المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 295 - بتاريخ: 27 - 02 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٢٩٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 295

- بتاريخ: 27 - 02 - 1939

ص: -1

‌إن في ذلك لعبرة

غني فقير. . .!

قد يكون مع بعض الفقر عزاء ورجاء وسكينة؛ ولكن فقر هذا الغني البائس الذي سأقص عليك نبأه ألمٌ لا يهاون، وهمٌّ لا يهادن، وحمَّى لا تُقلع

سأسوق إليك خبر هذا المسكين بقلمي لا بقلمه، فإن الرسالة التي كتبها إليّ كلماتٌ كحسرات النادم لا تتصل، ومقاطع كأنّات المحتضَر لا تبين. على أنني سأحاول ترجمتها لك ترجمة الشعور للشعور، لا ترجمة اللفظ للفظ، لترى كيف يشقى المرء بخطأ نفسه، أكثر مما يشقى بخطأ غيره

قال بعد أن سلم وعظم وشكر:

(قرأت وأنا في وحدتي السامة وعلتي القاتلة ما كتبتَ من مآسي الحياة في الرسالة، فراعني أن يبلغ البؤس ببعض النفوس إلى هذا الحد، وفي أرض الله رزق لا ينضب، وفي يد الناس مال لا ينفد!

ولا أكذِبُ الله لم أفطن إلى معنى الحرمان والإحسان إلا بعد أن نيفت على الستين وأقعدني الكُساح، وسلبني حريتي وثروتي وغبطتي من جعلت حياتي له، ووضعت أملي فيه

أنا أملك ربع مليون من حر المال وخالص الذهب. وكان يخيل إليّ قبل أن ينكشف الغطاء عن العين أني أسبح في بحر أحمر لا أدري أكانت حمرته من الذهب أو من الدم أو من الدمع، فإني كنت مصمت القلب لا يختلج فيه شعور ولا ترف عليه عاطفة. فلما بلغت الشاطئ لأستجم وجدتني على ساحل الحياة، هنا الموت الراصد، وهنا المرض المثْبِت، وهنا الضمير المعذب، وهنا الوارث الحاقد الذي دفنني وأنا أشعر، وورثني وأنا أنظر، وحرمني وأنا أريد. فإذا كان في بؤس الفقراء ما يستدرُّ ماء العيون، فإن في ذل الأغنياء ما يذيب شِغاف الأفئدة!

أتدري كيف جمعت هذا المال يا سيدي؟ جمعته بالسعي الدائب، والتدبير المعجز، والربا الفاحش، والشح الدنيء، والتقتير المهلك؛ ثم أمات الله في نفسي نوازع الأبوة والقرابة والإنسانية فلم تبضّ يدي في سبيل شيء من ذلك، فنما المال واتسع وامتد حتى صرفني عن الناس وشغلني عن العالم. ثم حسبتني بهذا الثراء الضخم أستطيع أن أشتري السعادة

ص: 1

والسيادة والإيمان والجنة، فإذا بي وا حسرتاه أملك مفاتيح قارون ولا أملك عصا موسى!

كان رأسمالي جنيهات معدودات ادخرتها من نفقاتي وأنا طالب بالأزهر، فلما عدت إلى بلدي استثمرتها في الربا والتجارة، فكنت أقرض الزراع المأزومين والعمال المعوزين والتواجر والأرامل بربا خمسة قروش في الشهر للجنيه الواحد. ثم اتخذت من فناء بيتي قُنا للدواجن، ومن سطحه مزرعة للبقول؛ فكنت أبيع الدجاج والأرانب من تحته، والفجل والكراث من فوقه؛ وألححت على نفسي بكبت الشهوة وقتل الرغبة إذا اعتدنا على المال، حتى كنت أرى الفاكهة عند الفاكهاني فأتقزز، وابصر اللحم عند القصاب فأهوع، ولكني إذا لمحتهما في يد إنسان تبعتهما نفسي وتحلَّب عليهما فمي. ثم اقتنيت العقار والضياع؛ أكثرها بغلق الرهان وأقلها بالشراء؛ وقمت عليها أحسن القيام بالرعاية والجباية والتوفير حتى غدت غلتها سيلاً لا ينقطع عن الأهراء والخزائن. ثم فرضت نفقة أسرتي من الطعام والإدام على مستأجري المزارع والدكاكين يؤدونها فوق الأجرة يوماً بيوم؛ واقتصرت في غذائي على الأبيضين: الماء والثريد، وفي كسوتي على جلابيب من القطن للبيت والغيط، وبذلة من الصوف للاحتفال والسفر. ثم وقع في نفسي أن حماية هذه الثروة العريضة لا بد لها من لقب (بك) فاشتريته أيام كانوا يبيعون الألقاب، بقبضة من الذهب؛ ثم شيدت قصراً وبنيت دوراً وجعلت في رأسه دائرة، فاتسع النفوذ وامتد السلطان، وصرت آمر ولا أرجو، وأغتصب ولا أختلس. ورأيت الناس يلقونني بالإجلال والهيبة لفخامة اللقب وضخامة الثروة، فازدادت نفسي شراهة ويدي كزازة؛ وأفرط عليّ الغنى فغطى على بصيرتي وبصري، فلم أعرف أن لي ديناً له حرمة، وزوجة لها حق، وأولاداً لهم رعاية؛ وعشت لنفسي بل لمالي، أقضي النهار له، وأسهر الليل عليه، حتى كرهتني أسرتي، وحقرتني عشيرتي، وسئمتني حياتي، وأصبت بمرض عقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطع المشي ولا النهوض؛ واستولى ولدي البكر على مفاتح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع؛ فأنا أشتهي كل شيء، وأبتغي كل معنى؛ ثم أنظر في يدي الجماعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة

ص: 2

الموحشة فأرى أطياف الذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهل مدامعي أنهال القطر على خدي الغائر الشاحب؛ وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة! حتى الدواء لا أناله؛ وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي وأبقى على نصفي الشاعر لأدرك بعيني وفكري وخيالي مضَّ الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.)

ثم يلي ذلك شكوى ضارعة من زوجه الفارك وابنه القاسي وصهره المتعجرف لا تتسع لها الصفحة!

سيدي البك! إن حالك لا تغني فيها دمعة تذرف ولا كلمة تقال. أدع الله معي أن يتغمد خطاياك بالعفو، ويقطع بلاياك بالموت. وإن كنت في حياتك للضعيف شقاء وللأهل حسرة، فإنك في موتك للفقير عزاء وللغني عبرة!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الشهرة والجماهير

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

في سنة 1909 كنت ألازم من الأدباء صديقنا المرحوم الأستاذ محمد السباعي صاحب كتابي (الصور) و (السمر) ومترجم قصة (المدينتين) لدكنز و (الأبطال) لكارليل و (التربية) لسبنسر وعشرات من الكتب الأخرى. وما أظن بأبناء هذا الجيل إلا أنهم يجهلونه ولا يعرفونه ولا يخطر لهم أنه عاش على ظهر هذه الأرض، وكان له فضل على الأدب الحديث. واحسب أنه سيكون عليَّ أن أعرفهم واذكرهم به إنصافاً له وقضاء لحقه على فإن له لدينا في عنقي

وكان السباعي رحمه الله منهوماً بالأدب لا يشبع، وعاشقاً لا يسلو؛ وقلما رآه أحد إلا وفي يده كتاب أو كراسة. ولا أدري ماذا لفته إلى ابن الرومي، ولكن الذي أدريه أنه كان يذهب إلى دار الكتب وينسخ ديوان ابن الرومي في كراسات ويحفظ أكثر شعره عن ظهر قلب فأعداني بحب هذا الشاعر المنكود الحظ فقلدته واستنسخت شعره؛ فلما كملت عندي نسخته شرعت أبيضها في كراسات بعد تصحيح ما يوفقني الله إلى تصحيحه من الأغلاط التي لا آخر لها في نسخة دار الكتب

وكان صديقنا الأستاذ السيد عبد الرحمن البرقوقي قد أصدر مجلة البيان فاقترح عليَّ أن أكتب عن ابن الرومي ففعلت؛ وكان هذا حافزاً آخر لدرسه، ولكن الحرب صرفتني عن مواصلة الكتابة فانقطعت عنها إلى سنة 1924. وفي أثناء ذلك ظهر الجزء الأول من ديوان ابن الرومي شرح المرحوم الشيخ شريف ثم الثاني بعد وفاته، ومختارات من شعر ابن الرومي جمعها الأستاذ كامل الكيلاني، فوصلت ما انقطع وعدت إلى الكتابة عن ابن الرومي في جريدة الأخبار وجمعت ذلك كله ونشرته في كتابي (حصاد الهشيم) وكان من توفيق الله بعد ذلك لهذا الشاعر المغمور أن عنى به صديقنا الأستاذ العقاد فتناوله بالبحث الوافي والدرس الدقيق في كتابه الجليل عنه

وهكذا برز ابن الرومي من ظلمة الخفاء ونضيت عنه الأكفان التي ظل ملفوفاً فيها أكثر من ألف سنة

خطر لي وأنا أدير هذا في نفسي أن العالم من أبناء اللغة العربية أكثر من مائة مليون، وأن

ص: 4

من هؤلاء نحو عشرة ملايين يقرءون ويكتبون، فكم من هؤلاء يقرأ ابن الرومي والمتنبي والمعري والشريف وأبا تمام والبحتري وأبا نواس وغيرهم وغيرهم. . .؟ لا أكثر من بضعة آلاف قليلة. وجل هؤلاء يقتنون الكتب كما يقتنون التحف ويرصونها للزينة لا للاطلاع، ويتخذونها كما يتخذون السجاجيد والزهريات والصور وما إلى ذلك. والذين يفتحونها، منهم من يفعل ذلك للتسلي وتزجية الفراغ، والأقلون هم اللذين يعنون بالدرس والتحصيل؛ فهم في هذا العالم العربي الطويل العريض لا يعدون بضع مئات. فكأن خلود الأديب في إخلاد الناس ليس معناه أن السواد الأعظم منهم يعبئون به، بل معناه أن قلة ضئيلة هي التي يرجع إليها الفضل في بقاء اسم الأديب مذكوراً وآثاره منشورة

وهذا هو الخلود - ثلاثة أو أربعة أو أكثر من المجانين بشيء لا يزالون يقرعون الطبول باسم من الأسماء ويلحون به على الناس حتى يوقظوا النفوس لهذا الاسم ويوحوا إليها أن صاحبه جدير بالذكر وأن آثاره تستحق الاقتناء

ومن كان لا يصدق فليسأل نفسه: هل شهرة المتنبي مثلاً ترجع إلى تعليق رجل الشارع به. . . أليس الواقع أنه لو كانت شهرته رهناً بعناية الرجل العادي به لما طال عمرها أكثر من بضعة أيام - أسبوع على الأكثر. . . والمتنبي مه ذلك أشهر شعراء العرب، وحكمه لا تزال تدور بها الألسنة وتجري بها الأقلام، وديوانه يعاد طبعه كل بضعة أعوام مرة. ولكن كم نسخة تطبع من ديوانه في كل مرة؟ ألفان. . ثلاثة آلاف. . أربعة آلاف. . في عالم عربي يبلغ عدد القراء فيه عشرة ملايين أو خمسة على الأقل إذا جادلت. . . فما ظنك بحظ الذين هم أقل منه شهرة. .؟

والمدارس والجامعات تخرج في كل عام - في هذا العالم العربي - عشرات من الآلاف تلقوا دروساً في الأدب، وعرفوا أسماء الأدباء وألموا إلى حد ما بخصائص فنونهم ومميزات آثارهم، ومع ذلك تبقى ثلاثة آلاف نسخة من ديوان شاعر كالمتنبي محتاجة إلى أكثر من عشرات سنوات لتنفد. . . ولولا أن في كل جيل بضعة مجانين بالأدب لا يكفون عن الصياح بأن المتنبي شاعر فحل وأنه رجل عظيم، وأنه جدير بأن يقرأ ويدرس لبقيت هذه الآلاف القليلة من نسخ ديوانه مكدسة في مخازنها لا تجد لها طالباً

هؤلاء المجانين القليلون هم الذين ينقذون الشهرات من الفناء ويبقونها حية جيلاً بعد جيل.

ص: 5

فإن لكل جيل مجانينه الذين لا يزالون يبحثون وينقبون حتى يعثروا على عظيم مقبور كما يفعل المنقبون عن آثار المدنيات التي عفى عليها الزمن - لا يعروهم فتور ولا يدركهم ونى؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أنه لا خوف من بقاء عظيم مدفوناً وحقه مهضوماً وفضله مطوياً أو مجحوداً. وقد لا يكون في هذا ما يعزى العظيم، ولعله شبيه بمنح القتيل في ساحة الحرب وساما على سبيل الاعتراف ببسالته، والشهادة بحسن بلائه، ولكنه على كل حال يجدي بأن يمنع اليأس من إنصاف الدنيا ولو بعد الأوان.

وحتى حين يفوز المرء في حياته بالشهرة التي يستحقها - أو لا يستحقها كلها - عند الجماهير يكون الفضل في بقاء هذه الشهرة للقلة المتحمسة، لا للكثرة التي لا تلبث أن تذهل عما أحبت ومن أحبت. وبهذا وحده تظل الجماهير تذكر وهي لا تفعل ذلك عن اقتناع أو فهم وإدراك صحيح لاستيجاب الشهرة، بل لأن هؤلاء المجانين الذين لا يخلو منهم زمن يقولون لها عشرة آلاف مرة أو عشرين ألف مرة إن فلاناً عظيم وحقيق بالذكر والتخليد، فتصدق وهي لا فاهمة ولا مدركة. ويقصد آحاد من هذه الجماهير التي فعل الإيحاء في نفوسها فعله - إلى المكاتب ويشترون ديوان المتنبي ويضعونه على الرف ويفركون أيديهم وهم فرحون باقتناء هذه التحفة التي آمنوا بأنها خالدة وأنها أبقى على الزمن من الزمن

وتسأل: لماذا يجن هؤلاء الأقلون بخارجيات السلف، فلا تجد جواباً يقنع العقل وتسكن إليه النفس. ولن تعدم من يقول لك إن سر هذا الجنون هو ما في هذه الآثار من الحق والحكمة والفكاهة والجمال، ولكن هذه لا تزال ألفاظاً تتطلب معانيها التحديد، ومن العبث أن تلعب لي بها وتصنع لي منها توافيق وتباديل، وتزعم أن هذه هي المعاني التي تفهم من هذه الألفاظ التي نشعر بدوران معانيها في النفس وتعيننا العبارة الدقيقة عنها. . . أو هذا على الأقل حالي أنا معها. وإذا كان شاعر مثل (كيتس) يستطيع أن يقنع نفسه بأن الجمال هو الحق، وأن الحق هو الجمال، ولا يحتاج بعد ذلك إلى كلام أو شرح أو بيان، فإني أنا مع الأسف لا يكفيني هذا وإن كنت آنس من نفسي حب كلمته هذه والسرور بها سروراً ليس مرجعه إلى الفهم.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 6

‌اسمعوا صيحة الحق

للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات:

ما هذا الذي نشرته في مجلتك لبعض أدباء لبنان؟ وكيف جاز أن تقول: (إن في الاطلاع عليه فائدة من جهة صوابه ومن جهة خطأه) وهو بعيد كل البعد من الصواب؟

أفي الحق أن أدباء لبنان ينافسون أدباء مصر؟

ليت ذلك كان صحيحاً. فقد شقينا من غير طائل في البحث عن المنافسين حتى خشينا أن تفتر عزائمنا لقلة من نصاول ونقاتل من أقطاب البيان

إن ذلك الأديب اللبناني دلنا على أن العقل في بعض البيئات الأدبية في لبنان لا يزال في طور الطفولة البريئة، وكل شيء من الأطفال الأبرياء مقبول

ألم يقل إن مصر لم يصدر فيها كتاب واحد ذو قيمة لمؤلف مصري صميم؟

فإن لم يكن هذا الحكم من أحكام الأطفال الأبرياء، فكيف تكون أحكام الأطفال الأبرياء؟

ولنفرض أيها الأخ أن مصر ليس لها وجود أدبي كما يتوهم بعض أهل لبنان، فهل لكم أن تدلوني على الأسباب الصحيحة التي قضت بأن يبذل المستعمرون ما يبذلون ليشوهوا سمعة مصر في الأقطار العربية؟

هل لكم أن تدلوني على الأسباب التي قضت بأن يشقى المستعمرون في الحيلولة بين مصر وبين الأقطار العربية؟

إن المستعمرين يعرفون أن مطامعهم في الشرق لن تتحقق إلا يوم تضعف اللغة العربية ويضعف سحر المصحف؛ وهم يعرفون أن مصر تستقتل في سبيل اللغة العربية وفي سبيل المصحف؛ ولبعض ساستهم الكبار كلمة مأثورة وصلت إلى أسماع من في القبور وإن لم تصل إلى آذان بعض الأحياء!

وأنا لا أتهم من يشوهون سمعة مصر الأدبية بأنهم يخدمون بعض الأغراض الشيوعية أو الاستعمارية، فذهني لا يسيغ أن يكون فلان وفلان من أهل الضلال؛ ولكني أرجو أن ينتبه فلان وأشياع فلان إلى أنهم يخدمون المستعمرين من حيث لا يشعرون. والغفلة قد تكون أقبح من الإثم الصريح

ص: 8

وما الذي يغنم بعض أدباء لبنان من الطعن في الثقافة المصرية؟ أيستطيعون أن يدعوا لأن في مقدورهم أن يمدوا أهل بلادهم بكل ما تتطلع إليه الأذواق والعقول؟

أيستطيعون أن يدعوا أن أهل بلادهم من القناعة والزهد بحيث يكتفون بما يصدر في لبنان من مؤلفات وجرائد ومجلات؟

أيستطيعون أن يدعوا أن أدباء مصر لا يملكون من وسائل العناد والغطرسة ما يملك بعض أدباء لبنان يوم يستعر الجدال؟

أيستطيعون أن يدعوا أننا سنصفح أبد الدهر عن تطاول بعض الناس فلا نجزيهم عقوقاً بعقوق؟

لقد زرت لبنان، فماذا رأيت؟

رأيت الطبيعة ورأيت الناس، ويعز عليّ أن أصرح بأن بعض الناس في لبنان يصدون النفوس عن التطلع إلى جمال الطبيعة في لبنان.

وما الذي يهمنا من الجبل وهو صامت لا ينطق؟ وما الذي يهمنا من جبل لبنان يوم يصح أن أبناءه يؤذون العروبة جاهلين أو عامدين؟

لقد تعقبتني إحدى مجلاتهم وأنا في بغداد فكتبت تقول:

(سفير العروبة المصرية في العراق يطعن صدر لبنان)

وقد كتبت رداً مفحماً على ذلك المقال الجائر الظلوم، ثم طويته ترفقاً بلبنان الذي أرجو أن يظل بإذن الله من حصون اللغة العربية. وأنا مستعد لنشر ذلك المقال إن أذن أصدقائي الكرام من أهل لبنان

إن أدباء مصر يملكون من الثروة الذوقية ما لا يملك بعض الناس، فأدباء مصر هم الذين يشيدون بمحاسن الأقطار العربية، وهم الذين يضفون الجمال على كل بلد يحلون فيه؛ والى أقلامهم يرجع السحر الذي يتمتع به جبل لبنان

وأنا مع ذلك أشهد بأننا نرد إلى أهل لبنان بعض ما طوقوا به أعناقنا من وداد: فلمصر في لبنان مكانة عالية. وفي أدباء لبنان رجال أبرار لا يذكرون مصر بغير الجميل؛ ومن أجل هؤلاء الرجال الأبرار تتسع صدورنا لما نسمع من فلان وأشياع فلان، لأننا نعرف أن المرء لا يمثل أمته حين يخطيء، وأنما يمثلها حين يصيب

ص: 9

ثم ماذا؟

قالوا: إن مصر مدينة في بعض نشاطها الأدبي إلى ناس كان أجدادهم من لبنان

وهذا حق

ولكني أتحداكم أن تثبتوا أن لبنان نبغ فيه أديب واحد ولم يكن مصدر نبوغه الاتصال بالثقافة المصرية

أتحداكم أن تثبتوا أن في مقدوركم أن تنقلوا إخوانكم في مصر إلى مرابعهم في لبنان

إن الأدباء السوريين واللبنانيين لم يذوقوا طعم المجد الأدبي إلا بعد أن شربوا ماء النيل، وفلان وأشياع فلان سيظلون من النكرات إلى أن يذوقوا ماء النيل

فتعالوا إلينا أيها الإخوان لنحولكم إلى رجال عظماء يسيطرون على الأدب والتاريخ

إن القاهرة تصنع بعقول العرب في العصر الحديث ما كانت تصنع بغداد في عصر بني العباس؛ فإن استطعتم طمس نور الشمس فامضوا في عنادكم آمنين!

أتشتم مصر في لبنان وبفضل مصر تنبه العرب إلى جمال لبنان؟

ثم ماذا؟

ثم زعم فلان وأشياع فلان أن أمثال الدكتور طه حسين والدكتور هيكل والأستاذ أحمد أمين والأستاذ لطفي جمعة لم يصنعوا شيئاً وأنهم في مؤلفاتهم لم يكونوا مبتكرين

فهل يستطيع فلان وأشياع فلان أن ينكروا أن لهؤلاء الرجال فضلاً عظيماً في نشر الثقافة الأدبية والعلمية والذوقية؟

هل ينكر أحد أن الدكتور طه حسين رجل موهوب وأن صوته وصل إلى المشرقين؟

هل ينكر أحد أن الدكتور هيكل من أعاظم المتحدثين عن شخصية الرسول؟

هل ينكر أحد أن الأستاذ أحمد أمين وضع أحجاراً متينة في تاريخ الحضارة الإسلامية؟

هل ينكر أحد أن لطفي جمعة له أبحاث وفصول تعد من الروائع؟

ومن هو الأديب الذي يسمح له ضميره بأن يتجاهل أقدار هؤلاء الرجال؟

قد يتطوع أحدكم فيبعث ما كنت قلته في طه حسين وأحمد أمين وأنا أعرف أني قلت في هذين الرجلين ما قلت باسم النقد الأدبي، ولكني مع ذلك أعرف أنهما من أقطاب هذا العصر، وليس لهما نظير في لبنان أو غير لبنان، وسيكون لهذين الرجلين صدى مسموع

ص: 10

في الأقطار العربية يمتد إلى أجيال وأجيال

احب أن أعرف لحساب من يتعب بعض الناس أنفسهم في الغض من الثقافة المصرية؟ فمن المستحيل أن يكون هذا التحامل خالصاً لوجه الله والأدب. ومن البعيد أن تكون تلك النزوات بريئة من شوائب الأغراض

لقد آن أن نعرف أن الاستعمار يغزونا من كل جانب. آن أن نعرف أن الاستعمار يريد أن يتخلص أولاً من تفوق مصر في خدمة اللغة العربية، لأنه يفهم جيداً أن سيطرة الثقافة المصرية تقوم بفضل اللغة العربية، وهو يرجو أن يخرس لسان العرب لتحتل مكانه ألسنة روما ولندن وباريس

الاستعمار يفهم أن القاهرة صارت محور الحركة العربية، ففيها تُعقد المؤتمرات، وفيها يلتقي العرب بعضهم مع بعض، وفيها تحل المعضلات، وإليها يرجع الأمر في فض الخصومات العربية، وهو من أجل ذلك يبذل جهده الأثيم في تنفير العرب من الثقة بالأمة المصرية

فكيف يغفل بعض إخواننا في لبنان عن هذه الحقائق؟

كيف ينسى بعض إخواننا في لبنان أن للمستعمرين مكراً يخفي على إبليس؟

كيف يجهل بعض إخواننا في لبنان أن تلك الحركة قد تسوق أهل مصر إلى نفض أيديهم من صداقة لبنان؟

وهل يظنون أن أهل مصر من الملائكة وأنهم لا يعرفون في جميع الأحوال غير الصفح الجميل؟

أرجو أن يعرف بعض إخواننا في لبنان أننا نلاقي كثيراً من العًنت والمشقة في تبديد ما يحيطون به أغراضهم من ظلمات وشبهات.

أرجو أن يعرفوا أن قالة السوء قد تطِّوق أعناقهم إذا فكرت الصحافة المصرية في دفع ما يوجهون إلى مصر من زور وبهتان

أرجو أن تعرفوا جميعاً أن يد الله مع الجماعة. أرجو أن تعرفوا أن العروبة تستطيع أن تنسى أن في الدنيا بلداً اسمه لبنان يوم تثق بأنه يضع الأشواك في طريق الوحدة العربية، ولكن ذلك اليوم سيكون مشئوماً لأن العرب يؤذيهم أن يضيع لبنان

ص: 11

هل تصدقون أنني دافعت عنكم في دمشق وبغداد؟

هل تصدقون أن الحزن يفعم قلبي كلما تذكرت أن الدسائس الاستعمارية قد تبعدكم عنا إلى غير معاد؟

هل تصدقون أني طربت حين رأيتني أُشتَم في بعض مجلاتكم باللغة العربية لا باللغة الفرنسية؟

وأؤكد لكم أيها الإخوان أني لا أتصدق عليكم بهذا العطف الصادق، فلو جُمع ما نُشر في جرائدكم ومجلاتكم من الدعوة إلى الثقة بمصر لتكوّن منه محصولٌ أدبيٌّ نفيس. ونحن نعرف منزلتنا في قلوبكم، ونحرص على أن تبقوا أصدقاء أوفياء، ولكنكم تعرفون أن الطبيعة الإنسانية يغلب عليها الضعف، فهي قد تذكر السيئات وتنسى الحسنات. فأرجوكم بالله ألا تحبطوا أعمالكم بمظاهر الغدر والجحود، فقد تلقون منا من يقابل العدوان بالعدوان

أما بعد فهذه كلمة صريحة أردت بها وجه الحق، وما أنكر أن فيها بَدَوات لا تخلو من خشونة وعنف، ولكن يعزيني أني كنت فيها مخلصاً كل الإخلاص

ولكم أن تثقوا بأن مصر لن تقف إلا حيث تحبون، ولن تروا منها غير الصدق والوفاء.

زكي مبارك

ص: 12

‌من برجنا العاجي

هل ينتظر اللغة العربية والأدب العربي الحديث في مصر مستقبل سعيد؟ لقد بدرت البوادر بشروع بعض الأجانب في الإقبال على تعلم اللغة العربية والاهتمام بمعرفة كتاب مصر البارزين. من رأيي أن الحياة لن تدب في هذه اللغة وهذا الأدب إلا إذا ظفر بقراء كثيرين من هذا العنصر النشط المثقف. وإني لأتخيل اليوم الذي يتم فيه ضم أجانب مصر أو أغلبهم إلى حظيرة قرائنا في لغتنا. هؤلاء الأجانب الذين يعدون القراءة غذاء ذهنياً له ضرورته في حياتهم اليومية، شأنهم في ذلك شأن الحاجات الأولية؛ هؤلاء الآلاف القليلة من الأجانب الذين استطاعوا أن يكفوا لرواج حوانيت الكتب الأجنبية التي لا يخلو منها شارع كبير في أي مدينة كبيرة من مدن هذه الدولة العربية اللغة؛ هؤلاء النفر الذين استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم صحفاً ومجلات بلغاتهم المختلفة وأن يضمنوا لها حياة وازدهاراً. ترى ما الذي يحدث لو أن هؤلاء فهموا أخيراً أن استقلال مصر وسيادتها معناه سيادة لغتها وآدابها وفنونها على الأقل فوق أرضها وفي حدود بلادها وأن الخير والكياسة والمصلحة تقضي عليهم أن يكفوا عن تجاهل لغة الدولة وأن يعيشوا بيننا كما يعيش كل أجنبي في دولة محترمة، يعني بتعليم لغتها والاطلاع على أدبها ومسايرة الحياة الذهنية والاجتماعية فيها؟ لا ريب عندي، لو وقع ذلك الحدث، في أن أدبنا سيتغير ويتطور في مثل لمح البصر تطورات تثير الدهشة والعجب. ليس فقط لأن نتاج فكرنا سيرتفع شأنه في السوق، بل لأنه سيرتفع في ذاته من حيث الصنف والقيمة. فإن القارئ الجيد يخلق الكاتب الجيد، و (الزبون) المحترم يوجد الحانوت (المحترم).

لكن. . . كيف نحمل الأجانب على ارتياد (حانوتنا) الفكري وأكثره قد

استقرت في نفسه بغير علة فكرة الاستخفاف بلغتنا؟ ما هي الوسائل

التي ينبغي أن نتخذها لنزع هذه الفكرة عنه وترغيبهم في بضاعتنا؟

هذا سؤال مطروح على القراء المثقفين

توفيق الحكيم

بين القديم والجديد

ص: 13

لأحد أساطين الأدب الحديث

عاب الأستاذ الغمراوي على عميد كلية الآداب الدكتور طه أنه اختار في كتاب (حديث الأربعاء) مجموعة من شعر المجون العباسي، ولا أريد أن أتعرض الآن لهذا الاختيار بنقد مطول وإن كنت أعتقد أنه جعل الكتاب غير لائق إلا لقراءة المؤرخ الباحث في آداب الشعوب في العصور المختلفة، وأنه ليس للقراء عموماً؛ وهذا لم يكن رأي مؤلفه عندما ألفه، فإني أذكر أنه عاب على الشيخ الحضري حذفه المجون من نسخة الأغاني التي هذبها وقال: إن دارس الأدب لا بد أن يقرأ هذا الشعر كيلا يخطئ في الحكم على عصره. وكان الدكتور يجد له طلاوة خاصة يستحق من أجلها الصيانة. ولا ادري هل الدكتور لا يزال على هذا الرأي أم أن جلال المنصب قد حوره؛ لكني أريد أن استخلص من ذكر الأستاذ الغمراوي كتاب (حديث الأربعاء) حجة على الأستاذ الغمراوي؛ فالشعر الذي اختاره المؤلف فيه شعر عربي، والأستاذ الغمراوي يقول إن الأدب الأوربي هو الذي أفسد المذهب الجديد في الأدب بمجونه. فكأنما يريد الأستاذ الغمراوي أن يقول إن اطلاع الدكتور طه حسين بك على الأدب الأوربي هو الذي دعاه إلى اختيار شعر الحسين بن الضحاك وشعر أبي نواس وغيرهما. فإذا كان هذا قصده ومعناه فأن الأستاذ الغمراوي يكون على حد اصطلاح الأوربيين كمن يضع العربة أمام الفرس بدل أن يضع الفرس أمام العربة وهو الترتيب الطبيعي، لأن الدكتور طه قرأ الشعر العباسي قبل أن يقرأ الأدب الأوربي، وتأثر بالشعر العربي قبل أن يتأثر بالشعر الأوربي، وإني واثق أنه اطلع في الأدب الأوربي على الوقور وغير الوقور من الشعر. اطلع على شعر سوفوكليز ويوربيدس وإسكيليس. فهل يريد الأستاذ الغمراوي أن يقول إن اطلاع الدكتور طه حسين على شعر سوفوكليز مثلاً هو الذي أغراه باختيار شعر الحسين بن الضحاك؟ إنه إن قال هذا القول دل على أنه لم يطلع على شعر سوفوكليز وقس على ذلك غيره من الشعراء ولا أدري أي الشعراء الأوربيين هم الذين أوعزوا إلى الدكتور باختيار شعر مجان العرب. هل قراءته لشعر بودلير أم قراءته لشعر فرلين؟ إني لم أقرأ في شعر بودلير وفرلين (وقد قرأت بعضه) ما يماثل بعض شعر أبي نواس والحسن بن هاني في صراحته. ولا أظن أن

ص: 14

الجمهور الأوربي كان يطيق من بودلير أو فرلين صراحة كصراحة أبي نواس والحسين بن الضحاك. إذاً يستحيل أن يكون بودلير أو فرلين هو الذي أغرى الدكتور باختيار شعر الحسين بن الضحاك أو شعر أبي نواس، لأن الأشد صراحة في المجون هو الذي يبيح ما هو أقل منه شدة. فأبو نواس هو الذي يبيح فرلين وبودلير، وليس بودلير هو الذي يبيح أبا نواس. وإذا عرفنا أن الدكتور تأثر بالشعر العربي الأشد صراحة في صباه ولم يطلع على الشعر الأوربي الأقل صراحة إلا بعد أن رسخ أثر الأول في نفسه علمنا أن ما زعمه الأستاذ من أثر الشعر الأوربي خاصة والأدب الأوربي عامة في التأثير على المؤلف وفي تعيين اختياره لما اختار في كتاب (حديث الأربعاء) زعم غير رجيح. وعلى هذا القياس يكون أيضاً زعمه غير رجيج في تعليل اختيار الدكتور طه حسين بك للقصص الفرنسية التي كان ينقلها إلى العربية، وكان ينشرها هيكل في السياسة الأسبوعية، وهي القصص التي يشكو منها الأستاذ الغمراوي فإنها مهما بلغت في صراحتها، أقل صراحة مما قرأه الدكتور طه في صباه من القصص العربية في كتاب (مصارع العشاق)، وغيره؛ وإذا يكون مثل الأستاذ الغمراوي في تعليله كمثل من يحسب السبب نتيجة والنتيجة سبباً، أو كمن يقوم بتجربة كيميائية في المعمل فيبدأ التجربة من آخر خطواتها سائراً إلى أولها. والحقيقة أن الأستاذ الغمراوي أحياناً في مقالاته يتخلى عن التعليل الطبيعي ويفضل التعليل المصطنع، ويتخلى عن ترتيب المؤثرات الطبيعي ويفضل الترتيب المصطنع. فهو مثلاً يقول إن في المذهب الجديد شططاً، وبدلاً من أن يعلل هذا الشطط التعليل الطبيعي القريب بما اكتسبته العقول والنفوس من شغف بتذوق التجارب النفسية والعقلية بسبب الحوافز الاجتماعية وغير الاجتماعية، وهذا الشغف قد يؤدي إلى الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بازدياد الحرية السياسية والقانونية وهي قد تؤدي إلى هذا الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بأنه من أثر نشر الطباعة العربية الحديثة للكتب العربية التي فيها أمثال ما يشكو منه كما علل المؤرخون الأوربيون بعض الشهوات في نزعة التجديد والإحياء في القرن السادس عشر في أوربا بطبع كتب الأدب الإغريقي القديمة - أقول بدل أن يأخذ بهذه الأسباب الطبيعية التي لها نظائر في التاريخ - والتاريخ يفسر بعضه بعضاً - تراه يغفل كل هذه الأمور ويقول: إن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين رأوا أنهم لا يستطيعون النيل من الإسلام قدر ما

ص: 15

ينالون منه بمؤلفات الدكتور طه حسين ومؤلفات هيكل باشا القديمة قبل كتاب (حياة محمد) و (منزل الوحي). وقد يسيء القارئ فهم تعليل الأستاذ الغمراوي ويتساءل: هل يعني الأستاذ الغمراوي أن نزعة التجديد دسيسة مقصودة مدبرة؟ أرجو ألا يجسم الوهم المسألة للأستاذ إلى هذا الحد، فإنه عالم قد اختبر البحث العلمي، وهو كالعلماء لا بد أن يترك التعليل البعيد ما دام هناك تعليل طبيعي له شواهد ونظائر في التاريخ كما أوضحنا بذكر ما كان من الشطط في نهضة إحياء العلوم في أوربا في القرن السادس عشر. فلو أن مؤرخاً زعم أن الوثنيين خفية راموا القضاء على المسيحية ببثهم الشهوات والمفاسد في الكتب الإغريقية ما كان تعليله بعيداً عن طريقة الأستاذ الغمراوي في تعليل شطط النزعة الحديثة إلى التجديد. أو لو أن مؤرخاً زعم أن الفرس والروم في صدر الإسلام أرادوا النيل من الإسلام ببثهم المفاسد والترف حسداً وحقداً ما كان تعليله بعيداً عن تعليل الأستاذ. أو لو أن مؤرخاً زعم أن مفكري الإغريق حاولوا إفساد العقائد الإسلامية في عصر الدولة العباسية ببثهم روح التفكير الحر المطلق من قيود الدين حنقاً وحقداً على الدين الإسلامي ما كان تعليله بعيداً عن تعليل الأستاذ. والحقيقة أننا ربما نكون قد فهمنا من كلامه عن أعداء الدين الإسلامي ومحاولاتهم القضاء على الدين الإسلامي بنزعة التجديد ومؤلفات المجددين المصريين أكثر مما يقصد الأستاذ، لأننا لا نستطيع أن نتصور أن عالماً جليلاً كالأستاذ الغمراوي يريد أن يقول: إن بين الدكتور طه مثلاً وبين أعداء الدين من الأوربيين تفاهما واتفاقاً على الدين الإسلامي. إنما ينبغي ألا يترك الأستاذ لجمهور القراء موضع لبسٍ، لأن اللبس في هذه الأمور قد تكون له عواقب خطيرة. ولا أدري لماذا اعترف الأستاذ الغمراوي بما في الأدب القديم من مفاسد ولم يستطع أن يعترف بما لهذه المفاسد من أثر في الأدب الجديد، وما هذه إلا خطوة بعد تلك الخطوة، وهي نتيجة لها؛ ولا يستطيع أن يخطو خطوة إلا وهو ينظر إلى خطوته الثانية؛ وقد خطونا خطوتين فاعترفنا أن الأدب الجديد به عيوب وأن بعضها يرجع إلى بعض المؤلفات الأوربية؛ فالخليق بالأستاذ أن يعترف بأن بعضها أيضاً أو أكثرها يرجع إلى قدوة المؤلفات العربية؛ والخليق به أن يعترف أن ليس كل الأدب الأوربي من نوع القصص التي كان يشكو من نشر السياسة الأسبوعية لها، وأن يتعرف أنه إذا كان بعضها صريحاً في تصوير الشهوات فإن بعضها جليل؛ وأن الصريح

ص: 16

منها أقل صراحة من بعض ما في كتب القصص العربية؛ وأن يعترف أن شاعراً كشكسبير لا خطر منه على الإسلام، فلا هو مبشر بالمسيحية ولا هو ملحد وداعية للإلحاد. وما يصدق في الكلام عن شكسبير يصدق في الكلام عن ألف شاعر وألف كاتب من شعراء الأوربيين وكتابهم. وخليق بالأستاذ أن يعترف أيضاً أن بين الكيميائيين وعلماء الطبيعة الأوربيين من هم أشد خطراً على الإسلام من كثير من أدبائهم، لا لأنهم يحقدون على الإسلام ويريدون الكيد له، بل لأن علمهم الطبيعي شط بهم عن الأديان. وأظن أن لنا بعض العذر إذا فهمنا بعض ما فهمنا من قول الأستاذ عن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين إذ قال أنهم أرادوا ألا يهاجموا مواجهة بل بحركة التفاف، وأن حركة الالتفاف هذه هي نزعة بعض الكتاب المصريين إلى التجديد، وذكر مؤلفات الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب ومؤلفات هيكل القديمة، فبالله كيف لا يكون للجمهور العذر إذا فهم من قول الأستاذ الغمراوي أن الدكتور طه حسين وهيكل من دعاة أعداء الدين الإسلامي ومن عمالهم السريين القائمين بحركة الالتفاف هذه بدل مهاجمة الدين الإسلامي مواجهة، وعلى فرض أن تأليف الدكتور طه كتاب (على هامش السيرة) وتأليف هيكل (حياة محمد) و (منزل الوحي) لم يقنع الأستاذ الغمراوي بخطأ رأيه فيهما ألا يقنعه تأليفهما هذه الكتب أنهما لا يريدان معاونة الحاقدين على الدين الإسلامي من الأوربيين للقيام بحركة الالتفاف كما يقول الأستاذ وأنه إن كان في تأليفهما القديم أو الحديث شطط فأسبابه ما أوضحنا من الأسباب الاجتماعية، ومن شغف جديد بالبحث قد يخطئ وقد يصيب، لا لأنهما يريدان معاونة الحاقدين على الدين في القيام بحركة التفاف. ولو أن كاتباً في أوربا في بدء نهضة الأحياء في القرنين الرابع عشر والخامس عشر اتهم رواد النهضة في أوربا بأنهم يريدون القيام بحركة التفاف معاونة لمن يكره المسيحية من المسلمين لما تعدى قوله قول الأستاذ الغمراوي. ولا أظن أن الأدباء في أوربا يسعون سعياً حثيثاً لمهاجمة الإسلام؛ وإن كان بعض الكتاب الأوربيين يفعل ذلك فإنه لا يفعله كأديب ولا كمفكر عالم ولكن كمبشر بدين آخر. وإذا كان بين أدباء المسلمين ومفكريهم وبين الأدباء والمفكرين في أوربا صلة فهي ليست صلة عداء لدين بل صلة بحث وتفكير قد يخطئ وقد يصيب. وبالرغم من أن الأستاذ الغمراوي قد فسر قوله (إرادة تغليب دين على دين) تفسيراً جديداً فإنه يحوم ويحلق

ص: 17

دائماً في جو المعنى الذي فهمناه من قوله.

إن المؤرخين المعاصرين في أوربا يميل الكثير منهم إلى الاعتقاد أن النزعة إلى التجديد في أوربا في القرن السادس عشر كانت لا بد واقعة بمحاسنها ومفاسدها لأسباب أصيلة في دول أوربا حتى ولو لم يكن للعرب أثر فيها. وربما يدعونا هذا الرأي إلى بحث رأي يقابله والى أن نتساءل إلى أي حد كان التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحديث في مصر مؤدياً حتماً إلى النزعة إلى التجديد بمحاسنها ومفاسدها حتى ولو لم يكن للأدب الأوربي أثر فيها قل أو كثر وإني واثق أن الأستاذ لو بحث هذا الموضوع وجد في هذا الرأي من الحقائق ما يصح الاعتراف به حتى ولو لم يقره كله على علاته.

قارئ

ص: 18

‌على هامش الفلسفة

الحقائق الأخلاقية أيضاً

للأستاذ محمد يوسف موسى

قلنا إن من الخير والواجب عند تاريخ التقاليد والحقائق الأخلاقية أن يلاحظ الباحث ما كان من اختلاف بل تناقض أحياناً بين كثير من التقاليد الضيقة، وما كان من تشابه عجيب وانسجام نادر بين المثل الأخلاقية العليا التي عارض بها دعاة الإصلاح وفلاسفة الأخلاق ومعلمو الإنسانية تلك التقاليد. وذلك ما يدعو للقول بأن هؤلاء المصلحين كانوا يصدون عن معين واحد فيما وقفوا أنفسهم على تحقيقه

من الممكن أن نذكر في معرض التمثيل لذلك في الأزمنة العريقة في القدم حكيمي الهند والصين (بوذا وكونفشيوس) وسقراط الإغريق وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماءهم، وأخيراً المسيح ومحمداً عليهم أفضل الصلاة والسلام

في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية يجد الباحث تعاليم أخلاقية صالحة حقاً، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس. منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته. هذا بعض التعاليم السلبية؛ وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى ونكران الذات والتضحية في سبيل الغير. يقول بوذا نفسه في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة:(إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن). وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان هو (أن أرنباً لا يملك قوته عز عليه أن يرد سائلاً طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرجع خائباً) هذا المثل يبين بإعجاب كيف يجب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، بل وبذات نفسه أيضاً. ويحضرني في هذه المناسبة قول الشاعر العربي:

ولو لم يكن في كفه غير نفسه

لجاد بها فلْيتق الله سائله

وإذا تركنا الهند إلى الصين نجد كونفشيوس حكيمها الأكبر يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كأن يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، بالشفقة البنوية، بالإخلاص الأخوي، بالأدب الذي منبعه القلب، بالمعاملة الحسنة لجميع الناس على السواء. بعض كلماته تمثل نمطاً عالمياً من التفكير

ص: 19

وأخلاقاً تفرض نفسها فرضاً. هاهو ذا يقول: (من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفاً ويعلم أنه عارف، أو جاهلاً ويعلم أنه جاهل. العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير. يجب مقابلة الخير بالخير (لعل هذا خطأ مطبعي وأن الصواب مقابلة الشر بالخير) والظلم بالعدل. أحبوا الآخرين كأنفسكم). ولما حانت ساعته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله وقال في نبل وإيمان: حياتي كانت عبادتي وصلاتي)

وفي اليونان القديمة نرى سقراط مؤسس علم الأخلاق يأمر، ضمن ما يأمر به، بأن يكون المرء سيد نفسه؛ بالشجاعة، وبالعدالة إلى غير ذلك من الصفات الأخلاقية العامة. وفي ساعة موته دفع بشجاعته إلى حد البطولة حين يقول لقضاته، وقد قدم للمحاكمة متهماً ظلماً بالسفسطة والإلحاد وإفساد الشباب:(لشد ما أنتم في الضلال إذا كنتم تعتقدون أن رجلاً يعرف لنفسه بعض القيمة يفاضل بين حظوظ الحياة والموت، وبين البحث دائماً عما إذا كان ما يعمله عدلاً أو غير عدل) وحين يقول لتلميذه: (كريتون لا ينبغي أن نجترح أي ظلم حتى ولو كنا ضحايا الظلم الآخرين. عمل الشر للغير هو الظلم بعينه. لا يجب مقابلة السيئة بمثلها).

وإذا تركنا اليونان، وعرجنا على بني إسرائيل، نجد أنهم كانوا في فجر تاريخهم لا يعتقدون واجباً إلا لإلههم المحلي وأنفسهم حتى جاءهم أنبياؤهم وحكماؤهم بالمبادئ الأخلاقية الرحبة الواسعة. وفي ذلك يقول أحدهم في القرن السادس قبل الميلاد:(ليس لجميع الشعوب إلا إله واحد كل العالم معبده، وتكريمه أن يكون الكل عادلاً). وفي التلمود: (أحبب غيرك كنفسك. لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به). وهذه الحكمة أخذها أحد حكمائهم وهو: (هلِّي الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد مبدأ له. فهي عنده كلمة الشريعة وما عداها مجرد تفسير لها. وفيه أيضاً: (من يفعل الخير حباً في الخير يكن من أصدقاء الله). وجاء في كلمة للكاتب الروسي الكبير (مكسيم غوركي) هذه الحكمة السامية لهلَّيل الحكيم السابق ذكره: (إن لم تكن لنفسك فلمن تكون؟ ولكن إن كنت لنفسك فقط فلم تكون؟). وقد تأثر غوركي بما في تلك الكلمة من معنى إنساني نبيل، وحكمة عميقة حتى ليقول:(إن حكمة هلِّيل هي النبراس الذي هداني السبيل وما كان سهلاً سوياً)

بعد هؤلاء جميعاً نذكر عيسى عليه السلام الذي جاء معارضاً لما وجده من تقاليد عتيقة

ص: 20

ضيقة بمثل أخلاقي عال صالح للناس جميعاً. كان مما بَّشر به: (حب المرء لله أن يحب قريبه كنفسه) وليس القريب هنا هو الإسرائيلي مثلاً، بل الإنسان للإنسان:(عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. إن وصيتي لكم أن يحب بعضكم بعضا كما أحببتكم، لا يوجد حب أعظم من أن يعطى المرء من حياته لأصدقائه).

أما محمد: صفوة الخلق كافة، خاتم الأنبياء والمرسلين. فقد جاء في الأخلاق بما يعتبر بحق المثل الأعلى الكامل:(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا). . . إلى آخر هذه الأوامر الحكيمة الذهبية العالمية التي احتوتها تلك الآيات الكريمات: (وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون). ويضاف لهذا ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(الدين المعاملة).

وهكذا نرى أن كثيراً من ذوي الضمائر الإنسانية عارضوا التقاليد والإفهام الضيقة التي كانت مقبولة في أزمانهم وبيئاتهم بمثل عليا؛ وبعبارة أخرى بمثل أعلى أخلاقي حكموا حقاً بصلاحيته للجميع دائماً. وصلوا لذلك لأنه أتيح لهم أن يتخطوا الجماعات التي كانوا يعيشون بينها، ونجحوا في الدخول في حظيرة الإنسانية الخالدة والحياة العامة التي لا يحدها مكان أو زمان

هذه الأفكار الأخلاقية العالمية التي وصل إليها أصحاب الضمائر العالية النيرة بعد تفكير عميق تجاوزوا به أزمانهم وبيئاتهم وأممهم إلى الإنسانية العامة في أوسع حدودها. هذه الأفكار السامية التي يجب أن تكون مقبولة منا جميعاً، أليس لنا أن نقرر أنها حقائق أخلاقية عامة فتكون الأخلاق لذلك علماً من العلوم؟ بلى وربي، إنه مما لا مرية فيه أن هذه الآراء ليست شعاراً ومبادئ مقدسة للناس جميعاً يصدرون عنها في أعمالهم دائماً. هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقائق العلمية لا تزيد عليها في هذا المعنى

حينما يعرف العلماء الحقيقة العلمية بأنها الاتجاه العقلي العام نحو مركز واحد أو نتيجة واحدة، أو بأنها الشيء الذي تتجه إليه العقول كلها وتقبله - حينما يعرفونها بهذا أو ذاك لا

ص: 21

يقصدون أن هذا الاتجاه العام محقق، بل يقصدون أنه أمنية يرجون يوماً ما أن تكون. وفي الواقع لا يقبل كثير من الناس الذين لا يزالون على الفطرة والجهالة الأولى التفسيرات العلمية الصحيحة لكل الظاهرات الكونية كالرعد والبرق والمطر والكسوف والخسوف، بل لا يزال منا معشر المصريين من يعلل هذه الظواهر ونحوها بما لا يتفق مع العقل في شيء. ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. فحين يعلن العلماء أن الحقائق العلمية محل اتفاق جميع العقول، يكون الغرض العقول الموهبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل أنها تكون حقاً ذات يوم محل اتفاق جميع العقول بلا استثناء. إذن لنا أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وإنها من الآن مقبولة من كل وهب القدرة على الحكم الصائب كما أنها ستكون يوماً ما، قريباً أو بعيداً، مقبولة من الجميع عندما ينظر المرء نظرة واسعة تنتظم العالم بأسره وتعتبر الناس اخوة متساوين فيما لهم من حقوق وعليهم من واجبات

هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئاً فشيئاً لعوامل عديدة. هناك قوى هامة مختلفة تعمل للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما حصل ويحصل كذلك من الناحية العلمية. من ذلك انتشار العلم وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض وسرعة ذلك الاتصال وحدته وتزايده يوماً فيوما لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهم من الأجناس المختلفة. هذا الاتصال مستمر الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيراً من المظالم والآلام، ولكنه عمل أيضاً على تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على كثير من التقاليد الأخلاقية الضيقة الخاصة، كما عمل على تبادل المبادئ الأخلاقية واختيار انفعها الضيقة الخاصة، كما عمل على تبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها. وسيؤدي استمرار هذه العملية الواسعة إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعاً مداركهم ويسموا بترتيبهم حتى يجاوزوا بذلك الدود الطبيعة من محيطات وبحار وأنهار وجبال ويصلوا إلى أبعد الآفاق. حينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة خلقه أو كشفه من حقيقة وجمال، ويركزون في ضمائرهم ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة

ص: 22

والآن وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة نرى الضمير المستقيم مجبراً على قبولها، ونرى من الواجب أن يقبلها الجميع يوماً من الأيام. لنا الآن من غير إسراف أن نقرر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملاً من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى لا وليد التقاليد أيا كان مصدرها. الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة من تفكير وذاكرة وتخيل وتعليل واستنتاج للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع

بعد هذا لنا أن نتساءل: ما هي الطريقة التي تتبع في دراسة هذا العلم، في تحديد المثل الأعلى الأخلاقي تحديداً صالحاً طيباً يقبله الناس بلا استثناء؟ ذلك موضوع البحث التالي إن شاء الله.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين

ص: 23

‌في الحرب

للأستاذ عبد المنعم خلاف

كل زعيم ينشد نشيد السلام ويقف في محرابه على منبره يقدم له الترتيلات والقرابين والنذور. . .

ويلكم! إن السلام هو أن تسكتوا جميعاً عن النقيق والنعيق باسمه. . .

أتذبحونه وتذكرون اسم الله عليه؟!

إن السلام ألا تفكروا في مستقبل الذريات لإسعادها بأشقاء آبائها وطحنهم برحي حروب زَبون. . . بل أن تفكروا في حاضر الآباء الحاضرين الذين تأخذون لقمة بطونهم وتضعونها في بطون المدافع آكلات الأجسام، وهاضمات المدن والخيام!

عدتم إلى فلسفة الردة تمجدون الحرب للحرب، وتضعون لها مكاناً في قلوب الرجال كمكان الأجنة في بطون الأمهات. . والأمهات الوالدات تخرج لكم الكتل اللحمية البشرية كما تخرج معامل الأسلحة مصنوعاتها. . . فتولد كل يد ومعها أظفورها وقنبلتها ومدفعها. . . ويولد كل وجه ومعه قناعه. . .

والشياطين والزبانية تجمع الأحطاب من نغل القلوب وإحن الأفئدة. . وتضع الألغام على منابر الساسة وألسنة الزعماء. . . والإنسانية - العروس الهندية! - تسمع إلى صلوات كهنة النار قبل أن يقذفوها فيها بصبر وعجز، وربما بطرب وسرور؟

وصار كل كاهن يلقي خطبه وتصريحاته المشئومة بإلقاء جميل وإشارات تمثيلية باهرة. . .

ووقفت (العروس الهندية) تنظر إلى أَلسنة الخطباء نظر الأحطاب إلى أعواد الثقاب. . .

واجتمعت في قلوب الزعماء أحقاد أممهم تغلى على الألسنة، فصار كل زعيم يصر على أضراسه لأنه يحس سُعار السلاح في يده. . .

ونظر كل زعيم إلى قرينه قبل أن ينظر إلى مصالح أمته. . . والحرب تتجرد من ثيابها لتبرز إلى الميادين راقصة عارية. . .

عليها تَنُوس ذؤاباتٌ سود وعقود من الجمرات الحمر. . .

وقد خرست أصوات الكهان والمعلمين والدعاة. إن كل هذا يختفي عند لزوم ظهوره وإلا

ص: 24

عد أسلوباً من أساليب الخيانة والتثبيط والفت في الأعضاد. . . أن الحيوان المقدس المتمدن لا يزال يعيش بغرائزه على رغم معابده ومحافل السلام فيه ومعاهد العلم عنده. . .

وتكتلت المحصولات والأثمار والذهب لتقذف في النار مع الجماجم والأيدي التي صنعتها وتعهدتها. . .

إذاً لماذا تبنون ناطحات السحاب وتجملون المدن وتقيمون التماثيل والأنصاب وتفرغون على ما تصنعون كل ما تملكون من فن وعلم ما دمتم تهدمون كل أولئك في لحظة؟

أين الحياة التي يحياها الإنسان في الأرض؟ ومتى؟ إن كل ما في العالم الآن من علم ودين وفن إنما هو إعداد للموت السريع. فأين العمل للحياة والاستقرار؟

أما والله لو لم تكن (الآخرة) التي تصير فيها الإنسانية إلى مصير آخر، أمام عيون الحكماء فلقد يضل ضلالهم ويجن جنونهم!

لقد أسبغت الإنسانية على مظاهر الحرب خلاصة من فنها المغري بها؛ إذ زينت الجنود بزينة فاتنة، وجعلت ثيابهم أفخر الثياب وادعاها إلى العشق والإعجاب، وعشق النساء رجال الحرب أكثر مما عشقن رجال السلم والعلم والفن.

أية خدعة محبوكة الأطراف هذه الحياة يا رب الحياة! إنك تدفعنا فيها إلى غايات مستورة ببعض الحلوى والزينة. . .

تدفعنا بمظاهر الضعف: بالحب، إلى النسل والولادة والعمران وتدفعنا بمظاهر القوة: بالحرب، إلى الموت والعقم والخراب. . .

الحب والحرب هما المظهران الأكبران للحياة، وعلى هامشهما يحيا الفن والشعر والعلم والعمل. . .

حياة محوطة بنواميس في داخل النفس وفي خارجها هي بهما في جذب ودفع. . .

أنحن آلات لا سعادة لها في دنياها إلا العمل، وليس وراء العمل سعادة؟

أظن هذا هو الأصح والأدعى إلى راحة العقيدة في الحياة

وإلى الآن لم يظفر الإنسان - ذلك المخلوق التائه - بنعمة الاستقرار حتى يتيح الفرصة لعلمائه أن يجاهدوا في الكشف عن عرائس أحلامه. . . لأن زعماء القطيع لا يزالون يتغنون بمجد الأنياب والأظفار. . . ولا تزال خيلاء المجد: مجد الديكة المنتفشة تسوق

ص: 25

الناس في ضباب من الشعر والألفاظ المعسولة.

(بغداد - الرستمية)

عبد المنعم خلاف

ص: 26

‌أعلام الأدب

إسخليوس والدرامة اليونانية

للأستاذ دريني خشبة

مقدمة

نشأ شعر الملاحم وترعرع في ظلال الأرستقراطية التي سادت الحياة اليونانية طوال عصر البطولة في القرنين التاسع والثامن، أو الثامن والسابع قبل الميلاد

ونشأ الشعر الغنائي وترعرع في ظلال الأرستقراطية كذلك وامتد إلى منتصف القرن الخامس

وبرع في شعر الملاحم هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، وهسيود صاحب الأرجا (الأعمال والأيام) والثيوجونية (نشوء الآلهة) ودرع هرقل

وبرع في الشعر الغنائي كل من سافو - شاعرة الخلود - وأليسوس وأنا كريون وأرخليوكوس. . . وقد كان هؤلاء يقرضون الشعر ويتغنون به تسلية لأنفسهم فحسب، أي أنهم لم يكونوا (محترفين)

أما الشعراء المغنون (المحترفون) فقد ألفوا الفرق الغنائية (للغناء والإنشاد والرقص)، فهم بذلك مبتدعو (الخورس) اليوناني. وقد كان أرسطو يطلق على الأغنية من أغانيهم لفظة (دثرامب)(كتاب الشعر لآرسطو)

ومن زعماء الشعراء المغنين ألكمان الشاعر الغَزل الرقيق الذي يعده المؤرخون مبتدع أشعار الحب، وإن تكن سافو فيما نرى زعيمة هذه المدرسة. وقد اكتشفت ماريت باشا سنة 1855 برديّة مصرية بها قصيدة من روائع هذا الشاعر الفحل مما نظم لفتيات الكورس. وفي القصيدة نفحات من الدرام تدل على بداءة الأدب المسرحي

ومنهم الشاعر آريون الذي يُعزى إليه ابتكار الدثرامب (أغاني باخوس)

ومن أعظمهم الشاعر تيزياس الذي يعدونه في الشعر الغنائي نداً لهوميروس في شعر الملاحم؛ وقد اكتسب الشعر على يديه مزايا عظيمة من حيث التنوع والقصص والمزج بين الملحمة والغناء وابتكار القصة الشخصية التي تفيض بالاعترافات

ص: 27

ومنهم الشاعر إبيكوس الذي اهتم كثيراً بقرض أناشيد (الصبيان) ومازج بين الشعر والموسيقى ووشى قصائده بورد الربيع وعصافيره وحبر العذارى

ومنهم سيمونيدز (556 - 468) وهو أوسعهم ثقافة، وهو في شعر الحكمة يشبه شاعرنا أبا الطيب من حيث الفكرة العميقة وقوة السبك وعلو المنزلة؛ وكانوا يتدارسون شعره في مجالس يعقدها جلة العظماء لهذا الغرض. وكان سفير قومه في بلاط الملوك والأمراء الأجانب. وقد ذهب برغم كبره ليعقد الصلح بين أميري صقلية المختصمين فأدى مهمته على خير وجه. ويعزون إليه أنه كان بخيلاً شديد الحرص؛ وذلك أنه كان يطلب لقصائده (ثمناً محدداً) لا ينقص منه مهما ألحف عليه في ذلك. . . وأحسن قصائده ما كان له علاقة بالحرب. وقد كتب عن ترموبيلي أروع غُرره ونظم في قتلاها أجمل فرائده. . . ولذا أحبه اليونانيون وآثروه بلقب شاعرهم الوطني دون بندار

أما بندار، فهو بلا ريب أعظم الشعراء الغنائيين الذين أنجبتهم اليونان على الإطلاق. . . ولقد ولد في إحدى قرى بووطيه حيث نشأ نشأة موسيقية، فتعلم العزف على القيثارة ثم مهر في النفخ بالناي، وكان أستاذه في ذلك عمه الشاعر الذي كان يلازمه ويعلمه الغناء والإنشاد فضلاً عن الموسيقى والشعر. . . ثم ذهب إلى أثينا ليتخصص فيما شداه من هذه الفنون، فأتيح له الاتصال برجالاتها وذوي الرأي فيها. ومما يذكر له في هذه الفترة من فترات التحصيل أنه دخل في مباراة إنشادية غنائية مع زعيمة من زعيمات الغناء في أثينا تدعى كورينّا. فغلبته وتفوقت عليه. . . وتقلب بندار في الإمارات اليونانية جميعاً، وحل ضيفاً كريماً على أكثر ملوك الولايات حيث كان يقابل بالبشر ويُتلقى بالترحاب. . . وكان بندار يكره سيمونيدز، وينقم من الناس تهافتهم على شعره الذي كان يدعوه حكمة ولم يكن يدعوه شعراً. وبندار وسيمونيدز في ذلك مثل البحتري والمتنبي. فقد كان البحتري شاعراً لأنه كان يُغني، أما أبو الطيب فقد كان حكيماً. وحسبه أن ثلاثة أرباع ما يحفظ الناس من أبيات الحكمة هو من شعره. وقد كان بندار ينزع في شعره وفي حياته نزعة لاهوتية، فقد أخذ على عاتقه إحياء سنة السلف الصالح بالغناء للآلهة، وقرض الشعر، ونظم الأناشيد الدينية تسبيحاً بأسمائهم، وله في رها وبان. وأبولو منظومات خالدة. . . ومن هنا منزلته الرفيعة في دلفي، فقد كان كهنة المعبد يحبونه ويعتبرونه قديساً، لأنه أّلف حولهم قلوب العامة،

ص: 28

وأعاد للدين بهجته، ولذ خصوه بأرفع منزلة في هيكلهم وأفردوه بغرفة خاصة يحل بها كلما زار دلفي. ونحسب نحن أن هذا هو الذي نفر منه خاصة الأدباء الذين هم قادة الرأي العام. . . والشعب الوثني هو أعرف الناس بآلهته، فلما أغرق بندار في هذه النزعة الدينية انصرف الجمهور عنه إلى سيمونيدز شاعر الحق والحكمة وتمجيد البطولة والأبطال.

وقد انتشرت أشعار بندار انتشاراً واسعاً بلغ مصر، وتغلغل في صحرائها إلى معبد أمون - زيوس في سيوه حيث نقشت أوراده الدينية على جدران المعبد وأعمدته بالذهب الخالص مما أدهش الإسكندر الأكبر وملك عليه لبه. . . لكنه كان إعجاباً طارئاً سرعان ما طغت عليه الذكريات القديمة المؤلمة. . . الذكريات التي لم ينسها اليونانيون لهذا الشاعر الكبير الذي خان وطنه الأكبر (هيلاس) بموقفه المزري في غزوة الفرس الكبرى. . . لقد انضمت بلاده للفرس ضد أثينا، فلم يحتج ولم تثر فيه النخوة الوطنية، بل راح ينظم القصائد في وجوب عقد الصلح. . . هذه صفحة بندار السوداء، الصفحة التي لم تنسخ ظلماتها شموس القصائد الغُر التي نظمها بعد ذلك في تمجيد أثينا وتخليد بطولة أبنائها. وهي قصائد أجود بكثير من كل ما نظم سيمونيدز في هذا المضمار. لكنها قصائد تشبه هدايا عضد الدولة للمتنبي. أغزر من هدايا سيف الدولة وأكثر، لكنها كانت ينقصها الروح!!

ولا نستطيع نحن أن ننقص من قدر أشعار بندار إذا قرأناها ولم نكن ملمين بتاريخه، بل ربما رفعناها إلى أعلى أوج يرتفع إليه شعر قديم أو جديد. . . فأشعاره إلهام رفيع ووحي علوي مما يعز على فحول الشعراء. . . وقد نظم كثيراً غير أوراده الدينية في الرياضة والرياضيين، وقد كانت أولمبيا تستهويه بأبطالها كما كانت دلفى تجذبه بآلهتها. . . وكان بندار يعيش عيشة فنية، فمسكنه كان متحفاً للصور والتماثيل والموسيقى والشعر، وكان مشغوفاً بالجمال ينشده في كل ما تقع عليه عيناه. . . في الطريق. . . في الحديقة. . في الملهى. . . في الماء. . . في السماء. . . في كل شيء

هذه هي الأطوار التي ترقى في مدارجها الشعر اليوناني قبل أن ينهض الدرام نهضته العجيبة الخارقة في القرن الخامس قبل الميلاد، وهؤلاء هم الشعراء المخلدون الذين مهدوا الذهن اليوناني لعصر النور والعرفان. . . عصر بركليس العجيب

ص: 29

أما كيف بدأ شعر الدرام، وأما كيف وجد المسرح اليوناني فهذا ما لم يعرفه أحد حتى ولا آرسطو نفسه الذي يعتبر معاصراً لنهضة الأدب المسرحي في أوجه، والذي شهد روائع هذا الأدب تؤديها أقوى الفرق اليونانية في أعظم المسارح التي عرفها التاريخ، والذي أخذ نفسه بالدفاع عن الشعر عامة ونقض نظرية أستاذه أفلاطون في ذم الشعر وامتهان الشعراء

والنظرية الشائعة في ذلك، والتي اتفق على صحتها المؤرخون هي أن الشاعر آريون هو أول من حَوّر الإنشاد الفردي إلى إنشاد يقوم به خورس (فرقة) ويتولى توجيهه رئيس، وأنه هو أول من ابتكر أغاني الدثرامب (أغاني باخوس أو ديونيزوس إله الخمر والمرح والعربدة!) وهي أغان كان يمارسها الشعب على النمط الذي وصفه آريون إبان قطاف العنب

ثم جاء الشاعر ثسبيس (من قرية إيكاريا) فكان يرأس خورساً كبيراً وزع على أفراده أدوار غنائه مستغلا الدثرامب التي وضعها آريون ثم وسع دائرتها بحيث جعلها تشمل أغاني بان إله المراعي، فكان أفراد خورسه يلبسون رؤوساً تنكرية تمثل رؤوس الماعز، ولذلك كان يطلق عليهم لقب (المنشدين العنزيين) ولم يكونوا يمثلون درامات بالمعنى الذي نعرفه اليوم. بل كانوا ينشدون مقامات أشبه بمقامات الحريري والبديع تشمل كل منها حادثة واحدة معينة

ومن لفظة ? اشتقت لفظة تراجيدي للمأساة

ومن لفظة ? أي الأشياء التي تؤدي اشتقت لفظة درامة أي الأداء، وهي ألفاظ كانت شائعة في المحيط الديني في اليونان القديمة ثم أطلقت الدرامة على الرواية المسرحية فيما بعد

هذا وثمة آراء أخرى في أصل نشوء الدرامة، منها أنها نشأت في جزيرة كريت (إقريطش) حيث كان الأهالي يحتفلون كل سنة بإحياء ذكرى مولد سيد الأولمب (زيوس!) فكانوا يمثلون ميلاده ثم زواجه من حيرا كما كانوا يصنعون ذلك في آرجوس وفي ساموس

ثم نهضت أتّيكا - المقاطعة التي كانت حاضرتها أثينا - وعز عليها ألا يكون لها أدبها القومي الخاص فأقلمت الملاحم - كما صنع بيزاستراتوس - وأشعار الغناء، ثم نهضت بأدب الدرام على يدي ثسبيس الأيكاري الذي مثل بنجاح عظيم في سوقها سنة 534،

ص: 30

وخُويْريلوس وبراتيناس

ولقد كان الشاعر - وهو رئيس المنشدين - يقوم بأدوار عدة، من دور الملك إلى دور القائد إلى دور الجندي إلى دور الرسول. . . فكان لا بد له من تغيير ملابسه في كل حالة من هذه الأحوال. لذلك أعد له في جانب من جوانب ساحة الرقص (خص) أو خيمة ليبدل فيها ملابسه

وإذا كان الشاعر يقوم بكل هذه الأدوار في المقامة الواحدة فماذا كان يصنع في الأحاديث؟ قالوا إنه كان يستعين بممثل آخر ليكون الطرف الثاني في الحديث، وكانوا يسمون هذا الطرف الثاني ومعناها المجيب، ثم استعملت هذه اللفظة نفسها فيما بعد للممثلين. . . فكانت الفرقة القديمة تتكون عادة من شاعر ومجيبين (اثنين) وثمانية وأربعين راقصاً

وكانت الحكومة هي التي تؤتي الممثلين والراقصين أجورهم كما كانت تنفح الشعراء بجوائزها الثمينة السنية. أما الإخراج فقد كان الأغنياء يتحملون كل نفقاته، وذلك بأن يلجأ الشاعر إلى أحدهم فيعرض عليه أن ينفق على درامته من خالص ماله إلى أن تؤدي في المسرح، فكان المثري يستأجر للشاعر خورساً بأكمله ثم ينفق على الملابس والمناظر حتى يتم الإخراج كله. وكان الأغنياء يتباهون بهذا العمل ويتبارون في مضماره، ولا يبخلون بعزيز أموالهم عليه ولو ذهب بأكثرها، وكل ما كانوا ينشدون من جزاء هو شعور الفخر والزهو الوطني حين تنجح الدرامة التي أنفقوا عليها بعد العرض الأول. ويجب أن نذكر هنا أن جمهور النظارة بل الجمهور الأثيني كله في القرن الخامس قبل الميلاد كان قد أوتي حظاً عظيماً من الثقافة العامة، وكان قد تربى فيه ذوق فني رفيع نمته فيه ديموقراطية هذا العصر التي أكبرت من قيمة الفرد وأشاعت فيه كبرياء الحرية والشعور بالسيادة

وفي ظل هذه الديموقراطية تربى ذوق الأثنيين الفني حتى غدا ذوقاً أرستقراطياً مرهفاً يقدر الفن حق قدره ويزن آياته بالقسطاس المستقيم، فحينما كانت تعرض الدرامات في مسرح أثينا كان الجمهور نفسه هو الذي يصدر حكمه عقب الانتهاء من التمثيل. . . وكان الشعراء يرهبون هذا القاضي الجبار لأنهم كانوا يقدرونه. وكم كان جميلاً من أرسطو فأن في بعض مهازله أن يتملق النظارة ويبالغ في تمليقهم ويطلب إليهم صراحة أن يحكموا له. . . ولنتصور إذن قضاة يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً أو يزيدون يصوتون للشاعر أو عليه، وما

ص: 31

يكون لحكمهم من أثر عظيم في نفسه في حالتي السخط أو الرضى. . . لقد يكون في هذه الألوف المؤلفة قضاة غير عدول. . . فقد ذكر الأستاذ ج. ك. ستوبارت أن كثيرين من أهل أثينا كانوا ينظرون إلى التحكيم في المباريات الأدبية بحسبان أنها مصدر عظيم من مصادر رزقهم. . . بل كان بعضهم يعدها المصدر الوحيد لهذا الرزق. . . يقصد بذلك أنهم كانوا يبيعون أصواتهم لمن يدفع ثمناً أكثر. . . وهذا عيب تافه من عيوب الديمقراطية شهدنا مثله في معاركنا الانتخابية، لكنه لا ينهض دليلاً على فساد الذوق الفني عند اليونانيين.

لقد كان غشيان المسارح فرضاً قوميّاً على الأثينيين في أعيادهم. وقد أثر عنهم أنهم كانوا يقولون إن من لم يذهب إلى المسرح في العيد لم يكن له عيد. . . وقد كانت الحكومة تنظر إلى المسرح نظرة كريمة عالية. لقد كانت تعد الجامعة العليا التي لا تعلم حروف الهجاء بل التي تطبع الشعب على أسمى صور الفضيلة والإيثار والتضحية فتخلق منه شعباً راقياً طيب الأعراق يتذوق أمور الحياة العليا بإحساس حي ناضج بصير لا بإحساس بهيمي بليد

وكانت كل طبقات الشعب تغشي المسرح الكبير في أثينا، وكان يظن أن النساء كن محجوبات عن شهوده، لكن الأستاذ روي فلكنجر دحض هذا الظن الذي لم يكن إلا حدساً وترجماً، بل زاد فأثبت بأدلة قاطعة أن الأرقاء أنفسهم كانوا يذهبون إلى المسرح للتمتع بالتمثيل، وكانت الحكومة تدفع لهم ثمن تذاكرهم، وكان ثمن التذكرة أوبولين، قطعة من العملة اليونانية القديمة يساوي من عملتنا المصرية أثنى عشر مليما (ثلاثة بنسات إنجليزية أو خمسة سنتات أمريكية) فيكون ثمن التذكرة قرشين ونصف قرش تقريباً أو ما يعادل ثمن التذكرة بالدرجة الثالثة في أي دار من دور السينما عندنا.

وبعد فهذه لمحة خاطفة عن نشوء الدرامة اليونانية تليها لمحات عن المسرح اليوني في عصر بركليس، العصر الزاهر العجيب الذي حفل بأكبر عدد من شعراء الدرام على رأسهم إسخيلوس وسوفوكليس ويورببيدز.

دريني خشبة

-

ص: 32

‌من برج بابل

ليعذرني الأستاذ الحكيم صاحب البرج العاجي؛ فما اتخذت عنوان

خواطري (برج بابل) تقليدا ومحاكاة. . . وإنما اتخذته تحديا ومباراة!

وأخشى أن ينقلب البرجان أحياناً حصنين. . .

ولكنهما سوف لا يتقاذفان بالرصاص والقنابل. . . وقى الله الإنسانية شرهما، فتلك أبعد عن طبيعتنا السمحة الوديعة المسالمة. . . بل سيتراشقان إن تراشقا بسهام من أغصان الزيتون. . .

وأخشى أن تزعجه ثرثرة برجنا، فتقطع عليه هدوءه وعزلته وتفكيره وأبحاثه الفلكية أيضاً! ناهيك بثرثرتنا نحن النساء.

ومن يدري؟ فلعله يهجره فراراً من جيرتنا المزعجة!

وحسناً يفعل! فلسوف تحتله المرأة. . . فهو من العاج. . . والعاج حلية لطيفة ثمينة محببة إلى قلب المرأة، والتحلي حاسة سادسة لها. . . كأنك تتحدى المرأة وتمعن في عدائك المعروف بالتزامك حصنك العاجي، معذرة، بل برجك!

وكأنك أردت أن تخدع بنت حواء بأنه برج حقاً، حسبك من استشراف نجوم الأرض ونجوم السماء ونجوم السينما!.

ولكن عاجك يا رسول البرج غنيمة تغري ولا تخدع فهو قلعة في زي برج!

لم تحدثنا أيها الفلكي الراهب من برجك العاجي منذ أقمت بنيانه حتى الآن عن نجوم الليل السابحة في تيه قصي بعيد، ولا عن عين السماء الفضية، ولا عن الزهرة في موكبها الفخم الجليل. . . وكأنك عدوها أيضاً!

وإنما بلغ أسماعنا من شاهق برجك كلامٌ لا يتصل بالفلك ولا بالنجوم ولا بالأبراج!. . .

ولو كان برج حمام لأقنعت نفسي بأنه حمى أمان وسلام!

ولكنه برج من عاج. وهو كأشجار زرقاء اليمامة!.

(الإسكندرية)

ماري نسيم

ص: 33

‌التاريخ في سير أبطاله

محمد شريف باشا

كان شريف في عصره رجلاً اجتمعت فيه الرجال وكانت

مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال

للأستاذ محمود الخفيف

كاد الخديو للأجانب كيداً شديداً؛ وظهر كمن يريد أن يثأر لنفسه فلم يكتف بإجابة الوطنيين إلى ما طلبوا، بل لقد ذهب إلى مشاركتهم مظاهر ابتهاجهم بالعهد الجديد حتى لقد حضر بنفسه حفلاً أقامه في داره السيد علي البكري ودعا إليه كبار رجال الحركة الوطنية فكان موقف الخديو في ذلك موقف الزعيم!

وتلقى الأجانب الضربة ولكنهم لم يطيشوا أو يذهلوا عما يجب عليهم أن يعملوا إزاء موقف الخديو، ومن أجل ذلك لقيت وزارة شريف منهم عنتاً بالغاً، فتلاشت في ضوضائهم كل دعوة إلى الحكمة، وضرب الحقد على آذانهم وجعل الغضب على أبصارهم غشاوة

ولكن شريف ظهر يومئذ بمظهر جدير بالإعجاب حقاً، فلا هو خشي جانب الأجانب فتخاذل عما هو بسبيله، ولا هو مال كل الميل فانقلبت سياسته شططاً، وبذلك جمع شريف على خير ما يرجى بين حمية الوطني الثائر وكياسة السياسي الماهر وروية المجرب البصير

احتج الأجانب على إبعاد الوزيرين الأوربيين واستقال كثير منهم من مناصبهم، وراحت إنجلترا وفرنسا تتهددان الخديو وحكومته وتنددان بهما؛ وتوجه الدائنون إلى المحاكم المختلطة فرفعوا أمامها القضايا؛ وأعلنت لجنة التحقيق أن الحكومة في حالة إفلاس منذ أكثر من عامين؛ ولما عرض شريف على هؤلاء الأجانب الصاخبين استعداده إلى إعادة المراقبة الثنائية كما كانت تقضي به تعهدات الخديو في حالة ما إذا أخرج الوزيران الأجنبيان أو أحدهما رفضوا ذلك الحل مبالغة منهم في الكيد ورغبة في زيادة الأمور حرجاً وتعقداً. . .

ولكن شريفاً لم يلوه حرج الموقف عن وجهته؛ وما كانت وجهته إلا أن يجعل مرد الأمور إلى الأمة، فلئن كان يمقت تدخل الأجانب، لقد كان كذلك يكره استبداد الخديو أشد الكراهية.

ص: 35

لذلك جعل محور سياسته أن يكون مجلس الوزراء مسؤولاً أمام مجلس شورى النواب، ولقد تم له ما أراد فجاء في خطاب الخديو إليه بتأليف الوزارة عبارات لا تقبل تأويلاً فيها يذكر الخديو أنه يرجع بالأمور إلى الأمة ويوافق على مسؤولية الوزارة أمام مجلسها

بهذا كان شريف أبا الدستور في مصر، فإن ذلك المجلس الذي تعهده برعايته منذ نشأته عام 1866م قد تمت له السلطة على يديه عام 1879م فصار الحكم في مصر حكما دستورياً لا تشوبه شائبة مهما يقول القائلون في طريقة الانتخاب يومئذ وجهل سواد الناس بأصول الحكم. . .

أجل، إن العهد الدستوري في مصر إنما يرجع إلى عام 1879م وهذا العهد إنما نالته مصر بجهاد بنيها وعلى رأسهم شريف وما كان دستور عام 1923م إلا الدستور الثاني للبلاد، أو بعبارة أخرى ما كان إلا توقداً لتلك الجمرة التي ظلت مطمورة تحت رماد الاحتلال حتى حل سعد محل شريف في الحركة القومية فأزاح ذلك الرماد ونفخ في تلك الجمرة فأوقد نارها!

لم تكد البلاد وا أسفاه تفرغ من مظاهر فرحها حتى جاءت الأنباء بعزل عاهلها، فإن الدولتين ما فتئتا تسعيان لدى الباب العالي حتى تم لهما عزله وإسناد الحكم إلى ابنه توفيق باشا؛ وبخروج إسماعيل من مصر فقد شريف وفقدت البلاد الرجل الذي كان يمكن الاعتماد عليه في مناهضة نفوذ الأجانب. . .

رفع شريف استقالته إلى الخديو الجديد كما تقضي التقاليد الدستورية، فطلب إليه الخديو إعادة تأليفها، وأشار توفيق صراحة في أمره وفي خطابه أمام مجلس الشورى ميله إلى العطف على الأماني القومية كما تظهر في الحركة الدستورية الوطنية. وسار شريف على نهجه الدستوري يدعم ما بنت يداه ويجهد في توطيد أسسه. . .

ولكن توفيقاً ما لبث حين جاءه فرمان التولية أن تنكر للحركة الوطنية فما كان في موقفه الأول إلا مخادعاً يكتسب الوقت فلما اطمأن إلى مركزه من جهة الباب العالي بدأ سياسته الجديدة بأن رفض أن يجيب رئيس وزرائه إلى ما طلب بشأن توسيع سلطة مجلس الشورى ووضع نظام الحكم على أساس دستوري ثابت؛ وفي هذا رأى شريف نية إقصائه عن الحكم فاستقال، وجاءت استقالته هذه المرة أيضاً عاملاً قوياً من عوامل إذكاء الروح

ص: 36

الوطنية وإشعال جذوتها

وما كان أحوج توفيق يومئذ إلى شريف وإليه دون غيره من الرجال. أجل ما كان أحوج الخديو إلى ذلك الرجل الذي كانت تجتمع فيه الرجال وتلتقي في سياسته الآمال، وإني لأزعم هنا في غير تحرج أنه لو بقي شريف في وزارته يؤيده الخديو لكان من الممكن أن تتفادى البلاد تلك الثورة التي جرت عليها نكبة الاحتلال فلقد كانت دسائس إنجلترا في تلك الآونة تنفذ إلى كل ركن وكانت إنجلترا تتحين الفرص وتعمل على تهيئتها، ولو أن شريفاً قد بقي في مركزه لما اتجهت الحركة الوطنية إلى الحزب العسكري ولسارت سيرها ولو في بطء إلى غايتها

حل رياض محل شريف فأخذت السياسة الرجعية موضع الحركة الدستورية، وتلفت الوطنيون، فإذا الأجانب يعودون إلى نفوذهم الأول بل إلى أكثر منه وبخاصة إنجلترا التي أوحت بسياستها إلى توفيق أن يتخذ منها سنداً ضد الباب العالي وضد فرنسا وضد الوطنيين! فلقد كان توفيق يوجس في نفسه خيفة من تركيا ويعتقد أنها تتآمر عليه، كما كان يفهم أن فرنسا تعطف على العرابيين منذ ظهرت حركتهم. هذا إلى أنه رأى مبلغ نفوذ الأجانب في خلع أبيه وأحس ما تركه هذا الخلع من أثر في قلب مثل قلبه. . .

واقتضت الظروف أن يظل شريف بعيداً عن الحكم سنتين عانت فيهما البلاد رزايا الحكم المطلق وبلايا تدخل الأجانب، حتى هبت العاصفة من ناحية أخرى هي ناحية الجيش

وكانت حركة الجيش أول الأمر قاصرة على مطالب تتعلق برجاله، ولكن ما لبث أن التقى التياران واتحدت الغاية، فإن رجال الحركة الوطنية حينما ضاقوا بما فعلت وزارة رياض، وحينما سدت في وجوههم السبل لم يبق أمامهم إلا الاستعانة بالعسكريين ورأى العسكريون من جانبهم أن في اضطلاعهم بمطالب الأمة مل يرفع من قدر حركتهم فرحبوا بالفكرة وساروا بها لا يلوون على شيء. . .

وهكذا تتقاذف السفينة الأنواء وتلقى بها في غيبة ربانها في بحر لجي متتابع الأزباد كأنما جن فيه جنون الريح فلن تهدأ إلا على مناظر الغرق والدمار.

سار عرابي العسكري بخيله ورجله ومدافعه إلى الخديو يعلن إليه مطالب الأمة وينذره أن لا مرجع للجيش حتى تجاب تلك المطالب؛ ولم يكن للخديو أمام هذا التحدي إلا أن يجيب

ص: 37

عرابيا إلى ما ضن به على شريف! ولكنه صرف الجند ليلقي بنفسه في أحضان المشيرين عليه من الإنجليز الذين واتتهم الفرصة المرتقبة

وأقيلت وزارة رياض كما طلب الجيش، ودارت أعين الأحرار تلتمس غيره فلم تقع إلا على شريف؛ وهل كان ثمة غيره تقع عليه العيون؟ ونظر شريف فإذا العاصفة هوجاء تنذر بفقد الرجاء ففكر في الإحجام ولكن الرجل لم يكن من طبعه الإحجام، وما كان ليرضى أن يترك البلاد فيما كانت عليه فإنما يعرف ذو العزم في الشدة وعلى قدر عزمه تكون رجولته.

اشترط شريف ألا يكون لعبة في يد الجيش فما كان هو بالرجل الذي تهون عليه نفسه إلى هذا الحد، وقبل الجيش ما اشترطه، فألف الزعيم الكبير الوزارة وكان أول عمل قام به أن أبعد زعماء الجيش عن العاصمة فخرجوا طائعين.

وراح شريف يصل ما انقطع فما كان ليحيد عما وهب للبلاد حياته من أجله؛ فوضع نظام الحكم على أساس دستوري كأحدث الأسس الدستورية يومئذ ودعا البلاد لانتخاب مجلس نيابي. ولما انعقد المجلس ترك له شريف النظر في الدستور وأصوله فجعل منه جمعية تأسيسية يريد بذلك أن يجعل إلى الأمة مرد كل شيء

وخيل إلى البلاد أنها استراحت من عنائها، وأن قد آن لها أن تسير إلى معالجة مشكلتها المالية في هدوء، وأن تمضي إلى إصلاح مرافقها والنهوض بشتى نواحي البناء والتعمير فيها؛ فهذه هي وزارة الأمة حائزة لثقة النواب، وعلى رأسها الرجل الذي تطلعت إليه آمال الرجال، وهؤلاء هم نواب البلاد لا غرض لهم إلا العمل لخير البلاد.

ولكن - وما أوجع لكن في هذا الموضع - هناك. . . وا أسفاه من وراء ذلك دسائس لا تنام ولا تسهو، ورؤوساً لم تتدبر الأمور كما كان يرجو شريف أن تفعل، ومطامع شخصية هي علة العلل فيما أرى في كل خلاف تشتعل ناره في هذا الشرق المسكين؛ وماذا كانت تجدي إزاء ذلك كله كياسة شريف وروية شريف، وماذا كان يغني عنه بعد نظره وحسن تدبره عواقب الأمور؟

وكانت فرنسا هي التي بدأت بالتحرك هذه المرة فأشارت على إنجلترا بالتدخل، فرنسا التي سندت محمد علي بالأمس ضد إنجلترا حتى جد الجد فتراخت عزمتها دون نصرته حتى

ص: 38

تحطمت قوته هي بعينها فرنسا التي تشير على إنجلترا بالتدخل اليوم في شئون مصر! ألا ما أشقى الضعفاء بضعفهم! كلا، بل لعمري ما أتعس الأقوياء بقوتهم إن كان ما يبنونه لأنفسهم على حساب الضعفاء قصارى سعادتهم وبرهان إنسانيتهم. . .

هذا هو مجلس النواب يجادل شريفاً وشريف يجادله في أمر الميزانية وحقه في نظرها أو عدمه؛ أليست هذه مسألة داخلية بحتة؟ ولكن الدولتين لا تعترفان بذلك؛ ومتى اعترفت ذوات المخالب لغيرها من ذوات اللحم الطري بحقها في أن تعيش؟ إذاً فلتحرم الدولتان على المجلس النظر في الميزانية، ميزانية مصر، وإلا أفهمتاه كيف يكون الإذعان للسلطان لا للحجة والبرهان!

ونضيع جهود شريف عبثاً في دعوة المجلس إلى الاعتدال. . . إلى الاعتدال؟ أيطلب الاعتدال زعيم ثوري من هيئة ثورية؟ ذلك ما راح النواب يتساءلون فيه؛ ألا يا ويل كل رئيس من الظروف إذا كادت له فقلبت كل عرف لديه نكراً وألبست حوله بالباطل كل حق. لقد وصف اعتدال شريف بأنه خور وأخذت سياسته على أنها مروق، ألا هل من يعقل أو يتدبر؟ ألا هل من يستمع له حينما فكر في آخر حل فطلب تأجيل الأمر كله حتى يبحثه في هدوء؟ كلا لن يستمع له أحد. أيستمع إليه عرابي المتحفز المتوثب، أو يدين برأيه البارودي الطامح إلى رياسة الوزارة؟ أو يسكن إليه المجلس الذي كره الأجانب وتدخل الأجانب حتى لم يعد له على الصبر طاقة؟

والدولتان أتتهاونان أو تريان جانب الحق؟ كلا. إنما ترسلان إلى الخديو أنهما على استعداد واتفاق لتأييده أمام ما عساه أن يصادفه من المتاعب، ولا يتردد هو في قبول هذه (المذكرة)، فتثور ثورة الوطنيين، ويطلب شريف من الدولتين مذكرة تفسيرية تهدئ الخواطر ولكنهما، وقد أرادتا إثارة الخواطر، لا تجيبان. . .

ويحمل الوطنيون على شريف زعيم الوطنيين فيحرجونه حتى لا يجد أمامه وسيلة لإقناعهم، ثم يطالبون بإسقاط وزارته فيستقيل ويعود إلى داره، فتندفع الثورة هوجاء قد جن جنونها؛ ويفرح ذوو المطامع من الأجانب، هؤلاء الذين أجابهم شريف إلى إعادة المراقبة الثنائية ووافقهم على قانون التصفية التي تم في عهد رياض على ما كان فيه من عدوان وظلم. . .

ص: 39

وتمضي الثورة في طريقها، والدولتان في طريقهما؛ ثم تنفرد إنجلترا فتغافل فرنسا كي تلتهم الفريسة وحدها، وتضرب أساطيلها قلاع الإسكندرية مرتكبة بذلك أشنع ما عرف في تاريخ الحروب من عدوان وغدر، ويدفع عرابي مصر لتدافع عن نفسها فيكون جهاد فيه قوة وحماسة، ولكنه لا يخلو مما منى به الشرق في عصوره الأخيرة من ختل وخيانة، فتفشل الثورة ويعود الخديو من الإسكندرية ليجد في طريقه إلى قصره فرقة من الجيش البريطاني تصدح موسيقاها بالسلام الملكي الإنجليزي. . .! وتقع على هذا المنظر عينا شريف وقد عاد معه، فلا يملك - على ما يقول الرواة - ذلك الرجل الكبير دمعه فيجهش كما الطفل! ألا ما أغزر ما تفيض به الدموع من المعاني!

بكى شريف وحق له أن يبكي فهذه جهوده تذهب عبثاً، بل هذه مصر تصبح وهي لا تملك من أمرها شيئاً؛ وما كان شريف غداة طلب من المجلس الأناة والاعتدال لعمري خواراً ولا مارقاً؛ بل لقد كان يومئذ يقف أجمل وأعظم موقف في حياته، موقف الشجاعة التي لا تتملق النواب ولا تخشى في الحق ما يعلنه الرأي العام، والتي لا يغرها مديح أو يستهويها الحرص على إطراء الجمهور ورضاه، وموقف الكياسة في معالجة الأمور، والنظر في عواقبها؛ وإنا لن نجد في الحق موقفاً يوضح أخلاق شريف ويكشف عن طباعه خيراً من هذا الموقف الجليل. والزعيم الحق هو الذي يهم بما يراه حقاً ويصر عليه مهما لاقى من عنت، وإلا فعلى أي أساس دون ذلك تقوم زعامته؟

ودعى شريف بعد الاحتلال لتأليف الوزارة فلم يحجم، ودخل رياض في وزارته، وما كان قبوله الحكم في تلك الظروف عن رغبة منه في المنصب، فهو يرى ما يطلبه المنصب الآن من جهد شاق وصبر طويل، وإنما كان موقفه موقف ذي النجدة الذي لا يتسرب إلى عزمه وهن ما دامت في جسده حياة. . . كان موقفه موقف المخلص الذي يسيره إخلاصه ويملي عليه ما يجب أن يعمله حتى ما يستطيع أن يفلت أو يتردد إن فكر في ذلك أو مال إليه وكان طبيعياً أن يجري في وزارته على خطته قبل الاحتلال، أو على الأقل كان طبيعياً أن يقبل تأليفها على هذا الأساس فإن ذلك وحده هو الذي استطاعه، ذلك أنه ما لبث أن رأى الإنجليز هم كل شيء على رغم ما كانوا يذيعونه من وعود بالجلاء في مشرق الأرض ومغربها

ص: 40

وجاءت الفتنة المهدية في السودان فأرادت إنجلترا أن تخليه مصر لتعيد فتحه من جديد؛ وأبى شريف إلا أن يضيف إلى محامده ومآثره في هذا الوادي مفخرة سوف يقترن بها اسمه الكريم على مدى الأيام، فرفض ذلك الاقتراح وقال كلمته التاريخية التي تنطوي على كثير من المعاني:(إذا تركنا السودان فالسودان لا يتركنا)

ولكن انجلترة التي تعتزم الجلاء عن مصر تصرح على لسان معتمدها أنه على الوزراء والموظفين أن يعملوا (بالنصائح) التي تسديها حكومة جلالة الملكة وإلا فعليهم اعتزال مناصبهم! ولا يتردد الخديو أن يقبل حتى هذا التصريح!

وعرف شريف من المقصود بهذا التصريح، وهيهات أن تسير الوطنية مع نوايا الاحتلال والعبودية، لذلك لم يكن بد أن يختم شريف حياته السياسية بالاستقالة من وزارته الرابعة والأخيرة بعد أن قضى فيها عامين. . . وكانت هذه كبرى استقالاته إذ كانت تنطق بشهامته وصراحته؛ وتفيض برجولته فهو لا يستقيل (لأسباب صحية) ولكنه يحتج على محاولة سلخ السودان وعلى هذا التصريح الذي يتنافى مع الدستور ويتنافى مع الاستقلال، وكان ذلك عام 1784

وفي عام 1887 يموت هذا الرجل العظيم وهو على سفر في النمسا فتتلقى مصر جثمانه وتمشي خلف نعشه الجموع الهائلة التي لم تر مثلها البلاد من قبله، فهذه أول جنازة شعبية في تاريخها الحديث. هذه هي السابقة التي سترى مكبرة عظيمة يوم تضيق القاهرة بالمنتخبين من أبناء مصر يشيعون جثمان رئيس الثورة الثانية زعيم الوفد الأول، ذلك الذي كانت حياة شريف أيضاً وجهاده القومي سابقة قومية لحياته وجهاده. . . رحم الله العظيمين وجزاهما عن وطنهما خير ما يجزى به الشهداء والمجاهدون

(تم)

الخفيف

ص: 41

‌قلت لنفسي.

. .

حتى العلماء وراث النبوة وأولياء الحكمة يجوز عليهم ما يجوز على أتباع الهوى وعبادة الشهوة من بني الأرض!

- وما ذاك؟

- يقولون إن في الأزهر عريضة، فضيحتها طويلة عريضة. وإذا صح ما تلهج به حولها الألسنة فقد استشرى الضلال حتى حارت الهداية، واستحكم النفاق حتى فجرت الغواية. وإذا ضل الدليل فكيف تسلك السبيل؟

يتحدثون أن نفراً من العلماء جعلوا قيادهم في يد الهوى فدلاهم بغرور ومناهم بباطل وزين لهم أن يشغبوا على الإمام المراغي مظهر الإسلام المشرق، وممثل الرأي الصحيح وأول من وحد بين الملك والدين ووفق بين الأزهر والدنيا؛ فمضوا يظهرون عريضة فيها الرجاء والثقة، ويسترون عريضة فيها التمرد والإفك، وطافوا بهما على علماء المعاهد يقرءون عليهم ما فوق، ويضعون أختامهم على ما تحت، حتى اجتمع لهم من هذه الإمضاءات المغشوشة سبعون ونيف، فدخلوا بها على الأستاذ الأكبر دخول النذير المدل بما وراءه، فتلقى الإمام هذا النزق بحلم العظيم ورفق الكريم؛ ثم تدارك الله الحق فبرح الخفاء وشاعت الفضيحة. وقال الأعمى أنا لا أقرأ، وقال الغافل أنا لا أفهم، وقال الخادع أنا لا استحي!

بهذا يتحدث الناس وربما كان في الحديث افتراء؛ فإن رجال الدين أكرم على الله أن يجعل فيهم هؤلاء، وهل يخشى الله من عباده إلا العلماء؟!

ابن عبد الملك

ص: 42

‌استطلاع صحفي

الأندية الأدبية في مصر

مقهى الفيشاوي

(لمندوب الرسالة الأدبي)

أتعرف الحيّ اللاتيني يا صاحبي؟

أقصر الطرف، وقرّب الفكر، واقتصد في الخيال، فلا تذهب إلى ما وراء البحار إذ تحسبه في باريس مدينة العلم والنور، وبلد الطرافة والحسن، ومبعث الفتنة والخروج على الوقار. . .

إلى هنا يا صاحبي! في قاهرة المعز لدين الله، موطن المجد القديم والعز التالد والتاريخ الحافل، حيث المسالك الضيقة والدروب الملتوية والشرفات المتشابكة والسطوح المتواصلة والبناء العتيق العتيد، الذي أفنى جدارهُ القرون وما زال تتحلى فيه روعة الفن الشرقي الخالص، وعبقرية الذوق المصري الصحيح. . .

إلى هنا يا صاحبي! حيث الأزهر يعجّ بأبنائه من سائر الأقطار، ومشهد الحسين يضج بقصاده من جميع الأمصار، وخان الخليلي معرض الكهرمان والآبنوس والصدف والعاج والسجاد الفاخر يتلهف عليه السائحون ومجانين الأثرياء؛ والغورية سوق العطر والأصباغ والألوان وكل مساحيق التجميل البلدية والأوربية تتزاحم عليها أسراب الفتيات من كل هيفاء هي منية النفس، ومن كل شوهاء هي فداء إحسان، ومن كل عطبول رداح يفديها صاحبنا بيرم بأبيه وبروحه إذ يقول:

بأبي وروحي اللابسات خلا خلا

الآكلات مدمساً وفلافلا

إلى هنا يا صاحبي! حيث يمتزج القديم بالحديث، ويختلط الطيب بالخبيث، ويتلاصق الوضيع بالرفيع، ويتساوى الأصيل بالدخيل، فتتجلى لك القومية المصرية في تباين المظاهر واختلاف الطبقات، وتتبين لك المفارقات في أذواقنا وسلوكنا ومدنيتنا إذ ترى عربات سوارس والكارو ما زالت تجرجر وتكركر إلى جانب مركبات الترام والأتوبيس والفيات. . .

ص: 43

إلى هنا يا صاحبي حيث سوق البقول والأفاويه والتوابل والأعشاب، والبن بجميع أصنافه، والشاي بسائر ألوانه، واللب المحمص، والحمص المقلي، والبطاطة المشوية، والعدس القشري، وما إلى ذلك من الأطعمة الشهية التي تخالف في عرضها وفي طهيها كل شروط الصحة على أنها عند أهلها كل قوام الصحة والعافية، فهي لهم ملء البطن، ومشتهى النفس، ورغبة العين. . .

إلى هنا يا أخي! حيث درج محمد عبده وسعد زغلول وحمزة فتح الله والسيد المرصفي والسيد القاياتي وإبراهيم الهلباوي ومحمد أبو شادي ومحمد السباعي وطه حسين وأستاذنا الزيات وزكي مبارك وغير أولئك ممن أعرف ومن لا أعرف من رجال مصر في السياسة، وأعلامهم في الرياسة، ونبهائهم في الأدب والفضل والصحافة. . .

إلى هنا يا أخي، فذلك هو الحي اللاتيني كما يسميه الظرفاء من أهل الأدب، والنبهاء من أولاد البلد!

في هذا الحي الذي رأيت، وعلى خطوات من مدخل خان الخليلي الضيق من جهة الحسين يقع مقهى الفيشاوي العتيد، فهو في موضع بعيد عن جلبة السابلة، وضوضاء المركبات، فأحر به أن يكون في غمرة من الهدوء والسكون، ولكن الله ابتلاه بكثرة الباعة، وإلحاح ذوي الحاجة، وصوت النادل الأجش يرفعه عالياً عالياً في المناداة على المطلوب وشرح المطلوب فيكون له دوي وطنين لا يتحمله إلا الذين تعودوه

ومقهى الفيشاوي في روائه آية من آيات الفن القديم، وصورة قوية من الذوق الشرقي الذي يغرق بطبعه في التجميل، ويهول في التزين، ويخلبه البريق واللمعان، فيحمل الصورة فوق ما تطيق من التمويه والتوشية، وكثرة التلافيف والتعاريج، وأنت تستطيع أن تستجلي ذلك كله في تلك المرايا الضخمة الفخمة التي علقت بجدران الفيشاوي وتجاه مدخله بالشارع. . .

ويهدف إلى الفيشاوي كل أدباء مصر بلا استثناء، في فترات قد تبعد وقد تقصر، ويدمن الجلوس فيه طبقة خاصة من مفاليك الأدب، وصعاليك الصحافة، وصرعى الآمال في المشاريع الحرة، والذين عاكستهم الأقدار في نيل الشهادات والفوز بوظائف الحكومة، ومن شطت بهم الدار من الأقطار الشقيقة في طلب الرزق أو طلب المجد، يتلفف هؤلاء حول

ص: 44

موائد (الشاي المفتخر) كل مع من يشاكله ويأنس إليه، فيغرقون في الحديث عن أنفسهم، أو يتلهون بالنرد ولعب الورق على تدخين النارجيلة ورشف أكواب الخمر الحلال: أكواب الشاي الأخضر والأحمر والأسود والأبيض الذي يتيه الفيشاوي بصنعه على كل مقاهي القاهرة، وكأني بأدباء الفيشاوي يجدون في هذه الأكواب لذة وغناء عن أكواب بنت الحان. . .

وكثيراً ما ينطلق أدباء الفيشاوي على طبيعتهم، فيتشاجرون بالنادرة ويتضاربون بالنكتة، ويغرقون في المرح إلى أبعد حد، ويرسلون الضحكات عالية قوية كلها سخرية بالحياة، واستهانة بقسوة الدهر، واستخفاف بعبث الأيام ومطالب العيش، فهم يضحكون عن فلسفة ونظر، وكأنهم يقولون: ولماذا يا أخي لا نضحك، وقد تحملنا من الرهق فوق الطاقة، ولقينا من الأقدار ما تنوء به عزائم الرجال؟ فيالها من دنيا لا تستحق إلا الهوان. . .

وأدباء الفيشاوي يتباينون في ثقافتهم، ويختلفون في عقليتهم وإن كانوا جميعاً في نظرتهم إلى الحياة سواء، فتجد فيهم الشيخ الأزهري الذي يرغي ويزبد بالقافات كما يقول حافظ، وفيهم الأديب الظريف الذي يملأ جعبته بنوادر السابقين واللاحقين، وفيهم الصحافي الذي يضيق رأسه بأخبار الملاهي والمسارح ونجوم السينما والمسرح في هوليود وعماد الدين، وفيهم من يضج لسانه بالعجمة ويرتضخ بالعامية وكل ما عنده جملة طيبة من أسماء الأدباء في الشرق والغرب، وهو يحسب أنه رأس المفكرين، ولله في خلقه شئون.

ويجري ذكر الأدب والأدباء في حلقات الفيشاوي، فيذكر من الكتاب العقاد والمازني وطه وهيكل والزيات وأحمد أمين وزكي مبارك وكل كاتب في مصر، ويذكر شوقي وحافظ ومطران وشكري والزين والهراوي والأسمر وكل شاعر حي أو غبر، ويذكر حافظ عوض وعبد القادر حمزة وأنطون الجميل وصاحب الهلال وإخوانهم في الصحافة، ويذكر يوسف وهبي، وجورج أبيض وسليمان نجيب، وعزيز عيد، وفاطمة رشدي، وزينب صدقي، وأمينة رزق، ومن لا أعرف من أهل المسرح، ولكن كل هؤلاء لا يفوزون من أدباء الفيشاوي إلا بابتسامة؛ ولست أدري أهي ابتسامة الرضى والإعجاب أو الهزء والاستخفاف. وعلى كل حال فهم يرون أنه لولا معاكسة الأقدار، وقسوة الحظ لكان أقل شخص في الفيشاوي أكبر من أي شخص من هؤلاء في النثر أو في الشعر أو في الصحافة

ص: 45

أو في التمثيل، كل فيما يحاوله ويرغب فيه، وجبراً لخاطر إخواننا في الفيشاوي نلعن ذلك الشيء المدعو بالحظ، قاتل النبوغ، وقابر العبقريات. . .

وللفيشاوي (موسم) يتم له فيه المجد، ويبلغ الغاية من الجلال والكمال، وذلك في رمضان إذ تنشد النفوس الإنابة وحسن الثواب وتطلب السهرات البريئة الطيبة فتستبدل أكواب الشاي بأكواب المعتقة، ومن ثم تجد في حلقات الفيشاوي رجال السياسة والأدب والصحافة في مصر، فتجد لطفي السيد باشا، وهيكل باشا، وحفني محمود، وعبد الرحيم محمود، ونيازي باشا، والصحافي العجوز، وفكري أباظة، ولطفي جمعة؛ وكثيراً من النواب وأساتذة الجامعة وشيوخ الأزهر، كل منهم في حلقة حافلة، يشدون أطراف الحديث طلباً للسمر، واستعانة على السهر، حتى السحور

ثم يأتي العيد، فينفض السامر الحافل، ويعود الوضع إلى مستواه، ولا يبقى للفيشاوي إلا الذين يعكفون عليه من أمثال الشاعر إبراهيم الدباغ والأستاذ عبد العزيز الأسلامبولي صاحب المعرفة، والشيخ سلطان الجهني المحرر بالوفد، والشيخ علي عامر المحرر بالدستور، صديقنا الشيخ البهي المحرر بالمقطم، والشاعر البائس الثائر على نفسه وعلى الناس والأيام عبد الحميد الديب. . .

وعبد الحميد الديب هذا شخصية عجيبة متناقضة، تثير في النفس بمظهرها وبأدبها وبسلوكها كل عواطف الإشفاق والقسوة والألم والضحك. فهو يعجبك بشعره، ولكنه يغضبك بسلوكه. وهو يضحكك بحديثه، ولكنه يؤلمك بمظهره. أشبعته الأقدار قسوة وإرهاقاً وبؤساً، وأشبعها هو استخفافاً واستهانة وزراية. وهو على حاله تلك يعتد بنفسه إلى أبعد حد، ويرفع شعره فوق كل شعر، فشوقي مهما سما في تقديره لا يبلغ شعره في مفرقه، وهو ملازم للفيشاوي لا يريمه في الضحى والأصيل والعشية، وحتى لقد يبيت على كراسيه. ولقد جاء العيد وتفرق إخوانه كل إلى شأنه وبقي هو وحده على أفريز الفيشاوي ينشد:

يا معشر الديب وافي كل مغترب

إلا غريبكم في مصر ما بانا

قدمتموه الشاة قربانا لعيدكم

والدهر قدمني للبؤس قربانا

لقد تغير كل شيء في الحياة! ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟! وهاهو ذا معول الهدم يهدد مقهى الفيشاوي بالدمار تنفيذاً لقرار دائرة الأميرة شويكار. فهل يحفل أدباء الفيشاوي

ص: 46

بتاريخ ناديهم العتيق وذكرى أيامهم الطيبة فيه كما يعني بذلك أدباء الغرب؟ هيهات!

م. ف. ع

ص: 47

‌حوريتي تَسأل.

. .!

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(مهداة إلى شفتيها الطاهرتين)

قالَتْ: لَقَدْ غَربَ الشُّعَاعُ! فَقُلتُ: مَا

غَربَتْ بَشاشَتُهُ وأَنْتِ بِجَانِبي!

قالَتْ: وَكَيْفَ؟ فقُلْتُ: أَنْتِ شُعَاعَةٌ

بَيْضاءُ في قَدَحِ المْسَاءِ الذَّائِبِ

تَفْنَى الأَشِعَّةُ والْعَوَالِمُ خَلْفَهاَ

وسَناكِ يُشْرِقُ في قَتاَم غَياهِبي

أَنْوَارُ حُبِّك خَالِدَاتٌ في دَمي

غَمَرَتْ لَديَّ مَسالِكي ومَذاهِبي

بِسِواكِ لا تَزِنُ الْوُجُودَ بَصِيرتي

إِلاّ بوَهْمٍ في الْجَوَانِح سَارِبِ

لا تَنْدُبي شَمْسَ النَّهاَرِ، فَطالَما

دَارَتْ رَحاها فِي الضُّحَى بِمَصائِبي

طَلَعَتْ عَلَيَّ فما لَمَحْتُ لَها سَناً

في الأَرْضِ تَرْفُهُ في يَدَيْهِ مَتاعِبِي

النَّاسُ حَوْلِيَ أَنْفُسٌ مَطْمُورَةٌ

في بَهْرَجٍ دَنِسِ السَّرِيرَةِ كاذِبِ

أَشْبَاحُهُمْ سَقَطُ الْقُبُورِ، وَطَيْفُهُمْ -

قَدَّسْتُ طَرْفَكِ عَنْهُ - بُومُ خَرَائِبِ

هَيَّا اتْرُكي عَنْهاَ الْحَدِيثَ، فَإِنَّنِي

عَنْ دَهْرِها لَسْتُ الْغَدَاةَ بِعاتِبِ

عَمْياَءُ كابْنِ الطِّينِ تَخْبِطُ مِثْلَهُ

خَبْطَ الْمُحَيَّرِ في هَجِيرِ سَباسِبِ

مَالَتْ وَحاديِها الظّلَامُ لِشَاطئٍ

في الْغَرْبِ مِنْ جُرْحِ الْمَطَامِعِ خَاضِبِ

مَرَّتْ جِنَازَتُهاَ بَطَرَفَيِ مِثْلَماَ

إِثْمٌ يَمُرُّ عَلَى ضَمِيرِ الرَّاهِبِ. . .

نَسَّانِيَ الدُّنْياَ جَبِينُكِ فَاسْكُبِي

قَبساً أَعَزَّ من الشُّعاعِ الْغارِبِ

أَيَّامِيَ احْتُضِرَتْ فَيا وَيْلي إِذا

لَمْ يحْبِهاَ نُورُ الْجَبِينِ الْغاَئِبِ

قَالَتْ: وَمَا لِلنِّيلِ يُشْبِهُ سَاجِداً

نَسِيَ الصَّلَاةَ وَلَجَّ في اسْتِغْفاَرِهِ؟

قُلْتُ: ارْقُبِيهِ، لَعَلَّ مَوْجَةَ شَطِّهِ

تُنْبِيكِ دُونَ النَّاسِ عَنْ أَسْرَارِهِ

هُوَ شَاعِرٌ مِثْلِي رَآكِ فَرَقَّ لِي

وَأّذَابَ هذا السِّحْر مِنْ أَوْتاَرِهِ

وأعانَ مِزْهَرِيَ الْجَرِيحَ عَلَى الْهَوَى

وَشَدا بِلَوْعَتِهِ عَلَيْكِ وَناَرِهِ

وَمَضَى يُغَمْغِمُ فِي الضِّفاَفِ، وَفِتْنَتِي

وصَبابَتي تَنْسَابُ في تَيَّارِهِ!

قَالَتْ: كَآباتُ الْمسَاءِ أَهَجْنَنِي!

قُمْ هُزَّ مِنْ فَجْرِ الْخَيالِ صَبَابَتي

هاتِ اسْقِني نَغَمَ الصَّبَاحِ لَعَلّنِي

أَنسَي عَلَى شَفَةِ الْمسَاءِ كَآبَتِي!

ص: 48

قُلتُ: ارْقُبِينِي في غَدٍ إِنَّ الأَسَى

في الرُّوحِ أَخْرَسَ هَوْلُهُ شَبَّابَتي!. . .

(وزارة المعارف)

محمود حسن إسماعيل

ص: 49

‌النُّور

للأستاذ أمجد الطرابلسي

تدَجّى السَّبيلْ

ومات الدَّليلْ

وتاه الرَّفيقْ

وهذا الظّلامْ

أضاع الزِّمامْ

فضلَّ الطّريق

وخاف الرّحيلْ فأَغفى

ونامْ وما يستفيقْ

وأين الصَّباحْ

يواسي الجراحْ

ويحيى الأملْ

سقته الحسانْ

ضياء الدِّنانْ

وخمرَ القُبلْ

فألقى السِّلاحْ وراَء

الزّمانْ صريعَ المُقَلْ

أقامَ الأَلَقْ

وراَء الغسقْ

يُنيرُ المدى

وحولَ الخصورْ

وفوقَ النّحورْ

يَصُبّ النَّدى

صبايا الشَّفَقْ رفعنَ

السّتورْ له فاهتدى

سباه الجمالْ

وسحرُ الدَّلالْ

وحلوُ النَّغَمْ

فألقى عصاهْ

مُريقاً سَناهْ

وراءَ الظُّلَمْ

وخَلى الضَّلالْ وبؤسي

المَتاهْ لِرَكْبِ الأَلمْ

هنا الليلُ نامْ

رهيبَ الظَّلامْ

مهيبَ الْحَلَكْ

وباتَ الصَّباحْ

أسيرَ الملاحْ

ص: 50

رَضِيَّ الشَّرَك

فمن للهِيامْ وراَء

البطاحْ وتحتَ الفلكْ؟

طلبتْ الضِّياءْ

فجزتُ الجواءْ

أمامَ النُّسُورْ

نفضتُ الدّهورْ

وخُضتُ البحورْ

لأحظي بِنورْ

ظلامُ الفناءْ يَعُمُّ القُص

ورْ فكيفَ القُبورْ. . .؟

(باريس)

أمجد الطرابلسي

ص: 51

‌المصور

شاهدت حاكية تأتي على الصوَرِ

كأنما يتحدى رسمها القدرا

فقلت خلق بلا سمع ولا بصرِ

لينفخ المرء فيها الروح إن قدرا

محمود غنيم

رسالة المرأة

فن التجميل والمرأة في مختلف العصور

للآنسة زينب الحكيم

بينت في مقال الأسبوع الماضي نشأة فن التجميل، وأوضحت اتجاه المرأة بالنسبة له. واليوم نتحدث عن فن التجميل في مختلف العصور.

استفسرت من أميرة كردية في راوندوز عن الوسائل التي يتزين بها بعد أن أثنيت على جمالهن، وعجبت إذا كان كله من إبداع الطبيعة! فقالت: إننا نحن الكرديات ليست لنا أسرار. قالت ذلك علناً أمام رجلين من الأكراد كانا في مجلسنا. وعندما هممت بالانصراف، وجدتها تستبقيني لحظات بعد انصراف الرجلين، وانتحت بي ناحية خاصة من الحجرة الكبيرة، ثم قالت: الآن أستطيع أن أصدقك القول جوابا عن سؤالك لي عن وسائل زينتنا. ورفعت غطاء حريرياً ثقيلاً عن صندوق، فلما فتحته أوضحت لي محتوياته، فأرتني نوعاً من المسحوق الأبيض غير النقي، وقالت: هذا نوع من تربة بلادنا كردستان نستعمله لتبييض وجوهنا بعد أن نمزج قليلاً منه بالماء

ثم أرتني نوعاً من الكحل ونوعاً من الدهن يستعملنه لشعورهن، وأطلعتني على عدد من مناديل اليد الحريرية الزاهية الألوان، هذا إلى جانب الحلي الذهبية الكثيرة التي تحملها فوق رأسها وصدرها وأطرافها، والثياب الفخمة الثقيلة التي تلبسها وأسّرت إليّ:(إننا كجميع النساء لا بد لنا من بعض الأسرار)

وما كان أشبه هذا الحادث بما حصل مرة مع أميرة هندية، سئلت عن وسائل تزينهن قالت:(ليس لنا نحن الهنديات أسرار لأننا كجميع النساء كلنا أسرار) ومع ذلك، فقد كانت تحمل أنواعاً من صناديق المراهم والدهون أينما ذهبت، ووسائل تزين هاتين (الكردية والهندية)

ص: 52

توضح أبسط وسائل الزينة وأيسرها اتباعاً

وفي الحق أن التفاني في اللجوء إلى الجمال المصطنع، والتغالي في إتقان فن التجميل دلت عليه نهضة صناعة قديمة تضارع أقدم الحضارات

فقد أوضحت الاستكشافات الأثرية، وبرهن التاريخ، على أنه قد وجد في مقابر قدماء المصريين، وعلى زهريات اليونان، وفي نقوش بابل، وفي الفسيفساء الروماني، أن الدهون قد استعملت بكثرة غامرة، بحيث تجعلنا نتخيل أن الوسائل التزين والتجميل استعملت في تلك الأيام بحالة لا يمكن أن تكون أقل انتشاراً مما هي عليه في أيامنا

فطالما وجدت تحت أكوام الآثار القديمة عشرات الآنية التي احتوت على أنواع الكريم والأصباغ وسوائل التدليك من كل صنف

أما المرأة الرومانية واليونانية كما يقرر عنها أتنيس فقد استعملت مسحوق المحار الأرجواني اللون (كالروج) للوجنتين، واستعملت للشفاه أحمرها المعتاد. ومن المشاهد أن هذا اللون الأرجواني لصبغ الوجنتين، قد أعيدت بدعته من نحو سنتين، ولا يزال يعرض في الأسواق اليوم وتستعمله بعض السيدات؛ وهذا دليل على تقصي مهرة مصنفي وسائل التجميل لتاريخ فن التجميل، ودراستهم لنفسية المرأة، وتتبعهم تفننها وتنوّع ميولها في مختلف الحقب

أما المصريات فقد استعملن الكحل (الأثمد)، ومن الغريب أنهن كن يسودن طرفي الفم بحيث يصل طول الخط الأسود الممتد من طرف الشفتين نحو سنتمتر أو أكثر قليلاً، وتوجد نماذج من التماثيل التي توضح ذلك في المتحف المصري بالقاهرة

والأثمد يستعمل الآن بكثرة في الشرق الأدنى لتسويد الأهداب، وإظهار الحواجب، وتفخيم العيون، وكان يستعمل معجوناً كدهان للجفون السفلى مما أكسبها نظرة جذابة، ولعل (الرِّمل) الذي يستعمل الآن هو اختراع مهذب عن ذاك

والإنجيل يخبرنا أن الزيوت العطرية كانت تستعمل لدهن الشعر، وكثير من رءوس الموميات المصرية وجدت مغطاة بآثار شعر مصفف بطرق أنيقة لتجعيد الشعر وكيه وقصه ووجدنا أن الزهريات الرخامية الفاخرة، تحتوي على مراهم يرجع تاريخها إلى 3500 عام قبل الميلاد.

ص: 53

ووجدت مرايا من أيام الأسرة السادسة، أي من نحو 2600 سنة قبل الميلاد، وأقلام لتزجيج الحواجب من عهد الأسرة الثامنة عشرة أي منذ 1500 سنة قبل الميلاد

وبفحص ما عثر عليه من آثار توت عنخ آمون الفخمة في مقبرته، وجدت آنية تحتوي على عطور لا تزال باقية من نحو 3300 سنة

وكان السعتر والمر، والبخور والناردين، وأنواع الزيوت ولا سيما زيت السمسم واللوز والزيتون، كلها كانت المواد التي استعملت في أقدم أصناف الدهون، وكثير منها استخدم مع الكحل، والحناء التي استعملت لصبغ الأصابع والأقدام، ولا يزال يستعملها بعض الناس إلى اليوم

بل لقد اختص المصريون باختراع أغطية متقنة من الذهب والفضة، لتغطية أظافر السيدات وتجميلها، فكانت ترفع أو تستعمل وفق التقاليد.

ولعل الطلاء الأظافر الفضي اللون والذهبي الذي يستعمل اليوم، طريقة أسهل وأرخص من ذاك الاختراع الذي أخذت عنه على ما يظهر

والإسلام يأمر باتخاذ الزينة والتطيب، والنظافة الشخصية. واستعمل العرب السواك كفرجون للأسنان

واستعلمت الرومانيات الزنك الأبيض والطباشير لتبييض وجوههن في بعض الأزمنة، كما استخدمن الكحل لأعينهن، والأحمر لوجناتهن وشفاههن

أما النساء المتمدنات اللائى وجدن في الآثار القديمة فقد عرف أنهن استعملن مسحوقاً لطلاء الأسنان، صنع من نوع من الأحجار. . .

وصنعت أنواع الكريم للتجميل من دقيق الشعير والزبد. وبيض النساء شعورهن بطريقة يظهر أنها تشبه الطريقة البلاتينية التي اخترعت في أيامنا

وكانت مناضد زينتهن تحمل ثلاثة أصناف من الدهون في أوان قيمة، كما استعملن أنواعاً من الذرور الثمينة مثلما يستعمل نساء اليوم

وشاع استعمال العطور والمساحيق وحمامات اللبن ووسائل تجميل أخرى في أظلم الأوقات من العصور الوسطى! بل لقد عمت البدع المتبعة، ونقلت من الشرق إلى الغرب وبالعكس بواسطة الصليبيين الذين أحضروا الفرسان وعرفوهم أسرار التجميل التي كانت محفوظة

ص: 54

في (الليفان أي شرقي بحر الروم

أسباب لها تأثيرها في طابع الأمم

في سنة 1770م قدِّم اقتراح للبرلمان الإنجليزي، يهدد بتحريم أي زواج لإحدى رعايا الملك إذا استعملن الروائح والأصباغ والدهون، كما حرم اتخاذ الأسنان الصناعية وغيرها. ولست أدري إذا كان هذا الاقتراح هو السبب في شدة اعتدال المرأة الإنجليزية في استخدام أصباغ الوجه، وانصرافها عن عمليات التجميل التي تحسن الأسنان الشائهة مثلاً، فإن الإنجليز ناس تقاليد ونظم!

وهل يمكن أن يكون هو السبب ذاته في عدم تشجيع القوم هناك على العناية بالنظافة الشخصية، مضافاً إلى ذلك حالة الجوّ! أظن أنهما معاً السبب المباشر في الروائح التي تنبعث من بعض المجتمعات الإنجليزية مما ينفر من حضورها أو الإقبال عليها، لا سيما إذا ما كانت في أمكنة ضيقة

حاولت بعض المستعمرات الأمريكية أن تسن قوانين مشابهة لتلك، قاصدة إلى إحباط نشاط المرأة في سبيل التزين ولكنها لم تفلح كثيراً

أما النساء الفرنسيات في بلاط لويس الثالث عشر فكان لهن ملء الحرية في استعمال الدهون من أغلى الأنواع، وبذلك ساعدن على اختراع وتركيب العطور والكريمات وجميع المنتجات التي تزيد من جمال المرأة على أساس صناعي تجاري

وأظن من الواضح ما نشاهده من تأثير تلك الحرية بالنسبة لفن التجميل عند المرأة الفرنسية التي تغالي جداً في استخدام الأصباغ والعطور بحسن تصرف وذوق حسن كما سبق أن نوّهنا

ولقد روج هذا، دون ريب، تجارة وسائل الزينة وصناعتها، وأحدث موجة من نوع خاص في جملة بلاد ولا سيما في الولايات المتحدة

فمثلاً حلاقو الشعر وأصحاب محال التجميل وأطباء جراحات التجميل للوجه والجسم، وغير هؤلاء من الأخصائيين تعاونوا مع الصيدليين والمجربين على اختراع طرق ووسائل لما تركته الطبيعة بدون تشكيل حسن في نظر العصر وذوق التطور، أو ما سببه شذوذ الخلقة من نقص أو ما فعلته تأثيرات ظروف حياتنا الحاضرة

ص: 55

ومن عوامل التوفيق أن تدخلت الحكومات في هذا العمل من ناحية تقييد المقادير ومراقبة المركبات الكحولية خصوصاً المركبات السائلة

أما الصناعات الإضافية مثل صناعة القوارير الجميلة للروائح وآنية الذرور وأصباغ الشفاه وأشباهها فساعدت كثيراً على رواج استعمالها

على أنه مع كل الذي أسلفنا لا يزال هناك معارضة من بعض النواحي للتزين واستخدام الأصباغ: من ناحية الفضيلة من جهة، ومن جهة أخرى من ناحية مبدأ الإنسان الشخصي الذي لا يتفق والصورة المصطنعة التي تظهر بها الفتاة الحديثة والسيدة المقلدة

ولكن ما العمل و (الموضة) معلمة شاقة الرسالة والتطور سنة الحياة؟

إن كثيراً مما يظهر مجرد بدعة وعجب لأول وهلة أصبح ضرورة ملحة في سبيل المجاهدة للحياة التي يتعرض لها كثير من السيدات اللائى يضطلعن بالوظائف والحياة العملية

فعارضة الأزياء، والبائعة، والتشريفية، والزوجة، والفتاة التي تنتظر الزواج، عليهن جميعاً أن يكن أنيقات غير متبرجات، ولا داعي لأن ننبه الأذهان أيضاً إلى ما يستلزمه موقف الممثلة والراقصة والمغنية

لقد أصبحت روح العصر تحتم أن تكمل ما ننقصه الطبيعة، وأن نصلح ما تخطيء فيه، لهذا تقدم المختصون في التجميل بأنواعه جالبين معهم جميع ما يستطيعونه من المغريات للتزين ومحرضين عليه بشتى وسائل الإعلان.

لا عجب إذا في نهوض فن من أقدم الفنون، تدرج في نشوئه من مئات السنين، وليس مما يطمس هذه الحقيقة، أو يحط من قدر الفن ذاته، الفكرة التي سادت بين الناس من نحو قرن أو أكثر قليلاً، وهي أن الوسائل الاصطناعية للتجميل ليست إلا مغريات لسفلة نساء الأمم. إنما شدة مغالاة النساء في التزين راجعة إلى قفزة عنيفة قفزتها المرأة لتحطم بعض ما تبقى من القيود الثقيلة التي شلت حركتها، وعطلت تفكيرها طويلاً.

وما إسرافها الذي نلحظه ولا نوافق عليه إلا رد الفعل الذي يأتي بعده الإصلاح والتوجيه، وهذا ما سيكون موضع عنايتنا إن شاء الله.

زينب الحكيم

ص: 56

‌رسالة العلم

الحياة

للدكتور محمد محمود غالي

من البويضة للشيخ - فيم تختلف المادة الحية عن المادة عديمة الحياة - الكربون مكون أول للحياة - ذرة الراديوم - الشبه بين الحياة والمغناطيسية والنشاط الإشعاعي - أعمال (ليب) - إمكان تطور البويضة والحصول على كائن لا يحافظ على جنسه - آمال للتجديد في هذا السبيل

نرقي مدارج الحياة، وننتقل خلال ذلك من حالة إلى أخرى، من طفل يلهو ويعبث بما يراه، إلى غلام يلعب ويعنى بتافه الأمور، إلى شاب ممتلئ حركة ونشاطاً، يكبُ على العمل ويقوم بدوره في المجتمع، إلى رجل يهتم لأبنائه أكثر من اهتمامه لنفسه، إلى كهل يتهالك في خدمة عشيرته وبلاده، ثم إلى شيخ لا يستطيع قليلاً ولا كثيراً، يستند إلى عصاه إن تعسر عليه المسير، اكتفى بمقعد في حديقة المنزل، حتى إذا تعسر عليه هذا أيضاً قضى أيامه الأخيرة في مضجعه، طوراً بين ذكريات الماضي ومرارة الحاضر، وتارة بين الداء وزجاجة الدواء، كلنا نعرف آخر القصة، وكلنا نعرف نهاية الهرم المحتوم.

هذه طريق الحياة، كلنا عابرها، من البويضة الضئيلة في الرحم قبل مولد الطفل، إلى هيكل مهجور في الرّمس بعد التجرد من الحياة - ترى ما هي الحياة؟ وفيم يختلف الإنسان عن العصفور، والعصفور عن التفاحة، وهذه عن المحبرة التي نستعين بها لنبعث للقارئ بهذا النوع من التفكير.

لقد ذكرنا أن جزيئات المادة عديمة الحياة هي ذرات كيميائية، وأن الذرات تتركب من نواة مركزية يدور حولها إلكترونات. وذكرنا أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية مألوفة، وأن العلماء يعتقدون أنه قد حدث أن مجموعة من هذه الذرات تجمعت بطريق المصادفة بالكيفية الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وتساءلنا: هل المادة الحية هي مجموعة من الذرات المادية، أم هي هذه المجموعة مضافاً إليها الحياة؟

أما أن المادة الحية تختلف عن المادة التي لا حياة بها اختلافاً يدل على وجود عناصر كيميائية جديدة لا نعرفها في الثانية، فهذا لا يقوم عليه أي دليل، فكل أنواع الذرات

ص: 58

الموجودة في إحداهما موجودة في الأخرى، فلا فارق هناك بين مادة ومادة من حيث أنها عناصر كيميائية

على أن الذي يستطيع أن يؤكده العلماء، أن المادة الحية مركبة من ذرات معتادة، لا تختلف إلا في أن لها قابلية عظيمة للتماسك أو التجمع في جزئيات كبيرة بنوع خاص، بمعنى أن معظم الذرات الأخرى المكونة للمادة المجردة عن الحياة ليس لها هذه الخاصة. خذ مثلاً الماء باعتباره المادة الأكثر شيوعاً أمامنا على سطح الأرض، فإن ذرات عنصرية الهيدروجين والأوكسجين تتحد لتكون إما جزئيات هيدروجينية أو أكسوجينية أو ماء

على أن أياً من هذه المركبات لا يحوي أكثر من أربع ذرات، كذلك لا يتغير الوقف بإضافة الأزوت، فإن جزئيات مركباته مع العناصر السابقة تحوي ذرات قليلة؛ بيد أن وجود الكاربون مع هذه العناصر يغير الموقف كلية، إذ تتحد ذرات هذه العناصر مع الكاربون لتكون جزئيات تحوي الواحدة منها آلافا بل عشرات الآلاف من الذرات، ويتكون جسمنا الحي من هذا النوع من الجزئيات الكبيرة

وقد كان يعتقد العلماء، منذ قرن من الزمان، لزوم قوة حيوية خاصة، لإحداث هذه الجزئيات الكبيرة. على أن (فولر) استطاع بالوسائل الكيميائية أن ينتج أحد المركبات البولية (? وهو نتاج حيواني كما تمكن علماء غيره من الحصول على مركبات حيوية أخرى

ونعد إلى الكلام على ذرة الكاربون العجيبة في كونها مكونة أولى للحياة، فنرى أنها تتألف من ستة إلكترونات تدور حول نواة مركزية، كستة سيارات تدور حول الشمس، ولا يختلف الكاربون عن البورق والأزوت أقرب الذرات شبهاً به في الجدول الكيميائي، لا في أنه يزيد سياراً واحداً عن البورق، كما ينقص سياراً عن الأزوت، ويبدو أن هذا الفارق البسيط هو الذي يعين كون المادة كاربوناً أو غيره، وبالتبع يعين إمكان دبيب الحياة فيها، أو استحالة ذلك

ومن هنا نتساءل، عما إذا كانت الذرة التي لها ستة سيارات تدور حولها، لها خواص استثنائية ترجع بها لسر من الأسرار العلمية التي لم تكشف لنا؟ إن الرياضة الطبيعية، كما يقول السير جينز لا تجيبنا اليوم على هذا السؤال

ص: 59

وتدلنا الكيمياء على ظواهر أخرى تشبه ذلك أشار إليها السير جينز في كتابه وتبدو في نظري أهم ما في هذا السفر الجليل، فالمغناطيسية مثلاً تبدو واضحة في الحديد (وذرته ذات 27 إلكترونا) وتبدو بدرجة أقل في النيكل (وذرته ذات 26 إلكترونا) وفي الكوبلت (وذرته ذات 28 إلكترونا) ويلاحظ أن لذرات هذه العناصر الثلاثة عدداً من الإلكترونات متتابعاً، كما يلاحظ أننا لا نرى في كل العناصر المادية الأخرى المعروفة لنا أي أثر للمغناطيسية، فالمغناطيسية إذن ظاهرة خاصة بالذرات التي لها هذا العدد من الإلكترونات

ولدينا في العلوم الطبيعية مثال آخر، هو النشاط الإشعاعي، وهو ظاهرة نراها في العناصر التي لذراتها من 83 إلى 92 إلكترونا والتي تبدأ في البيزميث ورادون الراديوم وتنتهي في الأيرانيوم، وقد بينا بالشكل الكيفية التي عليها ذرة الراديوم وفق بعض الاتجاهات الحديثة، فهي كما تراها مركبة من نواة وسطى يدور حولها عدد كبير من الإلكترونات يبلغ 88 إلكترونا كما هو مبين بالشكل.

على أن هذه المقارنة بين المغناطيسية كظاهرة والنشاط الإشعاعي الذي يبدو ظاهراً في الراديوم كظاهرة أخرى، هذه المقارنة توجهنا إلى أن نضع الحياة في قائمة الظواهر الطبيعية الأخرى كالظواهر المتقدمة

وعلى هذا الأساس، فإن العالم مربوط بقوانين معينة، وفق هذه القوانين يبدو أن للذرات التي لها عدد معين من الإلكترونات (6 ثم من 26 إلى 28 ثم من 83 إلى 93) لها خواص مُعينة، يطهر أثرها في الأولى بالحياة، وفي الثانية بالمغناطيسية، وفي الثالثة بالنشاط الإشعاعي وفعل الراديوم.

فالذرة إذن في جزيء المادة الحية لا تختلف في مجموع ما فيها عن الذرة في المادة المجردة عن الحياة، ولكلتيهما إذن نظام أشبه بالنظام الشمسي للمادة الذي سبق التحدث عنه، وإن كان من الصعب أن نمثل على الورق جزئيا من المادة الحية لكثرة عدد ذراته وبالتابع إلكتروناته كما مثلنا على الورقة الآن ذرة الراديوم. وبعبارة أقرب للوضع العلمي: إن كل ما يؤلف المادة الحية هو جسيمات أو كهارب في حركة ممكن إرجاعها يوماً إلى علاقات ترتبط بالبحرين الكبيرين اللذين يغمران كل الكائنات: الحيز والزمن، وبعبارة واضحة: إن المادة الحية كالمادة عديمة الحياة، ترجع في النهاية إلى حركة أو اعتبارات

ص: 60

إلكترونية في الزمان والمكان.

بقى أن نتساءل عن أمرين:

الأول: هل يجوز إذن، ابتداء من مادة عديمة الحياة، أن نحصل في مختبراتنا على مجموعة من المواد الحية كالمجموعة المكونة لنا؟ أي مجموعة لها خاصية التناسل والتكاثر والمحافظة على نوعها؟

الثاني: هل في مجموعة الظواهر الحيوية ما يفسرها بموضوعات طبيعية كيميائية؟ وبعبارة أوضح، هل يمكن بمعلوماتنا الحالية، وبالرجوع إلى الميراث العلمي أن نرجع مجموع الظواهر الحيوية إلى موضوعات طبيعية كيميائية؟

ولو أننا بعد التحري الجدي، وجدنا الإجابة على الأمرين بالإيجاب، لجاز لنا أن نعتقد أننا كالتفاحة التي نأكلها، والمحبرة التي نكتب بها، بل لجاز لنا أن نعتقد أن لحياتنا الاجتماعية والأخلاقية، أساسا علمياً، يرجع إلى قواعد تتوافق مع نتائج البيولوجيا العلمية والطبيعية النظرية التجريبية

أيستطيع البيولوجيون والطبيعيون أن يرجعوا يوماً كل مظاهر الحياة، كل ما فيها من صفات وغرائز موروثة، حتى عظمة الرجل الذي يموت في سبيل بلاده وهو راض، حتى حنان الأم التي تتفانى في سبيل أولادها وهي سعيدة؟ أيستطيع العلماء إرجاع كل هذا، كل ما في الرجل من إرادة وآمال، كل ما في الأم من عطف وحنان، إلى حوادث داخل أجسامنا، تجد تفسيرها المادي في الكيمياء والطبيعة والرياضة؟ هذا ما أريد أن ألم به في ختام هذا المقال

للعالم ليب أستاذ جامعة بركلي بالولايات المتحدة كتاب الفكرة الميكانيكية للحياة، صادف نجاحاً في أمريكا، ترجمه إلى الفرنسية العالم المعروف هنري موتون أستاذ الكيمياء الطبيعية في السوربون، صادفت ترجمته أيضاً نجاحاً حتى أصبح البعض يعرف (موتون) بها أكثر مما يعرفه باكتشافه للألتراميكروسكوب وبأبحاثه في (تأثير المجال المغناطيسي على الظواهر الضوئية)

لقد لازمت موتون سنوات عديدة، وطالما جمعتنا الأيام منفردين في مَخْبَره بمعهد باستير، وطالما حدثني في العلوم بما لا يَمُتُّ لعملي في شيء، وكان لهذه الاجتماعات أثر في

ص: 61

تكويني، وعجيب أنه لم يذكر (موتون) يوماً شيئاً عن (ليب)، ولم أشعر أن أعمال الأخير شغلت يوماً حيزاً من فكر صديقي العالم

وعندما افترقنا في سنة 1935 بوفاة (موتون) وبعودتي إلى مصر، اقتنيت بطريق المصادفة تلك الترجمة المتقدمة التي أخرجها الآن من مكمنها بين الكتب بعد أن ظلت محتجبة أربعة أعوام، لأستدل من رجل قضي سنين طويلة من حياته في البحث التجريبي على الإجابة على ما تقدم، ولأستدل على ما قد يُرضي رغبتي أن أجد في الحياة أمراً غير التفاحة التي نأكلها، والمحبرة التي أستملي منها

والواقع أنه قد نجح (ليب) وغيره نجاحاً باهراً في نواحي تجاربه العديدة، هذه التجارب التي هي آية في الدقة والتي تبعث على الإعجاب في الوصول إلى تفسير مادي لكثير من الظواهر الحيوية، هذه التجارب التي وإن انحصرت في مخلوقات كالأسماك والحشرات إلا أنها قد تمتد يوماً إلى الحيوانات العليا كالإنسان. وعند (ليب) وزملائه أن اتجاه الفراشة نحو الضوء في خط مستقيم ليس إلا أثراً ضوئياً - بل إن تلقيح البويضة وإمكان تطورها إلى مخلوق دون الالتجاء إلى الحيوان المنوي أو بالالتجاء إليه، له عند (ليب) ومعاصريه تفسير كيميائي طبيعي

على أنه إذا كان العلماء قد يحصلون الآن على مادة عديمة الحياة فإنه مما لا شك فيه أنه لم يمكن حتى الآن إلا تحضير مجموعة من نواة مختلفة للخلايا ولكنها مجموعة لا تصلح أن تكون خمائر تتكاثر وتحافظ على جنسها، بالشكل الموجودة فيه في الأحياء

لتكن عقائدنا بحيث يجمل بنا أن نمتلئ إيماناً بتقدمنا، يجمل بنا ونحن ندرس أعمال العلماء المجيدة أن نعتقد أنه إذا كان لم يتح لأحد منهم حتى اليوم أن يوجد المادة الحية بطريقة يتكون بها كائن يتناسل ويحافظ على جنسه من مادة مجردة عن الحياة فإنه ليس من حقنا ولا في مقدورنا العلمي، أن نجزم بأن هذه الغاية ضرب من المحال

إن أعمال (ليب) وغيره تدعو للإعجاب. وإذا كان قد نجح ونجح معه معاصروه في أن يُرجع كل التطورات التي تتم عند تلقيح البويضة إلى مسائل كيميائية طبيعية، بل نجح في تعهد بويضة لم يلقحها الحيوان المنوي بحيث نتج منها كائن له قلب ومعدة وهيكل عظمي، وتنقصه الدورة الدموية اللازمة لاستمرار الحياة، كائن استطاع أن يعيش على هذه الأرض

ص: 62

شهراً من الزمان - فإنه ما زال أمام العلماء إحداث كل ذلك بالاستغناء عن البويضة نفسها وعن كل ما يمس الحياة.

أيستطيع إنسان أن يوجد، ابتداء من الذرات مهما تنوعت والإلكترونات مهما تعقدت، كائناً آخر؟ كائناً يتطور ويترقى ليكون يوماً أو بعد ملايين السنين مثلك ومثلي ومثل (موتون) و (ليب)؟ هذه مسألة ما زال العلم النظري والتجريبي بعيداً جد البعد عن الوصول إليها، وإن كانت العلوم التجريبية تحتم علينا ألا نعتبرها ضرباً من الخيال

على أنه عند القرب أو الوصول إلى هذه الحدود، يكون العلماء قد أحدثوا في العلم تطوراً يفوق بكثير ما أحدثه جاليليو ونيوتن في القرن السابع عشر، وما يحدثه بلانك وأينشتاين ودي بروي في العصر الحاضر.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة دبلوم

المهندسخانة

ص: 63

‌ما هي الحياة؟

وكيف ظهرت على الأرض؟

للأستاذ نصيف المنقبادي

وحدة النباتات والحيوانات

يعتقد جمهور الناس أن الحيوانات (ومن بينها الإنسان) والنباتات والجمادات يختلف كل منها عن الآخر اختلافاً جوهرياً كلياً. وكانوا يعلموننا في المدارس أن هناك عالم الحيوان وعالم النبات وعالم الجماد، وأن كلاً منها مستقل تمام الاستقلال عن غيره. ولا شك في أن من يلقي نظرة سطحية عليها يجد أنها تختلف في الظاهر. فالحيوان يتحرك، والنبات ينمو، والجماد يبدو كأنه ثابت لا يتغير. ولكن الذي ينعم النظر ويدقق على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة يتضح له أن هذه كلها اختلافات ظاهرية لا حقيقة لها في الواقع

ونقصر اليوم حديثنا على وحدة النباتات والحيوانات (ومنها الإنسان) والصفات المشتركة بينهما وهي مميزات الحياة بعينها. ونبحث في مقال قادم عن وحدة الأحياء عموماً (الحيوانات والنباتات والجمادات) لنستخلص من ذلك ماهية الحياة وكنهها وكيف أنه ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة. ثم نشرح في مقال آخر كيفية ظهورها على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، وعلى الأخص طاقة الشمس التي كانت تشتمل في ذلك الماضي البعيد جداً على الكثير من الأشعة فوق البنفسجية وعلى إشعاعات أخرى أكثر مما تحتوي عليه الآن. وأخيراً نتكلم عن المواد المتوسطة بين الأحياء والجمادات كالخمائر الذائبة في الماء وكالمعادن الغروية المدهشة التي تتصرف مثل الكائنات الحية في أهم أحوالها

مميزات الحياة المشتركة بين الحيوانات والنباتات

نطلق على جميع الحيوانات (ومن بينها الإنسان) وجميع النباتات اسم (الأحياء) أو (الكائنات الحية). ونقول عن كل فرد منها إنه (حي). وهذا يدل على أنها تشترك جميعها في بعض صفات وظواهر هي التي تميز الحياة وتجمع بين الكائنات الحية على اختلاف طوائفها وأنواعها وأفرادها. كالشكل النوعي، والتكوين الخلوي، والتركيب الكيميائي، والتغذي، والتنفس، والتحرك الذاتي والتطور الفردي والنوعي. وسيرى القارئ أن هذه

ص: 64

الصفات وإن كانت تميز - مجتمعة - الكائنات إلا أنها ليست خاصة بها كما سنثبت في مقال قادم، بل هي توجد ولكن مشتتة أو مبعثرة في الجمادات، وكل ما في الأمر أنها إذا اجتمعت في جسم واحد قيل عنه إنه (حي)

فلنستعرض هذه المميزات المشتركة لنقول كلمة موجزة عن كل واحدة منها لأن مقام التفصيل في كتب البيولوجيا. وحسبنا أن يكون فيما نورده هنا مقدمة أو تمهيد يسهل لقراء الرسالة الوقوف على الأبحاث الجديدة العظيمة التي كشف عنها العلم في الثلاثين سنة الأخيرة مما سنشرحه في المقالات القادمة.

الشكل النوعي: لكل نوع من الكائنات الحية شكل معروف خاص به يميزه من غيره لأول وهلة. وتستوي في هذا الحيوانات والنباتات، كما أن لبلورات الجمادات والمواد المعدنية المبلورة أشكالاً هندسية ثابتة بكل نوع كيميائي منها تميزه من سواه.

وأشكال الحيوانات والنباتات تظهر ثابتة في مدة معينة من الزمن. ولكن إذا نظرنا إليها خلال ملايين السنين - على ما تبدو لنا في البقايا المتحجرة في طبقات الأرض المختلفة التي تكونت في الأعصر الجيولوجية القديمة المتعاقبة نجد أنها غير ثابتة، بل أنها في تغير وتحول مستمرين بفعل العوامل الطبيعية، والمؤثرات الجوية وتقلباتها، وتنازع البقاء بين الفصائل والأنواع والأفراد وما يترتب على ذلك من الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب وانقراض غير الملائم للبيئة الجديدة والظروف الطارئة. غير أن فعل الطبيعة هذا تدريجي بسيط لا يظهر أثره إلا في ملايين السنين فيخيل لنا أن أشكال الحيوانات والنباتات ثابتة على الدوام، ولكن الحيوانات والنباتات المتحجرة التي عثر ويعثر عليها العلماء كل يوم في مختلف طبقات الأرض في جميع أنحاء الكرة الأرضية تدلنا على عظم تحول الأنواع وتسلسل الحديث منها من القديم. ويكفي أن يزور الإنسان أحد المتاحف الجيولوجية في أوربا ليقتنع بهذه الحقائق الثابتة التي يؤيدها من جهة أخرى علم التشريح التقابلي وعلم تكوين الجنين (يراجع المقال القيم الذي نشره أخيراً عن هذا الموضوع بمجلة (الرسالة) للأستاذ عصام الدين حفني ناصف)

التكوين الخلوي: إذا فحصنا بالميكرسكوب أية قطعة من جسم الإنسان أو أي حيوان أو أي نبات نرى أنها مؤلفة من خلايا صغيرة متلاصقة لا ترى بالعين المجردة، والخلية مكونة

ص: 65

من مواد زلالية بها قليل من مواد دهنية وسكرية، وفي وسطها نواة من مادة زلالية خاصة، ويحيط بها في أغلب الخلايا غشاء من مادة زلالية أخرى في الحيوانات ومن مادة السيليلوز (مادة القطن) في النباتات، والشكل العام للخلايا الحيوانية والنباتية واحد ولا سيما في الأدوار الأولى من تكون الجنين ولكن الخلايا تختلف بعد ذلك بعض الاختلاف في تفصيلاتها باختلاف وظيفة كل نسيج تدخل في تكوينه، كالخلايا العصبية وخلايا العضلات وخلايا الجلد وكالخلايا التي تدخل في تركيب الأوراق وأعضاء الزهرة والخلايا الخشبية والخلايا التي تؤلف منها الطبقة المولدة في غصون النباتات.

وتوجد إلى جانب هذا كائنات من خلية واحدة وهي الحيوانات والنباتات الأولية التي لا ترى إلا بالميكرسكوب، وكذلك كرات الدم البيضاء والحمراء

التركيب الكيميائي: تشترك جميع الأحياء من حيوانات ونباتات وإنسان في تركيبها الكيميائي وهو تركيب الخلية نفسها ونعني به ذلك الخليط من المواد الزلالية والدهنية والسكرية أو النشوية المتقدم ذكرها، وبعض مواد أخرى إضافية ثانوية قد توجد في بعض الخلايا ولا توجد في غيرها

التغذي: معلوم أن النباتات تتغذى مثل الحيوانات. ذلك أن مادتها الخضراء (الكلورفيل) تستعين بالطاقة الإشعاعية الكامنة في ضوء الشمس لتحليل غاز حامض الكربون المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون:(الفحم) وتمزجه بالماء الذي تمتصه جذورها من الأرض فيتولد النشا الذي يتحول تارة إلى السكر وتارة إلى السيليلوز ومادة الخشب، وتتولد أيضاً على هذا النحو المواد الدهنية وتراكيب وأحماض عضوية أخرى ثلاثية:(مكوّنة من كربون وهيدروجين وأوكسيجين). وتمتص جذور النباتات في الوقت نفسه من الأرض - مع الماء - تراكيب الأزوت مثل الأزوتات: النترات وأملاح النشادر، وكذلك بعض مواد معدنية أخرى. وهذه المواد الأزوتية تمتزج بفعل قوة الشمس أيضاً بالسكر أو النشا، وبالمواد الدهنية والأحماض العضوية المشتقة من كربون الهواء على الوجه المتقدم بيانه، فتتولد المواد الزلالية التي هي أهم غذاء لها: أي النباتات وللحيوانات ومنها الإنسان. وخلاصة القول أن النباتات تتغذى مثل الحيوانات وتتناول لغذائها نفس المواد التي تتغذى بها الحيوانات وهي: المواد الزلالية، والمواد الدهنية، والمواد السكرية أو النشوية.

ص: 66

كما أن الغرض من التغذي واحد في الحيوانات والنباتات وهو، أولاً: توريد المواد اللازمة لتشييد بناء الأجسام الحية أثناء نموها وإصلاح ما يتلف ويستهلك منها. ثانياً: وهو الأهم، احتراق المواد الغذائية - بعد هضمها وامتصاصها - داخل أنسجة الجسم وخلاياه لتوليد الطاقة (التي كانوا يسمونها بالقوة فيما مضى). والحرارة اللازمتين للقيام بأعمال الحياة ووظائف الأعضاء.

التنفس: ويلحق بالتغذي التنفس، ولا يخفى أن النباتات تتنفس مثل الحيوانات أي أنها تمتص الأكسجين من الهواء وتفرز غاز الحامض الكربونيك، ولها مسام في أوراقها وغصونها لهذا الغرض، كما أن الغرض من التنفس واحد في الحيوانات والنباتات وهو احتراق المواد الغذائية لتوليد الطاقة (القوة سابقاً) والحرارة الضرورتين لأعمال الحياة. وقد عرف علماء الفسيلوجيا الحياة بأنها احتراق أو تأكسد

التحرك: والحركة لا تختص بها الحيوانات دون غيرها فإنه توجد - من جهة - طائفة كبيرة من الحيوانات السفلى تعيش ثابتة في مكانها لا تتحرك منذ نشأتها، وهي تتولد بعضها فوق بعض في قاع البحار فتتكون منا جزر وهضاب لها شأن كبير في علم الجيولوجيا مثل الحيوانات الجوفاء أو المرجانية وغيرها. وإلى جانب هذا توجد نباتات تتحرك حركة ذاتية من تلقاء نفسها مثل الأنواع المفترسة (يرجع المقال الذي نشر في هذا الصدد أخيراً بمجلة الرسالة للأستاذ رضوان محمد رضوان). ومن النباتات المتحركة النبات المعروف باسم المستحية ومنها فصيلة كاملة من النباتات الطحلبية المائية، وهي الفصيلة المسماة (بالمهتزة) ومنها جرثومة التلقيح في النباتات السفلى فإن لكثير منها شعرة طويلة في مؤخرها أو أهداباً عديدة حولها تستعين بها على العوم في الماء فتتحرك وتنتقل وتروح وتجيء، لا فرق في ذلك بينها وبين الحيوانات الصغيرة ذات الخلية الواحدة ولهذا سميت أي الجرثومية التلقيحية الحيوانية، وهي نبات محض

ولولا ضيق المقام لبينّا أن السبب في عدم تحرك النباتات في مجموعها يرجع إلى مادة السيليلوز الجامدة التي تتركب منها أغشية خلاياها فتمنع امتداد الحركات المحلية الحاصلة على الدوام داخل كل خلية وذلك خلافاً للخلايا الحيوانية

التلقيح والتناسل والتطور: تتناسل النباتات كالحيوانات للتلقيح في أغلب الأحوال (ولكن

ص: 67

ليس في جميعها على الإطلاق) ويشتق أو يولد كل فرد منها من فرد مماثل له، ثم ينمو بالتغذية، ثم يتناسل ويتكاثر بدوره، ثم يضعف ويموت متأثراً بما يتراكم في أنسجته من بقايا احتراق المواد الغذائية ومن تعفن فضلات الطعام داخل جسمه قبل إفرازها، عدا الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة فإنها أحياء خالدة لا تموت إلا إذا طرأ عليها حادث مهلك يقتلها كأن يجف مثلاً الماء الذي تعيش فيه أو يفسد.

وحدة الحيوانات والنباتات

ينتج مما تقدم أنه ليس هناك فرق جوهري بين الحيوانات والنباتات حتى لقد حار العلماء في إيجاد حد فاصل بينهما أو محك للتمييز بين بعض الأحياء السفلى الملتبس في أمرها لمعرفة هل هي حيوانات أو نباتات. ولم يجدوا أمامهم غير فاصل واحد هم أول من يعترفون بأنه سطحي ظاهري ونعني به مادة السيليلوز التي تتركب منها أغشية الخلايا النباتية فإنه لا وجود لها في الحيوانات

ولكن هذا الفاصل غير شامل لجميع النباتات في جميع أدوار حياتها لأنه توجد بعض الأنواع السفلى من النباتات الفطرية من فصيلة الميكزوميست تقضي حياتها كلها أو معظمها دون أن تكون لخلاياها أغشية من أي مادة كانت. غير أنه إذا ساءت الأحوال الجوية أفرزت هذه النباتات حول نفسها مادة السيليلوز فتتقي بهذا تقلبات الجو. أما في باقي الفصول المعتدلة فإنها تعيش خالية من هذه المادة.

ثم إنه من جهة أخرى توجد في جميع الحيوانات مادة تعد شقيقة السيليلوز من الوجهة الكيميائية وهي السكر، فكلاهما مكون من امتزاج الفحم بالماء ولكن على نسب مختلفة في كل منهما. ولذلك أطلقوا على هذه المجموعة اسم (هيدرات الكربون) التي منها أيضا النشا ومادة الخشب

وهناك فاصل فسيولوجي بين الحيوانات والنباتات قد يكون أهم إلى حد ما من الفاصل المتقدم وهو كيفية التغذي في كل منهما. فقد قلنا فيما تقدم إن الحيوانات والنباتات تتغذى على السواء، وأنه لا بد لغذائهما من نفس المواد الزلالية والدهنية والسكرية، ولكن الفرق بينهما هو أن الحيوانات تتناول هذه المواد مركبة مهيأة من الحيوانات الأخرى أو من النباتات. أما النباتات فإنها بحكم تكوينها لا تستطيع أن تتناولها مركبة (مع استثناء النباتات

ص: 68

المفترسة) بل تركبها أولاً من الهواء والماء والأرض بفعل قوة الشمس بواسطة المادة الخضراء (الكلورفيل) على الوجه المتقدم بيانه ثم تتغذى بها

على أن هذا الفاصل غير شامل لجميع النباتات، فإنه فضلاً عن النباتات المفترسة توجد طائفة أخرى كبيرة هي النباتات الفطرية المعروفة بعض أنواعها العليا عند الجمهور في مصر باسم (عيش الغراب) وهي خالية من المادة الخضراء فلا تستطيع أن تركب غذاءها بنفسها كما تفعل النباتات الأخرى ولكنها تتناوله مركباً - كما تفعل الحيوانات - من الأجسام الحيوانية والنباتية الأخرى. ومن أجل هذا نراها جميعها طفيلية تعيش على غيرها من الأحياء أو أجزائها الميتة أو مشتقاتها.

وعلى هذا تكون النباتات الفطرية الحلقة المتوسطة بين الحيوانات والنباتات، ولولا وجود السيليلوز فيها لعدها البولوجيون من الحيوانات. فهي نبات من جهة احتوائها على السيليلوز وحيوان من كيفية تغذيتها. وفي هذا الدليل الواضح على وحدة النباتات والحيوانات وعلى تسلسلها من أصل واحد وهو الجمادات كما سنبينه في المقالات القادمة.

نصيف المنقبادي المحامي

دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية

من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)

ص: 69

‌رسالة الفن

التصوير الإغريقي في مرحلته الأولى

للدكتور أحمد موسى

كان الفنان المصري إذا صور جماعة من الناس أو الحيوان أو المواد، فأنه يضعها بحيث يكون بعضها خلف بعض أو إلى جانبه، من غير مراعاة الوضع الطبيعي الذي كانت تظهر به أمام عينيه، وكان هذا هو الحال أيضاً عندما أراد التصرف بعض الشيء - مثلاً - في تصوير مائدة عليها أدوات أو مواد، فتراه يصورها قطعة قطعة، كما لو كانت متفرقة غير مجتمعة على مائدة واحدة؛ ذلك لأنه لم يكن يعرف أصول تصوير المجسمات، وعلاقة الحجم والبعد بالتصوير المنظور وكان هذا سبباً جوهرياً في ظهور مختلف المصورات التي مثلت شئون حياته الزراعية والصناعية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها، كما لو كانت متجاورة بالرغم من أن بعضها كان يجب أن يخفي البعض الآخر بحسب وضعه وراءها.

كما أن نظرة الفنان المصري لجماعة من الناس بينها شخصية بارزة، دفعته حيناً إلى إظهار هذه الشخصية بمقياس أكبر من المقياس الذي تقيد بتنفيذه في مصوراته، غير ناظر إلى موقع هذه الشخصية من حيث البعد أو القرب منه، أو لوضعها بالنسبة إلى مجاوريها، فضلاً عن نظرته إلى جسم الإنسان على وجه الخصوص، كما لو كان شيئاً ينظر إليه من وضعين مختلفين؛ فتراه كما ذكرنا في مقال سابق، نظر إلى الرأس والبطن والساقين والقدمين من الجانب، على حين نظر إلى العينين والكتفين والبطن من الأمام.

هذا هو التقرير العلمي عن التصوير المصري القديم، ذكرناه لتعريف القارئ بعض الشيء عنه، ليلمس الفوارق بين فنين قديمين أحدهما فن قومي والآخر فن مثلي بلغ الذروة التي تدفعنا دائماً إلى تلمس آثاره والسير على نوره والعمل على استيعابه، والمناداة بأنه وإن لم يكن أول الفنون جميعاً إلا أنه كان ولا يزال أعظمها خطراً وأجملها مظهراً وأصدقها تعبيراً.

لذلك كله لا نشك في أن الإغريق خلقوا فناً تصويرياً حقيقياً تقدموا فيه بخطوات واسعة ووصلوا إلى نتائج باهرة.

ص: 70

إلا أنه لشديد الأسف لم يبق الكثير من آثارهم فيه، وحتى الصور التي نقلت عن الأصول لا يمكن التأكد - غالباً - من صحة نقلها، أو مطابقتها لما نقلت عنه

وعلى ذلك فالتصوير الإغريقي الذي يمكن اتخاذه مادة لتأريخه والوقوف على اتجاهاته ينحصر باستثناء قليل في التصوير المرسوم على أواني الزهر التي اتخذ منها الإغريق عالماً كاملاً لتصوير مختلف شئون الحياة عندهم، وفي التصوير الزخرفي الذي جاء متأخراً ومعاصراً للرومان.

ولذلك كان معظم ما نعرفه عن المصور الإغريقي أو قل كل ما نعرفه عنه مأخوذ من المصادر المكتوبة.

وبالرغم من أن التصوير وصل في دقته إلى درجة مثيرة لكل إعجاب، فإنه لم يكن ليصل إلى درجة السمو والعظمة التي بلغها فن النحت الإغريقي الخالد، وهذا لا يمنع من ذكر بعض فنانين مصورين ارتفعوا بفنهم إلى درجة عالية لا يمكن إغفالها أو إهمالها إطلاقاً.

وإذا شئت فقل: إن الاختلاف الجوهري بين فن التصوير الإغريقي - على قدمه - وبين فن التصوير (الحديث) محصور في ناحية (الظل والنور) وناحية (التلوين)

أما من ناحية روح الفن والطابع المميز والطراز والموضوع الإنشائي وتقدير الجمال والوثوب إليه رغبة تسجيله؛ فإن مصورات الإغريق لم تكن لتقل نسبياً عن أعمال الفنانين المحدثين.

فقد كان المصور الإغريقي قادراً على تجسيم الرسوم وإعطائها شيئاً من الحياة، ولكنا لا نزال نكرر القول بأنه لم يصل للدرجة الهائلة التي وصل إليها النحات والمثال.

وظل التصوير إلى القرن الخامس قبل الميلاد بدائياً بسيطاً، أي أنه سار في أول أمره بخطوات أبطأ بكثير من تلك التي سار بها فن النحت.

ولعل أول ما يمكن ذكره عنه هو أنه تطور في مدرسة أتيكا، تلك المدرسة التي أسسها في أثينا الفنان أول مصوري العالم بالمعنى الفني، والذي عمل بين سنة 475 وسنة 455 ق. م في أثينا.

والفنان في اعتبارنا لا يكون عظيماً إلا إذا كان له طابع مميز واتجاه معين، مثله في ذلك مثل الموسيقي والشاعر والكاتب، وإلا ففي أي شيء آخر يمكن أن تظهر هذه العظمة؟

ص: 71

إن كثرة إنتاج الفنان لمما يساعد دون نزاع على درس طابعه واستخلاصه من خلال هذا الإنتاج، ولكنها لن تكون سبباً في تعظيمه أو تخليده؛ إذ أن من بين أساطين التصوير من كان نسبياً قليل الإنتاج ومع هذا كان عظيماً، على حين رأينا غيره ممن كثرت لوحاتهم وبقيت آثارهم لم يكن لهم نصيب في الخلود في عالم الفن، نظراً لضآلة طابعهم المميز أو انعدامه.

وهاهو ذا المثل بين أيدينا، فالمصور بوليجنوت مع قلة ما أنتجه وضآلة ما وصل إلى أيدينا من خلقه، كان فناً بارزاً لوضوح طابعه الدال على سمو نفسيته وقوة تعبيره ودقة ملاحظته.

ويتلخص هذا الطابع في أنه أول من أبتدع التصوير التذكاري الذي سار فيه متجهاً نحو المثل الأعلى؛ فدل في جلاء على النضوج العقلي. وإلى جانب ذلك يعد بوليجنوت أستاذاً في التصوير الخطي أي المكون من خطوط تحديدية خصصها لتصوير موضوعات أخلاقية أظهر فيها ناحية الجمال المثلى، فكان كما أطلق عليه علماء الفن (مصور الأخلاق) ويعنون بذلك الانتماء إلى الاتجاه الفلسفي الذي يعني بالتفرقة بين عادلات الإنسان وبين ميوله لتحقيق فكرة الخير أو العمل مندفعاً نحو الشر.

على أن هذا الطابع وهذا الاتجاه ليس دليلاً على النضوج الفني الذي لم يصل إلى نهايته في التصوير، ولذلك، كما قلنا، كانت معظم أعماله تصويراً خطياً لونها بألوان معدودة دون ظل ولا نور؛ فبدت أشبه شيء بصفوف بعضها وراء بعض على أرضية ذات مستوى واحد. وكان غالباً ما يرسم - في ركن من الصورة - شجرة أو بيتاً قاصداً بذلك تمييز مصوراته متخذاً معظم مادته الإنشائية من سير الأبطال.

وأشهر ما تبقى من إنتاجه صورتان حائطيتان في ردهة الاجتماع بمدينة دلفي، أولاهما مثلث (تخريب تروادة ورحيل الإغريق عنها). وثانيهما زيارة أوديسوس - بطل تروادة - للدنيا السفلى.

كما أن له صورة حائطية مثلت (تشاور الإخائيين) في ردهة السوق. وغيرها (الديوسكوريين يخطفون بنات لويسبس) في معبد ديوسكور أو معبد أبناء زويس من معشوقته إليدا التي كان - كما تذكر القصة الإغريقية - يزورها وهو في هيئة البجعة.

ص: 72

وكان له تلاميذ تأثروا به ونهجوا على منواله أهمهم ميكون الذي صور (أعمال ثيسيوس) في معبد سمى باسمه، ورسم (عراك الأمازونات) في ردهة السوق. وتنسب إليه أيضاً (؟) صورة حائطية موضوعها (موقعة مارتون) في نفس الردهة، وهي الموقعة المشهورة التي قامت في البقعة المعروفة بهذا الاسم على ساحل أتيكا الشرقي، والتي ترجع شهرتها إلى النصر المبين الذي أحرزه الأثينيون تحت قيادة ملتيادس على الفرس في 12 سبتمبر سنة 490 ق. م.

ووجد حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد فنان ذو طابع جعل منه رائداً لمرحلة فنية، هو أبولودور الأثيني، لأنه استطاع إبراز الصور بهيئة مجسمة وذلك بإدخال التظليل فيها بعد أن كانت صوراً خطية. ولذلك يطلق عليه مؤرخو الفن (مصور الظل) فخطى بذلك خطوة جديرة بالتسجيل والإعجاب.

أحمد موسى

ص: 73

‌محمد القصبجي

من الوجهة الفنية

للأديب السيد محمد المويلحي

يحاول الآباء أن (يصبوا) أبناءهم في (قوالب) المجد فيبذلوا وسمعهم من جهد ومال ليحققوا هذه الأمنية المرغوبة. . . ولكن القدر. . . يقف وينظر ويبتسم! لأنه يعلم أنه المسيطر الآمر الذي يهيئ المستقبل الذي لا ينقض!

أراد الشيخ (القصبجي) الكبير أن يكون أبنه (محمد) صورة له، فيلبس العمامة، ويتثقف ثقافة دينية تهيئه للتدريس بالمدارس الأولية، فنجح إلى حد ما. . . وحصل أبنه على كفاءة التعليم الأولي وأمتهن التدريس سنة. . . ولكن القدر كان يترصد الشيخ محمد الشاب المرح الذي يعبد الموسيقى، فأنتزعه من مدرسته وقلبه بين الحرمان والفقر وغضب الوالدين، ولكنه تعلم خلال هذه المحنة كيف يتقن العزف إتقاناً عجيباً. . . هذبته السنوات العجاف وربت في نفسه رجولة قوية، وصبراً طويلاً. فتحدى الحياة، وتحدى الفقر وانتصر عليهما. . . ثم كان ما أراده القدر (القصبجي الموسيقار)

أول من خرج من الموسيقيين بتجديد (صحيح) وابتكار طريف، وأول من جرد فغير وبدل حتى أخرج للناس صوراً رائعة للموسيقى الفنية القوية

صاح في الشرق صارخاً بقطعته الخالدة (إن كنت أسامح) فعرف الناس أن في مصر صوتاً جميلاً لآنسة ترتدي العقال وتسمى (أم كلثوم). . .! وأن في مصر ملحناً شاباً يسمى (القصبجي) أنقذ (التخت) الشرقي والمصري من جموده، ونفض عنه ثوب (الملل) الذي كان يعلوه.

(إن كنت أسامح)، هذا (المنولوج) الذي لحنه من نغمة (الماهور) بشكل لم يسبقه إليه سابق، وقد بلغ من الذيوع والشهرة ما حبب الناس في الموسيقى ولفت نظر الملحنين إلى هذا الفتح الجديد. وقد بلغ من إقبال الناس على شراء هذا (المنولوج) أن باعت منه شركة أوديون مليوناً ونصفاً من الاسطوانات.

ابتدع فن التطويل والمد، وأدخل على التلاحين الشرقية لوناً (كلاسيكياً) أخذ عنه وتأثر به أكثر ملحني هذا الزمن

ص: 74

أهم ما يمتاز به عن غيره من الملحنين والمجددين أنك لا تستطيع أن ترد له لحناً إلى لحن قديم سمعته، وأنك مهما كنت بارعاً عالماً لا تجد تلحيناً له يشبه الآخر كل الشبه أو بعضه كما نسمع في تلاحين غيره

أخرج للناس أكثر من خمسمائة (لحن) ما بين مونولوج وأهزوجة ودور، ولكنه انفرد بالتوفيق الكامل في (المنولوجات) وتمتاز تلاحينه القوية الحية بأنها لا تستغل الغرائز الدنيا فلا بكاء فيها ولا عويل، وبأنها تحتل الآذان فوراً لتصل إلى شغاف القلوب، فهو الملحن الوحيد الذي لا يكاد يخرج للناس شيئاً حتى تسمعه يجري على لسان الرجل والمرأة، والولد والبنت، لا في مصر وحدها بل في بلاد الشرق قاطبة

طيب القلب لا يخاصم ولا يناوئ ولا يحمل ضغينة أو حقد إلا من أجل المال والعمل مع أم كلثوم!

يعجبني فيه أنه شركة لا تنضب، فلو طلب منه تلحين (رواية) بأكملها وأغري بالمال الذي يعبده لرأيت التلاحين تجري على لسانه وتسيل من فيه كأنها آتية من بحر خضم!

سمع مرة رجلاً يبيع (الزيتون الأخضر) وينادي عليه بصوت جميل، وبنغم جديد سحره، فلم ير القصبجي بداً من متابعته والسير وراءه في الأزقة والحارات والدروب، حتى وصلا إلى شارع في العباسية (شارع عبدة باشا) وهناك حفظ اللحن والنغم الذي لحن به قطعته المحبوبة (يا فايتني وأنا روحي معاك). .!!

شاذ في تصرفاته، ولعل الشذوذ ضرب من ضروب العبقرية، فهو يركب الترام فإذا ألفاه مزدحماً، وكان الجو حاراً تظاهر بأنه محموم وأخرج من جيبه (الترمومتر) ووضعه في فيه وتهالك وأكسب وجهه منظر الذي سيموت بعد لحظات فلا يلبث الركاب أن ينسحبوا، ولا يلبث الترام أن يخلو جميعه إلا من القصبجي الممثل. . .!

هو على رأس العازفين في الشرق، وتعتبر (ريشته) أقوى ريشة في مصر، فهي تمتاز بالقوة والحلاوة والقدرة على الاستمرار في العزف ليلة كاملة دون أن تسمح للملل بأن يتطرق إلى نفوس السامعين؛ ومع ذلك فإن محطة الإذاعة تتجاهله ولا تحس بوجوده لأنه يرفض الأجر الذليل. . .!

لولا بخله الشديد، ولولا بيعه تلاحينه أكثر من مرة لكان شيئاً عظيماً. . . ولكنه إنسان!

ص: 75

محمد السيد الموليحي

ص: 76

‌البريد الأدبي

الدكتوراه الفخرية لصاحب الجلالة الملك

تشرف صاحب السعادة الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك لالتماس الموافقة من جلالته على قبول درجة الدكتوراه الفخرية التي قررت جامعة فؤاد الأول رفعها إلى مقامه السامي

وتفضل جلالته فوافق على قبول الالتماس وأمر بتحديد الساعة الحادية عشرة من صباح الغد (الثلاثاء 28 فبراير) لإقامة الحفل الجامعي التقليدي الذي سترفع فيه الدكتوراه الفخرية إلى جلالته، وتفضل جلالته كذلك فوافق على توزيع عدد من الدرجات الجامعية على الذين إجازتهم لهم إدارة الجامعة

وقد عهدت الجامعة إلى أحد كبار متعهدي الأزياء الجامعية بإعداد روب خاص لجلالته يختلف عن روبات جميع الكليات

وعهدت الجامعة كذلك إلى أحد متعهدي المداليات للسرايات الملكية في صنع مدالية ذهبية في حجم الريال تقريباً وستكون على شكل دائري بداخلها تمثال للآله توت مصنوع من المينا وستكتب في داخلها العبارة الآتية: (إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر المعظم ترفع جامعة فؤاد الأول درجة الدكتوراه الفخرية في 9 محرم سنة 1358 الموافق 28 فبراير سنة 1939)

وقد تقرر ألا تهدي الجامعة هذه الدرجة الفخرية إلا لأصحاب التيجان ورؤساء الدول. أما الدكتوراه الفخرية التي تقدمها الكليات فتمنح طبقاً للتقاليد المتبعة بعد موافقة مجلس الجامعة.

وسيخطب في حفلة الإهداء صاحب المعالي الدكتور حسين هيكل باشا بوصفه الرئيس الأعلى للجامعة، ثم صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا رئيس مجلسها.

في ذمة الله صديقنا الهراوي

في صباح يوم الجمعة الماضي قضى بموت الفجاءة صديقنا الأستاذ محمد الهراوي، وكان لليلتين خلتا في دار الرسالة ملء السمع والبصر والشعور، يناقش في الأدب، ويوازن في الشعر، وينشدنا قصيدته التي أعدها لموسم الشعر، وما كنا ندري أن ذلك الجسم الدافق

ص: 77

بالحيوية، وذلك القلب النابض بالشاعرية، يطويهما الردى في مثل لمح الطرف، فيخلو مكان الهراوي الوالد والصديق من بيته وناديه، فيفتقده أبناؤه فإذا هو أثر، ويسأل عنه أصدقاؤه فإذا هو خبر!

كل حي فان، ولكن فناء الحي الذي طبع وجوده في القلوب والعيون والكتب والأمكنة تحد لهذه الحقيقة، واعتراض على هذه القضية. وسيحيا الهراوي في شعره الذي عاش فيه وله، وفي قلوب إخوانه الذين أخلص لهم وبرّ بهم، وسيكون من الصعب على الزمان والنسيان أن يطمسا هذه الشخصية المحبوبة بما خصها الله من سلامة القلب وعفة اللسان وكرم العشرة وصدق المودة. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الأدب العربي منه خير العوض.

حول كتاب ضحى الإسلام

أرسل إلينا صديقنا الأستاذ أحمد أمين ما يأتي: زعمت جريدة المكشوف - فيما نقلت الرسالة - أني أوردت الأسماء العربية في (ضحى الإسلام) محرفة فقلت: (زافار) بدل (ظفار) و (أريتاس) بدل الحارث و (فلاسفة العرب) مكان (مفكرو الإسلام)

وهذا كله غير صحيح، وأنا أتحدى صاحب المكشوف أن يبين الصفحة التي وردت فيها هذه العبارات إن كان صادقاً

أحمد أمين

حول كلمتي ذكورة وأنوثة

حضرة الأستاذ الكبير. . . صاحب (الرسالة) الزهراء السلام عليكم. . .

وبعد فقد قرأت في العدد (282) من رسالتكم كلمة للأستاذ صلاح الدين المنجد تحت عنوان (حول كلمة أنوثة) أنكر فيها الكاتب الفاضل صحة كلمتي ذكورة وأنوثة محتجاً بأن اللسان لم يذكر الأولى بالمعنى المتعارف وهو مقابل الأنوثة، وأما الثانية فلم يذكرها بتاتاً؛ ولذلك حكم بعدم وجود كلمة أنوثة في العربية.

قال: وإنما هي أناثة

ونرى أن عدم ذكر اللسان - كغيره من المعاجم - كلمة لا يدل على عدم صحتها إلا إذا نص علماء اللغة على ذلك، أو على الأقل خلت منها المعاجم الموجودة، وإلا فمن حفظ

ص: 78

حجة على من لم يحفظ.

ونلفت نظر الكاتب الفاضل إلى أن الكلمتين اللتين أنكرهما لم تنكرهما المعاجم. ففي المصباح بمادة ذكر:

(والذكورة خلاف الأنوثة)

وهذا نص قاطع. وفي الأساس بمادة أنث:

(ونزع أنثييه ثم ضرب تحت أنثييه، والأنوثة فيهما من جهة تأنيث الاسم)

وكذلك في التاج. واستعمال هذا اللفظ في بابه من معجم موثوق به دليل على صحته. وفي التاج أيضاً مادة فحل:

(وتفحل تشبه بالفحل في الذكورة)

واللفظان جاريان على ألسنة المصنفين من الفقهاء وغيرهم، ومن أمثلة ذلك قول النووي في المجموع:(أما نبات اللحية ونهود الثدي ففيهما وجهان أحدهما يدل النبات على الذكورة والنهود على الأنوثة. . . الخ)

إذن فكلمتا ذكورة وأنوثة صحيحتان شائعتان قديماً وحديثاً ولهما في العربية نظائر كالطفولة والفحولة والأبوة والبنوة والأمومة والعمومة والخؤولة. . . إلى غير ذلك. . .

ولا أحسب أن أخانا الفاضل - بعد هذا - يرى أن لفظ (أناثة) أسوغ من لفظ (أنوثة) مع ما قدماه والله أعلم

(حضرموت: سيوون)

صالح الحامد العلوي

تخليد ذكرى مختار وإقامة متحف مؤقت لمخلفاته

كانت إدارة متحف فؤاد الأول الزراعي قد قدمت اقتراحاً إلى ولاة الأمور في صدد إقامة متحف خاص لمخلفات المرحوم المثال مختار. وأخيراً رأت إدارة المتحف اختيار مكان مؤقت لهذه المخلفات ريثما يعتمد المال اللازم إنشاء مبنى لها، وقد تقرر أن يكون ذلك المكان المؤقت هو المسكن الملحق بالمتحف

وستكون نواة متحف مختار الذي يقام عما قريب في ذلك المكان، ما يوجد الآن من تماثيله

ص: 79

في معرض الفن الفرنسي القائم على أرض الجمعية الزراعية بالجزيرة، وذلك إلى أن ترسل الحكومة في طلب بقية آثار مختار من باريس.

ويتجه الرأي إلى استعارة التماثيل التي باعها مختار لبعض الهواة لتعرض في متحفه لآجال معينة على أن تحمل خلال عرضها أسماء أصحابها. وسيضم المتحف إلى جانب التماثيل زي مختار والأدوات التي كان يستعين بها في عمله، ونموذجاً من حياته الخاصة

أعلام الدراما في مصر

كتبت القنصلية الملكية المصرية بسان فرنسسكو إلى وزارة الخارجية تنبئها بأن جمعية القلم النسائية الأمريكية قد طلبت إليها موافاتها بأسماء أعلام فن (الدراما) في مصر رغبة منها في ضم أسمائهم إلى زملائهم في مختلف الممالك والأقطار

وطلبت الجمعية أن تتعرف مركز هذا الفن في مصر بعد أن طغت السينما على المسرح وهل لا زالت (الدراما) محتفظة بمكانتها في البلاد

وقد أحيل هذا الطلب إلى وزارة المعارف للنظر فيه ولعلها تحيله هي أيضاً على إدارة الفرقة القومية لتقول كيف قضت على بعض أعلام الدرامة بالخمول وحكمت على البعض الآخر بالتشريد

مستشرق ألماني

يزور مصر الآن الدكتور جوستاف نيوهاوس، أحد أساتذة معهد اللغات الشرقية في برلين

ومما يذكر عن الدكتور نيوهاوس أن مؤلفات كثيرة في اللغات (السواحلية) وأبحاثاً طريفة عن بلاد زنجبار ودار السلام وآثار العرب فيها، كما أخرج أخيراً كتاباً عن رحلته من مصر إلى بلاد شرق أفريقيا

جماعة الأخوة الإسلامية

اجتمع في اليوم الحادي عشر من فبراير أعضاء جماعة الأخوة الإسلامية برآسة الدكتور عبد الوهاب عزام في دارها (قبة الغوري) وحضر الاجتماع كبار العلماء ورجال الإسلام من أربعين قطراً إسلامياً.

وتكونت هيئة المكتب من ممثلي: مصر والحجاز والهند، ويوغسلافيا والصين وألبانيا

ص: 80

والعراق واليابان وكردستان وبلغاريا وأفريقيا ورومانيا واليمن ومنشوكو وفلسطين وأندنوسيا وبولونيا وافغانستان وطرابلس الغرب وجبل أورال وسودان وجزيرة لفزيمة وحضرموت وإيران وروسيا والحبشة والشام وتركيا وملايو وسيام وشرق الأردن وسيلان والجزائر ومراكش وملديفيا والبحرين وقفقازيا وأناضول وبنغال.

افتتح الحفل بآي الذكر الحكيم ثم قام الدكتور عبد الوهاب عزام فبين أغراض الجماعة، وتلاه من الخطباء: الأستاذ طنطاوي جوهري، فتكلم في الإسلام والسلام العام، ثم الشيخ عبد المتعال الصعيدي، ثم الشيخ صاوي شعلان، ثم الأستاذ أحمد بك خليل، والأستاذ محمود جبر، والدكتور عبد العزيز عزام، ثم الدكتور ميرزا فضل الله الإيراني.

وتألفت اللجنة الأساسية من: الدكتور عبد الوهاب عزام رئيسا والأستاذ محمد أمين نور الدين بك المحامي وكيلاً والأستاذ إبراهيم عثمان مراكش مراقباً عاماً. والأستاذ محمد حسن الأعظمي الهندي مراقباً مالياً. والأستاذ إسماعيل حنفي البلغاري خازناً. والأستاذ عمر وجدي كيردي سكرتيراً. والأستاذ يوسف عبد الله قريمي أميناً للمكتبة

حياة الرافعي

يصدر في هذا الأسبوع كتاب (حياة الرافعي) وسيرسل إلى حضرات المشتركين الذين سددوا قيمة الاشتراك ونفقات البريد؛ أما الذين لم يسددوا إلا قيمة الاشتراك فقط، فيمكنهم الحضور إلى إدارة الرسالة ليتسلموا النسخ التي اشتركوا فيها.

اللجنة العليا لقرش فلسطين

اجتمعت اللجنة العليا لقرش فلسطين في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأحد 23 من ذي الحجة سنة 1357هـ والموافق 12 فبراير سنة 1939 بدار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، وانتخبت حضرة الأستاذ الدكتور عبد الحميد سعيد رئيساً والأستاذ عبد المجيد بك إبراهيم صالح سكرتيراً عاماً وحضرة صاحب العزة ميرزا مهدي رفيع مشكي بك أميناً للصندوق والوجيه محمد أفندي حسين الرشيدي مساعداً لأمين الصندوق وحضرات أصحاب السعادة الأستاذ محمود بك بسيوني وعبد الخالق مدكور باشا ومحمد فهمي الناضوري باشا واللواء أحمد فطن باشا وأصحاب العزة الأستاذ الشيخ أحمد

ص: 81

إبراهيم بك ومحمد عيد بك وأصحاب الفضيلة الشيخ عبد الوهاب النجار والشيخ محمد عبد اللطيف دراز والأستاذ حسن البنا وحضرات الدكتور محجوب ثابت وللدكتور نجيب أسكندر والأستاذ عبد القادر العبد والأستاذ أحمد السكري أعضاء

وألفت لجاناً فرعية:

لجنة الدعاية: برياسة حضرة الدكتور محجوب ثابت

لجنة الحسابات: برياسة حضرة صاحب العزة ميرزا مهدي رفيع مشكي بك.

ولجنة المتطوعين: برياسة الوجيه محمد حسين الرشيدي أفندي

ورأت أن توزع الطوابع يوم 15 من محرم سنة 1358هـ وهي تهيب بطبقات الشعب أن تساهم في هذا المشروع الإنساني الجليل لتخفيف جراح فلسطين الشقيقة المجاهدة كما تدعو شباب الأمة الناهض في مختلف طبقاته إلى المسارعة للتطوع والقيام بما يفرضه الواجب نحو فلسطين المجاهدة

ص: 82

‌رسالة النقد

في سبيل العربية

كتاب البخلاء

للأستاذ محمود مصطفى

- 1 -

من فوق هذا المنبر العالي والمنار القائم للغة الضاد (وهو صحيفة الرسالة الغراء) نرفع صوتنا مرة أخرى في سبيل العربية، وقد كنا تعرضنا تحت هذا العنوان لنقد كتب يصدرها بعض رجال وزارة المعارف المصرية، وتقرها الوزارة لطلابها.

عدنا اليوم لمثل عملنا في العام الماضي، ولكن في طريق شائكة وخطة ملتوية. تلك هي نقدنا للغويين الكبيرين والعالمين الفاضلين: صاحبي العزة أحمد العوامري بك، وعلي الجارم بك المفتشين الأولين للغة العربية بوزارة المعارف، وعضوي المجمع الملكي اللغوي بالديار المصرية

وقد جئنا ننقدهما في عملهما الذي تآزراً عليه وأفرغا جهدهما فيه، فكان لا بد أن يجئ مظهراً لفضلهما وصورة صادقة لهذه الممارسة الطويلة للعربية وآدابها، هذه الممارسة التي كانت منهما في هذا العمر المديد والزمن المتطاول، وكنا ننوي أن نتخذ من أقوالهما وآرائهما حججاً في العربية نضيفها إلى أقوال فحول اللغة السابقين. . . ذلك ما فتحنا صدورنا له واستعددنا لتلقيه حين بدأنا نقرأ تعليقهما على كتاب البخلاء للجاحظ الذي وكلت وزارة المعارف المصرية إليهما أمر إخراجه في صورة واضحة تقرب إلى أهل جيلنا أدب القرن الثالث للهجرة، وتحبب إلى قرائنا الزاهدين في هذا الأدب أن يقبلوا عليه ويستجلوا جماله الفاتن.

توقعنا ذلك من هذين العالمين الفاضلين اللذين جمعا إلى الثقافة العربية ثقافة غربية، ولم يدر بخلدنا إلا أن يكون عملهما في خدمة هذا الكتاب مزجاً حسناً لهاتين الثقافتين وتجلية لهما في ثوب عصري شائق

ولكننا لم نلبث حين نظرنا في الكتاب أن رأينا جهداً نحوياً عنيفاً أغرم فيه المخرجان

ص: 83

بتعقب الجاحظ، يعربان أدبه الراقي وفكاهاته الظريفة، ويعتديان على ذلك البيان الواضح بقولهما إنّ أنْ هذه مفسرة وتلك مخففة من الثقيلة، والتعليق على (كان) بأنها مرة تامة وأخرى ناقصة إلى غير ذلك من مسائل الإعراب التي زهدت الطلبة في العربية إبان طلبهم للعلم بالمدارس. فإذا بالمخرجين لم يكفيهما إلحاح بعض المدرسين في ذلك على طلابهم حتى زادا الإبالة ضغثاً والكيل طفحاً

وما ندري كيف اجتمع في صدر هذين الرجلين أو صدر أحدهما على التحديد هذا الإلحاح في مسائل الأعراب، مع الرغبة في تيسير قواعد اللغة العربية وقد كان أول مظاهرها عند هؤلاء الميسرين إهمال ذلك الإعراب!

والكتاب إلى ذلك مظهر آخر لهذا الذي يسمونه تطبيقاً على البلاغة فما تزال ترى في تعليقاتهما أن هذا التركيب استعارة وذلك تشبيه أو مجاز بالحذف أو إطناب أو إيجاز، وكأنما ظن المخرجان أن الجملة لا تفهم إلا إذا أعربت، ولا تقدر قيمتها في البيان إلا إذا طبقت عليها علوم البلاغة بوضعها الذي نعرفه. ولسنا نحرم على شراح كتاب ككتاب البخلاء أن تكون منهم إشارة إلى مثل ذلك، ولكن حضرتي المخرجين أسرفا في ذلك حتى صح في نظري أن أعتبر هذا الشرح كراسة تطبيق على النحو والبلاغة. وصرت أعد نفسي حين قراءته طالباً من طلاب الشهادة الثانوية أتزود للامتحان قبله بأيام. وهذا إسراف في حق الأدب أو الأدب الرفيع الذي إن صدق على شيء فأول ما يصدق عليه هو كلام الجاحظ

وليت المخرجين حين فعلا ذلك كانا موفقين إلى الصواب سالكين النهج الجدير بمكانتهما بين أهل العربية في عصرنا! ولكن الذي كان موضع العجب أنهما زلا في كثير من هذه المواضيع التي أرادا أن يدلا بمعرفتهما فيها على جمهور الأدباء ممن يجهلون أو يتجاهلون ذلك.

كان هذا حقاً موضع العجب من أمر رجلين عظيمين قضيا حياة طويلة في نقاش المعلمين، ومحاسبتهم على عباراتهم وإشاراتهم، حتى كان للهمزة توضع في غير موضعها، وحرف الجر ينوب عن غير مشادات ومصاولات، ثم فوز لهذه الاعتبارات الهينة يظهر أثره في التقارير، فإذا هذا المعلم مهمل لأنه لا يعنى بوضع الهمزات مواضعها، وإذا بذاك مجيد لأنه

ص: 84

راعى رغبة المفتشين في هذه الدقة وتلك الشدة.

قلنا إن طريقنا في نقد المخرجين كانت شائكة، وإن الخطة كانت ملتوية، وما قصدنا في هذا إلى صعوبة المآخذ وغموض الصواب علينا، فقد والله قيدنا ملاحظاتنا في أثناء قراءة هادئة لم نقصد منها إلا التمتع بأدب الجاحظ واللهو بفكاهته، فإذا المآخذ تنادينا وتقول خذوني!

وإنما شاكت الطريق والتوت الخطة لأننا اضطررنا في سبيل العربية أن ننال من علمين من أعلامها بيننا؛ ولم يكن نيلنا في أمور يحتمل فيها الخطأ، أو يقبل اعتساف الرأي لدقة المسلك أو حلكة الشبهة، بل قد وجدنا هذه المآخذ يشتد العيب فيها على ناشئ في العربية لا يزال يتعثر في ذيول الإعراب والتطبيق، فآلمنا أن نجرح بمثل هذه المآخذ عالمين فاضلين من أفذاذ المصريين فيما نصبا أنفسهما له، وتصديا للرياسة فيه من علوم.

وقد كنا هممنا أن نبوب للقارئ هذه المآخذ فنجمع متشابهاتها تحت عناوين تشملها: فهذا عنوان الأغلاط النحوية، وذاك عنوان المآخذ اللغوية، وذلك باب الفهم النابي أو الترجيح للمرجوح و. . . ولكنا رأينا أن نجعل مآخذنا تساوق صفحات الكتاب، فكلما مررنا بواحدة منها تكلمنا عنها وبينا وجه الصواب فيها

في أول صفحة من الكتاب في تعليل ذكر نوادر البخلاء بين جد وهزل (لأجعل الهزل مستراحاً، والراحة جماماً) وفي التعليق على هذه العبارة يقول الشارحان: الجمام: الراحة

وهذا التفسير ظاهر الخطأ لأنه ينتهي بالجملة إلى أن تكون هكذا: لأجعل الراحة راحة، وهذا غير جائز في حقيقة ولا محاز

ومأتى هذا الخطأ من الشارحين أنهما وجدا في كتب اللغة تفسير الجمام فيما تفسره بالراحة، فارتاحا إلى هذا وفاتهما أن هذه الكتب عينها تفسره أيضاً باجتماع النشاط وتراجع القوة. تفهم ذلك من قول القاموس: جمت البئر تراجع ماؤها، والفرس ترك الضراب فتجمع ماؤه، وترك فلم يركب فعفا من تعبه. . . فهذه العبارات تفيد معانا صراحة وتعفينا من تفسير الماء بالماء كما حصل من حضرتي المخرجين

وفي ص26 مسألة ذات بال سيتعب القارئ من تتبعهما ولكنهما ستنتهي به إلى نتيجة شديدة على الشارحين، فليجعل حكمه على فهمها ووقوفه على مقدار ذوقهما ثمناً لهذا التعب

ص: 85

قال الجاحظ (فأما ما سألت من احتجاج الأشحاء ونوادر أحاديث البخلاء فسأوجدك ذلك في قصصهم إن شاء الله تعالى مفرقاً وفي احتجاجهم مجملاً، فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي دون ما انتهى إلى من أخبارهم على وجهها وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر ويصير العار فيه أقل)

قال الشارحان (فهو الخ: الضمير عائد إلى (ذلك) أي أن احتجاج الأشحاء ونوادر أحاديث البخلاء منبثة في قصصهم مفرقة ومجملة - أجمع لهذا الباب (باب البخل) من وصف الخ والجار والمجرور في قوله من وصف حال من (ذلك) في قوله: فسأوجدك ذلك و (دون ما انتهى) حال من وصف ما عندي. والمعنى سأطلعك على ذلك حال كونه من وصف ما عندي من مشاهدات أحوال البخلاء ونتائج معاشرتي إياهم وسيكون هذا غير ما سأذكره أيضاً مما انتهى إلى من أخبارهم)

تدبر أيها القارئ عبارة الشارحين واعصر ذهنك في ضمائرها وإشاراتها وأحوالها ومتعلقاتها فإن محاولة إفهامك مرادهما شاقة عسيرة إلا إذا اجتمعنا أمام سبورة أكتب لك عليها الجملة بالأحمر والأصفر وأجعل أتنقل بك من ضمير إلى أسم إشارة واصلا هذا بذاك حتى تفهم المراد

ولكن ينبغي أن تعلم أن السر في هذا التعقيد هو عدم اهتدائهما إلى مرجع الضمير في قوله: (فهو أجمع. . .) كذلك اعتبارهما الجار والمجرور (من وصف) متعلقاً بحال من (ذلك). وقد أوقعهما هذا التقدير في مشكل نحوي لم يلتفتا إليه وهو وقوع اسم التفضيل المنكر المجرد من الإضافة، بدون من تالية له جارة للمفضل عليه، كما تقول: محمد أكرم من علي، فيكون (من علي) متعلقاً بأكرم وهذا ملتزم في مثل ذلك التعبير.

أما الذي نقوله في عبارة الجاحظ فهو أن الضمير في قوله (فهو أجمع) يعود على مصدر الفعل (أوجد) والجار والمجرور (من وصف) متعلق باسم التفضيل (أجمع) فيكون المعنى: إن إيرادي لقصصهم واحتجاجاتهم أشمل لهذه النوادر من أن أقتصر على إيراد ما عانيته بنفسي من أحوالهم، مع ترك ما وصل إلي من أخبارهم عن طريق الراوية، إذ أني لو اقتصرت على إيراد ما عانيته وحده ما استطعت أن أذكر شيئاً كثيراً فيقصر الكاتب، كذلك مشاهداتي وحدها لا تمثل شناعة فعل البخلاء كما تمثله الحكايات التي تناقلها الناس عنهم

ص: 86

لصحة اتهام الفرد بالكذب أو المبالغة؛ فأما إذا تواترت الأخبار واجتمع عليها جم من الناس فذلك أقوى لها وأشد في تصور شناعتها.

ولا نترك هذا المقام حتى ننقل لك ما علق به الشارحان على قول الجاحظ في نهاية العبارة (وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر ويصير العار فيه أقل) قالا حفظهما الله: (وعلى أن الخ. (على) للتعليل هنا، وهو تعليل لاقتصاره على ما عرفه عن البخلاء، وما وصل إليه برواية صحيحة من أخبارهم).

وقد بان لك من كلامنا كيف أن هذه العبارة الأخيرة من الشرح مضطربة إلى أبعد غايات الاضطراب، إذ كيف يقصر الكتاب لو ذكر الجاحظ ما عرفه عن البخلاء وما رواه من أخبارهم! وهل يبقى بعد ذلك شيء يذكر؟!

(للكلام بقايا)

محمود مصطفى

المدرس بكلية اللغة العربية

ص: 87

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية

// لا غرضا ثقافياً حققت

ولا روائع المسرحيات الأوروبية أذاعت

الأستاذ إبراهيم رمزي، مدير التعليم الحر، واحد من أوائل الأدباء الذين عنوا بإحياء المسرح المصري، وبذلوا في سبيله جهوداً ذات قيمة، وغيرة كان يجب أن تقابل بالثناء الخالص والشكر الجزيل. إلا أن عوامل لا أعرف بواعثها - قد تكون مادية لبست جلباباً على غير قدها - قد حولت الأستاذ رمزي عن طريق القويم، فجعلته يسلك مسلكاً في التأليف باللهجة الدارجة وفي تجريح الفصحى أراه ويراه معي كل غيور على اللغة العربية التي ارتضتها مصر وسواها من الأقطار المجاورة أو النائية عن شبه جزيرة العرب، أن تكون لغتها الدينية والقومية ولغة حكوماتها الرسمية. إنه خروج على آدابها وقواعدها، ونكوص يخالف سنن الترقي والتقدم، ولوثة تلوث نهضة مصر الثقافية، وما خلا ذلك فالأستاذ رمزي ما برح يعمل للمسرح المصري بروح الأديب المخلص لفنه

قلت له: الفرقة القومية مؤسسة حكومية، هل حققت الغرض الثقافي والفني، وهل عملت على ترقية المسرحية المصرية وأذاعت روائع المسرحيات الغربية؟ فأجاب:

- ليس من السهل الجواب على هذا السؤال إلا إذا استهدف الإنسان لعتاب الأصدقاء والأحباب، ولكني تعودت أن أكون صريحاً فيما له علاقة بمصلحة قومي ووطني، ولذلك لا أتردد في أن أقرر:

أن الفرقة القومية لا تستطيع أن تحقق غرضاً ثقافياً كبير الشأن في هذه المدة القصيرة لأنها إنما تعمل حتى الآن لجمهور المثقفين وعليه المصريين الذين ليسوا في حاجة إلى ثقافتها. على أني لا أدري كيف ينتظر منها التثقيف وهي إلى اليوم لم تتخط القصة المترجمة والمقتبسة التي لا علاقة لها بمجتمعنا المصري، كما أنها على كثرة ما أخرجت لا تشتغل إلا أياماً معدودات في العالم كله وتقتصر على مدينة القاهرة ولا تنتقل إلى أي بلد من عواصم المديريات.

لا يا سيدي، الفرقة لم تحقق غرضاً ثقافياً ولن تحقق غرضاً، وأحب أن أقول هنا إن القيود الكثيرة التي كبلت بها أيدي المشرفين عليها، والمبادئ العجيبة التي تتحكم في مراميها، لا

ص: 88

يمكن أن تنهض معها فرقة بعمل كالذي يرمي إليه اسمها. واعتقد في النهاية أنها فرقة موجودة وعمل من الأعمال التي لها نظائر في بلدنا ينفق عليه لقصد عظيم لا يتحقق منه شيء كثير

أما تحقيقها الغرض الفني فكل ما يمكن الإجابة في صدده أن الممثلين يقومون بأدوارهم أحسن قيام، والإخراج لا بأس به لأنه ليس إلا نقلاً لإخراج ظهرت به في فرنسا الروايات المعربة وأكثرها منقول عن الفرنسية

جوابي عن سؤالك: هل عملت الفرقة على ترقية المسرحية المصرية وإذاعة روائع المسرحيات الغربية، هو: لا، ثم لا، وأخيراً لا، لأنه بلغ من المشرفين على هذه الفرقة (وعندهم الروايات المؤلفة) أن يؤثروا عليها الروايات المقتبسة والمنقولة ومنها السخيف وغير السخيف لسبب واحد هو أن مخرجهم أوربي، ولأن إخراج الروايات العربية ليس في مقدوره، وإخراج الروايات العصرية يحتاج إلى من يدرك دخائل الظروف المحلية، ولأن المشرفين على هذه الفرقة ليسوا كلهم ممن يشعرون تمام الشعور بالواجب القومي في هذا الزمن الأسود.

أما كونها أذاعت روائع المسرحيات الغربية، فالجواب عنه: لا يصح أن يكون ذلك مؤاخذة للفرقة لأنها لم تظهر منها إلا القليل وذلك بحكم الضرورة، فالروائع لا عد لها وهي لم تتأسس إلا منذ أربعة أعوام، على أنها تميل الآن إلى التقرب من الجمهور فهي تعطيه شيئاً من غير الروائع يستطيع أن يستمتع بما فيها من بساطة سطحية

قلت: إذن هل أنت متفائل؟

فأجاب: كلا لست بمتفائل، لأن الهمة الواجبة لمثل هذا العمل الذي تمده الحكومة بمالها وجاهها وقوتها يحتاج إلى نفوس أقوى، وأيد أشد، وعزائم غير هذه العزائم، عزائم مخلصة فعلاً ومضحية فعلاً

على أني يا سيدي وقد وضعت للمسرح ما تعلم من القصص التاريخي الكثير وغيره من القصص العصري باللغة العربية السليمة أعلن جهاراً أن المسرح المصري يجب أن يكون أولاً للشعب أي للتسعين في المائة من أهله من المصريين، أي باللغة الدارجة المهذبة ومكملة بما تحتاج إليه من الألفاظ في اللغة العربية السليمة كما نفعل الآن في أحاديثنا

ص: 89

وخطبنا ومساجلاتنا ونترك هذا النفاق الذي نعيش عليه في هذه الأيام!

أما العشرة الباقية في المائة فحسبهم هذه الفرقة القومية وروايتها ولغتها العربية القرشية أو لاتينية الشعوب الشرقية

انتهى كلام الأستاذ إبراهيم رمزي بنصه. وعندي حديث ممتع للأستاذ عمر سري بك تناول فيه هذه الناحية تناول الرجل الخبير وأوضح موقف وزارة المعارف المتناقض في مساعدتها للفرقة القومية الحريصة على اللغة الفصحى وفي مساعدتها لفرقة أخرى تعمل على ترويج العامية. وسننشره قريباً

ابن عساكر

ص: 90