ذلك، فكان غير مألوف، ولم يطق سماعه أو السماح باستعماله السواد الأعظم من الناس في القرن التاسع عشر

وقد اعتبر استعمال الدهون وأصباغ الوجه - من أحمر وذرور وغيرهما - من الجرائم الخلقية. والغواية في المجتمع، واعتبر استخدام أصباغ الشفتين وتزجيج الحواجب من علامات الانحراف، ومنتهى التبجح، بل دليل الفساد والشر

لهذا طالما انتهرت الجدة العزيزة بناتها إذا ارتابت في حمرة وجنتي إحداهن، أو إذا هي صففت شعرها بأداة التجعيد المحماة. ولعمري ما عساها كانت تفعل الآن، إذا رأت بعض الفتيات االمتطرفات، اللائي ينمين أظافرهن حتى تصير كمخالب الحداة، أو يلبسن أحذية طول كعوبها أربع بوصات أو خمس؟! من غير شك كانت تثور وتفور ولها الحق، وليست معارضتها في هذه الحالات وأشباهها مما تؤاخذ عليه، والشيء إن زاد عن حده انقلب إلى ضده

ص: 64

وفي الواقع، لا يوجد شيء تطور في العالم بسرعة مثل ما تطورت وسائل الزينة وطرق استعمالها

وأصبح استخدامها باعتدال وفن من التقاليد المرعية والعادات المقبولة.

فالسيدة التي تظهر بأظافر غير معتنى بها مثلاً، أو بشعر لا تظهر عليه دلائل العناية والتهذيب والتجميل، أو بوجه شائه وكان في استطاعة صاحبته أن تقلل من شوهه، تعتبر خارجة على التقاليد، مقصرة في حق نفسها، وفي حقوق المجتمع. وهل هذا العصر إلا عصر تجدد ونشوء؟!

لهذه الاعتبارات من جهة، ولإسراف السيدات وبعض الرجال في التزين الخاطئ من جهة أخرى، ارتفعت تكاليف التزين جداً، بحيث أصبح ما ينفق على وسائله من نقود مقادير لا تصدق بسهولة لو لم تثبت صحتها الإحصاءات الرسمية

لقد قدر الآن في الولايات المتحدة أن المرأة تنفق ثلاثمائة مليون جنيه في السنة على معالجة التجميل، والدهون من كل نوع. وقد قسم الإحصائيون هذا المبلغ الضخم بين أصباغ الشفاه، وأصباغ الوجنتين والذرور، ودهانات تغذية بشرة الوجه والكريم بأنواعه، وأصباغ الحواجب والأهداب، ودهونات الشعر وغير ذلك

أما في إنجلترا، فإن أرقام ما ينفق على هذه الأشياء ليست إلى هذا الحد من الغلو، والمصاريف في إنجلترا على التجميل خمسون مليوناً من الجنيهات، أو ربما كانت 70000000 جنيه

أما في مصر، فليست لدينا إحصائيات يمكن الاعتماد عليها في هذا الصدد، ولابد أن يكون الإنفاق في منتهى الإسراف، لأن مصر سوق دولية، والعرض كثير والمهارة في التصريف ممتازة، والعقول ساذجة، والإرادة ضعيفة في اغلب الحالات

كثيراً ما ألحظ وأنا أشتري شيئاً من الصيدلية، أو من متاجر الأدوية، سيدات يستغلهن مهرة الباعة فيها استغلالاً سيئاً، وكثيرات من السيدات يفوضن أمرهن للبائعة اللبقة، أو البائع ذي الحيلة لينصحا لهن بما يشترين، مما يكون أقوى أثراً في زينتهن

ولنا أن نتصور أي نوع وأية كمية من البضاعة يبتاع هؤلاء السيدات!

أما الحالة في العراق، فانه ولو لم أعثر فيه أيضاً على إحصائيات يستدل منها على مقدار

ص: 65

ما تنفقه السيدات هناك على التجميل، فإني بما شهدته من تهافت المرأة، وطنية وأجنبية، على الأصباغ والدهون والعطور، والتغالي في عمل التواليت بوجوههن وأيديهن بل وأرجلهن، باستعمال أجود أنواع الزينة وأغلاها ثمناً، أستطيع أن أقول أن المبالغ التي يصرفنها حتماً تكون ضخمة.

ويأتي بعد سيدات العراق السيدات اللبنانيات

أما السوريات (وعلى الأخص الرشيقات) فكثرتهن لا يحسن استعمال هذه الأشياء، ولا يسرفن فيها

والسورية العادية لها طرق تزين أهلية، فتستعمل أنواعاً من تربة أرض بلادها وأعشابها، وتستعمل أنواعاً من الصابون من صناعات حلب. وبالضرورة قد تحتوي هذه الأشياء أنواعاً من العناصر الضارة التي تتلف الأجزاء التي توضع فوقها من الجسم، ولكن المرأة لا تبالي كثيراً بذلك لجهلها من جهة ولشدة اقتصادها من جهة أخرى، ولا تستطيع أن تدرك أنها تسرف من حيث تقتصد

أما المرأة التركية فتسرف في استعمال وسائل الزينة ولكنها تتزين بفن وحسن وذوق

والمرأة اليونانية الحديثة قد سبق لنا ذكر شيء عن زينتها، والأغلب عليها الاعتدال والبساطة في التجميل وفي النفقات

أما المرأة اليوجسلافية، فأشد نساء أوربا الحديثة تطرفاً، ولكن بحسن تصرف وإتقان، ويغلب عليها الإسراف الشديد.

والنساء الفرنسيات لهن شهرة معروفة عالمية في فن التجميل، ومع إسرافهن الشديد في عمل التواليت، وانفاق الكثير جداً على أسبابه، فانه مشهود لهن بالدقة والصنعة وحسن التصرف.

أما المرأة الألمانية، فتكاد تكون مسترجلة في هذا الصدد، والتزين الصناعي قليل عندهن، ولذلك فكثرتهن يعانين حياة سقيمة مع أزواجهن، ومن العجيب أن العلم وحده لا يفيد كثيراً في الحياة، فانه بقدر ما تمتاز به المرأة الألمانية من علم وثقافة، وتفرغ لفن الأسرة، بقدر ما يتعلل الرجل عليها. وهي تكلف نفسها فوق ما تحتمل النهوض به من مسؤوليات الحياة العملية، فتهرم قبل أوانها، ولا تحاول كثيراً أن تخفي هذه المظاهر بعمل التواليت.

ص: 66

هذه إلمامة سريعة بفن التجميل بالنسبة للمرأة في العصر الحاضر، فهل كانت وسائله قديماً مشابهة لما تستخدمه الآن؟ هذا ما سنطالعه في الأسبوع القادم إن شاء الله.

زينب الحكيم

ص: 67

‌رسالة العلم

النظام الشمسي للمادة

كلمة لازمة قبل التعرض للحياة

للدكتور محمد محمود غالي

تجزئه المادة والرجوع بها إلى علاقات زمنية مكانية - الذرة

في المادة تمثل نظاما شمسيا - أمثلة من هذا النظام في المواد

المختلفة

يرى القارئ وهو يقلب صفحات هذا المقال أشكالاً تشبه الأشكال التي كان يحاول كل منا رسمها وهو على مقاعد المدرسة عندما ملك كل منا لأول مرة بركاراً (برجلاً) للرسم، وقد يعتقد القارئ بادئ الأمر أن هناك خطأ مطبعياً لورود هذه المنحيات المنتظمة التي حاولها كل منا في حداثته وسط مقال يتعلق بالمادة وبالحياة ويحاول كاتبه أن يجد تفسيراً لهما، وبدهى أن تتملكه الدهشة عندما يطالع في عنوان المقال (كلمة لازمة قبل التعرض للحياة)، ثم يتأمل هذه الأشكال: ترى ما العلاقة بين المادة أو الحياة وهذه الرسوم المنتظمة؟ أية رابطة بين الكائن الحي وأغرب ما فيه الإنسان المفكر، وهذه المنحيات والقطاعات التي تذكرنا بعبثنا في حداثتنا. . . هذا ما سيجده القارئ بين هذه الأسطر وفي المقال الذي يليه

كل ما في الكائنات في حركة دائمة - عندما ترى قطرة ماء صافية على ورقة من أوراق الشجر وسط حديقة في يوم هادئ خف نسيمه ووجم كل ما في المكان من كائنات، قد يخيل إليك أن كل ما هو حولك في هدوء تام، والواقع أن أياً من هذه الكائنات، حتى نقطة الماء، بعيدة كل البعد عن هذا الوصف من الهدوء، فلا نقطة الماء في سكون ولا ورقة الشجرة التي تحملها؛ إنما السكون جزئي بالنسبة إليك وليس بالنسبة للكون. نعود إلى نقطة الماء فكل جزء منها مركب من ذرات من الأكسجين والهيدروجين، كل ذرة من هذه مجموعة شمسية تشبه الشمس والأرض وسياراتها التسعة وأقمارها

ليتأمل القارئ معنا أصغر ما في هذه المجموعة وهو الإلكترون يجده يدور حول نفسه ثم

ص: 68

حول النواة مركز الذرة، كما تدور الأرض حول نفسها ثم حول الشمس، على أن هذه المجموعة من الذرات تكون جزءاً دقيقاً من الماء ذكرنا فيما تقدم أنه في حركة دائمة ذهاباً وإياباً، صعوداً وهبوطاً، بالنسبة لمجموعة الجزيئات الأخرى المكونة لنقطة الماء. هذه الحركة الأخيرة كبيرة جداً بالنسبة لحركة الإلكترون الدورية المتقدمة، حتى أننا نرى أثرها إن لجأنا إلى تلوين هذه النقطة بأية مادة كولويدية واستخدمنا الالترابيكروسكوب. على أن هذه الجزيئات المكونة للنقطة تدور مع الأرض حول محورها بل تدور مع الأرض حول الشمس - على أن الشمس بدورها تدور ومعها الأرض والسيارات التسعة دورة أخرى مداها حوالي 300 مليون سنة لتعود إلى وضعها الأول بالنسبة لمجموعة الشموس التي هي إحداها. على أن هذه المجموعة من الشموس ومنها شمسنا تبتعد في الحيز بالنسبة للمجموعات الأخرى المجاورة لها، وتبلغ سرعة ابتعاد بعض هذه المجموعات أو العوالم بعضها عن بعض 25 ألف كيلو متر في الثانية أي أنها تقطع في الثانية الواحدة مسافة كالتي تفصلنا عن الصين، وهكذا لو أردنا أن نبحث حركة الإلكترون، أصغر ما في نقطة الماء أو حركة جسيم آخر في الورقة الحاملة نقطة الماء، بالنسبة للحيز، لتملكنا الدهشة، ولأدركنا أن كل ما في الحديقة، على ما يبدو عليها من هدوء ظاهر، بعيد جد البعد عن السكون والراحة

إنما ذكرنا ما تقدم لأن العلوم اليوم تتقدم نحو مقصد جديد، ذلك أنها تحاول الرجوع بالأشياء إلى علاقات مكانية زمانية - وعندما يصل الإنسان إلى الرجوع بكل الظواهر إلى مثل هذه العلاقات، في الزمن وفي المكان، نكون قد اقتربنا من قمة العلم ونهاية المعرفة. أما وقد تعرضنا للحياة وهي التي تبدو لنا مظهراً من مظاهر المادة فلنحاول أن نعرف إلى أي مدى وصل بها العلماء في هذا السبيل.

قبل أن نتكلم عن المادة الحية كالخلية وجسم الإنسان ونبحث هل تمكن العلماء في تجديد جسيماتها بعلاقة مكانية زمنية يجمل بنا أن نشرح للقارئ إلى أي درجة وصلوا بالمادة الصماء (عادمة الحياة) إلى مثل هذا التحديد.

يتكون الجزئي للعناصر المادية كالحديد والذهب من مجموعة من الذرات وقد ثبت أن الذرة ليست أصغر ما في المادة، ذلك أنه أمكن عمليا فصل الإلكترونات عن الذرة وإثبات

ص: 69

وجودها فيها، وقد تبين ذلك في بادئ الأمر أولاً لوجود ما نسميه الذرات المتأينة في المحاليل وهي ذرات فقدت أو اكتسبت إلكترونات وهذا ما يثبت وجود الإلكترون في الذرة؛ وثانياً لما يمكن أن تصدره الذرة من الإشعاع، وما دام الضوء موجات كهربائية فلابد أن هذا الإشعاع نتيجة لعملية كهربائية حدثت داخل الذرة نعلم الآن أنها حركة الإلكترونات أي ذرات الكهرباء داخل الذرة

ويطول الشرح لو أردنا أن نذكر للقارئ سلسلة التجارب الطبيعية التي تثبت ذلك. ولعل النتائج التي نشأت عن اكتشاف (بكارل) الفرنسي للنشاط الإشعاعي واكتشاف مدام كيري أستاذة السوربون للراديوم، لا تجعل اليوم مجالاً للشك في إثبات حقيقة تفتت الذرة الكيميائية وأنها تتركب من مركز رئيسي يسمى النواة ومن عدد الإلكترونات تدور حولها

هذا التركيب الذري كان وما زال هدفاً لسلسلة من الدراسات الطبيعية التي ترمي إلى معرفة النموذج الذي تتألف منه الذرة أي صورتها المكانية سواء فيما يخص النواة أو الإلكترونات التي حولها. ولقد كان للعالم الإنكليزي المعروف رذرفورد الخطوة الأولى لمعرفة هذه الصورة المكانية للذرة. وتنحصر دراسته الأولى في قذف الذرة أي ضربها بإشاعات مختلفة، ودراستها ودراسة هذه الإشعاعات بعد ذلك. وقد اثبت بهذا أن الذرة مجموعة لجسيمات منفصلة الواحدة عن الأخرى ولكنها مرتبطة بعضها ببعض بقوة جاذبية تعادل قوة دوران هذه الجسيمات حول الذرة وبعبارة أخرى اكتشفت (رذرفورد) في الذرة نظاماً شمسياً يشبه نظام مجموعتنا الشمسية، ولكن يختلف عنه في أن القوة الجاذبية في المادة قوة كهربائية بين شحنة موجبة وشحنة سالبة بينما القوة بين الشمس والأرض هي القوة الجاذبية النيوتونية أي بين الكتلة والكتلة

على أن نظريات (رورفورد) وغيره الخاصة بنماذج الذرات المختلفة لم يكن التقدم في كل حالة حليفها، فقد تقدمت تارة وعثرت أخرى، ونرى ونحن نطالع الآن اجمل باب تعثر عليه في فلسفة العلوم الطبيعية كيف اتخذ نظام رذرفورد الشمسي للمادة طريقاً متعرجاً غير مستقيم، وإن شئنا أن نسطر هنا ما صادف هذه الآراء من عقبات ووثبات لسطرنا نصف العلوم الطبيعية الحديثة، ولكن لا مناص من أن نلخص يوما هذه المسائل وهي من أبدع ما وصل إليه الفكر البشري من الجمال والتنسيق، عندئذ نذكر قصة بالمير ثم انتصارات

ص: 70

بوهر الدنمركي الذي كان مساعداً لرذرفورد. فليست هذه من المسائل التي يجوز إغفالها، ونكتفي الآن أن نذكر أن الأخير وفق بين النماذج الشمسية لرذرفورد، وبين نظرية الكم للعالم الكبير بلانك ولبوهر تعزى فكرتان أساسيتان في الفلسفة الحديثة، الأولى تتلخص في أنه يجوز لنا أن نفترض كل الأقطار أي الأطوال في مسارات المجموعات الشمسية الخاصة بالعالم الكبير بينما لا يجوز لنا أن نفترض إلا أطوالاً معينة لمسار الإلكترونات. والفكرة الثانية: أن الإشعاع وفق آراء (بوهر) هو جهد حادث من وثبة للإلكترون حول النواة من مسار إلى مسار أقرب منه لها

إنما أذكر ذلك ليعلم القارئ أن النموذج الشمسي (رغم ما دخل عليه من تعديل بعد الميكانيكا الموجبة للعالم (دي بروي) لم يكن مجرد العلم التخميني أو النظري بل كان يتصل بكل الفروع الطبيعية الأخرى وبخاصة التحليل الطيفي، وعندما تتاح لي الفرصة لأطلعك على الانتصارات الكبرى التي حازها بوهر وغيره تصبح هذه الحركات الإلكترونية في المادة الصماء أمراً عند القارئ لا يقبل الجدل.

نعود للنموذج الشمسي ونترك البراهين عليها في الوقت الحاضر؛ فالذرة وفق (رذرفورد) مجموعة شمسية تتوسطها نواة كالشمس شحنتها موجبة وتدور حولها إلكترونات كالسيارات التسعة شحنتها سالبة، ويصح أن تحوي النواة عدداً من الوحدات السالبة تتعادل مع عدد من الإلكترونات، وكلما كانت النواة ثقيلة زاد عدد وحداتها الموجبة. وأخف ما نعرفه من النواة نواة الهيدروجين التي تحوي شحنة واحدة موجبة يدور حولها إلكترون واحد كالأرض يتبعها القمر. أما الهيليوم فلنواته شحنتان وبالتالي يدور حولها إلكترونان، ويحضر الذهن بعد ذلك في جدول العناصر الليتيوم الذي لنواته ثلاث شحنات ويدور حولها ثلاث إلكترونات كما هو مبين بالشكل (1)

ولقد أمكن البرهنة على أن واحداً من الإلكترونات الثلاثة لا يجتمع مع الآخرين في غلاف واحد (الغلاف الجزء المحدد بالمسار) وهذا الإلكترون الثالث يشبه في هذه لمجموعة الشمسية الصغيرة كوكب بليتون في مجموعتنا الشمسية الكبيرة، والذي ذكرنا أنه يدور بعيداً جداً عن الشمس ويتم دورانه في 252 سنة وهكذا كان لذرة كل عنصر عدد من الإلكترونات يتزايد من عنصر لآخر حتى نصل إلى الذرات العليا مثل الرصاص الذي

ص: 71

يدور في غلافه 82 إلكترونا وهو بذلك مجموعة شمسية معقدة. كذلك الايرانيوم وتعد ذرته أثقل الذرات إذ يدور حول نواته 92 إلكترونا ولعل هذه الكثرة هي السر في عدم اتزانه وفي كونه المواد المشعة

وفي (الشكل 2) مثال آخر لنموذج ذرة النيون وهو الغاز الذي استعمله لأول مرة جورج كلود أستاذ كلية فرنسا والذي يكثر استعماله في الإعلانات في المساء فتملأ أنابيبه شوارع القاهرة. وفي هذا النموذج ترى للنواة مسارين لإلكترون وثمانية مسارات لثمانية إلكترونات أخرى

هذه هي المادة كما يراها العلماء وقد ذكرنا في مقالنا السابق أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية (الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت) وإن العلماء يعتقدون أنه قد حدث في وقت من الأوقات أن مجموعة من هذه الذرات ترتب بطريق الصدفة بالطريقة الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وتساءلنا هل المادة الحية مجموعة من الذرات أو مجموعة من الذرات مضافاً إليها الحياة؟ وقد بدأنا اليوم بهذا الوصف للمادة وفق آراء العلماء، وبقي لنا أن نتناول المادة الحية ونعرف في أي الأوجه تختلف عما وصفناه

لقد اعتدت أن اعد القارئ في آخر كل مقال بما سأتناوله في المقال الذي يليه وإن ادله عند الوصول إلى خطوة بلغناها على الطريق الذي تبعها في استعراض هيكل العالم وسير الحقائق. على أني أتقيد هذه المرة بتناول موضوع الحياة بعد أن انتهينا اليوم من وصف المادة وصفاً كان لازماً لتناول مثل هذا الموضوع. وها قد وصلنا معاً إلى طريق وعرة ولكني سوف لا أدخل بالقارئ مكاناً أشعر انه لا يتعلم منه شيئاً جديداً. وإني أنتهز الفرصة لأقدم شكري للذين أرسلوا أليّ كلماتهم الطيبة بخصوص هذه الجولات، وسأواصل جهدي على صفحات الرسالة في تبسيط ما نصل إليه من المعرفة

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة، دبلوم

ص: 72

المهندسخانة

ص: 73

‌رسالة الفن

بركسيتلس

للدكتور أحمد موسى

كان للانقلاب المدني الذي جلبته حرب البيلوبونيز (431 - 404ق. م) وتطور العقلية والنفسية الإغريقية أثر عظيم في النهوض الفني واتجاهه. ولذلك يمكن اعتبار المدة المحصورة بين نهاية تلك الحرب وبين عصر إسكندر الأكبر (400 - 330ق. م) مدة (الازدهار المتأخر) أو (عصر الرفعة الثاني).

ولا يهم مؤرخ الفن المشتغل بالأركيولوجية الإغريقية أن يتناول في مقال كل ما أحاط بالحياة الإغريقية من سياسية واجتماعية إلى مدنية إلى حياة خاصة بسبب الحرب؛ وإنما يهمه أن يتلمس النتائج التي ترتبت عليها في الآثار الموجودة أو على الأقل بين دفات الكتب الموثوق بقيمتها العلمية كمراجع يعتمد عليها ومصادر أثبت البحث صحة ما جاء فيها.

ولما كان الفن الإغريقي قد اتجه في النحت بعد حرب البيلوبونيز اتجاهاً صادق التعبير عن التغير والمنهج الجديد الذي مال كثيراً وفي وضوح إلى تمثيل الفردية بعد أن كان ممثلاً للجماعات؛ فقد جاء من حيث الجوهر أقوى إفصاحاً عن النظرة الشخصية للفنان.

ولذلك - ولا نبعد عن الصواب - نجد أن التماثيل في مجموعها انتقلت انتقالاً هائلاً من ناحية تعريفها للحياة في صدق ومحاكاتها للطبيعة البشرية في قوة، لما ظهر عليها من حسن التكوين والحركة، كما تمكن الفنان من التعبير عن خوالج النفس، وهذه ناحية لم تكن إلى هذه المرحلة مما يستطاع تمثيله أو محاكاته ولا سيما أن المشاعر النفسية والعوامل التي يتأثر الجسم منها تأثراً يبدو في حركته وينعكس على ملامح الوجه، مما لا يتاح لنحات أن يخرجه إلا بعد وصوله إلى درجة عليا من المقدرة الفنية

فبينما نرى اهتمام الفنان كان قبل هذه الآونة متجهاً نحو تمثيل المقدرة والشجاعة والقوة، نراه في هذه المرحلة أكثر ميلاً نحو صدق المحاكاة ومراعاة التعبير عن النفسيات،

ص: 74

والرغبة في التأثير على المشاهد بإشراك حواسه في الاستمتاع والسمو قبل الشعور بالرهبة والتأثر بالعظمة.

وهذا ما انبني عليه تقهقر النحت التذكاري والتجسيم المعماري وتقدم التماثيل المستقلة ذات الفكرة المحدودة. وهكذا ترى انتشار التماثيل الرخامية (لاسيما في اتيكا) واختفاء غيرها من تلك التي كانت تنحت من سن الفيل والذهب، هذا فضلاً عن الكيفية التي سار عليها النحات لإبراز التفاصيل دقيقة وإظهار القدرة في القطع الرائع.

تم هذا على أيدي فنانين مبدعين الذكر منهم ديمتريوس وسيلانيون الأثيني وسكوباس الذي يعد أول نحات إغريقي في القرن الرابع قبل الميلاد. كما يعتبر في مقدمة زعماء المدرسة الأتيكية الحديثة.

بعد هذا التطور وفي وسط هذا المحيط نشأ الفنان العظيم بركسيتلس بن كيفيسودتس الذي ينتمي إلى عائلة أتيكية. وكان أصغر سناً من سكوباس فرأى الكثير قبل البدء، كما أنه أقام معظم سني حياته في أثينا حتى عصر إسكندر الأول، وقد خلدت شهرته كنحات للرخام دون غيره بالرغم من أن له بعض قطع عملها من البرنز

وبدراسة ما تركه هذا النحات الفذ نحصل على قسط وافر من ميزات طابعه الشخصي الذي يتلخص في أنه عنى عناية فائقة ونجح نجاحاً باهراً في التعبير عن الجمال النابض، واختار مادته منه في ربيع الحياة، فمثل الشباب تمثيلاً رائعاً خلاباً وأبرز أسمى صفاته وهي الصبا والزهو والقوة والنشاط وحسن التكوين.

وهذا لا يمنع من وجود بعض القطع التي مثلت ناحية الجد والنضوج، فجمع بين حالتين جعلت منه أستاذاً في تصوير العوامل النفسية دون نزاع. كل هذا بالنظر إلى الدرجة العليا التي وصل إليها في هذا المجال؛ فمن الهدوء إلى الحركة ومن اللين إلى العنف فضلا عن أنه جاء بجديد له قيمته العظمى في دراسة فن النحت، فقد استطاع الجمع بين التكوين الجسماني في وضع ما، وبين ما يلائم هذا الوضع من ملامح ترتسم على الوجه وتنسجم مع تكوين الرأس فكأنه اكسب رؤوس تماثيله حياة اتفقت مع تمثيل الواقع، وانسجمت مع المجموع الإنشائي، فجاءت دليلا على أن الفنان بلغ الذروة في دقة الإخراج من ناحيتيه الفنية والعملية، كما أنه سار بالنحت خطوات واسعة نحو التأنق في التكوين.

ص: 75

أما من حيث الناحية الإنشائية فانه كان واسع الأفق غير محدود الخيال، فأخرج إلى جانب تماثيل الآلهة تماثيل للإنسان (تمثال ديادومينوس وغيره).

ولبركسيتلس ناحية أفرغ فيها حبه وهيامه، تلك هي الناحية التي عبر بها عن جمال أفروديت آلهة الحب، وشباب إيروس إله الحب وابن أفروديت وهو الذي تحدثنا القصة الإغريقية عنه بأنه كان ولداً جميلاً بجناحين أو شاباً يحمل قيثارة أو قوساً، وموسيقى أبولو بن زويس إله النور والغناء والعزف، ونشوة ديونيزوس إله الزراعة والحصاد وزراعة الكرم.

واهم إعماله الباقية وأحسنها تمثال هرمس ابن زويس إله الطبيعة والرعاة ورسول الآلهة (واله التجارة والطرق والرحل واللصوص) والنوم والأحلام. وهو التمثال الذي وجد أثناء أعمال الحفر سنة 1877 ولا يزال محفوظاً بمتحف أوليمبيا.

وقف الإله الشاب عارياً يحمل ذراعه اليسرى المتكئة على جذع شجرة الطفل ديونيزوس (ش2 تمثل نصف التمثال فقط) ويمسك بيمناه عنقود العنب متجهاً به نحو الطفل. والساق اليمنى مستقيمة (هكذا في الأصل الكامل) والوسط محدود بخطوط غاية في الدقة مما تميز به نحت الفنان. والإنشاء المجموعي والوضع الكلي لهذا التمثال كله مليء بالحياة، عظيم بالجانب المتوفر فيه من الجمال، ولا سيما الرأس الدقيق الصنع البديع التكوين. أما الابتسامة الهادئة التي ارتسمت على وجه صاحبه (ش4) فهي من ادق ما شوهد منحوتاً في الرخام.

ولعل تمثاله لإفروديت كينتوس هو أهم وأعظم عمل فني قام به (ش6)، وقد فهم الأقدمون ذلك ونظروا إلى التمثال نظرة تقدير وإعجاب واستمتاع بروعته. تريد أفروديت النزول إلى البحر، فتخلع ملابسها وتلقي بها على آنية الزهر. وقد اتخذ من فكرة الرغبة في الاستحمام والتهيؤ للنزول في الماء موضوعاً للإنشاء الفني الخلاب، فبدا التمثال هائلاً، وظهر الوجه وعليه أثر ابتسامة أقل ما يقال فيها أنها التوفيق الكامل.

ولم يكن أثر يدل على هذه العظمة الفنية إلا الصورة التي رسمت على العملة، إلى جانب تماثيل نقلت عن الأصل، أحسنها التمثال المحفوظ بالفاتيكان (ش4) وآخر محفوظ في ميونيخ فيه بعض التغيير.

ص: 76

وفي إنجلترا رأس أفروديت (ش5) وله تماثيل لأفروديت في لباسها نذكر منها ما عمله لمدينة كوس

وله أربعة تماثيل لإيروس موجود أحدها بالفاتيكان وآخر في نابولي. وتماثيله لأبولو تحاج إلى شرح وإفاظة. وكل ما نبتغيه من هذا المقال ومن غيره أن يلتفت القارئ إلى النحو الذي سار عليه أساطين الفن ومقارنة ذلك بالاتجاه السقيم الذي يتجه نحوه بعض الشباب من المشتغلين بالنحت في هذه الأيام، وهم يعتقدون أنه الاتجاه الصحيح على حين أنها العجز في معناه الكامل.

أحمد موسى

ص: 77

‌السيدة فتحية أحمد

من الوجهة الفنية

للأديب محمد السيد المويلحي

من أثبت المطربات قدماً في فنها، وأعظمهن خبرة بصناعتها. تعتبر ثانية مطربات الشرق بعد (أم كلثوم)، وإن كان بعض جهابذة الفن يرفعها عليهن جميعاً لقدرتها وتصرفها العجيب الذي يجمع بين سحر القديم وقوته، ورونق الجديد ورقته، والذي لا يعجز عن إرضاء جمهرة السامعين ولو كانوا حشدا مختلفا في ذوقه متباينا في عمره.!

سمعتها مرة تغني في دار (الاتحاد الموسيقي) الذي يرأسه الأستاذ إبراهيم شفيق وكان على رأس الجميع مصطفى رضا بك مدير المعهد الملكي للموسيقى العربية، والدكتور محمود أحمد الحفني مدير إدارة الموسيقى بوزارة المعارف؛ والآنسة أم كلثوم، فإذا بها تبتدئ من نغمة (النهاوند) فعملت من (النوا) بياتي ثم نهاوند. وحولت النوا عشاق وقفلت (نركيز) على أساس النغمة، ثم النوا راست وقفلت (زاريل)، ثم رجعت للنوا حجاز وطلعت على جواب الكردان وعملت نهاوند وراست على (الكردان)، ثم صبا علي الحسيني، ثم قفلت (نهاوند)!

وكل هذا متآلف مع النغمة الأصلية مما أخرج (أم كلثوم) عن طورها فلم أرها في موقف لمطرب أو مطربة (تصرخ) كما كانت تصرخ أمام (فتحية). ولقد أراد البعض أن يرجوها في الغناء بعد أن انتهت. . . فما كان منها إلا أن قالت حرفياً (وماذا أقول بعد هذا)!

يبلغ صوتها خمسة عشر مقاماً تقريباً. وهو من نوع (الكونتر آلتو) وإن كان البعض يقول أنه من فصيلة (التينور). . .!

يمتاز بلمعته ونبرته وقدرته حتى أطلق عليه جميع الموسيقيين والموسيقيات لقب (الفتوة)! لأنه ينفرد بقوة عجيبة غريبة؛ فلو استمر شهوراً يشتغل كل ليلة ما شكا وما نقص وما (خستك) كغيره من الأصوات. . جيد الإلقاء. دقيق المحاكاة.

هي أول (مطربة) جمعت بين أشياء متناقضة متنافرة لا سبيل إلى جمعها أبداً! جمعت (الشرف) والفن والأمومة المنتجة الرحيمة التي تبذل دمها وروحها لتهذب وتعلم أولادها من مالها (الحلال) الذي جمعته من كدها، وتعبها، وصوتها!

ص: 78

(يا ليل). . . أشهد أنني أكره هذا النداء الذي قتله مطربونا ومطرباتنا نداء، وأوجعوه وانحنوه مناجاة. ولست أدري السر في هذا، القصور فني، أم لضعف صوتي؟؟ إن كان هذا أو ذاك فقد كنت أكره نداء الليل ومناجاته حتى سمعت هذا النداء العجيب من (فتحية)

سمعتها تناجيه وتناغيه بتصرف حيرني، ثم أدهشني وأعجبني حتى حول كراهتي حباً وافتناناً. . . وصرت لا أود ولا أسعى إلا لأسمعها تقول: يا ليل. . .! بقوة تخجل الرجال، وبقدرة تذهل النساء، حتى اعترف لها الجميع وأولهم (أم كلثوم) و (عبد الوهاب) بأنها أقدر مطربة في العصر الحديث فاقت المطربين والمطربات في مناجاة (الليل) وغناء (الموال).!!

هاجرت إلى الشام مراراً وراحت تذيع رسالتها هناك فذاع اسمها ذيوعاً قل أن يدركه غيرها، ولكن الحنين عاودها إلى مصر فرجعت لترى أن القدر قد أعد لها (مزحة) تهد الجبال وتقتل الرجال. رجعت وكان لها (رصيد) في البنك يبلغ سبعة آلاف من الجنيهات فإذا به (ستة مليمات) فحسب. . .! فإذا أردت أن تعرف السبب فهو (رجل) وضعت فيه ثقتها بحكم قرابته لها فإذا به يستغل جهلها بالقراءة والكتابة - وقتئذ - وينتزع منها ومن أولادها هذا المال الذي جمعته كما قلت قبلا بكدها وسهرها وصوتها. . .!

لا عيب في مطربة (القطرين) إلا أنها كغيرها من مطرباتنا قطعت شوطاً عظيماً، وزمناً طويلاً في الجو الموسيقي فلم تستفد، ولم تتقدم، ولم تتعلم، اعتماداً على صوتها وحسن تصرفها الذي وهبها الله إياه

تحب الفن للفن، والموسيقى للموسيقى، ولا تستطيع أن تملك نفسها وتكبت شعورها وتحبس إعجابها - كما يفعل غيرها - عندما تسمع الجيد المتقن، فتراها تثني وتصفق (وتزن) كأي فرد عادي تماماً ولعلها المطربة الوحيدة التي تسعى وراء كل مطرب أو مطربة لتسمع وترخي أذنها وفنها. ولا يظن القارئ أن تلك الصفة التي توصف بها فتحية (عادية) لأنها أن كانت عادية معه ومعي إلا أنها معدومة مفقودة في الوسط الفني. ما من فرد من أبناء الموسيقى سواء أكان مطرباً أو مطربة تسأله رأيه في زميل إلا سمعت الثناء أولاً ثم التعقيب بكلمة (ولكن. . .) ولكن هذه كفيلة بتشويه جميع الحسنات، وتدنيس جميع المزايا، وتحقير جميع الهبات. . .

ص: 79

أما فتحية فرأيها صريح واضح، قاطع صادق، وما أندر الصدق بين المطربات!

محمد السيد المويلحي

ص: 80

‌البريد الأدبي

في الاستشراق

ظهر الجزء الأخير من المجلد الثاني لكتاب (تكملة تاريخ الآداب العربية) من تأليف المستشرق الكبير الذائع الصيت الأستاذ كارل بروكلمن، وهذه (التكملة) تستدرك ما فات المؤلف في (تاريخ الآداب العربية) المطبوع سنة 1898. ثم تأتي بكل ما حدث في جانبي النشر والبحث منذ ذلك العهد. وهي على جانب عظيم من التدقيق والتحقيق، وإن رأى بعضهم أنها موضع مراجعة من هنا ومن هنا. والحق أن الأستاذ بروكلمن جدير بالإعجاب فضلاً عن الشكر؛ ذلك أن عمله جليل ونافع، وما نظن أحداً من المشتغلين بالشرقيات يستطيع أن يهمل (تاريخ الآداب العربية) و (تكملته) فانهما مصدر عرفان لا يعدله مصدر في بابه. ودليل هذا أن جميع من كتبوا في الآداب العربية رجعوا إليه بل اعتمدوا عليه؛ ولهذه التكملة جزء ثالث سيبرز هذه السنة في أجزاء متوالية، وسيكون موقوفاً على الأدب العربي الحديث

مكارم الأخلاق

للدكتور بشر فارس مبحث عنوانه: (مكارم الأخلاق) عبارة أخاذة ترجع إلى الأخلاقيات التقليدية نشر من عهد قريب باللغة الفرنسية في (مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم) في روما (الجزء 5 - 10 لسنة 1937) وهي من أعلى المجلات العلمية مكانة في أوربا، وكان الدكتور بشر فارس ألقى هذا المبحث محاضرة في مؤتمر المستشرقين المنعقد في روما سنة 1935، واليك فصول هذا المبحث: رواج عبارة (مكارم الأخلاق)، مفادها، مصدرها، مضمونها، علاقتها بالفتوة والمروءة، اتصالها بزمن الجاهلية، الخاتمة: عبارة إسلامية محضة، رخصة، مبهمة، أخاذة. ويمتاز هذا المبحث بالمنهج العلمي وبإثبات المصادر الأولى. وقد بلغنا أن صاحبه سينشره بالعربية هذه السنة في مصر طي كتاب يضم مباحث أخرى عنوانه (مباحث عربية).

هل في القرآن الكريم أسلوب غير عربي!

ذكر الشيخ الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل الألفية ابن مالك في النحو أن قوله

ص: 81

تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي) يجوز أن يكون وضع اسم الإشارة للمذكر فيه وهو هذا موضع المؤنث لأن لغة إبراهيم كانت لا تفرق في اسم الإشارة بين المذكر والمؤنث، فجرى القرآن في ذلك عليها، وأشار إلى الشمس وهي مؤنثة باسم الإشارة الموضوع في لغة العرب للمذكر

وقد نبهت طلابي في الدرس إلى خطر هذا الرأي وأحببت أن أبين هذا لقراء مجلة الرسالة الغراء

فالأمر في هذا يرجع إلى الأسلوب، ولم يختلف أحد في أن أسلوب القرآن يجب أن يكون عربياً، فلا يصح أن يتقدم فيه مثلاً المضاف إليه على المضاف، ولا غير هذا من أساليب اللغات الأخرى، وإن كان كلامه مترجماً عنها، لأنه يسلك في ترجمته أسلوب الترجمة المعنوية، ولا يتقيد فيها بشيء من أسلوب ما يترجم عنه

وهذا الذي أمنعه مما يرجع إلى الأسلوب غير ما اختلف فيه العلماء من وقوع المعرب في القرآن الكريم، لأن ما يرجع إلى الأسلوب يرجع إلى نحو العربية، فتكون مخالفته خطأ. أما وقوع المعرب في القرآن فيرجع إلى إيثار لفظة أعجمية على لفظة عربية، وهذا لا يمكن أن يتوجه إليه الخطأ، ومع هذا اختلف علماؤنا فيه ورأى بعضهم أنه يقدح في عربية القرآن الكريم

وقد ذكر الشيخ الخضري مع ذلك الاحتمال الذي نخالفه فيه احتمالات أخرى تسيغها العربية، ولا تكلف القرآن أن يجري على أسلوب لغة أخرى غيرها، فقال: يجوز أن يكون تذكير اسم الإشارة في ذلك مراعاة لتذكير الخبر، أو أن يكون تذكيره لتنزيل الشمس منزلة المذكر. وإني أرى أن إبراهيم كان يشير إلى جرم الشمس في ذلك الوقت لا إلى لفظها، ولفظها هو المؤنث في العربية، أما مدلولها فكوكب من الكواكب كالقمر وغيره، والكوكب مذكر لا مؤنث، ولهذا أشار إليه إبراهيم بلفظ المذكر

عبد المتعال الصعيدي

الأدب المصري في رأي كاتب لبناني

ننقل عن زميلتنا (المكشوف) البيروتية ذلك الرأي الجريء الذي أشار إليه في هذا العدد

ص: 82

الأستاذان: توفيق الحكيم وابن عبد الملك، فإن في الاطلاع عليه فائدة من جهة صوابه ومن جهة خطأه. قال الكاتب:

(لست مكابراً، ولكنني أنكر مستنداً إلى الوقائع الحقيقية التي قررها الأستاذ سامي الكيالي في رده على كلمتي البريئة حول إشارته إلى (امتداد الأدب المصري والثقافة المصرية في أجواء البلاد العربية). فقد بنى الأستاذ زعمه هذا على ما تخرجه المطبعة المصرية من مؤلفات عربية

فما هي هذه المؤلفات؟

أكثرها غير مصري. والأستاذ الكيالي لا يجهل أن المطبوعات الصادرة عن مصر هي في الغالب كتب قديمة أعيد طبعها، أو مخطوطات نادرة تطبع للمرة الأولى. فهي إذن ليست مصرية لأن أصحابها من خارج مصر. وليدلني إن استطاع على كتاب واحد ذي قيمة لمؤلف مصري صميم

أما المؤلفات المصرية الحديثة فلا أعرف أين هي مخبأة لا تظهر على وجهي، فإن أكثر هذه المؤلفات أنشأه كتاب مصريون، ولكن بمادة أجنبية مستوردة من الخارج

تأمل أن مصر التي يقول الأستاذ صاحب (الحديث) أنها تسيطر بثقافتها على البلاد العربية قد عجز أدباءها وأعلامها عن وضع الموسوعة الإسلامية فلجأ بعض المعلمين الرسميين إلى ترجمتها عن لغة أجنبية، ويا ليتهم أجادوا الترجمة، إذن لهانت المصيبة، ولكن ترجمتهم جاءت فاسدة مشوهة تضلل، والمفروض فيها أنها تهدى!

وتأمل أن مصر التي يريد بعضهم أن يجعلها زعيمة العروبة، ينادي أكبر أديب فيها بفرعونيتها ويقول: إن الإسلام لم يغير شيئاً من عقلية أبنائها على الرغم من مرور ثلاثة عشر قرناً على قيامه في وادي النيل!

وتأمل أن مصر العظيمة هذه لم يخلق فيها بعد ناثر أو شاعر يسجل في ملحمة شعرية أو نثرية الأحداث الخطيرة التي تعاقبت عليها منذ الهدنة إلى اليوم، ويخلفها تراثاً خالداً للأجيال الآتية!

وتأمل أن أكبر مفكري مصر وأدبائها من طه حسين، إلى حسين هيكل، إلى أحمد أمين، إلى محمد لطفي جمعة، إلى غيرهم وغيرهم، قد عجزوا في مؤلفاتهم التي خلقت شهرتهم

ص: 83

الأدبية عن الإتيان بنظرة واحدة طريفة لم يستعدوا روحها من أجنبي. فالشك في صحة (الشعر الجاهلي) مسبوق إليه، و (حياة محمد) مقتبسة من كتاب أميل درمنكهيم، و (ضحى الإسلام) ليس لمؤلفه فيه إلا العنوان بدليل الأسماء العربية الواردة مشوهة في طبعته الأولى أمثال زافار وأصلها ظفار، وأريتاس وأصلها الحارث، و (فلاسفة العرب) وأصله بالفرنسية (مفكرو الإسلام) لكاراديفود

أتكون هذي هي الثقافة المصرية التي تريد يا أستاذ سامي أن تتأثر بها البلاد العربية؟

إنني أنكر هذه الثقافة اللقيطة، ويعز على كلبناني عربي أن تؤخذ بلادي بالتدجيل وتخدع بالدعايات المجانية أو المأجورة).

زهير زهير

مصر في مختلف العصور

فرغ الأستاذ محمد قاسم بك عميد دار العلوم من تقريره عن مؤتمر العلوم التاريخية الثامن في دورته الأخيرة التي عقدت بمدينة (زوريخ) ومثل هو مصر فيه ثم رفعه إلى معالي وزير المعارف

ويقع هذا التقرير في 23 صفحة، تحدث فيها الأستاذ قاسم بك عن النظام السياسي والفكري في سويسرا، ثم أشار إلى أهم الموضوعات التي عرضت على بساط البحث، ولا سيما ما يتصل منها بالبلاد الشرقية والمسائل التي تتخذ صبغة عامة

وانتقل إلى الكلام عن رسالته التي عرضها على المؤتمرين - وهي خاصة (بالبحث العلمي) - وانتهى من هذا إلى ذكر طائفة من المقترحات رأى أن تنفيذها يجعل مصر تتابع الأبحاث التاريخية التي تجري في البلاد الأخرى.

ومن هذه المقترحات تحويل الشعبة التاريخية المحلية إلى جمعية تاريخية تعنى ببحث تاريخ مصر، وإنشاء متحف تاريخي ووضع فهرس سنوي خاص بشؤون التاريخ

ومما جاء في هذه المقترحات أن تعمل الحكومة على وضع أطلس تاريخي لا ليسد حاجة المدارس ومعاهد التعليم وحدها بل يفي بجميع حاجات الدولة. وإن يوضع معجم تراجم يبين تاريخ كل من اشتغلوا بالشؤون التاريخية في أجيال مصر المختلفة

ص: 84

ومن أهم هذه المقترحات وضع تاريخ عام لمصر تنهج فيه الحكومة منهجاً قومياً، أسوة بما حدث في الممالك التي نهضت حديثاً كبولندا وتركيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها

ترقية الأغاني وإعداد أناشيد مدرسية قومية

أشرنا من قبل إلى مشروع وزارة المعارف لترقية الأغاني المصرية ورفع مستواها والتوسع في أغراضها ومدلولاتها بما يفي بحاجات الوطن المعنوية لاطراد النهوض والتقدم

وقلنا أنها اعتزمت أن تعهد إلى عدد من كبار الشعراء والموسيقيين تأليف وتلحين خمسين قطعة غنائية، متجهة في ذلك إلى العدول عن نظام المسابقات

ونزيد اليوم أنه تألفت لجنة من حضرات على الجارم بك ومصطفى رضا بك مدير معهد فؤاد للموسيقى والدكتور محمود الحفني مفتش الموسيقى بوزارة المعارف للنظر في تفاصيل هذا المشروع وطرائق تنفيذه وإنجاحه

أما اختيار الشعراء الذين يعهد إليهم وضع القطع فسيترك إلى رأي معالي زير المعارف، وسيبدءون في عملهم عقب إبلاغهم ذلك مع التوجيهات التي تحرص الوزارة على إحاطتهم بها دون المساس بحريتهم في التأليف

وسيكون من عمل اللجنة أن تنظر في إعداد الأناشيد المدرسية التي تريد الوزارة أن تكون نموذجاً للأغاني التي تنشدها وذلك في مناسبة احتفالها باستقبال صاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران.

توحيد الثقافة بين مصر والأقطار الشرقية

من الخطوات أو الوسائل التي فكر فيها أولو الأمر في وزارة المعارف للوصول إلى توحيد الثقافة بين مصر والأقطار الشرقية إنشاء معاهد علمية مصرية في بعض هذه البلاد الشرقية تنشر من أبنائها الثقافة المصرية والمناهج العلمية الحديثة التي يراعي فيها أن تتوحد بالتدريج ثقافة الشرق العربي. وقد صادف هذا التفكير قبولا من بعض الهيئات التي يهمها أن تشتد أواصر الصداقة بين مصر وشقيقاتها العربية، وإن تحمل مصر علم الزعامة العلمية في هذا العهد الجديد

ولكن هذا المشروع ما زال مبدئياً، ولا بد أن تخطو به وزارة المعارف خطوات كثيرة،

ص: 85

فتخرج من حيز التفكير إلى حيز العمل، ومنها الاتفاق مع الدول الشرقية التي ينتظر أن يبدأ بإقامة المعاهد المصرية فيها، وتدبير المال اللازم للبدء في المشروع. وقد اتصلت الوزارة ببعض وزراء الدولة المفوضين في الدول الشرقية وطلبت إليهم إبداء رأيهم في إنشاء هذه المعاهد وينتظر أن تتصل بالبعض الآخر لتتكون لديها فكرة واضحة ذات تفصيلات صحيحة عن الموقف كله ولتبدأ بعد ذلك في السير في المشروع إذا استطاعت اجتياز عقبة تدبير المال

إحياء الأدب العربي القديم

عزمت وزارة المعارف رغبة منها في تقريب الأدب العربي القديم من نفوس الطلاب وناشئة المتأدبين أن تعمل على تهذيب طائفة من كتب الأدب

وقد استقر رأيها على البدء بتنفيذ هذا المشروع في 30 مؤلفاً بين كتاب وديوان على أن تدع باب الاشتراك في هذا العمل مفتوحاً أمام من يريده من الكتاب حتى 15 مارس القادم، وإن يكون أجل تقديم الكتب والدواوين بعد إعادة وضعها على الأسلوب الذي تشير به الوزارة يوم أول سبتمبر سنة 1939 وفيما يلي أسماء هذه الكتب:

العقد الفريد. الصناعتين. الخطط للمقريزي. الطالع السعيد للأدفوي. تاريخ الجبرتي. علم الدين لعلي مبارك. المستطرف للابشيهي. محاضرات الأدباء. مختارات من الأغاني. مسالك الأبصار للعمري. نهاية الأرب للنويري. طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. صبح الأعشى. النجوم الزاهرة. مختارات من مقامات الحريري. الضوء اللامع للسخاوي. حسن المحاضرة للسيوطي. مختارات من قصة عنترة. مختارات من رسائل الجاحظ. تراجم من ابن خلكان. تراجم من خزانة الأدب البغدادي. تراجم من معاهد التنصيص. ديوان أبي تمام. ديوان ابن النبيه. ديوان البحتري، ديوان المتنبي. مقدمة ابن خلدون. ديوان البهاء زهير. ديوان ابن سناء الملك. ديوان ابن نباته

هذا وستمنح الوزارة مكافأة كبيرة لكل كتاب يقبل، وقد ألفت لفحص هذه الكتب لجنة من الأساتذة: أحمد أمين، ومحمد جاد المولى بك، وعلي الجارم بك.

اللغة الفارسية في الجامعة الأزهرية

ص: 86

ندبت مشيخة الأزهر الأستاذ توفيق محمد تقي القمي العالم الإيراني نزيل مصر الآن لتدريس اللغة الإيرانية بكلية اللغة العربية. وقد بدأ الدراسة في الأسبوع الماضي وحضرها من الطلبة ثلاثون طالباً وقدمه صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم حمروش شيخ الكلية بكلمة طيبة فرد عليه مبينا فضل اللغة العربية على العالم الإسلامي وأشر إلى ما بينها وبين اللغة الفارسية من الروابط الثقافية مما يجعلهما متلازمتين.

ثم انتقل بعد ذلك إلى الدرس الأول في اللغة ولم يشأ أن يعلم في هذا الدرس الطلبة غير كلمات ثلاث وهي (الله والملك والوطن)

وسيشمل تدريس اللغة الإيرانية تاريخ الأدب الإيراني وينتظر أن يمتد تدريس هذه اللغة إلى كليات أخرى.

الدكتور زكي مبارك

مضت أسابيع وأصدقاء (الرسالة) يسألون عن السبب في احتجاب الدكتور زكي مبارك، وقد خشينا أن يكون أصيب بمرض الكسل الذي يؤاخذ به من يناوشهم من الأدباء. ومن عاير ابتلى! ثم عرفنا أنه كان في ضيافة (ليلى المريضة في العراق) وإن كتابه عنها وصل إلى ثلاثة مجلدات ضخام. وقد وصلت إلينا مقدمة هذا الكتاب وسننشرها في العدد المقبل

أما أبحاث الدكتور زكي مبارك في النقد الأدبي فسنواجه بها القراء بعد أيام

جمعية تركية مصرية

تلقينا أنه قد تألفت في مدينة القاهرة جمعية باسم (الجمعية التركية المصرية الخيرية) غرضها إيجاد صلة من التعاون والتعارف بين الأتراك والمصريين وتقوية الروح الفكرية والروحية والخيرية بين الشعبين.

وستعمل الجمعية للوصول إلى هذا الغرض على إلقاء محاضرات تتناول الموضوعات العلمية والاجتماعية والأدبية وغيرها، كما أنها ستنشئ مدرسة تقوم بتعليم اللغتين العربية والتركية لأعضائها مجاناً؛ وستقوم كذلك بمساعدة المحتاجين وإنشاء المستوصفات الخيرية لمرضاهم، وتسهيل السياحة بين مصر وتركيا، وما إلى ذلك من الأعمال التي تقوى العلاقات بين المصريين والأتراك.

ص: 87

وترحب الجمعية براغبي الانتساب إليها، وترجو منهم مقابلة سكرتيرها في مقرها رقم 51 بشارع إبراهيم باشا

إلى الأستاذ فيلكس فارس

أحييك تحية الأدب وأشكر لك تلك الروح الطيبة، وأتقدم إليك بموفور الشكر على كلمتك الممتعة التي صدرت بمجلة الرسالة الغراء بعنوان (أقلام الناشئين) فقد لمست فيها عظمة جبارة وروحاً عالية وتقديراً صحيحاً وميزاناً عدلاً

وحقاً ليس الأديب من يدبج بليغ المقالات ويبتكر غريب المعاني ويظهر للملأ أقوم الأساليب فحسب. إنما الأديب هو الذي يضم إلى ذلك نقداً صحيحاً، وتقديراً حقاً، ويحكم للأديب أو عليه بأحكام هي الصواب. فمحكمة الأدب إذا كانت عادلة فإنها مع إحقاق الحق لذويه مدرسة عالي، وثقافة جد نافعة ومرآة عامة تتجلى فيها صورة الحقائق فيشهدها الناس ويتخذون منها درساً مفيداً

وانك بما حللت به نفسية الشاب أحمد جمعه الشرباصي وكلامه قد وضعت نفسك أو وضعك أدبك موضع عظماء الحكام فشكراً لك وسلام عليك

مصطفى الصاوي

مدرس أدب بمعهد القاهرة الأزهري

إلى الأستاذ دريني خشبة

بمناسبة الفصول القيمة التي تنشرها في الرسالة الغراء عن هوميروس - أود أن أعرف هل هناك ترجمة مطبوعة للإلياذة والأوديسة، وإذا كانت هذه الترجمة حلماً لم يتحقق بعد، فلماذا لا يفكر الأستاذ في طبعها في كتاب ينشره على الناس بعد أن وال نشرها في الرسالة والرواية قلمه المهذب الرصين، وأسلوبه الساحر البليغ؟!

إن هذا أمل الأغلبية الساحقة من قراء الرسالة في مصر والشرق الذين يقدرون إنتاج هوميروس، ويعجبون بالأستاذ دريني خشبة، ويعرفون قيمة الأدب القوي الرفيع.

أحمد أحمد العجمي

ص: 88

تصويب

وقعت أخطاء مطبعية في مقال (يوم الفتوة في العراق) في العدد 292 من الرسالة تصحيحها كما يأتي:

السطر

الخطأ

الصواب

الصفحة

العمود

2

مركب الفتوة

موكب

253

1

3

لثلثمائة

لثمانمائة

254

2

21

للقائد

للتائه

254

2

28

ص: 89

البارح

البارع

254

2

9

على أن

على أن رأى

255

1

7

ولم تخاف

ومم تخاف

255

2

29

جروا

صبروا

255

1

ص: 90

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية

نجاحها وفشلها

ووسائل إصلاحها

ينفرد الأستاذ محمود تيمور بك بين من أعرف من أصدقائي الأدباء، بطبيعة مسالمة، وخلق سبط منسجم، يحاول جهد المستطاع الابتعاد عن مسالك الخصام الأدبي ومواطن الشحناء. ومجمل ما قد تسمعه منه - إذا احتكت الآراء واصطدمت الغايات في موضوع قصة أو كتاب أدبي - رأى بيديه بدون ما تصلب أو تشدد، أو حد يوقفك عنده إذا توعرت وتصعبت. يفعل ذلك ولا تفارقه ابتسامة رخية تطوى تحتها كل شيء، وتجعلك لا تطالع في تقاطيع وجهه ما نم عن تكتم مقصود، أو في رفات جفونه عن نفس كظيمة، ولكني لمحت فيه في هذه المرة وهو يحدثني عن الفرقة القومية ما لا يتفق وما وصفت من طباعه. وأحسب مرد ذلك إلى ألم في النفس من أمل خائب. وهل من ألم أشد على نفس الأديب من صدمة يصدم بها من هذه المؤسسة الثقافية في مثل هذا الوقت؟

سألته ما رأيه في الفرقة القومية، هل نجحت في رسالتها أم فشلت؟ فأجاب:

الفرقة القومية نجحت وفشلت في وقت واحد. نجحت في أنها قدمت لنا بعض الروايات الفنية في إخراج مبتكر وتمثيل متقن، نذكر من ذلك: أهل الكهف، وتاجر البندقية، والجريمة والعقاب.

وفشلت في أن ما قدمته لنا من مثل هذه الروايات كان قليلاً جداً في السنوات الماضية التي اشتغلت فيها؛ وهذا يدل على أن المجهود المبذول من القائمين بأمرها ضعيف

والأقوال كثيرة في أسباب هذا الفشل، وقد عالجها بعض النقاد في حملاتهم على الفرقة، كما أن البعض الآخر أدلى برأيه في الدفاع عنها، فمن ذلك يقال: إن الفرقة تشتري الروايات ولا تمثلها إذ يتضح لها عدم صلاحيتها أو عدم رضا بعض المقامات.

كذلك يقال إن كثيرين من المؤلفين المصريين قدموا روايات جيدة ولكنها أهملتها لأسباب لا محل لذكرها. ولو صحت هذه الأقاويل لدلت على أن الإدارة ليست مستقلة تمام الاستقلال

ص: 91

في عملها، وأنه يعوزها إدارة مركزة تتحمل كافة المسؤوليات

ويمكننا أن نتأكد من فشل الفرقة في عملها بمراجعة ميزانيتها المادية والأدبية، أي مقدار ما ربحته ومقدار ما قدمته من الروايات الناجحة لجمهور. وليس هناك سر إذا أذعنا أن الفرقة القومية تتكبد اليوم خسائر مادية جسيمة لولا الإعانة السخية التي تمدها الحكومة بها لكان قضى عليها في بدء عملها

أما الخسارة الأدبية كما أوضحنا سابقاً فالفرقة لم تقدم لنا من الروايات الناجحة خلال الأعوام الأربعة سوى ثلاث روايات أو أربع، وأنها لضعفها لجأت إلى استعارة روايات سبق تمثيلها كمجنون ليلى، وأنها تزمع في موسمها المقبل تمثيل روايات فرقة جورج أبيض القديمة، مع أن الروايات الإفرنجية الجديدة مثلاً تعد بالمئات، وأقصد بهذه الروايات تلك التي تساير نهضة الفن الحديثة. فمصر محرومة من هذا النوع، مع أن الوسائل كلها متوفرة لترجمة وإخراج هذه الروايات، كما أن مصر لها من المؤلفين المصريين المجيدين من يستطيع أن يمد الفرقة ويغذيها بروايات فنية

ويمكننا إنصافا للفرقة أن نقول أن من دواعي فشلها سببا عالمياً يشكو المسرح منه على وجه العموم، ألا وهو طغيان السينما. إنما يمكننا أن نعالج هذا الداء بوسائل في استطاعة المسرح صد تياره القوي، فلقد ثبت للفنيين أن لكل من الفنين المسرحي والسينمائي ميدانه المستقل، فإذا فهمنا ذلك حق الفهم، استطاع المسرح أن يعمل في ميدانه دون أن يخشى قضاء السينما عليه

والفرق بين السينما والمسرح أن الأول يعني بالمظاهر إذ يعطينا أروع المناظر بصورها المفصلة وجوها الحقيقي، بينما المسرح لا يطلب منه في الوقت الحاضر مثل هذه الزخارف الدقيقة، لأنه مهما أوتي من الدقة في إظهارها فانه يعجز دائماً عن تأديتها على وجهها الصحيح، ولكن يطلب منه العناية بإبراز الفكرة ناضجة قوية كما يعنى بروح الانسجام الواجب بين الممثل والجمهور، وهذا ما نطالب به الفرقة

- ماذا ترون من علاج للإصلاح؟

- لعلاج الفرقة وإصلاحها أوجه اذكر منها ما يأتي:

أولاً: هو ما سبق لنا ذكره من ضرورة تركيز الإدارة واستقلالها استقلالاً تاماً أي جعلها

ص: 92

تتحمل مسؤولية أعمالها وحدها أمام وزارة المعارف، وتوضيحاً لذلك نقول أنه يجب ألا تتلقى الإدارة أوامر لتنفذها، بل يجب أن تصدر هي الأوامر وتتحمل مسؤولية إصدارها. ويجب أيضاً أن يكون للجنة القراءة رأي استشاري فقط وتكون هي ضمن الإدارة المشرف عليها مدير الفرقة

ثانياً: يجب دعوة المؤلفين المصريين بصفة جدية، والعمل على تشجيع مؤلفاتهم بكافة الوسائل. وحسبنا أن الجمهور هو الذي سيصدر حكمه على هؤلاء المؤلفين أو عليهم، كما أن هذه الدعوة ستمهد لمؤلفين المغمورين طريقاً إلى تبوئ مراكزهم بحق

ثالثاً: إيجاد مسرح دائم للفرقة تمثل فيه طوال الموسم ليتم الاتصال بينها وبين الجمهور

رابعاُ: أرى أن يتبع في نظام المرتبات التي تدفع لهيئة الإدارة والممثلين النظام الآتي:

يدفع للموظف نصف مرتبه الحالي والنصف الآخر يكون بمثابة أسهم تدر عليه ربحاً يقل أو يكثر وفق نجاح الفرقة أو فشلها. والمقصود بذلك إشعار العامل في الفرقة موظفاً كان أم ممثلاً بمسؤولية نجاح الفرقة، وإن عليه واجباً يؤديه كأنه يعمل لفرقة هو أحد أصحابها، وليس موظفاً يتقاضى مرتبه الشهري، وسيان عنده نجحت الفرقة أو فشلت كما هي الحال الآن

خامساً: أرى تحبيباً في المسرح وتقليلاً من منافسة السينما له أن ترخص الإدارة أسعار الدخول رخصاً نسبياً بحيث تكون أسعار نصف كراسي الصالة تساوي ثمن الكرسي في السينما، وتكون أسعار النصف الآخر من الكراسي مخفضة أيضاً. كذلك يجب عمل تخفيض خاص لطلبة وطالبات المدارس، والموظفين، وأعضاء الهيئات الأدبية، والنوادي، والصحفيين بأن يكون لهم حق الدخول بنصف الأجرة

سادساً: يجب تحديد التذاكر المجانية تحديداً دقيقاً فلا تبعثر ذات اليمين وذات الشمال، كما يشاع ويقال، بعثرة زهدت الناس في الفرقة تفادياً لما يقال عن هذه الدعوات التي تأتيهم بالمجان أو تطرح عليهم طرحاً. انتهى

أشار حضرة الأستاذ الفاضل تيمور بك إلى أشياء أرى لزاماً علي توضحيها، وهي استقلال الإدارة، ونفوذ لجنة القراءة، والسعي إلى قبول بعض الروايات ورفض بعضها فالإشارة وحدها في مثل هذا الموقف لا تفي بالمرام ولذلك سأعود إليها في فرصة مواتية

ص: 93

ابن عساكر

ص: 94