المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 296 - بتاريخ: 06 - 03 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٢٩٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 296

- بتاريخ: 06 - 03 - 1939

ص: -1

‌منطق الغنى

لقيت أول أمس على مقهى (أتينيوس) بالإسكندرية رجلاً من نابهي

النواب أعرفه معرفة لا تقرّب ولا تبعّد. هذا الرجل ينزع بطبعه منزع

الأرستقراطيين في نمط العيش وأسلوب التفكير ورونق المنظهر؛ فهو

يتجمل بالزينة، ويتنبَّل في الكلام، ولا ينفك يعلك ألفاظ المثرين

المترفين كالبنك والبرصة والسيارة والخيل والسباق والسهرات

والحفلات والملاهي حتى لتظنه المرجع الحجة في أولئك جميعاً.

ونباهة هذا النائب لم تأته عن طريق الفطنة أو الخبرة أو الكياسة،

وإنما أتته عن طريق التهويش والتهريج والسياسة؛ فهو في مجلس

النواب جزء من كرسيّه لا يتحرك ولا ينبس؛ ولكنه في الأمور الحزبية

والانتخابية ولاّج خرّاج يجذب الزعماء بالمآدب الصاخبة، ويخلب

الناخبين بالوعود الكاذبة، ويدرج بالدعوى والدعاية من قهوة إلى قهوة

قال لي بعد أن تبجح طويلا بقوة أثره في توجيه المجلس، وتسفيه المعارضة، وتنظيم النادي، وتقويم الحكومة:

- مالك وللأغنياء توغر عليهم صدور الصناع والزراع والخدم؟

- عجيب! وهل تقرأ الرسالة؟

- إنما يقرأها ابني وابنتي؛ وهما متأثران بها ومشايعان لها، ولا يزالان يجادلانني فيما تكتب وتطلب حتى أترك لهما الدار! فهل تريد أن يكون الناس كلهم سواء في الثروة، وليسوا كما تعلم سواء في الذكاء والقوة؟

- يا سيدي ما اعتقدنا ذلك ولا كتبناه. فإنا نؤمن بالغنى والفقر كما نؤمن بالقضاء والقدر. والتفاوت في الطبع والكفاية والحيلة والوسيلة مبدأ مقرر في الطبيعة، ونظام مسلّم في الدين؛ ولكنا نحاول أن نُذَكر الأغنياء، أن الّله الذي خلقهم وخلق الفقراء، قد جعل جُمعةَ ما بينهم وبينهم قائمة على أساس من المودة والرحمة يكفل المخالصة ويضمن السلامة. فإذا

ص: 1

تعهدوا هذه الصلة الإلهية بالبر، فمنح القادر العاجز روحاً من قواه، ونفح الواجد الفاقد قليلاً من جدواه، سارت القافلة الإنسانية في طريقها إلى الكمال الممكن غير ظلعاء ولا وانية. وإذا أردنا المساواة فإنما نريدها في الحق والواجب، وإذا ذكرنا المشاركة فإنما نذكرها في حدود الإحسان والزكاة

- الإحسان يغري بالكسل ويعين على بقاء الفاسد. والفقير في أكثر أمره عليل الجسم أو العقل؛ فلم لا يكون من الخير أن يترك للحرمان حتى يذبل ويسقط؟

- إذا استطعت أن تنفذ هذا الرأي في أسرتك الخاصة، استطعنا أن ننفذه في أسرتنا العامة. فهل في مقدورك أن تترك ابنك المعلول الذي لا يبرأ، وأخاك المخبول الذي لا يعي، حتى تعصف بهما المنون كما تعصف ريح الخريف بالورق الجفيف؟

- ما أظن القلب يطيع العقل في ذلك

- ومن قال لك أن العقل يخولك حق الله على خلقه؟ إن للفقير حق الحياة، وليس لك عليه حق الموت. والله الذي خلق الكون خلق الفساد وجعل لكل منهما قوانين يجري عليها في الطبيعة. وستنالك أنت على الرغم من قوتك وغناك عوامل الذُّوىِّ والبلى، فهل تقبل من ذوي رحمك ووارثي مالك أن يدعوك فريسة الهرم والمرض، كما يدع القطيع الحمار المحموم في الفقر الجديب؟

رأى صاحبي أن هناك مدارك من فهم الحياة استعجمت على ذهنه الشارد، فغمغم بعض الجواب وبيّن بعضه الآخر حين قال:

-. . . ولكنني أعلم أن الزكاة في أوربا ليست مشروعة ولا مجموعة، ومع ذلك تجد الفقر محمولاً والحياة آمنة. فكل إنسان يعمل، وكل حي يعيش

- لا يغرنك يا سيدي ما تعلم من ظواهر الحياة الأوربية، فإن مدنيتها طلاء على صدوع، وكبرياء على خضوع. ولولا قيام الأديرة بجمع الصدقة وتنظيم الإحسان، ونهوض الحكومات لحماية العجز وتوفير العمل، لرأيت البؤس كرمز الموت هيكلاً بادي العظام لا تستره أثواب ولا تحجبه أبواب

- وما قولك في أمريكا؟ أليست المسافة فيها بين الفقراء والأغنياء، كالمسافة بين الأرض والسماء؟ ومع ذلك لا تجد بين هؤلاء وهؤلاء حسداً ولا ضغينة

ص: 2

- عفواً يا صاحب العزة! لقد عرفت القياس وأنكرت الفارق. إن أكثر المنافع في أمريكا من فضل الغنى؛ فكيف يبطن الفقير له الغل وهو يتعلم في مدرسته طفلاً، ويعمل في مصنعه رجلاً، ويتداوى في مستشفاه مريضاً، ويأوي إلى ملجئه شيخاً؟ إن صاحب الملايين في الدنيا الجديدة مثل الإنسان الأعلى: أثرى بالكد والإيمان والكفاية، ودبر ثراءه على قواعد الوطنية والإنسانية والدين، فكان حرباً على الجهل والبؤس والشر، وعاملاً للسلام والوئام والمحبة. أما أغنياؤنا فمثال الطمع الجريء والشح الدنيء والصلف العاتي: أثروا بالإرث أو بالحرص أو بالحظ أو بالحيلة؛ ثم كدروا صفو الحياة على الفقير، فهم يزاحمونه على المجانية في المدارس، ويغلبونه على الوظائف في الدواوين، ويدوسونه بسياراتهم في الشوارع، ويسلبونه بطماعتهم في المزارع، ويصدونه عن البرلمان حتى لا يكون لغير أقوالهم سميع، ولا يصدر بغير إرادتهم تشريع

ونظر صاحبي في ساعته ذات السوار، ونظرت أنا إلى البحر فإذا هو يمور ويفور، والصيادون المساكين يكافحون العاصفة ليصيدوا لهذا الغنى المبطان لوناً من الطعام تكمل به مائدته الموقرة الحافلة!

ثم افترقنا وكل منا على رأيه!

احمد حسين الزيات

ص: 3

‌حرب الأجيال

للأستاذ عباس محمود العقاد

أعلن الناقد الإنجليزي (فرانك سوينرتون) في صحيفة (الأوبزرفر) عن قرب صدور الكتابين الجديدين للمؤلفين الكبيرين (ولز) و (موجهام) فقال في مقدمة كلامه:

(هناك تناقض يغري بالتساؤل بين موقف العصريين وموقف الجيل الفكتوري حيال الكتاب النابهين. فقد كان هؤلاء الكتاب يحاطون بالإجلال المرهوب حين ينتهون إلى الشيخوخة ويقلعون عن التأليف، وكانوا قبلة التبجيل والتشريف والحجيج من سائر البلاد. أما اليوم فنقيض ذلك هو الواقع: اليوم يلبث كتاب الأمس في الميدان ولا يخرجون منه ولا يتطلعون إلى إجلال مرهوب أو يستقبلون التبجيل والتشريف، وكل شاب ذي ملكة موهوبة يقتضيهم الثناء السخي والتشجيع ولكنه يرى لنفسه حقاً في الإنحاء عليهم واتهامهم بالوقوف في طريق الثورة الأدبية)

هذه حرب الأجيال التي يتحدثون عنها في البلاد الأوربية، ويقصدون بها قيام جيل من الكتاب والأدباء وراء جيل، ومحاولة الجيل الجديد أن يفسح له مكاناً إلى جانب الأعلام النابهين في ميدان الأدب والتأليف

وهذه الحرب قديمة لم تنشأ في زماننا هذا ولا في الزمان الذي قبله وإن اختلفت فيها الدعاوى والأساليب

ولكنها اشتدت في الجيل الحاضر لعوامل جديدة طرأت عليها: منها التزاحم العنيف، ومنها أن النظرة إلى (الماضي) اختلفت بين العهد الفكتوري والعهد الحاضر، أو بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين

كان التوقير حقا للماضي، لأن الناشئين كانوا ينتظرون منه كل شيء ويتجهون إليه إذا أرادوا العلم والخبرة والحنكة والهداية

أما اليوم فقد جدت مشكلات نفسية واجتماعية ليس للماضي فيها تصريف ولا احتيال، ولا يتجه فيها أحد إلى الماضي ليعرف ما عنده لها من علاج وتدبير، لأنها لم تكن معروفة فيه ولم تكن معروضة على أهله، فتحول الاتجاه من الماضي إلى المستقبل، وبطل ما كان مألوفا مقررا للماضي من التبجيل والتشريف

ص: 4

هذه المشكلات هي سر الحياة وسر الأزمات العالمية وسر القلق والاضطراب في علاقات الاجتماع

ليس للماضي فيها تصريف ولا احتيال. فهل التصريف والاحتيال فيها للحاضر؟ وهل هما للمستقبل القريب أو البعيد؟

كلا! التصريف والاحتيال فيها للزمان وللعمل المشترك بين جميع الناس من شيوخ وكهول وشبان وأطفال لا يزالون في المهود أو لا يزالون في الأصلاب

وهل يرجى أن يجيء على الدنيا عهد من العهود خلواً من المشكلات التي تطلب الحلول ولا ينفرد بحلها جيل واحد من الأجيال؟

كلا! إن هذه المشكلات لا يحلها الحاضر ولا المستقبل برأي هذا أو باحتيال ذاك، ولكنها تنحل مع الزمان تارة بالعمل المقصود وتارة بأعمال كثيرة غير مقصودة، ولا تزال طبقة منها وراء طبقة على مدى السنين

هذه هي الحقيقة التي يجهلها بعض المتعجلين. وليس من غرضنا في مقالنا هذا أن نسهب في توضيحها وتمحيص نظرات الناظرين إليها، وإنما أردنا أن نشير إلى العامل الجديد الذي أضاف بعض الشدة والعنف إلى حرب الأجيال، وأدى إلى ذلك الموقف الذي لخصه (فرانك سنوينرتون) فيما تقدم

يوشك من يقرأ كلمة الناقد الإنجليزي ويذكر ما يكتب في مصر وفي بعض الأقطار العربية أن يبادر فيقول: (إن بعض الحال من بعض) أو (الحال من بعضه) كما يقول العامة في البلاد المصرية. . .

فإن قال قائل مثل هذا فهو مخطئ، لأن الحال الذي يحسب (بعضه من بعض) لمختلف أبعد اختلاف.

هناك يتكلمون عن الشيوخ الذين أنافوا على السبعين، وهنا يطالبون الكهول فيما دون الخمسين بالسكوت والانزواء.

هناك يأتي بعد جيل (ولز) جيل هكسلي وهو في الرابعة والأربعين، ثم يأتي بعده جيل الشبان الناشئين وهم في نحو الثلاثين، وهنا لا يتجاوز الشاب العشرين حتى يتعجل الشهرة بل يريدها له وحده خالصة دون أبناء الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين، بل دون زملائه

ص: 5

الآخرين من أبناء العشرين.

هناك يؤلفون ويبتدعون ويزاحمون الرأي بالرأي، والنهج بالنهج، والتفكير بالتفكير؛ وهنا لا يؤلفون ولا يفكرون ولا يقرءون، ولا يزيدون على إبراز شهادة الميلاد والترنم بما يسمونه حقوق الجيل الجديد.

هناك يثبون إلى المستقبل فيسبقون، وهنا يرجعون إلى الوراء ويشبهون الببغاوات في ترديد الصياح القديم.

أضف إلى هذا أموراً أخرى تختلف فيها البواطن والظواهر ويؤجر عليها القادحون في مشاهير الكتاب لغرض ليس بالصريح ولا بالشريف.

فهم تارة مأجورون لأصحاب المطامع السياسية الذين يريدون القبض على أعنة الدعوة في بلاد المشرق، فلا يملكون هذه الأعنة والمشاهير من الكتاب قائمون مسموعون، فيبذلون ما في وسعهم للغض من أولئك الكتاب والتطاول عليهم بالصياح والضجيج الذي قد يروج بين الأوشاب والأغمار، لأن الأوشاب والأغمار لن يطلبوا دليلاً ولن يميزوا ما يسمعون.

وهم تارة مأجورون للشيوعيين الذين ينادون بالأدب الدارج أو أدب اللغة العامية لأنه أدب (الصعاليك) وهم يبشرون بدولة الصعاليك ولا يسرهم أن ترسخ في المشرق العربي آداب اللغة الفصحى ولا الآراء التي تناقض ما يدعون إليه من فوضى وابتذال، بل لا يسرهم أن تستقر في الأقطار العربية مكانه مصر خاصة لأن مصر خاصة قبلة المأثورات الموقرة من التاريخ القديم، فإذا هدموا مكانتها فقد زال من طريقهم هذا المعقل الحصين وتمهدت الأرجاء بطاحا ذلولا ليس فيها ما يعوق نعيب ماركس وخليفته لنين، وصاحبيه تروتسكي وستالين.

فإذا لم يكونوا مأجورين لأصحاب المطامع أو للشيوعيين فهم مغرورون يتهافتون على الشهرة ولا يتذرعون لها بأسبابها ولا يرجعون إلى ما فيهم من نقص وكسل وعجز عن الكفاح، بل يفضلون التعلل بالأسباب الواهنة والدعاوى الكاذبة والحجج المسلية التي تشبه الأفيون في التخدير والإرضاء وتشبهه في هدم القوى وتخريب الأذهان

وكثيراً ما تسمعهم يقولون: كيف تأتينا الشهرة وهؤلاء الكهول أو الشيوخ يحتكرون ثناء الصحف السيارة ويستأثرون بميدان الدعوة والتأليف؟

ص: 6

وهذا بعينه هو الأفيون إن لم نقل هو أخبث من الأفيون في الكذب والتحطيم

فقد صدر في مطلع هذا العام كتب ثلاثة لمن يسمونهم بالكهول والشيوخ وهم طه حسين واحمد أمين وكاتب هذه السطور. فكم نهراً من أنهر الصحف اليومية قرءوه في تقريظ هذه الكتب أو في الإشارة إلى صدورها؟

لا أذكر أنني قرأت شيئاً ذا بال في الصحف اليومية عن كتاب طه حسين (مستقبل مصر الثقافي) أو كتاب احمد أمين (فيض الخاطر)

أما كتابي رجعة أبي العلاء فقد ظهر وأوشك أن يباع نصفه ولما تذكر صحيفة يومية واحدة أنه صدر من المطبعة مجرد صدور. . . والكتب مع هذا تسير في طريقها وتلقى حظها من الذيوع

فالواقع أن جيل الأدباء الكهول في مصر جيل لا يدين لأحد بما أصاب من شهرة ومكانة، وهو في هذه الخصلة جيل فريد بين أدباء العالم من أقدمين ومحدثين

فالأدباء الأقدمون كانوا يعولون على النصراء والمشجعين ويعتمدون على الخلع والهبات

والأدباء العصريون في أوربا يعولون على دعوة الناشرين وإقبال الملايين من القراء في لغاتهم وفي اللغات الأخرى التي يترجمون إليها

أما أدباء الكهول والشيوخ المصريون فلا نصراء ولا هبات ولا دعوة ناشرين ولا ملايين قراء، وكل ما هنالك حسد واضطغان واستهداف للبذاء من مأجوري الشيوعيين ومأجوري أصحاب المطامع ومن تقعد بهم الرخاوة عن الجد والكفاح

فماذا كانوا لاقين يا ترى لو أصابوا من الكسب والشهرة ما يصيبه برناردشو أو ولز أو موجهام أو لدفيج من طبعة واحدة لكتاب واحد يباع للقراءة ويباع للتمثيل ويباع للصور المتحركة ويباع للترجمة في بضع لغات!

وما أحسب إلا أننا كنا نمشي يومئذ في الطريق فيخرج علينا الكامنون من (نابغي الجيل الجديد) بالمسدسات والسكاكين!!

هذه هي حرب الأجيال عندنا لا يقال في وصفها أصدق من أنها لعب أطفال، أو مكيدة أنذال، أو سفاهة جهال؛ وليس من ورائها نفع للأدب العربي ولا لمن يحاربون في ميدانها بذلك السلاح المفلول؛ ولن ينهزم فيها أناس انتصروا على الزمن وعلى الجهل وحدهم بغير

ص: 7

معونة من حكومة ولا دعاة، ولا محاباة من الجماعات أو الأفراد الأقوياء، بل على الرغم في معظم الأحايين من الإجحاف والعداء يلقاهم بهما جميع هؤلاء. فأحرى بهم ألا ينهزموا اليوم في ميدان مأمون لا يقابلهم فيه جيش ولا جنود، ولا سلاح ولا بنود، إلا اللجاح والهراء ودسائس الجبناء في الجهر والخفاء.

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌النجم الذي هوى

للدكتور زكي مبارك

ما كنت أحسب أن الأيام تدّخر لي هذا النصيب الضخم من الحسرة والحزن والالتياع

ما كنت أظن أن في أخبار الدنيا ما يهددني بالموت وأنا سائر في الطريق

ما كنت أتوهم أن صدري يملك هذه الذخيرة من الحرص على حياة الأصدقاء

رجعت إلى بيتي عصر الخميس ولم أخرج منه إلا صباح السبت طلباً للتفرغ لبعض الأعمال

فماذا رأيت حين خرجت؟

رأيت أن يوما واحداً هو يوم الجمعة كان كافياً لأن تذهب دولة من المروءة والشرف والأريحية من عالم الفناء إلى عالم البقاء

إي والله، يوم واحد كان كافياً لأن يموت فيه رجل ويدفن وينقضي مأتمه وينفضّ من حول بيته الجازعون بحيث لم تبق فرصة لمن يريد أن يقدم إلى أهله كلمات العزاء

إي والله، في يوم واحد ذهب الأستاذ محمد الهراوي إلى غير معاد. . .

فيا أخي ويا صديقي ويا كل ما كنت أملك من الصدق الصادق الصحيح، كيف تطيب الدنيا بعدك وفيها ما أعرف وما كنت تعرف من ندرة الأصدقاء الأوفياء؟

كيف تطيب الدنيا بعدك، يا محمد، وكانت حياتك العزاء، عما في الدنيا من بلايا وأرزاء؟

كيف تطيب الدنيا بعدك، وما تخلَّق الناس بالصدق إلا ليزاحموك، ولا عرفوا الوفاء إلا لينافسوك؟

يا محمد، وما أجمل اسمك!

لك أن تعرف في عالم الأرواح أن إخوانك وأصفياءك سيذكرون أيامك كما يذكرون بشائر الأحلام وبواكير الأماني

لك أن تعرف، يا محمد، أن إخوانك وأصفياءك يؤمنون بأن فجيعتهم فيك هي فجيعة الرياض بموت البلبل الصداح، وفجيعة القلوب بذهاب الأمان، وفجيعة الجسد بفراق الروح

أين من يعزيني فيك يا أخي ويا صديقي؟

أين من يعزيني فيك وأنا أشعر بأن الموت حين خطفك لم يوجّه الطعنة إلى صدر غير

ص: 9

صدري؟

أين من يعزيني فيك وأنا أومن بأن أباك لو كان عاش حتى ثكلك لما جزع عليك معشار ما جزعت عليك؟ أين من يعزيني فيك إن كان قلبي سيعرف من بعدك العزاء؟

يا محمد، وما أجمل اسمك!

كيف جاز عندك أن تغمض عينيك قبل أن تراني؟

كيف جاز عندك وأنت مثال العطف والحنان أن تفارق الدنيا قبل أن أراك؟

أكنت تعرف بوحي القلب أنك مفارق؟

كنت تعرف ذلك ولا ريب، لأنك تلهفت إلى لقائي في أيامك الأخيرة مرات ومرات، وكنت لجهلي أحسب ذلك من إمارات الشوق، لا من إمارات التوديع، فضيَّعتُ حظي من لقائك وأنا آثمٌ ظلوم

ليتني أعرف، يا محمد، كيف تشعر بعد الموت بجزعي عليك!

ليت الحجابُ يكشَف مرةً، لأعرف أن حزني وصل إليك!

أين من يعزيني فيك يا نعيماً ذهب وأملاً ضاع؟

أين من يعزيني فيك يا روضة من الحسن عصف بأزهارها الزمان؟

أين من يعزيني فيك يا دوحةً من المجد عَدتْ على أغصانها العوادي؟

أين من يعزيني فيك وما عرفت معنى الأخّوة إلا حين عرفتك، ولا تذوّقتُ معنى الأنس بالأرواح إلا حين أنستُ بروحك، ولا فطنتُ إلى ما في الدنيا من ذخائر إلا حين فطنتُ إلى الذخائر المودَعة في صدرك الأمين

يا محمد، وما أجمل اسمك!

أفي يوم واحد تضيع من يدي، أيها الكنز الثمين؟

أفي مثل ومضة البرق يذهب الروض الذي كنت آوى إلى ظلاله حين يلفحني هجير العناء؟

أفي مثل لمح البصر أنظر فأراني وحدي وكنتَ جيشاً أحارب به الزمان؟

أفي مثل خفقة القلب ينطفئ السراج الذي كنت أستهدي به في الملمات؟

يا محمد، وما أجمل اسمك!

ص: 10

سيكون في دنيانا بعدك أفراح وأحزان، وسنلقى الدنيا بعدك باسمين أو عابسين، ولكنا سنذكر أن طالت الحياة أن خفقات القلوب من بعدك لن تكون إلا مزاحا في مزاح.

نكذب عليك، يا محمد، إذا قلنا إننا سنجعل خفقات القلوب وقفاً على الهتاف باسمك، والشوق إليك، ولكنك ستعرف أنك ستظل في قلوبنا مثال الشرف والصدق، وسترانا من أهل الحرص على التغني بمحامدك في أكثر الأوقات، حين يجدّ ما يوجب أن نتطلع إلى الأصدقاء الأوفياء.

يا محمد، وما أجمل اسمك!

بموتك عرفتُ أن الحزن خليقٌ بأن يكون شريعة من الشرائع

بموتك عرفت كيف يجب أن أفكر في لقاء الرفاق الأصفياء كل يوم.

بموتك عرفت أن في قلبي ذخائر من الصدق والوفاء

يا محمد، وما أجمل اسمك!

أقسم بالله وبمودتك أن الموت كاد ينتاشني في الطريق حين قرأت خبر موتك، فإن طالت حياتي بعدك فسيكون ذلك أعجوبة من الأعاجيب، وسأقضي ما بقى من حياتي في تحقيق الأغراض التي كنت تحبّ أن تحققها في حياتك

أخي وصديقي:

لا أقول: (يغفر الله لك)، فقد كنت أطهر من الزهر المطلول، وإنما أقول:(يغفر الله لمن عرفك ولم يمت لموتك).

أما بعد، فقد كان في نيتي أن أرثي الهراوي في إحدى الجرائد اليومية، ثم رأيت أن أرثيه في (الرسالة) لأحدث عنه إخوانه في سائر الأقطار العربية.

وسأرجع إلى الحديث عنه مرة أو مرات لأبين ما صنع هذا الفقيد العزيز في خدمة العروبة والإسلام والإنسانية.

نفعني الله بدعواتك، يا محمد، وحرمني فيك العزاء، فما أحب أن يكون لي فيك عزاء.

يا محمد، وما أجمل اسمك!

أحبك وأشتاق إليك، وأحب من أجلك ذاويات الأزهار، وهاويات الكواكب، فاذكرني عند ربك يا أصدق صاحب وأشرف صديق. وسلامٌ عليك من صفيّك وأخيك.

ص: 11

(مصر الجديدة)

زكي مبارك

ص: 12

‌رد على رد

بين القديم والجديد

لأحد أساطين الأدب الحديث

كنت أقرأ مختارات الشعر التي جمعها محمود باشا سامي البارودي الذي يعد زعيم المذهب القديم في الأدب في العصر الحديث؛ فوجدت أنه قد أختار في باب النسيب مجونا ليس بأقل من مجون الحسين بن الضحاك وأبي نواس الذي أختاره الدكتور طه بك في كتاب حديث الأربعاء بل بعضه أشد منه وبعضه مثله، فاختار لأبي نواس قصيدة قالها يتغزل في شاب جميل كان كاتبا في ديوان الخراج بدليل قوله في القصيدة:

ومر يريد ديوان ال

خراج مضمخا عَطِرا

وكانت عادة الشعراء في ذلك العهد التغزل في ملاح كتَّاب الدواوين. وفي هذه القصيدة يقسم أبو نواس أن مُرَقَّشاً الشاعر العذري النزعة لو كان حيا لما أحب امرأة بل لأحب ذلك الكاتب المليح: وهذه هي القصيدة كما أوردها البارودي:

أما والله لا أشرا

حلفتُ به ولا بَطَراً

لو آن مُرَقَّشاً حَيٌّ

تعلَّق قلبه ذَكَرا

كأن ثيابه أطلع

ن من أزراره قمرا

بوجه سابريٍّ لو

تَصَوَّبَ ماؤه قَطَرا

وقد خَطَّتْ حَوِاضُنهُ

له من عنبر طُرَرا

بعينٍ خَاَلطَ التَّفْتِيرُ

في أجفانها حَوَرا

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نَظَرا

واختار البارودي لأبي تمام قطعة قالها في غلام مملوك أهداه إليه الحسن بن وهب فقال:

قد جاءنا الرشأ الذي أهديته

خَرِقاً ولو شئنا لقلنا (المركب)

والذي اختار هذا الشعر ليس الدكتور طه بك ولا هيكل باشا بل البارودي باشا.

وقد أوردنا قبل الآن اختيار البكري أشياء من مجون ابن الرومي ونشر الشيخ شريف مجونه أيضاً. ولكن الأستاذ الغمراوي ترك البارودي وترك البكري والشيخ شريف واختص الدكتور طه وهيكل. فإذا كان ذلك لأن البارودي عارض قصيدة البردة فقد ألف الدكتور طه

ص: 13

على هامش السيرة وألف هيكل حياة محمد وفي منزل الوحي، ولا أظن أن أحدهما نشر شيئاً يقارب ما نشره البكري والشيخ شريف والبارودي

والفكرة التي يتبينها القارئ من كلام الأستاذ الغمراوي غير صحيحة، وهي أن المجون يعصم منه التدين فقد سمعنا في بعض حفلات إحياء المولد النبوي الكريم من التغزل في الذات النبوية من الشعر ما ينبغي أن ينزه عنه ذلك الحفل من ذكر الرضاب والريق والوصال الخ الخ على طريقة بعض الصوفيين.

وسمعنا بعض الأفاضل يختلفون في أمور ثانوية تافهة من أمور الدين، وكل منهم متدين، فإذا انصرف أحدهم ذكره مناظره بكل سوء وبالمجون واتهمه بالزندقة. بل رأينا أن أعظم سلاح شيوعاً في الدفاع عن الدين والفضيلة أو عن عقيدة الوطنية أو عقيدة سياسية هو سلاح المجون في القول وتهمه، وتعدى هذا السلاح هذه الأحوال إلى الدفاع عن النظريات العلمية والرأي يُرى في البحث العلمي. والحقيقة أن المجون مزاج لا دخل له بالتدين أو عدم التدين؛ وقد كان من أثر انتشار مزاج المجون أنك تقول قولاً سليماً تقصد به معنى نظيفاً فيكون أول ما تصنع عقول السامعين أن تفتش فيه عن تخريج إلى المجون، ولا فرق في ذلك بين المتدينين وغير المتدينين، ورأينا أناساً من المتدينين يدعوهم الحسد والحقد إلى اتهام كل من كان أغنى أو أعقل أو أنظف منهم بالمجون. ونعرف أن في علم النفس قاعدة تدل على أن بعض الناس حتى المتدينين منهم يتمنون لأنفسهم أماني المجون فيتلذذون بأمانيهم بنسبة ذلك المجون إلى غيرهم. وهناك طائفة من المتدينين صاروا ينافسون بعض رجال الصحافة والسياسة في سلاحهم السياسي ويحتجون باستعمال حسان بن ثابت هذا السلاح في الدفاع عن الدين، وقد فاتهم أن المسلمين كانوا في عهد قوله هم المضطهدين المشتومين وقد نالهم من أقوال خصومهم من السباب مثل ما نال المشركين من أقوال حسان بن ثابت. وفي يقيني أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا له أن يؤيده روح القدس وعندما نصحه أن يلجأ إلى أبي بكر الصديق لم يكن يريد أن يزيده سيدنا أبو بكر من شدة الهجاء فقد كان الشاعر به أعرف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تحرج من الرمي بالباطل بالرغم من أن شعراء الكفار ما كانوا يتحرجون من ذلك. وقد ذهبت أقوالهم بعد ما انتصر الإسلام وبقيت أقوال حسان بن ثابت. ولو بقيت أقوال شعراء الكفار لدلت على ما

ص: 14

أردنا إثباته وهو أن شعراء الكفار كانوا هم البادئين بتلك الطريقة في الهجاء. ومع ذلك فإن ديوان حسان بن ثابت خليق بأن يسمى ديوان العبر لأن سادة المشركين الذين هجاهم صاروا بعد إسلامهم سادة المسلمين، وفي هجائه بعض ما لا ينقصه الإسلام ولا يغيره. وهذا الديوان إذا أخذ على علاته دلّ على حالة خلقية لا يتوقع القارئ أن تكون في ذلك الزمن. والسير على هذه الطريقة من غير رقيب أو وازع هو من الإخلال بروح الدين في عصرنا وهو عصر ينقاد فيه السذج لمن يريد أن يشفى حقده أو حسده ممن لا دين له ولا خلق وإن تظاهر بالدين والخلق، وهذه حقيقة لا مبالغة في تعبيرنا عنها وقد لا يكون الأستاذ الغمراوي ممن يعرفها لبعده عن هذه الطوائف وبعده عن أحقادها وأقذارها ولكنها حقيقة يستطيع أن يراها في المجادلات السياسية وخصومات بعض المشتغلين بالسياسة والصحافة والأدب؛ فليس من العسير أن يفهم المفكر وجودها في بعض النفوس التي تتخذ السذج من المتدينين قنطرة للوصول إلى غرض شخصي، أو في نفوس بعض الذين لا يفهمون أن الدين ينبغي أن يترفع أنصاره عن المجون؛ لكن كيف تفهم ذلك نفوس مزاجها ذلك المجون. والمزاج لا يستطاع تجنبه مهما كان المرء متديناً. فالخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الغمراوي عندما حسب أن شدة التدين تعصم من الانهماك في الشهوات، أو أنها تعصم من لذة قول المجون إنما هو خطأ الذي يحكم على غيره بحالة نفسه؛ فإذا وجد نفسه متديناً يكره المجون ظن أن التدين يعصم من المجون. وليسمح لي الأستاذ الغمراوي أن أقول بكل رعاية: إن هذا الظن يدل على أنه لم يدرس خصائص النفس الإنسانية عامة في نفوس الناس دراسة غير المتحيز وغير المتعصب لطائفة دون طائفة، فإنه لو فعل ذلك لعلم أن مقدار ما في نفس المرء من مجون لا يعينه مقدار تدينه، حتى ولو وجدنا أمثال الأستاذ الذين يعصم تدينهم من المجون. ونحن لا نريد التعرض لشواهد من شعر ونثر الأدباء القريبي العهد كرامة وصيانة؛ وأما من عداهم من المتدينين وغير المتدينين فما على الأستاذ إلا أن يخالطهم وأن يدرسهم من غير أن يشعرهم أنه يدرسهم إلا إذا كانوا يهابونه كل الهيبة فلا يظهرون أمامه حقيقة نفوسهم. والخطأ الثاني الذي وقع فيه الأستاذ هو ظنه أن الشكوك الدينية تمنع الاعتقاد. والخطأ الثالث حسبانه أن عجز الكاتب عن منع إذاعة هواجس نفسه يدل على أنها أكثر تمكناً من نفسه؛ ومثل الأستاذ كمثل الذي يرى صنبور

ص: 15

ماء لا يقفل تماماً فيحسب أن ماءه أغزر من ماء غيره لأنه لا يستطاع إحكام حبس الماء من التسرب منه. وهذه الهفوات الفكرية هي التي وطدت السبيل لأن يفهم الأستاذ في النزعة إلى التجديد ما ليس فيها، ففهم أنها حركة التفاف يراد بها التعاون مع الحاقدين على الدين الإسلامي من الأوربيين. وقد أوضحنا للأستاذ بالشواهد التاريخية والأدلة المنطقية أن كل ما في هذه النزعة من محاسن ومفاسد كان من الممكن استنباطه من الآداب والعلوم العربية حتى ولو لم تتأثر النفوس بأدب اللغات الأوربية، وإنما كانت تحتاج إلى زمن أطول لاستخراج كل هذه الأمور لو لم تتأثر بأدب اللغات الأوربية. ولا أدري لماذا لم يتهم الأستاذ الغمراوي أبا العلاء المعري بأنه كان يريد أن يقوم بحركة التفاف وتطويق معاونة لأعداء الإسلام من الأوربيين

ومن رأيي أن الأستاذ الغمراوي يؤدي خدمة كبيرة للدين والفضيلة لو أنه ترك نزعة التجديد وحاول بغيرته الصادقة أن يطهر الشعور الديني من شوائب الأثرة والمجون في نفوس الناس الذين يعتقدون أن تدينهم صك يعفيهم من ضرورة تطهير أنفسهم من المجون ومن تهالك الأثرة وجشعها ووسائلها الخبيثة وأحقادها. وإذا كان شيخ الأدب القديم محمود باشا سامي البارودي لم يعصمه أخذه بالمذهب القديم من اختيار شعر أبي تمام في الغلام. فإن من الظلم يا أستاذ أن تلوم الدكتور طه وهيكل بعد ذلك على نشر قصص منقولة عن الفرنسية، وهي مهما كانت لا يبلغ بها المجون هذا المبلغ، وبعضها كان دراسات نفسية (سيكولوجية)، وإذا كان شيخ المعرة أبو العلاء المعري لم يرد أن يقوم (بحركة التفاف) لمعاونة أعداء الإسلام من الأوربيين عندما قال:(قالوا لنا خالق حكيم) إلى أن قال:

هذا كلام له خبئ

معناه ليست لنا عقول

وعندما قال: (الموت نوم طويل لا انتهاء له)، وانظر إلى قوله لا انتهاء له، وعندما قال في إنكار البعث:

لو كان جسمك متروكاً بهيئته

بعد التلاف طمعنا في تلافيه

ومثل قوله في فناء الروح:

وجسمي شمعة والروح نار

إذا حان الردى خمدت بأفِّ

أقول بعد هذه الأقوال وأشباهها التي يتخللها أقوال أخرى تختلف عنها: إذا كان شيخ المعرة

ص: 16

جديراً بإحياء المسلمين ذكراه، وطبع أقواله فمن الظلم أن يعد الأستاذ الغمراوي دراسة فولتير جريرة وحركة التفاف.

إن للدكتور طه آراء نخالفها كل المخالفة، ولكنها ليست حركة التفاف؛ إنما هي نتيجة التفكير الذي قد يخطئ وقد يصيب. وكذلك ليست القصص التي نقلتها السياسة الأسبوعية حركة التفاف وإنما يصح أن ينتقد الناقد نشر بعضها، وما دامت مكتبات مدارس البنين والبنات الدينية وغير الدينية مملوءة بمثل المجون وأشد من الفحش والمجون الذي سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سحيم عبد بني الحسحاس ينشده في بنت سيده ويقول:

ولقد تحدَّر من كريمة بعضهم

عرق على جنب الفراش وطيب

فمن العبث لوم السياسة الأسبوعية على تلك القصص

(قارئ)

ص: 17

‌من برجنا العاجي

قرأت بين الرسائل التي جاءتني في موضوع نشر اللغة العربية بين الأجانب رسالة لم أر بداً من إثباتها هنا، لأنها قد عرضت في فقرات سبع، مسائل ينبغي أن توضع موضع التفكير. قال صاحب هذه الرسالة: كي ننجح في اجتذاب الأجانب إلى (حانوتنا) الفكري يجب أن نتبع ما يأتي:

أولاً - أن يتكلم المصريون جميعاً اللغة العربية في كل المناسبات، وألا يسمحوا لأنفسهم ما داموا يعيشون في مصر بالتكلم بأية لغة أخرى مهما ترتب على ذلك من نتائج

ثانياً - أن تكون جميع مكاتباتنا باللغة العربية، وأن نضطر الأجانب إلى قبول الكتابة إليهم بلغتنا

ثالثاً - أن يكون التعليم في جميع المدارس الأجنبية في مصر باللغة العربية

رابعاً - أن يوطد الكاتب المصري عزمه على أن يكتب للعالم كله. إذ على الرغم من أن ما يكتبه لن يخرج عن حدود الأمم الشرقية الناطقة بالضاد، إلا أن مصر بالذات هي شبه عالم صغير فيها من كل الأمم وكل الجنسيات

خامساً - العناية بأسلوب الكتابة، والارتقاء به إلى السلاسة مع السهولة، وأن يجتهد كل كاتب في الكشف عن نفسه وغرضه في وضوح وصفاء

سادساً - أن تعرض المطبوعات بأثمان معتدلة لإغراء الأجانب بقراءتها

سابعاً - أن تكون هناك رقابة على المؤلفات جميعاً فلا ينشر منها إلا ما يستحق النشر، حتى لا نكلف الأجانب قراءة سخافاتنا المزرية

تلك مقترحات صاحب الرسالة. وهي من غير شك كفيلة بتحقيق الغرض. لكن المعضلة في التنفيذ، وأن بعضها لا يمكن أن يقوم به غير حكومة قوية الشوكة مرهوبة الجانب، وبعضها يقع حمله على كواهل الأدباء.

وأعجبني قول هذا الأديب: إن الكاتب المصري ينبغي أولاً أن يوطن عزمه على أن يكتب للعالم كله. ولعل هنا مفتاح القضية كلها، فهل في مصر الآن أدباء يكتبون للعالم كله؟ ذاك موضوع يحتاج في بحثه إلى صفحات طوال.

توفيق الحكيم

ص: 18

‌أعلام الأدب

اسخيلوس والمسرح اليوناني

للأستاذ دريني خشبه

وكان للتمثيل موسمان عند اليونانيين. فموسم الشتاء (اللينايا وذاك هو موسم عصر الخمر عندهم، وموسم الربيع (الديونيزيا حينما كانت تجتمع في أثينا وفود أحلافها

ولم تكن تمثل على المسرح اليوناني إلا كل درامة تنجح أمام هيئة المسابقة، وكانت المسابقات تعقد ثلاث مرات في السنة بإشراف الحكومة التي كانت تمثلها الهيئة الدينية

وقبل أن ينشأ مسرح ديونيزوس العظيم على منحدر الأكروبوليس الجنوبي الشرقي كان لأثينا مسرح آخر في مكان سوقها وكانت مدرجاته من عروق الخشب، وقد حدث أن سقطت هذه المدرجات مرة في نزاع كبير نشب بين أنصار كل من اسخيلوس وبراتيناس وخوريلوس في الأولمبياد السابع (499 ق. م) فقتل خلق كثير من النظارة، وكان هذا الحادث هو الباعث لبناء مسرح ديونيزوس، حيث صنعت المدرجات من الحجر على الحدور الراسخ فكانت تتسع لثلاثين ألف متفرج

وكان مكان التمثيل هو الدائرة المنخفضة الوسطى من المسرح وكانت تسمى المرقص أو الأركسترا

وفي وسط المرقص كان يقام المحراب الذي يبدل فيه الممثلون ملابسهم وأزياءهم التنكرية، وقد رؤى أن يكون إلى خلف المرقص حين رفعت أرضه بالخشب لتتناسب مع المدرجات العالية أمامها

ولما كان المسرح في مثل هذا الاتساع الهائل عمد الأثينيون إلى حيل المكياج ليضخموا الممثلين بحيث تراهم الصفوف الخلفية، فكان هؤلاء يلبسون أخفافاً كباراً لها أعقاب عالية من الخشب، وثياباً سميكة محشوة ومبطنة ببطائن منتفخة، وقد يكون للثوب ذيل فضفاض يجرره الممثل وراءه

وكانوا يلبسون الأوجه التنكرية الكبيرة التي تلائم المشهد الروائي، فإذا كان المشهد محزناً ظل الوجه عابساً بادي الألم، وإذا كان المشهد مضحكاً بدت على الوجه أسارير المرح وقسمات الضحك أو علائم التهزيل

ص: 20

وكما عمدوا إلى ذلك لتضخيم الممثلين فكذلك عمدوا إلى فم الوجه التنكري فنفخوه بحيث يخرج الصوت منه مدوياً يجلجل في أرجاء المسرح فلا تضيع كلمة واحدة على نظارة الصفوف الخلفية

وقد أدى هذا المكياج العجيب إلى بطء الحركة في المرقص بطئاً شديداً لأن تلك الأخفاف الخشبية ذات الأعقاب العالية لا تعمل على السرعة بل تعمل على البطء، هذا إلى اضطرار الممثل أن يتجه دائماً إلى الوجهة التي يعبر عنها الوجه التنكري الذي يلبسه، لأنه لا يستطيع تبديل (تقاطيعه) حسب ما يقتضيه سياق الحديث

وكانت طبيعة هذا المسرح الضخم الرحيب تقتضي أن يكون الممثل حاذقاً بارعاً ملماً بدقائق فنه خبيراً بتوجيه الصوت الذي كان ينبغي أن يكون دائماً جهورياً عالياً في غير حشرجة ولا تصديع

وقد كان الشعراء أنفسهم - وهم مؤلفو الدرامات - يقومون بتمثيل الأدوار المهمة ويتولون في الوقت نفسه مهمة الإخراج والإشراف الشامل على تمثيل الأدوار الأخرى. . . وقد ظل إسخيلوس وسوفوكليس يمثلون أدوارهم حتى اضطرا إلى التخلي عن ذلك حينما ضعف صوت إسخيلوس ورأى سوفوكليس أن يستعمل ممثلا آخر يقوم عنه بهذه المهمة، ومن هنا نشأ الاحتراف في التمثيل حوالي سنة 456 ق. م

وإسخيلوس هو أول من اتخذ ممثلين بدل ممثل واحد يقوم بمعظم الأدوار الهامة في الدرامة. وقيل إن سوفوكليس زاد عدد الممثلين فجعلهم ثلاثة؛ وقيل إن إسخيلوس هو الذي صنع ذلك وسنّه لمن جاء بعده

وكانت أدوار النساء تسند عادة إلى الصبيان المُرد ذوي الصوت الناعم الرخيم. وقد مثل سوفوكليس نفسه دور الحسناء نوزيكا في درامته المفقودة (نساء غاسلات). . . ولا تدري ماذا منع الإغريق من إسناد هذه الأدوار إلى السيدات، وليس في المصادر التي بأيدينا ما يلقى النور على ذلك

وقد كان الفنانون يبدون مهارة عجيبة في صنع الأوجه التنكرية وخاصة لأدوار النساء، وقد حفظ لنا الأثر كثيراً من فن فدياس في ذلك خصوصاً في أدوار درامات سوفوكليس

أما الخورس (المنشدون) فقد عرفنا أن عددهم في الدثرامب (أغاني باخوس) القديمة كان

ص: 21

خمسين وقيل ثمانين وقيل غير ذلك، وقد نزل بهم إسخيلوس إلى ثمانية وأربعين لا يظهر منهم في المشهد الواحد إلا اثنا عشر. وقال ستوبارت بل كان يظهر منهم في المشهد الواحد خمسة عشر يخرجون من المحراب في صفوف ثلاثية طولية عدد كل منها خمسة، ويقودهم رئيسهم صاحب الناي وعلى يمينه ويساره قائدا الصفين الآخرين

وكان أفراد الخورس يُختارون من أمهر الراقصين اليونانيين، ومن الذين مرنوا على الإنشاد والغناء، وذلك لما يتطلبه فن الدرامة اليونانية من التوقيع الموسيقي الرشيق الأنيق المنتظم الذي يوائم مجرى التمثيل ويتفق ومشاهد المأساة أو الملهاة

أما ملابس الخورس فكان يؤدي ثمنها المثري الذي تعهد للشاعر بمصروفات الدرامة، وكان لكل فرد من المنشدين أربعة (أطقم) من الثياب يغيرها حسب اختلاف المشاهد. . .

وكان للخورس المقام الأول في الدرامة القديمة، فهم الذين يشرحون الحوادث وهم الذين يعطون للنظارة كل فكرة هامة عن الدرامة، وما الممثل (أو الممثلان أو الثلاثة) إلا قائد التسلسل أو كما يقول آرسطو أي الشخص الذي يقود الحديث ويوجهه. وقد أخذت مهمة الخورس تتضاءل وتقتصر على الشرح الخفيف والأغاني والموسيقى بعد اسخيلوس. ففي درامة المتضرعات ترى أن الخورس هم أبطال الرواية ذكوراً وإناثاً، وأنهم ينشدون من مادتها الثلثين على الأقل؛ أما الثلث الباقي فهو للحوار ويؤديه الممثلان. فالخورس في إسخيلوس هم صلب الرواية، وهم حاضرون أبداً في الأوركسترا لا يبارحونه. . . أما في سفوكليس، أو في درامته فيلوكتيتس فلا تكاد تحس للخورس تلك الأهمية، بل لا تكاد تحس لهم أهمية مطلقاً، وهم لا يظهرون في الأوركسترا إلا بعد أن تقترب المأساة من أوجها، ولا يكادون ينشدون من مادتها أكثر من السدس. وهذا هو السبب في سرعة الأداء في مآسي سوفوكليس وبطئه في مآسي إسخيلوس، بل هذا هو السبب الذي أظفر الشاعر الشاب بالشاعر الشيخ كما سنرى فيما بعد.

وقد فقدت أغاني الخورس قيمتها تقريباً في درامات يوريبيدز واحتلت الموسيقى المكان الأول فيها جميعاً، وقد حدث ذلك التبدل حينما انحط الغناء وتشوف الأثينيون إلى الموسيقى العلوية الرفيعة التي تذكى المشاعر وتحوم بهم في آفاق شعرية جميلة، ومن هنا اهتمام يوريبيدز بالأناشيد والمراثي القروية مما سوف نتناوله في حينه إن شاء الله.

ص: 22

وقبل أن يبدأ التمثيل، كان لا بد من إعطاء النظارة فكرة عن موضوع الدرامة، فكان يبرز من المحراب أحد أفراد الخورس أو الممثلين أو الشاعر نفسه ليقدم المقدمة أو ال وذلك قبل أن يدخل أحد من الخورس، أما مقدمة الخورس أو ال فهي ما يقدم به الخورس نفسه قبيل كل مشهد جديد. . .

أما مادة الدرامات اليونانية فقد كان لها مصدران عظيمان: أحدهما خارجي ويشمل مشكلات السياسة ومؤامراتها وكل ما يتعلق بسلامة الدولة، والآخر داخلي أو أهلي ويشمل الأساطير الدينية التي تحدد العلاقة بين الناس والآلهة أو بين الآلهة والآلهة أو بين الناس والناس فيما يتعلق بتقليد ديني أو فيما له صلة بتلك التقاليد

وفي الدرامات التي تتناول موضوعاً سياسياً لم يكن يسمح للشاعر أن يستهزئ بدولة ما حتى ولو كانت دولة معادية؛ ولم يكن يسمح له أيضاً بأن يثلب طائفة ما من الطوائف التي يتركب منها الشعب الإغريقي. وقد حدث أن ألف الشاعر فرينيخوس درامة آذى بها الأيونيِوَيّين، فثارت الخواطر عليه في أثينا وانتهى الأمر بمحاكمته والحكم عليه بغرامة فادحة

وقد كان لأبطال الملاحم الهومرية والهسيودية النصيب الأوفى من عناية شعراء الدرام. وكانوا يعنون كذلك عناية فائقة بأبطال الحروب المروعة التي نشبت بينهم وبين الفرس. . . تلك الحروب التي خلقت المجد اليوناني وحالت بانتصار اليونانيين دون تبرير أوربا

أما الأساطير التي تعج بها المثيولوجيا اليونانية فقد كانت مادة أساسية للدرامة. . . ولا غرو، فقد عرفنا أن الدثرامب كانت الفجر الصادق لهذا الفن الجميل العظيم. . . والدثرامب هي أغاني باخوس، وهي وإن كانت تنشد باسم هذا الإله المرح الطروب قد أدت إلى المأساة الصارمة المشجية التي تفيض بالألم وتورث الحسرة والأسى

وهنا موضع إشارة إلى رأي طريف جهر به أستاذ عظيم من أساتذة الأدب اليوناني القديم هو العلامة ردجواي. . . فقد أنكر هذا الأستاذ أن تكون أغاني باخوس الفياضة بالفرح والمرح والتهريج أصلاً للمأساة، وزعم أن أصلها إنما هو الأسى والحزن، والأسى والحزن إنما ينشأن حول الموتى وحول المقابر وفي المحافل الجنائزية التي كانت تقام في هذه المناسبات، وما كان يصحبها من إقامة شعائر الموت والطقوس الدينية المختلفة. ودليله

ص: 23

على ذلك تلك المشاهد الكثيرة التي تزدحم بها المآسي من مناظر الحزن وإبراز إمارات الأسى وتجصيص القبور في المناظر التي تقتضي ذلك.

هذا رأي طريف حقاً. . . لكنه رأي لم يشر إليه أحد من قدماء اليونان، لا أفلاطون ولا أرسطو ولا هيرودوتس ولا أحد ممن أرخ لهذا الأدب المسرحي العظيم. بيد أنه لا ينقض هذا الرأي عدم إشارة أحد من هؤلاء إليه. فهو رأي محترم لأنه منطقي ولأن الأستاذ قد أردفه برأي آخر في نشوء الدرامة الكوميدية كاد ينكر به ما تواتر به التاريخ وأجمع عليه العلماء من أمر نشوئها، فقد زعم أن الكوميدية لم تنشأ عن الدثرامب التي هي أغاني باخوس الخمرية المرحة، بل نشأت في قرية تدعى اشتهر أهلها بممارسة عبادة العنز لا عن تقي وورع بل اندفاعاً مع التيار. . . وآية ذلك أنهم لم يكونوا يظهرون إلههم الذي هو ديونيزوس أيضاً. . . في المظهر الذي كان ينبغي له بصفته أحد سادة الأولمب، بل هم كانوا يظهرونه في مظهر المخلوق المخمور العربيد الذي يثير مرآه الضحك ويبتعث النشوة والابتهاج، والسخرية أحيانا. فمن اسم هذه القرية اشتقت كلمة للملهاة ولفظة لشعرائها ومنشديها

ومع ما لهذا الرأي من قيمة ووجاهة فهو ما يزال يفتقر إلى إثبات وتدعيم.

هذا ولم تكن مناظر القتل وسفك الدماء تمثل على المسرح، بل كان يكتفي بدخول رسول فيفاجئ الممثلين والخورس بمقتل فلان أو الاعتداء على فلان. وهنا تتغير اتجاهات المأساة، وتبلغ أوجها بالخطبة الطويلة التي يلقيها هذا الرسول، لأنه يتناول شرح الاعتداء ووقته ومكانه وكيفيته والقائم به. . . الخ. وكانت المأساة في الغالب تنتهي بهذه الخطبة، فيظهر إله، خصوصاً في درامات يوريبيدز، فيلقي عظة أو عبرة، ثم يدخل الخورس إلى المحراب، وينصرف الجمهور إن لم يكن هناك تحكيم

وعلى ذكر الخطبة التي يلقيها الرسول نذكر أن الدرامة اليونانية لا تشبه بحال من الأحوال الدرامة التي نشهدها اليوم في مسارحنا. . . فدرامتنا تعتمد على الحوار القصير، أما الدرامة اليونانية فتعتمد على الخطب الطوال في أكثر الأحوال. . . ولم يوزع الشعراء اليونانيون بيتاً واحداً من الشعر على أكثر من ممثل واحد كما يصنع شعراؤنا اليوم ومنذ عصر شاكسبير. . . ومن الظريف جداً أن مترجمي الدرامات اليونانية القديمة من الإنجليز

ص: 24

والألمان والفرنسيين قد حافظوا على هذا التقليد حينما نقلوا تلك الدرامات إلى لغاتهم شعراً

وقبل أن نختم هذا الفصل نرى ألا يفوتنا أن نشير إلى حرية الرأي الكاملة عند هذا الشعب الأثيني الراقي العظيم. . . تلك الحرية العجيبة غير المحدودة - إلا ما سلفت الإشارة إليه في تناول بعض المشكلات السياسية - التي كان ينعم بها المؤلف والخطيب والمحاور وكل فرد من أفراد ذلك المجتمع الأثيني المهذب

لقد نشأت الدرامة اليونانية نشأة دينية بحتة. . . لكن المجتمع الأثيني لم يكن مجتمعاً دينياً متزمتاً. . . ودينه لم يفرض عليه طقوساً يومية من العبادات، وإن كنا نحن نؤمن إيمانا مطلقاً بما لهذه الطقوس من الأثر الجميل في مجتمعنا. . . لكنهم هكذا نشأوا. . . نشأوا وثنيين في عشقهم للجمال والحرية ومحبة العدل وإيفاء كل ذي حق حقه. . . احترموا الموت ولم يفكروا فيما وراءه، وآمنوا بالقضاء والقدر إيماناً إيجابياً لا إيماناً سلبياً مثل إيمان بعضنا بهما. . . ومن هنا نبعث روائع دراماتهم. . . لقد كان كل ما يأمرهم دينهم به هو تقديم القرابين وعقر الأضاحي. . . ثم دفن الموتى. . . فمن لم يدفن بعد موته أو قتله ظلت روحه هائمة في الظلمات عابسة كاسفة حتى يدفن صاحبها فيؤذن لها في دخول هيدز. . .

هذا كل ما فُرض عليهم من أمر دينهم. . . ومع ذاك فقد فهم أحرارهم هذا الدين الأسطوريّ على وجهه الحق فلم يبالوا أن يزيفوه ويتناولوا آلهته بالنقد والتخطيء والتسفيه والسخرية أحياناً. . . كما سيمر بك فيما يلي

دريني خشبه

ص: 25

‌في السلام

للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

لا كلمة الآن أشد سحراً وأكثر دوراناً على ألسنة الساسة من كلمة السلام، فهم يرسلونها في خطبهم العالمية والمحلية حتى لتظنهم ويظنون أنفسهم خلفاء الرسل في الدعوة إلى سلام الأرض

وقد بنوا لهذه الكلمة الساحرة بيتاً عالياً في جنيف له سدنة وكهان وحجاب، وكل هذا (كالعروض): بحور بلا ماء!

ولا أعرف ديناً عنى بترديد هذه الكلمة على أسماع أهله في الخلوة والجلوة وتثبيتها في طباعهم كما عنى الإسلام

بل إن الإسلام والسلام كلمتان متداخلتان مادة ومعنى. ويعرف كل من له إلمام بفقه اللغة العربية وخصوصاً قانون (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) أن هاتين الكلمتين ليس بينهما من فرق في المعنى إلا بمقدار ذلك الفرق الضئيل في اللفظ

وأنا الآن بمعرض بيان الأسس التي وضعها الإسلام لضمان السلام في النفس، وبين الطبقات في الشعب، وبين الأمم في الأرض

وأول ما يسترعي النظر هو أن تحية المسلمين هي إلقاء كلمة السلام. وما أجد تحية أقرب مناسبة لكل وقت كهذه التحية، وهي في الواقع بمثابة عهد بين البادئ والمجيب، على ألا يمس أحدهما الآخر بسوء. وفي البادية يفهمون لها هذا المعنى الجميل فيرافق المجيب البادئ إلى آخر حماة حتى لا يصاب بسوء ما دام في حماه، بعد هذا التعاقد

وفي الصلاة الإسلامية ترديد كثير للسلام؛ حتى ليصح أن نطلق على التشهد (نشيد السلام) ففيه سلام على النبي صلى الله عليه وسلم وفاء له وذكرى بين يدي الله، وسلام على النفس لبعث الطمأنينة وإشاعة معناها في الروح وإيحاء ذاتي إلى القلب بذلك المعنى، كما يشير بذلك علم النفس الحديث، وسلام على العباد الصالحين يرسله المصلي إليهم في غيبتهم وغيبوبته هو في مقام الله، وكأنه يتعهد أمام الله ألا يمس أحداً من رجال الإصلاح بسوء، ثم تنتهي الصلاة بسلام عن اليمين والشمال يستأنف به المصلي عودته إلى ملابسة أمور الحياة. ذلك موقف هو أعظم مواقف التصفية للنفس المسلمة في حياتها اليومية،

ص: 26

فلينظر فيه علماء النفس ويبينوا أي قوة تربوية أوحى بمعاني السلام منه؟

ثم يعمد الإسلام إلى تثبيت معنى السلام من طريق العظة بالقول بعد أن أوحى به في العبادة فيصف المسلمين بأنهم (إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلية)(المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) إلى آخر النصوص التي تفيض بها مراجع الإسلام

ولما قامت دولة الإسلام بالمدينة وابتدأت الحياة السياسية للمسلمين شرع الله شرائع الحرب والسلم حتى لا يسير المسلمون وراء السياسة وهى فاجرة قاسية، فنادى نداء عاماً (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)(وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله)(ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً) وقد نهى وحذر من الخداع واتخاذ العهود والمواثيق تمويها وغشاً (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها)(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً)(ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به)

وهنا نقف قليلاً لنفكر في هذه الآية العجيبة التي تلخص كل مشاكل السياسة وبخاصة في هذا العصر. فنحن على علم الآن بأن كل ما يوقع الأمم في جحيم الحرب هو عدم الثقة المتبادلة فكل دولة لها مواثيق مستورة ومواثيق علنية، والاعتماد الأكبر على المحالفات السرية، وكل دولة متهمة عند الأخريات، وكل دولة تريد أن تكون أربى وأكثر عدداً وقوة ومنافع من الأخرى، فهم قد اتخذوا مواثيقهم وعهودهم دخلاً وغشاً بينهم فلا تترك ثقة ولا تدفع شكا، وكل هذا للمادة والمال (لتكون أمة أربى من أمة) لا لخدمة مثل أعلى، ولا لعلم أو معرفة، ولا شك أن هذا بلاء كبير كما يعبر القرآن

فانظر كيف يدخل الإسلام إلى السياسة بهذه الروحانية الجميلة التي هي سر نجاح سياسة العرب في تعريب الأمم وإسلامها

ويعد القرآن اتخاذ العهود والمواثيق دخلاً وخداعاً وغشاً، زلة قدم بعد ثبوتها، وذلة تحت حكم السوء، وصدّاً عن سبيل الله (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم)

ولم أر القرآن يؤكد معنى في موضع واحد منه وفي آيات متلاحقة وفي بيان يدير المعنى

ص: 27

على اختلاف وجوهه ويستعين على توكيده بالتشبيه والتمثيل كما رأيته في هذه الآيات التي تحض على الوفاء وتنهى عن الخداع في السياسة بين الأمم. . .!

وأحب ألا يفهم قارئ أن القرآن يدعو إلى الضعف والغفلة بإدخاله الروحانية في السياسة، فإن هذا فهم خاطئ. فقد دعا الإسلام إلى الأخذ بأسباب القوة ما وسعت الطاقة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). (وإما تخافن من قومٍ خيانةً فانبِذ إليهم على سواء). (وليجدوا فيكم غلظة). . . (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)

وإنما هي رحمة الأقوياء، وعفو القادرين، وسلام تحت ظلال السيوف. . .

(بغداد - الرستمية)

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 28

‌من برج بابل

أسعد ساعاتي وأحفلها بالعبر والتأمل، حين أجلس إلى طفلي. فأعمد أنا إلى إبرتيّ الطويلتين دائبة على صنع قطعة من النسيج، ويفرغ هو إلى الدُّمى واللُّعب كأنه ملك عابث، فهو منهمك أبداً في تدبير دولة من لُعب، فتارة يقسم فصائل جيشه وينصب عليهم القواد ويدعوهم إلى القتال والجهاد، وطوراً يزف الملك إلى الملكة، وأحياناً يحرك القطار على القضيب. وهو في هذا كله نشيط دائم الحماسة والحركة، يزمزم بلغة غريبة عنا، كأنما لا يفهمها غير عالمه الصغير ورعيته الجامدة!

ثم لا يلبث أن يعتريه الملل والسآمة وتسيطر عليه غريزة عجيبة، فيهدم عرشاً نصبه، ويبعثر جنوداً مدربة منظمة، ويصدم عربات قطاره، ويهرع إليّ محتجاً متبرماً، يطلب عالماً جديداً أو إن شئت لعبة جديدة. وبأي قدرة أستطيع أن أمده على الدوام بعوالم لا متناهية متجددة في كل لحظة! فإذا شعر مني بالعجز عن الخلق والإبداع انصرف إلى دنيانا نحن الكبار: فيجذب الزهرية المستقرة في رشاقة على المنضدة ويهوى بها إلى الأرض؛ وإلى الورد فيعبث بأوراقه، ويعمد إلى الستار المسدل على النافذة فيهدله. وإلى زجاجها فيحطمه؛ ويسعى إلى القط الجميل الوديع فلا يزال يستدرجه، حتى إذا تمكن منه حاول خنقه بيديه الدقيقتين.

لشد ما يجهد أعصابي هذا المخلوق الصغير الجبار! إنه لا يهدأ، إنه لا

يستقر. ولا يحلو له غير التدمير والعبث بنظامنا. لا توقفه نظرتي

الحادة المهددة، ولا تهدئه بسمتي الحنون الرقيقة، ولا يثنيه ما أقدم من

حلوى.

ألا إن في الأطفال حافزاً عجيباً يدفعهم على الدوام إلى هدم ما هو قائم، وإفساد ما هو كائن، وتحليل ما هو مركب. وحين ألقى النظر على يديّ وهما دائبتان في نسج الحياة، وعلى آثار الحطام التي أنزلها بعالمي طفلي الصغير، أشعر بالفارق الهائل بين الأمومة العاملة والطفولة الهادمة

هؤلاء الصغار، فلذات أكبادنا، يولدون في الحياة بمشاعر جديدة، وطبائع جديدة، وأفكار جديدة، وآمال جديدة. . فلا يطيب لهم أن يبقوا على ما صنعت الأمهات وما بذل الآباء؛

ص: 29

فتراهم يحطمون في لحظة عالمنا، ثمرة كدنا وعمرنا وجهدنا، كما لو كان صنماً قديماً سخفت عبادته!

ماري نسيم

ص: 30

‌حول كتاب (مصطفى كامل)

مصطفى كامل والسيادة العثمانية

للأستاذ محمود العمري

في عدد الرسالة الصادر في 20 فبراير كلمة للأستاذ العقاد عن كتاب (مصطفى كامل) لعبد الرحمن بك الرافعي، لا يسع قارئها إلا أن يرى فيما جاء بها، حواراً طبيعياً بين مؤرخ (سعد زغلول) ومؤرخ (مصطفى كامل). وقد أوسع الأستاذ العقاد مجال المناقشة من الجانبين، إذ قال في آخر كلمته أن ليس للقارئ أن يطلب الحق كله من كتاب واحد لا سيما في تاريخ تختلف فيه الميول والآراء. وهذه دعوة ضمنية إلى طرح الموضوع على بساط البحث كيما يستنير أبناء الجيل الحاضر ممن تأثروا بحركة سعد زغلول دون حركة مصطفى كامل.

والمهم في هذه الكلمة أن الأستاذ العقاد يأخذ على عبد الرحمن بك أنه ظل غير متحيز في سلسلة كتبه عن الحركة القومية منذ الحملة الفرنسية إلى أن وصل إلى مصطفى كامل فتحيز له ضد خصومه.

ولأجل أن نبحث هذه الملاحظة لا بد لنا من الرجوع إلى السياق التاريخي لمنطق الوطنية المصرية منذ الحملة الفرنسية، لنتبين ما إذا كان هناك عدم تناسق في حلقاتها؛ وعندئذ نرى الحكمة الحقيقية فيما قاله عبد الرحمن بك في مقدمته: من أنه كان في أول الأمر يريد ترجمة سيرة مصطفى كامل، فأدى به البحث إلى أن يمهد لها بتحقيق تاريخ الحركة القومية منذ الحملة الفرنسية التي تعد بداية محاولة دول أوربا الاستيلاء على مصر بأساليب واحدة؛ إذ أن حركة مصطفى كامل لا يمكن اعتبارها من جانب المؤرخ الحقيقي إلا حلقة من حلقات سلسلة جهود المصريين للوقوف في وجه الفاتح الأوربي؛ كما أن تشابه الموقف في هذه الحلقات كان من شأنه أن أملي على المجاهدين في سبيل الاستقلال الحقيقي خطة واحدة. وما الشعور الوطني إلا غريزة الدفاع عن النفس، وهى غريزة طبيعية فطرية إذا كانت سليمة صادقة فرضت على النفوس منطقاً سليماً على اختلاف درجة تعمق الآخذين بها في مبلغ فهمهم إياها عن طريق العقل.

فالسلسلة التاريخية التي بدأت منذ قرن ونصف قرن تقريباً إنما هي عدة فصول في رواية

ص: 31

واحدة يطلع عليها القارئ في سلسلة الحركة القومية بقلم رجل يجمع إلى صفاته كمؤرخ صفة أخرى وهي صفة المؤمن بتلك الحركة، وهذه مزية ضرورية لمؤرخ أي فكرة؛ إذ أن عبد الرحمن بك رجل يؤهله طول بلائه فيها لأن يفهمها بروحه ومزاجه فضلاً عن فهمه إياها كمؤرخ وكرجل يدرك المرامي السياسية عن طريق إلمامه بالقانون.

احتل نابليون مصر، وكانت تابعة لتركيا، وكانت إنجلترا منافسة له تسعى لإخراجه منها. وكانت حجتها في ذلك أن في هذا الاحتلال اعتداء على حقوق الدولة العثمانية التي لم يكن في حالة حرب ضدها بل كان متعهداً بسلامتها بمقتضى المعاهدات. فأخذت تحرض تركيا على التمسك بحقوقها، وتحرض المصريين على التمسك بعلاقتهم بها ما دام الاحتلال الفرنسي قائماً. وكان نابليون يسعى جهده لحمل تركيا على الرضا عن احتلاله لمصر نظير مزايا عظيمة في البلقان، كما سعى بوسائل شتى لحمل الزعماء المصريين على قبول الانفصال عن تركيا فبذل في سبيل ذلك جهوداً عظيمة، وأدى للشعب خدمات جليلة، ولكنه لم يفلح مع تركيا ولا مع مصر، ولذلك تم للمصريين ما أرادوا من عدم تمكن النير الأجنبي من أن يقوم على رضاهم بسند شرعي. ولو أنهم خدعوا بما أغراهم به نابليون باسم الانفصال عن تركيا لخلا الجو أمام احتلاله وهو الإهدار الحقيقي للاستقلال ولكانت مصر إلى الآن مستعمرة فرنسية. . .

أثبت التاريخ بعد ذلك أن مصر لم تكن بهذا السلاح السلبي تقصد التبعية لتركيا بدليل أنها ما كادت تتخلص من الاحتلال الفرنسي حتى أخذت تعالج مشكلة استقلالها مع تركيا وجهاً لوجه، فوضعت محمد علي على رأسها وحارت تحت قيادته المتبوع الأعظم وهزمت جيوشه؛ وذلك بفضل استقلالها الداخلي الذي مكنها من أسباب القوة القومية، وهذا لعدم توفر الركن الأساسي للتبعية الفعلية لتركيا وهو وجود جيش احتلال تركي في مصر.

لم يقف الجيش المصري الظافر على تركيا إلا تدخل دول أوربا التي لا تأخذ الواحدة منهن على المصريين تمسكهم بتركيا إلا عندما يكون هذا التمسك مقصوداً به التخلص منها. أما إذا كان مقصوداً به التخلص من دولة منافسة لها فإنه يصبح عندئذ أمراً منطقياً تمليه الوطنية الحقة ولا تعصب فيه للدين ولا للخلافة

ولم يقف الاستقلال الذي عملت له مصر في ميدان القتال عند الحد الذي رسمته معاهدة

ص: 32

سنة 1840 إلا تدخل تلك الدول خشية فتح باب المشكلة الشرقية بما تقتضيه من التنافس على توزيع أسلاب الدولة العثمانية

وفي سنة 1882 احتلت إنجلترا مصر احتلالاً مؤقتاً بموافقة صاحبي الشأن في معاهدة سنة 1840 وهما سلطان تركيا وخديو مصر فعاد نفس الموقف الذي كان قائماً أيام الاحتلال الفرنسي. وبعد أن انتهت الحالة المؤقتة التي أدت إلى ذلك الاحتلال أصبحت فرنسا تطالب إنجلترا بالجلاء بنفس الحجة التي كانت هذه تتذرع بها أيام نابليون فسعت إنجلترا سعي هذا الأخير لإزالة العقبة القانونية التي تجعل احتلالها غير مشروع فأوفدت درامندو ولف إلى الآستانة للاتفاق على تبرير الاحتلال الدائم وهو الحماية ففشلت، وكان بعض فشلها راجعاً إلى سعي فرنسا التي حاربتها بنفس الحجة التي حوربت بها قبلاً وظلت تحاربها بها إلى أن اتفقت معها إنجلترا على إطلاق يدها في مراكش

لجأت إنجلترا أيضاً إلى مثل ما لجأ إليه نابليون من حمل الشعب المصري على المطالبة بالانفصال عن تركيا قبل أن ينجلي الجيش الإنجليزي عن مصر وقدمت في سبيل ذلك للشعب المصري خدمات اقتصادية وقامت له بإصلاحات إدارية كثمن لإلهائه عن الاستقلال فنجحت مع بعض الأعيان الذين كانوا يسمونهم أصحاب المصالح الحقيقية فراحوا يقولون إن الاستقلال هو الانفصال عن تركيا قبل الجلاء. وكانت الغاية التي قصد إليها الإنجليز أن تزول من طريقهم إلى الحماية الحقيقية تلك العقبة التي جعلت مركزهم غير صحيح. ثم شفع هؤلاء المصريون خطتهم بالمناداة بالاتفاق مع إنجلترا كما تنكروا لسلطة الخديو الممثل الشرعي للسيادة المصرية المقررة في معاهدة سنة 1840 حتى تنهدم المعاهدة المذكورة من ركنيها الخارجي والداخلي، هذين الركنين اللذين هدمهما الاحتلال

عندئذ قام مصطفى كامل فنهض نهضة استقلالية تامة لاشك في اتجاهها ومراميها، وقال مراراً إن مصر لا تريد إبدال متبوع بمتبوع، ولكنه احتاط عند تحديد المطالب السياسية فجعل هدفه الأول جلاء الاحتلال ووضع أمامه معاهدة سنة 1840 سنداً قانونياً سياسياً ضد الاعتداء الحقيقي على تلك المعاهدة

إن القول بأن استفادة مصطفى كامل بالعوامل الخارجة عن الجهود المصرية كان مناداة بالتبعية لهذه العوامل إنما هو قول بعيد عن الحقيقة التي لمسها معاصروه قبل أن يسلموا له

ص: 33

بما اعترف به الأستاذ العقاد إذ قال عنه إنه زعيم الوطنية المصرية في ذلك العصر

استفاد مصطفى من خلاف فرنسا مع إنجلترا فظن بعض الناس أنه صنيعة فرنسا. فلما تنحت فرنسا عن قضية مصر استمر في جهاده بل ضاعف قواه. واستفاد من خلاف ألمانيا وحلفائها وأيد الخديو، حتى إذا خرج كرومر وتغير الحال أثبت مصطفى كامل أن انتصاره لسمو عباس حلمي باشا لم يكن إلا انتصاراً للسيادة المصرية لا لشخص الخديو وضاعف الهمة حتى زالت حجة المكابرين الذين قالوا بأنه صنيعة. وكذا كان شأنه مع تركيا شأن المستفيد من مصلحة مشتركة في موقف معين. وما قوله في شأن الخلافة إلا شأن فرنسا وإيطاليا مثلاً عند اتفاق مصالحهما بأن هناك رابطة لاتينية

ولما تولى الحركة فريد بك ازدادت خطة الوطنية وضوحاً لمناسبة الظروف التي استجدت فقامت الحرب العالمية وهو في تركيا فأفهم رجالها وهم على وشك الهجوم على مصر أن عدم مطالبة المصريين برفع السيادة التركية إنما كان لوجود الاحتلال الإنجليزي

اعترفت إنجلترا بأن تكييف مصطفى كامل للاستقلال كان تكييفاً صحيحاً كما اعترفت للمجاهدين ضد نابليون عندما كانت تريد إخراجه من مصر. ويكفي أن يطلع الإنسان على إعلان الحماية ليرى هذا الاعتراف إذ جاء فيه: (بما أن تركيا في حالة حرب مع إنجلترا فتزول من الآن السيادة التركية وتصبح مصر تحت الحماية البريطانية)

ولما انتهت الحرب العظمى لم يتمسك رجال مصطفى وفريد بالسيادة العثمانية، فهذا غير معقول، وإنما عملوا على ألا يتم تنازل تركيا عن سيادتها إلا لمصر لا لإنجلترا كما عملوا على احتفاظ مصر بما لها من الحقوق في معاهدة سنة 1840. ولذلك سافروا إلى أنقرة وإلى لوزان ولم يسع (الوفد المصري) إلا أن يبعث معهم بعض رجاله ويشترك معهم في هذا المسعى.

أما ما حصل بعد ذلك فيكفي أن تكييف مصطفى كامل قد سجل له التاريخ نتيجة واضحة وهي أن معاهدة سنة 1936 استنفدت برامج جميع الأحزاب ما عدا برنامج الآخذين بمبدئه.

محمود العمري

ص: 34

‌دراسات في الأدب

للدكتور عبد الوهاب عزام

الأدب الموضوعي نقد وتاريخ

رأينا فيما تقدم أمثلة من الأدب الموضوعي، ورأينا بعض هذه الأمثلة يتناول قطعة من الأدب ليبين ما فيها من عيوب ومزايا؛ ورأينا أمثلة أخرى تبين مناهج الكلام البليغ، وتوضح مزايا هذا الكلام في معانيه وألفاظه وأساليبه، وقلنا أن هذه الأمثلة وما يشبهها تسمى نقداً. ثم وجدنا أمثلة غيرها تقصد إلى تبيين أطوار الكلام في العصور المتتابعة وإيضاح أسبابها، وقلنا إن هذه الأمثلة وأشباهها تُعدّ من تاريخ الأدب

وهنا نُجمل الكلام في النقد الأدبي وتاريخ الأدب

1 -

النقد الأدبي

نقد الكلام تبيين مزاياه وعيوبه، وتمييز جيّده من رديئه يقال: نقد الكلام وانتقده على قائله، وهو من نقده الشعر ونقَّاده. . . الخ

2 -

نشوء النقد وتطوره

النقد طبيعي في الإنسان، ينشأ من استحسان الشيء أو استهجانه. ويزيد الناس اهتماماً به اختلاف الأذواق في تقدير الشيء الجميل والقبيح، وتفاوت الإدراك في معرفة الصواب والخطأ، ويعظم الخلاف في دقائق الأمور التي لا يُبينها حِس واضح أو إدراك بيّن، وكلما دقت المسألة عسُر الحكم فيها وكثر الخلاف؛ وكلما كثر الخلاف كان النقد أصعب، وكان على صعوبته ألزم. والنقد يكون في العلوم، والصناعات، ويكون في الآداب. وهو في هذه أغمض وأعسر لأن الآداب لا يرجع فيها إلى الحس أو العقل ولكن إلى العاطفة والذوق، وهما من الأمور النفسية يصعب تحديدهما ويكثر الاختلاف في أحكامهما

والنقد يكون في مبتدئه أحكاماً لا يدعمها برهان ولا يوضحها بيان، ثم تتناقض الأحكام، وتتصادم الآراء، فيذهب كل ناقد يفسر رأيه، ويقيم حجته، على قدر ما يواتيه فكره، ويمده ذوقه، حتى ينتهي الجدال إلى أمور مسلمة ومقاييس محدودة يحتكم الناس إليها فيتفقون. وربما ينتقل الخلاف من المسائل الجزئية التي يختلفون فيها إلى المقاييس الكلية التي

ص: 35

يقيسون بها؛ يختلف اثنان في وزن شئ أو طوله فيعمدان إلى الميزان أو الذراع ليعرفا الصواب فيما اختلفا فيه، وربما يقع الخلاف في صنجة الميزان أو في طريقة الوزن أو في الذراع أو طريقة الذرع.

وكذلك الأمور المعنوية، يقع فيها الخلاف فيرجع المختلفون إلى قواعد يتفقون عليها، وربما يختلفون في القواعد نفسها. يقول واحد: هذا حسن، ويقول آخر: بل هو قبيح، فيرجعان إلى القوانين التي يعرف بها الناس الحسن والقبيح، يقول أحدهما: حسن لأنه نافع، ويقول الآخر: قبيح لأنه ضار، ثم يعرفان أنه نافع أو ضار فيتفقان. وقد يتمادى الخلاف بينهما في المقياس نفسه، فيقول أحدهما: كل نافع حسن، ويقول الآخر: ليس كل نافع حسناً، ليس مقياس الحسن والقبح هو النفع والضر بل قبول النفس أو نفورها أو اللذة والألم. فإن لم يتفقا على مقياس الحسن والقبح استمر الخلاف بينهما

كذلك الأدب: يسمع أحد الناس قصيدة فيستحسنها ويطرب لها ويخالفه آخر؛ فيقول الأول: ألفاظها مألوفة سلسة حسنة النغمة، ومعانيها جميلة فيها سمو بالنفس ولها أثر في القلب، وكثير منها مخترع. ويخالفه الثاني فيما زعم للألفاظ والمعاني من أوصاف فيقول: ليست الألفاظ مألوفة سلسة، أو يوافقه على أنها كما قال ولكن يدعي أن الألفة والسلاسة ليست مقياس الجمال أو البلاغة؛ فإما أن ينتهيا إلى مقياس يرضيانه فيتفقان، أو يتمادى بينهما الخلاف

وفي البحث عن المقاييس والاتفاق عليها أو الاختلاف فيها يكون تطور النقد الأدبي وتشعب مذاهبه، ووضوح مناهجه، واستناده إلى براهين تتفق فيها المعرفة الواسعة والذوق المهذب والحس المرهف

3 -

ضروب النقد

وفي النقد الأدبي ضروب منها:

1 -

نقد الجزئيات، وهو نقد قطعة من النثر أو الشعر بالنظر في ألفاظها وتبيين أنها مما عرف في اللغة، وأنها موافقة للصرف والنحو، وأنها مألوفة غير مبتذلة، وأن وزنها، إن كانت من الشعر، صحيح لا خلل فيه - أو بالنظر إلى معانيها وتبيين أنها غامضة أو واضحة، وقيمة أو تافهة، وطريفة أو مبتذلة، ومخترعة أو مسروقة، وأن التصوير فيها

ص: 36

واف بالمقصد أو مقصر عنه، وأن مجازاتها واستعاراتها حسنة أو قبيحة. . . وهلم جرّا

2 -

وقد يتناول النقد شاعراً أو كاتباً؛ فيقال إنه ركيك الألفاظ أو غامض المعاني أو مستهجن الموضوعات أو متكلف لا يصور الطبيعة أو سراق غير مخترع

3 -

وربما يكون النقد أوسع من هذا فلا يتناول قطعة أو شاعراً بعينه، بل يتناول طرائق البيان ومناهج البلاغة؛ فيقال: ينبغي أن تؤلف الألفاظ على أسلوب كذا، وأن تحرر من السجع والصناعة، وينبغي أن تكون المعاني بيّنة قريبة من المخاطب، وينبغي أن يطول الكلام أو يقصر على قدر المقام وهكذا

4 -

وأحياناً يسمو النقد فوق هذا كله وينظر إلى الأدب ومقاصده عامة فيتناول مسائل كالمسائل الآتية: هل للأديب أن يطرق كل موضوع، أو هو جدير بأن يتناول موضوعات سامية لا يتناولها العامة؟

هل على الأديب أن يلتزم الأخلاق والآداب فيما يكتب أو هو حرّ فيما يُبِين غير مطاَلب إلا بالإجادة في بيانه؟

هل الحق والصدق من أسس البلاغة أو يكون الكلام بليغاً وهو كذب وباطل؟

هل للأديب مقصد فيما يكتب، أو هو كالزهرة تنشر الرائحة العطرة بطبعها لا تبغي وراء هذا شيئاً؟

وهذه المباحث أعمق مباحث النقد وأوسعها وأعظمها جدوى لأنها تتناول وجهة الأدب ومقاصده وموضوعاته، تعمد إلى سُبل الأدب تبيّنها وتوضّحها ليكون الأديب على بينة من غايته وسبله قبل أن يسير، فلا يعتسف الطريق ولا يضل دون الغاية

4 -

النقد في الأدب العربي

أما النقد اللفظي الذي يرجع إلى متن اللغة والنحو والصرف والعروض فالأمر فيه يسير لا يحوج إلى شواهد، وهو واقع في كل زمان يشترك فيه الشادون والمنتهون. ويُرى في كتب الأدب كثير منه؛ وقد كتب فيه الحريري كتابه (درة الغوّاص في أوهام الخواص)

وأما نقد الألفاظ من حيث سلاستها أو تنافرها وألفها أو غرابتها ونحو هذا ففي كتب الأدب والبلاغة مباحثه وشواهده

والنقد المعنوي عرفه العرب في كل عصور الأدب حتى العصر الجاهلي ولكنه كان أول

ص: 37

الأمر نقداً مبهماً غير معلل كقولهم: فلان أشعر، وهذه القصيدة أحسن؛ أو نقداً لمعان جزئية أحسن فيها القائل أو أساء

ثم حاول العلماء منذ القرن الثاني أن يصفوا طرائق البيان، ويحدّوا حدوده ويبينوا معالمه فكتبوا في البيان وأكثروا ودعموا دعاويهم بكثير من المنظوم والمنثور

ونجد النقد عندهم مفرّقاً في الكتب الآتية وأمثالها:

1 -

كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن الجاحظ المتوفى سنة 255

2 -

كتاب نقد الشعر وكتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر المتوفى سنة 335

3 -

الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392

4 -

كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري للحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 370

5 -

كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456

6 -

كتاب أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471

7 -

كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين ابن الأثير المتوفى سنة 637

تناول هؤلاء البيان من جهاته المختلفة ألفاظه ومعانيه وأساليبه وحاولوا جهد الطاقة أن يبينوا النهج للبلغاء ويصفوا القواعد التي يبنى عليها الكلام البليغ

ولكن نُقادنا لم يتناولوا المباحث العامة التي تبين وجهة الأديب ومقاصده، وموضوعاته وصلة الكلام بقائله وصلة القائل ببيئته

وقد عنى بهذا الأوربيون منذ عصر النهوض، وتوسع فيه الفرنسيون منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى نبغ منهم في القرن التاسع عشر ثلاثةُ يعدّون أئمة النقد الأدبي حتى اليوم. وهم:

1 -

سنت بوف وأساس مذهبه معرفة الصلة بين الأدب ونفس الأديب، وجعل النقد تاريخاً للعقول والأنفس يتعرفها في آثارها ويكشف عن خباياها

2 -

تين ومذهبه يعني كثيراً بمعرفة البيئة التي نشَّأت الأديب ليتوسل بها إلى معرفة الأديب نفسه

3 -

برنتيير ومذهبه أن البلاغة قائمة على التدرج والتطور كالحيوان والنبات وعمل الناقد

ص: 38

هو تتبع هذه الأطوار

عبد الوهاب عزام

ص: 39

‌إنني تعبة!

للشاعرة أيلا هويلر ولككس

إنني تَعِبة الليلة، وهناك شئ - لست أدري على وجه التحقيق ما هو. ولعله هزيم الريح أو دوي المطر في جنح الدجى، أو لعله تصايح الطير على الأيك من كل جانب في الخارج

هناك شيء، أجد لشجوه أمثالاً تستخرج وجدي، وتبعث أساي من بعد هجومه، وتعيد إلى الماضي السحيق وأحزانه وآلامه

فأشعر، وأنا أجلس هنا متأملة مفكرة، أن يد شهر مدبر، من شهور يونيه التي خلت ولم يبق من عهدها السعيد إلا التذكر، تمتد الآن إلى أوتار قلبي المرتخية، وتشدّها، وتصلح وحدة أوزانها، وتحكم انسجام اهتزازاتها

إنني تعبة الليلة، وإني لأفتقدك، وأحن إليك يا حبيّ، وأشتاقك شوقاً أكتمه جهدي. . . ومن خلال الدموع أحسب أنني أراك، وكأنك تمضي اليوم فقط مع الذاهبين إلى ربهم

مع أن الزمان قد مدّ خطاه الواسعة في مهامه مترامية، وتجاوز عهوداً عديدة وأعواماً مديدة مذ فارقتني، وكأني أستشعر الانفراد والوحشة من جديد. . . أنا التي كثيراً ما أحيا في عزلة وحدي، وهاهي ذي أوتار قلبي المشدودة تدعو الهديل

ولكن هيهات أن يجيبها منوط بأطراف الجناح رميم. . . هيهات أن يطربها باللحن القديم الحلو الرنان

إنني تعبة، وذلك الحزن العصيّ الذي كرّت عليه الأعوام، يثور دفعة واحدة على غير انتظار، وإن ثورته الهائلة لتحدث فيه ثلمة واسعة تتدافع منها الآلام، وتنحدر بقوة إلى قاع نفسي كما يتحدر بغتة تيار نهر هائج من ثغرة في حواجزه وينفجر كطوفان متدافع لا تقوى عليه السدود، فيجرف في طريقه كل شئ، ويكتسح في لجه الزبد، وثبجه المرغي بقايا سفينة محطمة لها شراع ناصع البياض، وإن تلك اليد لتهوى ثقيلة على أوتار قلبي المشدودة وتحركها بريشتها في عنف لتكتسح منه الأنغام

ولكن يخيل إلى أن أوتار عواطفي التي تلاشى رنينها مع الزمان عادت تطنطن وتدوّي بعد ذلك الأمد الطويل بفعل تلك اللمسات العنيفة التي تحاول أن تجدد وقع اللمسات الأولى الرقيقة، بيد أن النغمات التي تفر من تحت الأنامل المحركة الأوتار لا ترجّع غير صوت

ص: 40

النواح والعويل، وصدى الحسرة والأنين

الزهرة

ص: 41

‌حياة محمد

باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية

للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد

ترجمة الأساتذة

عبد الفتاح السرنجاوي

عمر الدسوقي

عبد العزيز عبد المجيد

لم أقصد بكتابة هذا الفصل أن أضم إلى البحوث الكثيرة التي عالجت موضوع السيرة بحثاً جديداً، وإنما قصدت دراسة حياة محمد في مظهر واحد من مظاهرها، هو الذي يتمثل لنا فيه رسولاً يدعو الناس إلى دين جديد. ومن الطبيعي أن نتوقع في حياة منشئ الإسلام والداعي له عرضاً للوضع الحقيقي لما اقترن من النشاط بالتبشير بالدين الجديد، ولو أننا اعتبرنا حياة النبي معياراً خلقياً لما يجب أن يكون عليه المؤمن العادي، لحق أن تكون حياته كذلك معياراً لما يجب أن تكون عليه الدعوة الإسلامية، وما دامت حياة النبي عنواناً للدعوة الإسلامية، فإنا نتطلع إلى معرفة شئ عن الروح التي استولت على من يأخذون مأخذه ويستنون بسنته، وعن الوسائل التي قد يعمدون إليها في سبيل تحقيق أغراضهم، ذلك لأن الروح التبشيرية في الإسلام ليست فكرة متأخرة في تاريخها، وإنما نذهب إلى أنها تقترن بالدين منذ نشوئه الأول. ونود في هذه العجالة أن نبين ما ذهبنا إليه، ونوضح كيف أن محمداً النبي (ص) مثال للمبشر الإسلامي، ونحن بغض النظر عن معالجة حياته الأولى أو العوامل ذات الأثر في حياته حتى بلغ رجولته، أو دراسة حياته باعتباره سياسياً أو قائداً حربياً، نعني العناية كلها بدراسة حياته كمبشر ونذير.

ومحمد ما لبث بعد اضطراب وكفاح نفساني طويلين أن اقتنع بصحة رسالته السماوية، وكانت أولى جهوده أن دأب في إقناع أهله بذلك الدين الجديد القائم على وحدانية الله، وإنكار عبادة الأوثان، ووجوب أن يخضع الإنسان لمشيئة الخالق، تلك هي الحقائق المجردة

ص: 42

التي دعاهم إلى الإيمان بها. فكان أول من آمن به زوجه الوفية المخلصة خديجة التي تزوجت قبل هذا بخمسة عشر عاماً من قريب لها فقير كانت قد استخدمته في تجارتها، فصيَّرها أجدى عليها وأربح، تزوجته بهذه الكلمات:

(يا ابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك ووساطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك فانتشلته بهذا من الفقر ومكنته من العيشة في المستوى الاجتماعي الذي يليق بنسبه، ولكنَّ هذا كله يسير إلى جانب ما بدا من وفائها وإخلاصها إذ شاطرته اضطرابه الفكري وغمرته بعطفها وشملته برعايتها في ساعة الشدة. أتاه الوحي مرة وهو في الغار فآوى إلى خديجة، وقد شمله الفزع واستولى على قلبه الاضطراب، فآمنت خيفته وأذهبت عنه الروع وقالت تخاطبه:

(أبشر يا ابن عمّ واثْبُت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ووالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)

ولقد بقيت حتى وفاتها سنة 619 م أي بعد خمسة وعشرين عاماً في حياة الزوجية تفيض عليه دواماً من حنانها وعزائها وتشجيعها كلما أصابه من أعدائه الأذى أو ساورته في نفسه الشكوك، وفي هذا يقول ابن إسحاق:

(كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به عن الله تعالى، وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من قومه من رد وتكذيب إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوِّن عليه أمر الناس)

هذه خديجة يقدم لنا التاريخ في سيرتها أروع الصور في الحياة الزوجية وأنبلها.

ومن بين السبَّاق في الإيمان بدعوة محمد اثنان كان قد تبناهما هما زيد وعلي، ثم صديقه الحميم أبو بكر الذي قال فيه النبي فيما بعد:

(ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوةٌ ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر، ما عَكم عنه حين ذكرت له)

وكان أبو بكر تاجراً على سعة من المال، يحترمه قومه احتراماً شديداً لكرم خلقه وذكائه وكفايته، أنفق بعد إسلامه الجزء الأكبر من ثروته في شراء الأرقاء المسلمين الذين

ص: 43

اضطهدهم مواليهم لاعتناقهم تعاليم محمد. وحين أسلم أبو بكر دعا إلى الله فأسلم بدعائه خمسة نعتبرهم في عداد السابقين في الإيمان، هم سعد بن أبي وقاص الذي فتح فيما بعد بلاد فارس، والزبير بن العوام الذي اشتهر بالكفاية الحربية، وعبد الرحمن بن عوف التاجر الثري، وعثمان ثالث الخلفاء الذي تعرض للأذى والاضطهاد منذ إسلامه، فقد أخذه عمه فأوثقه كتافاً وقال له:

(ترغب عن ملة آبائك إلى دين مستحدث! فوالله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه). فقال عثمان:

(والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه)

فلما رأى عمه صلابته في التعلق بدينه أطلق وثاقه وتركه. واستطاع النبي أن يجتذب إليه طائفة أخرى أكثر أفرادها من الموالي والفقراء، وبذلك نجح في أن يجمع حوله فئة قليلة من التابعين خلال السنوات الثلاث الأولى من الدعوة. وكان التوفيق الذي أصابه محمد في هذه الجهود السرية مشجعاً له على أن يوسع نطاق دعوته ويجهر بها، فدعا عشيرته فاجتمعوا فقال لهم:

(يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟)

وهنا صمتوا جميعاً ولم يتكلم غير عليّ في حماسة الصبي فقال:

(أنا يا رسول الله)

وما كاد علي يفرغ من كلامه حتى علا ضحك القوم ساخرين مستهزئين. ولم يكن ذلك الإخفاق ليصد محمداً عن تبليغ رسالته فدعا الناس في مناسبات أخرى، ولكن دعوته لم تلق منهم غير السخرية والتحقير

وحاولت قريش أكثر من مرة أن تغري عمه أبا طالب باعتباره عميد بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي كي يردعه عن سب آلهتهم وعيب دينهم ودين آبائهم، وهددوه وقالوا إما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فنصح أبو طالب لابن أخيه أن يبقى على نفسه وعليه وألا يحمله من الأمر مالا يطيق، فأجابه النبي:

ص: 44

(يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)

فتأثر أبو طالب وقال له:

(اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً)

ولما ضرب الإخفاق على هذه المحاولات السلمية اشتدت موجدة قريش وتضاعف احتدامهم وأيقنوا أن انتصار ذلك الدين الجديد معناه القضاء على دين بلادهم وعلى ما يمتازون به بين العرب من السيادة القومية، ثم هم فوق ذلك يخسرون الثروة والجاه اللذين يستأثرون بهما عن طريق سدانة الكعبة الشريفة. أما محمد نفسه فقد كان برغم ما تعرض له دواماً من بذاءة القوم وسفاهتهم في ذمة أبي طالب وذمار بني هاشم الذين منعوه وحالوا دون أي اعتداء على حياته؛ يحفزهم على هذا ما جبل عليه العرب من قوة العصبية، مع أنهم لم ينعطفوا نحو الآراء التي دعا إليها. أما الفقراء والرقيق الذين لا ملاذ لهم ولا جوار فلم يجدوا مخرجاً من طائلة الاضطهاد الغليظ، فكانوا يحبسون ويعذبون كي يفارقوا عقيدتهم. وكان أبو بكر يشتريهم ليخلصهم من العذاب، فقد اشترى بلالاً ذلك العبد الأفريقي الذي كان محمد يطلق عليه (أول ثمار الحبشة) والذي لقي من ضروب الامتهان ما لم يلقه أحد، فكان يلقى في الرمضاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس ثم توضع على صدره صخرة ثقيلة ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وترجع إلى عبادة الأوثان، وبلال لا يجيب على ذلك إلا بقوله:

(أحدٌ أحدٌ). وهلك شخصان متأثرين بما أصابهما من الاضطهاد وما ألم بهما من نوازله القاسية. ولما أن رأى محمد ما نزل بالمسلمين من الأذى مع عدم قدرته على تخليصهم مما هم فيه نصح لهم بالهجرة إلى الحبشة، فخرج في السنة الخامسة من النبوة (615 م) إلى الحبشة أحد عشر رجلاً وأربع نساء، وهناك رحب بهم ملكها النصراني. وكان فيمن هاجروا مصعب بن عمير، وفي سيرته يتمثل أقصى ما أصاب المؤمنين من بلاء ومحنة، فقد أبغضه من أحبهم ومن كانوا من قبل لا تقصر قلوبهم عن الولوع به. أسلم بعد أن تفهم تعاليم الدين الجديد في بيت الأرقم، ولكنه أخفى إسلامه لما كان له من مقام كبير في قومه، ولما كان له من حب جم في قلب أمه، وأمه لا تقل عن قومها كراهية للدين الجديد. ثم ما

ص: 45

لبثت هذه الحقيقة أن تبدت للناس وذاع إسلام مصعب، فأطبقوا عليه وسجنوه، ولكنه استطاع الهرب وخرج مهاجراً إلى الحبشة وسار حقد قريش في إثر المهاجرين إلى الحبشة فأرسلوا وراءهم بعثة من رجلين يطلبان إلى النجاشي أن يسلمهم إليهما ليردوهم إلى قومهم، ولكن النجاشي سأل المسلمين عن أمرهم، ولما أن علم منهم الخبر اليقين أبى أن يسلمهم وقد جاوروه ونزلوا بلاده واختاروا حمايته، قال المسلمون للنجاشي عندما دعاهم وسألهم عن أمرهم ما يأتي:

(أيها الملك، كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وألا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام، فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا؛ فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك) فقبل النجاشي رجاءهم ورد رسولي قريش خائبين

في ذلك الوقت بذلت جهود جديدة في مكة لإغراء محمد بالجاه والمال على أن يكف عن الدعوة إلى دينه، وضاعت كل هذه الجهود عبثاً. فلما عادا رسولا قريش إلى مكة يعرضان نتيجة سعيهما ضد المهاجرين إلى الحبشة، وكان قريش يترصدون خبرهما ويتحينون عودتهما، حدث حادث خطير، هو إسلام شخص كان من قبل أشد وأغلظ أعداء محمد، وكان يعارضه بحماسة وحّدة لا يحدهما الوصف، وكان المسلمون يعتبرونه بحق أقوى خصوم الإسلام وأشدهم، وأصبح بعد إسلامه من أعظم الشخصيات وأنبلها في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، ذلك هو عمر بن الخطاب

حدث يوماً وهو في نوبة غضب على النبي أن خرج ومعه سيفه يريد قتله، فلقيه رجل من أقاربه فقال له:

(أين تريد يا عمر؟)

ص: 46

(أريد محمداً الذي فرَّق أمر قريش وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله!)

فقال له: والله لقد غّرتك نفسك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟

قال عمر: (وأي أهلي؟)

قال الرجل: (خَتَنُك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة زوجهُ، فقد والله أسلما!)

فرجع عمر إليهما وعندهما خباب يقرئهما القرآن، فلما سمعوا صوت عمر أخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال:

(ما هذه الهيمنة؟)

قال: (ما سمعت شيئاً)

قال: (بلى، وقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه)

وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجعها، فلما فعل ذلك قالت له أخته:

(قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما شئت)

ولما رأى عمر ما بأخته من الدم في وجهها ندم وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد. وبعد تردد أعطته الصحيفة وفيها (طه) فلما قرأ بعضها قال:

(ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!)

وانشرح صدره للإسلام وما لبث أن قال:

(دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم)

(يتبع)

ص: 47

‌الأدب المصري وكيف ننظر إليه

للأستاذ شكري فيصل

أثارت كلمة (زهير زهير) في (المكشوف) التي نقلتها الرسالة الغراء في العدد 294 موضوعاً جديداً للبحث عن الأدب المصري، وعن مظاهر هذا الأدب، وما كان من أثر المؤلفات والمطابع المصرية في الأقطار العربية الأخرى

وأشهد أن كلمة (المكشوف) كانت جريئة. . . وأن حملة (زهير زهير) كانت شديدة قاسية بخست الأدب المصري والثقافة المصرية حقهما وفضلهما على وضوح هذا الحق وعظم هذا الفضل

وما كان لي أن أعرض لبواعث هذه الحملة

ولا يسرنا أن نذهب إلى الظن بأن العصبية الدينية، أو النزعة الإقليمية، تملي مثل هذه الآراء أو أبعد منها، وإنما الذي يهمنا أن ننافس السيد زهير زهير فيما عرض له

يقول الكاتب: إن أكثر المؤلفات التي تخرجها المطبعة المصرية غير مصري، وهى تختلف بين أن تكون نوادر مخطوطات أو طبعات جديدة لكتاب قديم، وإن المؤلفات المصرية الحديثة مخبأة لا تظهر على وجهه، وهو يتساءل عن كتاب واحد ذي قيمة لمؤلف مصري صميم

لنتساءل: ألا يكون إخراج المخطوطات النادرة، والقيام على تصحيحها وطبعها ونشرها، أو تجديد طبع الكتب القديمة وإصلاحها وإخراجها للناس منقولة محببة، عملاً أدبياً ذا قيمة؟ وهل يقتصر العمل الأدبي على كتابة مقال، أو تأليف قصة، أو نظم قصيدة؟

نحن في طور من أطوار النهضة، ونحن في هذه النهضة محتاجون إلى هذه المكتبة القديمة، ننبش آثارها، ونحيى مواتها ونجلو صدأها، ونظهرها طريفة براقة، تجتذبنا إليها، لنفيد من علمها الغزير، وفوائدها الكثيرة، والعمل في هذه الناحية والتوفر على إخراج هذه الثروة الدفينة عمل أدبي قيم، وجهد علمي شاق

ونحن لا ننظر إلى الأدب المصري في المقالة والقصة والقصيدة، فهذه ناحية واحدة من نواح كثيرة متعددة؛ وإنما ننظر إليه على أنه مجموعة من الجهود تتناول إحياء الثقافة الغافية، ونشر المؤلفات القديمة، والإنتاج الأدبي الصرف

ص: 48

وعلى هذا فقد قدمت المطبعة المصرية إلى العالم العربي أجل الخدمات، وستظل النهضة الحديثة في الأدب العربي مدينة للمطابع المصرية، لأنها كانت أكثر مطابع الشرق العربي إنتاجاً ولأنها في هذا الإنتاج بعثت النشاط والحركة في ذهن العالم النائم

ومن العبث ومن الإنكار أن ننسى فضل المطبعة الأميرية، ومطبعة الساسي والحلبي وكثير غيرها، فقد ولدت هذه المطابع بما أخرجت من كتب، وقدمت من ثمرات، تياراً فكرياً كان له أكبر الأثر في الحركة الأدبية الحاضرة

والعالم العربي كله على المطبعة المصرية، ينظر إليها كما ينظر المزارع إلى السماء، يأمل خيرها، ويرجو غيثها؛ والسيد زهير يعرف ذلك في بيروت، وأعرفه أنا في دمشق، ويعرفه غيري وغيره في العراق والمغرب والحجاز؛ وهو لا يجهل أيضاً أن الجيل الحاضر قد فتح عينيه على المنفلوطي والزيات وطه حسين وأحمد أمين والمازني والعقاد والحكيم وشوقي وحافظ ومطران ورامي، وأنه قرأ هؤلاء وكثيراً غيرهم وأفاد منهم فأصلح لسانه وقوّم بيانه، وثقف عقله، ثم التفت إلى المكتبة العربية الزاخرة فلم تطق عيناه هذه الأوراق الصفراء البالية، فكاد يعزف عنها لولا أن تداركته المطبعة المصرية بهذه الذخائر الممتعة التي أخرجتها للناس

الواقع أن امتداد الأدب المصري، والثقافة المصرية، في أجواء البلاد العربية قد كان. . . وأنه كان امتداداً واسعاً. . . وأن أثره كان طيباً عميماً. . . وأن البلاد العربية كلها مدينة له، عالة عليه، فقد استثار في أجوائها الحياة، وسكب فيها بعد رقدة طويلة روحاً جديدة نيرة

وليس من عرفان الجميل حين يشتد منها الساعد، في العراق ودمشق وبيروت، وتبدأ البذور التي رعتها المطبعة المصرية بالإنماء، أن نجحد الفضل الأول وننكره ونزدريه.

وبعد فهل صحيح أن المطبعة المصرية اقتصرت على المؤلفات القديمة، وأن المؤلفات المصرية الحديثة أنشأها كتاب مصريون بمادة أجنبية مستوردة من الخارج؟

نحن نحب أن يقوم النقاش الأدبي، وأن تنضج الحركة الفكرية، ولكنا لا نحب أبداً أن يكون هذا النقاش قائماً على عصبية مفرطة أو خيال خصب. . . وإلاّ فمن ذا الذي يقول إن المؤلفات المصرية الحديثة غير موجودة؟ أنا أحيل السيد زهيراً إلى فهارس المكتبات العامة، فسيجد فيها كل ما كان مخبأ لا يظهر على وجهه، وسيحفظ للقراء أوقاتهم مخافة أن

ص: 49

يضيعوها في التعداد المضني.

وكأن السيد (زهيراً) قد أحس هذا الإسراف. . . وهذا الإفراط، فحاول أن يبرهن عليه، فما استطاع أكثر من أن يعدد الشعر الجاهلي وحياة محمد وضحى الإسلام

ولكن هل يكفي أن تكون نزعة الشك التي سُبق إليها طه حسين، أو نظرة دورمنكهيم إلى حياة النبي، أو آراء المستشرقين في الثقافة العربية. . . هل تكفي هذه وحدها لتجرد الأدب المصري كله من ميزاته كلها؟؟ ومن ذا يقول إن التأليف يجب أن يكون مبتكراً في كل نواحيه وكل خصائصه؟. . وهل يحرم على العقل الإنساني أن يستفيد من عقول إنسانية أخرى؟. .

إن حقائق العلم مشاعة، وإن ثمرات الفكر وقف مباح للناس كلهم، يفيدون منه ويبنون عليه، وإذا كان كل عالم من العلماء مضطراً إلى أن يبدأ أبحاثه من النقطة الأولى، أو أن يبتدئ تعداده - كما يقول الرياضيون - من الصفر، فإن الحضارة الإنسانية ستظل حيث هي لا تتزحزح.

وهذه سنة الكون يبني المتأخرون على غرار المتقدمين أو ينتقدون ما بنوا، ليشرعوا في منهج آخر. . . وهذا ما فعله طه حسين واحمد أمين وهيكل، وقد يكون أكبر أخطائهم أنهم لم يشيروا إلى بعض المصادر التي أخذوا عنها في الطبعات الأولى. . . أو أنهم أشاروا إليها في اختصار واقتضاب.

والترجمة أيضاً. . . ألا تكون ناحية من نواحي النهضة الأدبية. . . وهل يقتضي تكوين الأدب المصري ألا تكون هناك ترجمة أو مترجمون. . . وهل تدل ترجمة بعض المؤلفات الأدبية والفلسفية، على أن مادة الأدب المصري مستوردة من الخارج؟

إن عصور النهضة في أقطار الدنيا مقرونة ببعث وتجديد وترجمة. . . ولقد كان البعث والتجديد عن طريق إخراج المؤلفات القديمة، ثم كانت الترجمة أيضاً على أيدي كثيرين وتناولت الأدب والرواية والفلسفة، وأضافت إلى الأدب العربي لوناً جديداً من ألوان الثقافة، وأطلعت الأقطار العربية على علم الغرب وأدبه وفلسفته

هذه هي الناحية العلمية من النهضة الفكرية في مصر. . . أما الناحية الأدبية فهل نستطيع أن نتجهم لها أيضاً بمثل هذه الجرأة وهذا الإنكار؟. . . وهل كانت مؤلفات توفيق الحكيم

ص: 50

منقولة عن لغة أجنبية؟. . . وهل مقالات الزيات وأمين والعريان مستوردة من الخارج؟. . . ثم هل كان خيوط العنكبوت وعلى هامش السيرة وعشرات غيرها، يخجل المنصف أن نعددها له، غير مصرية. . .؟

هنالك بعض نقاط ضعيفة في الأدب المصري. . . ولكن هذه النقاط الضعيفة لا تقتضي أن تذهب بنا هذا المذهب الجاحد في الإنكار الشديد، وأن تدفع بنا إلى مثل هذه الأدلة الهزيلة. فنقول إن مصر التي تسيطر بثقافتها على البلاد العربية قد عجز أدباؤها وعلماؤها عن وضع الموسوعة الإسلامية، أو إن أكبر أديب فيها ينادي بفرعونيتها، أو أنه لم يخلق فيها بعد ناثر أو شاعر يسجل في ملحمة شعرية أو نثرية الأحداث الخطيرة التي تعاقبت عليها

ومتى كان رأي قديم لأديب كبير باعثاً على إنكار ثقافة بلد كامل؟ وما هي العلاقة بين هذا وذاك؟ أفلا يحس الأستاذ زهير زهير نفسه في بيروت آراء أشد من هذه، وأقوى في النيل من الإسلام، وطعنه في ظهره. ألا يرى ذلك في كليات التبشير ونشرات الأدباء المبشرين؟. . . ثم هل يكون العجز عن تأليف موسوعة دليلاً على ما نتعمده من إنكار؟ إن الأقطار العربية، ومصر منها، لا يعيبها أنها لم تشرع بعد في الموسوعة الإسلامية فلقد كانت غارقة في معترك سياسي عنيف، وكانت قوى علمائها وعامتها منصرفة إلى السياسة ومتأثرة بها، والموسوعات إنما تتطلب الاستقرار والنعيم والثروة. . . ولئن توفر بعض هذا في مصر فلم يتوفر كله، وحين يبدأ قطر عربي آخر بالموسوعة الإسلامية نستطيع أن نقرنه بعد ذلك إلى مصر، لنهب أحدهما الزعامة الأدبية

وبعد فإن الأستاذ (زهير زهير) قد أغرق. . . وقد كان في كلمته حائراً بين امتداد الثقافة، وسيطرة الزعامة، وفرعونية مصر، وإنكار الأدب المصري. . . ولقد كان متجاوزاً حدود الجرأة حتى سمى هذه الثقافة (ثقافة لقيطة) وكما عز عليه كلبناني عربي، يعز علينا كعرب مسلمين أن يؤخذ الشاب العربي المسلم بعصبيات إقليمية، ونعرات دينية، (وأن يخدع بالدعايات المأجورة المجانية)

(نزيل القاهرة)

شكري فيصل

ص: 51

‌استطلاع صحفي

في خدمة الفلاح

جولة في المعمل البيطري

(لمندوب الرسالة)

في مصر كثير من أمراض الحيوانات المعدية والوبائية التي تحرم الفلاح كثيراً من ثروته. فأن طبيعة مصر حيث تبدأ حدودها شمالاً في المنطقة المعتدلة وتنتهي جنوباً في المنطقة الحارة، يساعد على نمو الحشرات والميكروبات، بأنواعها وخصوصاً أن نظام الري الحديث يزيد الجو رطوبة.

ويقاوم المعمل أمراض الحيوانات تبعاً للمثل العربي السائر (وداوها بالتي كانت هي الداء) فهو يقضي على المرض باستعمال ميكروبه في الأمصال أو اللقاحات التي ثبت عملياً صلاحيتها أكثر من الأمصال واللقاحات الواردة من الخارج.

مصنع الميكروبات

(التهبت أحشاء هذا الأرنب فمات نتيجة حقنه بدم حصان أردنا أن نتحقق من أنه مات بمرض التسمم الدموي). . . هكذا قال الدكتور زكي محمد وكيل المعمل الباثولوجي للأبحاث الفنية وهو يكشف أمعاء الأرنب ليبين ما أصابها من التهابات. ثم تناول ماصة وغرسها في قلب الأرنب وامتص فيها قليلاً من الدم وزرعه في أنبوبتي اختبار كانتا مغلقتين بسداد من القطن المعقم وتحتوي إحداهما على حساء لحم وتحتوي الأخرى على مادة جيلاتينية تصنع من نبات ياباني اسمه آجاراجار، وبعد أن أعاد السدادتين أحرق سطحهما الخارجي بالنار ليقتل ما قد يكون علق بهما من ميكروبات خارجية

ثم تناول شريحتين من الزجاج نشر عليهما نموذجاً من دم الأرنب، ثم ثبتهما بالكحول استعداداً لصبغهما وفحص النماذج تحت المجهر. وبهذه العملية احتفظ الدكتور بميكروبات المرض حية وميتة. فإن الغرض من وضع نماذج الدم في أنبوبتي الاختبار اللتين تحتويان على أنسب الأوساط الغذائية التي ينمو فيها الميكروب أن ينمو ويتكاثر. وبذلك يسهل الحصول على لقاح واق ضد هذا المرض. والغرض من نشر الدم على شريحتي الزجاج

ص: 53

وصبغهما معرفة شكل الميكروب وما طرأ على الدم من تغير

مهمة المعمل

ويقوم المعمل الباثولوجي البيطري بتحضير عدد كبير من المستحضرات البيولوجية المختلفة من أمصال ولقاحات ومواد للتشخيص يمكن باستعمالها علاج بعض أمراض الحيوانات ومكافحتها وتشخيصها. وعلاوة على ذلك فإن المعمل يفحص النماذج المأخوذة من حيوانات مريضة أو نافعة لمعرفة نوع المرض المصابة به ودراسة الميكروبات المختلفة التي ينشأ بسببها كثير من الأمراض الوبائية وبذلك أمكنه أن يحفظ الثروة الحيوانية في القطر المصري من أخطار الأوبئة

والميكروبات هي شغل المعمل الأكبر، وهي مخلوقات دقيقة تكبر ألفاً أو ألفي مرة ليمكن رؤيتها وبعضها لم تره العين ولكن أحست بفعلها الأجسام. وهي تهاجم الحيوان والنبات بأعداد يعجز عن إدراكها الخيال. وأخطر الأمراض المنتشرة في مصر الحمى الفحمية والسل والسفاوة والتتنوس والتسمم الدموي وخناق الخيول والكوليرا. ولذلك فإن مخازن المعمل تحتوي على مقادير كبيرة من مواد المصل والكفاح لإرسالها إلى الجهات التي تطلبها. وقد تمكن المعمل بمساعدة معمل السيرم من إيقاف الطاعون البقري الذي فتك بكثير من الماشية فسبب كثيراً من الخسائر للفلاحين

المصل واللقاح

وقد تمكن المعمل من تحضير أغلب أنواع الأمصال واللقاحات ويتجه التفكير الآن إلى تحضير مصل ولقاح الحمى الفحمية الذي يستورد من الخارج لخطورته، ولأن تجهيزه يحتاج إلى مكان منعزل واحتياطات شديدة. وبتحضير هذه الأمصال واللقاحات فإن المعمل البيطري يوفر على الحكومة كثيراً من المال

ويتعرض المشتغلون بتجهيز هذه المستحضرات للعدوى بتلك الميكروبات، فإن بعض أمراض الحيوانات كالسفاوة والسل والحمى الفحمية يصيب الإنسان أيضاً. وبعضها شديد الخطر فلا ينجو من يصاب به إلا بمعجزة.

ويخطئ كثير من الناس إذ يظنون أن المصل واللقاح شئ واحد. فإن الأول يتكون من

ص: 54

أجسام مضادة للميكروبات والغرض من إعطائه للحيوانات إيقاف المرض وعلاجه. وهو يعطي للحيوانات السليمة والمريضة إلا أن جرعته تتضاعف في حالة الحيوانات المريضة. أما اللقاح فيتكون من ميكروب المرض أو سمه مقتولاً أو ضعيفاً والغرض منه وقاية الحيوان مدة طويلة إذ يكون في الجسم مناعة ضد المرض لمدد مختلفة

تحضير المصل واللقاح

ويحضر اللقاح بعزل الميكروب ثم زرعه على أوساط غذائية يضاف إليها بعض الفيتامينات لتكون أكثر مناسبة لحياته وتكاثره. واللقاح عبارة عن الميكروب نفسه أو ما يفرزه من السموم بعد قتلها أو إضعافها بالحرارة أو بالمواد الكيميائية تبعاً لطريقة التحضير

أما الأمصال فتجهز من حقن الخيول أو الأبقار بكميات من الميكروبات أو من سمومها، وتزاد الجرعات بالتدريج حتى يبلغ الحيوان أقصى درجة من المناعة فيفصد جزء من دمه ويفصل منه المصل.

احتياطات شديدة

ولا تتم هذه العمليات بسهولة، ففي كل خطوة يعملها الأخصائي في إعداد هذه المستحضرات، يقوم بعدة عمليات يطهر بها أدواته وأوانيه بحيث يتأكد أن الميكروبات الغريبة لم تصل إلى مستحضره لا بالنقل بالأيدي ولا بالهواء. ولذلك فإن الأواني الزجاجية الفارغة التي يزرع فيها الميكروب تحفظ في أفران تكفي درجة حرارتها لقتل جميع الميكروبات. فإذا أراد الأخصائي في علم الميكروبات أن ينقل الميكروب من أنبوبة إلى أخرى أحرق أداة النقل بالنار قبل أن يضعها في الأنبوبة ثم ينقل الميكروب

عملية دقيقة

وليكون البحث العلمي كاملاً فإن الأعضاء المصابة من الحيوان تؤخذ ويعمل منها قطاعات تثبت على شرائح زجاجية لفحص حالة أنسجة العضو وخلاياه بالمجهر (الميكرسكوب) فبعد أن يفصل العضو من جسم الحيوان تقطع منه أجزاء صغيرة تمرر في محلول فورمالين ثم في كحول لتتخلص مما قد يعلق بها من ماء. ثم توضع في (زيلول) ليطرد ما فيها من كحول وليسهل اتحادها بالشمع إذ توضع في أفران درجة حرارتها 56ْ فيتخلل

ص: 55

الشمع الناعم الخلايا وتصبح فراغات العضو ممتلئة بالشمع وعندئذ تصب الكتلة الناتجة في قوالب من الشمع الجاف وتقطع إلى قطاعات صغيرة سمكها أربعة من ألف من الملليمتر

وتؤدي عملية التقطيع بهذا السمك آلة خاصة دقيقة الصنع تحتاج إدارتها إلى مهارة ودراية فإذا تم تحضير القطاعات ثبتت على شرائح زجاجية بالحرارة ثم تصبغ بالصبغات المختلفة ليظهر ما فيها من أنسجة وخلايا وميكروبات وما طرأ عليها من تغييرات يكشفها المجهر

ويحتفظ المعمل في فنائه الخارجي بعدد كبير من الحيوانات كالأرانب والحمام والدجاج والكلاب فيجري عليها تجاربه كحقن الميكروبات فيها أو اختبار فعل المرض في أعضائها أو للتأكد من معرفة الأمراض التي نفق بها أحد الحيوانات الأخرى.

(الشتوي)

ص: 56

‌رسالة الشعر

إلى الهاجرة. . . كوكب!

للأستاذ أنور العطار

- 1 -

مناجيك مكتئب متعب

وأنت تَأَلق يا (كوكب)

أفي الحق ألاّ يقرّ البريء

وأن ينعم الآثم المذنب

وأن يتشهى فؤادي رضاك وأن

ت أخو نفرة مُغضَب

فيا هاجري قد أطلت الصدو

د وصدك يا هاجري يصعب

لقد ضقت ذرعاً بهذا الهوى

وضاق بي الفلك الأرحب

فلا جدولي يتندَّى مُنىً

ولا بلبلي لحنه يطرب

حياتيَ معشبة بالأسى

وخدي بمدمعه معشب

رضاك هواي الذي أشتهي

ووصلك سؤليَ والمطلب

- 2 -

سلام عليك أيا كوكبي

سلام على النافر المغضبِ

أعيش بنورك جم السناء

ولولاك غلغلت في الغيهب

أغنيك أعذب ما في الهوى

من النغم المسكر المطرب

وأصبو إلى طرفك المشتهى

وأهفو إلى ثغرك الأشنب

وأحيا لقلبك أنشودة

تَرَقرق بالحلُمِ الأعذب

حلال لك الشعر يا هاجري

وملك لك الروح يا كوكبي

- 3 -

أنر لي دجي العمر يا كوكب

فقد مضَّني المجهل الغيهب

وخذ بي إلي عالم ضاحك

يموج به الأمل الأطيب

فلا تتركنِّيَ نهب الأسى

يعاودني داؤه الأصعب

فأنت شعاعيَ في ذي الحياة

وأنت رجائي والمطلب

ص: 57

ترفق بصب براه السهاد

يناديك في الليل يا كوكب

أنور العطار

ص: 58

‌حُوريَّتي تَسْأَلْ.

. .!

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(مهداة إلى شفتيها الطاهرتين)

. . . وَذهَبْتُ أَسْتَبِقُ الشُّعاعَ لِرَبْوَةٍ

أبْكَي شتاءُ اْلعُمْرِ يافِعَ زَهْرِها

الطَّلُّ في أكماِمها دَمْعُ الْهَوَى

شَرَحَتْ به للطَّيْر كامِن سِرِّها

مِنْ كُلَّ عُصْفورٍ، وَسَقْسَقَةُ المُنَى

مِنْ ثَغْرِهِ دُنْيا ذُهِلْتُ لِسِحْرِها

أَتُرَاهُ غَنَّى؟ أَمْ بكَى؟ أَمْ هَزَّهُ

نَغَمُ اْلأِلَيِفة فاسْتَطَارَ لِنَبْرِها؟

ومَضَى لَها. . . وَمَضْيتُ أخْنُقُ آهَتِي

صَبْراً عَلَى حُلْوِ اْلَحَياةِ وَمُرَّها

وعَلَى الَّتِي ثَكِلَتْ حَياتي بَعْدَها

وأذَابَني في الدَّمْع فاجِعُ هَجْرِها

ظَلَّتْ تُهامِسُنِي ونَشْوَةُ لَفْظِهَا

كَأْسٌ جُنِنْتُ مَعَ السُّكونِ بِخَمْرِها

وَلَها جَبِينٌ كادَ يَرْتَدُّ الدُّجَى

حِينَ اسْتَهَلَّ، وَشِيعَةً مِنْ فَجْرِها

بَرَأَتْهُ كَفُّ اللهِ، وارْتَجَزَتْ لهُ

لَحْنَ اْلعَفافِ تماِئمٌ مِنْ ثَغْرِها

سَجَدَتْ عَلَيْهِ وكَبَّرَتْ منْ فِتْنَةٍ

حَوْلَ الضِّياءِ ذَوائِبٌ مِنْ شَعْرِها

وَغَدتْ تَفُوحُ به، وَتَنْسِمُ قُدْسَهُ

في خافِقَيَّ مَجاِمرٌ من طُهْرِها

أَفضَيْتُ بِالشَّكْوَى لَها فَتَخايَلَتْ

وَاخْتَالَ عابِدُهَا الشَّقيُّ بِكِبْرِها

وَعَدَتْ. . . فَأَحلَفَ دَهْرُهَا! وَيْلِي عَلى

رِقِّ اْلحَبِيبِ لَها وَقَسْوَة دَهْرِها

أَفْنَيْتُ عُمْرِيَ في مَسَابح خطْوها

شَغَفاً. . . وعِشْتُ مَعَ اْلوُجودِ بِعُمْرِها

أَفَما تُحِسُّ بعَاشِقٍ أَنىّ مَشَتْ

في اْلأَرْضِ يَخْفُقُ حُبُّه مِنْ ذَرِّهَا!

عالٍ عَلى اْلأكْوَانِ ذَلَّ لِحُسْنهِا

وأَذَلَّ كِبْرَ اْلمُلْهَمينَ لأِمْرِها. . .

بِاْلأَمسِ رَقْرَقْتُ النشِيدَ وَسُقْتُهُ

مِنْ نَاِر أَشْجَاني بِها وَتَفَجُّعي

لَهَبٌ منْ اْلأَنْغاِم رَقَّ مهَابَةً

وَجَثَا نَبِياًّ في عِبادَتِهَا مَعي

كُنَّا غِناءً لْلِجَمال، مَضَى الَهَوى

في ظِلِّهِ الشَّاجي يقُولُ لها: اسْمعَي

فَتَرَنَّحَتْ طَرَباً، وقاَلتْ: هاتِ لي

نَغَمَ الصَّبَاحِ اْلعَذْب يَمْسَحُ أَدْمُعي

سَرَتْ الكآبَةُ مِنْ غِنَائِكَ في اْلمسَا

فاسْبِقْ خَيَالَ الشَّمْسِ وَارْقُبْ مَطْلَعي

وَأَعِدَّ لِي أُنْشُوَدةً قَمَرَّيةً

مِنْ نُوِر أَحْلَامي الّتِي لمْ تَسْطَعِ. . .

ص: 59

فَقَبَسْتُ مِنْ أَلَق النُّجوم قَصِيدةً

وبَكَرْتُ أَنْتَظِرُ السَّنَا في مَوْضِعي

وَسَبَقْتُ، وارْتَقَبْتُ عيُوُني عَلّما

هَالَاتُ مَوْكِبِهَا تُذِيبُ تَفَجُّعي. . .

فإذا بِوَعْدِ اْلأمْسِ كانَ عُلَالَةً

وَغَدا جَحِيماً لْلحَنِينَ بِأَضْلُعي

فَرَجَعْتُ واْلآلَامُ تَصْرَخُ في دَمِي

وَيَنُوحُ مِنْ وَلَهي بِهَا دَهْرِي مَعي!

(وزارة المعارف)

محمود حسن إسماعيل

ص: 60

‌رسالة المرأة

التجميل والمرأة عن طريق الرياضة

توجيه

للآنسة زينب الحكيم

قال فيلسوف حكيم مرة لابنته: (ابقي صغيرة وأنت تحتفظين بجمالك)

ولعله كان يحسن به أن يضيف إلى هذه النصيحة: أن احرصي على صحتك وأنت تبقين شابة:

فإن الشباب والصحة والجمال، هي الأشياء الثلاثة التي يقدرها الجنس اللطيف، ويقدرها فيهن الجنس النشيط

ولربما كان أهم هذه الأشياء الثلاثة هو الجمال، ولكن من الصعب أن يفكر الإنسان في الجمال دون شذي الورد، أو أن يفكر في الورد بدون نضرته. احتفظي بصحتك تحتفظي بشبابك، واستمعي لهذه النصيحة المخلصة، ونفذيها بصبر ومثابرة. ثم ثقي أنه لن يعرف حقيقة عمرك أحد

وفي الغالب أن أكبر ما يعيب المرأة أياً كان عمرها هو جسمها حيث ينمو بثقل، ويصير كجسم المرأة التي قاربت سن اليأس، فتنام إلى ساعة متأخرة من الصباح، وتشعر ببعض التعب أثناء النهار، وتأكل كميات أكثر مما اعتادت أكله، وتأوي إلى فراشها مبكرة، وتصبح أقل مبالاة بمنظرها ومظهرها

ماذا يحدث لقاء هذا كله؟!

يسمن الجسم وتزدوج الذقن، ويتمدد البطن، ويغلظ الخصر وتتجمد المفاصل وتبدو المرأة كأنما مرت من طور الشباب المبكر إلى متوسط العمر

والواقع أن لا عذر لها في ذلك، والسبب في كل هذا راجع إلى عدم عنايتها بنفسها، وإلى إهمالها ما منحتها الطبيعة من محاسن كان في مقدورها أن تزيد في جمالها

فبشرة الإنسان وعضلاته، في حاجة إلى دم متجدد حار يجري فيها عن طريق الرياضة البدنية الصحية التي يجب أن تمارس في الصباح والمساء لمدة ربع ساعة على الأقل

ص: 61

إن المرأة التي بدأ يظهر عليها الكبر، والمرأة الشابة التي تريد أن تحتفظ بشبابها ونضرتها. يجب أن تعرفا أن الشباب والجمال يتوقفان على ثمانية أشياء رئيسية

(1)

قوام الجسم (2) لون بشرة الوجه (3) الفم (4) العيون (5) الوجنتان (6) العنق (7) اليدان (8) الشعر

هذا ويمكن إضافة أشياء أخرى للتجمل، ولكن هذه الأشياء الثمانية لغالبية النساء

أما المرأة التي تمتاز برشاقة قدّ وتريد أن تبقى كذلك، فعليها بإتباع التمارين الرياضية التي تساعد على ذلك وهي كثيرة ومتنوعة. ولقد أصبح ذلك ميسوراً جداً في الوقت الحاضر بفضل الاختراعات الحديثة والراديو، وخروج المرأة إلى ميادين الرياضة العامة، وهذه وإن كانت لا تزال قليلة في مصر، إلا أنه في مقدور السيدات اللائى لهن بيوت منظمة، والتي لها حدائق، أن يلعبن وفق ما تذيعه محطة الإذاعة كل صباح، وأن يخصصن جانباً من أوقاتهن للعب في حدائق دورهن. كما في استطاعتهن استعمال الألعاب البيتية التي تدعو إلى الحركة كالبنج بنج، وتنس اليد، والمسابقات وغيرها. ولست ممن يحبذن الألعاب البيتية التي تدعو إلى الجلوس مدداً طويلة مثل لعب الورق، فإن ذلك يضيع كثيراً من نشاط العقل، ويوهن الجسم ويرهل لحمه

ولا تنس السباحة فإنها من أهم الرياضات التي تجمل الجسم عموماً، والمشي في الهواء الطلق، والاستمتاع بحرارة الشمس، والسفر في قطر المفاجآت كلما أمكن.

وعلى المرأة أن تعني بأخذ حمامات الماء الدافئ مرة واحدة يومياً قبل التمارين الرياضية، مع استعمال أملاح أو سوائل الحمام المنشطة.

كثيراً ما يشكو إلينا بعض السيدات من أن أوقاتهن لا تسمح لهن بالانتفاع بتمارين الرياضة الصباحية التي يذيعها الراديو وكذلك يفتقدن النوادي الرياضية، ونحن من أجل هؤلاء، نذكر هنا بعض تمارين رياضية بسيطة، وبعض مركبات يمكنهن الانتفاع بها في الأوقات التي تناسبهن حتى لا يحرمن الرياضة يومياً.

1 -

الدرس الأول والمهم هو المشي صحيحاً.

ضعي الجسم في الوضع الصحيح. امشي ببطء مع ارتفاع الرأس. وافردي الكتفين إلى الخلف. املئي الرئتين بالهواء، وتنفسي بانتظام مع ارتفاع الذقن واعتدال الظهر وضغط

ص: 62

المعدة. وتكون الذراعان إلى الجانبين. في هذا الوضع احني الجسم إلى الأمام حتى الوسط. ثم امشي خطوات واسعة ثم أديري قدميك إلى الخارج. يؤدي هذا التمرين مدة عشر دقائق يومياً.

2 -

اصعدي على مقعد قريب من الأرض (ستول) وفي يدك عصا.

يشتمل هذا التمرين على الوقوف بتوازن على قدم واحدة بالتبادل، ثم تحرك العصا إلى أعلى وأسفل حول الرأس.

3 -

تمارين الانحناء.

يجب أن تؤدى بحرص، فالمرأة الضعيفة يجب ألا تنحني أثناء التمرين أكثر من مرتين أو ثلاث مرات، ويشتمل التمرين على المشي أيضاً والجري حول جدران الغرفة أو في الحديقة، ويمكن المشي والجري على اليدين والرجلين تشبهاً بذوات الأربع. ثم الوقوف والانحناء إلى الخلف حتى تلمس اليدان الأرض إذا أمكن. والانحناء إلى الأمام حتى تستقر راحتا اليدين منبسطة على البساط ثم ينقلب الجسم من ناحية إلى أخرى.

هذه التمارين تكفي للمرأة العادية، وإذا تمرنت عليها باستمرار مرتين مع الحمام كل يوم، يمتنع تراكم اللحم الزائد على جسمها. ويبقى الجلد نضرا والعضلات مرنة قوية حافظة لجمالها الطبيعي ووظائفها.

أما المرأة البدينة والسيدة المتوسطة في العمر، فننصحهما بعمل تمارين - المصنوعة من الخشب، وهذه التمارين مع الحمام ترجع الجسم إلى حجمه الطبيعي، وتعيد العضلات إلى مراكزها الأصلية. والحمام الذي تأخذه السيدة البدينة، يجب أن يكون بارداً إلى الحد الذي تحتمله، فإذا كان قلبها ضعيفاً (وغالباً يكون) ففي هذه الحالة يجب ألا تأخذ حمامات باردة جداً، وإنما تكتفي بحمام بارد فقط معطر بأملاح أو خل الحمام

وربما كانت أحسن طريقة لإعداد حمام السيدة البدينة، هو أن يوضع الماء في الحوض في الليلة السابقة للصباح الذي يؤخذ فيه الحمام، وبذلك تكون حرارة الماء كحرارة الحجرة، ويضاف إلى الماء أملاح الاستحمام كالمعتاد

كانت عطور الحمام في الزمن الغابر تصنع في المنازل، وكانت رخيصة، تصنع من أنواع من الأزهار والأعشاب مع الكحول والخل. والغرض منها تنظيف الجسم وإنعاش الجلد

ص: 63

والاحتفاظ بنضارته.

أما الآن وقد تقدم علم الطبيعة، وعمت الآلات، وكثرت الاختراعات، فأصبح من ضياع الوقت والمجهود ألا نشتري الأشياء من الصيدليات

وعلى هذا لن أصف هنا غير سائل واحد رأيته يستعمل في إنجلترا، ومفعوله جيد، وصنعه بسيط

يؤتى بمقدار جيد من ثمر الشليك، ويوضع في جزء من خل النبيذ، ويترك لمدة ثلاثة أيام، يصفى بعدها ويوضع في زجاجة للاستعمال وقت الحمام

وإذا وضع ملء فنجان منه على قليل من الماء وغسل به الوجه، فإن ذلك يساعد على تحسين لون بشرته

إن تأثير الروائح العطرية على الأعصاب مدهش، ولقد حرق القدماء البهارات إذا ما مرض منهم أحد، لا على سبيل التطهير فحسب كما نفعل اليوم بالليزول وغيره، وإنما اعتبر شم الروائح نفسها الدواء الشافي. والإنجيل يخبرنا أن القدماء عالجوا المرضى بالروائح العطرية؛ كما اشتهرت البيمارستانات في بلاد الشرق برش العطور فيها باستمرار

وأطباء اليوم النفسيون وعيرهم يخبروننا: أن النساء الحساسات جداً ينتعشن إذا ما شممن طاقة من البنفسج لأن رائحته للأعصاب، ورائحة الورد للروح، والعطور الأندلسية للرأس. والمرأة العصبية لها أن تمزج قليلاً من النوشادر بعطر البنفسج، وتشمها لتريح أعصابها. أما المرأة القلقة، فيسري عنها شمُّ الروائح اللطيفة الشذى. ويجب أن توجد زجاجة منها على الدوام في المنزل للاستعمال كضرورة واجبة لا كشيء كمالي، وأظن الرياضة في البساتين تؤدي ذلك على خير وجه

هذا وأن للروائح فلسفات، وللرياضة أشكال وأنواع ليس هذا مجالها.

زينب الحكيم

ص: 64

‌رسالة العلم

رسالة من العوالم البعيدة

تنبئنا أن الكون ينتشر

أحدث ما نعرف في علم الفلك

للدكتور محمد محمود غالي

فكرة النسبية لأينشتاين توحي بتمدد الكون - نبوءات العالم

(دي سيتر) بوجوب ظهور الأجرام البعيدة كأنها تبتعد عنا -

هذا الابتعاد حقيقي بخلاف ما يعتقد (دي سيتر) - الطيف خير

رسالة من النجوم لإثبات ذلك - رسالة العوالم تنبئنا بابتعادها

كلها عنا، وأننا أبناء كون يمتد.

ترى ما هي هذه الرسالة من العوالم البعيدة؟ وترى كيف يكبر الكون ولماذا؟ وكيف توصل العلماء إلى اكتشاف ذلك؟ وهل يعد الاكتشاف من الأمور النظرية، أو أن خطوات العلم التجريبي تدل على ذلك؟. . . هذا ما نحاول أن نتناوله في هذه الأسطر، فنبحث موضوعاً جديداً، لا تبعد نتائجه التجريبية الأولى عن عشر سنوات، وإن رجع البحث النظري فيه لأكثر من عشرين عاماً.

وتعد نشرات السير أرثر أدنجتون أستاذ الفلك في جامعة كمبردج، وكتابه (العالم ينتشر) الذي ترجمه للفرنسية مسيو روسينيون من أهم المراجع في هذا الموضوع. كذلك محاضرته التي ألقاها في المؤتمر الدولي للفلك المنعقد في كمبردج سنة 1932 والتي أتبعها بسلسلة محاضرات في الراديو بأمريكا.

لم يعن الجمهور في الممالك المختلفة بنظريات إينشتاين في النسبية، التي تنبأ فيها بتقوس الأشعة الضوئية التي تصل لنا من الأجرام السماوية، إلا بعد التجارب الشهيرة التي قامت بها الهيئات العلمية المختلفة أثناء كسوف الشمس في سنة 1919، هذه التجارب التي أثبتت

ص: 65

نبوءة أينشتاين، وجعلت من نظريته مثاراً لحديث الناس عامة. على أنه إذا كان هذا حظ الجمهور من الاهتمام فقد عنى كثير من العلماء بنظرياته قبل ذلك التاريخ، ففي نوفمبر سنة 1917 أي بعد مرور عامين من نشرات أينشتاين عن (النسبية في وضعها العام)، نشر العالم (دى سيتر) بحثاً عن أثر نظرية أينشتاين في الناحية الفلكية. ونرى في هذا البحث لأول مرة أن الأجرام السماوية البعيدة يجب أن تعطينا على الأقل فكرة الابتعاد عنا، ولم يؤكد (دى سيتر) هذا الرأي بطريقة جازمة، وكان عمله من قبيل توقع ظاهرة يغلب على الظن ملاحظتها.

وظلت فكرة (دي سيتر) الجديدة في مفترق الطرق تفتقر للإثبات التجريبي بحيث إذا أيدت أرصاد الفلكيين هذا الابتعاد ثبتت صحة الطريق النظري الذي اختطه (دي سيتر)

ومن المدهش أن يتوصل الفلكيون بعد ذلك، لا إلى إثبات تحقق نبوءات (دي سيتر) فحسب، بل إلى أن هذا الابتعاد حقيقة واقعة، وأنه يتغير مع المسافة وفق قانون خاص. وبعبارة أخرى توصل العلماء لاكتشاف يُعد أكثر أهمية مما كان يتوقعه (دي سيتر). لندع الآن جانبا النظريات لنتكلم عن الطرق التجريبية التي أثبتت تمدد الكون واتساعه

ذكرنا أن السُّدم اللولبية هي أبعد ما نعرف من عوالم في الكون. وتقع السدم التي أمكن رؤيتها على مسافات تختلف من 1 إلى 150 مليون سنة ضوئية. ويجمل بنا أن نذكر أن السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، بمعنى أنه لو تصورنا قاطرة تستطيع أن تدور حول الكرة الأرضية سبع مرات في الثانية الواحدة، فإنها تستغرق 150 مليون سنة لتسير من أحد تلك السدم حتى الأرض

هذه السدم المتباعدة منتشرة في الحيز الواحد بعد الآخر.

كل منها يكون عالماً كعالم المجرة الذي يحوي ملايين الكواكب التي تعد شمسنا واحداً منها، ولا حاجة بنا إلى أن نذكر مرة أخرى أنه إذا كان المجرة عالماً واحداً مكوناً من حوالي مائة ألف مليون نجم فإن مجموع العوالم الأخرى التي تشبهه تبلغ مثل هذا العدد

هذه العوالم المتباعدة الواحد منها عن الآخر لا نستطيع، عند التفكير فيها، أن نفصل فكرة الفراغ واتساعه عن فكرة الزمن والتطور، ولكن ندع فكرة تكوينها لنشرح الطريقة التي علمنا بها سرعة ابتعادها

ص: 66

ونبدأ بكلمة موجزة عن التحليل الطَّيْفي لعلاقته بهذا الموضوع. كلنا يعرف أن الضوء إذا وقع على منشور، كحافة مرآة مشطوفة، يتحلل إلى ألوانه العديدة التي نميز منها بالعين السبعة الألوان المعروفة، من البنفسجي إلى الأحمر؛ كذلك نعرف أن لكل مادة طيف إشعاع يميزها عن غيرها، فالهيدروجين والصوديوم مثلاً لهما خطوط معينة يتميزان بها في الطيف، كما أن لكل مادة خطوطاً أخرى، وعلى هذا يدلنا التحليل الطيفي للأشعة الآتية من الشمس أو النجوم عن العناصر الموجودة بها، وهكذا أثبت العلماء أن كل العناصر الموجودة في الأرض موجودة أيضاً في الشمس.

ويجد القارئ في الشكل (1) ست صور لأطياف مواد مختلفة. بعد أن نسلط عليها قوساً كهربائياً. والطيف الأول من أعلى الشكل خاص بالزئبق عند أول تكوين القوس، والثاني خاص به ولكن بعد أن توازنت حالة الإشعاع في الزئبق، أي بعد مرور فترة على تكوين القوس، والطيفان الثالث والرابع خاصان بنفس الظاهرة للصوديوم، والطيفان الأخيران، الأول للهيدروجين عند احتراقه بمرور شرارة فيه، والثاني للبوتاسيوم عند تسليط القوس عليه.

ومما يجدر ذكره أن المصابيح المستعملة في إنارة بعض ميادين العصمة والإسكندرية، كالمحطة وجوار معبر قصر النيل، تضاء بهذه الطريقة أي باستعمال الزئبق الذي يعطي هذا اللون الجميل المائل للزرقة أو استعمال الصوديوم الذي يعطي لوناً مائلاً إلى الاصفرار، على أن هذا النوع من الضوء يقع في الجزء الحساس من العين؛ لذلك ولأسباب أخرى، تُعد هذه المصابيح أكثر اقتصاداً من المصابيح المعروفة

وهكذا لكل مادة طيف خاص بها يميزها عن غيرها من المواد؛ على أنه يشترط لكي تبقى هذه الخطوط الطيفية في مواضع معينة وثابتة، أن يكون الجسم مصدر الطيف ثابتاً بالنسبة لنا، وكما أننا نستطيع أن نعرف درجة ابتعاد قاطرة عنا من سماع وتسجيل صفيرها، كذلك يمكن بدراسة خاصة بالتحليل الطَّيْفي أن نعرف إذا كان النجم يبتعد أو يقترب منا، كما نعرف سرعة ابتعاده، ذلك أن الخطوط الطَّيْفَّية تقترب من جهة الطيف الأحمر إذا كان النجم يبتعد عنا، أو من الجهة الأخرى إذا كان النجم يقترب منا، وعلى قدر اقترابها من أحد الطرفين نعرف سرعة ابتعاد النجم أو اقترابه والشكل (2) مثال من هذا الطيف الذي

ص: 67

يسمح بالحصول على تقدير هذه السرعات الكبيرة، والأشكال التي تبدو في الصورة كالطوربيد، هي طيف لسدم مختلفة، مأخوذ فوق الطيف الأرضي العادي، وترى أنه كلما نزلنا في اللوحة مالت خطوط معينة في الطوربيد إلى الجهة اليمنى، وتختلف سرعة هذه السدم الواحد عن الآخر فالطيف الأعلى يمثل ضوء السماء والسديم الأول وهو الذي يليه يقترب بسرعة 185 كيلو متراً في الثانية والثاني يبتعد بسرعة 385 كيلو متراً والثالث والرابع بسرعة 4900 كيلو مترا و 4884 كيلو مترا على التوالي والخامس بسرعة 19700

وأول من قام بعمل هذا النوع من التجارب هو الأستاذ سلفر مرصد لويل

هذا عن تعيين سرعة السدم وبقي أن نشرح الطريقة لمعرفة بعدها عنا

من الممكن أن نرى في العوالم الحلزونية القريبة بعض النجوم الكبيرة المنفردة عندما تفوق هذه النجوم الشمس في حجمها وضوئها مئات أو آلاف المرات، ومن حسن الحظ تتغير شدة إضاءة طائفة من هذه النجوم من وقت لآخر وتسمى هذه النجوم التي يتغير ضوءها ويحدث توهجها، الذي يقع في فترات متتابعة ومتساوية، من نبض حقيقي للنجم أو تغير في حالته الطبيعية؛ وتختلف هذه الفترات من بضع ساعات لبضعة أسابيع، حسب حجم هذه النجوم وقوة توهجها

وكما أن الأطباء يحاولون بدراسات جديدة تمييز الجنين في بطن أمه إن كان ذكراً أو أنثى، من عدد ضربات قلبه، فقد وجد العلماء أن هذه الفترات تدل على حالة النجم. وقد أثبتت الملاحظات أن النجوم التي لها نفس الفترة لها نفس الخواص الأخرى كالحجم والتوهج والنموذج الطيفي، وعليه فالفترة التي يمكن أن نقيسها بسهولة بساعاتنا الأرضية تعين درجة توهج النجم؛ فإذا عرفنا أن نجماً من النجوم توهجه يختلف مرة كل عشرة أيام، كان سطوع هذا النجم يماثل 950 مرة قدر سطوع الشمس. وتنحصر المسألة بعد ذلك في معرفة المسافة التي يوجد عليها نجم عرفنا درجة توهجه، ونعرف أن حجمه الظاهري لنا النقطة التي نراها.

من هنا عرف العلماء مسافة هذه النجوم البعيدة، وبالتبع مسافة العالم الذي يحويه

وهكذا أصبحنا نعرف مسافة هذه النجوم المتغيرة، معتبرة وحدة للقياس، كما نعرف مسافة

ص: 68

شمعة معتبرة وحدة للقياس من درجة توهجها الظاهرة

وقد اكتشف الدكتور هبل من مرصد جبل ولسون بأمريكا نجوماً من هذا النوع في ثلاثة من أقرب السدم الحلزونية وحدد أبعادهم بالطريقة السالفة - هذه الطريقة التي صعب على هذا العالم تطبيقها للسدم البعيدة؛ فاضطر إلى الالتجاء لطريقة أخرى يعتد بها فريق من العلماء، ولا مجال لشرحها هنا.

وها نحن نسرد النتائج الفعلية لهذه الأبحاث

أولاً: أن سرعة ابتعاد السدم تفوق كثيراً السرعة التي تسير بها النجوم في أفلاكها داخل هذه السدم

ثانياً: هذه السرعة للسدم تزداد بازدياد المسافة التي تفصلنا عنها

ثالثاً: تبتعد جميع السدم عنا بسرعات كبيرة جداً

صحيح أنه دل امتحان 90 سديماً، في بادئ الأمر، على اقتراب الخمسة السدم الأولى منا بسرعة بطيئة، ولكن يعتقد السير أدنجتون أن هذا الاقتراب اقتراب ظاهري، ذلك أن الباحثين لم ينسبوا سرعة هذه السدم للمجرة كمجموعة، إنما نسبوها لمجموعتنا الشمسية، وباعتبار أن الشمس تسير حول مركز المجرة بسرعة تختلف من 200 إلى 300 كيلو متر في الثانية، فإن هذا الاعتبار الأخير يصحح معرفتنا الحقيقية عن هذه السدم الخمسة التي يثبت بعد ذلك ابتعادها.

ويحسن أن نطلع القارئ على درجة سرعة ابتعاد السدم عنا، فبينما تختلف سرعة النجوم في أفلاكها من 10 إلى 50 كيلو متراً في الثانية، إذ تختلف سرعة السدم في الأربعين سديماً القريبة منا كما بين ذلك (سلفر) من 800 كيلو متر في الثانية إلى 1800، هذا وقد اكتشف (هاماسون) من مرصد مونت ولسن بأمريكا أن السرعة تزداد بعد ذلك كثيراً للسدم البعيدة ففي جهة التوأمين يُرى سديم يبتعد عنا بسرعة 25 ألف كيلو متر في الثانية، ويبعد عنا بنحو 150 مليون سنة ضوئية. ولا شك أنهم سيكشفون الآن سُدُماً أبعد من هذا، وذلك بعد أن تم وضع المنظار الجديد في مرصد جبل ولسون، ذلك المنظار الذي كان له الفضل في كشف القمرين الجديدين للمشتري كما ذكرنا في مقال سابق

ولقد كان لهبل في سنة 1929 الفضل في اكتشاف تناسب سرعة السديم مع بعده، وهذا

ص: 69

مطابق لنظرية إينشتاين، ولو أن (دي ستر) ظن بادئ الأمر أن السرعة تتناسب مع مربع المسافة، إلا أنه اتضح له خطأ هذا الحساب فيما بعد

وتزيد السرعة وفق تجارب هبل 500 كيلو متر في الثانية لكل سديم يبعد عنا بثلاثة ملايين سنة ضوئية تقريباً، وعلى هذا فالسديم الذي يبعد 30 مليون سنة ضوئية يبعد عنا بسرعة تقرب من 5000 كيلو متر في الثانية أي يبعد عنا مسافة كالتي تفصل أمريكا عن أوربا، ويكفي أن نصل إلى مسافة تقدر بمائة وخمسين مليون سنة ضوئية لتكون سرعة ابتعاد السديم عنا 25000 كيلو متر في الثانية

هذا هو الكون، كل عالم يبتعد فيه عن الآخر، وقد يأتي وقت تبتعد فيه كل العوالم، فلا يبقى للأحياء عالم ليروه، اللهم إلا إن تقدم المنظار الفلكي بقدر ابتعاد هذه العوالم. وقد أثبت الحساب كما يقول أدنجتون، أن على راصد السدم أن يزيد فتحة منظاره بقدر الضعف كل 1300 مليون سنة، وعلى الذين يعتقدون دوام الجنس البشري ملايين السنين، لنعرف كل مالا نعرفه اليوم أن يُعَجلوا بدراسة موضوع غير قابل للتأجيل

هذا رأي جديد في العوالم المحيطة بنا، والكون الذي نحن بعض أفراده. ولنا أن نتساءل: لماذا تبتعد عنا كل العوالم كأنها جميعاً أعداؤنا، لا صديق بينها يقترب منا؟ هل هناك سر وسبب لهذا الابتعاد؟ وترى ماذا شكل الكون وفق الظواهر المتقدمة؟ هذا ما أتركه للقارئ يتأمل فيه ليجد الجواب عليه، إذ أن هناك صورة واحدة محتملة لكون له خاصيتان: الأولى أن كل عالم فيه يبتعد عن الآخر. والثانية أنه كلما كان العالم بعيداً بالنسبة لعالم آخر زادت السرعة التي يبتعد بها هذا العالم عنه.

هذه الصورة للكون وفق أحدث الآراء نطلب من القارئ أن يحاول تصورها، فإن لم يهتد فسنحاول أن ندله عليها في المقال القادم؛ وسنرى أنه إذا كان أغرب القضايا العلمية هي أننا أبناء كون يمتد ويتسع، فأغرب من ذلك أننا سنرى أننا أبناء كون محدود.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم. دبلوم المهندسخانة

ص: 70

‌رسالة الفن

التصوير الإغريقي في مرحلته الثانية

للدكتور أحمد موسى

وكان لإبراز الصور بهيئة مجسمة على يد أبولودور الأثيني أثر عظيم في الاتجاه الفني، فلم ينته القرن الخامس ويبدأ القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت المدرسة اليونانية قد تأسست واشتغلت بإكمال الحلقة التي بدأها أبولودور، فتقدم تصوير اللوحات؛ وظهر زوبكس في الميدان وكذلك الذي اشتغل في أثينا وإيفيزوس. وكان كل منهما قادراً على التأثير في المشاهد بالنظر إلى ما بدا على رسومهما من تجسيم خادع

أما التلوين فقد ظل عندهما بسيطاً كما كان. وأما الموضوع الإنشائي فقد اتجه نحو تسجيل الجمال الهادئ، فضلاً عن بحثهما عن الموضوعات الجديدة اللافتة، فكان هذا سبباً لأن تصبح رسوماتهما ذات تأثير خاص، وحاولا إيضاح المعالم النفسية في تصوير الأشخاص.

وصورة زويكس لهيلينا وصورته لزويس محاطاً بالآلهة جديران بالذكر والاعتبار

ومن ضمن ما تخيره بارازيوس موضوعاً للرسم تصويره بروميتيوس في الأغلال، وبروميتيوس هذا هو الذي سرق - كنص القصة الإغريقية - النار من زويس لإعطائها للناس وعوقب بضغطه في الصخر حتى جاء هرقلس وخلّصه من محنته. وله صورة أخرى لا تقل عن هذه تمثل فيلوكتيت الصارخ الذي ورث نشاب هرقلس وقتل باريس في تروادة وغير ذلك للأشخاص ولأوديسيوس وثالث مصوري هذه المرحلة تيمانتيس الذي تفوَّق على بارازيوس، وكان مولعاً بتصوير المنظر المعبرة عن خوالج النفس المتصلة بالعقل. فصور (تضحية إيفيجاني) ابنة أغاممنون وكلينيمنسترا ? التي قُدمت قرباناً لأرتميس ابنة الإله زويس، والتي تقابل ديانا عند الرومان. وقد وجدت صورة حائطية في بمباي على نفس النمط، وهي من أروع الصور بالنظر إلى أهمية القصة.

ولم يصل إلى أيدينا من آثار تلك المرحلة إلا بضعة مصورات حائطية من باستوم (بمتحف نابولي الآن). وهي ترجع إلى آخر القرن الخامس. وصرة المحاربين العائدين تحت لواء النصر وصور الراقصات التي رسمت على أرضية بيضاء وتمتعت بقسط وافر من دقة الإخراج والحياة.

ص: 72

أما في القرن الرابع فقد وصل التصوير الإغريقي إلى أزهى أيامه لا من حيث الناحية الفنية والدقة فحسب، بل كذلك من حيث العمل الصناعي. وتُعد مدرسة سيكيون التي رأسها بامفيلوس من أبرز المدارس وأهمها.

وكان بامفيلوس نفسه عالماً وكاتباً في فن التصوير، وقد صور لوحات صغيرة لتمثيل المناظر الاجتماعية في دائرة محدودة، ولكنه تخصص في تصوير الزهر والأغصان، وله لمعشوقته جليكيرا صور عديدة، كما أن له صورة مشهورة أسماها محاربة الثيران

وقد وجدت مدرسة هامة من مدارس التصوير لها تاريخ مجيد، ألا وهي المدرسة الطيبية الأتيكية التي برز بعض العاملين فيها مثل نكوماخوس الذي اشتهر بسرعة العمل والإنتاج المبسط، وابنه وتلميذه أرستيدس الذي كان مولعاً بالمواقف الممثلة للحالات النفسية العنيفة وله فيها صورة فذة تمثل أماً تنظر إلى ابنها الرضيع يحتضر. وله تلميذ هو أويفرانور الذي اشتغل حينا في أثينا، وكان نحاتاً إلى جانب كونه مصوراً، كما كان كاتباً وعالماً، وله طابع مميز هو تصويره الرجولة في أكمل معانيها. وله قطعة معروفة أسماها (عراك الفرسان في مانتينا الواقعة في أركاديا الشرقية والتي تم النصر لايباميثنداس على الاسبرطيين فيها سنة 362 ق. م وغير ذلك في أثينا.

ولعل تلميذه وقريبه نيكياس من أحسن مصوري تلك المرحلة، فقد كان معاصراً لبركسيتلس ولون له بعض تماثيله، واشتهر بالتصوير بالشمع ووصل إلى دوجة عليا في صناعة الألوان، وكانت له عناية خاصة باختيار الموضوعات الجديرة بالتصوير، فصور مناظر القصة الإغريقية وأبدع في تصوير أبطالها من الرجال والنساء.

أما أعظم مصوري الإغريق إطلاقاً فهو أبيلليس الكلوفوني الذي عاش في إفيزوس والذي تمتع بأكبر قسط من التقدير والشهرة؛ فأسموه بحق (بوكسيتلس التصوير) أو (رفائيل العصر القديم). عاش في النصف الثاني من القرن الرابع، ودعاه الملك فيليب إلى قصره، ثم عمل كمصور في بلاط اسكندر الأكبر، وقد قدره أحسن تقدير ورعاه أجمل رعاية. ومما هو معروف عنه أنه كان على غاية التواضع ولين العشر، وكانت له كلمات خالدة ذهبت مثلاً بين الناس.

وينحصر طابعه المميز في أنه وحّد بين الاتجاه الهادئ للمدرسة اليونية وبين الميل العنيف

ص: 73

الذي غلب على إنتاج المدرسة السيكيونية فضلاً عن أنه كان مصوراً تخطيطياً من الطراز الأول. ولا يزال معدوداً من الطبقة الأولى، بل ولم يكن لغيره في العصر القديم أن يصل إلى مرتبته في العمل الصناعي والتكوين الإنشائي والجمع بين الظل والنور وحسن استخدام اللون.

هذا إلى جانب القدرة الهائلة في تمثيل الطبيعة أصدق تمثيل؛ فدل بذلك على دقة الملاحظة في أكمل معانيها؛ فيرى الناظر إلى مجموع إنتاجه مما وصل إلى أيدينا أنه كان مَثلياً في اختيار الجمال وتكييفه وعرضه في ثوب الأناقة والمباهاة التي أصبحت له وللوحاته دون غيره من مصوري عصره مع توافر البساطة في الإخراج.

وقد اقتصر على تصوير اللوحات فلم تكن له صور على أواني الزهر أو على الحوائط. وأهم ما تركه من العمل الفذ حقاً صورة لأفروديت أناديومين في معبد أسكليبيوس بقوص والتي أخذت إلى روما في وقت ما. صور أفروديت تظهر خلال أمواج البحر، فبدا نصفها الأعلى وأخذت تنثر شعرها بيديها. وكانت لهذه الصورة منزلة عظيمة عند معاصريه، وأثر كبير على الفنانين إلى حد أن بعض النحاتين مثّلها في الرخام بنفس طريقته وعلى نمط إنشائه.

وله غير ذلك صورة (لأرتميس وعرائس البحر) وصورة لهرقليس وخاريس، ولوحات لاسكندر الأكبر في صورة الإله زويس بمعبد أرتميس في إفيزوس؛ وصورته له كفارس محاط بأوضاع رمزية لحاشيته. وكانت له معشوقة هي بانكَسَبا التي كان لها حظ التخليد على يديه.

ووجد غيره من الفنانين، منهم من كان على اتصال به مثل بروتوجينيس الذي عمل صوراً فردية ولكنها كانت على أعظم جانب من صدق المحاكاة وأبرع قسط من جمال الإخراج. وأهم ما نذكره له صورتان إحداهما لياليزوس هيروس وأخرى لسانير متعب

وللمصور آتيون صورة مشهورة لزواج الإسكندر من روكسانا. ولا بد لنا من ذكر المصور ساموس والمصور أنتيفيلوس الذي عاش وانتج في مدينة الإسكندرية

وفي هذه المرحلة تطور فن التصوير من حيث الرغبة في إخراج اللوحات الصغيرة التي يمكن لأكثر الناس اقتناؤها. وأول من اتجه هذا الاتجاه الفنان بايريكس الذي صور مناظر

ص: 74

دكاكين الحلاقين وصانعي النعال وبائعي الخضروات والمأكولات فأظهرها إظهاراً بديعاً

وإذا بدا الجفاف على هذا المقال فذلك لأنه مقال علمي خال من حشو القول، ولا غاية لنا منه سوى توجيه القارئ إلى نواحي الفن العريق؛ فيحصل على قسط من المعرفة يكسبه شيئاً من الميزة والدراية والتثقيف الواجب، فيكبح من جماح إعجابه السريع بكل ما يراه لصغار الفنانين الذين يدعون لمجرد عرض بعض لوحاتهم وإطناب الصحافة التي ليس لها في قياس الإنتاج الفني معيار، أنهم وصلوا إلى القمة. أما أولئك الذين يشتغلون بالفن ويعتبرون أنفسهم من تلاميذه، فإليهم أيضاً أكتب آملاً أن يكون فيه بعض التوجيه لما يفيد وبعض التهيئة لإنتاج جدير بالاعتبار والتقدير

أحمد موسى

ص: 75

‌زكريا أحمد

من الوجهة الفنية

للأديب محمد السيد المويلحي

أقرب الموسيقيين إلى الفن من ينغمس في لجج الحياة حتى يصل لأعماقها، ويذوق حلوها ومرها، وابتسامها وعبوسها

وأبقى الموسيقيين على الزمن من يحتقر المادة فلا يشغل نفسه باكتنازها بل يصرف ما في يده في ليلة، حتى إذا تنفس الصبح لم يجد لقمة يسكت بها صراخ أمعائه فلا يكترث ولا يقتصد إذا أصاب بعد هذا يسراً. بل هو لا يتغير، ولا يتدبر، ولا يحسب (للغد) حساباً أبداً ولا يهمه أن يكون أنيقاً رشيقاً بقدر ما يهمه أن يكون أشعث الشعر مهلهل الثوب. لا يكترث لكلام الناس عنه إن كان خيراً أو شراً، لأنه لا يعوج إلا لشيء واحد. هو (فنه). . وزكريا أحمد يعبد الحرية ويقدسها. . يمثل (البوهمية) الفنية أدق تمثيل لا يهمه في دنياه إلا فنه وقلبه.

تربى زكريا تربية دينية، فحفظ القرآن المجيد وألم ببعض علومه ولكن (جرثومة) الموسيقى كانت تسري في دمه فلم يستطع مقاومتها فانظم (كمذهبجي) للشيخين علي محمود، وإسماعيل سكر، وأمضى معهما وقتاً طويلاً، ثم تتلمذ لأستاذنا الشيخ درويش الحريري يأخذ عنه ما عنده من موشحات (وضروب) فأدهش الرجل بذكائه وحسن استعداده وأذنه العجيبة!

آنس زكريا من نفسه المقدرة فرأى أن ينفصل عن الشيخ علي محمود ليكون ملحناً فأخرج السحر الحلال الذي جمع حوله جمهرة المطربين والمطربات يأخذون منه وهو البحر الذي لا ينضب والفنان الذي لا يعجز.

لا يلحن للمال، ولا للفخر. بل يلحن لقلبه وحبه ووحيه الذي يترجم أسمى ما في العواطف من نبل ونور.

ملك (الصبا) غير منازع، وإذا قلنا (الصبا) فإنما نعني اللحن المسيطر على النفوس والمترجم لأشرف ناحية وأسماها من حياة الإنسان وهي ناحية عواطفه، وآماله وآلامه، وتوفيقه وفشله. وهل نستطيع أن ننسى أدواره التي غنتها أم كلثوم:(قلبي كلما تقوى ناره)

ص: 76

(هو ده يخلص من الله)(يا رايح على جده)(اللي حبك يا هناه). . .

لحن أكثر من خمسمائة قطعة نجحت جميعها نجاحاً عظيماً. وهو فنان موهوب لم يتعلم في مدرسة ولا معهد، وإنما نشأ كما ينشأ العبقري الملهم تكفيه (الخميرة) التافهة ليزداد ويزداد حتى يصبح كله (خميرة) تنضج كل شيء. . .!

يعزف على العود (سماعياً) فلا يعرف (النوتة) الغربية.

تمتاز قطعه بروحها العربية الشرقية البحتة، فلا سرقة، ولا مزج، ولا خلط، ولم يعرف عن ملحن أو موسيقي أنه اختلط بالمرحوم الشيخ سيد درويش زعيم المدرسة الحديثة فنال حبه وملك قلبه كزكريا. وإنك لتجد تشابهاً عجيباً في روحيهما ونظرتيهما للحياة. . .!

يدهشك في هذا الرجل وفرة رجولته، واعتداده بفنه وكرامته. فهو يعطف على إخوانه الفقراء ويساعدهم ويلحن لهم بالمجان، ولكنه يتصلب ويشتط ويغالي مع الكبيرات الغنيات اللائى يأخذن كل شيء ولا يعطين شيئاً. ولعل وقفته المشّرفة مع (أم كلثوم) في روايتها الأخيرة تترجم تلك الرجولة القوية وتسجل تلك النفسية الكريمة، فقد رفض أن يأخذ أقل من (مائة) جنيه في اللحن الواحد ولم يقبل ما قبله القصبجي والسنباطي. ومن أصدق ما قيل فيه قول شاعر الشباب الأستاذ محمود حسن إسماعيل:

يا مثير (الصبا) من العود تحكي

نغم الطير في صباح الخلود

أو تآويه عاشق عبقري

أرعشت ليله رياح الصدود

أو قمارى جنة ساجلتها

حلم الشدو غافيات الورود

أيها الشاعر الذي طار بالفن

وأعلى شعاعه في الوجود

مر بالجاحدين كالكوكب المشبو

ب واصدح بكل لحن جديد. . .

محمد السيد المويلحي

ص: 77

‌البريد الأدبي

تقويم النوع الإنساني

نشرت مجلة (حياتك) الأمريكية التقويم التالي للنوع الإنساني، وهو من وضع العلامة الأستاذ (آرثر هـ. كومبتن) حائز جائزة نوبل في (الفيزياء)، والباحث الشهير في الأشعة الكونية، وقد صغَّر فيه الزمن مليون مرة:

قبل مدة تتراوح بين السنة والسنتين: تعلّم الإنسان الأول استعمال العصىّ والأحجار كأدواتٍ وأسلحة.

في الأسبوع الفائت: أنشأ إنسان ما فن تكييف الأحجار بحيث تسدُّ حاجاته.

أمس الأول: استعمل الإنسان الصور المبسَّطة كتابة رمزية

أمس: ابتكِرت الألفباء.

أمس عصراً: أنشأ اليونان فنهم وعلمهم.

منتصف البارحة: سقطت روما

الساعة 8 والدقيقة 15 من هذا الصباح: لاحظ (غليليو) أجسامه الساقطة.

الساعة 10 صباحاً: صُنع المحرك البخاري الأول.

الساعة 11 صباحاً: كشفت قوانين المغنطيسية الكهربائية

الساعة 11 والدقيقة 30 صباحاً: تلا ذلك التلغراف والقدرة الكهربائية. . . الخ.

الساعة 11 والدقيقة 40 صباحاً: كشفت أشعة إكس

قبل خمسة عشرة دقيقة: عم استعمال السيارة

قبل خمس دقائق: بدأت خدمة البريد الجوي.

في الدقيقة الفائتة: شاع استعمال الراديو.

الآن، ظهراً: نجد النوع الإنساني - بمعنى جديد كل الجدّة - موحداً بفضل العلم

عبد الكريم الناصري

الفنون الإسلامية

أبدى صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف رغبته في نهاية العام

ص: 78

الدراسي الماضي في أن تزيد عناية مدرسة الفنون الجميلة العليا بالفن الإسلامي جاعلة منه أساس الدراسة في هذه المدرسة، بما يتناسب وأغراض النهضة القومية الحديثة ومراميها في تربية شباب الفنانين المصريين، وكان ذلك عقب زيارة معاليه للمعرض الذي أقيم في المدرسة لإظهار نشاطها

والمعروف أن القواعد التي تقوم عليها برامج هذه المدرسة تميل حتى الآن بحكم نشأتها القديمة إلى تدريس الفن في مختلف صوره على الأصول الغربية، مع تقدم الزمن بمصر للأخذ بفنونها الخاصة، ولطبع الثقافة الفنية فيها بطابعها الأصيل وهو الفن الإسلامي

على أن بعض أساتذة المدرسة المصريين قاموا في الأيام الأخيرة بجهود فردية - وبخاصة في قسم العمارة - لتوجيه البرامج إلى هذه الوجهة، وتربية الذوق الإسلامي في نفوس الفنانين الناشئين

ولما كان الأمر أجل من أن يترك في هذا المعهد الفني العالي لمجرد المجهود الشخصي فقد رفع الدكتور محمد فكري أستاذ تاريخ الفن بالمدرسة مذكرة إلى معالي وزير المعارف اقترح فيها بناء على رغبة معاليه السابقة إنشاء قسم خاص للفنون الإسلامية بالمدرسة وتقوم في نفس الوقت بتفاصيل إنشاء هذا القسم والمقترحات الخاصة ببرامجه

وقد جاء في هذه المذكرة أن الفن الإسلامي هو الفن القومي لمصر، وأن الخصائص الفنية العظيمة التي ينفرد بها هذا الفن يجعل منه مادة خصيبة لتغذية جميع نواحي النهضة الحديثة في مصر، فضلاً عن قابليته الدائمة للتطور وتمشية مع روح البيئة الطبيعية في هذه البلاد

وقد عنى معالي وزير المعارف بهذا الاقتراح وأحاله على مراقبة الفنون الجميلة لدراسته

وفاة العالم الأثري هوارد كارتر

نعي من لندن الأستاذ هوارد كارتر العالم الأثري الإنجليزي المشهور عن 66 عاماً. وليس بين المصريين من يجهل اسم هذا الرجل الذي كشف مع اللورد كرنارفون مقبرة توت عنخ أمون التي لفتت العالم بأسره إلى مصر. وكان عمله العظيم أكبر دعاية عالمية شوقت ألوف السياح إلى غشيان مصر من كل فج وصوب.

جاء المستر كارتر إلى مصر سنة 1890 وعاون الأستاذ فلندرس بتري في حفائر تل

ص: 79

العمارنة لحساب اللورد أمهرست سنة 1892، وعين مفتشاً عاماً لمصلحة الآثار في الحكومة المصرية وأعاد تنظيم إدارة الآثار في مصر العليا تحت إدارة السير وليم جارستن والمسيو جستون مسبيرو، وأدخل نور الكهرباء إلى وادي الملوك وإلى أبو سمبل، واكتشف لحساب الحكومة المصرية مدافن الملوك منتوحتب وحتشبسوت وتحتمس وأمنحتب الأول وغيرهم إلى أن اهتدى في سنة 1923 إلى قبر توت عنخ أمون

وقد نشرت صحف إنجلترا ترجمة حياته بتفاصيل مسهبة، وأسفت على فضله وعلمه الواسع وعادت تذكر الخرافة المشهورة باسم (لعنة الفراعنة) التي قيل إنها لاحقت جميع من اشتركوا في كشف مدفن توت عنخ أمون لكن جريدة (الديلي تلغراف) أوضحت أن كارتر نفسه لم يكن يعبأ بهذه السخافة فضلاً عن أن موته بعد هذه السنين العديدة من كشف المدفن لا يمكن أن ينسب إلى كشفه

تركيا تهزل والعالم يجّد!

من أنباء استامبول أن الصحافة التركية قامت أخيراً بحملات شديدة على فكرة إنشاء مؤسسات لها صبغة دينية في البلاد وتقوم على أكتاف الشباب. وقد طلبت جريدة (بني صباح) إغلاق هذه المؤسسات في تركيا واستامبول بوجه خاص بحجة أن هذه المؤسسات تقوم بدعايات غير قومية ولا تتفق مع الروح التركية الجديدة.

ويظهر أن هذه الملة التي تثيرها الصحف كانت صدى لخطاب رئيس الوزراء رفيق سيدام الذي أعلن بالراديو مقاومة الجمهورية التركية لكل حركة دينية تقوم في البلاد

حول عريضة الأزهر

جاءنا من أحد العلماء الذين أمضوا تلك العريضة التي تحدث عنها الأستاذ ابن عبد الملك في عدد الرسالة السابق كلمة يصحح فيها بعض الوقائع، وقد طلب إلينا أن ننشرها على مسئوليته، ولكنه في الوقت نفسه وقعها بتوقيع مستعار، وبين تحمل المسئولية وإخفاء الاسم تناقض ظاهر.

حول ترجمة الإلياذة والأوديسة

أخي الكريم الأستاذ أحمد أحمد العجمي:

ص: 80

كنت أوثر أن أعرف عنوانك لأكتب إليك عما سألت لأن بعضه يخصني ويتعلق بظروفي. . . فاعلم يا أخي أن المرحوم البستاني قد نقل الإلياذة إلى العربية نظما. . . ولم يكن رحمه الله طويل النفس في الشعر ولا ذا ديباجة تحببه إلى القراء. . . من أجل هذا ركدت ترجمته ولم يقرأها عشرات. . . وأستغفر الله أن أسوء أحداً بما أقول. . .

وقد بدا لي بعد أن فرغت من كتابة (أساطير الإغريق) ونشرها تباعاً بالرسالة أن أترجم الإلياذة نثراً لا شعراً لما للنثر من مزايا خصوصاً في اللسان العربي. . . ومع ذاك فقد خشيت إذا أنا ارتبطت بترجمة الأصل أن يصدف القراء وينفروا لكثرة ما يرد من أسماء الآلهة والأشخاص، وأكثرها أسماء حوشية نابية. . . فآثرت التلخيص السريع وأضفت مقدمة لحروب طروادة ليست من الإلياذة، بل هي مما ترك الشعراء القدامى غير هوميروس، حتى إذا انتهيت من الإلياذة أردفت لها ذيلاً من فرجيل. . . وقد كان لا بد مما صنعت ليكمل سياق الملحمة الخالدة، فالزيادة الأولى هي الفصل الأول، والزيادة الثانية هي الفصل الأخير

أما الأوديسة فلم ينقلها إلى العربية فيما أعرف سواي، وقد نقلتها نثراً لا شعراً للأسباب نفسها التي خشيت منها على الإلياذة. . . وللأمانة التاريخية أقرر أنني نقلت الفصول الخمسة عشر الأولى نقلاً شبه كامل، ولما خفت أن ينتهي المجلد الأول من مجلة الرواية دون أن تنتهي الأوديسة عمدت إلى تلخيص كل فصلين مما تبقى ونشرهما في عدد واحد بعد أن صارحت أستاذنا الزيات بذلك. . .

أما أن جمهور القراء في مصر وفي الشرق يرغب في طبع ما ترجمت وما لخصت من ذاك كله فهذا ما يظنه أخي وما يخيفني أنا لأن الطبع يكلفني مئات كما كلف كثيرين غيري فلم يحصلوا ربع ما أنفقوا. . . هل سمعت؟ لقد قلتها لك بصراحة يا أخي

وتقبل شكري على ما أطريت.

دريني خشبة

جريدة الوادي

اعتزم زميلنا الأستاذ محمد نجيب صاحب جريدة (الوادي) أن يصدر الجريدة قريباً بشكل

ص: 81

جديد يعتبر فتحاً في الصحافة العربية اليومية. وسيتولى الإشراف عليها أساطين السياسة المصرية وكبار المفكرين وجمهرة وافرة من الأدباء والكتاب الممتازين.

ولا تزال الاستعدادات جارية لإخراج الجريدة في هذا الثوب الجديد قبل نهاية الشهر الحالي

ص: 82

‌الكتب

قصتان:

1 -

الأميرة: للآنسة جميلة العلايلي

2 -

كاهن آمون: للأديب أحمد صبري

- 1 -

هاتان قصتان، كانتا غذائي في يومين:

أما الأولى فقصة غرام عنيف عفيف، وهي كما تقول المؤلفة: قصة جمعت في فصولها تاريخ الحياة كلها، كتبت حروفها من نار العقل ونور القلب، فتصارع فيها اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والخير والشر، وظهرت فيها شخوص مختلفة من تهاويل المدنية الحادثة، وبساطة الطبيعة الخالدة، واصطدمت فيها التقاليد الصارمة بالعواطف اليقظة، وكان فيها ما كان من رغبة ورهبة، وثورة وخنوع، وألم وأمل، ثم انتهت عند حقيقة خالدة، وهي أن الرجل رجل والمرأة مرأة، ولن يكون الاتصال بينهما إلا على هذا الأساس الذي قامت عليه الحقيقة الإنسانية منذ الأزل

والآنسة جميلة أنثى، فأحسن ما فيها أنها تكتب بطبيعة الأنثى وميولها، فلا كذب ولا نفاق ولا تزوير، ولكنها الأنوثة الواضحة، والصراحة التي لا تتوارى، والعواطف التي تتدفق على وضع الطبيعة؛ ووضع الطبيعة في الأنوثة الكاملة هو الإعجاب، أو إن شئت فقل العشق للرجولة الكاملة، وإقراراً لهذا الوضع المقدس ضحت بالأوضاع والتقاليد في سبيل زوج لا تقدره لها الأوضاع والتقاليد. ولقد نجحت التجربة الجريئة، فكان لها برجولته وكبريائه واعتداده ملء القلب والبصر والسمع، وكانت له بأنوثتها ملاك الرحمة، ومثال التضحية، ورسول الحب!

والمرأة بطبيعتها - كما تعلم - رقيقة الإحساس، مرهفة العواطف، فإذا جمعت إلى ذلك موهبة الشعر كانت في خيالها وفي شعورها متوثبة، كأنها تريد أن تلتهم الدنيا بنظرة، وأن تزم البحر بشعرة، وهذا هو شأن الآنسة الفاضلة في قصصها: فهي تغرد على كل فنن تغريد الشاعر، وهي تجري وثباً وراء الخيال فتسبق الحوادث، وتستطرد من معنى إلى

ص: 83

معنى دون أن تعني بالنسق القصصي، وما يسمونه بالحبكة الفنية، ومن ثم جاءت قصتها كما تقول هي: سلسلة حبائل كلها أقاصيص عجيبة، ولدتها قصة واحدة غريبة غامضة، فيها شئ من خلل السرد، وترتيب الوقائع، وكانت في حلّ (العقدة) قاسية، عفا الله عنها! فقد أغرقت تجارة وطوحت بعائلة كريمة في مهاوي الفقر والحاجة لأجل أن تصل إلى رجلها الذي رأت في الاتصال به اطمئنان النفس، وبهجة القلب، ويقظة الروح، على أنه لا يمت لأسرتها بصلة القومية كما تقول

وفي القصة ما أحب أن أنبه إليه الآنسة المهذبة، ولولا الرفق لحاسبتها عليه الحساب العسير، وهو الاستهانة في الأسلوب بحق اللغة وهو حق تجب مراعاته وإن تبجح في ذلك المتبجحون، ثم حق القوة البلاغية وهو أيضاً حق يجب العناية به لا للإفهام فحسب بل للتأثير الذي هو مهمة الفنان وغايته، ثم تلك الأخطاء المطبعية الشائعة التي إذا احتملها ذوق الرجل الجبار فلن يتحملها ذوق المرأة الدقيق الذي يغرم بالأناقة ويفنى في روعة التنسيق؛ وأخيراً بعض هفوات فاتت على فطنة الأديبة اليقظة، فما كان يصح مثلاً أن تصف الأعرابي بلبس حذاء لا يلبسه غير سراة العرب، ثم تعود إلى وصفه بعد صفحات فتصف حذاءه بأنه لا يلائم الرجل العادي على الأقل، وبعد هذا كله لا يصح من الآنسة الشاعرة أن تستهين في أناشيدها بعروض الشعر، ولعلها تهتم فتتلافى كل هذا في الطبعة الثانية للرواية، فإن في تلافيه الجمال والكمال

- 2 -

أما القصة الثانية فقصة مسرحية تقوم على حقيقة من حقائق التاريخ المصري القديم، وضعها مؤلفها الفاضل وهو في معزل على حافة الصحراء في جنوب القاهرة حيث امتلأت رأسه من صور الأجيال القديمة وأطيافها، وازدحمت عيناه بعبرات الجيل الحاضر وآلامه، فطالع التاريخ لهذه القصة ووضع صورتها التخطيطية الأولى، وعرف أبطالها وحلم بهم. ويا لنفس الفنان إذا اهتاجتها ذكريات الماضي وعبرات الحاضر! إنها تحترق في فكرتها، وتذوب في فنها فتأتي بكل ما فيه الروعة والجمال. . .

وتاريخ هذه القصة يرجع إلى عهد الملك إخناتون، وقد كان لهذا الملك مذهب ديني يدعو إلى عبادة قرص الشمس متمثلاً فيه جميع الآلهة، وقد كان متعصباً لمذهبه هذا تعصباً

ص: 84

شديداً، فحاول أن يفرضه على الناس فرضاً، واندفع يغلق الهياكل ويطرد الكهنة، وانشغل عن أمور الدولة فسرح الجنود وأهمل الجيش، فكان من وراء ذلك أن انتقضت عليه المستعمرات المصرية، واستولى الحثيون على شمال سوريا كما استولى العبرانيون على جنوبها، ففزع المصريون لذلك، ونهضوا ثائرين عليه بتدبير الكهنة ورجال الجيش المعطلين، وفي مقدمة هؤلاء أوزيران كاهن آمون في معبد خناعي، وهو شيخ جليل خالف الملك في عقيدته الدينية ودعا إلى محاربته باسم الوطنية

هذه المبادئ التي أذاعها إخناتون ودعا إليها ما وسعه الجهد، وهذه الثورة التي أعلنها عليه المصريون لإنقاذ حضارتهم وغضباً لوطنيتهم وقوميتهم هو موضوع القصة، وغاية المؤلف التي يرمي إلى توضيحها. ولا شك أنه قد استطاع أن يشرح فكرته شرحاً فنياً قويماً، فلا فضول ولا ثرثرة، ولا اقتضاب ولا شذوذ في سرد الحوادث والانتقال من وضع إلى وضع، ولكنك تحس وأنت تقرأ أنك تجري في نسق طبيعي مطرد، يرسمه أسلوب حلو يفيض بحرارة الإيمان وحماسة الوطنية، وكأنها حماسة أمازيس إذ يقول: لقد فهمت وآمنت، سأعلمهم أننا ولدنا جنوداً، وأننا ما زلنا رغم العوادي أبناء هذا النيل، نحارب وننتصر، ونطوي العالم في نفوذنا من جديد. . .

ولقد ذكر المؤلف الفاضل أنه تقدم بقصته إلى الفرقة القومية فكان رأيها قاطعاً في عدم صلاحيتها! وأنا أستطيع أن أطمئن المؤلف الفاضل من هذه الناحية، فإن الفرقة القومية أصلحها الله لا تقدر الآثار إلا بأسماء أصحابها وما لهم من شهرة ودوي وطنين. ثم أن الفكرة في هذه القصة تقوم على الانتصار لتاريخنا وقوميتنا ووطنيتنا، هي غذاء لروحنا وعواطفنا بما يلائم روحنا وعواطفنا؛ ولكن الفرقة لا يهمها ذلك، فهي تحب أن تكون دائماً متطفلة على موائد الغرب، تذيع كل ما هو غريب عنا ولا يمت إلى روحنا بأدنى شئ. . .

نعم أنا أطمئن المؤلف من هذه الناحية، وأقدر فيه موهبته الفنية واستعداده للقصص، فإنه استعداد قوي كامل، إذا ما تعهده بالمران والصقل فسيكون له شأن أي شأن. ولو أنه رزق الدقة في الحوار، والوضوح في التعبير لكان فناناً من الطراز الأول، ولجاءت قصته وشأنها في الكشف عن عبقريته والإعلان عن مواهبه شأن (أهل الكهف) في الكشف عن صاحبه الأستاذ الحكيم

ص: 85

وأحب أن أنبه الأديب الفاضل إلى ما أخذه عليه بعض الناس من غموض العبارة وخفاء المعنى في بعض جوانب الرواية، وليس بالعذر أن يقول إنه حاول أن يكون مفهوماً بالمعنى الذي يألفونه فلم يستطع، فإن اللغة أداة الإفهام، وعلى الفنان أن يُفهم وإلا كان قاصر الأداة، عاجزاً عن تصوير ميوله وعواطفه، وماذا يكون الفنان إذا عجز عن تصوير ميوله وعواطفه؟!

تلك ناحية ليست بالعسيرة ولا بالشاقة؛ وفي استطاعة المؤلف الفاضل أن يبلغها إذا اقتصد في ثورته وتمكنت عنده الرغبة في ذلك

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 86

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية

لغة المسرح، أدباء الشباب

الدكتور إبراهيم ناجي أديب وعالم ملحوظ المكانة، معروف في الأوساط الأدبية، مشهور بأحاديثه الطيبة، وحيويته الفياضة، وحسه الدقيق، يعرف فيه أصدقاؤه - وأنا منهم - سرعة في الفكر وفي الحركة وفي كل شئ

لم تقف حركة الدكتور ناجي عند حدود نظم الشعر، وتأليف القصة، وكتابة البحوث العلمية، وإلقاء المحاضرات، بل تناولت أيضاً فن الترجمة. وقد تعاون أخيراً مع الممثل الأديب فتوح نشاطي على ترجمة رواية (الجريمة والعقاب) لمؤلفها ديستويفسكي القصصي الروسي العظيم، فمثلتها الفرقة القومية وجعلتها (افتتاحية) لموسمها الثاني. وهاهو ذا يحدثنا عما لقيت روايته من رجال هذه الفرقة ويجيب على الأسئلة التي وجهتها إليه:

قلت له: الفرقة القومية مؤسسة ثقافية فهل حققت شيئاً من أغراض الثقافة؟ فأجاب:

(إنها تحاول يا سيدي، ويجب أن نعترف أنها تبذل ما تستطيع، ولكن الفكرة خطأ، والتوجيه خطأ، والمسرح الذي نراه مسرح قديم بال

أما خطأ الفكرة فلأن مدير الفرقة، مع احترامنا لأدبه وفضله، يصرح ويجاهر بأن المسرح إنما وجد لترقية اللغة، وما دامت هذه الفكرة أساساً للمنطق فقد انهار كل شئ ولا معنى للجدل

والفكرة خطأ أيضاً، وخطأ فاحش لأن قراء لجنة الروايات علماء لغة، وليس فيهم فرد يعرف شيئاً عن فن المسرح

والتوجيه خطأ، لأن التوجيه مبني على الفكرة، والتوجيه المسرحي عندنا أساسه إنشاء مسرح كلاسيكي على فكرة كلاسيكية، ولهذا حفل مسرحنا بأندروماك وأنتيجونا وعدنا إلى راسين وكورنيل وقد فرغ العالم منهما ونفض يده، وإليك المثل:

الجريمة والعقاب رواية شعبية كتبت للناس ولمخاطبة الناس، وهذه رسالة المسرح، وقد أرادت إدارة الفرقة من مترجمها أن يترك ترجمته بتاتاً ويعيد كتابتها بلغة من عنده أنيقة مجلجلة مدوية كأنه هو مؤلفها. فانظر بالله كيف تريد الفرقة القومية أن تعبث بدستويفسكي

ص: 87

وتسيء إلى دستويفسكي وتسيء إلى رسالة المسرح. كل ذلك في سبيل لغة كلاسيكية مجلجلة أولى بها حلقات الأدب لا المسرح الذي هو منبر يثقف ويعلم ويفيد

وإنه لما يبكي ويحزن أن تجد الممثل النابغ (؟) وقد فرضوا عليه لغة بائدة فصار يوجّه همه إلى إتقان المرفوع والمنصوب وقد نسى الفن وترك روعة التمثيل جاناً لأنه منصرف إلى ما ألقى بروعه في شأنه أنه أهم. وإنه لمن المحزن أيضاً أن تجد لجنة قراءة الروايات تجيز روايات ليس فيها من شيء إلا أنها كتبت بلغة عربية سليمة. وإنك لتستعرض كل الروايات التي نجحت في المباريات فتجدها لغة في لغة، وتجدها نماذج من الإنشاء، أما الفكرة فلا، أما الفن فلا، أما الكلام و (الدروشة) فنعم. وقد تجيز رواية لا لغة فيها ولا فكر ولا فن كرواية طبيب المعجزات. إليك المثل الثاني:

قُدمت رواية من هذا الطراز فأجازتها الفرقة فأعدت للتمثيل وكلف مترجم الفرقة أن ينقلها إلى الفرنسية ليتمكن المخرج الفرنسي من إخراجها، فرأيته بعيني رأسي يكاد يغمى عليه من الطنطنة والجلجلة والكلام المدوي كالطبل الأجوف، ويسأل ناقلها إليه: أحقيقة كل هذا موجود، كل هذا الكلام الطويل العريض، كل هذا اللفظ المكرر المعاد. لا وربي، إن هذه الرواية لا يمكن تمثيلها بحال؛ إن التمثيل تمثيل لا كلام، وكلمة دراما معناها نقل القول إلى الحركة، لا الحركة إلى القول، كل هذا عن رواية أجيزت وأعدت للتمثيل. وكم كم عند الفرقة مثلها من متراكم لا حصر له تجيزه الفرقة فلا يمثل ولا يصلح لشيء.

قلت: ما دمت ترى الأساس خطأ في إنشاء الفرقة فما رأيك في علاجها لتصبح مؤسسة تماشي النهضة الأدبية؟

فأجاب: يجب أولاً أن يتنازل مدير الفرقة فيعترف معنا بأن رسالة المسرح الجديد غير قائمة على اللغة، وليس من العار أن يجلس إلى رجل كالمسيو فلاندر أو إلى ممثل كجورج أبيض فيتحدث إلى أحدهما في رسالة المسرح. ويمكنه أن يسأل نجيب الريحاني وهو رجل يفهم هذه الرسالة على أتمها وقد سمعته بأذني يتمنى أن يرشد المهيمنين على الفرقة القومية إلى رسالة المسرح

الفكرة الثانية: يجب أن تبدل لجنة القراءة تماماً - مع احترامي لأعضائها وتقديري لعلمهم وأدبهم - أرى أنهم لا يصلحون بتاتاً إلى ما هم مكلفون به، ولو خيرت لجعلت لجنة

ص: 88

القراءة مكونة من فلاندر وجورج أبيض ورياض وعلام وأضيف إليهم رجلاً واحداً يفهم اللغة

وفكرة أخرى: يجب أن تكلف الفرقة من تتوسم فيه من المؤلفين الفهم والمقدرة أن يترجم أو يقتبس أشهر الروايات العالمية. نعم تكلفهم بذلك وتفتح الباب أمامهم وتترقب مجهودهم وبهذا يتسع المجال ولا تقبر الكفايات، وبذلك تخطو الفرقة خطوات في سبيل السداد

- هل أنت من دعاة اللهجة العامية، وأنت الشاعر المفروض فيه الحرص التام على المعنى والمبنى؟ وهل تصلح اللهجة العامية للتراجيديا والدراما والكوميديا على السواء؟

- إني من دعاة اللغة العربية التي يفهمها الشعب على شرط أن يباح استعمال اللفظة العامية حين لا يكون منه مناص وحين لا يعتبر وجودها إسفافاً، وحين تضيف جمالاً ونغمة جديدة إلى لغة المسرح

- هل كانت رواية (الجريمة والعقاب) مكتوبة في الأصل باللهجة العامية؟

- كانت مكتوبة في الأصل باللهجة الفرنسية البسيطة التي تقارب العامية ولكن ترتفع قليلاً عنها. ومن يرد معرفة الحقيقة فليقرأ النص الفرنسي التمثيلي من وضع جاستون باتي، ولكنها في الأصل من قلم ديستويفسكي الفخم وتحليله العميق

- هل تظن أن هذه الرواية كانت تفقد قيمتها لو ترجمتها باللغة الفصحى؟

- يا سيدي إنها بلغتها البسيطة كانت أرقى من مستوى الجماهير فما بالك بها وهي بالفصحى المجلجلة؟. . . انتهى.

لا ينفرد صديقي الدكتور ناجي بالرأي الذي أبداه بشأن لغة المسرح وضرورة جعلها تناسب ذوق الجمهور، فقد سمعت حديثاً غريباً من صديق أديب أعرف فيه ولعاً باستعمال الألفاظ النابية وقد أطلقنا عليه اسماً لا أريد ذكره يدل على أنه يقد ألفاظه قداً وينحتها من صخر صلد، لأن كلمتي افرنقع وتكأكأ وما يماثلها من الكلمات الحوشية التي ألحدها الإهمال ودفنها التناسي هما من الكلمات المستملحة المستحبة عنده. وقد لا يخلو مقال له من (منجنيق) يصوب كراته الافرنقعية والتكأكئية على الأذواق.

أقول سمعت رأياً غريباً منه، وقد سمعنا ما يضارعه في حديث الأستاذ إبراهيم رمزي خلاصته أن الأمة لا تريد اللغة الفصحى ولا تستطيبها، وحجته أن الطبقة الأرستقراطية

ص: 89

نساء ورجالا، لا تعرف العربية وهي تتكلم الإنجليزية أو الفرنسية، ولهذا لا تميل إلى التمثيل سواء أكان بلهجة العامة أو باللغة الفصحى، وإن طبقة الدهماء لا رجاء منها ولا فائدة. أما الطبقة الوسطى وهي أقلية بالنسبة للطبقتين العليا والدنيا تؤثر اللهجة العامية لقربها من الفهم، ولأنها تنشد من المسرح التسلية والترفيه عن النفس، وينتهي بالدعوة إلى مسايرة الشعب ما دام الشعب لا يميل إلى غير التسلية والانبساط

قد يكون رأي صديقي هذا أكثر آراء الشبان تهاوداً وأبعدهم عن التعسف في الحكم على اللغة العربية وقواعد صرفها ونحوها، وتنوع مترادفاتها ووفرة مفرداتها، ولكن هل يجوز - على هذا القياس - أن نهمل اللغة ونعطل أداة التعليم ونحد من معرفتنا إرضاء لطبقة تؤثر التسلية والانبساط؟

إني قبل كل شيء أنزه الأمة بطبقاتها الثلاث عما قاله فيها صديقي الأديب، لأني أوقن أن نهضة الأمة محسوسة ملموسة بدليل أنه عندما تهم لحضور التمثيل تهيئ ذاتيتها كما تهيئها للصلاة أو لسماع خطاب أو محاضرة. وقد برهنت على هذا الاستعداد النفساني قبل عشرين أو ثلاثين عاماً بإقبالها على حضور تمثيل فرق عبد الرحمن رشدي وجورج أبيض والشيخ سلامة حجازي إذ كانت كل رواياتها تمثل باللغة العربية الفصحى، فما بالها وقد ارتقت بالفعل، وتطورت وفق نهضة العصر وأصبحت آدابها واضحة الازدهار؟ أقول: ما بالها تشكو اليوم مما قد استساغته بالأمس وأفادت منه خير فائدة؟

الأدب بخير، والآداب بخير أيضاً، وتقدمنا الثقافي مستمر، وإن كان ثمة من شكوى موجعة فهي من كسل الشبان ومن رخاوتهم وخنوثتهم ومن قعودهم عن سلوك مسالك الكمال، فلغة المسرح الرصين يجب أن تكون الفصحى كما يجب أن تكون لغة الرواية التي من نوع التراجيدي أسمى من لغة الرواية التي هي من نوع الدراما، ولغة الكوميديا أبسط من لغة الدراما. أما القائل باللهجة العامية للمسرح فهو مغرض أو كسول أو بعيد عن روح الأمة

ابن عساكر

ص: 90