المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 297 - بتاريخ: 13 - 03 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٢٩٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 297

- بتاريخ: 13 - 03 - 1939

ص: -1

‌رسالة أمير المؤمنين الفاروق إلى الشباب

شعبي العزيز

أحببت ونحن نستقبل العام الهجري الجديد، أن أهنئكم والعالم الإسلامي بهذا العيد السعيد، مبتهلاً إلى الله أن يجعله عام خير وسلام وإقبال على الجميع، وأن يقرنه بتوفيق الجد، وبلوغ القصد.

إن هذا اليوم الذي يتمثل فيه أمامنا حادث الهجرة العظيم بما فيه من العظة البالغة، والمعاني السامية، وبما كان له من الأثر الخالد في بث روح الفضيلة والإخاء والمغامرة في سبيل الحق، ليستحق منا تمجيده بالعمل الصالح والتوجيه النافع لخير الإنسانية.

وإني ليطيب لي أن أشير إلى ما سيتم بإذن الله وجميل رعايته في مستهل هذا العام المبارك من عقد أواصر المصاهرة، بين الأسرتين الكريمتين في إيران ومصر، مما يزيد في إحكام روابط الإخاء والمودة بين الشعبين، فوق ما يربطهما من الصلات الأدبية والثقافية منذ القدم

شعبي العزيز

لم أتحدث إليكم قبل اليوم عن نفسي، وكنت أعد ذلك من سبق الحوادث؛ ولكن هذه الفرصة قد أتاحت لي أن أتحدث إليكم قليلاً في ذلك فتزدادوا معرفة بي، وركوناً إليّ

إن سر النجاح هو الثقة والإيمان. ومن لا ثقة به ولا إيمان له لا رجاء فيه. فعلى الذين وثقوا بي أن يعتمدوا عليّ، إذ في ذلك كل الخير لهم

إنني مع إعجابي العظيم بوالدي - طيب الله ثراه وتغمده برحمته - قد أكون قد حالفته في بعض طباعه، ولكني أؤكد أنني قد احتفظت بأبرز هذه الطباع. فأنا مثله لا يستطيع أن يؤثر فيّ أحد إذا تبنيت صواب أمر واعتقدت - بعد تقليب وجوه الرأي - أنه في صالح شعبي أفراداً وجماعات

وإن ثقتي بنفسي، وتوكلي على الله، هو الذي يلهمني تصريف الأمور، ويوجهني الوجهة التي اختارها

بيد أن هذا لا يمنع أن أستمع لآراء ذوي الخبرة من الرجال، شأن كل إنسان يتحرى وجوه الصواب

إنني أومن - ومرُّ الأيام يؤيد إيماني - أن شباب مصر المتوثبة للمجد سيكتبون صفحة خالدة في تاريخ الوطن. وفي استطاعتهم أن يصنعوا من هذا الوطن العزيز مصر العظيمة

ص: 1

المتحدة التي هي آمالنا وأحلامنا جميعاً وعلى الشباب وحده تحقيق هذا الحلم.

ولكن انتبهوا؛ فالطريقة التي تتبعونها لا تحقق أملنا هذا. ولابد من العمل المتواصل في جو يسوده الهدوء والإفادة من الرؤوس الناضجة واحترام النظام.

وليكن هدفكم سعادة المجتمع ومصر القوية، القوية في نفسها، وفي أبنائها، والمستعدة لإعلاء كلمتها، وفرض احترامها على من يعبث بعزتها

شعبي المحبوب!

كم كنت أحب أنكم بعد أن سمعتم هذه الكلمات تذكرونها ليرجع إليها كل منكم بين الوقت ولآخر، حتى لا تأتي عليها يد النسيان

ونصيحتي التي أسديها إلى كل مصري مخلص لوطنه ومليكه: أن يكون ذا ثقة بالله وبنفسه وبمليكه.

والسلام عليكم ورحمة الله

ص: 2

‌براعة استهلال العام

ليس أدل على يمن هذا العام وإقباله، من براعة استهلاله. وبراعة

استهلاله تأييد قوة الإسلام، وتوحيد كلمة الشرق، بتوثيق الصلة بين

عرشين أثيلين بالمصاهرة، وتمكين الألفة بين شعبين نبيلين بالمودة.

والعرشان المصري والفارسي أعرق العروش في أصل الحضارة،

والشعبان المصري ولإيراني أسبق الشعوب إلى خدمة الفكر. والسامَّية

الممثلة في مصر، والآرية الممثلة في إيران، هما اليوم مناط الرجاء

في نهضة الشرق الإسلامي القريب والبعيد، لأنهما تجمعان شعبتي

الفكر البشري وما يميزهما من سمو الروح وبراعة الذهن وصوفية

الخيال وحب الحقيقة. فلا جرم كان زواج صاحب السمو الإمبراطوري

محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران، من صاحبة السمو الملكي الأميرة

فوزية شقيقة صاحب الجلالة الفاروق ملك مصر، حادثاً سعيداً في

تاريخ الإسلام والشرق، سيكون له أثره المحمود في تبليغ الرسالة

المحمدية مرة أخرى إلى النفوس العانية التي ضلت سعادتها وراحتها

في ظلام القلق والحيرة والشك

نسجل هذا القران الميمون في هذا العدد الخاص بالهجرة، لأنه وقع في أوائل السنة الهجرية، ولأننا نرجو أن يكون للإسلام والسلام والمدنية من نقلة الأمير المصرية من القاهرة إلى طهران، ما كان لها من نقلة الرسول الأعظم من مكة إلى المدينة. وأنا لندعو الله مخلصين أن يحقق فيه للعرشين العريقين صوادق الرجاء، وأن يجعله للشعبين العظميين عهد الإخاء والرجاء، وأن يقرنه للعروسين الكريمين بالبنين والرفاء.

ابن عبد الملك

ذكرى الهجرة

ص: 3

لإمام المسلمين الأستاذ الأكبر

الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الجامع الأزهر

في مستهل هذا الشهر العظيم بذكراه، أذعت على العالم الإسلامي نجوى لصاحب الهجرة صلوات الله وسلامه عليه، كان فيها تذكرة وفيها بلاغ. وليس شيء أحب إلى نفسي من إعادة هذا الحديث، فإن التذكير بسيرة رسول الله، وبهجرته في سبيل الله، شفاء لغل الصدور، وجلاء لرْين القلوب، وقوة لضعف الأنفس

إن دعوة الرسول الأعظم كانت في مكة أشبه بالغيث أنزله الله في يباب القفر، ففاض بعضه في سباخ الأرض، واحتبس بعضه في أصلاد الصخور، ثم نفّس الله عنه من شدة الضيق والحصر فانبثقت عنه الحواجز الصم، فجرى سيولاً في السهول والأودية، وتشعّب ينابيع في القرى والمدائن، يحمل الخصب والنماء، ويوزع الري والغذاء، فأحيا موات الأرض، وروى غُلة الناس، وكان منه العمارة والحضارة والخير

نعم كانت هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة هي هذا الانبثاق الذي انساح به الإسلام في أقطار الأرض يحمل الهدى للأرواح الحائرة، والسلام للنفوس المحروبة، والألفة للقلوب المختلفة، فسارت الإنسانية في طريق الحياة على ضوئه، تنعم بالإخاء في الدين، وتتمتع بالمساواة في الشريعة؛ فلا عصيبة تزرع الأحقاد وتنشر الفرقة، ولا امتياز في الجنس أو في اللون أو في الثروة يوجب الاستعباد ويقتضي الظلم. وحمل خلفاء الرسول رضوان الله عليهم أجمعين مصباح الهداية وزمام القيادة من بعده، ثم استاروا بسيرته، واستنوا بسنته، فأورثهم الله مللك الأرض، وملكهم مقادة العالم، فقادوه على بصيرة وساسوه عن دراية؛ فكان كتاب الله هو الدستور، وحكمه هو القاضي، وسنة رسوله هي الخطة. فلما ابتعد المسلمون عن مشرق النور وأعرضوا عن الذكر، غشيتهم الغواشي فضلوا وجهة أمرهم، وجهلوا غاية قصدهم، وتفرقوا شيعاً في الضلال، وتدفقوا أحزاباً في الباطل، وأصبح كلام الله على ألسنتهم ألفاظاً لا معاني لها ولا رَجْع منها، فأفلت من أيديهم زمام الأمر، وسلب الله من أعدائهم الرعب منهم، فتقهقروا إلى مؤخرة الركب، وساروا

ص: 4

أتباعاً بعد أن كانوا أئمة، وإهمالاً بعد أن كانوا سادة. كل ذلك والإسلام هو الإسلام، أنواره لألاءة لا تخبو، ومنبعه ثَرَّة لا تنضب؛ ولكن المسلمين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واستعزوا بغير سلطانه فوكلهم إلى غير راحم

أشهد أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله: رجوع إلى الله في أمره ونهيه، وردُّ الخلاف إلى تنزيله ووحيه، وتأليف القلوب على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. وفي يقيني أن الضال متى أدمت قدميه وعورة الطريق، وأنهكت قواه مشقة الحيرة، عاد يلتمس الهدى من مصدره، ويبتغي القصد من دليله. فالإسلام كما كان المبدأ سيكون المعاد، وكما أنقذ العالم في الأولى سينقذهم في الثانية. ومادام الله عزه اسمه قد ختم به الوحي فلابد أن يجدد حبله كلما رث ليعتصم به اللاجئ ويجتمع عليه الشتيت ويفيء إليه الشارد.

إن آية الهجرة التي ظهر بها الإسلام وعلا فيها الحق هي الإخلاص للعقيدة والتضحية للمبدأ والمصابرة في الجهاد والمؤاخاة في الله. وهذه الصفات التي زود الله بها رسوله الكريم لتبليغ رسالته وتمكين أمره، هي عدة كل دعوة ووسيلة كل نهضة؛ وبدونها لا يتفق رأي ولا تجتمع كلمة ولا تؤدي سياسة. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحمل بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) أسأل الله المسلمين عامة ولهذا البلد خاصة هَديْا وسدادا، وعونا وإسعادا، وألفة واتحادا، إنه واسع الفضل عظيم الطول سميع الدعاء.

محمد مصطفى المراغي

ص: 5

‌يهتمون به فهل يعرفونه؟

للأستاذ عباس محمود العقاد

العصر الحاضر من العصور التي اشتد فيها الاهتمام بالعالم الإسلامي بين جميع الدول الكبرى

لأن هذه الدول على وشك القتال، وتعلم كل منها ولا ريب أنها غانمة رابحة، وأنها كبيرة الأمل في النصر إذا ظفرت من اليوم بمودة الشعوب الإسلامية؛ وهي موزعة في المواقع التي تحوم حولها المطامع ويتأشب فيها النزاع

فاليابان تنادي بمبدأ (آسيا للأسيويين) وتعني بذلك أن (آسيا لليابانيين) وتعرف ما تكسبه في أسواق التجارة وفي ميادين الحرب إذا هي استمالت إليها مسلمي الصين والهند وما وراءهما من أواسط آسيا، فضلاً عن المسلمين في جزر الهند، وهم أصحاب شأن عظيم في تلك الأرجاء

والولايات المتحدة لا يسعها أن تنسى الاهتمام بشيء يهتم به اليابانيون، وبخاصة كل شيء تكون له علاقة بالصين والفليبين وشواطئ المحيط الهادي في عدوتيه

والدولة الشيوعية الكبرى - وهي الروسيا - تقف لليابان بالمرصاد في القارة الآسيوية، وتتودد إلى المسلمين هناك، وهي حائرة لا تدري هل تهدم الشعائر الدينية تطبيقاً لمذهبها فتغضب المسلمين وتدفع بهم إلى أحضان خصومها، أو تبقي على الشعائر الدينية فتغضب دعاتها ولا تستطيع التوفيق بين برامجها في الأرض الروسية وبرامجها في البلاد التي تصاقبها وتبادلها المعاملات التجارية والسياسية.

ولا تتخلف (الفاشية) في المضمار، بل يبرز على رأسها (موسوليني) منادياً بأنه (حامي) الإسلام ونصير المسلمين، ولو كان على نصيب من (الحذق الاستعماري) أوفى من هذا النصيب لعلم أن الإيمان بالدين وقبول حمايته من غير أهله نقيضان في المنطق والشعور على السواء، ولاسيما من وجهة النظر الإسلامية التي تفرض على المؤمن بها حماية نفسه في وجه المغيرين عليه

أما الدول الديمقراطية فهي تقابل المساعي اليابانية والمساعي الشيوعية والفاشية بالتوجس والحيطة، وتريد أن تقاومها فتعمد إلى عقد المحالفات وفض المشكلات وتوحيد المصالح

ص: 6

بينها وبين العالم الإسلامي في حالتي الهجوم والدفاع، وتفتح لها الطريق في هذا المجال بريطانيا العظمى ثم الجمهورية الفرنسية

والعالم الغربي يعتقد اليوم أن (العالم الإسلامي) يتحفز ويتوثب، وأنه قوة رشيدة لا تعمل معاملة القاصر التابع لغيره، ولا مناص من حسبان حسابها لمن تربطه بها علاقة قريبة

كتبت مجلة (التاريخ الجاري) في عددها الأخير مقالاً جعلت عنوانه: (محمد يتهيأ للعودة) وعقبت بذلك عنوان آخر فحواه أن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى السلطان

ثم قالت: (في جزائر الفليبين وفي الجامعات المصرية، في قصور الملوك الشرقيين وفي خيام التتار المرتحلين، على الكراسي البرلمان اليوغسلافي وبين أكواخ الزنوج عند الشاطئ الذهبي، في آجام أفريقيا وفي صحارى آسيا، يترقب السلمون كل يوم بل كل ساعة مطلع المهدي الذي يتجسد فيه محمد عليه السلام، وقد تيقظت قوة الإسلام واتخذت لها شكلا سوياً في عالم السياسة، ولا تزال (التعاليم المحمدية) سارية منتشرة بين الشعوب الملونة التي تجد من المقاربة بين إدراكها وبين هذا النوع من التوحيد ما ليست تجده في المسيحية أو اليهودية. وهنالك عامل آخر من عوامل هذه الحركة وهو إخصاب الشعوب الإسلامية وتوالدها. فإن الشعوب البيضاء تصاب بالعقم وقلة النسل بينما يتوالد المسلمون كالأرانب!)

وعلى هذا الاهتمام باليقظة الإسلامية وهذا الإيمان بقوتها هل تراهم يعرفون الحقائق عن الإسلام أو عن أخبار المسلمين الجوهرية؟

إن مجلة (التاريخ الجاري) من أوثق المجلات الأمريكية خبراً واصدقها بحثاً، ومع هذا ترى الخلط فيها بين نهضة الإسلام وبين ما تسميه انتظار المهدي الذي يتجسد فيه محمد علية السلام

وترى قبل ذلك أنها تمهد لمقالها فتقول: (في كل يوم من أيام الجمعات يقف خمسة وعشرون ألفاً من رعايا الولايات المتحدة خاشعين مكتوفي الأيدي متوجهين إلى الشرق يصلون إلى الله ويسألونه قرب ظهور المهدي المنتظر. فإن أبناء الإسلام هؤلاء قد حافظوا على عقيدتهم الغامضة في رجعة مسيحهم كمحافظة المائتين والخمسين مليوناً من إخوانهم الموزعين بين مراكش وجزائر سنداي وبين مدغشقر وأرض المغول)

ص: 7

فأين العلم بالإسلام وبنهضة المسلمين ممن يكتبون هذه الكتابة وهم محسوبون بين أبناء وطنهم ممن يحسنون الخوض في هذه الشؤون؟

على أن الجهل بالأخبار الواقعة لا يقل عن الجهل بالعقائد النفسية والشعائر الدينية، فقد كتبت مجلة أمريكية أخرى اسمها (أخبار الأسبوع) تقول بعنوان:(الخليفة فاروق):

(لما دخلت تركيا الحرب في سنة 1914 أعلن السلطان عبد الحميد (هكذا) باعتباره خليفة المسلمين الدعوة إلى الجهاد أو الحرب المقدسة على الحلفاء الكافرين، وقد فشلت هذه الدعوة ولكنها كلفت بريطانيا العظمى وفرنسا وهما تحكمان مائة مليون وستة ملايين من المسلمين نفقات جمة في مقاومتها بدعوة أخرى، وبذلت الدولتان تلك النفقات وهما خائفتان.

(ثم ألغى كمال أتاتورك الخلافة في سنة 1934 بعد إقصاء السلطان.

(ثم قام موسوليني ينادي بأنه حامي الإسلام ويستثير العرب على بريطانيا العظمى في فلسطين وغيرها من البلاد. وشاع أنه أراد بعض حكام العرب من أصدقائه على أن ينصب نفسه للمبايعة بالخلافة، وإن كان الأمل في نجاح الجهاد اليوم أضعف من ذلك الأمل في سنة 1914 مكتفياً بما تستطيع تلك الخلافة من المضايقة في بعض الأحوال).

وبعد أن أشارت المجلة إلى منافسة بريطانيا العظمى في هذه الحلبة قالت ما خلاصته أن صاحب الجلالة الملك فاروق بويع في الأسبوع الماضي بالخلافة في مسجد قيسون العظيم، وأن خمسمائة ضابط هتفوا فجأة للخليفة الفاروق! وأن أمراء العرب شهدوا ذلك الحفل كأنما كان شهودهم إياه من قبيل المصادفة.

هذه أمثلة من جهلهم بعقائد المسلمين وأخبار بلاد المسلمين، وهم يهتمون جد الاهتمام بنهضة المسلمين.

ويرجع هذا الخلط إلى أسباب: بعضها مقصود، وبعضها غير مقصود.

فمن الأسباب ما هو مقصود لأغراض سياسية أو تجارية كتمثيل المسلمين في صورة تسوغ للدول المستعمرة أن تعاملهم معاملة المتأخرين الذين لا يصلحون لقوانين الحضارة وقواعد الحرية

ومن الأسباب ما هو مقصود لأغراض فنية ونعني بها الرغبة في التأثير والإغراب وتشويق القارئ إلى العجائب التي لا يألفها في بلاده وبين أبناء وطنه. ومن الكتاب

ص: 8

الغربيين من يتعمد التحريف في أخباره لأنه يخشى أن (يخيب أمل) القراء فيه إذا أصغوا إليه ليحدثهم عن شعوب الشرق وأحوال الإسلام فإذا هو يحدثهم بما يألفونه ولا يستغربونه ولا يحققون به تلك الصور المزخرفة التي طالما تخيلوها وحلموا بها وهم يقرءون ألف ليلة وليلة ويستعيدون ما نقل إليهم من أقاصيص الرحالين في الزمن القديم.

أما غير المقصود من الأسباب فمنشأه قلة الاكتراث وصعوبة البحث وعزلة المسلمين في العصور الماضية وسماع أخبارهم من جهلاء بينهم لا يفقهون أسرار دينهم ولا يبالون ما يهذرون به من عقائدهم وعاداتهم ولا يدركون الفرق بين ما تعودوه ودرجوا عليه وبين ما هو من حقائق الإسلام وشعائره الصحيحة.

على أن الذي يعنينا حق العناية هو أن نعلم نحن حقيقة الغربيين، لا أن يعلموا هم حقيقتنا، وينفذوا إلى الصحيح من أخبارنا ومقاصدنا، وإن كان علمهم بهذا نافعاً لنا كلما تيسرت وسائله في أيدينا.

والذي يبدو لنا من العلم بحقيقة القوم أن العالم الإسلامي خليق أن يعامل كل من يعامله منهم على سنة الإنصاف والمنفعة المأمونة العواقب، وكل ما ينبغي أن يحذره هو الإصغاء إلى دعاة الشيوعية والإصغاء إلى دعاة الفاشية، وأن يكون ذنباً في أعقاب الديمقراطية، فإذا استطاع أن يمشي مع الأمم الديمقراطية الحرة في الطليعة فلا عليه بعد ذلك أن يعامل من يشاء على سنة الإنصاف والنظر البعيد إلى العواقب الأمور.

عباس محمود العقاد

ص: 9

‌عمر في بيت المقدس

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

هذا عام ستة عشر من الهجرة، وقد انساحت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين. وأبو عبيدة ابن الجرّاح يحصر بيت المقدس، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم

عزم أهل بيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس - في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر. . . عمر الذي ملأت سيرته الآفاق وسكنت إلى عهده النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون

وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم. خرج يغذّ السير إلى الشام ليتفقد أحوال المسلمين، ويصالح أهل فلسطين. . .

ويمضي في طريقه حتى يبلغ أَيلة. ويتنظّر الناس موكب أمير المؤمنين يحسبون أنه سيطلع عليهم في زينته يحيط به جنده ورجاله. والذي رأى منهم هرقل حين فتح بيت المقدس قبل عشر سنين، أو شهده من بعدُ في حلّ أو ترحال، تخيل عمر قادم في موكب كموكب هرقل أو في موكب دونه ولكنه موكب ملك أو أمير

ولما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق وتبعه غلامه فنزل فمشى قليلاً (ثم عاد فركب بعير غلامه وعلى رحله فَرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه). وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء فتحول إلى رحل غلامه. فلما تلقاه أوائل الناس قالوا: (أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم (يعني نفسه). وذهبوا إلى أمامهم فجازوه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها. وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه)

ونظر الناس إلى رجل طويل جسيم أصلع أشقر شديد الحمرة كثير السَبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفة - رجل لا تقع العين منه إلا على الوقار والتواضع والشدة في الحق والرأفة بالضعفاء. رأوا ملكاً في زي ناسك، وراعي أمة في صورة راعي ثلة. رأوا إنساناً لا تفقد فيه الإنسانية حقيقة من حقائقها، ولا يصيب فيه الجبروت باطلاً من أباطيله.

ص: 10

اجتمع الأساقفة والرهبان يرون رجلاً في يده الدنيا ولكنها ليست في قلبه، يملكها ولا تملكه، ويصّرفها ولا تصرّفه، ويستبعدها ولا تستبعده. وليس شيئاً أن تكون زاهداً في صومعة ولكن العظمة كلها أن تكون زاهداً والدنيا تحت قدميك.

(ودفع عمر قميصاً له كرابيسَ قد إنجابَ مؤخرُه عن عقدته من طول السير، إلى الأسقف وقال: أغسل هذا ورقعه. فانطلق الأسقف بالقميص ورقعه، وخاط له آخر مثله فراح به إلى عمر؛ فقال: ما هذا؟ قال الأسقف: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته؛ وأما هذا فكسوة لك منيّ. فنظر إليه عمر ومسحه ثم لبس قميصه ورد عليه ذلك القميص. وقال: هذا أنشفهما للعرق).

- 2 -

وسار عمر حتى نزل الجابية في وسط الشام التي غلب عليها هرقل، ولكنه دخل الجابية كما دخل أيلة. قدم (على جمل أورق تصطفق رجلاه بين شعبتي رحله بلا ركاب. وطاؤه كساء أنجاني ذو صوف، هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل. حقيبة ممزقة أو شملة محشوّة ليفا هي حقيبته إذا ركب، وسادته إذا نزل، عليه قميص من كرابيس. الخ)

وجاءه رجل من اليهود، وكان اليهود يرقبون رَوح الله بأيدي العرب، ويدعون الله أن يفرج كربهم ويذهب عنهم جبروت الروم بأيدي المسلمين. قال اليهودي: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيليا، لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء

وأقبل وفد بيت المقدس إلى الجابية فصالحوا، وكُتب لهم عهد شهد فيه خالد بن الوليد وعمر بن العاص وعبد الرحمن ابن عوف ومعاوية بن أبي سفيان. وأعطوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وألا يُكره أحد على الدين أو يضّار في شيء

وأزمع أمير المؤمنين المسير إلى بيت المقدس فإذا فرسُه يتوجّى فأتى ببرذون فركبه ومشى البرذون مشيته فأسرع وهزّ راكبه فرأى عمر فيها خيلاء فنزل وضرب وجهه وقال: لا علّم الله من علّمك، هذا من الخيلاء

- 3 -

دخل عمر بيت المقدس لا مدمراً مخرباً كما دخلها بختنصر، ولا مضطهداً أهلها كما دخلها

ص: 11

الرومان من قبل، ولا مزهواً بفتحه كما دخلها هرقل قبل عشر سنين بعد أن غلب الفرس على الشام، ولكنه دخل رافعاً لواء التوحيد والعدل والأخوة العامة والمرحمة الشاملة. دخل المدينة فسار إلى المسجد ليلاً ومضى إلى محراب داود فصّلى فيه. وطلع الفجر بعد قليل ودوّى الأذان في أرجاء المدينة المقدسة للأول مرة - صيحة الحق في أعقاب الباطل المهزوم ترفعها تباشير الصبح في أخيرات الظلام. وشهد الله لقد كانت فاتحة الخير والسلم والكرامة لبيت المقدس ومن فيه. وقرأ عمر في الركعة الأولى سورة (ص) وسجد حين قرأ آية السجدة:(وظن داود إنّما فتناّه فاستغفر ربّه وخّر راكعاً وأناب). ثم قرأ في الركعة الثانية أول سورة الإسراء - سورة بني إسرائيل وفيه وصف ما أصابهم على يد البابليين

ثم تقدم إلى الكناسة - الكناسة التي تراكمت على البيت حين أُخرب وهجر والتي عجز اليهود أنفسهم عن إزالتها حين ملكوا أمر البيت - تقدم إلى الذلة المكدّسة على الحرم - تقدم عمر ليزيلها عن البيت كما أزال عن أهله الظلم والقسوة. تقدم أمير المؤمنين وجثا وقال: (أيها الناس اصنعوا كما أصنع وجثا في فرج من فروج قبائه)، وإنما فعل عمر ما فعل تكريماً للبيت وتطهيراً وإيذاناً بهذا العهد عهد الطهارة والكرامة

وكبر كعب الأحبار وكبر الناس معه. قال عمر: ما هذا؟ قال: كبّر كعب وكّبر الناس. قال عَليّ به. فقال كعب: (يا أمير المؤمنين إنه قد تنبأ بما صنعت اليوم نبّي منذ خمسمائة سنة. فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه؛ ثم أديلوا فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت عليهم الروم إلى أن وليت، فبعث الله نبياً على الكناسة فقال: ابشري أوري شلِم! عليك الفاروق ينقّيك مما فيك. أتاك الفاروق في الجندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم)

لقد لبث اليهود خمسمائة سنة ينتظرون أن تطلع شمس الإسلام، ويأتي الفاروق ليحثوا التراب في قبائه ويأمر الناس بتطهير بيت المقدس

وما فقدوا رعاية الإسلام من بعدها، إلا تسعين عاماً غلب فيها أهل الصليب فأصاب البيت المقدس ما أصابه حتى أسترجعه رجل من رجال المسلمين، ملك يتشبه بعمر بن الخطاب في الإشادة بعدل الإسلام ومرحمة الإسلام. رحم الله صلاح الدين يوسف ابن أيوب

ولكن بني إسرائيل حين رأوا الزمان ينيخ على المسلمين بكلكله لم يأتوا عوناً للعرب

ص: 12

والمسلمين، ولم يذكروا فضل الإسلام ولا حفظوا يد عمر، ولا اعترفوا برعاية المسلمين وحمايتهم ثلاثة عشر قرناً، بل جاءوا يجزون الحسنة بالسيئة، ويعينون الخطوب على الذين دفعوا عنهم الخطوب، ويناصرون الأعداء على الذين أنقذوهم من الأعداء، ويمالئون الذين دفنوا بيت المقدس على الذين رفعوا عنه التراب والرجس والهوان

وليت شعري ماذا ينقمون من المسلمين والعرب؟

(يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل إليكم)؟

(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون)

عبد الوهاب عزام

ص: 13

‌من الفتوة العربية

الشاعر الفارس

أبو محجن الثقفي

للأستاذ أحمد حسن الزيات

- 1 -

كانت (المدينة) يومئذ عاصمة الإسلام، وعمر الجبار العادل يحمل بيده القوية مَشعل محمد فيرسل أضواءه السماوية إلى الجهات الأربع، والفرسان المسلمون في القادسية يَثُلُّون العرش المجوسي ليقيموا على قواعده الكسروية منبر الهدى والسلام. وكانت الجزيرة العربية لا تزال معلقة بين السماء والأرض، ترفعها الروحية الإسلامية إلى أعلى، وتجذبها المادية الجاهلية إلى أسفل. وكانت مدن الحجاز الثلاثُ: مكُة والمدينة والطائفُ مظهرَ الفتوة العربية، لأنها مجمع السيادة والقوة، ومنبع الرفاهة والثروة. والفتوة العربية وإن جمعت أطراف المروءة كانت تدور على ثلاثة الشاعر الشاب طَرفَة، وهي الحب والشرب والحرب، ثم تصوير كل أولئك بالشعر الغنائي الرقيق. ولم تستطع هوادة الإسلام ولا صرامة عمر أن تكفكفا نوازي الهوى في نفوس نشأت على فتون الجهالة ومرَح الشّرك؛ فكان في أبطح مكة، وعقيق المدينة، وغزوانِ الطائف (مساحبُ من جَرَّ الزَّقاق على الثُرى) لا تزال معطرة الأديم بمناجاة الحب، ومطارحة الشعر، ومناقلة الحديث. وكان وادي العقيق في العاصمة المنورة قلما يفيض دون أن تنتظم على حواشيهِ الخضر مجالس الشراب وسوامر الأحباب يتساقون في غفلة العيون كؤوس الراح والصبابة؛ ولكنهم ما كانوا يستطيعون أن يغيبوا عن عيون العَس ولا أن يفلتوا من يد الخليفة مهما تستروا بالليل وتحصنوا بالبعد

في صبوة من هذه الصبوات الليلية الجاهلية قبض العسس العُمَري على الشاعر الفارس أبي محجن وهو عائد في نداماه من العقيق يتماوَح من السكر وينشد في تطريب وهِزَّة:

إذا مت فادفني إلى أصل كرمة

تُرَوَّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفني بالفلاة فإنني

أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

ص: 14

وأبو محجن - إن كنت لا تعرفه - رجل من سروات ثقيف، درج في رياض الطائف وكرومه، ونشأ على فتوة أهله وصبوة شبابه؛ فهو رضيع كأس، وتِبعُ نساء، ومِسْعر حرب، وصناجة شعر، وصِنو مروءة. أسلم هو قومه في أُخريات الناس حين لم يكن من الإسلام بد، ودخل في دين الله بما ورث وكسب من عادِ الجاهلية، فأخذ يروضُ نفسه الصعبة على الوقوف عند حدود الله، فكان يخفق مراراً وينجح مرة، حتى أقنعه اليأس آخر الأمر أن لا بأس من الشراب مادام يطهره الحد، وأن لا َضْير من الحب مادامت تمحصه التوبة!

على ذلك عشق (شموس) الأنصارية وركب إلى رؤيتها المحظورة شيطانه المحتال، فتزيا بزي فلاح وعمل أجبراً في بستان يطل على دارها، فكان ينعم بالنظر والسمع، وربما تمتع بالسلام والحديث، ثم يعود فيسلسل الماء بين البقول والزهور ويتغنى بمثل قوله:

ولقد نظرت إلى شموس ودونها

حرَجُ من الرحمن غير قليل

وعلى ذلك أيضاً كان يتتبع هو ونداماه رياض الأرض، يشربون ويطربون ثم يرجعون إلى المدينة نشاوى من القصف والعزف فلا تنم عليهم عين ولا يشي بهم لسان، حتى وَلي الخلافة الفاروق فطارد الجريمة في كل مكان، وهاجم الرذيلة في كل مكمن

- 2 -

دخل العسس بأبي محجن وندمائه على عمر، فسألهم:

- أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله؟

فأجابه لسان القوم أبو محجن:

- كيف حرمها الله يا أمير المؤمنين وهو يقول: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات؟

فوقف صاحب رسالة القضاء من حجة الشاعر موقف الحائر؛ ثم التفت من حوله من صحابة الرسول يستمد رأيهم في الأمر فاختلفوا فيه. فأرسل إلى علي مرجع الفتوى وفيصل الحكم يستشيره، فقال: (أن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلوا الميتة والدم ولحم الخنزير. وأرى إن كان قد شربوا الخمر مستحلين أن يقتلوا، وإن كانوا شربوها مستحرمين إن يُحدُّوا. فسألهم عمر، فقالوا: والله ما شككنا في أنها حرام، ولكنا قَدَّرنا أن لنا فيما قال نجاة. فجعل يجلدهم رجلاً رجلاً حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده جعل يقول:

ص: 15

وإني لذو صبر وقد مات اخوتي

ولست عن الصهباء يوماً بصابر

رماها أمير المؤمنين بحتفها

فخلانها يبكون حول المعاصر

فقال له عمر: قد أبديت ما في نفسك، ولأزيدنك عقوبة لإصرارك. فقال الأمام عليّ حجة القضاء وولي العدل:

- ما ذلك لك يا عمر. وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال لأفعلن وهو لم يفعل. وقد قال الله في الشعراء: وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال عمر: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فقال علي: أهؤلاء عندك منهم؟ لقد سمعت الرسول (ص) يقول: لا يشرب الخمر شارُبها وهو مؤمن.

نجا أبو محجن وما نجا. فأنه أصر على ألا يترك الخمر مخافة العقوبة، وأصر عمر على أن يجلده كلما شرب، حتى أعيا الخليفة أمره وأعجزه صلاحه، فقرر أن ينفيه إلى جزيرة كان ينفي فيها الخلعاء، ووكل به شُرَطياً يصحبه إلى المنفى وأوصاه أي يدع معه السيف فإنه كميُّ فاتك. وعلم أبو محجن بالحكم والوصية، فتزود بغرارتين ملئتا دقيقاً، ثم عمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وغمده في غرارة. فلما بلغ هو والشرطي ساحل البحر قعدا للغداء، وفتح الغرارة يوهم أنه يخرج الدقيق ولكنه أخرج السيف! فلم يكد الشرطي يراه في يده حتى انطلق يعدو إلى بعيره فنجا به إلى المدينة بعد لأي.

وقال الشاعر لنفسه بعد تفكير وتدبير وعزم: لا ينبغي أن يكون المفر من عمر في الحجاز إلا إلى سعد في العراق

- 3 -

وفد أبو محجن على فاتح العراق سعد بن أبي وقاص يوم الكتائب من أيام القادسية؛ وكان سعد قد تلقى من أمير المؤمنين الساهر اليقظ كتاباً يأمره فيه بحبس الشاعر ساعة يفد. ودارت رحى الحرب بين العرب والفرس وأبو محجن مقيد في قصر القائد، فما كاد يسمع وغاها حتى عصفت النخوة في رأسه، وثارت الحمية في نفسه، واضطرب في حبسه اضطراب الأسد في قفصه. ثم زأر بهذه الأبيات على مسمع من سلمى زوج سعد:

كفى حزَناً أن تطعن الخيلُ بالقنا

وأُتركَ مشدوداً عليَّ وثاقيا

إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلَّقت

مصاريع من دوني تُصم المناديا

ص: 16

هلم سلاحي لا أبالك إنني

أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

ولله عهدُ لا أخيس بعهده

لئن فرجت ألا أزور الحوانيا

ثم قال يا سلمى: هل لك من خيرٍ إلي؟ فقالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء فرس سعد، ولله عليّ إن سلمتُ أن أرجع حتى تضعي رجليَّ في القيد. فترددت سلمى حتى تبينت الصدق في قوله فأطلقته. وركب أبو محجن البلقاء ثم دب عليها؛ حتى إذا تنفس الصبح وأشرق يوم أرماث واصطف الناس، حمل على ميسرة العدو حملة صادقة فانخلعت لها القلوب، وانخرعت منها الفيَلة، وتضعضت أمامها الفرس. وعجب العرب أن يكون فيهم هذا الفارس ولا يعرفونه، حتى قال أحدهم: إن كان الحضر يشهد الحرب فهو صاحب البلقاء. وقال آخر: لولا أن الملائكة لا يقاتلون ظاهرين لقلنا هذا ملك. وجعل سعد يقول وهو يشرف على المعركة: الطعن طعن أبي محجن، والضبْر ضبر البلقاء، ولولا محبسه لقلت إنه هو!

وانتصف الليل فتحاجز العسكران؛ وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ووضع رجليه في القيد!

وكانت سلمى قد رأت فعله وسمعت قوله فأعجبت بإبائه ووفائه وبطولته. ثم دخلت على سعد وكانت مغاضبة له، فصالحته وأخبرته بخبر أبي محجن، وسألته أن يطلقه. فأستخف سعداً ما رأى من فتوة أبي محجن ورضا زوجه، فدعاه وقال له وهو لا يزال في حماسة الإعجاب ونشوة الغبطة: والله لا أحبس بعد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على يده هذا النصر، ولا أعاقبه إذا شرب. فقال له أبو محجن وقد بدت على محياه سِماتُ النبل ودلائل المروءة:

- وأنا والله لن أذوقها بعد الساعة. لقد كنت أشربها أنفةً من أن يقول خاف الحد، فأنا اليوم أتركها رغبة في أن يقولوا خاف الله!

أحمد حسن الزيات

ص: 17

‌المرأة في شباب الرسول

للأستاذ توفيق الحكيم

لم يرو لنا التاريخ أن النبي عرف امرأة أو تحرك قلبه لامرأة قبل خديجة. فلقد كانت حياته حتى الخامسة والعشرين حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء، العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة ويلجأ إلى التأمل العميق. فلم يكن للهو والمرأة حتى ذلك الوقت مكان من اهتمامه أو تفكيره. كل ما ورد مع ذلك من أخبار لهو الشباب أنه قال ذات ليلة لفتى من قريش كان معه بأعلى مكة يرعيان غنم أهلها:(أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان). ثم خرج. فلما جاء أدنى دار من دور مكة سمع غناء وصوت دفوف ومزامير، فجلس يلهو بذلك الصوت حتى غلبه النعاس فنام في مكانه ولم يوقظه إلا مس الشمس. فرجع إلى صاحبه فسأله:(ما فعلت؟) فأخبره بما كان. وكان هذا شأنه في كل ليلة من مثل هذه الليالي

كانت العفة المطلقة إذن هي صفته الغالبة؛ وكانت الزهد والحلم والصبر والتواضع ما ميزه عن بقية الشبان، وما جعل قومه يسمونه (الأمين).

ما الذي كان يشغل رأس الشاب محمد في تلك السن مادام اللهو والمرأة لا محل لهما عنده؟ أتراه كان يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ نعم.

ولعل هذه الفكرة تملكت كيانه وطغت على كل شبابه فلم تتسع حياته في ذلك الوقت لشيء آخر.

لقد كان هذا دائماً شأن أغلب أولئك الذين انتظرتهم أقدار عظام، وتملكتهم منذ شبابهم مثل عليا وأحلام، عمرت كل أعوام شبابهم وحلت فيها محل اللهو والمرح.

إن كل شاب يعيش مع شبح امرأة جميلة إلا الشاب الموعود برسالة عظمى فهو يعيش دائماً مع شبح المجد المنتظر.

لعل هذا يفسر لنا بعض الشيء حياة الفتى محمد حتى الوقت الذي لقي فيه أول امرأة أحبها (خديجة). وإنّا لو تأملنا الأمر ملياً لتبين لنا أنه لم يكن البادئ بالحب. كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بال، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيه وقتئذ، فلقد كان يسير في طريق تأملاته الداخلية وأحلامه العليا، وكأنه لا يمشي على هذه الأرض إلى أن

ص: 18

لحظته خديجة ذات يوم ولمست كتفه فأفاق قليلاً ورفع عينيه إليها.

نعم. إنها هي التي كانت ترقبه منذ زمن؛ وأن لشعورها نحوه جذوراً ممتدة في أغوار قلبها، امتداد عرق الذهب في المنجم العميق. ما مبدأ هذا الشعور؟ لعله ذلك اليوم الذي احتفلت فيه نساء قريش بعيد لهن، وكانت خديجة بينهن عند وثن من الأوثان فبرز لهن أحد اليهود ونادى بأعلى صوته: يا نساء تيماء! إنه سيكون في بلدكن نبي يقالا له محمد، فأيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجاً فلتفعل!) فقذفته النساء بالحجارة وقبحنه وأغلظن له، إلا خديجة فأنها أطرقت وكأن شيئاً وقع في نفسها من كلامه.

ثم حدث بعد ذلك أن خديجة - وقد كانت ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام وتستأجر من أجلها الرجال - أرسلت الشاب (محمداً) في تجارتها وضاعفت له الأجر وأرسلت معه غلامها ميسرة، فعاد رابحاً ضعف ما كان تربح التجارة على يد غيره، لأمانته واجتهاده

وقص عليها عندئذ غلامها (ميسرة) وقد راقب محمداً في رحلته ما رآه من خلق هذا الشاب المستقيم الأمين، ولعله أخبرها فيما أخبر أن أحد الرهبان قابله، وأنهما تذاكرا ملياً في أمر النبي الموعود المسمى (محمد) كل هذا مع ما تشبعت به الأذهان من أساطير النبوة المنتظرة قد ألقى في روع خديجة أنها أمام شاب لا يبعد أن يكون هو النبي الموعود.

فإذا أضفنا إلى كل هذا أن محمداً كان فتى في الخامسة والعشرين كريم الخلق جميل المنظر، وأن خديجة كانت امرأة في الأربعين، أدركنا أن مثلها كان لابد له أن يحب مثله. وهل يمكن أن يسمى هذا الشعور باسم آخر غير (الحب)؟ ذلك الذي يدفع امرأة ذات شرف وثروة أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو فتى فقير يتيم؟ هي التي قد تقدم إليها أكرم رجال قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، طلبوها وبذلوا لها الأموال فلم تلفت إليهم، وأرسلت تابعتها (نفيسة) دسيساً إلى الشاب محمد تعرض عليه يدها

منبع الحب إذن كان قلب (خديجة)، ولقد كان هذا الحب سامياً قوياً عظيماً فاستطاع أن يفتح قلب محمد وأن يملأه كل تلك الأعوام التي عاشتها خديجة، بل إن الحب لم ينطفئ بموت خديجة، ولقد ظل مكانها من قلبه قائماً دائماً لم تستطع قط امرأة أن تزاحمها فيه.

هذا هو حب محمد الأول، وتلك ناحية من نواحي الفضل المجهولة لم يذكرها الناس كثيراً

ص: 19

لخديجة بما هي أهله من التكريم والتمجيد.

توفيق الحكيم

ص: 20

‌أعظم يوم في تاريخ العالم

للأستاذ عبد العزيز البشري

لاشك عندي في أن أعظم يوم في تاريخ العالم على الإطلاق، هو اليوم الذي هاجر فيه محمدُ (ص) وصاحبه من مكة إلى المدينة. فإذا كنت في حاجة إلى دليل، فسيطالعك بعد قليل.

يرى المستعرضُ لتاريخِ الأديان ودعوة الرسل أنها جازت بمراحل ثلاث، طوعاً لتطور الإنسان من البساطة والغفلة والوحشية إلى أن أصبح كفؤاً للحياة المفكرة المدّبرة التي تطلب السمو، وتنشد السعادة في ظل الأمن والنظام.

الطور الأول:

ففي الطور الأول كانت بعثة الرسل مقصورة على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والأمر بأمهات الفضائل، والنهي عن كبريات الرذائل، كما كان وعيد مخالفين الكائدين وتعذيبهم وإرسال العبرة بهم بالغاً غايةَ الرَّوعة في الفتك والعصف والتنكيل.

فلقد أهلك الله قوم نوح، بعد إذ عصَوْه وتحدَّوا دعوته، بإغراقهم أجمعين. قال تعالى:(حتى إذا جاء أمرُنا وفار التنورُ قلنا احمل فيها من كّلٍ زوجين اثنين وأهلَك إلا من سبق عليه القولُ ومَن آمَن، وما آمن معه إلاَّ قليل. وقال أركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفورُ رحيم. وهي تَجري بهم في موجٍ كالجبال، ونادى نوحٌ أبنه، وكان في معزِلٍ، يا بنيَّ، اركب معنا ولاتكن مع الكافرين. قال سآويِ إلى جبلٍ يعصمني من الماء. قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاَّ من رحم، وحال بينهما الموجُ فكان من المغرَقين):

(سورة هود)

ومن هؤلاء المخالفين من أهلكوا بالريح العاصفة. قال تعالى: (وأما عادٌ فأهلِكوا بريحً صَرْصَر عاتية، سَّخرها عليهم سبعَ ليال ٍوثمانية أيامٍ حُسوماً، فترى القومَ فيها صرعى فيها كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية. فهل ترى لهم من باقية): (الحاقة) وقال تعالى: (كذبت عادٌ فكيف كان عذابي وُنذُر، أنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمرَ، تَنزِع الناسَ كأنهم أعجاز نخلٍ مُنقعر، فكيف كان عذابي ونُذُر)(القمر) وأما ثمود فأُهلَكوا بالصواعق والزلازل. قال تعالى: (فأخذتهم الرَّجفةُ فأصبحوا في دارهم جاثمين)(الأعراف).

ص: 21

وقال تعالى: (وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغَنوا فيها)(هود).

وقال تعالى: (وفي ثمودَ إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقةُ وهم ينظرون): (الذاريات).

أما قوم لوط، فانظر ماذا أُخذوا به من العقاب الشديد. قال تعالى:(فلما جاء أمُرنا جعلنا عاليَها سافَلها وأمطرنا عليها حجارةً من سجِّيلٍ منضودٍ مسوَّمةً عند ربك. وما هي من الظالمين ببعيد)(هود).

وقال تعالى: (فأخذتهمٍ الصيحةُ مشرِقين، فجعلنا عاليَها سافلَها وأمطرنا عليهم حجارةً من سِجيَّل، إن في ذلك لآيات للمتوسمين)(سورة الحجر).

ونكتفي بهذا القدر اليسير في الاستشهاد بما كان يُؤخذ به العُصاة الكائدون من ألوان العصف والخسف والتنكيل والتدمير

وقبل أن نتحول إلى الحديث في الطور الثاني نرى من الخير أن ننبه إلى أن انقسام التاريخ إلى مراحل أو أطوار، ليس معناه أن مرحلة تبدأ من حيث تنتهي سابقتها على الضبط والتحديد، ولا أن التطور من حال إلى حال يحدث دفعة واحدة، بل إن المراحل لَيتداخل بعضها في بعض كما أن التطور لا يكون إلا بالتغير من طرفيه جميعاً بالنقص من هذا وبالزيادة من هذا، حتى يتلاشى القديم ويحل محله الجديد، وهكذا. وكذلك يكون التطور في كل شيء في هذا العالم

الطور الثاني:

أما الطور الثاني فمن أظهر مظاهر الترفُّق بعض الشيء في النُّذُر، والتخفيف في فنون العقوبات وسعة الدعوة وتبسّط التشريع، سواء في العبادات أو في المعاملات بين الناس. وفي هذا الطور أيضاً كانت تعتمد الدعوة، بقدر كبير، على تحدي بالمعجزات، حتى لقد انتهى هذا الطور بكف العقوبات وتفرد المعجزات

أما الترفق في النذر والتخفيف في ألوان العقاب، فلقد كان هذا التخفيف يتناول الكمَّ أو الكيف أو يتناولهما جميعاً. قال الله تعالى:(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) إلى قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفانَ والجرادَ والقُمَّل والضفادعَ والدم

ص: 22

آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين. ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى أدعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمَننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل. فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) سورة الأعراف

وقال تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسْرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دَركاً ولا تخشى. فأتبعهم فرعون بجنوده فَغشِيهم من اليم ما غَشِيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) سورة طه

فأنت ترى أن ما أصاب آل فرعون من الجدب ونقص الثمرات وما أرسل عليهم من الطوفان والجراد الخ لم يبلغ من الشدة والروع بعض ما يبلغ العصف والدمدمة والخسف والتدمير. أما إغراق فرعون ومن أتبع بني إسرائيل من جنده فلعصمة الفارّين من كيدهم وبطشهم، والأمر لا يعدو هنا وقع الأذى على كل حال. على أن عددهم بالنسبة لجمهرة الكافرين الكائدين جدُّ قليل

وأما المعجزات فحسبك منها معجزات موسى عليه السلام إذ ألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفِك الساحرون وإذ ضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، وإذ ضرب بها البحر فانفلق فكان كلُّ فِرْقٍ كالطَّود العظيم

وحسبك منها معجزات عيسى عليه السلام. قال تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأُبرِيْ الأكمةَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذن الله، وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين). (آل عمران)

الطور الثالث:

وبعد فإن بمعجزات عيسى عليه السلام، قد ختُم هذا الضربُ من الخوارق التي تجري على أيدي الرسل، يتحدَّون بها المخالفين المعاندين، ويثبتون بها أن ما جاءوا به إنما هو من عند الله، وكيف لا وقد أيدهم منها بما يخالف سنن الكون وينِدّ على طبائع الخلق

أما بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ففوق أنها تشارك بعثة عيسى عليه السلام في تجرُّدها من الأحداث التي مر بك بعض وصفها، فلا عصفَ ولا خسف، ولا رياحَ عاصفة، ولا زلازلَ مدمدمة، ولا شيء من هذا ولا ما دونه مما يزعج النفوس ويدخل الروع على

ص: 23

القلوب - فإن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم تمتاز بأمرين: الأول أنها لا خلاف فيها لسنن الكون ولا مغايرة فيها لطبائع المخلوقات، والثاني أنها باقية مستمرة لا تنقطع على طول الزمان. وقد عرفتَ من غير شك أن هذه المعجزة هي (القرآن)

وكذلك جعلت الدعوة الإلهية تتطور وتنمو بتطور الإنسانية ونموّها على الأحقاب

إذن لقد نضجت الإنسانية أو أصبحت على وشك النضوج، وإذن لقد تجاوز الإنسان طور القِصَر وبلغ الرشد أو أضحى على شَرَف البلوغ

لقد أضحى الإنسان حقيقاً بأن يُرفع عن نفسه الحجر، وتُطلق له حرية التصرف في استنانه مناهج الحياة. إذ قد تهيأ له لو فكّر وتدّبر، أن يعرف ما ينفعه ما يضره، وما يسيئه في الغاية وما يسره، وأن يميز بين ما يسعده وما يشقيه، وما يعزه وما يرديه. فإذا أختلط عليه الأمر أو نَزَعت به العادة إلى الهوى، نُبَّه ذهنُه، وحُرَّك فكره، وُضربت له الأمثال، وأقيمت له الحجة يصول بها العقل كَل مَصال. (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)

(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فبأي حديث بعده يؤمنون) الأعراف

(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نُصِبت وإلى الأرض كيف سُطحت، فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية. وهذان مثلان مما لا يدركه الحصر مما ورد في القرآن الحكيم

هذه دعوة محمد، وقد رأيت أن ما سبقها من دعوات الرسل إنما كان مقدمة لها وطريقاً إليها

هي الدعوة التي تسعى بالإنسانية إلى غاية كمالها من الطريق إيقاظ العقل، والفَسح في حرية الفكر، والتي تسعى بالإنسان إلى غاية سعادته من طريق اعتناق الفضائل، والتجرد من الرذائل. فبكظم الشهوة، والعفة، والرحمة، والإيثار، تستطيع هذه المجموعة البشرية أن تعيش على الأرض ناعمة بالرغد والدَّعة والسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)

ولقد دعا محمد صلى الله عليه وسلم أول ما دعا، أهلَه وعشيرته من قريش، فكذبوه وشاّقوه وآذوه وأسرفوا في الكيد له والعَنَت عليه. وكيف له باستعانتهم على بث دعوته، ونشر رسالته التي أُرسل بها للعالمين، إذ هم أشدُّ من كفر بها وصدّ عنها وبغّض فيها ونفّر منها؟

ص: 24

ولكن يأبى الله إلاّ أن يُتم نورهَ. فلقد أسلم أهلُ يثرب وآمنوا بالله ورسوله، وأعدّوا أنفسهم للذياد عن دينه مهما جشّمهم الأمر من التضحية في سبيل الله بالأموال والأنفس والأولاد. هذا شعبٌ قويٌّ بَعدده، قويٌّ ببسالته، قويٌّ بإيمانه. يدعو الرسول ليتسلَّم زمامَه، ويتولّى قيادَه، ليثبَّت من الإسلام دِعامَه، ويرفع أَعلامَه، ويَبسط في الأرض حكمَه وأحكامَه. وكذلك يهاجر محمد في سرّ من معشره العاتين إلى المدينة، حيثُ يعز الله الدين، ويذُل الشرِك، ويفتح الله لنبيه الفتح المبين، وينصره النصر العزيز

وتعلو كلمةُ الإسلام في العالَم ويسود حكُمه أقطارَ الأرض. ثم لا يمضي أكثرُ من قرن ونصف قرن حتى ينشئ بفضل تحكيم العقل وإطلاق حرية الفكر أزَهى حضارة عرفها التاريخ، تجود في ظلها القرائحُ بأجدى العلوم وأندى الفنون، مما لا تزال آثاره، ولو على أيدي غير أهله، ثابتةً على وجه الزمان!

أرجو أن تكون أنت أيضاً قد آمنتَ بأن يوم الهجرة هو أعظمُ يوم في التاريخ

عبد العزيز البشري

ص: 25

‌قومي بين الشرق والغرب

للأستاذ محمود غنيم

قومي لأنتم عبرةُ الأقوامِ

هل تُنْسبون ليافثٍ أو سامِ؟

أبناء عمي من نزارَ ويعربٍ

ليسوا بأعراب ولا أعجام

يترسمون الغرب حتى يوشكوا

أن يعبدوه عبادة الأصنام

ما قلدوهم مبصرين وإنما

تبعوا نظامهمُ بغير نظام

للغرب عادات كغازات سرت

في الشرق مسرى الداء في الأجسام

إني رأيت جيوشه لم تغزنا

في الحرب بل في ملبس وطعام

لا تأمنوا للمستعمرين فكم لهم

حرب تقنع وجهها بسلام

حرب على لغة البلاد وعادها

ليست تُشَنُّ بمدفع وحسام

والشعب إن سلمت له عاداته

ولسانه لم يخش قطع الهام

ما صاغ ربك من نضار خالص

شعباً، وشعباً من حصى ورغام

هي محض أوهام أعيذ الشرق من

أمم تعيش أسيرة الأوهام

أني أعيذ الشرق من متمسَّح

بالأجنبي لقومه هدام

إِنْ لَامَ غربيٌّ على أوطانه

أنحى بلائمة مع اللوام

وإذا رنا نحو الغريب فإَنما

يرنو بمجهر راصد الأجرام

وإذا أعار بني أبيه نظرة

فبمقلة الأعمى أو المتعامي

والعين تخدع ربها. ولربما

خلقت عمالقة من الأقزام

وإذا تنكر للحمى أبناؤه

فهمو أضرُّ له من الأخصام

ما بال بحر الروم من يجتازه

يوماً تناسى سالف الأيام؟

فإذا به خلق جديد. ما مضى

من عمره حلم من الأحلام

تتغير الدنيا عليه فكلها

في عينه نقص بغير تمام

هل تغرق العادات من أربابها

في ذلك البحر الخضم الطامي؟

ما اجتاز شرقي عجاجة موجه

إلا وعاد مزوداً (بمدام)

إن التكافؤ في الدماء فريضة

ولو أنها لم تأت في الأحكام

ص: 26

وهو القران إذا تخالف أهله

وطناً فعقدته لغير دوام

كم زيجة مازال يدَمي جرحُها

ومن الجروح ذوابلٌ ودوام

لا أعرف العربي يكشف رأسه

نحو المجالس مومئاً بسلام

إِنْ زِيرِ تخرجُ عِرسهُ من دونه

للزائرين بثغرها البسام

بدوارس الأطلال يلحق أمه

ويرى أباه رابع الأهرام

يعصي الإله. فإن أشارت عرسه

بإشارة فالقول قول حذام

ويكاد يسلخ نفسه من قومه

لو تُستطاع قطيعة الأرحام

ويكاد يمسخ خلقه لو كان في

يمناه قلب معالم الأجسام

لا أعرف العربي يلوي فكه

إن هَمَّ يوماً فكه بكلام

إن فاهَ تسمعُ لكنة ممقوتة

من فيه سكسونيةَ الأنغام

لفظاً من الفصحى وآخر نابياً

كالقار ممزوجاً بكاس مدام

لغة إذا قرعت بجندل لفظها

أذن السميع شكت من الآلام

لهفي على الفصحى رماها معشر

من أهلها. شلت يمين الرامي

لم يهتدوا لكنوزها فإَذا همو

يرمونها بالفقر والإعدام

الدر في طي البحور مخبأ

والتبر - إن تنشده - تحت رجام

لن يستعيد العُرْب سالف مجدهم

ولسانهم غرض لكل سهام

إن يرفعوا ما انقضَّ من بنيانهم

فالضاد أول حائط ودعام

أبني نزار ويعرب أوصيكمو

بذخيرتين الضاد والإسلام

إن جاءكم باسم الثقافة ملحد

في دينه فطؤوه بالأقدام

العلم وضع العالمين وإنما الأ

ديان وضع الواحد العلاّم

المسلمون على شتات ديارهم

فرض الإله خضوعهم لإمام

الله بالجُمُعات وحَّد بينهم

وبحج بيت في الحجاز حرام

دين ابن عبد الله دين باسمه

قبض الرشيد على الورى بزمام

هو دولة كبرى وملك شامخ

لا محض تكبير ومحض صيام

إن يُزْهَ شرقي بغير العرب من

أجداده الأتراك والأروام

ص: 27

فأنا الفخور بأنني لا ينتمي

للغير أخوالي ولا أعمامي

إن تسألوا عني إلى من أنتمي؟

فإلى رعاة النوق والأغنام

أبغير مجد بني نزارَ ويعرب

يُزْهى عراقيٌّ ويفخر شامي؟

(مدرسة الأورمان)

محمود غنيم

ص: 28

‌صيانة العقيدة المحمدية من احتيال النفوس

للأستاذ عبد الرحمن شُكري

نقرأ في كتب السَير عن أناس من السلف الصالح بلغت نفوسهم من الصفاء والتغلب على احتيال الأهواء مبلغاً كان للإسلام حجة أعظم من ألف حجة ودليل من الحجج والأدلة النظرية، وقد بهرت سيرتهم وقدوتهم من عرفها من غير المسلمين فأجلوا ذلك السلف الصالح من أجلها وأجلوا المسلمين من أجلهم ولو أنهم كانوا لا يؤمنون به وامتدحوه كما يمتدح الأب إذا حسنت سجايا ابنه التي بثها فيه. ولكن لا شك أن روح العقيدة الواحدة تختلف في نفوس معتنقيها باختلاف تلك النفوس؛ فإن من الناس القاسي والرحيم والكريم واللئيم والشهم والوغد والمقبل على لذات الدنيا والزاهد فيها والوفي والغادر والعالم والجاهل والذكي والغبي، وقد يعتنق العقيدة الواحدة أناس من كل هذه الطوائف ولكل منهم صفات تغلب على نفسه وتصبغ آرائه وأقواله وأعماله بلونها، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يحس ولا يعمل إلا وعليه رقيب من تلك الصفات وهي كالقيود لا يستطيع أن يخلص منها. والعقيدة في نفس معتنقها كالماء في الإناء يتخذ شكله؛ فإذا كان الإناء مستديراً كان الماء فيه مستديراً، وإذا كان الإناء مستطيلاً كان الماء مستطيلاً. وكذلك العقيدة تتخذ شكل النفس التي تعمرها. نعم إن العقيدة تخالط النفس والماء لا يخالط مادة الإناء ولا يحدث به أثراً؛ ولكن المشاهد المحقق أن العقيدة تؤثر في النفس بعض الأثر ولكنها لا تستطيع أن تحول طبائعها، وإلا لو استطاعت لما وجد بين معتنقي العقيدة الواحدة الطاهر البريء والمجرم الأثيم والسمح الكريم والوغد اللئيم والذكي الفهيم وذو الفهم البهيم والرحيم والقاسي الزنيم. فالعقيدة فيما هو مشاهد في الحياة لا تحمل النفوس على أن تتخذ شكلاً واحداً بل تبقي النفوس على محامدها ومساوئها، وكما تؤثر العقيدة في النفس بعض التأثير تؤثر النفس في عقيدتها. ومهما اشتركت النفوس المتباينة في شعائر العقيدة فهو اشتراك عام لا يمنع اختلاف النفوس في تفضيل جانب على جانب ومظهر على مظهر من مظاهر الدين، فشكل العٍقيدة في النفس الغليظة القاسية الغبية غير شكلها في النفس الرحيمة الذكية، وتتخذ العقيدة الواحدة أيضاً أشكالاً مختلف في الأمم والأقاليم والأزمنة المختلفة وهي عقيدة واحدة ذات شعائر ومبادئ لا تتغير. والناس قلما يلتفتون إلى فروق روح العقيدة في النفوس المتباينة،

ص: 29

وقلما يحسبون حساباً لهذه الفروق بالرغم من أنها قد تجعل الرجلين وهما على عقيدة واحدة وكأنهما على عقيدتين بينهما من البعد مثل ما بين السماء والأرض، وإغفال هذه الفروق يؤدي إلى الاهتمام بمظاهر الدين أكثر من الاهتمام بروحه، والدين معناه في روحه الزكية، فإن رذائل النفوس قد تستولي على مبادئ الدين وتقاليده وعرفه وأخلاقه فلا تأخذ منها غير المظاهر بل إنها قد تزكي نفسها وتهون أمر تركها روح الدين وحقيقته وأخلاقه بالاندفاع في نصرة مظاهره والانفعال في نصرتها وقد يكون انفعالاً لا يُخْفي العقلُ الباطنُ أنه بسبب أن النفس في غيظ شديد من أن روح الدين تخالف أثرتها وفائدتها الدنيوية وأنها لا تستطيع أن توفق بين ورع روح الدين وعفته وبين مطالب الحياة فتضحي بورع روح الدين كي تنال الدنيا أو بعض مطالبها حسب استطاعتها ثم تظهر الغيرة على مظاهر الدين الذي ضحت بروحه وورعه وتغتفر تلك التضحية بتلك الغيرة، والنفس في احتيالها هذا ربما كانت معذورة إلى حد ما إذا لم تغال وتشتط وتقسو وتلوم وتؤذي الناس كي تعذر نفسها لدى نفسها التي ضحت بورع الدين وكفافه وعفته وهي تحسب أنها إذا لم تستطع صيانة روح الدين والتخلق بورعه كي تنال رضاء الله ونعيم الآخرة فهي ربما تنال رضوانه ورحمته ونعيمه بهذا الاحتيال فتجمع إلى نعيم الأخرى الانطلاق في طلب الدنيا وتكفر عن نبذها ورع الدين بالاقتصاص من غيرها وتجعل هذا الاقتصاص قرباناً إلى الله بدل أن تجعل قربانها الصفاء والزهد في الدنايا والعفة عما يتطلبه نيل حطام الدنيا. ولقد قلنا إننا نعذر هذه الروح ونرحمها إذا لم تشتط في هذه الخطة، نعذرها بعض العذر لضعف النفس البشرية ولضرورات الحياة وما تقهر الحياة النفس عليه من الدنايا، ولأن النفس الورعة التقية قد تتردد فيها بالرغم من ورعها هواجس وخواطر طلب الشهوات لنفسها فتحاول أن تكفر عن تلك الخواطر التي تخشاها بالقسوة على من تحبسه مطيعا لها ولأن النفس قلما تفطن إلى باعثها على الانفعال في نصرة مظاهر الدين دون ورعه وتقواه، بل أنها قد تحسب أن الورع هو باعثها وإن كانت لا تتورع، وقلما تفطن النفس إلى أن بين الناس من يستطيعون الجمع بين المجون والقسوة والغباء وبين التدين ونشدان المثل الأعلى بالقول لا بالخلق، وهذه الاستطاعة من مآسي الحياة وربما كانت من ضروراتها المكروهة بسب ضعف النفوس ونقصها وأوضاع الحياة التي تعيش فيها

ص: 30

فينبغي لمن يريد صيانة روح الدين والعقيدة المحمدية السمحة الرضية أن يحذر عند أدائه فروض الدين وفروض الحياة وأن يحاسب نفسه حساباً عسيراً عند أداء تلك الفروض أكثر من محاسبتها عند إهمالها لأن أَلذَّ فرض وواجب وأطيبه لدى النفس وأحلاه عندها هو الواجب الذي يُمكِّنها أداؤه من أن تؤذي الناس وأن تَتَشفَّى بأذاهم من متاعب الحياة وإن كانت لا تفطن إلى ذلك. وما أشد إتلاف متاعب الحياة لصفاء النفوس خفية

فالنفس قد تفضل أداء الواجب الذي يمكنها أداؤه من أذى الناس سواء أكان الذي تؤذيه عدواً أو غريباً عنها وإن كانت تفضل أذى الأول، وأسمج فرض وواجب لدى النفس وأبغضه ليها هو الواجب الذي يتطلب أداؤه ترك شيء من أطايب الدنيا المادية أو المعنوية. والنفس قلما يعوزها عذر تحول به ما تجد فيه سعادة ولذة إلى فرض وواجب.

فنصرة العقيدة الرضية الزكية وصيانة روحها وقدسها من احتيال الروح الدنيوية تقتضي دراسة علم النفس وتطبيقه على النفوس وأعمالها وأساليبها ووسائلها واحتيالها للتوفيق بين القدسية والدنيوية ولو بمخادعة نفسها فلا شيء يقتل أمل الإنسانية في صفاء الدين وقدس فضائله من احتيال أهواء النفس على النفس وتزويرها الحقائق تزويراً يخلط بين حقد النفس الشريرة وبين الغضب المقدس للحق، ويخلط بين الباعث السامي للنفس والباعث غير السامي، ويخلط بين صيانة روح الدين وبين التكفير عن قتل روح الدين في طلب الأهواء بالانفعال في نصرة مظاهره. ومن قرأ تاريخ الأديان في العالم وجد أن بعض القبائل المتأخرة ترى مخرجاً لغرائزها الوضيعة عن طريق الدين. وفي الأمم المتحضرة يوجد أناس يسلكون في إخراج غرائزهم التي يستحيون من إخراجها على حقيقتها مسلك تلك القبائل المتأخرة إما لجهلٍ وإما لما يُسمى في علم النفس بالرجعية النفسية إلى صفات عصور الإنسانية الأولى وهذه الرجعية قد يصاب بها حتى المتعلمون وقد تظهر في أمور كثيرة غير أمور العقيدة.

وهذا غير ما يُخْشى على قدسية الدين من رياء المرائين، وأعظم ما يدعو إلى الحسرة والأسف أن ترى روحاً صافية نقية صادقةً في غيرتها على الدين طائعة منقادة لنفس مرائية تبغي حطام الدنيا، وهذه النفس الثانية أي النفس المخادعة عادة تغلب النفس الأولى، الصافية الطاهرة لأن النفس المتلهفة في طلب حطام الدنيا تخلق لها لهفتها ويخلق لها

ص: 31

غيظها وخوفها من فوات الحطام انفعالاً شديداً تحاكي به الغيرة على الدين وقلما تستطيع النفس الصادقة في تدينها محاكاة ذلك الانفعال الدنيوي الذي تمده الحياة بقوتها لأنه في طلب أمور الحياة. وقلما تستطيع تمييزه إلا إذا كان لها نصيب من الخبرة بعلم النفس وتطبيقه على أساليب النفوس ووسائلها وهي خبرة لابد منها لصيانة روح العقيدة المحمدية السامية.

ومن الأخطاء التي يقع فيها المفكرون وغير المفكرين أن يحسبوا أن الإنسان على مستوى واحد لا يتغير من حيث روح الدين في نفسه ومن حيث فضائله، والحقيقة هي أن النفس الإنسانية في الحياة كالطائرة الهوائية التي تصادف جيوبا هوائية كثيرة مختلفة الضغط الجوي فتظل ترتفع وتنخفض فجاءة، ولكن كل إنسان يريد أن يستثمر ارتفاعه لمغالطة الناس كما قد يغالطهم في انخفاضه ويعده ارتفاعاً ويوهم أنه كذلك بقوة الإيحاء. وهو لو قصر المغالطة على قوة الإيحاء لهان الأمر ولكن أشد الضرر بروح الدين أن يتخذه المرء وسيلة للإشادة بعلو قدره وإعلان انحطاط قدر عدوه أو عدو صديقه أو عدو قريبه أو من يعاديه قريبه فيصبح الدين في نظره قوة دنيوية للكسب كقوة المصاهرة أو المسامرة أو كقوة المال.

عبد الرحمن شكري

ص: 32

‌حرارة الأيمان

للدّكتور إبراهيم بيومي مدكور

ما أرهب ذلك الجيش السائر والبحر الزاخر والجمع الثائر يخوض غمار المعركة في عزمة رجل واحد وهمة قلب صادق فلا يلبث أن يكتب له النصر ويفوز بالغلب على من تفرقت بهم الميول والأهواء! وما أروع تلك الرءوس الحاسرة والأجسام شبه العارية تجتمع في صعيد واحد تسبح الله وتناجيه فلا تخشى بأس حر ولا برد، ولا تألم من صر أو قر! وما أخشع ذلك الناسك الذي حرم نفسه لذيذ الطعام والشراب واستطاب الخشن وغليظ الثياب، وضوي جسمه من طول الركوع والسجود، واحمرت عيناه من البكاء والسهر. كل هؤلاء قد استولت عليهم فكرة وتملكتهم عقيدة، فساروا وراءها طائعين، وائتمروا بأمرها راغبين لا راهبين

وكم من أفكار نسلم بها وآراء نوافق عليها ودعوات نصغي إليها، ولكن طائفة قليلة منها فقط هي التي تنفذ إلى قلوبنا وتمتزج بأرواحنا، فنُصبِح طوع إرادتها ورهن مشيئتها، وما ذاك إلا لأن الدعوات لا تتجه دائماً إلى القلب ولا تخاطب كلها الروح؛ فمنها ما يرمي إلى غاية مادية يتشبث من يرجو أن يساهم فيها بنصيب، ويطمئن إليها من آثر العاجلة على الآجلة. ومنها ما يقوم على الحجة والبرهان والبحث والتعليل، ولغة المنطق لا تلائم الناس على اختلافهم ولا يسمو إليها جمهورهم وعامتهم. لذلك كان أكثر الدعوات حظا من النجاح ألصقها بالقلب وأقربها إلى الفؤاد، وبقدر تفاوت الدعاة في القدرة على تحريك العواطف وإثارة الشعور تتفاوت آثارهم ويزيد أو ينقص عدد أتباعهم، وعن هذا الشعور تنبعث حرارة الإيمان المتأججة، ومن تلك العواطف يتولد صدق العقيدة الباهر، وفي القلب قوى خارقة للعادة وفي الروح أسرار تلين الحديد وتنسف الجبال ولا تبالي بصعاب

هناك ضربان من الإيمان لا سبيل إلى خلطهما ولا إلى إنكارهما: إيمان العقل وإيمان العاطفة، أو أن شئت فقل: إيمان البرهان والتعليل والحجة والدليل؛ ثم إيمان الشعور والإحساس والقلب والروح؛ في أحدهما هدوء التفكير ورزانة المنطق، وفي الآخر حمية الوجدان ونشاط العاطفة. ولئن كان الأول قد استنار بنور الحجة وقوى على مجالدة الخصوم ودفع الشبه، فإن الثاني ينبعث من قرارة القلب وأعماق الفؤاد ولا يرى نفسه في

ص: 33

حاجة إلى برهنة واستدلال، ولا يأبه مطلقاً بخصوم ولا معارضين. والدعوات سياسية كانت أو دينية، إنما تقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا بها بأرواحهم، فأصبحوا ولا يعز عليهم مطلب ولا تبعد عنهم غاية. وكم سمعنا أن قائداً تسلق مع جنده الجبال واخترق البحار وخاض غمار الشرق والغرب دون أن يتخلف عنه متخلف، أو يقعد عن مناصرته الأتباع والأعوان. وكم روى لنا التاريخ من أخبار زعماء سياسيين أو دينيين كانت إشارتهم وحياً وكلمتهم أمراً، إذا ما تحركوا تحركت الألوف المؤلفة، وإذا ما دعوا لبى الجميع. فإذا ما فترت الدعوة وضعفت العقيدة وخمدت حرارة الإيمان الأولى، أخذ الناس يبحثون في معتقداتهم ويعللون ويناقشون ويعارضون

لهذا كان لابد لكل عقيدة من غذاء، ولكل دعوة من مواد تلهب الشعور وتنمي العاطفة. وما الطقوس الدينية والصلوات المفروضة والأدعية الخاشعة والذكر الدائم والقرابين المتكررة، إلا وسيلة من وسائل جذب النفوس نحو عالم النور والألوهية والإيمان والعقيدة. وعلى نحو هذا يجدُّ السياسيون في إقامة الحفلات، وتنظيم الدعوات والمظاهرات، وإلقاء الخطب المثيرة للجماهير. وإذا استطاع الزعيم أن يكون سياسيًّا ودينيًّا في آن واحد، أو بعبارة أخرى، سياسيًّا وصوفيًّا، توفر لديه كثير من أسباب الغلبة والفوز. وهانحن أولاء نرى زعماء العصر الحاضر يخلطون حركاتهم السياسية بآراء تتصل بالدم والجنسية والدين والعقيدة؛ فالهتلرية مثلاً نظرية سياسية تعتمد على دعائم روحية وصوفية، وهذا من غير شك عامل كبير من عوامل نجاحها وتقدمها. ولقد أجادت سبل الدعاية وأتقنت طرق تنظيم الأتباع إلى طوائف وجماعات يميزها زي خاص وشارات معينة، فزادها هذا تقديساً لإرادتها واستمساكاً بنظريتها. ولعل أعون شيء على تنمية الإيمان والعقيدة أن يحس المؤمن أنه عضو في أسرة وجزء من مجتمع، وأن يشعر المعتقد أن عقيدته ذات سيادة شاملة وسلطان عام. وما نراه من تعصب أعمى أحياناً وغلو في الدين أحياناً أخرى إنما منشؤه تغلب العاطفة على العقل والرغبة في أن نحمل الناس على اعتناق كل ما ندين به من أفكار

اختلف علماء الكلام المسلمون - كما اختلف رجال الدين من المسيحيين - في حقيقة الإيمان، هل يزيد وينقص وهل هو إذعان قلبي فقط أم هو اعتقاد بالجنان ونطق باللسان

ص: 34

وعمل بالأركان. وكأني بهم جميعاً قد تناسوا جانبه العاطفي، ولو ذكروه ما وقعوا في كثير من خلافاتهم. فالإيمان على أنه حقيقة وفكرة قد لا يقبل الزيادة والنقص، أما الإيمان الذي هو عاطفة تتأجج لحظة وتخمد أخرى فثمة مجال فسيح لزيادته ونقصه، ويتبع هذا طبعاً أن يكون الاعتقاد قوياً أو ضعيفاً جازماً أو غير جازم. ولا شك في أن الأعمال الخالصة تنميِّه والأقوال الصالحة تغذيه، ومن ذا الذي ينكر ما للدعوة والإرشاد من أثر في تربية النفوس وتهذيبها وما للتقرب والعبادة من قدرة على ربط الأرواح ووصلها بعالم النور والفيض

ولا يضير الاعتقاد في شيء أن يُدْفِئه القلب بحرارته، وتمده الروح بأسرارها. والعواطف كانت ولا تزال، من أهم بواعث التفكير ودواعي العمل. والجماهير أخضع عادة للغة القلوب منهم للغة العقل والمنطق، ورب عاطفة قوية أعون على تحقيق غايات سامية من تفكير عميق.

إبراهيم مدكور

ص: 35

‌عندنا غدهُم

للأستاذ عبد المنعم خلاف

الغربيون يبحثون عن غد يشرق عليهم ضحاه وهم في سلام وطمأنينة على ميراث العلم والمدنية وقد صار نفيساً عزيزاً على الذين بنوه بضياء العيون وحُرّ الدماء وحبس الأنفاس في المعاهد والمعابد والمعامل، فهم لذلك يخشون في لهفة أن يهدمه البطر والجشع في لحظة واحدة فتذهب مدخرات الإنسانية من العلم والمتاع. . . ولا ينفك آباء الحضارة وعلماء الاجتماع يرسلون روادهم للبحث عن غد يوحي إليهم فيه الواقع أن ينشدوا نشيد السلام الذي سمعه الرعاة من السماء ليلة ميلاد المسيح (وعلى الأرض السلام وللناس المسرة) لأنهم وجدوا أن الواقع يكذب هذا النشيد منذ ميلاد المسيح إلى اليوم كما يقول القس إبراهيم سعيد في جريدة الأهرام عدد 25 ديسمبر سنة 1938

ونحن المسلمين الذين يتمثل فينا العقوق لأنفسنا وللمدنية، نرى الإنسانية جاهدة في البحث عن ذلك الغد، تشقى أمام عيوننا وتشقينا معها ومع ذلك لا نحرك المفتاح في باب الكنز المرصود العجيب الذي فيه لآلئ الصباح وذهب الضحى. .

وأقسم للحق ولكل حر الفكر! أنني لا أتكلم كمسلم يقول تقليداً لقول أبيه وأمه وأمته، وإنما أقولها بعد أن أنضجتها حجج الأيام ونهض بها كل قائم في الفكر والحياة والزمان!

ولست كاهناً ولا رجلاً يحترف الدين للعيش ينادي على بضاعته في الأسواق. . . وإنما أنا باحث كسر عنه كل قيد ليظفر بالحق خالصاً من غير تقليد ورجا أن يوفقه قيوم السموات. . .

ثم أقسم أنني لا أريد أن أتملق من يسمون أنفسهم مسلمين ولا أن أسير في مواكب أناس لا يدرون لماذا هم فيها سائرون ولا يسألون لماذا يسيرون. . . وإنما أتكلم بقلب إنساني خالص للإنسانية. . . للقطيع الشقي الذي ما ظفر إلى الآن براحته من حل تلك المشكلات الكبرى: الاعتقاد، والعيش، والعمل. ولم يتفرغ بعدُ للقبض على مفاتيح الطبيعة التي خوله الله إياها لأخذ أسرارها المخبوءة فيها حتى تصعد بها روحه إلى السماء في سلام ورضا

إلى الآن لم يظفر ذلك المخلق التائه بنعمة الاستقرار وإتاحة الفرصة لعلمائه أن يجاهدوا في الكشف عن عرائس أحلامه؛ لأن كباش القطيع لا تزال تتهارش وتتغنى بمجد الأنياب

ص: 36

والأظفار. لا تزال خيلاء المجد مجد الديكة المنتفشة المزدهية تسوق الناس في ضباب من الشعر إلى الجحيم. . حتى المسلمون قد أخذهم الهول من كل جانب وغشى ضباب الزمان وظلال الإنسان على عيونهم فنسوا ما بين أيدهم من العواصم. . . نسوا مضخات الحريق واندمجوا في المحترقين. . .

ما الذي نملكه لإصلاح غدنا وغد الناس؟

سأجرد الأهم من التركة فاقرءوا الأسماء:

نملك اعتقاداً صافياً ليس فيه شيء يفسد على العقل الإنساني أُلْفَته؛ إذ أن إلهنا هو إله الطبيعة الذي يدرك العلماء والحكماء والفلاحون السائرون على الفطرة أسماءه وصفاته كما ندركها نحن.

ونملك سماحة في النظر إلى القاصرين الذين لم يدركوا إدراكنا ولم يعتقدوا اعتقادنا ولا نحمل أحداً على ترك دينه إلى ديننا كرها.

ونملك فهماً واسعاً وتقديراً جميلاً لمجهود المجاهدين من الرسل السابقين كتقديرنا لرسولنا.

ونملك سلاماً عميقاً في أرواحنا ننشد له في صلواتنا نشيداً لم يترك جهة من جهات الحياة إلا ألقى عليها الأمان والدعاء: فسلام على النبي، وسلام على العباد الصالحين للحياتين، وسلام على النفس وإيحاء لها به في هذا الموقف العظيم بين يدي رب الحياة ودخول في السلم كافة وجنوح إليها مع الجانحين، وتحية بيننا سلام.

ونملك كتاباً تنزل آياته دائماً من السماء. . . لأن صور الدنيا وحرب الخير والشر وتقلبات النفس في الهدى والضلال ومظاهر المجتمع وظواهر الطبيعة هي مادة ألفاظه وهي مادة الحياة.

ونملك حلاً دائماً لمشكلة الفقر والغنى مشكلة المجتمع. . . مادة الدمع والدم، مادة الدعوات والأحزاب، مادة الثورات والحروب.

ولا ندين بعصبية جنسية ولا دموية ولا لونية. ولا نقدس الوطنية والمحلية هذا التقديس الوثني الضيق.

ونملك الرحمة بكل حي ذي كبد رطبة إنساناً أو حيواناً، عدواً أو صديقاً.

ونملك تقديس حريات الحياة فلا يهدر حق نفس في نظامنا إلا بحق الحياة.

ص: 37

مأمورون بصداقة الطبيعة لأنها باب ربنا ومصدر علومنا وأستاذ عقولنا. . .

أخلاقنا هي كل ما يرفع النفس ويسمو بالحياة.

محرماتنا هي كل ما يفسد الجسم والنفس.

اللذات الطيبات وزينة الحياة هي عندنا أعمال دينية إذا ذكرنا فيها اسم رب الحياة، واستحللناها بكلمته وإذنه، ونظرنا إليه في متاعنا بها كما ينظر الأطفال إلى أبيهم وهم يأكلون وينعمون!

العلم عندنا تعبد، لأنه يرينا يد الله في كل شيء. . . ويجعل لنا الطبيعة محاريب دائمة لصلاة الفكر.

هذا هو ميراثنا مضغوطاً في ألفاظ معدودة يضعها كل مسلم حقيقي في عقله وقلبه. ثم يسير في الحياة عاملاً ساعياً للمجد والحق إلى أن تخرجه من الدنيا اليد التي أدخلته إليها. . .

أفلا يرى كل عاشق للفكر والحق والسلام والصلاح أنه مضطر إلى أن يقف في صف الحراس لهذا الميراث، وأن يجاهد في سبيله ما وسعه الجهاد؟

أفلا يرى كل من يحس بنفسه، ويفكر في وجوده ووجود دنياه أن راحته النفسية وألفته العقلية، ونوازعه الشريفة تتطلب منه أن يقدم جسده ليكون ثوباً لهذه المعاني تلبسه وتسعى به، وتبطش في حرب الخير والشر؟

أيها الملحدون من أبناء المسلمين!

هل آن لكم أن تعيدوا النظر بهدوء في مفردات هذا الميراث لتروا أننا لسنا مخرفين ولا هارفين، وأننا لم نعشق خيالاً، ولم نَضع ضلالاً؟

ألا ترون إن الجهاد في هذا السبيل إنما هو جهاد للإنسانية لا لعصبية جنسية ولا لغايات اقتصادية، وأن خير ما تقدمونه للغرب الآن مكافأة له على جهوده في سبيل العلم هو هذه المعاني الإسلامية التي يحتاجها بالذات، ويرسل من أجل مثلها رواده ويرصد أرصاده؟

إن الغرب كفر بالدين لأسباب تعلمونها. . . وليست هذه الأسباب في الإسلام، حتى تكفروا به. وإن أفق الإسلام هو نفس الأفق الذي تتجه إليه حياة الفكر والحكمة والحرية.

وإن أصول الإسلام هي خلاصة الاتجاه الديني في نفس الإنسان منذ فجر التاريخ إلى الآن، هي أصول ثابتة في الأرض فارعة في السماء ثبات الحق والعقل.

ص: 38

كل ما في الغرب جاءنا وعرفناه؛ فما كان فيه من خير وجدناه في ميدان الإسلام، وما كان فيه من نقص وجدنا كماله في الإسلام.

فماذا يحملنا على خلعه وإهداره إلا الضعف والسفه؟ ما الذي يحملنا على السير وراء قافلة ضائعة في بيداء ونحن في الطريق الواضحة التي عليها صُوىً وأعلام؟

ربما يكون السبب في تمرد بعض النفوس على الإسلام أن كثيراً ممن ينتسبون إليه الآن هم لعنات مجسمة تجمع القبح والجهل والسوء وتمشي في الأرض مشي الطاعون. . .

ولكن لأجل هذا يجب أن نجاهد. . . لأجل إنقاذ الإسلام من هذه الأجساد التي تلتصق به كما تلتصق القاذورات بمحراب جميل يجب أن نجاهد. . .

نريد أن نخلصه من المنتسبين إليه زوراً ونعرضه على الجاهِلية كأنه حقيقة تاريخية ضائعة قد عثر عليها باحث منقب في بطون الكتب والأسفار أو طبقات الأرض. . أجل، من مصلحة الإسلام أن يدرس على أنه نظرية ليس لها أناس يتبعونها وأن محمداً صاحب الإسلام قد ظلم في الماضي أكبر ظلم وقع على رجل في التاريخ! فلقد شوه الجهلة والمتعصبون والمجرمون اسمه في أوربا كتشويه اسم الشيطان. . . كل هذا لأنه نبي رسول من الله! والمسلمون الآن يشوهون اسمه بالجهل والذل. . .

وأقسم بالعدالة! أن محمداً لو لم يكن رجلاً إلهياً ممدوداً بوحي الله، وكان رجلاً بشرياً من أبطال التاريخ كالاسكندر أو سولون أو نابليون أو هولاكو. . . إذاً لحضي من تقدير الأوربيين بما لم يحظ به بطل. . .

إن ذكريات ابن سينا والفارابي والزهراوي وابن رشد والبتَّاني وغيرهم يحتفل بها في مجامع أوربا ويدرس تاريخها بنزاهة مع أنها ثمرات ضئيلة من ثمرات محمد. . . ولكن محمداً رجل الخير المطلق والحق المطلق لا تقام لذكرياته حفلات وجمعيات، وإنما تلصق به كل شنيعة وعضيهة. . .

بل لقد ظلم من كثير من أتباعه أيضاً؛ لأنهم صاروا يحسبونه رجلاً من رجال الآخرة فقط. . . يعد النفوس للموت وما بعده ولا يعدها للحياة هنا، فاتخذوا القرآن أوراداً وتسابيح وتعاويذ وتمائم، وتركوا التفكير والعمل بما فيه من آيات القوة والمجد والعزة والإعداد لهذه الحياة الدنيا. . . وافتتنوا ببضائع الفكر المجلوبة من الغرب كما افتتنوا ببضائعه المادية

ص: 39

كالأحذية والخمور. . .

ولكن روح الحق لا تموت، وعين العدالة الإلهية لا تنام، وما كان الله ليضيع إيمان الناس وهو الذي تعهدهم بالرسالات كلما ضللتهم قوى الشر عن طريقه. ولذلك ابتدأ يزلزل عناوين النظم الأوربية ويضرب بعضها ببعض أمام أعين المسلمين حتى يعود لهم يقينهم بثبات عناوين الإسلام

ولا يزال روح الحق الذي تمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم يجذب إليه الأفكار الحائرة والقلوب الضالة التي تبحث عن الحق والسلام. فتقيم له موازين الإنصاف بعد الإجحاف. ويخطئ من يضن أن الإسلام قد انقضى عهد عزته في القلوب والعقول، فإن عزة الإسلام لا تكون إلا في أيام العلم والحرية، ولا يذل إلا في أيام الجهل والاستبداد

هانحن أولاء نرى من سير التاريخ الحاضر أنه كلما تقدم الزمان بالمسلمين خطوة إلى العلم والحرية، تقدم بالإسلام إلى الحسنى

إن رسالة محمد ليست تبنة تذهب في الريح أو ورقة جافة تحرق في موقد، أو بدعاً من بدع الزمان يذهب بذهاب جيل وفناء قبيل وإنما هي مَرَدُّ الحق والخير وخلاصة جهاد الذين جاءوا بهما إلى الناس من عهد آدم إلى يومهم هذا

وإن الذين يعرفون ما في الإسلام من سعة وعمق واستيعاب يدركون تماماً أنه إنما يليق لمثل هذه الأزمنة التي نعيش فيها وما بعدها أكثر مما كان يليق بالأزمنة الماضية

وإن ما فيه من الحرية والمساواة والأخوة والتسامح والسلام والفكر لا يمكن مطلقاً أن يفهم فهماً صحيحاً إلا على ما في عصرنا الحاضر من تجارب. فعلينا أن نفهم ونؤمن به ونعمل له عمل المتقدمين

(بغداد - الرستمية)

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 40

‌من التاريخ الإسلامي

هيلانة ولويس

للأستاذ علي الطنطاوي

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر!

ولقد أسدل الليل فروعه السود، فغطى على المعركة اللافحة الأوار، وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث، وهذه الأصلاد المصّبغة بالدم، وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان. . . فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكلال، وهجعوا كالقتلى لا يحسّون ولا يحلمون، وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصّم التي تحيط بها من كل جانب. . .

وتلك هي الحرب، آفة الحياة، وعار الإنسانية!

تلك هي الحرب: تنفجر الأذهان بالعلوم والمعارف، وتنفرج الأيدي عن الصنائع والمصانع، واللطائف والزخارف، وينفق الوالدون النفس والنفيس لتنشئة الأولاد وتهذيبهم، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة، وأزهرت الفنون وتقدمت، وارتفعت المصانع وسمت، وأخذت الحياة زخرفها وازيّنت، جاءت الحرب فأودت بذلك كله، فجعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. . .

فيا ويل الحرب. . . ويل لها ما لم تكن دفاعاً عن شرف أو حياة أو دين!

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر، إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفرجها ضوء خافت، ويسمع من جوفها همس ضعيف، لو أنت أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان الإفرنج تقول لصاحبة لها:

- ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة، وما الذي جدّد أحزانك، وهاج آلامك؟ أفزعت من هذه المعارك العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن (قبر. . .) المسيح؟ أم هو الحزن على لويس قد خامر نفسك؟ لا تحزني يا هيلانة فقد كان مقدراً عليه هذا المصير؛ ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً، فاصبري يا أختاه، فإن لويس في السماء. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية؟ فلا تدعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة التي

ص: 41

تحتاجين فيها إلى الصبر والجلد!

وسكتت المرأة وعاد السكون يغمر الدنيا. . . ومضت فترة طويلة لم يسمع خلالها نبأة، ولكن النور الضعيف لبث منبعثاً من شقوق الخيمة. . . ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف، أو ميت محتضر، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره، فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها وحشة وهولاً. . . فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر، وكانت في الثلاثين من عمرها، ذات عينين زرقاوين واسعتين، وشعر كستنائي اللون، وبشرة بيضاء ناعمة، وكانت جميلة جذابة، ولكن في أنفها طولاً ينأى به عن الجمال. . .

كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت السفوح والصخور، وتمدّ البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها، وتفكر في هذه الحياة المروعّة التي تحياها، فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها، يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور (الألب) لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحدّه شرقاً منعطف الوادي، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق، ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفتانة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل، وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى. لقد كانت ترى من يوغل في الوادي، ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلاً من الأبطال؛ أما هذه الجلاميد، وهذه الذرى المشرفة على القرية، فلم تفكر يوماً من الأيام في البحث عما وراءها، ولم ترتق بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها. . . فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً! وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟

واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصور لها وهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء، ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويذهبوا ظمأ أجسامهم، وليرتووا من العيون الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحبّ. . . فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. .

ص: 42

ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ أن تكاشفه بحبها. . . وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمرّ في موكب حياتها بهيّاً مشرقاً، على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات. . . فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، إذ قد أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها، وأثرها على شفتيها. . .

لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى الكنيسة لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها، فتتوجه فيها إلى الله بالصلاة التي حفظتها. . . وتمشي فتطوف في الغابة يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل! ذ

كانت القرية كلها في أمن ودعة، حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة ألقيت فيها صخرة من الجبل. . . كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل اللذة، تنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً للصلاة، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي بحمد ربها فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي. . . فلم يفسد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي في الوادي، يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه، فيسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر، وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها وأبدلت بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً، وذهب القوم يستقرون الصوت ويتقصونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح، وطفق يلقي عليهم باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى، ما يفهمون ومالا يفهمون؛ وكان يمر في كلامه (الخطر الداهم) و (المسيح) ثم عرض عليهم صورة (القبر المقدس. . .) الذي ينزل عليه النور، والذي يحجون إليه ويتبركون به. . . وقد قام فارس

ص: 43

من فرسان المسلمين، فوطئه وأهانه وجعل الفرس يبول عليه. . . وكان يعرضها باكياً نادباً ناتفاً لحيته، منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين، ويدعو إلى إنقاذ (القبر. . .) من أيدي (الكفرة المسلمين. . .) فذهب الهياج بالعقول، وأطار الأفئدة، وألغت الحماسة المنطق، ونسي الناس كل شئ إلا هذه النار التي سرت في العروق، ومشت إلى الدماغ فألهبته، فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون، إلى إنقاذ (قبر المسيح. . .) من أيدي (الكفرة المسلمين. . .) الذين أهانوه وحقروه!. . .

وكانت هيلانة وزوجها من المؤمنين، فلما قالوا لهما إن المسلمين أكلة لحم البشر، وإنهم ذئاب الإنسانية، وإنهم عدو على المسيح. . نهضا يدفعهما الإيمان الذي عبث به القسوس، واستغلوه وأوقعوا في أبناء آدم هذه المذبحة المروعة، فأخذا الطفل الوليد وسارا مع الجموع - نحو بيت المقدس. . .

وعاودتها ذكرى زوجها الحبيب، فانفجرت باكية، فأيقظ صوتها صاحبتها فخرجت تراها. . .

- ما لك يا هيلين؟ لماذا تبكين؟ لم لم تنامي؟

فلم تجب واستمرت تبكي، فعادت ترفه عنها وتواسيها.

- ماذا عراك يا هيلانة؟ أجيبي، كلميني، لا تقتلي نفسك بسكوتك.

- لويس!

وخرج اسمه زفرة متصعدة من أعماق القلب، غارقة بالدمع، وعادت تبكي.

- اصبري يا أختاه. إنه في السماء، ثم إن عندك لويس الصغير، ألا تسمعين كيف يبكي؟ إنه ابنه يا هلين، ابن الحبيب، فعيشي من أجله. أريه ألوان لسرور والمرح، تسعد روح لويس في سمائها. هاك الطفل يا هيلانة، ألا ترين أن بكاءك يؤلمه؟

فأخذت هيلانة الطفل، تضمه إلى صدرها، وهي مغمضة العينين، وتقبله في عنقها الدافئ، وتمرغ وجهها في صدره. ثم تضع خدها على خده، وهي تهمس باسم لويس، كأنما تذكر فيه مولد الحب وقبلاته الأولى. . .

- 2 -

وهجعت هيلانة وصاحبتها، وانطفأ هذا النور الكليل الذي كان ينبعث من الخيمة، ومرت

ص: 44

من الليل ساعات. . .

وكان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من الخيمة السلطان، وكان الجند نائمين يستريحون من عناء النهار الماضي الذي خاضوا فيه حرباً من أشد ما عرفوا من الحروب، وبذلوا جهد الجن حتى استطاعوا أن يشقوا الطريق إلى (عكا) المحصورة، وكان المدد يتتالى على جيش العدو من البحر، وكاد يجزع المسلمون عندما رأوا الإمداد، ولكن منظر السلطان ثبتهم، فقد كان ينظر إلى المراكب تحمل الصليبيين إلى البر، فلا يثنيه مرآها ولا يدخل الروع إلى قلبه، بل كان يراها مستبشراً متفائلاً مؤمناً بنصر الله. ولقد خبّر القاضي ابن شداد رفيق السلطان الجند وقص عليهم أن السلطان عدّ بنفسه من العصر إلى الليل سبعين مركباً نزلت إلى البر تنقل المدد والذخيرة فما ضعف ولا اضطرب، ولا تغيّر اعتقاده بالله الذي يعتقد بأن النصر من عنده. وكان السلطان أشد القوم تعباً لأنه كان يباشر أمور الحرب بنفسه، وينتقل خلال المعركة، ويعرض روحه للمهالك، ثم يبيت الليل ساهراً يدبر أمور المسلمين لا يبالي راحته ولا صحته في سبيل إعلاء كلمة الله.

في تلك الساعة كنت تلمح رجلين يتقدمان في الظلام يريدان معسكر المسلمين، وهما يخطوان بحذر، ويقفزان على الصخور بخفة ونشاط، وقد حمل أحدهما هنة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق، وأحاط بها يسراه بعناية، وأمسك بيمناه السيف مصلتاً خشية أن يفجأه كمين أو يعرض له عدوّ في هذه الظلمة الحالكة، وكانا صامتين. فلما جاوزا (اليزك) ودخلا مسكر المسلمين وأمنا، وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان وقد أبقى الأول حملة على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به، وقال لرفيقه:

- ماذا ترى السلطان قائلاً لنا؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال، وألا نمس الأعزل بسوء، وأن ندع القسوس، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند؟ أفلا تحسبه يكره ما أتينا هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه؟

فأطرق الثاني كأنما كان يفكر في غضب السلطان، ويبحث عن سبيل الخلاص من هذه

ص: 45

الوهدة التي سقطا فيها، ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له:

- لماذا يغضب؟ أليس الله قد أباح لنا أن نردّ العدوان بمثله؟ أما بدأونا هم بمثل هذا أول مرة، وروّعوا نساءنا وسرقوا أطفالنا فلما صبرنا عنهم وترفعنا عن مقابلتهم بمثل فعلهم، ظنوا ذلك عجزاً منا فأوغلوا في عدوانهم الآثم الدنيء؟ أفندعهم يفعلون ما يريدون لا نمدّ إليهم يداً؟

واطمأن الأول إلى هذه الحجة، فقاما يسيران في هذه البقاع التي كانت في ما مضى رياضاً زاهرة وتلالاً خضراء معشبة، فجعلتها الحرب قفراً خالياً، وقبراً واحداً مفتوحاً، وألبستها ثوباً دامياً من أشلاء أبنائها، حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة فعلما أنه لم ينم، ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به، لأنه كان يطلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة. . .

ومرت ساعة ومال ميزان الليل وهما واقفان، فسمعا حركة ورأيا رسولاً يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها، فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي ثم خرج الرسول على عجل، وخرج من بعده ابن شداد معلناً أن السلطان سينام قليلاً، وكان ذلك في السحر. . . فأيس الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح

ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان، وكان صديقاً له، فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروّعاً هو أن جيشاً من الصليبيين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل، فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه فأصبح المسلمون بين نارين

تفكر السلطان في الأمر، ثم جمع الملوك والقواد ولم يكن يقطع أمراً دون مشورتهم، فهبوا من فرشهم، وجفوا راحتهم في هذه الليلة العصيبة التي يلتمس الراحة في مثلها أشد الناس مراساً، وأكثرهم صبراً، فلما اجتمعوا عرض عليهم الأمر، فبذلوا له طاعتهم، ولكنهم تهيبوا الإقدام على هذين الجيشين، واضطربوا لهذا الخطب الذي لم يتوقعه أحد منهم، ولم يكن هؤلاء الملوك والقواد من الجبناء الرعاعيد، بل كانوا أبطال الحومة، وسادة الجلاد، ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل الصليب كلها حين جاءت يحدوها التعصب

ص: 46

الذميم، ولا الشجاعة التي ردّوا بها هذه الجحافل الجرارة، وقسموها قسمين، قسم مصرُّع على الثرى قد ذهب ضحية العدوان الآثم، وقسم طائر على وجهه فزعاً لا يدري أين المحط، فتصدّع الخميس العرمرم تحت ضرباتهم المسددة وهتافهم المظفر، كما يتصدع القطيع من الغنم إذا سمع صوت الأسد وأخس أنيابه. . . ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه، ولا النهاية الماجدة التي ختمت الوقائع الماضية التي خاضوا غمرتها، ولكن لم يكن في تلك المعارك مثل هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول. . . فغاضت الحماسة من صدورهم وإن لم تنفد، وسكنت قليلاً لتستجم وتنهض من جديد؛ أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين، وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها، وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة، ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان وخلاله البارعة وبطولته الفذة التي تحققت مرتين فقط في تاريخ البشر كله: في عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، ولم تعرف في غيرهما إلا خيالاً يلوح ولا يظهر، وإشارات تلمح ولا تبصر!

فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم. ولبث وحده مهموماً يفكر. . .

قال الرجل: فماذا فعل السلطان كان الله له؛ كم يحمل وحدهم الأهوال التي تخرّ تحتها الجبال، وتعجز عن حملها الأمم!

قال ابن شداد: جلس يدبر أمره، ويرسم خطط القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله، فسألته أن ينام ساعة فيستريح؛ فظن أني قد نعست فقال لي:(لعلك جاءك النوم.) ونهض. . . فخرجت أمشي إلى خيمتي فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذن الصبح. فعدت لأصلي معه على عادتي، فوجدته يمر الماء على أطرافه فقال لي حين نظر إليّ:(ما أخذني النوم أصلاً) فقلت: قد علمت. قال: من أين؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم

ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، وجعلت أفكر في أمره وما يحمل من الهمّ وما ورد عليه من الشدة وذكرت أن قتيبة بن مسلم وقع في إحدى الشدائد وهو يحارب الأتراك وضاق به الأمر، وتكاثر عليه العدو، وبذل كل ما يستطيع من القوة والمكيدة فلم يغن ذلك عنه شيئاً. فقال: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومي بإصبعه نحو السماء. فتهلل وجه قتيبة واستبشر ووثق بالنصر، وقال: والله لتلك

ص: 47

الإصبع الفاردة أحب إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير. فلما فتح الله عليهم قال له: ما كنت تصنع؟ قال كنت آخذ لك بمجامع الطرق

وذكرت أن قواد المسلمين الذين دوخوا العالم، وأخضعوا الممالك، وملكوا الأرض، لم يملكوها بقوتهم وعددهم وإنما ملكوها بإيمانهم والتجائهم إلى الله، ورأيت السلطان قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، وباع نفسه من الله، ولم يقصر في فريضة ولم يهمل نافلة، بل كان ينزل حيثما أدركته الصلاة فيصلي ويسمع الحديث بين الصفين، ولم يعرف عنه ميل إلى دنيا أو حرص على لذة من لذائذ العيش. فأيقنت أن دعاءه لا يرد، وأنه هو الولي إن عدّ الناس الأولياء، وهو التقي إن ذكر الأتقياء. فقلت له: قد وقع لي واقع وأضنه مفيداً إن شاء الله

قال: وما هو؟ قلت: الإخلاد إلى الله، والإنابة إليه، والاعتماد في كشف الغمة عليه

قال: وكيف نصنع؟ قلت: اليوم الجمعة، يغتسل المولى ويصلي ويتصدق بصدقة خفية على يد من يثق به ويدعو الله وهو ساجد فيقول:(إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبقى إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك. أنت حسبي ونعم الوكيل)

وإن الله أكرم من أن يخيب من يلتجئ إليه!

- 3 -

وقطع القاضي حديثه ونظر إلى تلك المرأة التي أقبلت تريد خيمة السلطان، وهي سافرة تصيح بلسان الإفرنج وتعول باكية تشير إشارات الفزع المروّع، فأقبل عليها يسألها ما خطبها. . . وكانت هيلانة بذاتها، أفاقت فلم تجد طفلها فخرجت من الخيمة جاحظة العينين مجنونة تصيح باسم ولدها وهي تعدو على غير هدى، تسير في كل سبيل تسأل كل من ترى على ولدها هل رأى ولدها؟ أين ذهب ولدي؟ ماذا أعمل؟ ساعدوني. فتشوا لي عن ولدي. أين ذهب؟ هل مات؟ من أخذه؟ أأكلته الذئاب؟ هل تدخل الذئاب إلى المعسكر؟ أم قد سرقه اللصوص؟ آه أين أنت يا ولدي؟ ألا تردونه عليّ؟ ارحموني يا ناس. فتشوا لي عن ولدي. . .

وانطلقت تعدو في أرجاء المسكر، حتى بلغت خيمة القواد فاقتحمتها، وهبطت على أقدامهم

ص: 48

تولول وتصيح. . . فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها. فصمتوا، وبالغت في البكاء والتوسل، فرأى قائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين

- إن الرجل شهم وشريف، وفارس نبيل، وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد. . . وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية، فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم ير منه إلا الإكرام والإحسان، خلع عليه وقدّمه ورفع مجلسه وسَّيره إلى دمشق معزّزاً مكرماً، فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره، ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به، وصنيعه هو بمن أسرهم من قواد السلطان. . .

ووافق القواد على ما وصف به صلاح الدين من النبل والشرف والإنسانية، فسيروا المرأة إليه، فانطلقت تعدو حتى تقطعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها وتعود إلى السعي تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها، أو يكون فيها حتفها، وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر. . . يا رحمة الله على الأمهات! وكانت نفسها كالبحر الغضبان لا تستقر فيه موجة حتى يموج موجة أخرى. . . وكانت الصور تتردد على نفسها متعاقبة يأخذ بعضها بأعقاب بعض، فبينما هي تتصور فرحها بلقاء الطفل فتقدم مسرعة، إذا بها تفكر في هلاكه فتقف لحظة كأنما لطم وجهها القدر بكفه، ولكنها تطرد هذه الصورة من نفسها ولا تطمئن إليها، ويعاودها الأمل قويًّا منيراً، ويخالط الأمل خوف وإشفاق، ثم تمرّ عليها صور من حياتها الأولى تجوز آفاق نفسها بسرعة البرق فتهزها هزًّا عنيفاً ثم تمضي إلى غايتها وترجع صورة الولد فتحتل خيالها كله. . .

حتى بلغت (اليزك) فصاحوا بها: قفي. فوقفت تنظر ماذا يريدون. . . ولم تكن تدري ما (اليزك) وما الحروب، وما جاء بها إلا إيمانها الذي استغله دعاة الشر وسخروها من أجله لمنافعهم فحرموها زوجها وطفلها وجرعوها كما جرعوا الآلاف المؤلفة من البشر غصص الآلام!

وجعلت تصرخ فيهم صراخ اللبوة التي فقدت أشبالها، وتخاطبهم بالفرنسية:

- ابني، ابني أيها الجند؟ ردّوه عليَّ، أريد ابني، فلماذا تمسكونه؟ لماذا تعذبون امرأة مسكينة؟ أين هو؟ هل قتلتموه؟ لا، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية. إني ألمح الشفقة

ص: 49

على هذه الوجوه، فلماذا لا تردون عليّ ابني؟

فلا يفهمون منها شيئاً، فتعود إلى صراخها حتى جاء رجل منهم يعرف لسانها فسألها:

- ومن هو ابنك أيتها المرأة؟

- ابني لويس. لويس. أنا هيلانة. ردّوه عليّ. أريد أن أقابل السلطان

فأخذته الرحمة فتركها تمر ودلها على الطريق إلى خيمة السلطان فذهبت تعدو

قال لها القاضي:

- ولكن السلطان الآن في شغل. يجب أن تنتظري ساعة

- لا. لا. أتوسل إليك، أخاف أن يصيب ابني سوء، فدعني أذهب إليه

فقال لها القاضي: اذهبي مع هذا الرجل. وأمره أن يدعها ساعة في خيمة الأسرى حتى يستأذن لها على السلطان، وينبئه نبأها. وظنت أنها في طريقها إلى السلطان، فسارت صامتة مسرعة، فلما دخلوا بها الخيمة ورأت الأسرى، عادت تصيح وتولول، فنبّه صياحها الأسرى، واستفاض حتى بلغ خيمة السلطان فبعث يطلبها. . . وكان في أقصى الخيمة أسير أضطرب لما رآها ووجف قلبه، ولبث بصره عالقاً بها حتى خرجت من حيث جاءت، فلبث مفكراً مشدوهاً، تطفو على وجهه خيالات أفكار هائلة وذكريات بعيدة، ثم تراخى رأسه فأسنده بكفيه، وظل ساكناً تنطوي جوانحه على البركان. . . الذي انفجر بعد دقائق، فنهض الأسير يصرخ صراخ الوحش الكليم: أريد أن أراها، أريد أن أراها. . .

وراع صياحه الأسرى وهم يعهدونه وديعاً كالحمل، فأقبلوا يسألونه، فلا يأبه لهم ولا يكلمهم، وأسرع إليه الحرس يكلمونه فلا يجيب إلا بهذا الصراخ، فرفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوه عليه. . . فلما احتواه مجلس السلطان طأطأ رأسه ووقف خاضعاً، وكانت عظمة السلطان تملأ نفسه إكباراً له، وكان يحس فيها الشكر الخالص لما رأى من إكرام السلطان في هذه المدة الطولية التي قضاها أسيراً عنده، ثم رفع رأسه وجعل يقلب نظره في أرجاء المجلس فوقع على هيلانة وهي راضية مطمئنة وابنها في حجرها، وهي تنظر إلى السلطان نظرة شكر وحبّ، ثم رآها تنهض فجأة فتجثو بين يديه فتقبل قدميه وتتقاطر دموعها، فيتململ السلطان وينهضها. . . فلم يعد يتمالك نفسه، فأسرع نحوها على غير شعور منه، فلما رآه الطفل هتف به: بابا. . . ووقع بين ذراعيه. . . ونظرت المرأة مبهوتة لا تكاد تصدق ما

ص: 50

ترى، وجعلت تنظر حولها لتتثبت مما ترى، ولتعلم هل هي في يقظة أو في حلم، ثم صاحت: لويس! أنت حيّ؟

وفهم السلطان القصة فحول وجهه حياء وتركهما يتعانقان. . .

ولما تلفت السلطان وجدهما جاثيين بين يديه يحاولان شكره، فلا تجاوز الكلمات شفاهما إلا وهي جمجمات غامضة، فقال لهما:

- إنّا لم نفعل إلا ما يأمرنا به ديننا؟

قالت المرأة:

- أدينك يأمرك بهذا؟

- قال: نعم، فإن الإسلام رحمة للعالمين، للإنسانية كلها. قالت: أفتضيق هذه الرحمة عن امرأة مسكينة. . . تحب أن تسعد وتحيا بسلام، في ظلال الإسلام؟

فتهلل وجه السلطان، وقال لها: إن رحمة الله وسعت كل شيء

قالت: كيف أغدو مسلمة؟

قال تشهدين أن الله واحد، وأن محمد رسول. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

فنطقت بها، وتلفتت إلى زوجها فوجدته ينطق بالشهادة

وخرج ويده في يدها يذكران الماضي الحلو، والقرية الهادئة.

- لقد تركنا البنفسج يا هيلانة مخضراً يانعاً، فهل أزهر من بعدنا البنفسج فتضوّع أريجه في جوانب الحديقة؟ وشجرة التفاح هل تدلت ثمارها، وارتخت أغصانها؟ والعين هل بقيت على صفائها. . . أواه يا هيلانة! هل لنا من رجعة إلى ذلك الوادي السعيد وتلك الغابة التي ولد حبنا في جناتها ونما واكتمل؟

- لا يا لويس، إنا لن نعود. إن يكن حبنا قد ولد في تلك الغابة، فإنه قد بعث هنا بعد ما مات. هنا عدت إلي، وهنا عرفت الله، وهنا رأيت النبل والطهر والإنسانية، فلنبق هنا يا لويس. . . أليست هذه هي الأرض التي ولد فيها المسيح؟ إننا لم نخسر المسيح، ولكننا ربحنا معه محمداً!

وتقدم الجيش بعد ساعة، يمشي إلى الظفر مكّبراً مهللاً، وكان لويس في طليعة الجيش!

(دمشق)

ص: 51

علي طنطاوي

ص: 52

‌النواحي الإنسانية في الرسول

للدكتور زكي مبارك

أعتقد أن شخصية النبيّ محمد لم تُدرس حق الدرس إلى اليوم في البيئات الإسلامية لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال: فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلى بإشارة من جبريل

ومعنى ذلك أن شخصية محمد في جميع نواحيها شخصية نبوية لا إنسانية

يضاف إلى هذا أن جمهور المسلمين يعتقدون أن النبوة لا تُكتَسب، وهم يعنون بذلك أنها لا تنال بالجهاد في سبيل المعاني السامية، وإنما هي فضل يخص الله به من يشاء

وإنما غلبت هذه العقيدة لأن الإسلام نشأ في بيئات وثنية، أو خاضعة للعقلية الوثنية، والرسول لم يَشْقَ بين قومه إلا لأنه حدثهم بأنه بَشرٌ مثلهم، ولو أنه كان استباح الكذب فحدثهم بأن فيه عنصراً من الألوهية لوصل إلى قلوبهم بلا عناء

الواقع أن محمداً كان آية من آيات التاريخ، ولكن كيف؟

لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم. فبنوا آدم يصلحوا لكل شيء إلا سماع كلمة الحق

أراد الله أن يكون الإسلام إعزازاً للفكرة الإنسانية، ولكنْ بنو آدم يؤذيهم ذلك؛ لأنهم خضعوا لألوف أو ملايين من الأوهام التي تشل القلوب والعقول

كان محمد إنساناً بشهادة القرآن، والقرآن كتاب سماويٌّ نص على أن محمداً إنسان، وبنو آدم يؤذيهم أن يتلقوا الحكمة عن رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!

وفي غمرة هذه الضلالة نُسيت النواحي الإنسانية في حياة الرسول وإلا فمن الذي يصدق أن رجلاً مثل محمد يضيع من عمره أربعون سنة بلا تاريخ؟

ولأي سبب ينسى الناس أو يتناسون تلك المدة من حياة الرسول؟

إنهم يصنعون بتاريخ الرسول ما صنعوه بتاريخ الأمة العربية لأنهم أرادوا أن يخضعوا خضوعاً تاماً للمعجزات، فالنبي لم يكن رجلاً عبقرياً وإنما خصه الله بالرسالة فكتب له الخلود، والعرب لم يكونوا أمة قوية وإنما ارتقوا بفضل الرسول

وما يجوز عند جمهور المسلمين أن يقال: إن الله خصَّ محمداً بالرسالة، لأنه كان وصل إلى أسمى الغايات من الوجهة الإنسانية، ولا أن يقال: أن الله اختار ذلك الرسول من

ص: 53

العرب، لأنهم كانوا وصلوا إلى غاية عالية من قوة الروح.

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أمشي على الشوك وأنا أقيد هذه الفكرة الفلسفية، لأن بني آدم يحتملون جميع الأفكار، إلا الأفكار المتصلة بحيوات الأنبياء

ثم ماذا؟

كان محمد إنساناً قبل أن يكون نبيًّا، وذلك من أعظم الحظوظ التي غنمها في التاريخ، فسيأتي يومٌ قريب أو بعيد يثور فيه الناس على الأمور الغيبية، ولكنهم لا يستطيعوا أن يثوروا على عبقرية محمد.

كان محمدٌ في سريرة نفسه إنساناً يخطئ ويصيب، بدليل ما وُجَّه إليه من اللوم أو العتاب في القرآن؛ وهو قد خضع للضعف الإنساني فذرف الدمع السخين يوم مات ابنه إبراهيم، وهو قد عانى الحب والبغض كسائر الناس، وهو قد توجع من ظلمات الخطوب، وهو قد تألم من غدر الأصدقاء، ثم لم ينج من الكرب عند سكرات الموت

أحبك أيها الرسول!

أحبك لأنك كنت إنساناً له ذوقٌ وإحساس، ولم تكن كما يصوَّرك الجاهلون الذين رأوا عظمتك في أن تكون حاكياً لوحي السماء، وما أُنكر وحي السماء، ولكني أومن بأن في السريرة الإنسانية ذخائر من الصدق والروحانية، وأنت أول نبي أعز السريرة الإنسانية.

أليس دينك هو الدين الذي تفرد بالنص على أن المرء يتصل بربه بلا وسيط؟

أحبك أيها الرسول وأشتهي أن أتخلق بأخلاقك السامية. أحب أن أكظم غيظي كما كنت تكظم غيظك. أحب أن أسلم بجهادي من شهوات النفس كما سلمت بجهادك من شهوات النفس. أحب أن أفرَّ من الشيطان كما فررت من الشيطان، على شرط أن أحب الحياة كما أحببت الحياة

أتدري لماذا أحبك أيها الرسول؟

لأنك أول من شرع الديمقراطية بين الأنبياء. ألست أنت الرجل الذي كان يتبذل في أكله ويقول:

(إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد)

ص: 54

أتدري لماذا أحبك أيها الرسول؟

أحبك لأنك جعلت الحرب في سبيل الحق شريعةً من الشرائع وهي مزية إنسانية، وكان الأنبياء من قبلك يكتفون بالتفكير في عجائب الملكوت!

أحبك لأنك أعلنت حبك لطيبات الحياة واحتقرت الرهبنة والانزواء في العابد والصوامع

أحبك لأنك انتقلت من المعلوم إلى المجهول

أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم اعترفت بأنها صالحةٌ للخطأ والصواب

ولكن ما رأيك فيمن يقاومون الحرية الفكرية باسم الغيرة على دينك؟

ما رأيك فيمن لا يرضيهم أن تكون إنساناً يتذوق أطايب الحياة ويلهو أحياناً بالمزاح المقبول؟

ما رأيك فيمن يحاربون الفنون والآداب باسم الدين؟

ما رأيك فيمن يتوهمون أن الشخصية النبوية مجردة من البهجة والأريحية؟

ما رأيك فيمن يُخرِجون من فردوس العقيدة الصحيحة كل من يتَّسم بسمة الحب لأطايب الحياة؟

أنت حاربت الزهد، وحاربت العبوس، وحاربت اليأس، ولكن بعض الناس يرون الإيمان لا يكمل إلا عند من يغرقون في لجج المسكنة والكآبة والقنوط

كنت إنساناً أيها الرسول قبل أن تكون نبيًّا، وتلك الإنسانية هي التي فتحت صدرك للصفح عن هفوات الناس، وهي التي جعلتك تنظر إلى ضعفهم بعين العطف، وهي التي قضت بأن تذوق ملوحة الدمع في بعض الأحيان

أنت نزهت نفسك عن الشعر، الشعر المحبوس في قواف وأوزان، ولكني لا أنزهك عن الشاعرية العالية التي تواجه الوجود بنظر ثاقب، وقلب حساس

وكيف تخلو من الشاعرية وقد خلوتَ إلى مناجاة القلب في غارِ حراء؟

كيف تخلو من الشاعرية وقد كنت رجلاً فحلاً يجيد افتراع المعاني؟

أنا أعرف لماذا نزهت نفسك عن الشعر أيها الإنسان الحساس إنما نزهت نفسك عن الشعر لأن الشعراء في عصرك لم يكونوا عظماء الأرواح

وإلا فأي شعرٍ فاَتك وأنت تدعو إلى التفكير فيما خلق الله من غرائب وأعاجيب؟

ص: 55

أي شعر فاتك وأنت تجعل السير في الأرض من واجبات الرجال؟ أي شعرٍ فاتك وأنت الذي أشار بالأفضلية في الإمامة لمن وهبهم الله حسن الوجه وجمال الصوت؟

أي شعرٍ فاَتك وكان شخصك الكريم قيثارة تتغَّنى بمحاسن الوجود؟

الآن عرفتُ لماذا يضن عليك بعض أتباعك بصفة الإنسانية،

إنما فعلوا ذلك لأنهم في ذات أنفسهم لا يؤمنون بعظمة الإنسانية، أما أنت فقد رميت بالكفر كل من يريد يخلع عليك ثوب الألوهية لأن الله خصك بأجمل مزية من مزايا الإنسانية وهي الصدق

لقد فكرتُ مرات كثيرة من الاقتراب من روحك فلم يعقني عائق لأن بيني وبينك وشيجةً من الإنسانية

ودعاني الشوق مرة إلى مسامرة خيالك فرأيتك إنساناً كاملاً لا تقع عينه على غير الجميل من شمائل الأصدقاء

وصحبتك مرةً في بعض غزواتك فهالني أن تكون رجلاً نبيلاً يصبر على الظمأ والجوع والأذى في سبيل الحق

وشهدتك وأنت تعاني الكرب من فضول الناس وتزيّد المنافقين وتقوّل السفهاء، فعرفت أنك إنسانٌ ممتاز، لأن الابتلاء بأذى الناس لا يكون إلا من حظوظ الممتازين بين الرجال

وشهدتك يوم الموت وأنت تواسي ابنتك فتقول: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) فعرفت أن الكرب في الدنيا مقصور على عظماء الرجال

شهدتُ من أخلاقك وشمائلك ما شهدتُ، أيها الإنسان الكامل، فزدتُ اقتناعاً بأنك على خلقٍ عظيم

ولكن ما هي العظمة في خلقك، أيها الرسول؟

أنت رويت القرآن عن جبريل فيما يقول المؤمنون، وأنشأت القرآن فيما يقول الملحدون. وهذا القرآن فيه لوم كثير وجه إليك، فإن كان وحياً من السماء فأنت غاية الغايات في أمانة التبليغ، وإن كنت أنت منشئ ذلك الكتاب كما يتقول الملحدون فأنت غاية الغايات في أدب النفس، لأنك سجلت ما آخذت به نفسك في كتاب مجيد

وأين الرجل الذي يدين نفسه بنفسه كما صنعت أنت حين رويت القرآن أو حين أنشئت

ص: 56

القرآن؟

لقد وضعت أعظم دستور للسريرة الإنسانية، وهو دستور الصدق، يا أصدق من عرف التاريخ من الرجال

أما بعد فقد ارتاض القول بعد جموح، وصار من السهل أن أحكم بأن النبوة عهد من عهود العظمة في الطبيعة الإنسانية، ولولا خوف الفتنة لزدت هذا المعنى تفصيلاً إلى تفصيل

محمد إنسان، ولكنه إنسان مظلوم، لأن أتباعه جردوه من فضل الاجتهاد في سبيل الخير والحق والجمال

وهنا تظهر مزية جديدة لذلك الرسول هي نكران الذات، فلو كان محمد رجلاً من أمثال فلان وفلان وفلان من الذين نقلوا أممهم من حال إلى أحوال لملأ الدنيا بالحديث عما وضع للحياة من أصول وقوانين

ولكن محمدا كان يحبّ أن يعيش مسكيناً وأن يحشر بين المساكين، وقد جزاه الله خير جزاء، فخصه بالعظمة في الحياة وبعد الممات

محمد بشرٌ مثلكم يا بني آدم، وقد دعاكم إلى التخلق بأخلاقه، ولم يكتف بذلك، بل دعاكم إلى التخلق بأخلاق الله إلا الكبرياء

فهل رأيتم إنسانية مثل هذه الإنسانية؟

محمد تحدث عن هفواته - إن كان له هفوات - ليدلكم على أن العظمة الحقيقية لا تكون إلا باتهام النفس والحذر من طغيان الأهواء

كان محمد يقول في صدر خطبته (أيها الناس) أو (يا عباد الله) وأنتم تقولون في صدور الخطب (أيها السادة) أو (سيداتي، سادتي)

فتأملوا الفرق بين العبارتين لتعرفوا أنه كان يبتعد عن تملق الأهواء.

استطاع محمد أن يتحدث عن هفوات الأنبياء، وعجزتم عن الحديث عن هفوات الزعماء

فاعرفوا - إن شئتم - أن عظمة محمد من الوجهة الإنسانية هي تمجيد الصدق والخوف من زيغ القلوب

قد تقولون: إن الله أوحى إليه أن يكون كذلك.

وأجيب بأن أكمل خصيصة من خصائص الرجال هي الصلاحيةُ لتقُّبل وحي السماء.

ص: 57

وللسماء وحيٌ في كل وقت، ولكن أين القلوب التي تسمع؟ إن محمداً حدثكم بأن الرجل يستطيع أن يخاطب ربه بلا وسيط.

فأين المسلم الذي فهم أسرار الحروف واتجه بقلبه إلى مناجاة فاطر الأرض والسموات؟

أين المسلم الذي تأدب بأدب الرسول فعرف أنه مسئول أمام الله لا أمام الناس؟

والآن أرجع إلى نفسي فأقول:

كان محمد إنساناً، ولكنه كان أعظم من جميع الناس لأنه لم ير الغنيمة في غير المعنويات.

كان محمدٌ يستطيع أن يبني لنفسه داراً تشبه إيوان كسرى؛ وكان يستطيع أن يبني لنفسه قبراً يشبه هرم فرعون، ولكنه آثر أن يحيا ويموت وهو في مَتْربة المساكين.

إن محمداً ظلم نفسه لينتصر ويفوز، وقد انتصر وفاز.

إن محمداً حرم نفسه أبهة الملك، وباسمه عاش الملوك.

إن محمداً حرم نفسه الشهرة بإجادة البيان، وبفضل الكتاب الذي بلّغه عاش البيان. فيا رسول الله ويا إمام العرب والمسلمين إليك أوجِّه أصدق الثناء.

زكي مبارك

ص: 58

‌في غار حراء

مهبط الرسالة

للأستاذ محمود الخفيف

أَيْنَ مِن قَدْرِكَ جُهْدُ الشُّعَرَاءْ

يا قَرينَ الطُّورِ فِي نَجْوَى السَّماَءْ؟

أّشْفَقَ الشِّعْرُ، وَكَمْ رَاوَدْتُهُ

فَجَرَى كالصُّبْحِ بَسَّامَ الرُّؤَى

زَاهِرَ الضَّفّةِ رفَّاف الرُّواءْ

طَابَ للسَّامِرِ يا شِعْرُ النّشيِدْ

وهَفَا المِزْمَارُ لِلَّحْنِ الْجَدِيدْ

هَاتِ ياَ شِعْرُ حَدِيثاً طالما

مَلأَ الأعْصُرَ وحْياً وَمَشَى

مِلْءَ سَمْعِ الدَّهْرِ لَحْناً وحُدَاءْ

هيه. . . صُغْ لحنَكَ في أُمْ القُرَى

أُعْبُرِ الأجْيَالَ واطْوِ الأعْصُرا

اِقطَعِ البيدَ إلى مُنْعَزَلٍ

التَقَتْ فِيهِ السمواتُ العُلَى

مَرَّةً بالأرْضِ في غارِ حِراء!

غَنِّناَ عَنْ شَاهِقٍ عالي الْجَبِينْ

تَتَمَلاّهُ عُيونُ الَّناظِرينْ

هَرَمِيّ نازِعٍ مُستَشْرِفٍ

للسَّموَاتِ، مَنيع المُرْتَقَى

للعلى رَمْزٌ وللْحَقِّ لواء

جَبَلِ النُّورِ الوضِيءِ النَّسَبِ

لقَبٌ يا حُسْنَهُ من لقَبِ!

أين في الأرْضِ مَكَانٌ مِثُلهُ

بَيِّنَاتُ الله فيه واُلهدَى

لَمَعَتْ فانجَابَ في الكون العماء؟

مَهبْطُ النُّورِ على هذا الوجودْ

مُرْتَقى أوحى له مَعْنَى الصُّعودْ

شَدَّ ما يَمْلأَ نَفسِي سِحْرُهُ

ولكَمْ تَلْمَحُ روحي من رُؤَى

ومَعَانٍ عَبْقَريَّاتٍ وِضاءْ!

هَاتِ ألحانَكَ عِنْدَ اَلْجَبَلِ

غَنِّ يا شِعْرُ بهِ لا تُجْفِلِ

امتَلِئُ مَا شِئتَ مِن رَوْعَتِهِ

إلتَمسْ وَحْيَكَ في هذا السَّنّا

وتَرنّمْ، يَحْلُ يا شِعْرُ الغناء

هَاتِ. حَدِّثنَا عن الرَّاعي الأمينْ

ذلك الأُمِيِّ، عند الأرْبَعِين

ص: 59

ذلك الأمِيِّ من عَلّمَهُ. . .

غنِّ في بيدائه كيف اهتدى

واجتلى في الأرضِ آياتِ السماء؟

ياَ رِمَالَ البيدِ هذا جَاهِدُ

هادِئُ النُّظْرَةِ ماضٍ صَاعِدُ

يا رِمَالَ البيدِ كَمْ شاهَدْتِهِ

يحملُ الزّادَ ويمْضِي؛ هل رأى

حَوْلَهُ غَيْرَ الرَّواسي والفَضَاءْ؟

يَهْمِسُ الرُّعْيَانُ. . . ما يَشْغَلَهُ

أيُّ أمْرٍ حَازِبٍ أذهَلَهُ؟

شاحِبُ الوَجْنَةِ لا مِن عِلّةٍ

مُطْرِقٌ هَامَتَهُ، واني اُلخْطَى

طَالَ فِي اللهِ بِهِ عَهْدُ الرَّجاءْ

يا لهذا العَرَبِيّ الصَّائم

ابْنِ عَبْدِ اللهِ، أزكى هاشِمِ

بَلَغَ الغارَ فألقى زَادَهُ

يا لهُ من لا غِبِ طَاوِي الحشا

أكثرُ الزّادِ لهُ تَمْرٌ وَمَاء!

يا نجومَ اللّيْلِ أَضْنَاهُ المَّهَرْ

لم يَنَلْ مِن طَرْفِهِ طولُ النّظَرْ

هَلْ أتَى مَكّةَ ما أرَّقَهُ؟

حَسْبُهَا مِن لَيْلهِاَ طِيبُ الكَرى

يَغْرقُ السُّمَّارُ فيه السُّعَداء!

إيه شمْسَ الصُّبْحِ، يا نورَ الأزَلْ

هَلْ جَلَاكِ اللاّتُ يومًا أو هُبَلْ؟

اسألي مكّةَ عن أَصْنَامِها

اسألي السَّادَة في أمِّ القُرَى

عن تماثيلَ لها حَقُّ الوَلَاء!

حَدِّثِي يَا شَمسُ عَنْ أَنْصَابهَا

وأُولي الغَفْلَةِ من أصَحابِهَا

حَدِّثي عن ظلْمَةِ الْعَيْشِ بِهَا

وعن الشَّحْنَاَء فيها والخنا

وَذَوِي الفُحْشِ بها واُلْخَيلَاء

تُؤثِرُ اللّيْلَ عَلَى الصُّبْح اتجاها

كَهْلُهَا يَسْبِقُ في الشّرِّ فَتَاهَا

بَلْدَةٌ كَمْ غَرَّهَا باَطِلُهَا

لَيْسَ في شِرْعَتِهاَ إلا الهَوى

شِرْعَةِ الجورِ ودين السُّفَهَاءْ

لاذَ بالوَحْدَةْ في عُزْلَتِهِ

ذلك الواحِدُ في نَشْأَتِهِ

ذَلِكَ المُفرَدُ مِن أيَّامِهِ

ما دعا داعي الصِّبَا إلا أّبَى

ص: 60

وَتَوَلّى وهْوَ موفورُ الإبَاء

كَمْ يُعَانِي اليَوْمَ مِمَّا يَحْمِلُ

لَاذَ بالغَار فِفيِه اَلموْئِلْ

هَاجِسٌ في نَفْسِهِ يَشْغَلُهُ

يَنْسَخُ الْيَأْسَ بهِ لَمْحُ المُنى

سَاَعَةً ثم يُغَشِّيهِ اَلخْفَاءْ

يَا لَعَانٍ يَعْظُمُ الكَوْنُ لَهُ

كَمْ يَرَى الرَّهْبَة فيما حولَهُ

كَمْ لَهُ في صُبْحِهِ إذ يَنْجَلِي

ثمَّ في اللّيْلِ إذا اللّيْلُ سَجَا

من يقين وجَلَاء واهْتِداءْ!

هَذِهِ الأفْلَاكُ من يُمْسِكُهَا

في الفَضَاءِ الرَّحْبِ من يُسْلِكهَا؟

والرَّواسي الشُّمُّ من شَيَّدَها

من دَحا الأرضَ ومن ساق الحيَا

فَسَقَى التُّرْبَ بِهِ حَيْث يشاء؟

مَنْ لهذا السَّاجِدِ المُقْتَرِبِ

هَلْ تَلَى في أمْسِهِ من كُتُبِ؟

هَلْ بنتْ أُمُّ القُرَى مَدْرَسَةً؟

مُنْتَهَى ما عَلِمَتْ تِلك الدُّمَى

يَتَمَلاّهَا بنوها النُّجَبَاءْ!

مَنْ لَهِذا الفَرْدِ في بَيدائِهِ

بِرُؤى العَالَم أو أنباَئِهِ

هَلْ أَتَاهُ نَبَأٌ عَن فَارِس

هَلْ عَن الشّامِ ومِصْرٍ من نَبا

وعن الرُّومِ وأرْضِ اُلحْكَمَاءْ؟

ضَجَّ بالعُدوان ذاك العالَمُ

ما يرُى هَادٍ له أو عاصِمُ

الهداياتُ بهِ حائرةٌ

والضَّلَالَاتُ به استشرت فما

يَفهَمُ الرَّحْمَةَ إلا الضعفاء!

باتَ ما طافَ به من قَبَس

في ظَلَامِ الأرضِ كالْمُحْتَبِسِ

يا لَها مِن شُعلة خابيةٍ

غَرقَتْ أو أوشكت فيما جرى

من دموعٍ هاطِلَاتٍ ودِمَاء!

لَوَت الشُّعْلَةَ عن وِجْهَتهِاَ

أُمَمٌ ثارَتْ على وَمْضَتِها

ضَرَبَ الغَيُّ على آذانِها

واشتَرَت بالحقِّ والنُّورِ العمى

فَتغَشَّتها دياجير الفناء

ص: 61

طابَ للأمِّيِّ في الغارِ المُقَامْ

ليس يثنيه سُهَادٌ أو صِيامْ

للِسَّموات العلى مُستَشْرِفٌ

في دُجى الليل وفي نورِ الضَّحَى

ضارِع لِله موصولُ الدُّعاءْ

سَابحٌ في الملكوتِ الدائِمِ

وَاَلجْلَالِ المُستفِيضِ القَائم

مُطْلَقُ النَّفْس رَضِيٌّ آمِلٌ

صُوَرُ الحقَّ بهذا المُجْتَلى

أمَدَّتْهُ برَوْحٍ وانتشاء

رَوْعَةُ التَّسبِيحِ في نَظرَتِهِ

وَجَلالُ الحقِّ في مُهْجَتِهِ

سَاجِدٌ لله يرجو وَجْهَهُ

صَابِرٌ مُرْتَقِبٌ جَم الرَّضا

خاشِعُ المحَبةِ مَصدوق الولاء

طاف بالرعْبِ على مَضجِعِه

هَامِسٌ يَهْمِسُ في مِسْمَعِهِ

يا له الله! أرؤيا نائم

ما له يَسْمَعُ لكن لا يرى

حوله إلا هواءَ أو هباء؟

إنها الشعْلةُ جاءت من جديدْ

للِوَرَى فيها طَريفٌ وتَليدْ

هَبَطَ الغَارَ بها الرُّوحُ الأمين

سَاقَهَا اللهُ لِطَهَ المُصْطَفَى

ابنِ عبدِ اللهِ خَيْرِ الأنبياءْ

قَبَسُ اللهِ العلي الأكْرَمِ

(عَلْمَ الإنْسَان ما لم يَعْلَمِ)

قَبَسُ الله الذي أوحى له

ظَلَّ يرجو نورَه حتى انجلى

رائعَ الإشراقِ وهَّاجَ الضياء

هلَّ نورُ الله في أعلى الجبل

أّبْشِري يا أرضُ قد هَلَّ الأملْ

حَمَلَ ابنُ البيدِ ما أُلْهِمَهُ

وَمَشى الراعي رسولا للورى

يرفع الشُّعْلَةَ من بَعْدِ انطفاء

ياَ رِمَالَ البيد قد جَاَء البَشيرْ

نَزلَ الدَّاعي إلى الحقِّ النَّذِيرْ

انظريه. . . نوره بين يَدَيهِ

أَيُّ نُور مِثلَ هذا أومضا

أيُّ قَوْل حَارَ فيه الفصحاء؟

غَمَرَ النُّورُ جباه الصَّابِرِينْ

وَتمَشَّى بين أيدِي الفَاتحينْ

ص: 62

مِنْ رُبُوع الْهِنْدِ لِلأّندَلُسِ

أّلْهَم النَّاسَ الْعُلَا أَنّى مَضى

فَهُمُو فِي الدِّينِ والدُّنياَ سواء

الخفيف

ص: 63

‌بين مصر وإيران

لِلأديب محمد فهمي عبد اللطيف

الترابط بين الأمم والشعوب ضرورة اجتماعية، تقتضيها طبيعة الوجود، والرغبة في التعاون والمنفعة. وإن الأمم لتأخذ لهذا الترابط بأسباب مختلفة، وتقيمه على اعتبارات متباينة؛ فهي مرة تقيمه على الأغراض المشتركة، والآمال المتفقة، والمذاهب المتماثلة؛ ومرة تدعو له باسم الوشائج الجنسية، والروابط العصبية؛ ومرة تَشْرعه بدعوى العلم والحضارة والصالح العام؛ وفي هذا العصر يتخذه القوم وسيلة لسد المطامع، والجشع الاستعماري، وفرض السلطان على الشعوب الضعيفة؛ وهم في كل هذا يوثقون له بالمعاهدات والمحالفات والمشارطات والمؤتمرات تقام ثم تنفض، وقد ملأ القوم الدنيا بالخطب الرنانة، والوعود الخلابة، والرغبات التي ظاهرها الرحمة للإنسانية، وباطنها الويل كل الويل للإنسانية.

وكل هذا باطل في منطق الحق، وكذب على طبيعة الوجود، وإن صح في خسيس من المذاهب رجس كما يقول أمير الشعراء. وإن التاريخ ليخبرنا بوقائعه وتجاريبه بأنه ما وثق بين الأمم والشعوب مثل تبادل العواطف، وما وثق في تبادل العواطف مثل المصاهرة: تلك الفضيلة الاجتماعية التي جعلها الشرع الإسلامي صلة من صلات المودة والألفة والاتحاد، وأنزلها منزلة القرابة العصبية واللحمة في النسب، فقد حرم على الشخص أن يتزوج بأم زوجته أو بأنثى من فروعها وأصولها. كما حرم عليه أن يتزوج بأمه أو بأنثى من أصول نفسه وفروعه، وكذلك حرم على زوجته الاقتران بأحد من أصوله أو فروعه، فكأنما أنزل الله كلاًّ من الزوجين منزلة نفس الآخر حتى أنزل فروع كل منهما وأصوله بالنسبة إلى الآخر منزلة أصول نفسه وفروعه. وهذا برهان يقيمه لنا الشرع الحكيم على أن الاتصال بطريق المصاهرة مساو لنفس القرابة النسبية في الأحكام والحقوق والألفة والاحترام.

على هذا الاعتبار القويم تتخذ الأمم الرشيدة من المصاهرة رابطة مودة، وواسطة سياسية، وعلاقة تامة يكون بها التعاون والرغبة في الإفادة والخير؛ بل على هذا الاعتبار جرت عوائد الأمم في الأزمنة الغابرة، فكانت القبائل والعشائر تتصاهر إذا أرادت أن تدخل في ميثاق يكون به المعونة على دفع الشر وجلب الخير؛ ولو أن دماء سفكت بين قبيلتين،

ص: 64

وعداوة تمكنت بين أمتين، حتى ملوا مقارفة النزال، وكلوا من مقارعة النضال، ورغبوا في الأمن والطمأنينة والسلام، لم يجدوا وسيلة تقطع دابر العداوة فيهما، وتوثق روابط المحبة بينهما، إلا أن تتصاهر القبيلتان فتصيرا كأسرة واحدة، وتدخلا في عهد جديد تتوحد فيه المشاعر والعواطف، وتصح به الهمم والعزائم، وتقوى الرغبات والآمال

وعلى هذا الاعتبار الذي تقتضيه الطبيعة، وتشير به الشريعة، وتقره وقائع التاريخ، تقوم اليوم الصلة بين شعبين كريمين: بين مصر ذات المجد الخالد، وإيران صاحبة التاريخ التالد. والصلة بين مصر وإيران صلة قديمة منذ العصور الغابرة، فالتاريخ يحدثنا بأنه لما ظهر (كورش) مؤسس الإمبراطورية الفارسية العظيمة، فاندفع في الغزو والاستعمار حتى استولى على ليديا وميديا وآسيا الصغرى وتوغل شرقاً إلى شواطئ السند، خشيت الدول بأس الفرس، وعقدت ضدهم تحالفاً ضم بابل وليديا ومصر وبعض ولايات الإغريق، فنهض (كورش) العظيم للانتقام من الدول المتحالفة، فأعاد ليديا لطاعته، وفتح بابل من جديد، ثم مات وفي نفسه الرغبة في غزو مصر!

فلما تولى من بعده (قمبيز) عمل على تنفيذ الرغبة، فجاء بجيش جرار إلى مصر، وكانت مصر منيعة بالتحصين، ويقول مؤرخو الإغريق أنفسهم: إن أحد الجنود اليونانيين خان المصريين فدل الفرس على أسهل الطرق في اقتحامها، وبهذا استطاع (قمبيز) أن يفتح مصر بعد مقاومة شديدة، حتى لقد أسر ملكها (ابسماتيك الثالث)، واشتط في معاملة المصريين، فأذاقهم ألواناً من القسوة الحنق، وهزئ بديانتهم فهدم المعابد والهياكل، وقتل بيده العجل أبيس في أحد الاحتفالات الدينية

فلما تولى (دارا الأول) أراد أن يصلح ما أفسده (قمبيز)، فزار مصر، وأبدى احتراماً عظيماً لديانات المصريين ومعبوداتهم، حتى لقد شيد هيكلاً فخماً بواحة سيوة لمعبودهم آمون، وبنى كثيراً من المدارس ودور العلم، وعضد التجارة ففتح الخليج الموصل بين النيل والبحر الأحمر، وأصلح طريق قِفْطْ المار بوادي الحمامات، وعلى الرغم من هذا كله فقد انتهز المصريون الفرصة في هزيمة (دارا) مع الإغريق في موقعة (مرتون)، فخرجوا على طاعته، واستردوا استقلالهم بزعامة أمير من الوطنيين، ولكن الفرس عادوا إلى غزو مصر ثانية في عهد ملكهم (إجزرسيس)، فقابلهم المصريون بالثورة والتمرد. وهكذا ظل

ص: 65

الفرس على الرغبة في استعمار مصر، وظلت مصر في الثورة على هذه الرغبة حتى جاء الفاتح العظيم الإسكندر الأكبر فطوى مصر وفارس فيما طوى من الأمم والشعوب

تلك هي صلة مصر بفارس في التاريخ القديم، وهي كما ترى صلة الفتح والاستعمار، ورغبة السيطرة وبسط النفوذ. فلما كان مطلع التاريخ الحديث اتصل المصريون بالفرس اتصال محبة ووفاء واحترام، فتمكن الود بين السلطان الغوري والشاه إسماعيل الصفوي على دفع الخطر العثماني الداهم، فسمح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفد الذي أرسله الشاه إلى البندقية لعقد محالفة على محاربة العثمانيين، ولما زحف السلطان سليم الأول على بلاد الشاه وأراد أن يكتسح فارس بأجمعها، وجد الشاه قد أتلف كل ما خلفه في المدن والقلاع من المئونة والذخائر، فأرسل السلطان سليم في طلب المدد والزاد من بلاده، ولكن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه، فقلت الأقوات في معسكره، واضطرب الأمر في جيشه، وحرم لذة انتصاره، فأسرها السلطان في نفسه، وكانت مما تعلل به في غزو مصر وضمها إلى خلافة آل عثمان

واليوم ترتبط مصر وفارس برباط المصاهرة الكريمة، أعني رباط القرابة والنسب، والود والألفة، وإنه لوضع ثابت في الاختلاط بين الشعبين، وعهد جديد في التعاون بين الأمتين الخالدتين، وميثاق صريح صحيح يؤكده دعامتان:(دين) يوحد بيننا في المشاعر والأفكار والعواطف والميول والأخلاق والعادات، (وثقافة) مستمدة من تعاليم الإسلام، وسياسة القرآن، وكل ما خلف العرب من أفانين العلوم والمعارف. والدين والثقافة عند علماء الاجتماع هما أهم المبادئ التي تحفظ كيان الأمم، وأقوى العناصر في تكييف حياتها ورقيها. أليس بفكرة الإسلام وحدها استطاع محمد صلوات الله عليه أن يجمع شمل تلك القبائل المتفرقة المتخاذلة، وأن يخلق منهم تلك الدولة العظيمة التي دوخت العالم، وتبوأت أرفع مكان في التاريخ؟!

ولاشك أن الشرق اليوم هو اللقمة السائغة التي يتقابل على التهامها أمم الغرب، ولاشك أنه لا طاقة للمسلمين بدفع هذا الخطر ولا قائمة لهم إلا بتبادل الشعور والعواطف، وإحكام الروابط والصلات، والرجوع إلى وحدة إسلامية لا مناص من الرجوع إليها كما يقول أستاذنا المراغي. ولاشك أن هذه الصلة الوثيقة بين مصر وإيران، قد قربت الوصول إلى

ص: 66

تحقيق هذه الوحدة، وستكون إن شاء الله طالع سعد للإسلام والمسلمين، وتوثيقاً لعرى القومية بين أمم الشرق التي هدها نفوذ الغرب وجشعه، وأنهكها طول التفرق والانقسام.

أميرة مصر وأمير إيران يقترنان. . . ألا إنه لبراعة استهلال للعام الجديد، وطائر يمن للشرق والإسلام، ورغبة أمتين كريمتين في الخير والمحبة، ثم هو صلة بين قلبين طاهرين، وعاطفتين نبيلتين، نسأل الله أن يحوطه برعايته، وأن يقرنه بالسعادة والبركة، وأن يحقق به الآمال والرغبات، وأن يجعله وسيلة الخير والسلام لغاية الخير والسلام

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 67

‌رسالة الإسلام خالدة

لِلأستاذ محمد فريد وجدي

وقر في عقول أهل العلم الغربيين، وعقول من نهل من حياضهم من الشرقيين، أن الأديان التي احتضنت الجماعات البشرية منذ نشوئها إلى عهد قريب قد انتهى دورها، وانقضت رسالاتها، لعدم وجود نفع يرجى للجماعات الراهنة منها. وكثيراً ما أُسأل: هل رسالة الإسلام لا تزال قائمة؟ فأجيب: نعم، وأبد الدهر. ولست في تأكيدي هذا بواقع تحت سلطان العقائد الوراثية، ولا بمخدوع بالأوهام التقليدية، ولكني مستند فيه إلى علم، وماض فيه على بينة

ذلك أن كل مجموعة من التعاليم يحكم عليها بانقضاء دورها، حين تستنفد الحياة كل ما فيها من غذاء يناسبها، أو تتطور العقول وتظل هي جامدة لا تماشيها، فتترفع عن الأخذ بها؛ ولكن تعاليم الإسلام لا تجري عليها هذه السنة، فقد جاءت بالمثل العليا في كل ناحية من نواحي الحركة الروحية والعقلية والاجتماعية، فكيف يعقل أن تنتهي له رسالة، أو تزول له دولة؟

فأما من ناحية الحركة الروحية فإن الإسلام يصرح بأنه دين الفطرة الإنسانية، وهذه الكلمة أسمى ما يعبر به عن دين يخلد خلود البشرية. فإن الفطرة مودع فيها شريعة النوع كله بالقوة، وهي واحدة في جميع الأفراد لا تتعدد إن لم تفسد بدس تعاليم خارجية إلى النفس تحولها عن سمتها الطبيعي. وقد شدد الإسلام في النهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة بها في كل مناسبة؛ وقد زاد فحاطها بحوافظ قوية من ضروب مختلفة، فنبه النفوس أولاً إلى ضرر التقليد الأعمى للآباء والقادة، وأمر بطلب الدليل المقنع على كل عقيدة يتقدم بها داع لنحلة، وصرح بأن الإيمان التقليدي لا يقبل، وأن الإنسان مسئول عن عمله الشخصي، وأن أحداً لا يغني عنه شيئاً، وأن أكثر من في الأرض لا يتبعون إلا الظنون والخزعبلات الموروثة، وأن الدين يهتدي إليه الإنسان على ضوء العقل الناضج والعلم الممحص، وأن الإنسان يترقى في معارج الهداية بقدر ما يخلص في طلب الحق، ويتجرد من الأهواء والأوهام، ويثابر على النظر والفكر، ويستمع لكل كلام فيتبع أحسنه، ولا يأنف أن يأخذ بحقيقة يأتيه بها من يخالفه في دينه ولغته، وألا يصر على قول إذا ظهر له وجه الصواب في تركه،

ص: 68

وألا يتعصب لمذهب أو رأْي تعصباً يعميه عن نظر ما عسى أن يكون فيه من الثلم أو يرد عليه من الاعتراضات، وأن يكون دائماً حريصاً على استقلاله العقلي وحريته الفكرية، مستعداً لأن يصحح ما يتضح له أنه مخطئ فيه، معتقداً أن ليس بعد الحق إلا الضلال.

وبناء على هذه الكليات يرى الإسلام أن الناس ماداموا كلهم متشابهين في الخلقة، ومتساوين في الميول والعواطف، فلا يصح أن تكون لهم أديان متعددة لم بفرق بينها إلا أهواء القادة وأوهام الزعماء، فإنما هو دين واحد، دين الفطرة المؤيد بالعقل والنظر، المنزه عن الظنون والوساوس، الجامع لكل ما حصلته الإنسانية في أدوار حياتها من مذخورات أدبية، وفتوحات روحية، فقال تعالى:(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)

وأما من ناحية الحركة العقلية فإن الإسلام قد رفع من شأن العقل ونوه بسلطانه، إلى حد أنه اعتبر الذين لا يقيمون له وزناً في تقدير قيمة عقائدهم دوابَّ تحقيراً لهم، فقال تعالى:(إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). وعد الذين لا يستخدمون حواسهم الظاهرة في النظر والتأمل، ومشاعرهم الباطنة في الاستدلال والتعقل، أنعاماً بل أضل. قال الله تعالى:(لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)

وشفع الإسلام كل هذا بالتحضيض على طلب العلم والتحريض على تصيد المعرفة من كل المظان التي يتخيلها العقل، من النظر في الكون والتأمل في الكائنات، والتنقيب عن مساتير الخليقة والسريان في سرائر الوجود، في السماء وأجرامها، في الأرض وعوالمها، في الحيوانات وعجائبها، في النباتات وبدائعها، كل ذلك لبناء الشخصية الإنسانية وإبلاغها إلى ذروة الكمال المقدر لها. ولقد رفع من شأن العلم في نظر الإنسان إلى حد أنه حصر فهم آيات الله وإدراك مراميها، وفهم مغازيها في أهل العلم، فقال تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقال: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) وقال: (إن في

ص: 69

ذلك لآيات للعالمين) بكسر اللام فيهما. ولا يمكن أن يتخيل أحد أن يتجاوز التنويه بشرف العلم هذا الحد

هذا ولم يغفل الإسلام في تطلب ترقية الشخصية الإنسانية شيئاً، حتى الضرب في الأرض، وتعرف أحوال الأمم وطبائعها، ودراسة ما هي عليه من شرائعها وعاداتها، وناهيك بأثر ذلك في ترقية النفسية البشرية، فقال تعالى:(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها. أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). وقد كرر الحض على السياحة مراراً كثيرة

وأما من ناحية الحركة الاجتماعية فإن الإسلام قد بلغ بها الأفق الأعلى، وأوجد في رابطة الاجتماع تجديداً لم تحلم به الإنسانية بعد، ولا مناص في أنها ستعول عليه في المستقبل، فقد جعلها الإسلام مؤلفة من الأصول الأدبية، والقواعد الخلقية، لا كما كانت قائمة عليه من الحاجات الجسدية، والمقومات القومية. فعل الإسلام ذلك لتشمل تلك الرابطة النوع البشري كافة، وتلاشي في طريقها الفروق الجاهلية القائمة على الجنسية، والخلافات اللغوية واللونية التي كانت ولا تزال عوامل شقاء في بنية الإنسانية، بما تثيره من الحروب والغارات بينها، وما تمحق من روح التكافل والتعاون فيها. فالإسلام لا يعترف بفرق بين عربي وعجمي وصيني وتركي، وجاوي وفرنسي الخ، فالناس كافة في نظره أولاد آدم وحواء، وقد خلقوا ليتعارفوا ويتعاونوا، لا ليتناكروا ويتناحروا، فقال تعالى:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)

فالإسلام يقرر أنه مادام النوع البشري واحداً، فيجب أن يكون له دين واحد وغرض في الحياة واحد. وأنت ترى أن العالم كله رغماً عن طغيان العاطفة القومية في هذا العصر، وازدياد عوامل الفرقة والخلاف بين الشعوب، سيضطر إلى التوحد، وستكون هذه الموجة نفسها من الخلاف والتفرق من أكبر العوامل في إيجاد تلك الوحدة المرجوة، لأنها ستتثبت بدليل محسوس أن هذه الوحدة هي العامل الوحيد لنجاة المدنية من التلاشي.

إذا اعتبرت كل ما ذكرته هنا رأيت بما لا يدع شكاً أن رسالة الإسلام لا تزال باقية، وأنها ستبقى ما بقي النوع الإنساني على الأرض. وإنما تزول التعاليم إذا كانت مقدرة على

ص: 70

أحوال معينة، متى ارتقت أصبحت تلك التعاليم لا تسد حاجة المجتمع فتزول، أو يثبت فسادها بترقي العقول. فتتلاشى مع كل ما يتلاشى من أمثالها

ولكن ما بيناه من تعاليم الإسلام هنا لا يعقل أن يزول، لأنها أصول أدبية خالدة، ومثل عليا لا يمكن التماري في سموها، وفي تأدي العالم في المستقبل إلى محاولة تحقيقها.

محمد فريد وجدي

ص: 71

‌مجد المرأة وكرامتها في كنف الإسلام

لِلأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي

مدير المساجد

أقام المشرع الإسلامي قواعد للمجتمع، على أسس اجتماعية أصلها ثابت وفرعها في السماء. ونظر إلى الدعامة الأولى لبناء الأفراد وهي المرأة، فجعلها قسيمة الرجل في الحياة، أمّاً أو زوجة، ثم أوضح لها شرعتها حكيمة مسدّدة تمهد لها كل ما هو ميسر لها، متسق مع طبيعتها. وطبيعة المرأة: وجدان متأثر، وعاطفة مشبوبة، وجانب لين، وأجزاء دقيقة، وهيكل متأنق، ورونق متألق، ولطف ساحر في التأسية، وفيض ضاف من الحنان

ولقد تنطق المرأة بكلمة تواسي بها الرجل إذا تفزع فؤاده من الهول، فتفعل الكلمة في قلبه، وتؤثر وتجدي ما لا يؤثره أو يجديه بلاغة الأساة من الرجال. ولعلك على ذُكر من كلمة خديجة أم المؤمنين يوم جاءها زوجها محمد صلى الله عليه وسلم وفؤاده يرجف من لقاء الملك، ومن تلقي الوحي، وهو أمين الله ومختاره جلادة وقوة وصبراً واحتمالاً، فلم يكن منفرجُ الروع، ولا ذهاب الخوف إلا ساعة قالت خديجة كلمتها، كلمة المواساة والترفق والأمل:(كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدم، وتعين على نوائب الدهر)

أعلى الإسلام من قدرة المرأة ما وسع العلاء طبيعتها، وعظم من شأنها ما شاءت الخليقة أن تعظم، ثم وفر لها من الحرية ما يناسبها ويُهَيِّئ له من ميدانها سبيل النفع والخير؛ فلم يُردْها قعيدة بيت بل سيدة بيت؛ ولم يجعلها مسلوبة الإرادة، بل شاءها طليقة في مملكتها الصغيرة الكبيرة، ورجا لها الصيانة في قدس الخِدْرِ

خطب صلى الله عليه وسلم بنت عمه أبي طالب واسمها أم هانئ، وكانت قد تزوجت ونسلت ومات عنها زوجها. فما الذي ألهمها الإسلام أن تقول أن تقوله في جواب هذا العرض المحمدي الشريف؟ لقد قالت تخاطب صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم:(يا رسول الله، لأنت أحب إلي من سمعي ومن بصري؛ وإني امرأة مؤتمة (مات عني زوجي) وَبنِيَّ صغار، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي أن أضيع بعض شأني وولدي؛ وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي)

ص: 72

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناهن على ولدٍ في صغره، وأرعاهن على بعل في ذات يده)

لم تكن تلك الحرية فيمن تختاره المرأة لنفسها قاصرة على كرائم أحرارهن، بل بسطها الإسلام حتى على من كانت أمَة وخلصت من الرق.

ملك عقبة بن أبي لهب جارية حبشية اسمها بريرة، وزوجها عبداً من العبيد، فكانت تضيق به وتتبرم منه. ولكنها مملوكة، وأمرها ليس بيدها. فلما علمت عائشة أم المؤمنين بما تعانيه (بريرة) في هذا الزواج اشترتها وأعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ملكتِ نفسكِ فاختاري) فاختارت أن تنجوَ بنفسها من هذا الزواج الذي لا تطيب به. فكان زوجها بعد هذا الفراق يمشي خلفها ويبكي ويسترضيها، فلا ترضى عنه. وكان يرثي له كل من يراه خلفها باكياً. رآه صلى الله عليه وسلم مرة وتلك حاله فقال لأصحابه:(ألا تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له!) ثم قال لها: (اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك) فقالت: (أتأمرني يا رسول الله؟) فقال: (لا. إنما أنا شافع) فقالت: (إذن، فلا حاجة لي إليه. . .) هكذا تقررت حرية المرأة في أمر نفسها، حرية تكفل للبيت النعيم، وتوفر لها الهناءة. وبهذا جاء الإسلام موقراً لرأيها، محافظاً على كيانها، مظهراً لشخصيتها. فإذا ما أجارت المسلمة لاجئاً، أو أمَّنت أسيراً، فقد أجار المسلمون - جميعاً - مَن أجارت، وفكوا من أطلقت، وحموا من استعاذ بها. . .

ورد في الصحيح البخاري أنه لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة يوم الفتح احتمى رجلان بأم هانئ بنت أبي طالب وهي مسلمة، فدخل عليهما أخوها علي وهَّم بقتلها، فأغلقت دونه الباب، وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها:(مرحباً وأهلاً يا أم هاني، ما جاء بك؟) فأخبرته خبر الرجلين وخبر أخيها علي، فقال عليه السلام:(قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وأمَّنا من أمنت)

فقد أجاز المشرع لعقيلة مسلمة كريمة أن تفك عانياً أسره المسلمون في غزوتهم، وقد كانت بين الأسير وبين الكريمة أسباب وثيقة، فما هو إلا أن عاذ بها واستجار في حماها، فأجارته

ولقد كانت كبرى بنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي زينب قد تزوجت من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع، وكان أبو العاص يخص زوجته زينب بإكباره وتكرمته، فلما

ص: 73

انصرف عن الإسلام بادئ الأمر وزوجته مسلمة فرق بينهما الإسلام، وهاجرت زينب، وبقي هو منصرفاً عن الإسلام؛ غير أن حنينه لزوجته لم يفتر، فكان يرسل لوعته الحرَّى في أبيات من الشعر الرقيق ويقول:

ذكرت زينب لما وركت إرما

فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما

بنت الأمين جزاه الله صالحة

وكل بعل سينبي بالذي علما

ثم خرج إلى الشام في تجارة لقريش، فعرض للقافلة زيد بن حارثة في جمع أرسله محمد عليه السلام، فغنموا المال وأسروا الرجال. وكان في الأسرى أبو العاص، فاستجار بزينب، فرجت أن تحقق إجارته وأن تحميه، وترقبت صلاة الفجر، وأبوها يؤم المسلمين، فلما انتهوا وقفت بباب المسجد ونادت بأعلى صوتها:(إني قد أجرت أبا العاص بن ربيع). فقال صلى الله عليه وسلم: (هل سمعتم ما سمعت؟) قالوا: نعم. قال: (فوا الذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت ما سمعتم. ألمؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت) فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه، ففعل. . .

ولقد حسن شأن أبي العاص، وحلت الهداية قلبه، فعاد إلى مكة وأدى الحقوق إلى أهلها، ثم رجع إلى المدينة مسلماً، فرد رسول الله إليه زوجته زينب الوفية البارة.

رأى المشرع الإسلامي أن صيانة الأعراض وحرمة السير وكرامة الأسر من حقوق المجتمع، بل من أسباب بقائه ونموه؛ ذلك بأن الخلية الأولى من خليات المجتمع هي الأسرة، والأسرة لا قوام لها إلا بالرجل، يندفع لحمايتها، وينبعث لرعايتها، ويعاني أخطار الحياة، ويجوب العامر والخراب - كل ذلك ليوفر لأبنائه ولبيته أسباب الحياة وسعادة العيش؛ وما يدفعه إلى ذلك إلا حنان الأبوة، ووشائج النسل، وشعور ملتهب بأن الولد قطعة من أبيه، وفلذة من كبده، فمن أين تتم للرجل تلك الدوافع وهاتيك الوثبات إذا هو ارتاب أو حاك الشك في نفسه صحة انتساب ولده إليه، أو خلوص زوجته له. . .!

لهذا أحاط الإسلام المرأة بسياج حصين، وأمن الرجال على أنسابهم وأعراضهم، لصلاح مجتمعهم، ثم توعد - في أسلوب قوي رائع - كل من يمس قداسة الطهر، أو يتعرض - على غير علم - لصفة المرأة، أو جرى على لسانه الهُجْرُ والفحش في سيرتها. . .

ص: 74

يقول تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون)

فانظر كيف حدد الله للتهجم على الأعراض عقوبة جسيمة ثم أردفها بأخرى أنكى وأخزى وأبقى على الأيام، تَسِمُ القاذَف بميسم الخزي وتتهمه - أبد الأيام - بفقدان الثقة وخبث الذمة ومرض الضمير. ثم يختم سبحانه الآية بتسجيل فسق القاذف وخروجه عن طاعة الله ونبذه من لمجتمع الأخلاقي. . .

ثم شاء - جل وعلا - ألا يدع هؤلاء الوالغين في الأعراض حتى يجعل الخزي والعار ناطقاً بشناعتهم مشهراً بسوآتهم فقال:

(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)

ولقد ثقف الإسلام المرأة ثقافة يتطلبها شأنها، ثقافة دينية خلقية، فكان عليه الصلاة والسلام يجعل للمسلمات يوماً كل أسبوع يعلمهن ويثقفهن، وكان كريم الصبر في إرشادهن، فسيح اللبان في هدايتهن

أخذ عليهن - عندما كن يبايعنه مرة - ألا ينحن على الموتى. فقالت عجوز ممن حضرن: يا رسول الله، إن أناساً أسعدوني على مصيبة أصابتني، وإنهم أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أُسعدهم. فقال لها عليه السلام:(انطلقي فأسعديهم) ثم عادت فبايعته.

تلك بعض نظرات المشرع الإسلامي إلى المرأة، فأين نحن؟ وكيف صرنا؟

لقد يروي لنا المؤرخون أن دولة الرومان يوم تألق نجمها، وعظم سلطانها، واستبحر عمرانها، كان الشطر الثاني للمجتمع وهو النساء، لا يعرفن غير البيت والأسرة، يقمن للبيت بواجبه، ويؤدين للأسرة حقها، وهن من وراء حجبهن. بل لقد غلون في الحجاب يومذاك غلواً كبيراً، فلن تخرج واحدتهن إلا وهي ملثمة، وعليها الأردية السابغة، ومن فوقها العباءات التي لا تبين تقاسيم الجسم - في ذلك الحين برع الرومان في كل شيء، في الملك والصناعة والتشريع، ودانت لسلطانهم الشعوب. فلما بلغت الدولة مداها ولع الناس بالترف، وغمرهم النعيم، وأفسد أجسامهم البذخ، فغدوا يبتكرون الملذات من غير تحرج ولا

ص: 75

تأثم، حتى فترت غيرتهم، وامحت نخوتهم، فتضعضعت قوة الملك، ووهى صرح المجتمع، ولم تلبث دولة الرومان العظيمة أن تساقط ملكها، وانتزع الفساد شوكتها، وراحت صريعة الشر الاجتماعي الذي نزل بالمرأة من عليائها إلى الحضيض، وهوى بالدولة معها إلى الفناء.

ولقد نسمع المفكرين وذوي المذاهب الإصلاحية الاجتماعية يتصايحون اليوم: أن ارجعوا بالمرأة إلى ما خلقت له، وجنبوها مزالق الاجتماع، واجعلوا تحت نظرها كتب التهذيب الديني، والتدبير البيتي، لتروي أبناءها من منابع الدين وأصول الفضائل، وتحكم بتدبيرها نظام الأسرة الذي أوشك يتداعى. فهل من سميع؟ وهل من مجيب؟ لنا في تراثنا مرجع لصد العابثين، وإيقاظ السامدين. إن في تربية الإسلام للمرأة ما يوفر لها حريتها ومجدها وكرامتها.

الجديلي

ص: 76

‌عياش بن أبي ربيعة

لِلأستاذ كامل محمود حبيب

(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).

(قرآن كريم)

الليل ساج والحياة نائمة، وعّياش في طريقه يتسلل في رقبة وحذر، وقلبه يضطرب خشية القوم أن يستشعروا فراره فيجلبوا عليه وهو يرد أن يفزع بدينه إلى المدينة. .

إلى حيث يجد الحرية والأمان. لقد كان - هو في طريقه - ينظر إلى الوراء، بين الفينة والفينة، يودع ملاعب الطفولة ومراتع الشباب للمرة الثانية، والعبرات تترقرق في محجريه، غير أنه ما كان ليأسى على شيء في مكة وفي قلبه الإيمان والصبر إلاّ على أن حُرم استجلاء النور الإلهي من طلعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا على فراق أمه وقد تعلق بها قلبه فما ينصرف عنها، وإلا على مال كثير خلّفه هناك كان يطمع ن يشد به عصبه؛ ولكن خياله كن يوحي إليه أن رفيقيه - عمر بن الخطاب وهشام بن العاص - ينتظران عند التَّنَاضُب من أَضَاةِ بنيِ غفار فوق سَرِف على أميال من مكة، فهو يهفو إليهما في غير أناة ولا تردد

وبلغ الفتى المكان فاطمأن قلبه أَنْ ألفى عمر بن الخطاب هناك يتشوفّ. . . وتنفس الصبح ولّما يبدُ هشام عند الأفق، فانطلقا معاً. . . ونزلا المدينة ينعمان بالحياة والإيمان لا يجدان من الضيق والعنت بعض ما كانا يجدان في مكة

وتناهى خبر عيَّاش إلى القوم من بني مخزوم فَغَدَوْا إلى أبي جهل والحارث يعيرونهما ويحثونهما: (أفَيَفرّ الرجل من بينكما ثانية ليكون لكما - على الدهر - عاراً وسُبَّة)، وأبو جهل يتلهّب من الغيظ والحقد وقد انطوت نفسه على أمر، والحارث إلى جانبه يقول:(وماذا عسانا أن نفعل في سفيه فَرّ مع سفهاء مثله؟) وثارت الحّمية حمية الجاهلية في رأس أبي جهل تستلبه الهدوء والاستقرار، والشيطان من ورائه يدفعه إلى أمر، فراح إلى

ص: 77

الحارث يحدثه حديثه وحديث الشيطان في وقت معاً. . . ثم انطلقا معاً صوب المدينة. . .

وجلس أبو جهل والحارث إلى أخيهما عياش يترفقان معه في الحديث، ويدخلان إلى قلبه بفنون من الكلام، فاستعصى عليهما؛ غير أن أبا جهل لم يكن رجلاً تزَعه الكلمات عن غايته أو تثنيه عن قصده، فيرتد خائباً مخذولاً؛ فراح يقلب الرأي في خاطره، ويتلمس الحلية من شيطانه، ثم. . . ثم قال:(يا أخي، إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك!) ورأى عمر بعض ما بدى على عياش من رقة واستخذاء حين سمع ذكر أمه، وخيل إليه أن الرجل يلقي إلى أخويه السَّلم فيذهب ضحية المكر والخديعة، فقال:(يا عيَّاش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت) ولكن الشيطان كان قد عدا على الرجل فاستلبه الثبات، فقال:(أبِرُّ قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه) فقال عمر: (والله إنك لتعلم أني لمنّ أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما) غير أن الرجل كان قد وقع في حبالة أخويه حين صوّر له شيطانه أمه في الهاجرة شعثاء غبراء تندب ولدها وتؤذي نفسها، فأبى إلا أن يصحب أخويه، وعمر به ضنين. وعجز عمر عن أن يدفع الرجل عن الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها، فقال له وهو يهم بالرحلة:(يا عياش، أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رَابَك من القوم رَيْبٌ فانجُ عليها) ثم. . . ثم وقف ينظر إلى الاخوة الثلاثة حتى غَيَّبتهم البيداء في أحشائها فرجع وفي نفسه الأسى والحزن، وقلبه يحدثه حديثاً. . .

وانطلق عياش بين أخويه، وأبو جهل يختلس النظرات - بين الحين والحين - إلى ناقة عمر وهي تخد بأخيه وخداً سريعاً، وقد حمل لها كرهاً حين لم يستطع أن يحول بين عياش وبينها، وحين عجز عن أن ينالها بسوء، ثم لمعت في رأسه خاطرة ابتسم لها، وأشار إلى أخيه الحارث ينذره بأمر، ثم راح إلى عيَّاش يحدثه:(والله يا أخي لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟) فقال عياّش وقد أمن مكر أخيه: (بلى، يا أخي!) فأناخ وأناخا ليتحوّل إليها، فلما اسْتَوَوْا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة نهاراً وعلى وجهيهما سمات الفرح والسرور يباهيان أهل مكة بما كان، ويقولان:(يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا) ثم فتناه فافتتن

ص: 78

أفحقاً قد افتتن الرجل وارتد عن دين الله واطمأن إلى الكفر، وسكن إلى الجاهلية، واستحب العمى، بعد إذ ذاق حلاوة الإيمان، ووجد في قلبه برد الإسلام، وعاش زماناً بين اخوة من المؤمنين يستروح منهم نسمات الحب والإخلاص وهو في الحبشة حيناً وفي المدينة حيناً، لا يستشعر مرارة الفراق ولا لذع الغربة؟ إن صُبابة من الإيمان ما تزال تتوثب في قلبه، غير أنه خشي أن ينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستغفره فلا يتقبّل منه، وهو كان يسمع صحابته يقولون:(ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة. قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر كبلاء أصابهم) فيرتد على عقبيه وفي نفسه الحسرة والشجن. . . ثم لبث في قومه سنين

وترامى إلى الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة في رفقة صديقه أبي بكر فنازعته نفسه إليه تدفعه أن يلحق به ولكن. . .

وتصرمت أعوام وعَيّاش في حيرة من أمره، ما يستطيع أن ينزل عند رأي أخويه فيغتمر في الكفر فيجحد ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وما هو بقادر على أن يطير إلى المدينة، وحديث رفاقه ما يبرح يدوّي في أذنيه، وعمر هناك في المدينة أسيف على أن يرتد رفيقه عن دينه، وعلى أن يتلمس إليه الطريق عَلَّه يجد الوسيلة إلى قلبه فلا يستطيعه

وأنزل الله تعالى (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) ووجد عمر فيما أنزل الله متنفساً فانطلق إلى قرطاس يسطّر عليه الآيات الكريمة ويبعث بها إلى صديقه. . .

وأقبلت الرسالة تنفح من عبيرها على قلب الرجل فاضطرب لها ولمّا يفضّ مغاليقها؛ وتاقت نفسه إلى أن يطمئن إليها ساعة من زمان يحدثها وتحدثه، غير أنه لم يكن ليجد الخلوة. . . وعلى حين غفلة من أهله دلف إلى ذي طوًى بأسفل مكة ينشر الرسالة على عينيه وقد أمن الرقيب، ثم راح يصعّد بها فيه ويصوّب فلا يفهم منها حرفاً، وبدت الكلمات أمامهُ عقداً أعيت عليه. ماذا؟ لقد استغلق عليه الكلام العربي المبين وهو عربي في الصميم والذروة من العرب! فأخذ يقلّب الصحيفة بين يديه وقد سيطر عليه الحزن والأسى، ثم أُلقي في روعه أن حجاباً كثيفاً أسدل بينه وبين أن يفهم كلام لله لأنه نجَس، فأقبل على الله بقلب

ص: 79

سليم يسأله: (اللهم فهِّمْنيها) فألقى الله في قلبه أنها إنما نزلت فيه وفي من هم على شاكلته وفيمن كانوا لأنفسهم ويقال فيهم، فرجع إلى بعيره فجلس عليه ولحق برسول صلى الله عليه وسلم وهو يستبشر بما غفر الله له

وعملت الآيات الكريمة معجزتها في الرجل لتجذبه من هاوية كاد يتردى فيها ما لها من قرار، إلا أن يستقر في الدرك الأسفل من النار

كامل محمود حبيب

ص: 80

‌كتاب السيرة

لِلأستاذ أحمد الشايب

المدرس بكلية الآداب

- 1 -

تحتل السيرة النبوية في تاريخ الأدب العربي مكانة لم يظفر بها موضوع آخر، لهذه المكانة التي يشغلها صاحبها في تاريخ الأمة الإسلامية أولاً، وفي التاريخ العام ثانياً، فإن الرسول عليه السلام لم يكن أديباً فقط له هذه الآثار القوية الخالدة من الأحاديث والخطب والرسائل، وإنما كان قبل ذلك وبعده، رسولاً صاحب دعوة إصلاحية عامة تناولت الدين والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأثرت في الحضارة العامة لمن اعتنقوها طائعين أو جانبوها كافرين، واستطاعت أن تستوقف التاريخ أو تلوي عنانه لتملي عليه إرادتها، وتلقي إليه وحيها، فأخذ عنها ما أملت، وكتب من فصوله صحفاً ملأى بالجهاد، والفضائل، والأدب، والفن، والسياسة؛ ولا يزال الإسلام إلى اليوم - على الرغم مما أصاب بعض ذويه من هوان - مصدر الخير والسعادة، وموئل البشرية حين تعزوها الهداية، ومعهداً لدراسات خطيرة تلقي أمام رواد الحضارة المثالية ضوءاً يرجى أن يتم به على العلم ما يبغي من رشاد وسلام.

ولم تقف العناية بالسيرة عند العرب وحدهم، أو المسلمين فقط، وإنما تجاوزتهم إلى جماعة من كتاب الفرنجة الأعلام الذين رأوا في نبي المسلمين رجلاً عظمياً من رجال التاريخ خليقا بالبحث في أسباب عظمته، وما أتيح له من هذا الفوز الذي استأثر بالسلطان المدني والسياسي طوال القرون الوسطى، إذ كان العالم الإسلامي يشغل التاريخ بأحداثه الكبرى، ودوله المتعاقبة، وآدابه الغزيرة حين كان الغرب يضطرب في ظلمات كثيفة، ويحيا حياة خاملة.

ولسنا هنا بعرض الاستيعاب، واستقصاء هؤلاء الذين كتبوا عن الرسول قديماً وحديثاً من المسلمين وسواهم، وحسبنا أن نلم بشيء من ذلك لنصل منه إلى جماعة من المعاصرين الذين تناولوا السيرة بأساليب مختلفة، لها قيمتها العلمية والفنية جميعاً.

ص: 81

- 2 -

منذ ألف ابن إسحاق سيرته التي اختصرها ابن هشام في هذا الكتاب المنسوب إليه، والناس يعدونها المرجع الأول لكل من يحاول تأريخ الرسول. وليس ذلك لأن جميع ما احتوته حق تاريخي خالص، وموضع الثقة التي لا ينالها تجريح، لا، ولكن ذلك لأسبقيتها التاريخية في التدوين، ولما احتوته من حقائق ثابتة في كثير من المواقف، ولأنها روت أخبارها بهذه الروح التي كانت مسيطرة على المسلمين في القرون الاولى، أي بوجهة نظرهم، وطريقة تفسيرهم لحوادثها. . . فكانت الخطوة الأولى في هذا السبيل عند المتقدمين، ونقطة الابتداء لكل من يحاول تأريخ النبي الكريم من المحدثين، يرجع إليها محققاً أو مستلهماً. دع عنك بعد ذلك ما تراه فيها من شعر منحول، وروايات مكذوبة، وأخبار لم تصح، لأن وزر ذلك لا يقع على ابن إسحاق وحده، وإنما لهذه البيئة التي كان يعيش فيها الأثر الأول فيما وقع فيه من قصور، فقد كان يحكي أخبار جاهلية بعيدة، ويقص أياماً نالتها المبالغات والعصبيات، وينقل آثاراً مات أهلها، واعتراها التحريف. على أن ابن هشام لم يقيد جميع ما كن لابن إسحاق من خبر بل حذف منه كثيراً وبخاصة ما كان متصلاً بالجاهلية الاولى، منفصلاً عما يتصل بحياة الرسول اتصالاً مباشراً كما هو مذكور في المقدمة.

ثم جاء الواقدي وتلميذه ابن سعد في طبقاته، وحاولا التحقيق والزيادة فظفرا منهما بنصيب. وأصبح فن السيرة بعد هؤلاء تقليداً من التقاليد يعمد إليه الكتاب تعيداً أو تأدباً كما فعل كتاب المقامات في عصور التاريخ الأدبي المتوالية، فكانت السيرة الحلبية، والسيرة الشامية. ولم تخل كتب التاريخ العام - كالطبري وابن الأثير - من تخصيص بعض أجزائها لسيرة الرسول إذ كانت تشغل وحدها فترة واسعة، خصبة، بعيدة الأثر فيما أعقبها من دول وأحداث.

وهذه المؤلفات القديمة لم تكن بالطبع خاضعة لهذه المناهج العلمية الحديثة، فكانت مجموعة من أحاديث الرسول، وأخبار الجاهلية وأساطير القدماء، وأشعار الناحلين ومبالغات الراوين، دون عناية بالنقد والتفسير أو التنسيق وحسن التأليف. ولكنها كانت مؤلفة بروح هذه العصور السابقة، وبوجهة النظر التي كانت - في الغالب - مقياس الصحابة والتابعين حين يذكرون الرسول الكريم ويفسرون أعماله وآثاره

ص: 82

أما كتاب الفرنجة فقد رأينا مستشرقيهم يتهافتون على هذا الموضوع، ويسلكون فيه هذه المناهج العلمية التي قد تفيد من ناحية الشكل والنظام، ولكنهم بعد ذلك كانوا فريقين: فريقاً أتخذ السيرة مجالاً للتعصب على الإسلام فكان من المبشرين الخاطئين، وفريقاً حاول الإنصاف ووقف عند الأصول العلمية الجافة ففقد هذه الروح أو الجو الذي كانت تجري حوادث السيرة في ظلاله، فتعسر عليه تفسير أشياء كثيرة كان من السهل عليه إدراكها لو أنه كسب هذه الروح وعاش بخياله في عصور النبوة الأولى. نذكر من آثار المستشرقين حياة محمد لإرفنج، وأخرى لوليام موير، وثالثة لمرجليوث، ولا ينسى التاريخ هذا الفصل البديع الذي كتبه كارليل تحت عنوان (البطل في صورة نبي) إذ دل على تفهم عام لهذه الروح التي كانت تشيع في بلاد الرسالة قديماً

على أن الهنود لم يقصروا في هذه الناحية فكتبوا باللغة الإنجليزية في السيرة رأساً مثل النبي لمولانا محمد علي، وفيما يتصل بها مثل روح الإسلام لسيد أمير علي، ولغير الهنود في مصر وفي العالم الإسلامي آثار في السيرة لم تخل من فائدة.

- 3 -

ولكننا نختار من هؤلاء المعاصرين ثلاثة نقف عندهم وقفة قصيرة لا لشيء إلا لأنهم نهجوا في كتابة السيرة مناهج طريفة من ناحية، ومتغايرة من ناحية أخرى: محمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم

يتفقون جميعاً في العناية المحمودة بسيرة الرسول، وجعلها في العصر الحديث موضوعاً خليقاً بالدرس وبذل الجهود في إذاعته بين الناس بأسلوب جديد يقربه إليهم ويحببه إلى نفوسهم، وهذا وحده غرض نبيل يستحق التقدير. كذلك سلكوا مسالك واضحة ممتازة وإن كانت متغايرة، ولكل مذهب محدود ذو معالم ألتزمها صاحبة ليس فيه هذا الاضطراب القديم الذي كان يجمع أشتاتاً من القصص، والتقرير والوصف والرواية ونحوها، وإنما هو مذهب علمي أو فني متناسق الأجزاء، منظم العناصر، فيه فقه للأشياء وفهم لها بروح قديمة أو حديثة أو بهما جميعاً. ومع ذلك فهم مختلفون في أشياء كثيرة

يمتاز هيكل بالمنهج العلمي الذي ترسمه فيما كتب، فكان مذهبه مذهب العالم المحقق، إذ قسم موضوعه إلى فصول متواصلة متلاحقة كما كانت حياة الرسول عليه السلام منتظمة

ص: 83

في هذه الفصول أو الأقسام التاريخية، ولا أقول إن هذا المنهج كله من اختراعه فلقد سبق إليه، ولكنه آثره وهذب منه، وهذه الخطة نفسها اقتضت مؤلف - حياة محمد - أن يكون مستقصياً استقصاء الباحث فليس له اختيار ما يحب وترك ما لا يهوى، لأنه يعالج موضوعاً من عمل التاريخ، عليه أن يعرضه كما حدث دون أن يخلع عليه من نفسه إلا ما شاء الخيال التاريخي الذي يربط المفكك، ويصل المنقطع، ثم هذا النقد الذي يظهر في تفسير كثير من المسائل بمقياس إسلامي علمي بعد ما كانت أشبه بالسمعيات تصدق ولا تعلل. . . وفي مناقشته آراء المستشرقين الذين تجافوا فيما كتبوا عن روح الدين وطبيعته، وبعدوا عن عصر الرسالة وبيئتها فلم يوقفوا فيما يتصورون. وصاحب (حياة محمد) بعد ذلك مسلم حدب على الدين غيور، أشرب روح الإسلام، وألم بكثير من أسراره فظهرت عل كتابه أعراض الحمية، حمية من لا يسمح لأحد بغمز دينه أو النيل منه، وذلك كله في أسلوب منطقي واضح هو أسلوب العلماء. ولكن طه حسين سلك سبيلاً أخرى هي سبيل الأديب حقاً، فلم يشأ في الظاهر أن يتقيد بمنهج علمي، وإنما كان قصاصاً، ترك هذا العصر الذي نعيش فيه، وانتقل بخياله الخصب إلى الجاهلية وصدر الإسلام وعاش مع ناسهما يفهم بعقولهم، ويحس إحساسهم، ويأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون؛ وبذلك استطاع - ما وسعه الجهد - أن يقص علينا الحوادث بروحها وفي جوهرها، وأن يفسر المسائل كما كانت تفسر حينذاك، فنقل إلينا هذا الماضي أو نقلنا إليه بحيلة لطيفة. وفن القصص لا يقتضي صاحبه استقصاء ولا نقداً علمًّيا دائماً، ولا تحقيقاً وتفنيداً، فآثر أهم الأمور التي يرى فيها روعة قصصية لأنها كانت رائعة إبان حدوثها أو فيما شعر وتخيل صاحب (على هامش السيرة). . . ثم تناولها واصفاً وحاكياً لم يترك جانباً منها إلا أضاءه وأكمل منه ما فات الرواة. وليس من شك في أن ذلك قد عرض بأسلوب جميل هو أسلوب القصص الممتاز الجامع بين التحليل النفسي للأشخاص، والإحاطة التامة بما يعرض له من مواقف

أما توفيق الحكيم فقد توسط الاثنين، وجمع بين ميزتي العالم والأديب الممثل، فكانت سيرته أخف شيء على النفوس. استشار المراجع القديمة، ووقف عندما رسمت دون أن يستعين الخيال إلا قليلاً؛ وقد ألم بأطراف موضوعه وقسمه فأحسن التقسيم، ثم اختار قضاياه

ص: 84

وصفاها وجعلها معالم واضحة خالصة من براهين التحقيق العلمي، وإسهاب الفن القصصي، فصارت قضايا موجزة باتة حاسمة، ثم عرضها بهذا الأسلوب الحواري أو التمثيلي كما كان يتحدث الرسول وصحابته والمتصلون بسيرته قديماً إلا ما لم يرد فيه نص. وكان توفيق الحكيم بعد ذلك حذراً محتاطاً لم يمس الموضوع إلا بخفة وإن كان الأسلوب من تقسيمه وابتكاره

كان هؤلاء الكتاب، إذا، بين عالم محقق، وأديب قاص، وفني ممثل، كل أخلص لمنهجه، ووصل منه إلى غاية بعيدة

وتستطيع أن تتبين هذا الفرق في أسطر قليلة جداً فيما كتب عن أول ما عمل محمد عليه السلام في تجارة خديجة؛ فهيكل يقرر المسألة ويقول أن أبو طالب كان السفير بين ابن أخيه وبين خديجة؛ وطه حسين يقيم ذلك على ميل خديجة إلى محمد وإرسالها دسيساً إلى عمه تعرض عليه أن يكون ابن أخيه في تجارتها بأجر مضاعف؛ فيأتي توفيق الحكيم، فيقتضب المسألة، ويترك الباب مفتوحاً للخيال.

والمرجو ألا يقف العلماء عند ما كتب هيكل، وكفى، وأن يتم طه حسين:(على هامش سيرته). . . وأن يجيبنا العلماء: هل تمثل سيرة الرسول على المسرح ثم ترسم على الشاشة البيضاء؟

(رمل الإسكندرية)

أحمد الشايب

ص: 85

‌حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية

للدكتور حسن إبراهيم حسن

أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب

كان لاختلاط العرب والروم وغيرهم من الأمم الأخرى أثر كبير في تغيير عاداتهم وحياتهم الاجتماعية وبخاصة في عهد الأمويين فقد تأثر معاوية بن أبي سفيان بنظم الحكم التي أدخلها الروم في بلاد الشام وابتكر ابتكارات لم يسبقه إليها أحد، فهو أول من أتخذ الحشم وأقام الحجاب على بابه ووضع المقصورة التي يصلي الخليفة بها الخليفة في الجامع منفرداً عن الناس وذلك لخوفه مما جرى لعلي رضا الله عنه

وكان من أقدس واجبات الخليفة أن يؤم الناس في صلاة الجمعة والصلوات الخمس. وقد سار على ذلك الخلفاء الراشدين وبعض الخلفاء بني أمية. وكان الخليفة في العهد الأموي يحضر إلى المسجد مرتدياً ثياباً بيضاء وعمامة بيضاء مرصعة بالجواهر ويرقى المنبر لإلقاء خطبة الجمعة وبيده الخاتم والعصا، وهما شارتا الملك

وقد تشبه خلفاء بني أمية بالملوك وأبهتهم، وكان الخليفة يجلس في صالة الاستقبال الكبرى وعلى يمينه أمراء البيت المالك وعلى يساره كبار رجال الدولة ورجال البلاط ثم يمثل بين يديه رسل الملوك وأعيان البلاد ورؤساء النقابات والشعراء والفقهاء وغيرهم

وكان الخلفاء الأول من بني أمية يستمعون في أوقات فراغهم إلى أخبار الحروب وسير فرسان العرب في الجاهلية، فكان معاوية يقرأ أخبار العرب وأيامها وسير ملوك العجم وسائر ملوك الأمم وحروبها وسياساتها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، وكان يقرأ عليه ذلك غلمان مرتبون، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات

وكان الأمويون يستمعون لقصائد الشعراء ويمنحونهم الجوائز ويخلعون عليهم الخلع. ولم يلبث أن حل الغناء محل الشعر، كما كلف الناس بالموسيقى والغناء، وتدفقت على دمشق طبقات المغنين المشهورين والموسيقيين الذين كان الخلفاء يدعونهم إلى دمشق من أقاصي البلاد

وكان لعب الشطرنج و (الدومينو) والورق معروفاً عند الأمويين. ومن الألعاب التي شاعت

ص: 86

في ذلك العصر قتال الديكة على الرغم من أن الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز حرما هذا النوع من الألعاب

وكان سباق الخيل من أهم تسلية الشعب على اختلاف طبقاته. ويقال إن هاشم بن عبد الملك الأموي كان أول من أقام حلبات السباق لتحسين نتاج الخيل حتى أنه اشترك في السباق معه أربعة آلاف من خيله وخيول الأمراء.

وكانت المرأة العربية في ذلك العصر تتمتع بقسط وافر من الحرية، وكانت المرأة متحجبة على الرغم من أنها كانت تقابل الرجال وتتحدث إليهم وتقود الجيوش.

وقد أوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، كما أوجب على أمهات المؤمنين أي زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمن الناس ويعلمن أبناءهم وبناتهم، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك فقال في كتابه العزيز (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) ناهيك بعائشة أم المؤمنين فقد اشتهرت بالفقه ورواية الحديث والتاريخ والنسب والطب وعلم النجوم وقادت جند المسلمين يوم الجمل سنة 35هـ كما اشتهرت أختها أسماء بنت أبي بكر وأم عبد الله بن الزبير برواية الحديث والكرم والشجاعة، فقد أثر عن عبد الله بن الزبير أنه لما انظم بعض اتباعه إلى الحجاج ابن يوسف الثقفي قائد الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي وبقي هو في عدد قليل من أنصاره وأيقن نه مقتول لا محالة دخل على أمه فقال يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا - فما رأيك؟

قالت: أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، يلعبون بها. وإن أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. فقالت: يا بني أن الشاة لا تتألم بعد ذبحها. فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي. فطفقت أمه تدعو له وتشجعه. وخرج عبد الله بعد ذلك وقاتل أهل الشام قتالاً شديداً، وأظهر شجاعة نادرة حتى حمل عليه العدو وقتلوه. ولم يهب القتل بفضل تشجيع أمه التي ضربت المثل الأعلى

ص: 87

في الشجاعة والتضحية في سبيل إعلاء شأن الوطن.

وليس أدل على جرأة المرأة وشجاعتها من ذلك الحوار الذي دار بين معاوية وبين الدارمية، فقد روى القلقشندي (صبح الأعشى ج1 ص259 - 260) أن معاوية حجّ فسأل عن امرأة من بني كنانة تسمى الدارمية، وكانت سوداء كثيرة اللحم فجيء بها، فقال لها: ما حالك يا ابنة حام؟ قالت: لستُ لحامٍ أُدعى، إنْ عِبْتَني أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقتِ أتدرين لمَ أرسلتُ إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بَعَثتُ إليك لأسألك علامَ أحْبَبْتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت علياً على عدْله في الرعية وقَسْمِه بالسوَّية، وأبغضتُك على قتالك مَنْ هو أوْلى بالأمر منك، وطلبك ما ليس لك بحق. وواليتُ علياً على ماُ عقد له من الولاية، وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفك الدماء وَجوْرك في القضاء وحكمك بالهوى. قال: ولذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك. . . قالت: يا هذا، بهند كانت تضرب الأمثال لا بي. . . قال لها: فهل رأيتِ علياً؟ قالت: لقد كنت رأيته. قال: كيف كنتِ رأيته؟ قالت: رأيته لم يفتنه الملك لذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال لها: فهل سمعت لكلامه؟ قالت: نعم! والله كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطَّست من الصدأ. قال: صدقتِ، فهل لكِ من حاجة؟ قالت: وتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم! قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فْحَلها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أُغَذِّي بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أَحُلُّ عندك محل عليّ؟ قالت: ماء ولا كصدّاء، ومرعى ولا كالسَّعْدان، وفتى ولا كمالك. يا سبحان الله أو دُونَه. فأنشأ معاوية يقول:

إذا لم أعد بالحلم مني إليكم

فمنْ ذا الذي بعدي يُؤَمَّل للحلم؟

خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد

جزاك على حرب العدواة بالسِّلْمِ

ثم قال: أما والله لو كان علياً ما أعطاك منها شيئاً. قالت: ولا وبرة واحدة من مال المسلمين

وممن اشتهر من نساء العرب في ذلك العصر أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك، وبنت عبد العزيز بن مروان، وأخت الخليفة عمر بن عبد العزيز. قال المسعودي في مروج الذهب (ج2 ص152 - 153): وفد الحجاج بن يوسف على الوليد في بعض نزهه،

ص: 88

فاستقبله. فلما رآه ترجل له وقبّل يده، وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية؛ فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد! فقال: دعني يا أمير المؤمنين أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنك، فعزم عليه الوليد حتى ركب، ودخل الوليد داره، وتفضَّل في غلالة، ثم أذن للحجاج، فدخل عليه الحجاج في حاله تلك وأطال الجلوس عنده. فبينما هو يحادثه إذ جاءت جارية فساررَّت الوليد ومضت، ثم عادت فساررَّته ثم انصرفت. فقال الوليد للحجاج: أتدري ما قالت هذه يا أبا محمد؟ قال: لا والله. قال: بعثتها إليّ ابنة عمي أم البنين، بنت عمر ابن عبد العزيز تقول: ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلح في السلاح وأنت في غلالة؟ فأرسلت إليها أنه الحجاج، فراعها ذلك وقالت: والله ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق. فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين! دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك ولا مكايدة عدوك، ولا تطمعهن في غير نفسك، ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن. وإياك ومشاورتهن في الأمور، فإن رأيهن إلى أَفَنْ، وعزمهن إلى وهن؛ واكفف عليهن من أبصارهن بحجبك، ولا تُملّك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تُطل الجلوس معهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، وأبْين لفضلك. ثم نهض الحجاج فخرج، ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج، فقالت: يا أمير المؤمنين! أحب أن تأمره غداً بالتسليم عليّ، فقال: أفعل. فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد! سر إلى أم البنين فسلم عليها. فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: لابد من ذلك. فمضى الحجاج إليها فحجبته طويلاً، ثم أذنت له فأقرته قائماً ولم تأذن له في الجلوس؛ ثم قالت: إيه يا حجاج! أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتل أبن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله جعلك أهون خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، ولا بقتل ابن ذات النطاقين وأول مولود ولد في الإسلام (تعني عبد الله بن زبير). وأما ابن الأشعث فقد والله والى عليك الهزائم حتى لذت بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام، وأنت في أضيق من القرن، فأظلتك رماحهم، وأنجاك كفاحهم. ولولا ذلك لكنت أذل من النقد. وأما ما أشرت على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسائه، فإن كن ينفرجن عن مثل ما انفرجت به عنك أمك فما أحقّه بالأخذ عنك والقبول منك، وأن كنْ

ص: 89

يتفرجن عن مثل أمير المؤمنين فإنه غير قابل منك ولا مصغ إلى نصيحتك. قاتل الله الشاعر وقد نظر إليك وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك حيث يقول:

أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامَةٌ

فتخاء تفَزَع من صفير الصَّافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى

بل كان قلبك في جناحي طائر

أَخرجْنَه عني! فدخل إلى الوليد من فوره، فقال: يا أبا محمد! ما كنت فيه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتَتْ حتى كان بطن الأرض أحَبَّ إليّ من ظهرها. فضحك الوليد حتى فحص برجله الأرض ثم قال: يا أبا محمد أنها بنت عبد العزيز

ومن مظاهر الترف في دمشق حاضرة الأمويين أنه كان لكل دار فناء مستطيل على جوانبه أعمدة من الرخام ومماش مرصوفة بالحجارة أو الحصباء على أشكال هندسية منتظمة. وفي الفناء نافورة يحيط بها حديقة صغيرة بها الأزهار الزكية الرائحة، وتظلها أشجار البرتقال والليمون، وأمام الباب شباك يوضع فوقه الطست والإبريق للوضوء - وكانت قصور الأغنياء مكونة من طابقين أحياناً - وفي الشتاء تكسى الحجرات بالسجاد الثمين وتدفأ بالمنهل (الموقد). أما في الصيف فكانت النافورات والنوافذ كفيلة بتلطيف حرارة الجو. وكانت سقوف الدار مزدانة بنقوش على الطراز العربي أو مطلية بالذهب. ولم تكن هناك مقاعد، فإذا كان صاحب الدار من أصحاب اليسار، وضعت السجاجيد بعضها فوق بعض لتكون بمثابة مقعد له

وكان قصر الخليفة الأموي بدمشق غاية في الأبهة. وقد ازدانت جدرانه بالفسيفساء، وأعمدته بالرخام والذهب، وسقوفه بالذهب المرصع بالجواهر. وقد لطف جوه النافورات والمياه الجارية والحدائق الغناء بأشجارها الظليلة الوارفة. وقد شيد الحر بن يوسف حفيد مروان بن الحكم الذي ولي بلاد الموصل في عهد هشام ابن عبد الملك، داراً منيفة من الرخام الخالص والمرمر، عرفت بالمنقوشة لما تمتاز به من النقش البديع، كما بنى خانات (فنادق) في الموصل. وقد رأى الحر ما يعانيه أهل الموصل من المشاق في سبيل الحصول على ماء الشرب، فشق قناة لا تزال باقية إلى اليوم؛ وغرس الأشجار على ضفتها حتى أصبحت بمثابة متنزه عام لأهل المدينة

وكانوا يرتدون العباءة فوق القباء ويصنعونها من وبر الجمل. وكانوا يرتدون في الحرب

ص: 90

أردية خاصة فيلبسون السروال عادة ورداء قصيراً بدلاً من الثياب الفضفاضة (الواسعة) المتدلية. أما لباس الرأس فهو العمامة كما كانوا يلقون الطيلسان فوق العمامة. وهو عبارة عن منديل كبير متدل إلى الكتفين ليقي الرقبة حرارة الشمس. وكانت الملابس تختلف تبعا لثروة الناس ومركزهم الاجتماعي ونوع عملهم. فكسوة الفقيه والكاتب تختلف عن ثياب الجند. وكان رؤساء القبائل وغيرهم من علية القوم يرتدون قباء يصل إلى الركبتين يعلوه سروال ثم جلباب فضفاض يتدلى إلى العقبين ويشده من الوسط حزام من الحرير، ويلبسون فوق كل ذلك الجبة أو القباء.

وكانت ثياب المرأة تتكون من سروال فضفاض وقميص مشقوق عند الرقبة عليه رداء قصير ضيق يلبس عادة في البرد. وكانت إذا خرجت من بيتها ترتدي ملاءة طويلة تغطي جسمها وتقي ملابسها التراب والطين، كما كانت تلف رأسها بمنديل يربط فوق الجبهة.

وكان العرب يكتفون بالقليل من الطعام، فلم يتجاوز طعامهم اللون أو اللونين. وكان خير أطعمتهم الثريد وهو الخبز يفت ويبل بالمرق ويوضع فوقه اللحم. وقد تغيرت أطعمتهم وتعددت ألوانها. وفي عهد الأمويين استعمل العرب الفوط والملاعق كما كانوا يجلسون على الكراسي حول مائدة الطعام التي كانت تكسى بمفرش من القماش.

حسن إبراهيم حسن

ص: 91

‌محمد الأديب الأعظم

لَلأستاذ دريني خشبة

لا أدري لماذا يشفق الكتاب أن ينعتوا النبي الكريم بالأديب العظيم؟! هل في ذلك سبة أو فيه حط من قدره صلى الله عليه وسلم؟ وإذا لم يكن الرجل الذي أُوحي إليه بهذا القرآن أديباً فماذا يكون الأديب؟

لقد ترك النبي فينا كتاب الله وسنّة النبوة، وفيها جوامع الكلم التي لم يؤتها إلا هو. ولقد علم بهذين ما لم يعلم فيلسوف بفلسفته، ولا أديب بأدبه، ولا نبي بما أرسل به. . . أسلوب مُعجز، ومعنى مُعجز، واتفاق بين الأسلوب والمعنى معجز، وغرض يشمل كل الكائنات معجز، وحياة هي البطولة المعجزة. . . وأمية لا تعرف القراءة والكتابة يسبح القُراء والكتاب في بحر لجي من قرآنها وحديثها. . . علماً وأدباً ولغةً وبياناً وهدىً وتشريعاً وأخلاقاً. . . فماذا يصنع الأدب غير ذاك؟ الأديب يترك أثره في حيز محدود من بيئته، لأيام معدودات من زمنه، ويكون بعد ذلك رجعاً كرجع الصدى في تضاعيف ذكرياته، حيث يكون شعراً في ديوان، أو قصة يلتذ بقراءتها أفراد، أو درامة يستمتع بشهودها ملأ من الناس، ثم ينصرفون فلا تكون لها في أذهانهم إلا صورة أو فكرة قد تدفعهم إلى فضيلة أو تنهاهم عن رذيلة. . . فماذا ترك الأديب الأعظم محمد بن عبد الله من هذا وذاك؟! أستغفر الله بل ترك أدباً حيًّا يتغلغل في نفوس الملايين من الناس لملايين من الأجيال حتى تقوم الساعة. يحضهم على الخير، وينهاهم عن المنكر، ويستهويهم بصور رائعة من أدبه الحق الذي نسميه الأدب الواقعي يُشرب قلوبهم المحبة الخيّرة النّيرة، ويعمرها بالسلام القائم الدائم، ويعلمهم الإنسانية، ويحبب إليهم الإخاء، ويروضهم على المساواة. . . إلا فيما رفع الله به الناس بعضهم فوق بعض درجات

قد يقول قائل إن هذه الدعوى من باب إقحام الدين في الأدب والأدب في الدين. . لأن الدين هو الذي صنع كل هذا. . ونحن نقول إن الدين هو الذي صنع كل هذا حقاً ولكنه صنعه بأسلحة شتى ووسائل متفاوتة، وقد كان أمضى هذه الأسلحة، وأشرف تلك الوسائل. . هو الأدب. . فالرسول الكريم كان حلو الكلام أغر البيان طليّ المقاطع، ذا قدرة عجيبة في تنسيق حجته، والتدقيق في عبارته، في غير كلفة ولا صنعة حتى وهو في مواقف

ص: 92

الخطابة. . ولم يحفظ الأثر أنه حصر مرة أو أرتج عليه، أو التاث عليه القول، لا على المنبر، ولا في حلقة الدرس، بل كان يتدفق ويشقق الحديث إذا اقتضى الموقف الإطناب، ويقتصر على العظة الصغيرة بلفظها، الكبيرة بفحواها إذا لم يقتض الحال غير ذلك

ثم هاهم أولاء الأنبياء جميعاً. . . فمن منهم تحدى قومه بقوة البيان وصوغ الكلام وإعجاز الأسلوب؟! وما ذلك كله إن لم يكن أدباً؟ وماذا يكون صاحبه إن لم يكن سيد الأدباء؟! إن الله الذي يَسّر القرآن بلسان محمد قد تحدى الناس أن يأتوا بشيء مثله، فما استطاعوا؛ وما يزال التحدي قائماً، ولسوف يعجز البشر جميعاً عن أن يجيئوا بشيء مثل القرآن. . . والقرآن وحي الله، وقد يسره الله بلسان نبيه، والقرآن تشريع ليس فيه جفاف القانون الوضعي، وقصص من النسق الإلهي الذي لا يتملق الغرائز بالفتنة في الحياة الدنيا بل يسمو بها إلى لذائذ الحياة العليا؛ ثم عظة بالغة، ودعوة إلى الحق، ودستور للناس لا يعتوره نقص ولا تشويه شائبة

هل الأدب قصة أو درامة فحسب؟! إن كان هذا فقد قص النبي أحسن القصص وأقواه وأكثره حلاوة وطلاوة، وأشده روعة وتأثيراً. . . وأي قصص أشهى وأحلى وألذ مما يسر الله بلسان نبيه في آدم ونوح وإبراهيم وموسى ويعقوب ويوسف ويونس وهود ولوط وعيسى من أنبياء الله؟!

أم يقولون أنها أخبار مروية فيما يؤمنون أنها الكتب المقدسة التي أنزل الله من قبل؟! ونقول أجل. . . ولكن أين هي هذه الكتب التي أنزل الله؟ أباقية هي على ما أنزل الله لم يعتورها تغيير ولا تبديل؟ ألم تشحنها أقلام الرواة والنُّسَّاخ بما طاب لهم وبما ندّت به أقلامهم؟. . . أحقَّا قد زنى داود؟ أحقَّا قد وقع جميع الأنبياء في الخطيئة؟ لقد جاء القرآن مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل مما لم تبدله قرائح البشر، فبرّأ الأنبياء مما أُخذوا به باطلاً من الدنس، ثم روى أخبارهم بلسان صدقَ عِليّ وبأروع بيان وأدق أسلوب، ثم حدّث النبي بما يشبه أن يكون تعليقاً وشرحاً وتفسيراً فجاء بكل معجب وكل مطرب. . . ثم حدّث بالأحاديث القدسية العالية التي مسرحها السماء وملهمها لله القدير، فأي درامات الكتاب والشعراء روع مما تحدث به النبي؟ وأي حديث زخرفه قلم شاعر أو ناثر أو روائي يسمو إلى الحق الذي تنزل به جبريل على فؤاد محمد وما حدّث به محمد من

ص: 93

تخاصم أهل النار وتحدث أهل الجنة، والواقفين على الأعراف، والولدان المخلدين، والكواعب الأتراب، ومخاطبة العزيز اللطيف لمن فاز من عباده، وغيظ الكافرين وما يقع بينهم وبين إبليس من شحناء وموجدتهم على الشياطين والنار تؤزهم. . .؟

هذا هو القصص الحق الذي لم تبهرجه يراعة مؤلف، ولم يختلقه خيال روائي. وهذا هو قصص الله الذي خلق الإنسان علمه البيان. . . الله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. . . الله الذي أرسل للناس نبياً عربياً من الأميين، فقضى أن تكون أمية عجيبةُ معجزة تفهم كل شيء وتعي كل شيء، وتبهر المتعلمين والدارسين بما لا يستطيعونه ولا يقدرون على مثله أو بعضه. . . أمية أعدها الله لهذا الأمر العظيم إعداداً لا تقوى جامعاتنا الحديثة على شيء مثله. . . أمية أبوتها في بني هاشم، وخئولتها في بني زهرة، ورضاعها في سعد بن بكر، ونشأتها في قريش، وزواجها في بني أسد، وهجرتها إلى الأوس والخزرج. فانظر كيف تقلبت في القبائل فتمرست بها، ووعت لغاها، ووقفت على أسرار بيانها، فلما بعثها الله لهذا الأمر لم تضق ذرعاً بأحد، ولم تضق فهماً بلسان أحد، بل كانت تكلم كلاً بلسانه، وترد على كل بلهجته. بل هي قبل أن يبعثها الله لتبليغ رسالته كانت تحب الأدب وتشغف به، فكانت تتردد على الأسواق تصغي إلى الشعراء الخطباء، وتحفظ من الخطب ولا ترى حرجاً في أن تروي منها.

علل أحد البصربين أمية الرسول الكريم: فقال: (إن الله إنما جعل نبيه أمياً لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب من قيافة الأثر، وعيافة الطير، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء القرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله. . . وزعم أن الله لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظاً من الحاسب والكاتب، ومن الخطيب والناسب، ولكن ليجعله نبياً، وليتولى أمر تعليمه بما هو أزكى وأنمى، فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القليل ليجلي له الكثير. . .)

وقد تولى شيخ أدباء العرب أبو عثمان الجاحظ (البيان ج1 ص230) نقض هذا الكلام

ص: 94

فقال: (وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يرد إلا الخير، وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه، ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قريض الشعر وجمع النسب قد كانت فيه تامة وافرة مجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا أحتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا أحتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، لما كان ذلك مانعاً من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره، على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم؛ ولكنه أراد ألا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المؤنة، وأسهل في المحنة، فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقريض الشعر وروايته صار لسانه لا ينطق به، والعادة توأم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، وكانت آلته أوفر، وأداته أكمل. . . إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أبعد. . . وبين أن يضيف إليه العادة الحسنة، وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرق. . . ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر. . . الخ)

فالجاحظ هنا يحامي عن معرفة النبي لآداب العرب - وهو ما يعنينا - وعن إلمامه بما كان فخر قومه ومحل نبوغهم. . . ولما كان أعز ما يفتخر به العرب هو البيان فإنه لم يمنع النبي مانع إذا أراد البلاغة أن يكون أبلغ البلغاء، وإذا أراد الخطابة أن يكون أخطب الخطباء، وإنه أن أطال لكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر لقول أتى على غاية كل خطيب. . .)

وهذا دفاع مجيد من شيخ الأدباء العرب عن النبي الأديب الأعظم في معرض ما فهم أحد علماء البصرة من أمِّية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دفاع رجل كان يهب حياته للأدب، وكان يعنى بأدب الرسول خاصة، وكان يصف كلامه فيقول: (هو الكلام الذي قل

ص: 95

عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد:(وما أنا من المتكلفين) فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة، وشُيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق

(وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معادوته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق ولا يطلب الفَلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يُبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً. . .)

والذي وصف به الجاحظ كلام الرسول قول حق، وهو كان يفضل به كلامه صلى الله عليه وسلم على كل كلام العرب، أما نحن فنجعل حكم الجاحظ أعم وأشمل. فليس في كلام أحد من الفرنجة قاطبة كلام يشبه كلام الرسول فيما رسمه الجاحظ. . . وقد يقول قارئ غير مسلم:(كاتب مسلم متحمس للرسول فهو لا يستطيع أن يقول غير هذا!) كلا والله. . . فلقد قرأت ودرست أدب الأقدمين شعراً ونثرا وخطبا؛ ولقد قرأت ودرست أدب النهضة في جميع الممالك الأوربية؛ ولقد قرأت ودرست ووازنت بين أدباء عصر بركليس وأدباء عصر إليصابات، وأدباء عصر لويس، وأدباء القيصرية الروسية، فلا والله ما وجدت أجدهم يرتفع إلى أدب الرسول ولا يحكيه غزارة ورقة وازدحاما بالمعاني وشمولا للأغراض. وهذه هي خطب ديموستين في التبغيض في الأرستقراطية والتبشير بالديمقراطية. . . أين هي من هذه المساواة العجيبة التي أقامها محمد بين هذه الملايين بقوله: إنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟ بل أين هذا الخطيب الوضيع المرتشي

ص: 96

الذي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، والذي فر من مواطنيه اليونانيين حتى إذا لاحقوه وضيقوا عليه عمد إلى السم ليضع حداً لمهزلة حياته الفياضة بالمخازي؟ أين هذا الخطيب الذي يحفظ الأثر خُطبه كأنها المثل الأعلى للخطابة من الرسول الكريم الذي لم يكن ينطق عن الهوى، والذي ألف بخطبه بين أشد القلوب عنجهية وأفدحها جاهلية وأكثرها عصبية، فخلق منها أمة تعبد رباً واحداً بعد أرباب، وتنتشر من الصحراء بمصابيح الهداية فتملأ المشرقين والمغربين نوراً وهداية وحكمة وعرفاناً؟

ثم خطيب الرومان شيشرون! هذا الرجل الذي فضح مارك أنطوان بخطبه الرنانة. . ماذا ترك لخير الإنسانية من كل ما كتب وخطب؟ لقد كان محامياً مدرهاً، فهل كسب للإنسانية قضية كهذه القضية لتي كسبها لها محمد بن عبد لله؟ لقد كتب في القانون والفلسفة والأخلاق، فهل حل معضلاتها المعقدة كما حلها محمد بن عبد الله النبي الأمي؟ ولقد حفظ لنا الأثر كثيرً من خطبه ومقالاته، فهل فيها ما يرتفع إلى بيان محمد وبلاغة محمد؟ هل استطاع أن يضع للرومان دستوراً يحمي الجمهورية ويحول دون قيم الإمبراطورية كهذا الدستور الذي أوحي به إلى محمد، والذي يَسَّره الله بلسان محمد؟

ثم هذا دانتي. . . هذا الكاثوليكي القح. . . الذي يرفعه مؤرخو الأدب إلى ذروة المجد بما بهرج في الكوميديا الإلهية؟ ماذا جاء به من السحر في هذه المنظومة؟ لقد أثبتنا بما نشرناه في (الرسالة) أن كل شيء رائع في هذه القصيدة ليس من صنع دانتي، بل هو مما سرق دانتي من أخيلة القرآن وبيان الأحاديث في وصف الجنة ووصف الجحيم، وذلك بما أنتشر من ثقافة القرآن وثقافة الأحاديث بعد الحروب الصليبية وقبلها عن طريق الأندلس وعن طريق صقلية إلى فرنسا ثم إيطاليا

ثم هذا ملتون. . . فأين ما جاء في فردوسه من الحرب بين الشيطان وبين المسيح وأجناد المسيح مما جاء في القرآن والحديث من تحاور بين الله العلي وبين إبليس، وبين إبليس وبين ملئه الذين أغواهم فأدخلهم النار ثم تبرأ منهم وهو يرسف معهم في سواء الجحيم؟!

ثم هذا جون بَنْينْ! فماذا جاء به في (رحلة الحاج) مما ليس له مثل بل أمثال تبذه وتزري به في أدب محمد النبي الأمي؟

وهذا بيكون الأديب النائب العام والكاتب الأخلاقي الفيلسوف المرتشي الذي لم يرع لذي

ص: 97

فضل عليه فضله ولم يكن عنده من الوفاء ما يجزي به ذوي الأيادي الغر عليه، ماذا كتب في فصوله في الأخلاق مما لم يسبقه إليه الرسول الأعظم؟

والأدباء العظام في عصر لويس الرابع عشر: بيير كورنيل وديكارت وموليير وراسين ولافونتين، إننا نقولها كلمة حق لا تصدر عن حماسة فحسب، بل عن تروية ويقين: إن المُثل الرائعة التي زاد بها هؤلاء في تراث الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية هي قل من كثر مما ضاعف به النبي هذا التراث، ونحن نقول المثل لأن النبي لم يكن ضحاكاً كموليير ولا فيلسوفاً كديكارت ولا مؤلف درامات كراسين، بيد أنه مع ذاك أنشأ للإنسانية مثُلاً أسمى مما أنشأ هؤلاء، وأنشأها كلها عن طريق الأدب

والأدباء الذين مهدوا للثورة الفرنسية. . . فولتير وديدرو وبومارشيه ورسو. . . هل أنشئوا ثورة كهذه الثورة التي أنشأها محمد بن عبد الله وقام بها وحده؟! وأين هي الثورة الفرنسية التي انتهكت فيها الحريات باسم الحرية، وخضعت فيها الكرامات والشرائع لجنون الشعب وعربدة النساء ولوثة الأوشاب من تلك الثورة العظيمة في سبيل الحق وخير الإنسانية وانتشال العقل من براثن الأغوال الحجرية التي كان يعبدها الناس. . . هبل ويغوث ويعوق ونسر واللات والعزى وضمار؟! أي الثورتين كانت أروع وأيهما كانت أعود بالخير على الناس وعلى الأفهام؟!

لقد كتب روسو إنجيل الثورة، فهل رسم فيه ما رسم القرآن للناس أجمعين في كل العصور؟! وهل كاتب إنجيل الثورة كهذا الوحي لذي يسره الله بلسان محرر؟!

ثم هؤلاء منشئو الأدب الألماني: جوته صاحب فاوست، وشيللر صاحب وليم تل، ولسنج مؤلف لاوكون، وهم الذين أعدوا الذهن الألماني إعداده الذي غبر عليه قرن ونصف قرن، الإعداد الذي لا يعرف شيئاً وهو المثل الأعلى غير القوة والغَلْب، هل جعلوا ألمانيا تقهر العالم في أقل من عشر سنين كما جعل محمد أمته تصنع ذلك؟ وإذا قدر لألمانيا أن تصنع ذلك، فهل كانت تنشر الأمن والطمأنينة والعلم والنور ودين الحق بالسلام كما نشر العرب ذلك جميعاً في ربوع العالم؟ أم أنها كانت تستعبد الناس وتذلهم وتقول لهم أنتم ساميون وحاميون. . . و. . . آريون. . . أما نحن فآريون نورديّون؟! في حين يقول محمد للناس:(لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى!!)

ص: 98

أم أدباء روسيا: لرمنتوف وجوجول وتولوستوي ودستوفسكي وترجنيف وبوشكين وجوركي؟! ماذا أسلف هؤلاء جميعاً؟! لقد مهدوا بأدبهم الباكي المتوجع البائس الفقير الغارق في الدموع لهذه الشيوعية المخربة التي تستبد بالناس وتسومهم الخسف وتهدم مساجدهم وكنائسهم وبيعهم وتبيح نساءهم باسم لدولة. . . فكأنهم تخلصوا من راسبوتين ليقعوا في براثن ستالين!!

وبعد. . . فنحن لا نحصي أدباء العالم هنا لنوازن بين ما انتهى إليه أدبهم وبين ما انتهى إليه أدب الرسول الكريم. . . ونحن لا نقص من الآداب الرائعة التي لها قيمتها ولها أثرها لنرفع أدب نبينا بغير حق، بل نحن نقارن بين مُثُل ومُثُل ونوازن بين خير كثير أصاب الإنسانية على يد رجل واحد وخير كثير أصابها على أيدي كثيرين، وشتان بين الأدبين

أما ن يقول أحد إن الأدب هو القصة، فلقد قص الرسول أحسن القصص وأروعه، في أحسن عبارة وأقوى أسلوب. . . وأما أن يقول أحد إن الأدب هو الشعر، فما كان محمد شاعراً، ولم ينبغ له أن يكون شاعراً، ومع ذاك فقد يَسر الله بلسانه في القرآن من المعاني والأوصاف والأمثال والتشريع والحكمة وجمال الأداء، وإعجاز التراكيب، ما لم يتيسر لشاعر من شعراء العالمين. وكذلك حديث رسول الله، فهو ثروة ثانية من أروع صور الآداب، ومنهل عذب للواردين

وأما أن يقول أحد إن محمداً لم يؤلف درامة، فحسبه أنه كان يمثل درامات الحق فوق مسرح الواقع، وليس في الأدب المسرحي جميعاً ما هو أروع من إسلام حمزة أو موت حمزة، وإسلام عمر أو مقتل عمر، وهجرة محمد من وطنه العاق إلى مُهاجَره الصادق، وصبر أصاحبه على أذى قريش وكفران قريش، ورمي المنافقين زوج الرسول بالإفك وصبر عائشة لذلك. . . وهذه المئات والمئات من مشاهد الدرامة الكبرى التي قام بأدائها الرسول، والتي رواها وقص فصولها في واقعه، ويسر الله لسانه بذكرها في قرآنه

صلى لله عليك يا رسول لله إذ يسألك أبو بكر: لقد طُفْت في العرب وسمعت فُصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أَدَّبك؟ فتقول: أَدَّبني ربي فأحسن تأديبي!

دريني خشبة

ص: 99

‌المُروءة مصادرٌ مَطويَة

لِلدكتور بشر فاِرسِ

المروءة (أو المروّة) من الألفاظ التي يكثر ورودها في النصوص العربية القديمة ولاسيما في الكتب التي ألفها أدباء العهد العباسي. وهي، من باب آخر، من الألفاظ المشتبهة في اللغة العربية لتضارب الأقوال فيها وتدافع التعريفات لها. وقد عظم شأنها على تعاقب الأيام حتى تناولها المتكلمون والمتصوِّفة فنزلت منزلة الفضيلة بل منزلة مبدأ (أخلاقي). وذلك ما دفع بعض المستشرقين والشرقيين أن يعدوها، وهماً، رأس الفضائل الجاهلية

والذي يبدو لي أن المروءة أفادت، أولّ أمرها، الرجولة الحسية أي شدة الأسر، ثم الرجولة المعنوية أي السجايا الرفيعة، سجايا السيد مثلاً. ولذلك قرنها نفر ممن تكلموا عليها بالسيادة أو السؤدد. وهذان المفادان: الحسي والمعنوي، ظلا يتنازعان المروءة، فاتصل الأول بالحياة المادية ولحق الثاني بمكارم الأخلاق. وقد غلب الجانبُ المعنوي الجانبَ الحسي بفضل الإسلام. (وهنالك أحاديث غير صحيحة في المروءة وعظمة شأنها) وأخذ ذلك الجانب الغالب ينتقل على مدار الأيام من موضع إلى موضع؛ فدلت المروءة على العفاف والأدب والفضل والإنسانية والسرو؛ ثم قامت لفظاً واقعاً على محاسن جمة، على أقلام المحدثين والمتكلمين والأخلاقيين والفقهاء. وأما المتصوفة فأنزلوها منزلة الفتوة، فتجاورت اللفظتان في ميدان الأخلاقيات المجردة. وقد اتفق لها أن تنحرف إلى هنا وإلى هنا على ألسنة العامة قديماً في الأندلس وحديثاً في مصر والشام

كل هذا الحديث مع ما تحته من التفصيل والتبيين تجده في فصلٍ من فصول كتابٍ من هذا القلم يخرج باللغة العربية بعد أيام، وعنوانه (مباحث عربية) وعنوان الفصل (المروءة في اللغة والعرف). وقد انسقت إلى النظر في هذه اللفظة يوم كنت أؤلف (العرض عند العرب الجاهلية) ثم انصرفت إلى استجلاء غوامضها وتمحيص مدلولاتها باستقصاء المصادر والمراجع فنشرت فيها فصلاً في (تكملة دائرة المعارف الإسلامية) البارزة في هولندة (الجزء الرابع)

وأما هذه المصادر والمراجع فمتشعبة غزيرة، فيها المطبوع والمخطوط؛ وفي القراء من أصاب في كتب الأدب أشباه (العقد الفريد)(وعيون الأخبار) و (الموشي) و (أدب الدنيا

ص: 100

والدين) أبواباً في المروءة. بل هنالك كتاب أُفرد لها، عنوانه (مرآة المروءات) لأبي منصور الثعالبي (مصر 1898). ومن المصادر المطوية كتاب (مرآة المروّات) لعلي بن الحسين ابن جعدويه، كتبه للوزير نظام الملك (456 - 485هـ) وكتاب ابن جعدويه مُجرىً على أسلوب كتاب الثعالبي مع ميل إلى الناحية الدينية بل الصوفية. وقد اهتدى إلى مخطوط ابن جعدويه المستشرق الأستاذ تيشنر فوصفها في المحلة الاستشراقية (الجزء الخامس 1932).

والذي في نيتي ههنا أن أنشر مصدرين آخرين. أما الأول ففصل في المروءة والسؤدد من مخطوط عنوانه (كتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وبدايع الأوصاف وغرايب التشبيهات) لمجهول، وقد أصبته في المخطوطات المخزونة في دار الكتب الوطنية في ليدن ورقمه 409.

وأما الثاني ففصل في المروَّة من مخطوط مخزون في أيا صوفيا تحت رقم 2049 ويقع في ص206. وقد أشار الأستاذ تيشنر إليه في المقال المنشور في المجلة المذكورة، ثم بعث إلي وسمح لي بنشرها، فله الشكر.

وفي المصدر الأول تعريفات وأقوال في المروءة على أنها لون من ألوان السيادة وشرط من أشراطها وأما الثاني ففيه محاولة لرد معنى المروءة إلى المدلول الأصلي من ناحية الاشتقاق ثم نظرة (أخلاقية) في شأنها، طرافتها ذلك التفريق الذي بين المرأة والرجل.

ا - مخطوط ليدن

(ص11)(الفصل السابع في السودد والمروّة)

(قال النبي صلى الله عليه وسلم: تجافوا عن عقوبة ذوي المروة ما لم يقع حداً. وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. قيل لقيس ابن عاصم: بِمَ سدت؟ قال: ببذل الندى، وكف الأذى، ونصر المولى. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: إن للناس وجوهاً يرفعون حاجة الضعيف فأكرمهم. وقال عليه السلام: أقيلوا الكرامَ عثراتِهم. قال معاوية لابنه يزيد: ما المروة؟ قال: إذا ابتليت صبرت، وإذا أنعم عليك شكرت، وإذا قدرت عفوت. قال: أنت مني، وأنا منك. وسئل بعض الحكماء عن المروة، فقال: إسرار ما تحَب (تحِب) أن تعلن، ومواطاة القلب اللسان. وقيل: المروة ألا تعمل شيئاً في السر تستحي منه في العلانية. يقال:

ص: 101

كان سَلم بن نوفل سيد كنانة فجرح رجل ابنه، فأتى به، فقال له: ما أمنك (ص11 م) من انتقامي؟ قال: فلم سودّناك إلا أن تكظم الغيظ وتعفو عن الجار وتحلم عن الجاهل وتحتمل المكروه؟ فخّلى عنه. دخل جُذيم بن أوس الطائي على معاوية، فقال: من سيُدكم اليوم؟ قال: من احتمل شتمنا، وأعطى سايلنا (سائلنا) وأغضى عن جاهلنا، وأغتفر ضَرَبنا (ضرْبنا) إياه بعصيّينا (بعصيّنا). وقال عدي بن حاتم: السيد، الأحمق في ماله، ذليل (الذليل) في عرضه، المطرحُ لحقده، المعّني (المعنيّ) بأمر عامته. يقال الارتقاء إلى السوود صعب، والانحطاط إلى الدَّناة (الدناءة) سهل. قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سّيد قومك؟ قال: أنا، قال: ولو كنت كذا ما قلته. مال (قال) معاوية لوفد: كيف كان قطبة بن زيد فيكم؟ قالوا: كان إذا حضر أطعناه، وإذا غاب شتمناه. قال: هذا والله السودد المحض. قال عمرو بن عبيد: لا يكمل مروة الرجل في دينه حتى يكون فيه ثلاث خلال: يقطع رجاه مما في أيدي الناس، ويستمع الأذى فيحتمل، ويحب للناس ما يحبَّ (يحبُّ) لنفسه. قال ابن عمر: إنا معاشر قريش نعد الحلم والجود السودد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروة. سأل معاوية (ص12) الحسن بن علي رضى الله عنه - عن المروّة. فقال: حفظ الرجل دينه وإحرازه نفسَه من الدنَس وقيامه لضيفه وآد (أداء) الحقوق وإفشاء السلام. بعث رسول من خرسان إلى سَوار بن عبد الله القاضي يسأله عن المروة ما هي، فقال الإنصاف والتفضل. وقال علي رضى لله عنه: ثلاث من كن فيه استوجب بهن أربعاً (ثَلثاً تصويب في النص) من إذا حدث الناس لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم (يخلفهم)، وإذا خالطهم لم يظلمهم؛ فإذا فعل ذلك فقد وجبت اخوته وكملت مروته وحرمت غيبته. قال ابن عمر: ما رأيت أحداً أسود من معاوية، قيل: يا أبا عبد الرحمن: أهو خير من أبي بكر وعمر؟ قال: هما خير منه، وهو أسود منهما. قيل له: هو أسود أم عثمان؟ قال: إن عثمان لسيّد، ومعاوية أسود منه.)

ب مخطوط ايا صوفيا.

وأما المروة فلها اشتقاقان من أحدهما يقتضي أن يكون هي والإنسانية متقارنتين، وهو أن يجعَل من قولهم: مَرُؤ الطعام وامرأة (وأمرأة) إذا تخصص بالمري لموافقته الطبعَ، فكأنها اسم الأخلاق والأفعال التي تْقلّبها (تقبلها) النفوس السليمة. فعلى هذا يكون اسماً للأفعال المتحسنة كالإنسانية. والثاني أن يكون من المرْءِ فَيُجعل اسماً للمحاسن التي يختص بها

ص: 102

الرجل دون المرأة فيكون كالرجولية؛ وذلك أخص من الإنسانية، إذ الإنسانية يشترك فيها الرجال والنساء، والمروة أخص بكثير مما يكون فضيلة للمرأة يكون ذاية (رذيلة) للرجال كالبله والخفر والبخل والجبن، ولهذا قيل الخلايق الرجال (خلايق الرجال) أرذل أخلاق النساء، فالكيس والشجاعة والجود رذيلة لهن.)

بشر فارس

ص: 103

‌روح الإسلام في العبادة

لِلأستاذ عُمر الدسوقي

من ذياك المخلوق المتجبر الذي تعنو له جباه الضواري في أدغالها، وتفرق من طلعته الوعول في معاقلها، ويمعن السمك في مساربه هلعاً لدنوه، وتهابه الطيور في أوكارها، والصّلال في أجحارها؟! هو الإنسان! درج على الأرض فكان سيدها المطاع، ولم تعجزه إلا تلك القوى السماوية، من ريح زفوف عاتية، أو رعود قاصفة مدوية، أو زلازل تميد لها الأرض تحت قدميه، أو براكين تثور محنقة غاضبة أمام عينيه. كيف يدرأ شرها، أو يحوز رضاها؟ سجد لها وتضرع، وتزلف بالقربى والابتهال. ولكنه خلق وفي نفسه عنجهية وكبرياء، فأخذ على مر القرون يتنكر لها، ويشمر عن ساعده لتسخيرها وصرعها، وكلما ذاق لذة الظفر مرة، قوى إيمانه بقدرته، وجلال عقله، وكفر بها، ولج في كفرانه؛ بيد أنه أحس من أعماق فؤاده نداء خفياً أن ثمة إله آخر، أنت والدنيا والطبيعة صنع يده القادرة! ما بالك كلما حز بك مر، أو تكأكأت عليك المصائب، أو خطف الموت فلذة كبدك وأحباءك، تنادي في ذلة وضراعة ذلك الإله الذي لا تراه، أنْ رفقاً يا رباه، فليس لي حول ولا طول أمام جبروتك وعظم ملكوتك. قرت في جنانه تلك العقيدة فهدأ بلباله، وطفق يلهج بما يكنه فؤاده من حب ومعرفة بالجميل، وندم وتوسل، لذلك الإله الدائم اليقظة، الذي ينشر رحمته على الدنيا جمعاء. وهل الصلاة والعبادة سوى مظهر من مظاهر ذلك الشعور الذي يفيض به قلب الإنسان؟

فكر في كنه ذلك الإله، ثم فكر حتى أجهده الفكر، وكبا عقله في الميدان صريعاً، وزين له الشيطان أن يصور ذلك الإله ويرمز له، ويعبد الرمز تقرباً إلى الله وزلفى؛ ثم أتى عليه حين من الدهر نسى مغزى هذه الرموز والأصنام، فخالها آلهة قادرة، يتحكم كل منها في شأن من شئون العالم؛ وتوهم أن لها ما للإنسان من شهوة ورغبات، وإحساس وشعور؛ ومادام الإنسان لا يَقر عيناً ويطيب نفساً إلا إذا عَلَّ من معين المادة حتى روى، فكذلك الآلهة لابد له من القرابين والضحايا. شاد المعابد والهياكل وأخذ يتعبد كما زخرف له الشيطان؛ ولهذا كانت العبادة عند قدماء الهند تتألف من الطهارة والقرابين، وظلت هكذا ردحاً من الزمن غير قصير، حتى آب الإنسان لرشده وارتقت الفكرة الدينية عند فلاسفة

ص: 104

الهند الأقدمين، ففهموا للطهارة والقربى مغزى غير ما أدرك أسلافهم؛ بيد أن البرهمية لم تحد قيد شعرة عن إيمانها بالقربان؛ ولاسيما بعد أن قويت عقيدة الدهماء بالكهنة، وما حبتهم الآلهة من فضائل خفية هي حَبْس عليهم وعلى ذرياتهم من بعدهم

اعتقد طغام الناس أن الآلهة لن تتقبل القربان، إلا إذا باركه الكاهن، وقدمه بيده، وبطريقة معينة لا تغيير فيها ولا تبديل، مرتلاً خلال ذلك أناشيد وأدعية، يرددها لسانه، ولا يحس بها جنانه، بينما يقف المتقرب مكتوف اليدين يسمع ويرى دون أن يضرب بسهم، أو يفوه بكلمة، في هذه العبادة التي أقيمت من أجله. لم تكن العبادة تقدر بسيرة المتقرب الخلقية، وفضائله ومزاياه، أو رذائله ونقائصه، ولكن بحذق الكاهن وبراعته في تأدية المراسيم الدينية غير متلعثم اللسان، أو جامح اليد، وإلا بطل ثوابها وحبط عملها؛ وما على المتعبد إلا أن يعتقد بأن الآلهة سوف تسبغ عليه أبراد الرحمة ضافية، جذلاً بما قدمت يداه

أما الزرادشتيون، والصابئون من الفرس، فقد عاشوا في دنيا من الصلوات والدعاء؛ فكان الزرادشتي يتمتم بالدعاء، إذا عطس، أو قلم أظفاره، أو قص شعره، أو حاك ثيابه، أو طهى طعامه، أو أشعل مصباحه، ليلاً ونهاراً، لا يكل ولا يمل

دانوا بالعبادة بادئ ذي بدء لإلههم (أورمزد)، ثم ما لبثوا أن قدسوا السماء وبروجها، والأرض وجبالها، والوحوش الكاسرة، والأشجار المتباينة، وكان لنبات القمر منزلة في نفوسهم لا تسامى

وما كانت عبادتهم سوى تكرار صيغة من الدعاء، فقدت ما بها من حرارة، وذهب ما لها من طلاوة وتأثير بكر الزمان ومر العشي. أجل! أن المثل الخلقية كانت جلية عند بعض مفكريهم، ولكن الشعب لم يدرك لها رسماً. أضف إلى ذلك أن الكهنة خصوا أنفسهم بالحياة الروحية، وحرموها على سواهم من الناس؛ كما شيدوا حصوناً من القداسة كانت لهم معقلاً يباعد بينهم وبين غيرهم، ويحول بين الناس وبين المتعة الروحية السامية؛ لأن الكهنة ابتدعوا نوعين من العبادة، أولهما حِكر عليهم وعلى طائفتهم، وثانيهما مباح للناس أن يساهموا فيه

أما اليهودية فجاءت خلواً من الأوامر التي تحث على الصلاة، اللهم إلا صيغة واحدة من الدعاء يلفظ بها رب الأسرة، حين يدفع جُعل الكاهن، أو يتقرب بباكورة ماشيته وزرعه،

ص: 105

مثنياً فيها على الله أن مكنه من القيام بامتثال أوامره، ومتوسلاً إليه أن يسبغ بركاته على بني إسرائيل

ثم سمت الفكرة الروحية حول الذات العلية، عند عامة اليهود، ووعاظهم، واختفت عقيدة التجسيم من أفئدتهم، وأدرك الناس أن العبادة شرعة يصل بها العبد إلى مولاه؛ ومن ثم أصبح اليهود بالعرف والعادة أمة ذات صلاة، على الرغم من فقدان النص الصريح في شريعتهم. ولكن الصلاة عادت آلية في كثير من الأحيان؛ لأن الشعب لم يجد مناصاً عن طلب الكاهن ليؤمهم، إذ لم يكن بين أيديهم تشريع خاص من الله يرجعون إليه؛ ونفقت سوق الكهنة وأخذوا يبيعون كلمات الله بثمن بخس دراهم معدودات. ألم يعنفهم القرآن على ذلك الجرم في سورة البقرة مخاطباً بني إسرائيل:(ولا تَشْتُروا بآياتي ثمناً قليلاً، وإيَّايَ فاتَّقُون)؟؟

ثم مثلت تعاليم المسيح تطوراً جديداً في شعور الإنسان الديني وقدرت الصلاة حق قدرها، واقتفى الحواريون خطى إمامهم فعكفوا على عبادة الله وحمده؛ ولكن المسيحية، جاءت كاليهودية، خِلوا من قواعد معينة، ونظم محدودة، يسترشد بها الدهماء في صلاتهم، فتركوا على مر الزمن ألعوبة في يد القسيسين الذين أخذوا على عاتقهم، تنظيم العبادة، وبيان أوقاتها ومراسيمها؛ ومن ثم ألفت كتب الصلاة والأنظمة الدينية، والمجالس الكنسية؛ لتبين للناس ما يعتقدون وكيف يتعبدون؛ ومن ثم برزت للوجود عبادة الرهبان الآلية، وأناشيدهم وترتيلاتهم التي لا روح فيها؛ واخذ الناس يهرعون إلى الكنائس يوماً من كل أسبوع، ليأخذوا ما فاتهم من الغذاء الروحي خلال الأيام الستة الأخرى.

كانت هذه حال الديانات في القرن السابع الميلادي، حين سطع نور الرسالة المحمدية في أفق صحراء العرب، يهدي الناس إلى دين جديد، يشبع نهم نفوسهم، ويسمو بأرواحهم إلى الدرجات العلى. دع جانباً ما كانت تهيم فيه الأمة العربية ذاتها، من ضلال، وفساد في العقيدة، وإسفاف في الفكرة الدينية، وعجز عن إدراك عظمة الإله وقدسيته، وطوافها بأصنام من الحجر الصلد، لا تحير جواباً إذا نوديت، أو تنفع إذا دعيت، أو تشع في الفؤاد نوراً أو تبعث في الروح يقظة إذا عبدت وقدست.

نفذ الإسلام إلى قرارة الروح الإنسانية، ورأى تحرقها للإفصاح عن حبها وشكرها لله،

ص: 106

ففرض صلاة، تسعد بها النفوس، وتنبل الأخلاق، وتسمو العقول؛ وجعلها على أوقات، حتى لا يسبح الفكر الإنساني في عالم الماديات، وينسى غذاءه الروحي. وقد أوضح صاحب الرسالة عليه السلام كيفية أدائها قولاً وفعلاً، لئلا يترك الناس فوضى في عباداتهم.

وغدا المجال فسيح المدى أمام كل فرد، ليعبد الله بقلب يفيض حباً وضراعة وإخلاصاً.

إن الصلاة التي تؤدى، والنفس تعمرها الخشية والخشوع، لجديرة أن تجعل من الإنسان مَلَكاً يغمر الناس حباً وحناناً وخيراً وإحسانا، وفي ذلك يقول الله سبحانه:(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر)

وهاك ما قاله أحد كتاب الإنجليز مرة: تتجلى عظمة الإسلام في أن معابده ليست مما تشيدها الأيدي، وأن المسلم يستطيع تأدية صلاته في أي مكان شاء، تحت القبة الزرقاء، أو على ظهر البسيطة) أي بقعة يصلي فيها المسلم مخلصاً لله حنيفاً فهي له مسجد (جعلت لي الأرض كلها مسجداً، وتربتها طهوراً)

لم يقدر المسيحيون ما في صلاتنا من قوة روحية ومعنوية، ونبي الإسلام يقول:(جعلت قرة عيني في الصلاة) لأنه يناجي ربه ويجرد روحه أمام بارئه دون وساطة أو شفيع. وقد ثبت عن الثقاة أنه كان يبكي، وينتحب في صلاته، ويتململ تملل السليم تضرعاً إلى الله، وإنابة له.

لا رهبانية في الإسلام؛ لأنه دين سمح، سهل، يكفل خيري الدنيا والآخرة، ولم يدع أي شيء يحول بين العبد وربه:(وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا لعلهم يرشدون) وهذا ما جعل الإسلام يهزم البوذية والزرادشتية في عقر دارهما، ويدخل الناس فيه أفواجاً من كل أمة ونحلة؛ هرباً من عتو الكهنة واغتصابهم لحريتهم، وتحكمهم في أرواحهم.

كل مسلم مكلف بمعرفة دينه، والتفقه فيه، فلا طوائف دينية في الإسلام، ولا كهنة حباهم الله القداسة والقربى، بل الناس أمام الله سواسية كأسنان المشط، أكرمهم عنده أتقاهم. والتشفع بالأولياء، في شرعة الدين الحقة، ضرب من البدع وانحراف عن جادة الصواب، وروح الإسلام.

ربما توهم بعض الناس أن التقرب إلى الله بإراقة دماء الأضحية من تعاليم الإسلام، ولكن

ص: 107

هذا باطل لأن نحر الأضاحي في عيدنا الأكبر تذكرة بما قام به سيدنا إبراهيم لا غير، فضلاً عما فيه من إطعام البائس والفقير؛ ولذلك يُهدى ثلثها ويُتصدق بثلثها، ويؤكل ثلثها الباقي.

جعل الإسلام طهارة البدن شرطاً في صحة الصلاة، وفي الوقت ذاته نص على أن مجرد الطهارة البدنية لا يغني أمام الله فتيلاً، إذا لم تصحبها طهارة في الروح، وإخلاص في القلب، وخلوه من الكبر والرياء، والحسد والبغضاء.

يستقبل المسلمون جميعاً مكة في صلاتهم؛ حتى يظل مهد الإسلام الذي انبثق منه هذا النور الفياض، والذي شاهد أشعته الأولى تبدد دياجير الجهل، ملء سمع المسلمين وأبصارهم؛ وحتى يتمثلوا موطن ذياك الصراع العنيف بين الحق وصولته، والباطل ودولته، وكيف حطمت الأصنام وطهرت الأرض من أدران البغي والعدوان، والعشق والدعارة؛ وحتى يتذكروا أن إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها يشاطرونهم شعورهم، ويولون وجوههم صوب هذه البقعة المباركة كما يتوجهون، وأن المسلم عضو في جماعة عظيمة تملأ فجاج الأرض، يربطها دين واحد، ويحفزها رجاء واحد، وتؤمن بإله واحد.

تلك هي روح الإسلام في فرع واحد من فروع العبادة، ولولا خشية الإطالة لبينت ما في الصوم والزكاة والحج من فكرة سامية وروح عالية.

عمر الدسوقي

ص: 108

‌دارٌ مُؤمنةُ

للأَستاذ محمد سعيد العريان

(ضلّت البشريةُ إن كان هذا مَبلغَها من العلم بالله!)

همس بها (زيدٌ) في أذن صحابته فالتفتوا إليه مذعورين يسألونه الصمت والحذر!

هذه بطون قريش جميعاً في عيد لهم عند صنم من أصنام الجاهلية مُلَبِّين ضارعين يعظّمونه وينحرون له عاكفين عليه. ذلك شأنهم في كل عيد. .

وأولئك أربعة نفر من قريش قد اجتمعوا لغير ما اجتمع آباؤهم وأبناؤهم واخوتهم من سائر قريش، ينظرون إلى القوم ضجيجهم حافين حول المعبود الأخرس لا يتكلمون، وعلى شفاههم بسمات، وفي أعينهم نظرات يخافتون بها، وفي صدورهم رغبات مكبوتة، لو تَأَتَّى لهم لأهْوَوْا على هذا المعبود فكُّبوه على وجههُ جذاذاً محّطما!

وانتبذ الأصدقاء الأربعة ناحيةً يتناجون في همس، وإن المكان ليضجّ بمن فيه بين داعٍ ومُلَبّ وسائل ومستغفر. وعاد الرجل يقول لصاحبه:

(أما والله إنكم لتعلمون ما قومكم على شيء؛ لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم. ما حَجَرٌ نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء!)

ويؤِّمن صاحبته على ما يقول

ذلك زيد بن عمرو بن نفيل، من بني عدي بن كعب؛ وأولئك أصحابه: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان ابن الحارث.

أربعة نفر أضاء الله لهم على حين غفلة وضلال، فسبقوا قومهم إلى التوحيد والإيمان بالله؛ وجلسوا يداولون الرأي بينهم، فأجمعوا أمرهم على أن يتفرقوا في البلدان يسألون أهلَ العلم ما يعملون عن دين إبراهيم. . .

وأقام زيد بن عمرو بمكة زماناً، معتزلاً قوَمه وما يعبدون من دين الله؛ لا يؤاكلهم ولا يشاربهم، ولا يخشى أن يباديهم بالعيب على ما هم فيه، وحرمّ على نفسه ما أحُّلوا لأنفسهم من الميتة والدم وما ذُبح على النُّصب.

وعرف القرشيون ما أجمع عليه أمره، فاعتزلوه وخَّلوا بينه وبين نفسه، لكنه لم يخلِّ بينهم

ص: 109

وبين أنفسهم؛ فإنه ليقصد إلى البيت فيسند ظهره إلى الكعبة يقول: (يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وإنكم لتعبدون ما لا يغني عنكم من الله شيئاً. يا معاشر قريش، إنكم لتأتون المنكر، وتقارفون الشر، وتئدون البنت، وتكفرون النعمة. يا معاشر قريش، أيُّما رجلٍ منكم هم أن يقتل ابنته خشية إملاق فأنا أكفيه مئونّتها. يا معاشر قريش. . . يا معاشر قريش. . .)

فإذا فرغ من دعوته وجّه وجهه لله يقول: (لبّيك حقاً حقا، تعُّبداً ورِقًّا، عُذْتُ بما عاذ به إبراهيم. اللهم لو أني أعلم أيّ الوجوه أحب إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلمه. . .) ثم يسجد على راحته ويقول:

أنفى لك اللهَّم عان راغمُ

مهما تجشِّمني فإني جاشمُ

ولم يزل زيد على ذلك: يذكّر قومه ويعيب عليهم ما يعبدون، حتى ضاقوا به؛ فأجمعوا على نكايته وترّبصوا به الشر؛ ثم مازال به عمه (الخطّاب بن نفيل) يؤذيه وينال منه حتى أجاءه إلى (حراء) لائذاً بالله مستجيراً؛ فوكل به الخطاب شباباً من سفهاء قريش يأخذون عليه الطريق وينالونه بما يكره إن هَمَّ أن يعود إلى مكة، خشية أن يُفسد عليهم دينهم ويتأثره بنوهم. وكانت زوجه فيمن كان من عيون الخطاب عليه، لا يكاد زيد يهم أن يدخل مكة حتى تُؤذِن به الخطابَ فيقف له؛ ثم يتناوله السفهاء من شبابهم بما يقدرون عليه حتى يعود على وجهه!

رجل فرد في وجه أمة، قد برئ منه أهله، وتمردت عليه زوجه، وتذامر سفهاء الإنس وشياطين الجن على مناهضته والوقوف له؛ ولكنه من قوة الإيمان بحيث يغالب ما لا غلبة عليه!

وأيّ قوة في الأرض تنال من الرجل يعمر قلبه الإيمان؟

. . . وأرادوه على أن يلزم مكمنه من الجبل لا يبرح، لا هابطاً إلى الكعبة يسبح الله في البيت الحرام، ولا مُصعداً يلتمس أسباب المعرفة في بلاد الله؛ ولكن صوتاً من وراء الغيب يهتف به، ونوراً يتنوره على بعد يضيء بين يديه، وإيماناً يعمر قلبه يذلِّل ما يتكاءده من عقبات على الطريق.

كان يؤمن إيماناً لا شك فيه أن للكون رباً غير ما يعبد الخطاب وبطون قريش؛ هو رب

ص: 110

إبراهيم وموسى؛ فمنذا يهديه الطريق إليه؟

. . . ووجد زيد غفلة من حراسه فأفلت يقصد قصده، متنقلاً بين الموصل والجزيرة إلى بلاد الشام، يسأل عن دين إبراهيم ويبتغيه

ومضى تتقاذفه البلاد يستطلع أنباءه بين أحبار اليهود ورهبان النصارى؛ فما منهم إلا من يبشره بنبي قد أظلّ زمانه، يبعثه الله بدين إبراهيم في أرض حجاز!

يا ناقُ سيري عّنَقاً فسِيحاً إن نبياً قد أظلَّ زمانه يبعثه الله بالهدى ودين الحق في أرض الحجاز. يا ناقُ هذا سبيلك إلى الوطن النائي يجمع شملك بالأحباب من آل عديّ بن كعب في أرض الهدى والسلام. يا ناقُ هذا فجر يوشك أن ينبثق بالنور فسِيري بي إليه أقبس من نوره نوراً لقلبي وسلاماً لروحي. يا ناقُ هذا يومُك المأمول تبرق شمسه في حواشي الأفق فأبلغيني مأملي قبل الغداة.

ذلك زيد بن عمر بن نفيل في طريقه إلى مكة يسعى نوره بين يديه إلى أمل يرجوه، فإنه ليحدو بعيره مغتبطاً جذلان أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه فيظفر باُلحسْنَيَين من لقاء الأهل والولد وصحبة النبي القرشي الذي أظلَّ زمانه؛ وإنه ليغذُّ السير وفي نفسه شوق ولهفة، وعلى لسانه تسبيح ودعاء!

وانطوى الطريق تحت أخفاف البعير الذي أنضاه السرى وجهد السفر، فلما صار على قرب قريب من أرض الحجاز وأوشك أن ينعم بلقائه الأهل والولد ورؤية النبي الذي قطع مفازة الحياة سعياً إلى لقاه - عَدَا عليه من عدا أهل السبيل فصرعه قبل أن يبلغ حيث يريد، فإنه ليقول وهو يلفظ أنفاسه:(اللهم إني أُشهدك أني على دين إبراهيم!) يرحمك الله يا أبا سعيد!

. . . وأشرق الصبح على أرض الحجاز، وفاض النور من غار حراء يغمر بطحاء مكة ويسيل سيل العرم فيمحوا الظلمات ويدخل منه في كل دار قبس يضيء. وداعبتْ أشعةُ الصبح الضاحك نافذةَ الدار التي آوتْ زيد بن عمر بن نفيل عُمْراً من عمره، ثم هجرها ساعياً إلى الله يبتغي الوسيلة إلى دين الحق، فكان ولده سعيد بن زيد وزوجه فاطمة بنت الخطاب - من السابقين الأولين في الإسلام!

وعاد نور والإشراق إلى الدار التي يُعْزَى إليها أولُ مذكر بدين إبراهيم على حين غفلة

ص: 111

وضلال. وكان إيمان سعيد واستجابته لدعوة الحق امتداداً لدعوة أبيه في الجاهلية وصفحةً مشرقة من التاريخ تنضمّ إلى صفحات!

ثم دار الفلك دورة، وإذا فتى عارمٌ من فتيان قريش يدخل دار سعيد متوشحاً سيفه، وفي عينيه شرٌّ وعلى لسانه وعيد، فما إن رآه سعيد وزوجه حتى سكت القرآنُ وخَفَتَ الصوت وانكمش بعضٌ في بعض؛ وأوشكت أن تنقض صاعقة تزلزل أركان الدار المؤمنة. . .

يا عجبا! ما بال هذا الفتى قد نسي ما جاءَ له وَرَقَّ بعد عُرام وعنف؟ هل كان يقصد إلا هذا الفتى العربيَّ وزوجَه، أن ينالهما بأشد الأذى على ما صَبَآ وفارقا دين قومهما؟

هاهو ذا في موقفه منهما خاشع الطرف يتلو من صحيفة في يده:

(بسم الله الرحمن الرحيم. طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتشْقَى. إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. تَنْزيِلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّموَاتِ الْعُلَى. . .)

فما يكاد يفرغ من تلاوته حتى يلتفت إلى خَتَنِه سعيد وأختِه فاطمة بنت الخطاب يقول:

(دُلاَّني على محمد حتى آتيه فأسلم!)

ذلك عمر بن الخطاب وتلك دار سعيد بن زيد بن عمرو؛ دخلها دخول الفاتك المتقحم لا تهدأ نفسه إلا أن يريق دما؛ فما احتوته الدار حتى كان عمرُ غيرَ عمر!

إن في بعض الأمكنة لَسرّاً يهمس، ونجوى تخافت؛ وإن في هذا الدار. . .!

وجلس سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، وعمر بن الخطاب ابن نفيل، مجلسهما إلى رسول الله غدوة، فقالا:(يا رسول الله استغفر لزيد بن عمرو!)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، فإنه يبعث أمةً وحده!)

رحمة الله عليه

محمد سعيد العريان

ص: 112

‌مِن مذكرات عُمر بن أبي ربيعة

ذات النطاقين

للأستاذ محمود محمد شَاكر

(قال عمر بن أبي ربيعة بعَقِب حديثه):

. . . فوالله لقد جَهَدنا البلاء - يا أهل مكة - ولقد صبرنا على حصار الحجاج سبعة أشهر أو تزيد في غير حصن ولا منعة، وإنّ أحدَنا لُيرى وقد لحقت بَطْنُه بظهره من الجوع والطَّوَى، ولولا بركة تلك العين (يعني زمزم) لقضينا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ) لقد أشبعنا ماؤها كأشد ما نشبع من الطعام، وما ندري ما يُفْعلُ بنا مُنذُ اليوم. فلقد خذَل (ابنَ الزُّبَير) أصحابه خذلاناً شديداً، وما من ساعةٍ تمضي حتى يخرج من أهل مكة من يخرج إلى الحجاج في طلب الأمان. ألا شاهتْ وجوه قوم زعموا أنْ سينصرونه، يحمون (البيت) أن يُلحَد فيه، ثم ينكشفون عنه انكشافةً كما تَتفرق هذه الحمامُ عن مَجْثمها على الرَوْع. . .

وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجاءها مِنْ صوتٍ داعٍ ومكِّبر وقارئ، وصَمدْت أريد المسجد فأسمع أّذان (سعد) مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيصلي بنا أتَّم صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقي من أصحابه أن يُوَدّع أمه (أسماء بنت أبي بكر الصديق) فأنطلق وراءه وما أكادُ أراه مما أحتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضّضُون ويُحرّضون، وزاحمت الناس بالمناكب أرجو ألا يَفوتني مشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه ولقد تَعْلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء طُوالة كأنْ سرْحةٌ في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنها تثبتُه وتُبصره، وقد برَقت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض المتهلل، ثم تنادي بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه قوة إيمانها وحنينُ قلِبها:(يا عبد الله! يا بُني، إني أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تهن ولا تجزع. يا بني ابذل مُهجة نفسك، ولا تَبعد إلا من النار. . . يا عبد الله! لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني!) ثم تدور لتلج الدار فكأنها شِراعٌ قد طُوِي

ص: 113

رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادا وألينهم قلوباً. وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها فيتقطع عليه حَشاها

وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكسَبَ لعجب وأجَد لُحزنٍ من أُّمٍ ثكلى يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزَهرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبالَةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوهَ وأحزانها، فما أّرَى وُجُوَمها وقُطُوَبها وانكِسَارَها وزَهَقَها وصُفرَتها إلا ذلةَ النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمِنَ حين يحضُرُه الهُّم أَشعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه - حين يؤمن - أبلجَ يتوقَّد، ليكون البُرْهانَ على أنَّ الإيمانَ صيْقلُ الحياةِ الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإما رِكَبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة. . .

وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيت ابن ذاتِ النِّطاقين قائما بين الناس كأنه عمودٌ من طُوِلهِ واجتماعه ووثاقَة بنائِه؛ وحضَرْته وهو يقول: (أيها الناس، عجِّلوا الوقِاع، ولا يرعكُمْ وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجُلٌ كيف يضرب، لا تخطئوا مضاربكم فتكسِروها، فإن الرجُلَ إذا ذهب سلاحُه كان أعزَل أعضبَ يأخذ أخذاً كما تؤخذ المرأة. ليَشغَلْ كلّ امرئٍ قِرنه، ولا يلهينكم السؤالُ عني: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا مَنْ كان ساءلاً عني فإني في الرَّعيل الأول). . . ثم يدفَعُ في صدور أهل الشام دفعة عند باب بني شيبة كأنه صاعقةٌ، وكأنه أسدٌ في أَجَمةٌ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة في منازلهم من الُّرعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننتُ أنه لا يُقتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رُمي بحجرٍ فأصاب وجْههُ فبلغ منه حتى دَمِى، وسال دَمُه على لحيته، وأُرعشَتْ يدُه. . . وغَشيَهُ أصحابُ الحجّاج من كلّ ناحية وتغاوَوْا عليه، وهو يقاتلهم جَاثِماً أشدَّ قتال حتى قُتِل

وا رحمتا لك يا بنتَ أبي بكر!! أيُّ كبدٍ هي أشدُّ لوعةً من كبدِكِ! لقد والله رُحمت رحمةً إذ كفَّ الله منك البصر، لئن لم تكوني تجزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثَّلُوا به وحزُّوا رأسهُ، ورفعوه على خشبة مُتكَّساً مَصلوباً. . .

وما كدْتُ حتى أقبلتْ أسماء بين يديها كفنٌ قد أعدَّته ودَخَّنتْهُ، والناسُ ينفرجون عن طريقِها

ص: 114

في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الُحزْنُ والرُّعب، قد انتُسفت وجوههم كأنما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكنت الأوصالُ، وجالت الأحداقُ في مَحاجرها وكأنها هَّمت تخرُج، وتمشي أسماء صامدة إلى الخشبة صمداً وكأنها ترى أبنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحةَ دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ - وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُمْ ورجفت بهم قُلوبُهم - وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله فقالت:(يا بُنيَّ طبتَ حيًّا وميّتا، ولا والله ما أجزعُ لفِراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثنين عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بني مسلماً محرماً ظمآن الهواجر مصلياً في ليلك ونهارك)

ثم أقبلت وجهها السماء ومدت بيديها تدعو: (اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت له، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. اللهم أرحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبره بأبيه وبي)

ووجم الناس وجمةً واحدة، وخشعوا خشعةً لكأن السماء والأرض صارتا رتقاً فما يتنفس من تنفس إلا من تحت الهم والجهد والبلاء. وكأن مكة بيت قد غلقت عليه أبوابه لا ينفذ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماء بينهم وكأن وجهها سراج قد نص على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغت من العمر وما سقطت لها سن، ومازال ثغرها ترف غروبه ثم قالت:(يا بني، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيراً)

وأطرقت أسماء إطراقةً ثم رفعت رأسها تومئ إلى الخشبة فوالله لقد رعدت فرائصي حتى تَزَايلتْ أوْصالي، وصَرَّ الناس كأنما تقصفت أصلابهم، وإذا هي تقول:(ألا من مبلغ الحجاج أن المُثْلَة سبة للحي وما تضر الميت. ألا من يبلغ الحجاج عني أن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ)

وحامت أسماء وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يرى إلا بريق وجهها يومض كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردد (يا بني، أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بني ليستأذن أحدكم حَجَّاَجكُم هذا أن يدفع ألي هذه العظام. أدوا

ص: 115

عني؛ يرحم الله من أدى عني)

فيجيء الرسول من قبل الحجاج يأبى عليها أن تدفع إليها عظام أبنها المصلوب ويجيء على أثره موكلون قد وكلهم بجثته يقومون عليها يحرسونها، كأنما خشي أن يحيا ميت قد حز رأسه أن تمسَّهُ يَدُ أُمِّه. فوالله لقد سمعتْ أسماء وخُبَّرتْ فما زادت على أن وَلَّتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دَمْع، وما تُجاوز قوِماً إلا جاوزتهم كأنهم فُسطاطٌ يتقوَّض، حتى ولجتْ بابَها وغلَّقَته عليها

وانطلقتُ أنفضُ الناس بعينيَّ، فرأيتُ أخي الحارث (ابن عبد الله بن أبي ربيعة) وابن أبي عتيق (هو عبد الله بن محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ. فقلت: ما هذا أوان جزع؛ انطلقوا بنا - يرحمكم الله - إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله لقد تخوَّفتُ أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالقٌ كبدَها ما لقيته. ويطرق الباب ابن أبي عتيق. فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ فمهْ. فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه. ويؤذن لنا فندخل دارها تجف قلوبنا من الروع والرّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله (ص) وزوج حواريِّه عليه السلام، وكأن قد تركنا الدُّنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.

استضحكت أسماء حتى بدت نواجذُها وقالت: (مرحباً بكم يا بَنيّ، جئتم من خلل الناس تعزُّون أُمكم في عبد الله. يرحم الله أخاكمُ لقد كان صوًّاماً قوًّاماً ما علمتُ. وكان ابن أبيه الزُّبير أوّلِ رجل سلّ سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر

يا بَنيّ، والله لقد حملتُه على عُسْرَة، والمسلمون يومئذ قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخَّطفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنيناً بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفل مكة في هجرة رسول الله صلى لله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطعام؛ ويسكنُ الطلبُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما ونسيت أن أتخذَ لهما عِصاماً؛ فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجدُ إلاّ نطاقي وأناُ حُبلى مُتِمٌّ. فيقول أبو بكر: يا أسماء شُقِّيه باثنين؛ فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذات النِّطاقبن) يعني في الجنة. وأعود بعد الله

ص: 116

يرتكض في أحشائي، قد احتسبتُ نِطاقي في سبيل الله؛ فوالله ما أجدني احتسبتُ بنيّ عبدَ الله اليوم إلا كما احتسبت نطاقي ذاكم. وأعود إلى دار أبي بكر ويأتي نفرٌ من قريش فيهم أبو جهلٍ فوقفوا ببابها، فأخرج إليهم فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي؛ فيرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فيلطم خدَّي لطمة يطرح منها قُرطي، فتُغول بي الأرض الفضاء، فوالله لما لقيتُ من حَجّاجكم هذا أهونُ عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل وأنا بعبد الله حامِلٌ مُتِمُّ. يا بَنيّ إني آخر المهاجرين والمهاجراتِ، لم يبقَ على ظهرِها بعدَ عبد الله منهم غيري؛ فلا والله ما حَسَنٌ أن يَجزَعَ من هاجَر - وإنّ شأن الهجرة لشديدٌ - وما حَسنٌ أن يجزع من شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه، وكيف وقد أربيت على المائة؟

يا بني جزاكم لله عني وعن أخيكم خيراً، قوموا لشأنكم وذروني وشأني يرحمكم الله)

وودَّعنا وانصرفنا، ولا والله ما نجدُ لأسماء في الرجال ضريباً، فأين في النساء؟ ولكنها كانت تصبر صبر المهاجرين الأولين على الجهد والبلاء

وما كان صُبح خامسة من مقتل ولَدها حتى استجابت لدعوة ربّها رضي الله عنها وأرضاها، وهي أمٌّ حنَّت تكتم حنينها، ولكأنه عجَّل بها موته فقطع نياطها وصدع فؤادها، وفلق كبدها عليه حنينها إليه. . . . . .

محمود محمد شاكر

ص: 117

‌المعاهدة السرية

لِلأستاذ محمد عَرفة

قبل هجرة محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية عشرة من ليالي ذي الحجة بعد أن قضى الناس حجهم خرج جماعة من رحالهم المضروبة في وديان منى وضواحيها بعد أن مضى الثلث الأول من الليل، خرجوا يتسللون تسلل القطا يمشون الهوينا، فلا يسمع وقع خطاهم على الأرض أحد كأنما يخافون أن يشعر بهم الناس. خرجوا فرادى وجماعات، وكلهم يقصد جهة معينة هي العقبة، وكلما وصل إليها فوج منهم نزل بها حتى كملوا سبعين رجلاً

جلسوا يتناجون في صوت خفي، لا يسمع إلا همسهم وتتابع أنفاسهم. جلسوا كأنما ينتظرون قادماً يقدم عليهم كانوا معه على ميعاد. . .

وبينما هم كذلك إذا برجلين قد أقبلا يؤمانهم، ويريدان مكانهم، فلما تبينوهما خفوا إليهما، ونهضوا فسلموا عليهما. وكانت هذه الجماعة من سكان يثرب من الأوس والخزرج، وكان هذان القادمان عليهم محمد بن عبد الله وعمه العباس بن عبد المطلب

وكانا معهم على ميعاد

ليت شعري ما الذي حفز هذه الجماعة على أن تخرج من رحالها وتقصد هذا المكان القصي؟ وما الذي حفز محمداً وعمه العباس أن يتركا منزليهما بمكة ويسيرا تحت ستار الليل والناس نيام ويوافياهم عند العقبة؟ كان محمد يريد الهجرة إلى المدينة وكان يريد أن يعقد مع أهلها معاهدة سرية على أن يحموه ويعززوه وينصروه.

فلما جلسا وجلس الناس حولهما، تكلم العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فقال:(يا معشر الأوس والخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، وما نعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده)

فلما انتهى العباس من كلامه قالوا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك

ص: 118

وربك ما أحببت. فتكلم رسول الله، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فتقدم إليه البراء بن معرور وأخذ بيده وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر

فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان وقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالاً، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني، وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. فصرخ فيهم العباس ابن عبادة الأنصاري وقال: يا معشر الخزرج، هل تدرون على م تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال، إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل، أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم؛ وإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك. فبسط يده فبايعوه

وبعد أن تمت المعاهدة قال لهم رسول الله: ارفضوا إلي رحالكم. فقال له العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى مضاجعهم. فلما أصبحوا غدت عليهم أكابر قريش، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. وكان مع المسلمين الذين عقدوا المعاهدة قوم مشركون من المدينة لم يعلموا بما كان منها فانبعثوا إلى قريش يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه. ثم تفرق القوم، ورجع الأنصار إلى المدينة، وأقام رسول الله بقية شهر ذي الحجة من تلك السنة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في ربيع الأول

وكانت هذه المعاهدة السرية التي عقدها رسول الله بينه وبين أهل المدينة هي أول حادث أعز الإسلام وقواه ومكن له في الأرض وكتب له البقاء والخلود، في هذا الوجود

ص: 119

لم يكن أهل المدينة حين عقدوا هذه المعاهدة مع رسول الله يجهلون ما وراءها، فقد كانوا يعلمون أن وراءها حرب العرب جميعاً لأن العرب جميعاً على خلاف هذا الدين الجديد، وهم لا محالة معارضوه ومحاربوه، وقد ذكرهم بذلك العباس بن عبادة فلم يشفقوا من ذلك وأقدموا عليه وهم يعلمون ما يفعلون، ويعنون ما يقولون

علموا ذلك كله فلم يهلهم ولم يفزعهم، وأقدموا عليه طيبة به قلوبهم، راضية به نفوسهم. لقد عرض رسول الله (ص) نفسه قبل ذلك على القبائل، فأشفقوا منه ولم يقو أحد على حمل هذا العبء الثقيل.

لقد ذهب إلى ثقيف بالطائف وعرض عليهم الإسلام، فامتنعوا وقال له أحدهم: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك. وقال آخر منهم: لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، ثم نجاه الله منهم. وكان ينتظر أيام الحج فيذهب إلى الحجاج من العرب في منازلهم ويعرض عليهم الإسلام فيأبون عليه، ذهب إلى كندة في منازلهم فامتنعوا عليه، وأتى كلباً فامتنعوا عليه، وأتى بني حنيفة فردوه أقبح رد.

لم يقدروا على حمل هذه الأمانة، وادخرها الله لهذا الحي من أهل المدينة فقد جاء نفر منهم إلى موسم الحج، فلقيهم رسول الله فقال لهم: من أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج. قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم. قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فآمنوا به وصدقوه وقالوا له: قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله على يديك، فلا رجل أعز منك. ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا قومهم إلى الإسلام فأجاب منهم خلق كثير، ثم جاء منهم قوم إلى مكة وقابلوا رسول الله، وكانت المعاهدة التي ذكرناها.

إن هذه المعاهدة لتدل على ما للأنصار من جلد وقوة وشجاعة وبسالة وكرم وتضحية وإيثار

أباحوا أرضهم وديارهم وأرزاقهم لمن هاجر إليهم من المسلمين فقاسموهم ما عندهم، وآثروهم على أنفسهم

ص: 120

فتحوا بها صدورهم لحراب العرب ورماحهم، وقطعوا بها حبالهم التي كانت بينهم وبين العرب، فما أعظم هذه التضحية، وما أجل هذا الإيثار

وبحسبهم أن الله سجل لهم مفاخرهم ومكارمهم في قوله:

(والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)

محمد عرفة

ص: 121

‌عِبرة الهجرة

لِلأستاذ محمد عبد الغني حسن

قُمْ باسم رِّبك في الحياة مُجاهدا

وأَعِدْ إلى العرب التُّراثَ الخالدا

مجدٌ بذلنا النفس في تدعيمه

حتى استقرَّ على الثُّريا قاعدا

أَهْوى إلى كسرى فدكَّ صروحَه

ورمى هرقلَ فكان نَسْراً صائدا

فتح البلادَ مسالكاً ومعاقلاً

وأدالهن صوامعاً ومعابدا

ومشى إلى الرومان أنبلَ غايةً

وأعفَّ في يوم القتالِ مقاصدا

يدعو إلى دين النبي مناضلا

ويصد دعوى المشركين مجاهدا

ويكاد يفتتح القلوب بحجةٍ

غراء كالصبح الُمبين شواهدا

هذا النبي من الجزيرة مقبلٌ

يبني يقيناً أو يُقيم عَقائدا

المسلمون ببطن مكة أسَّسوا

للمجد ركناً والفخار قواعدا

رفعوا على التقوى قواعد ملكهم

وَرَجوْا له فوق السماء مقاعدا

عَرَبٌ من الصحراء إلا أَنهم

رفعوا لتمثال الحضَارةِ شاهدا

تلك الخيامُ الضارباتُ بمكةٍ

سخرتْ من (الإيوان) فخما صاعدا

قد لقنته من العقيدة صافيا

وسقْته ماَء الحق عذباً باردا

حتى رأينا الفُرْس أصبح دينهم

دينُ الحنيفة مشمخراً صاعدا

دخلوا إلى الإسلام أطوعَ أنفسا

لله وانقادوا أَخَفَّ مقاودا

دين من الحقَّ الصراح رأيتهُ

يغزو الممالكَ فاتحاً ومجاهدا

لم يعبأ الأوثان وهي نواصب

شَرَكاً ولم يخشَ الضلالَ الراقدا

ومضى فما سَدَّ القتالُ سبيله

وسعى فما هاب الفريقَ الحاشدا

يَهْدي ويفتحُ للعيون مسالكا

ويشقُّ في سبب السماء مَصاعدا

ويكاد يهزأ بالعناد مكابرا

والكفرِ أحمقَ والضلالِ مُعاندا

نصبوا له الشَّرَكَ اللئيمَ فما ونى

ومضى يَحيك لصائديه مصايدا

ما كان صاحبُه إلى غاياته

نِكْسًا ولا داعيه شيخاً قاعدا

آذوْهُ فاحتمل الأذاةَ مُصابرا

ورمَوه فاحتملَ الرُّماة مُجالدا

ص: 122

والحاسدون تنقصوه فما وهى

عزماً ولا بالى العدوَّ الحاسدا

نفسٌ من الإيمان صيغ كيانها

وغدت على سر البطولة شاهدا

سَخِرَتْ بما صنع الضلالُ وأقبلت

تستلهم اللهَ الطريقَ الراشدا

وإذا النفوسُ تباعدت غاياتهاَ

زادت عن الغرض اللئيم تباعدا

يأيها الداعي لكل كريمة

هذا سبيلُك قد أقامَ على هدى

أعليتَ باسم الله كل بنَّية

فيه وصيَّرْتَ الكنيسَ مساجدا

ودعوتَ لا تخشى لدينك هازئاً

وصَدَعت لا تخشى لرأيك ناقدا

وخملت من ظلم القريب مُعاكسا

ولقيتَ من عَنتِ الولِّي مُطاردا

فهجرتَ أهلك لا قلىً لودادهم

وتركتَهم لا ساخطاً أو واجدا. . .

لكن كرهتَ على المقام جحودهم

والحر يجتنب المقامَ الجاحدا

محمد عبد الغني حسن

ص: 123

‌الحسن بن الهيثم

لَلأستاذ عبد الحميد حمدي

المدرس الأول للعلوم بوزارة المعارف

للحسن بن الهيثم منزلة رفيعة في عالم العلوم الفيزيقية لا ينتقص من قدرها أنه غير معروف في الشرق بقدر ما هو معروف في الغرب بين علماء الفيزيقا الذين قدروه فكتبوا عنه وترجموا مؤلفاته وعلقوا عليها وشرحوا الغامض منها.

وهو أبو علي الحسن بن الهيثم، ولد بالبصرة عام 355هـ (965م) ومات بالقاهرة عام 430هـ (1038م) وكان قد استقدمه الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي لينظم لم مياه النيل لينتفع بها الزرع أوقات الزيادة والنقصان. وأمده الحاكم بالمال والرجال وقصد إلى أسوان وعاين النيل عندها ودرس مشروعاً كان قد أعده هو أثناء إقامته في العراق ليطبقه على حالة نيل مصر، فرأى تعذر الأمر ورجع وأعتذر إلى الخليفة بما تظاهر بقبوله ثم ولاه بعض الدواوين.

وقد ساهم الحسن بن الهيثم في الحركة العلمية في مصر إذ قام بالتدريس في الجامع الأزهر وتخرج عليه كثيرون من المصريين نذكر منهم أبا الوفاء الميشر بن فانك من أعيان أمراء مصر وأفاضل علمائهم، وقد أخذ عنه كثيراً من علوم الهيئة والعلوم الرياضية، كما كانت لابن الهيثم مساجلات ومحاضرات ومراسلات قامت بينه وبين العلماء في مصر وفي غير مصر

وقد كان الحسن بن الهيثم أحد الأساتذة الذين تكونت منهم (دار الحكمة) وهي نوع من الأكاديمية العلمية أنشأها الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي وأمدها بآلاف الكتب وأغدق عليها الهبات واختصها بعنايته. وقد كان الحسن بن الهيثم زميلا في هذه الأكاديمية العلمية لأبن يونس وعمار وعلي بن رضوان وماسويه المارديني، وكلهم من قادة الفكر في العالم الإسلامي في ذلك العصر، وكانوا من أصدقاء الحاكم وكانت لهم معه مجالس ومحاضرات

حضر الحسن بن الهيثم إلى القاهرة عام 386هـ (966م). وعاش فيها عيشة النسك والزهد، فقد كان في السنين الأخيرة من حياته يكتب في كل سنة اقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ثمنهما ولم تزل هذه حاله إلى أن توفي عام 430هـ (1038م).

ص: 124

فيكون قد قضى بالقاهرة حتى وفاته أكثر من اثنين وأربعين عاماً؛ فهو مواطن مصري انقضت على وفاته تسعة قرون كان فيها اسمه مغموراً غير مشهور لا تذكره المحافل العلمية الشرقية ولا تشيد بذكره؛ فمن الواجب علينا ومن الإنصاف له ونحن نحتفل بالسنة الهجرية الجديدة أن نحيي ذكراه في وقت نحن أحوج ما نكون إلى الإشادة بذكر السلف الصالح وإلى الكشف عن أعمالهم ومؤلفاتهم لتنشط الهمم ولنصل بين ماض تليد وحاضر مرتقب النتائج معقود عليه الرجاء أن يتفتح عن مستقبل حافل بالعلم والعرفان. ويمتاز الحسن بن الهيثم في بحوثه الفيزيقية عن سواه من الفلاسفة الذين عاصروه أو تقدموه ممن كتبوا في العلوم الفيزيقية، فقد كان له منهج علمي اتبعه في بحوثه يتلخص في: المشاهدة والتجربة والاستنباط. وفي ذلك يقول جورج سارتون في كتابه (مقدمة لتاريخ العلوم): وهو أعظم عالم فيزيقي مسلم وأحد كبار العلماء الذين بحثوا في البصريات في جميع العصور. وقد كان فوق ذلك فلكياً ورياضياً وطبيباً، وله شروح على مؤلفات أرسطو وجالينوس؛ والترجمة اللاتينية لكتابه (المناظر) وهو أهم مؤلفاته - كان لها أثر عظيم على العلم في الغرب وخصوصاً على روجر بيكون وكبلر وفيها يتجلى الرقي العظيم الذي وصلت إليه الطرق التجريبية) ويقول في ذلك أيضاً إيفور ب هارت في كتابه (الفيزيقيون العظام): (وقد أدخل تحسيناً ذا شأن في جهاز بطليموس لقياس زوايا الانكسار في الأوساط المختلفة، وقد كانت طرائقه في الحقيقة تذكارات ماضية لطرائق البحث العلمي في معاملنا في الوقت الحاضر.

ونحن نعرض الآن لبعض أجهزة للحسن بن الهيثم استخدمها لإثبات بعض الظواهر الضوئية، ونذكرها على سبيل المثال لا الحصر، لأن التجارب ابن الهيثم التي تضمنها كتابه (المناظر) أكثر من أن تحصى. وسيكون بحثنا في هذه الناحية التجريبية التي بز بها ابن الهيثم غيره من العلماء الفيزيقيين بحثاً مقارناً فنذكر تجاربنا الحديثة وأجهزتها ونقرنها بتجارب ابن الهيثم موضحة بالأجهزة التي استخدمها

أولاً: الضوء ينتشر على سموت خطوط مستقيمة

إذا وضعت جسما معتما بين عينيك ومنبع ضوء صغير يبعد بمسافة قصيرة فإنك لا ترى الضوء إذا كان الجسم والمنبع والعين على استقامة واحدة؛ وإذا نظرت إلى شعاع ضوئي

ص: 125

نافذ من ثلمة من نافذة حجرة مظلمة تشاهد مسير الشعاع داخل الحجرة في خطوط مستقيمة. والحقيقة أن الضوء في ذاته لا يرى، ولكن الجسيمات الصغيرة المبعثرة في الهواء هي التي تعكس الضوء إلى العين وتساعدها على تتبع مسيرها. وإذا راقبت مغرب الشمس عندما تختفي تحت الأفق تشاهد أن الأشعة المنبعثة منها تكون في خطوط مستقيمة؛ ويمكنك أن تثبت هذه الظاهرة عملياً بعدة تجارب نقتصر منها على ما يأتي:

خذ ثلاثة أفرخ من الورق المقوى ا، ب، ج (شكل 1 - 1) واثقب كل منهما بثقب في وسطه، ثم ضعها رأسياً على حوامل ثلاثة بحيث تكون الثقوب على استقامة واحدة. أشعل شمعة (ش) وضعها أمام الثقب الأول ثم انظر من خلف الثقب الثالث عند (ع) تر الشمعة. أزح أحد الأفرخ في أية جهة لا تر الشمعة. وهذا يدل على أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة في الوسط المتجانس (الوسط هنا الهواء طبعاً)

وإليك شرح ابن الهيثم لهذه الظاهرة وتجربته التي أثبت بها صحتها:

(. . . فأما كيف يكون نفوذ الضوء في الأجسام المشفة فهو أن الضوء يمتد في الأجسام المشفة على سموت خطوط مستقيمة، ولا يمتد إلا على سموت الخطوط المستقيمة، ويمتد من كل نقطة من الجسم المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة في الجسم المشف المجاور للجسم المضيء. وهذا المعنى قد بيناه في كتابنا (المناظر) بياناً مستقصي، ولكنا نذكر الآن منه طرفاً يقنع فيما نحن بسبيله، فنقول: إن امتداد الضوء على سموت خطوط مستقيمة يظهر ظهوراً بيناً من الأضواء التي تدخل من ثقوب إلى البيوت الظلمة، فإن ضوء الشمس وضوء القمر وضوء النار إذا دخل في ثقب مقتدر إلى بيت مظلم، وكان في البيت غبار أو أثير في البيت غبار فإن الضوء الداخل من الثقب يظهر في الغبار الممازج للهواء ظهوراً بيناً، ويظهر على وجه الأرض أو على حائط البيت المقابل للثقب ويوجد الضوء ممتداً من الثقب إلى الأرض أو إلى الحائط المقابل للثقب على سموت مستقيمة). وبعد هذا الشرح يدلي ابن الهيثم بالتجربة فيقول (شكل ا - ب): (وإن اعتبر هذا الضوء الظاهر بعود مستقيم وجد الضوء ممتداً على استقامة العود، وإن لم يكن في البيت غبار وظهر الضوء على الأرض أو على الحائط المقابل للثقب، ثم جعل بين الضوء الظاهر وبين الثقب عود مستقيم، أو مد بينهما خيط مدّاً شديداً، ثم جعل فيما بين الضوء

ص: 126

والثقب جسم كثيف ظهر الضوء على ذلك الجسم الكثيف وبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه، ثم إن حرك الجسم الكثيف في المسافة الممتدة على استقامة العود وجد الضوء أبداً يظهر على الجسم الكثيف، فيتبين من ذلك أن الضوء يمتد من الثقب إلى الموضع الذي يظهر فيه الضوء على سموت خطوط مستقيمة).

ثانياً: إن البصر يرى المبصرات على سموت خطوط مستقيمة

في تجاربنا الحديثة لا توجد تجربة خاصة لإثبات هذه الظاهرة ولكنا نستنتجها من التجربة السابقة. أما الحسن بن الهيثم فيثبتها بتجربة مستقلة وبجهاز خاص. . . وإليك شرح تجربته وجهازه (شكل 2)

(يتخذ المعتبر مسطرة في غاية الصحة والاستقامة ويخط في وسطها خطاً مستقيماً موازياً لخطي نهايتها، ويتخذ أنبوباً أسطوانياً أجوف طوله في غاية الاستقامة واستدارته في غاية الصحة ودائرتا طرفيه متوازيتان، ونهايته متشابهة ومقتدر السعة وليس بأوسع من محجر العين، ويكون طوله أكثر من طول المسطرة بقدر يسير ويخط في سطحه الظاهر خطاً مستقيماً ويقسم الخط الذي على المسطرة ثلاثة أقسام أوسطها مساو لطول الأنبوب ويطبق خط الأنبوب على الأوسط من الأقسام الثلاثة بحيث يتطابق طرفاهما ويلصق الأنبوب بالمسطرة على هذا الوضع إلصاقاً ثابتاً ملتحماً

ثم يعين على مبصر من المبصرات ويلصق طرف المسطرة بالجفن الأسفل من إحدى عينيه والطرف الآخر بسطح المبصر ويغمض العين الأخرى وينظر من ثقب الأنبوب فإنه يرى من المبصر الجزء المقابل لثقب الأنبوب الذي يليه

وإذا ستر الثقب بجسم كثيف استتر ذلك الجزء فإذا رفعه عات الرؤية، وإن ستر بعض الثقب استتر من ذلك الجزء البعض المقابل لجزء الثقب المستتر الذي هو والمبصر والساتر على خط مستقيم، وإذا ستر الثقب استتر الجزء المقابل له

فمعلوم أن بين البصر وذلك الجزء هواء متصلاً لا يتخلله كثيف ومسافات لا نهاية لها، كلها غير مستقيمة؛ فلو كان ممكناً أن يدرك البصر شيئاً على غير استقامة في الهواء من غير انعكاس لكان يدرك الجزء في تلك الحال - فتبين أن هذه الرؤية لا تتهيأ إلا من سموت خطوط مستقيمة

ص: 127

ثالثاً: الحجرة المظلمة (شكل 3)

إذا أغلقت جميع نوافذ حجرة وتركت ثلمة صغيرة فيها ووضعت خلفها حاجزاً كلوح من الخشب شاهدت تكون صورة عليه للمرئيات التي خارج الحجرة وهذه تكون مقلوبة ويمكن إثبات ذلك عملياً (شكل 4) فإنك إذا ثقبت لوحاً رقيقاً من المعدن عند (ث) وثبته على حامل ووضعت شمعة موقدة (1ب) أمامه وحائلاً من الورق الأبيض خلفه تتكون على الحائل صورة مقلوبة للهب الشمعة هو (اب) ويعلل ذلك بأن الأشعة تتفرق في جميع الجهات من كل نقطة من نقط الجسم المضيء، ومن هذه الأشعة تنفذ حزمة صغيرة للغاية من الثقب فيخرج من (ا) شعاع ينفذ من الثقب ويسقط على الحائل فتتكون عليه صورة (ا) لهذه النقطة وكذلك يخرج من (ب) شعاع ينفذ من الثقب ويلاقي الحائل في (بَ) تكون هي صورة النقطة (ب) وبالمثل تتكون على الحائل بين (ا، ب)، صورة لجميع نقط اللهب الأخرى بين (ا، ب)، وإذا كان الثقب ضيقاً كانت الصورة واضحة ومحدودة، وإذا كان الثقب متسعاً كانت الصورة غير واضحة وغير محدودة. ويرجع انقلاب الصورة إلى انتشر الأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة وتقاطعها عند الثلمة، فالأشعة الآتية من الأجزاء العليا تقابل الحائل في أجزائه السفلى، وبالعكس الآتية من الأجزاء السفلى تلاقي الحائل في أجزائه العليا والأشعة الآتية من الأجزاء المتيامنة تقابل الحائل في أجزائه المتياسرة، وبالعكس الآتية من الأجزاء المتياسرة تلاقي الحائل في أجزائه المتيامنة فتكون الصورة مقلوبة من عامة الوجوه، وإليك قول ابن الهيثم في هذه الظاهرة:

(. . . وبعد ذلك نقول: كل صورة مضيئة قابلت ثقباً مستديراً في غاية الصغر فإن المخروط المتشكل بينها وبين مركز الثقب ينفذ إلى السطح الموازي ويحدث ضوؤها على السطح على شكل شبيه بشكل الصورة، لكنه يكون معكوساً، ولنسمه الضوء المتوسط، فإذا تعددت الصور المضيئة تعددت أضواؤها المتوسطة لكن الضوء الحادث من الصورة المتيامنة عن الثقب يتياسر، ويتيامن ضوء المتياسرة، ويتعالى ضوء المتسافلة، ويتسافل ضوء المتعالية

وأشكال الأضواء تشبه أشكال الصور ونسبتها إلى أشكال الصور واحدة، وضوء كل صورة يرد في جميع المخروطات المتشكلة بينها وبين كل نقطة من سطح الثقب إلى ما

ص: 128

يقابله، وقواعد تلك المخروطات على السطح المقابل متساوية

. . . فإن كان الثقب في غاية الصغر فإن شكل الضوء الحادث يكون قريب الشبه بشكل الضوء المتوسط، ويقل الشبه بقدر زيادة فسحة الثقب. . . وهكذا إلى أن يخفى الشبه ويبقى الشبه في مجرد الضوء واللون. . . وكلما كان الثقب أضيق والسطح أبعد كان شكل الوسط أشبه بالصورة

وكذلك أيضاً إذا قابلت قطع سحاب بيض ثقباً ضيقاً يفضي إلى موضع نقي اللون لا يصل إليه ضوء آخر فإنه يرى في ذلك الموضع قطع أضواء إلى البياض بعدد قطع السحاب مخالفة الأوضاع لها، وإن كانت قطع السحاب تتحرك نحو جهة فإن الأضواء أيضاً تتحرك لكن إلى خلاف تلك الجهة

وكذا لو طار بعض الكبار من الطيور قريباً من ثقب كما ذكر فإن صورة لونه تظهر على ما يقابل الثقب متشكلاً بشكل يشبه شكله متحركا في خلاف جهته

رابعاً: دوامة الحسن بن الهيثم وقرص نيوتن

يمكث التأثير الذي يحدثه أحد الألوان على شبكية العين برهة

من الزمن صغيرة 101 ثانية فإذا تتابعت عدة تأثيرات من

ألوان مختلفة في زمن أقل من 101 ثانية لا يضيع أثر أي

لون من هذه الألوان بل تتأثر العين بها جميعاً في وقت واحد

وتحس العين بلون خاص هو نتيجة اندماج تأثيرات الألوان

المختلفة. ويمكن إثبات هذه الظاهرة باستخدام قرص نيوتن

(شكل 5 - 1) وهو قرص مستدير من الورق المقوى مقسم

سطحه إلى قطاعات ملونة تختلف مساحتها وترتيبها حسب

وضعها الطبيعي في الطيف الشمسي ويثبت القرص عند

ص: 129

مركزه على محور عمودي على مستواه، فإذا أدير القرص

بسرعة تكفي لسقوط الألوان كلها على العين في فترة تقل عن

101 ثانية اندمجت التأثيرات من الألوان المختلفة على العين

وظهر القرص أبيض قليلاً. وإذا كانت ألوان الأقسام ليست في

ترتيب وضعها في الطيف الشمسي ولم يراع مساحتها فيه

أحست العين بلون مركب من ألوان القرص كلها

وإليك شرح ابن الهيثم لنظرية تركيب الألوان ووصف دوّامته (شكل 5 - ب)

نقول إن إدراك ماهية اللون ليس يكون إلا في زمان وذلك لأن إدراكها ليس إلا بالتمييز والتشبيه وذلك لا يتأتى إلا في زمان والذي يدل على ذلك ما يظهر من الدوامة عند حركتها فإن الدوامة إذا كانت فيها أصباغ مختلفة وكانت الأصباغ خطوطاً ممتدة من وسط سطحها الظاهر وما يلي عنقها إلى نهاية محيطها ثم أديرت الدوامة بحركة شديدة فإنها تتحرك على الاستدارة في غاية السرعة

(وإذا تأملها الناظر في حال حركتها فإنه يدرك لوناً واحداً مخالفاً لجميع الألوان التي فيها كأنه لون مركب من جميع ألوان تلك الخطوط ولا يدرك تخطيطها ولا اختلاف ألوانها

ويدركها مع ذلك كأنها ساكنة إذا كانت حركتها في غاية السرعة، وإذا كانت في حركتها فلا تثبت نقطة منها في موضع واحد زمانً محسوساً وهي تقطع في أقل القليل من الزمان جميع الدائرة التي تدور عليها فتحصل صورة النقطة في ذلك الزمان اليسير على محيط دائرة من جميع محيطها الذي يحصل في البصر فيدرك لون تلك النقطة في الزمان القليل مستديراً

(وكذلك حكم جميع النقاط التي في سطح الدوامة وجميع النقاط المتساوية الأبعاد عن المركز تتحرك حينئذ على محيط دائرة واحدة فيعرض لذلك أن يظهر لون كل نقطة من النقاط المتساوية الأبعاد عن المركز على محيط دائرة فتظهر ألوان جميع تلك النقاط في جميع

ص: 130

محيط الدائرة ممتزجة ولا تتميز للبصر فلذلك يدرك سطح الدوامة لوناً واحداً ممتزجاً من جميع الألوان التي في سطحها)

وبعد فهذه تجارب وأجهزة نسوقها على سبيل التمثيل لا الحصر فهي قليل من كثير؛ ولعلنا نكون قد وفقنا إلى الكشف عن ناحية عظيمة - هي البحث العلمي التجريبي - امتاز بها الحسن بن الهيثم في بحوثه فكان لها أكبر الأثر في قادة البحث العلمي في أوربا في العصور القديمة ولا يزال أثرها محسوساً في عصرنا الحالي.

عبد الحميد حمدي مرسي

ص: 131

‌صفحة مطوية من تراث العرب العلمي

لِلأستاذ قدري حافظ طوفان

لا أظن أن عالماً أصابه الإهمال كالخازن. ولا أظن أن الإجحاف الذي لحق بمآثره لحق بغيره من نوابغ العرب وعباقرتهم؛ فلقد أدى ذلك الإهمال وهذا الإجحاف إلى الخلط بينه وبين علماء آخرين فنسبت آثاره لغير كما نسبت آثار غيره له. وقد وقع في هذا الخلط بعض علماء الغرب وكثير من علمائنا ومؤرخينا. قال (درابر) الأمريكي إن الخازن هو الحسن بن الهيثم وإن ما ينسب إلى ما يُسمى (بالخازن) هو على الأرجح من نتاج ابن الهيثم. وخلط الأستاذ منصور حنا جرداق أستاذ الرياضيات العالية بجامعة بيروت الأمريكية في محاضرته عن مآثر العرب في الرياضيات والفلك بين الخازن وابن الهيثم، يتجلى ذلك في قوله:(ومن أشهر المشتغلين بالفلك والطبيعيات في الأندلس أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازني الأندلسي الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد وأوائل القرن الثاني عشر للميلاد، وألف مؤلفاته الشهيرة في النور وآلات الرصد وأوضح مقدار الانكسار. وألف في الفجر والشفق وعين ابتداء كل منها وقت بلوغ الشمس 190 درجة تحت الأفق. . . الخ)

ونحن هنا أمام خطأين: الأول في اعتبار الخازن من الأندلس وهو في الحقيقة من مرو من أعمال خراسان.

والثاني في أن المآثر التي أوردها الأستاذ ليست للخازن بل هي من نتاج ابن الهيثم. وأكبر الظن أن ما وقع فيه الأساتذة والعلماء من أخطاء يعود إلى الوضع الإفرنجي للاسمين فأكثر الكتب الإفرنجية حين تكتب الحسن بن الهيثم تكتبه - وحين تكتب الخازن - فظن أن كثيرون أن هذين الاسمين هما لشخص واحد لم يدققوا في حروفهما مما أدى إلى التباس الأمر عليهم ووقوعهم في الخلط والخطأ.

وسنحاول في هذا المقال أن نبين مآثر الخازن في علم الطبيعة وأثره في بعض بحوثها جاعلين نصب أعييننا إنصاف عالم هو مفاخر الأمة العربية ومن كبار عباقرتها من الذين عملوا على إنماء شجرة المعرفة وساهموا في خدمتها ورعايتها

والخازن من علماء النصف الأول من القرن الثاني عشر للميلاد وهو أبو الفتح عبد

ص: 132

الرحمن المنصور الخازني المعروف بالخازن نشأ في (مرو) أشهر مدن خراسان، وقد درس فيها وعلى علمائها نبغ ولمع في سماء البحث والابتكار. اشتغل في الطبيعة ولاسيما في بحوث الميكانيكا فبلغ الذروة وأتى بما لم يأت به غيره من الذين سبقوه من علماء اليونان والعرب، كما وفق في عمل زيج فلكي سماه (الزيج المعتبر السنجاري) وفيه حسب مواقع النجوم لعام 1115 - 1116م، وجمع أرصاداً أخرى هي في غاية الدقة بقيت مرجعاً للفلكيين مدة طويلة.

ومن الغريب أن قنصل روسيا في تبريز في منتصف القرن الماضي عثر صدفة على كتاب ميزان الحكمة، وقد كتب عنه عدة مقالات في إحدى المجلات الأمريكية. ولعل العلماء الألمان أكثر العلماء اعتناءً بآثار الخازن. فنجد في رسائل للأستاذ ويدمان فصولاً مترجمة عن (ميزان الحكمة) وقد استوفت بعض حقها من البحث والتعليق كما نجد في رسائل غيره مقتطفات من محتويات الكتاب المذكور دللوا فيها على فضل الخازن في علم الطبيعة.

ولابد لي في هذا المجال من إبداء دهشتي لعدم نشر فصول هذا الكتاب النفيس في كتاب خاص، ولا أدري سبباً لهذا. . .

ولعل السؤال الآتي يتبادر إلى غيري أيضاً: لماذا نُشرت بعض محتويات الكتاب وأهملت الأخرى؟ ليس لي أن ألوم علماء الألمان أو غيرهم في ذلك، فلقد قاموا بواجبهم نحو الخازن أكثر منا وعرفوا فضله قبلنا، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنه لولا قنصل روسيا وبعض المنصفين من مستشرقي الألمان وعلمائهم لما عرفنا شيئاً عن الخازن، ولما كان بالإمكان نشر هذا المقال. وقد يكون الأستاذ مصطفى نظيف بك أول عربي أشار إلى بعض محتويات كتاب ميزان الحكمة في كتابه:(علم الطبيعة تقدمه ورقيه. . .)، ولكنه لا يذكر شيئاً عن المؤلف بل ولا يذكر أنه الخازن، ويقول:(. . . والكتاب لا يعلم مؤلفه. . .) ثم يردف هذا القول: إن (درابر) يرجح أنه من تأليف الحسن ابن الهيثم. وأظن أن مقالنا هذا أول مقال يظهر في مجلة عربية يبحث عن الخازن ويزيح الستار عن آثاره ويفيه بعض حقه. والذي أرجوه أن يثير هذا المقال أساتذة كلية العلوم في جامعة فؤاد الأول بمصر وعلى رأسهم حضرة صاحب العزة الدكتور علي مصطفى مشرفة بك فيعملون على

ص: 133

إنصاف الخازن وعلى نشر مآثره بين المتعلمين والمثقفين، فهم أولى الناس بذلك، وأحق من غيرهم بالقيام بهذا العمل الجليل. ولنا من حماستهم للتراث العربي والإسلامي ما يدفعنا إلى لفت أنظارهم إلى حياة الخازن الحافلة المليئة بالإنتاج التي أحاطها الإهمال من كل جانب.

وضع الخازن كتاباً في الميكانيكا سماه (كتاب ميزان الحكمة) هو الأول من نوعه بين الكتب القديمة العلمية القيمة، وقد يكون هو الكتاب الوحيد المعروف الذي يحتوي على بحوث مبتكرة جليلة لها أعظم الأثر في تقدم الأيدروستاتيكا، وقد قال عنه الدكتور سارطون إنه من أجل الكتب التي تبحث في هذه الموضوعات وأروع ما أنتجته القريحة في القرون الوسطى. والذي يطلع على بعض مواد هذا الكتاب تتجلى له عبقرية الخازن وبدائع ثمرات التفكير الإسلامي والعربي. واعترف (بلتن) في أكاديمية العلوم الأمريكية بما لهذا الكتاب من الشأن في تاريخ الطبيعة وتقدم الفكر عند العرب

لا يجهل طلاب الطبيعة أن (توريشيللي) بحث في وزن الهواء وكثافته والضغط الذي يحدثه. وقد مر على بعضهم في تاريخ الطبيعة أن (توريشيللي) المذكور لم يسبق في ذلك وأنه أول من لفت النظر إلى هذه الموضوعات وبحث فيها وأشار إلى أهميتها

والواقع غير هذا، فلقد ثبت من كتاب (ميزان الحكمة) أن من بين المواد التي تناولها البحث مادة الهواء ووزنه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أشار إلى أن للهواء قوة رافعة كالسوائل وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتبع كثافة الهواء

وبيّن الخازن أيضاً أن قاعدة (أرشميدس) لا تسري فقط على السوائل بل تسري على الغازات، وأبدع في البحث في مقدار ما يُغمر من الأجسام الطافية في السوائل. ولا شك أن هذه البحوث هي من الأسس الذي عليها بنى علماء أوربا فيما بعد بعض الاختراعات الهامة كالبارومتر ومفرغات الهواء والمضخات المستعملة لرفع المياه

ولسنا هنا ننتقص من قدر توريشيللي وباسكال وبويل وغيرهم من العلماء الذين تقدموا بعلم (الإيدروستاتيكا) خطى واسعة، ولكن ما نريد إقراره هو أن الخازن قد ساهم في وضع بعض مباحث علم الطبيعة وأن له فضلاً في هذا كما لغيره من الذين أتوْا بعده، وقد توسعوا

ص: 134

في هذه الأسس ووضعوها في شكل يمكن معه استغلالها والاستفادة منها

وبحث الخازن في الكثافة وكيفية إيجادها للأجسام الصلبة والسائلة واعتمد في ذلك على كتابات البيروني وتجاربه فيها وعلى آلات متعددة وموازين مختلفة استعملها لهذا الغرض. واخترع الخازن ميزاناً لوزن الأجسام في الهواء والماء وكان لهذا الميزان خمس كفات تتحرك إحداها على ذراع مدرّج. ويقول بلتن إن الخازن استعمل الأيريومتر لقياس الكثافات وتقدير حرارة السوائل. ومن الغريب أن تجد أن الكثافات لكثير من العناصر والمركبات التي أوردها في كتابه بلغت درجة عظيمة من الدقة لم يصلها علماء القرن الثامن عشر للميلاد. وفي الكتاب أيضاً شيء عن الجاذبية، وأن الأجسام تتجه في سقوطها إلى الأرض، وقال أن ذلك ناتج عن قوة تجذب هذه الأجسام في اتجاه مركز الأرض. ويرى أن اختلاف قوة الجذب يتبع المسافة بين الجسم الساقط وهذا المركز. وجاء في كتاب (علم الطبيعة - تقدمه ورقيه. . .) للأستاذ نظيف:(. . . ومما يثير الدهشة أن مؤلف كتاب ميزان الحكمة كان يعلم العلاقة الصحيحة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو سطح الأرض والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه - وهي العلاقة التي تنص عليها القوانين والمعادلات التي ينسب الكشف عنها إلى غاليلي في القرن السابع عشر للميلاد. .). وعلى الرغم من التحريات العديدة لم أتمكن من العثور على المقتطفات التي تنص على العلاقة بين السرعة والبعد والزمن في المصادر التي بين يدي سواء العربية منها أو الإفرنجية. ولهذا فمن الصعب جداً أن أحكم في صحة ما جاء عن الخازن بشأن هذه العلاقة. وأظن أن العلاقة التي عرفها الخازن والتي وردت في كتابه - وهي العلاقة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو الأرض والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه لم تكن صحيحة ودقيقة بالدرجة التي تنص عليها معادلات غاليلي، ولكنها قد تكون صحيحة إلى درجة ودقيقة إلى حدّ. وآمل في أول فرصة أزور فيها مصر أن أبحث عن هذه النقطة في مكتبات القاهرة فقد أجد فيها ما يلقي ضوءاً على المدى الذي توصل إليه الخازن في الجاذبية

وأجاد في بحوث مراكز الأثقال وفي شرح بعض الآلات البسيطة وكيفية الانتفاع منها، وقد أحاط بدقائق المبادئ التي عليها يقوم اتزان الميزان والقبان واستقرار الاتزان إحاطة مكنته

ص: 135

من اختراع ميزان من نوع غريب لوزن الأجسام في الهواء والماء كما مرّ بنا

هذا ما استطعنا الوقوف عليه من مآثر الخازن بعد الرجوع إلى مصادر عديدة، ونرجو أن يكون هذا المقال حافزاً لغيرنا للاعتناء بتراث هذا العالم العربي الذي ترك ثروة علمية ثمينة للأجيال، كما نأمل أن يدفع بعض المنصفين من الباحثين والمؤرخين إلى الاهتمام برفع الإجحاف الذي أصابه، والعمل على إزالة الغيوم المحيطة بنواح أخرى من ثمرات قريحته الخصبة المنتجة

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 136

‌درس للزعماء في سيرة زعيم

لَلأستاذ سعيد الأفغاني

في حياة خالد بن الوليد الحافلة بالبطولة والرجولة، درس للصغير والكبير؛ غير أن ما يحيط بنهضة العرب اليوم من تناحر على الغنائم، والمعركة لم تنته بعد، يحتم أن نعرض لعبرتين في سيرة الفاتح العظيم، فيهما درس بليغ، ينتفع به من في قلبه حبة خردل من إخلاص. وكذلك التاريخ أيها القارئ يسعفك كلما كلب الزمان وحرب العدو، ولن تعدم منه أبداً سراجاً يضيء حاضرك ويبصرك بالسبل وينجح لك المساعي، ويريك بم كان تقدم المتقدمين وفوز الفائزين، وبم كان التأخر والذلة والخسران

أما الأولى من العبرتين، فهي أن خالداً من أبطال قريش وصناديدهم، بل هو البطل فيهم لا يعدله غيره. أظفر الله المسلمين بالمشركين يوم بدر، فكان عليهم عار الأبد، وأصبحوا بهزيمتهم سبة بين العرب؛ فما قر لهم قرار، حتى تألبت جموعهم في أحد، متعطشة إلى الثأر، ثم تقع الواقعة فينهزمون أيضاً. ويريد ربك أن يصاب المسلمون بعد نصرهم، لتكون لهم الهزيمة بعد الظفر درس الأبد، فلا يخالفون رئيساً بعدها أبداً. ثم لا يفطن إلى خلو الجبل من الرماة إلا خالد اليقظ، فيحيط بالمسلمين - وهم لاهون بالغنائم - من خلفهم، وينتعش المشركون حينئذ، وتكون المصيبة في المسلمين بالغة؛ فكانت هزيمتهم، وكانت الفرحة الكبرى لقريش أن ثأروا لقتلاهم يوم بدر، ورفعوا عن أنفسهم العار، وكان أن ذهب بفخر هذا اليوم كله خالد.

هذا القائد الباسل الذي طارت شهرته في أهل الشرك والتوحيد على السواء، وقع في قلبه أن الإسلام حق، فرمى بالقيادة والشهرة جانباً، ووطن نفسه على الأذى يناله من قريش، الذين سيحنقون أشد الحنق، وقصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقبله مسلماً في المسلمين، وقد سأله في طريقه عمرو بن العاص:(إلى أين يا أبا سلمان؟) فقال: (والله قد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم؛ فحتى متى؟!)

ألا يجد رؤساء الناس وزعماؤهم في هذه عبرة ودرساً، ألا يدعون نصرة أهوائهم وإرضاء نفوسهم، ليقبلوا على أمر تبين رشده فيتبعونه؟ إن الناس لينظرون إليهم، وإن الله لسائلهم عن الوطن والدين يتجرون بهما، وعن العامة يلعبون بعقولهم، وقد أعطوا الله موثقاً:

ص: 137

ليكونن مع الحق حيث كان، وليقومُن بنصرته وحده لا نصرة نفوسهم ونزغاتهم. جمعهم وطن واحد فراموه أجزاء وأشلاء، واستعدوا الأجنبي المتربص بهم ليحفظ عليهم رياساتهم الواهية، فنال هذا فريسته بسلاحها، وكانت هذه الأثرة الدنيئة أفتك بالبلد من كل غارة. ثم انتظم أمورهم دين واحد فأبوه إلا شيعاً وفرقاً وطرقاً، فبادر الأجنبي يعلن حمايته لكل فرقة على حدة ويعترف باستقلالها عن أختها، ويبالغ في تشجيعه على التفرق، وفي تفكيكه عرى الطائفة الواحدة حتى عم البلاء وطم. وهانحن أولاء نرى في قطر عربي صغير كسورية، ثبتاً حافلاً بأسماء طوائف لو وزعت على أهل الأرض ما نجت من شر فتنتها بقعة، وفي كل يوم فرقة جديدة وحماية سريعة

إن خالد بن الوليد طوح بالقيادة والفخر والظفر والمجد وأقبل على النبي واحداً من المسلمين، ونحن لا نكلف هؤلاء السادة طرح شيء فستبقى عليهم زعاماتهم، وسيرجعون أعز ما كانوا إن جندوا أنفسهم في خدمة الحق والخير

وأما العبرة الثانية التي يجدها الزعماء في سيرة خالد، فغاية في إنكار النفس وبذل الروح وإماتة الهوى

أسلم خالد وأبلى البلاء الحسن في كل غزواته مع النبي، ثم في حربه المرتدين، وتوطيده دعائم الوحدة في الجزيرة، ثم في سيره إلى العراق، وانتصاره على الفرس الانتصارات الآخذ بعضها بحجز بعض؛ فمن قهر جيوش، إلى دك عروش، إلى فتح حصون، إلى خطف قواد، إلى قتل أبطال. . . مآثر لو طلب بهن الخلافة لما ساغ في العقل أن يختلف عليه فيها اثنان. ثم يبعثه أبو بكر مدداً إلى الشام ثم يكون يوم اليرموك، وقد بلغ الروم في التعبئة غاية كيدهم وفنهم: عدد كثير، وشجاعة فائقة، واستبسال واستماتة، حتى لقد سلسل رجال منهم أنفسهم للموت بسلاسل من حديد، وقيد آخرون أنفسهم لئلا يفروا، ثم يكون رأى خالد توحيد العمل معلناً في خطبته البليغة المشهورة، ثم جولات منه صادقات، فإذا بالعدد الضخم من الروم يهوى إلى الواقوصة كالبناء المتداعي، ثم يتصل الظفر حتى يكون يوم دمشق، وقد ولي الخلافة عمر، ووصل بريده يعهد إلى أبي عبيدة بالقيادة، ويجعل خالداً جندياً من الجنود؛ وهنا العبرة، وهنا يبدأ الدرس:

في هذا الموقف يختلف خالد وزعماء اليوم، أما زعماء اليوم - من أمتنا طبعاً - فدستورهم

ص: 138

الكلمة المشهورة التي نجمت في مصر على ألسنة بعض الناس: (الحماية على يد فلان، ولا الاستقلال على يد فلان)، فلو كانوا مكان خالد لانشقوا بجند عظيم وحاربوا أبا عبيدة ومن معه، ثم ظفر الروم بالفريقين معاً وارتدت الدعوة العربية إلى الحجاز، ثم لا يُدرى أيكتفون أم ينبتون الجزيرة كلها خلافاً وتناحراً. وأما خالد داء الجيوش وقاهر الروم والفرس معاً، فقد كان رجلاً فوق هذا: انضوى إلى لواء أبي عبيدة وأخلص النصح والعمل، ولم يُر أحد أكثر جهداً وانكماشاً وبلاءً منه يومئذ أمام أسوار دمشق. لم ينم عن العدو ساعة قط، ولا فاته من حركاته صغيرة ولا كبيرة، فهو أبداً مقدم منطلق، وهو إلى ذلك يقلب وجوه الحيلة، ويعمل الفكرة كأنه لم يزل هو القائد، حتى هداه النظر إلى نصب السلالم على السور، فالتمس غفلة الحامية في يوم عيد فصعد عليها وطائفة من خيرة الشجعان فواثبوا الحراس ونزلوا إلى الباب فقطعوا إغلاقه بسيوفهم. وقد فتح المسلمون دمشق بحنكته ويقظته واقتحامه وحده لا شريك له في ذلك، ولم يبال أن يكون فخر هذا الفتح لأبي عبيدة أو لغيره، فما عمل خالد لزعامة ولا شهرة، عمل لله وحده وقد رضي الله عنه وأرضى الناس. وأولئك قوم نزع الله ما في صدورهم من غل إخواناً

هذا بدء تاريخنا، أم النهاية التي ختمناه بها نحن: فسلسلة من التفريط وتضييع الفرص، وعبادة النفس والاندفاع مع الأهواء. في سبيل ذلك ضحى المتزعمون بخير البلاد خيراً بعد خير. لنرجع عشرين عاماً إلى الوراء فلننظر: كم مرة خسرنا مراحل في تقدم القضية لأن الحلول لم تكن على يدنا ولا باسمنا؟ وكم مرة غششنا الناس وجهدنا أن نريهم كل حسنة ظفر بها غيرنا سيئة شنعاء؛ وكل شر لبسناه عليهم سعادة الأبد؟

فنجحنا - لأمر يريده الله - وقال الناس لصاحب الخير: (أنت شرير لا يصدر عنك خير، الخير كله في حزب كذا، وقف عليه دون خلق الله أجمعين. . .)

كان هذا في الشام وكان مثله في كل قطر عربي، وهو ما نرى أشباهه في جميع مرافقنا، حيث كان تناحرنا، وتكالبنا وبالاً علينا جميعاً. نعم، هذا ما بلينا به في كل النواحي، في السياسة والإدارة، والحكم والدين و. . . الخ

حصرنا في أنفسنا الإخلاص وخدمة البلاد، لنتمتع بعرض زائل، وكتب الله علينا إثم كل مصيبة نزلت بالأمة من جراء أثرتنا وتدجيلنا، ونحن وأولئك جميعاً، لا نبلغ بعد ذلك كله،

ص: 139

أن نكون غباراً على قدم أصغر جندي من جنود خالد.

(طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس، والسماء تنهل عليّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد. . .

لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. . .

إذ أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي، فاجعلوه في سبيل الله)

هذه حسرة الفاتح الكبير، الذي لم يفارق النصر موكبه ساعة قط. هذه كلمات الذي ساق السعادة إلى بلدين كبيرين: العراق والشام، تفيض باللوعة والأسى، فتثير الإجلال والحزن من أقصى مكامنهما في النفوس.

يتلهف أبو سليمان وهو يحتضر - وكل جسده إما مطعون أو مضروب أو مرمي - على أن لم يقض بين الصفين، أو أمام الحصون، أو في الثغور، جندياً يتخبط بدمه الشاخب، في سبيل إعلاء كلمة الله، ظامئاً مُجهداً مُشعثاً، يرسل من فيه شهادة الحق مع آخر نفس يخرج من صدره الحنون:

رحمك الله يا أبا سليمان! وليس بيدك ما تمنيت، فالله وحده يتوفى ويختار، وما عليك ألا تموت في الساحة بين الصفين، فما كنت لحظة من اللحاظ لتفتر عن جهاد، أو تعبئة لجهاد، أو حديث نفسي بجهاد. ما كنت يا ابن الوليد إلا جهاداً متلاحقاً في سبيل الواجب. لقد أرضيت ربك فجعلك سيفه في الأرض، وأرضيت رسوله فحمد أمرك ورضي عنك، وأرضيت خليفته حتى قال:(ما على نساء قريش أن ينشئن مثل خالد)! وعمر نفسه حين لامك لم يترك إكبارك، ولما نزل الشام ورأى معجزاتك في الفتوح لم يملك أن قال:(أمَّر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم مني بالرجال).

لقد كنت أمة في رجل، فعليك الرحمة من هؤلاء جميعاً، من كل من حارب تحت لوائك. وعليك الرحمة من النساء والصبيان والرهبان والفلاحين والمستضعفين الذين لم تكن تفتأ توصي جندك المنصور برعايتهم، والكف عنهم، والرأفة بهم. وعليك الرحمة من كل نسمة خلصتها من قسوة الفرس، أو ظلم الرومان.

ص: 140

وليس لنا أن نقول بعد تزكية الله ورسوله وخليفته، فما رأت جيوش الرحمة والهداية قائداً أيمن نقيبة منك. ولئن تصرمت حياتك التي كانت نفعاً كلها، وعوضت حياة خيراً منها، فإن خير أعمالك متصل عميم إلى الأبد. ولا يعلم إلا الله كم نفعت سيرتك بعد مماتك، وكم حفزت همماً خامدة وعزائم خائرة

ولقد جاء بعدك أناس كثيرون فبذلوا أرواحهم ودماءهم محامين عن الحق، فخلفوك في إرخاص الروح. ولا نزال نتلو متمثلين ولله الحمد:(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) ولا تزال الأرض من المغرب الأقصى إلى طرابلس إلى فلسطين إلى الهند، تنبت الشهداء، ولا يفتأ الدم الطاهر يجري أنهاراً في سبيل الحق. . .

ولكن أحداً من الزعماء لم يخلفك في إنكار الذات وإهانة الهوى وقهر النفس، ولم يذكر التاريخ بعدك قائداً فعل فعلك يوم اليرموك أو يوم دمشق.

(دمشق)

سعيد الأفغاني

ص: 141

‌حمامة الغار.

.

لَلأستاذ محمود حسن إسماعيل

حَمامَةَ الْغَار. . . أُيُّ لْحَن

مِنْ جَانِبِ اللهِ عَبْقَرِيْ!

أُلْهِمْتِ دُنْيَاهُ مِنْ صَبَاحٍ

في سِدْرَةِ الْمنُتْهَىَ وَضِيِّ

وَمِنْ عِطارِ الْجِنَان بَلْ مِنْ

سُكُوِنهِ الطَّاهِرِ الشَّذِيِّ

وَمِنْ نَشِيدٍ عَلَى رُبَاهُ

مُعَطَّرِ اللَّحْنِ سَرمَدِيِّ

يَفُوحُ مِنْ زَهْرَةٍ، وَيَزْكُو

مِنْ جَدْوَلٍ تَحْتَهاَ سَرِيِّ

رَنَّتْ بِأَصْدَائِهِ، وَغَنَّتْ

مَلَاحِمُ المُلْهَمِ الشَّجِيِّ

وَرَفْرَفَتْ فَوْقَهُ صَلَاةٌ

عَزَّتْ هُدَى الْعَابِدِ التَّقِيِّ. . .

قَبَسْتِ أَنْغَامَكِ الشَّوَادِي

مِنْ فجْرِه الرَّائِعِ السَّنِيِّ

وَمِنْ مَجَالِيهِ في الرَّوابِي

وَنَشْوَة الْماءِ في الْقُنِيِّ

وَسَكرَةِ الْهادِلِ المُغَنِّي

وَخَشْعَةِ السَّوْسَن النَّدِيِّ

وَمِنْ دَوَاليهِ حِينَ تُغْفِي

والطَّيْرُ نَعْسَانُ في الْعشِيِّ

كَأَنْهَا وَهْوَ فِي ذُراهَا

بِالُخْلْدِ تَهْوِيَمةُ الْخَلِيِّ. . .

وَجِئْتِ مِنْ جَنَّةِ الأَعَالِي

لِشاَطِئٍ أَقْدَسٍ عَلِيِّ

عَلَى جَنَاحَيْكِ للِبْرَاَيَا

في اْلأَرْضِ آمَالُ كُلِّ حَيِّ

أَقَمْتِ بِالْغَارِ أَيَّ عُشٍّ

مُشَعْشَعِ النُورِ كَوْكَبِيِّ

غُصُونُهُ الْبِيضُ مِنْ شُعَاعٍ

بِمُعْجِزَاتِ السَّنَا جَنِيِّ

يَدُورُ بِالْحقِّ أَيْنَ دَارَتْ

مَحاجِرُ الْبَاطِلِ الْعَتِيِّ

وَيَنْفُثُ السَّحْرَ أَيْنَ لَفَّتْ

لِلْكُفْرِ عَيْنانِ مِنْ غَوِيِّ

ظَلَلْتِ وَالْوحْيُ مُسْتَكنٌّ

مِنْ صَوْلَةِ الْفَاجِرِ الٍقَوِيِّ

تُلْقِينَ مِنْ وَكْرِكِ الْمُعَلّى

تَرْنِيمةَ الْوَادِعِ الرَّضِيِّ

كَأَنّمَا عِشْتِ مِنْ زَمَانِ

في ذلِكَ الْمَسْبَحِ الْهَنِيِّ

خَبَأْتِ وَالْعَنْكَبُوتَ دُنْيَا

لِلْحَقِّ في عالَمِ خَفِيِّ

خُيُوطُهُ الْوَاهِيَاتُ أَضْحَتْ

حُصُونَ مُسْتَعْصِمِ قَوِيِّ

ص: 142

فَزُلْزلَتْ دُونَهَا قُلُوبٌ

بِالشِّرْكِ صَخّابَةُ الدَّوِيِّ

وذَلَّ مَنْ رَامَها، وَأَلْوَى

في حَسْرَةِ الَخْائِبِ الشَّقِيِّ!

وَرْفَاءُ! يَا لَيْتَنِي سُكُونٌ

في ظِلَّكِ النَّاغِمِ الشَّجِيِّ!

صَمَدْتِ لِلْكُفْرِ ذَاتَ بَأسٍ

يَؤُجُّ مِنْ عُشِّكِ النَّقِيِّ

صَبا لَكِ (الْمُصْطَفَى) وَقَرَّتْ

عُيُونُ صِدِّيِقِهِ الْوَفِيِّ

فَرَجَّعَ الْكَوْنُ في هُتَافٍ

لِبَاعِثِ النُّورِ. . . عَبْقَرِيِّ

نَبِيَّةُ الطَّيْرِ أَلْهَمَتْهَا

إِعْجَازَهَا جِيرَةُ النَّبِيِّ

مُهَاجرٌ. . . تُهْجَرُ اْلأمَانِي

والْعُمْرُ في ظِلِّهِ الْوَضِيِّ!!.

(وزارة المعارف)

محمود حسن إسماعيل

ص: 143

‌الموسيقى في الإسلام

بِقلم محمد السيد المويحلي

يزعم بعض الناس أن الموسيقى محرّمة، لأنها تلهي الإنسان عن ربه، وتشغله عن دينه وعبادته، وتدفعه دفعاً لارتكاب ما نهى الله عنه. فإذا سألتهم آية أو حديثاً قالوا:

هذا شيء معروف منقول سمعناه من آبائنا وأجدادنا والسلف الصالح. . .!

هذا زعم لم ينشأ أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا أيام الخلفاء الراشدين، وإنما نشأ أيام الدولة الأموية حينما سما مركز المغنين والقيان سمواً عظيماً حتى حجب مراكز العلماء والفقهاء الذين حقدوا على الموسيقى والموسيقيين حقداً كبيراً، واستسلموا لخوالجهم (وهم بشر!) فراحوا يذيعون بين الناس أن الموسيقى حرام، وأن الخلفاء قد نسوا دينهم وربهم، واتبعوا خطوات الشيطان. . .!

ومن هنا نشأت هذه الشائعات وتطورت حتى غدت على ممر الأيام والأعوام قريبة من الاعتقاد والإيمان. . .

ولإنصاف بعض رجال الدين في هذا الوقت نقول: إنهم أبوا أن يتخذ بعض إخوانهم - في العلم - الدين سلاحاً للتشفي والانتقام من فن رفيع سام يخفف عن الناس آلامهم وشقاءهم فأصدروا الكتب الكثيرة في الرد على مبتدعي التحريم. ولعل أشهر هذه الرسائل وأقواها وأدعمها حجة تلك الرسالة (الخطية) الوحيدة الموجودة الآن (ببرلين). . . (الاستمتاع في الرد على من يحرم السماع. . .!)

قبل أن أذكر شيئاً عن الموسيقى في صدر الإسلام وفي أيام النبي (ص) أحب أن أذكر شيئاً عن حياة العربي وطبيعة بلاده، وتأثير مناخه في نفسه ليرى القارئ معي أن العربي موسيقى بطبعه وفطرته

البيئية العربية خالية مما يسر العين ويرضي القلب، فالصحراء شاسعة مترامية موحشة مقفرة لا حياة فيها، ولا أنس يُحييها. والسماء بنجومها وقمرها. . . هي السماء بنجومها وقمرها (دائماً) لا تتغير ولا تتبدل. .!

فأي شيء يسد هذا الفراغ. . . ويشغل نفس العربي ويملأ حسه غير (الغناء) الذي يساعد عليه رقة الشعر وسلامة قوافيه واختلاف بحوره؟ أي شيء يساعد الإبل والحداة على السير

ص: 144

تحت الشمس المحرقة، وفوق الرمال الملتهبة المتقدة أياماً وأياماً بالعطش والجوع غير الغناء الذي ينسي الإنسان همومه، ويمسح دموعه؟

عرف العربي الترنم بالشعر ولم يكن يدري أن هذا اللون من ألوان الموسيقى صناعة تخضع لقانون معين فاستمر هكذا يغني ويشرب الخمر، ويتعلق بالحب، ويكلف بالصيد والميسر حتى استطاعت القيان التي استقدمت من بلاد العجم والروم بآلاتهن الموسيقية الفارسية والرومية أن يؤثرن في الموسيقى العربية تأثيراً كبيراً.

فنشط العرب في هذا المضمار نشاطاً عظيماً، وإن كان هذا النشاط قد حجبه الكبرياء والتعالي، إلا أن حب الفن تغلب على غطرسة العربي فنهض واستحدث حتى احتفظ لموسيقاه بطابعها العربي الذي ميزها عن غيرها ولا يزال. . .!!

وقد عرف العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من الآلات الوترية (المزهر) وهو عود ذو وجه من الرق (والعود) ذا الوجه الخشبي (والجنك) أو الصنج (الهارب)(والمعزف)(والموتر)

ومن آلات النفخ المزمار، والقصبة أو القُصَّابة، والشبَّابة، والصُّور، والناي. ومن آلات النقر: الطبل، والدف، والقضيب - لبيان الميزان أو الإيقاع - والصنوج والجلاجل، والمربع والمجنب!!

انحصر جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الذود عن دينه وتبليغ رسالته، ونشر دعوته، وقتال المشركين ممن آذوه وأصحابه في أرواحهم وأموالهم ونسائهم، ولكن هذا لا يمنع أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الموسيقى. فقد كان كلما (هادن) سمع من بلال ابن رباح الحبشي، أول موسيقي مسلم، وأول مؤذن في الإسلام، ترتيله وأذانه بصوت جميل، وبتوقيع وترتيل فني.

ولقد جاءته مرة عائشة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله، لقد أقسمت شيرين مولاة حسان بن ثابت إن رجعت منصوراً من غزوتك أن تغني وتضرب بالرق في بيتنا، فماذا ترى.؟

فابتسم المصطفى وأذن لها وجلس مع حشد من صحابته وفيهم صديقه أبو بكر يسمع شيرين وهي تغني وتضرب بالرق، واستمروا كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب فانكمشت

ص: 145

شيرين وجلست فوق (رقها) فضحك الرسول وقال:

لقد ذهب شيطانها لما رأى عمر.

فأجابت شيرين: كلا يا رسول الله ولكنه قاس لا يرحم وأنت كريم رحيم!

فضحكوا جميعاً حتى عمر.

ولقد اتسعت فتوح العرب أيام عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وانتفع العرب بمدنيات البلاد المغلوبة وحضارتهم ولاسيما الحضارتين الفارسية واليونانية، فتأثر العرب من اختلاطهم بهؤلاء الأسرى واهتموا بأمور دنياهم، وأصبحوا ينظرون إلى الموسيقى نظرة جديدة خالية من الغلو والشطط حتى ارتفعوا بها على الشعر والأدب، وحتى غدوا لا يرون بأساً ولا ملامة في أن يحضروا مجالسها. وقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يسمع من مولاته شيرين ومن رائقة سيدة المغنيات وقتئذ وتلميذتها عزة الميلاء وكذلك كان حال أشراف العرب وساداتهم. . .!

وأحسب أن عصر ابتداء النهضة الحق ابتدأ في خلافة علي كرم الله وجهه. ولعل حبه للشعر وهو لون من ألوان (الفن) أكبر حافز. على أن هذه النهضة لم تؤت ثمرها اليانع إلا في الدولة الأموية عندما اتسعت الفتوحات شرقاً وغرباً. وقد ابتدئ في وضع الألحان العربية في هذا العصر على إيقاعات متعددة، وورد في غنائه ذكر إيقاعات (الثقيل) الأول و (الثقيل) الثاني، وخفيف الثقيل، والهزج، والرمل

وأشهر الموسيقيين في هذا العصر هو (سائب خاثر)، وهو أول من غنى في المدينة بالعربية مستعملاً العود. وقد أخذ عنه ابن سريج، ومعبد، وعزة الميلاء، وجميلة!

ومن المشهورين أيضاً ابن مسجح أول من نقل غناء الفرس إلى غناء العرب بمكة. وقد ابتدع مذهباً خاصاً وطريقة جديدة تأثر بها وأخذ عنها ابن محرز ومعبد وابن سريج والغريض

وقد بلغ من اهتمام الأمراء والحكام بالموسيقى أن الخليفة عبد الملك بن مروان نفسه كان موسيقياً وملحناً. وقد اشترى يزيد بن عبد الملك (حبابة) المغنية بأربعة آلاف دينار مع أنها كانت دميمة متهدمة. . .

ولعل في رعاية الوليد بن يزيد لمعبد وتمريضه إياه وإخلاء جناح خاص له في قصره، ثم

ص: 146

تشييعه لجنازته بنفسه أكبر برهان على مكانة الموسيقي وقتئذ. وقد كان الوليد عالماً بصناعة الألحان عازفاً بالعود موقعاً بالطبل والدف

وقد سرى تيار هذا الاهتمام إلى الأشراف والنبلاء حتى أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان لا يستريح إلا إذا سمع (سائب خاثر) فينشط. وسكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن أبيها، كانت مشغوفة بالغناء والموسيقى، وكانت تكرم الغريض، وكان بيتها منتدى لسماع الموسيقى والغناء، وقد طُلِب منها مرة أن تستدعي (حنين الحيري) مُغَّني (الحيرة)، فاستدعته مع أشهر المغنين في الحجاز ابن سريح، ومعبد، والغريض. وقصد الأربعة بيتها فحفلت الدار بالناس حتى ضاقت بهم، فصعدت شراذم منهم فوق (السطح) وأخذ حنين يغني ويغني والناس تموج وتهتف، وإذا (بالسقف) يهوي بمن فوقه على رأسه فمات مخنوقاً. فقالت السيدة سكينة:(لقد كدر علينا حنين سرورنا. انتظرناه مدة طويلة كأننا والله كنا نسوقه إلى منيته)

وفي العصر الأموي ابتدأت حركة التأليف الموسيقي فوضع يونس الكاتب (كتاب النغم) و (كيان القيان)

أما في العصر العباسي ذلك العصر الذهبي للموسيقى والأدب والشعر فقد سمت فيه الموسيقى سمواً عظيماً وارتفعت إلى ذروة المجد، وزادت مقاماتها وطرائق إيقاعها حتى تعددت في اللحن الواحد وكثرت الآلات وتنوعت وكثر استعمالها

وأصبح العربي يفخر بأنه موسيقي حتى أن أبناء النبلاء انخرطوا في سلكها، فكان منهم ابن جامع القرشي. بل زاد اهتمامهم إلى حد الاعتراف كإبراهيم بن المهدي. .!

والخليفة الواثق كان من أحذق الخلفاء بل من الموسيقيين المحترفين أنفسهم بالغناء والعزف على العود، وقد قال في إسحاق الموصلي:

(ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي. . وإن إسحاق لنغمته من نغم الملك التي لم يحظ بمثلها، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي)(الأغاني) وإسحاق هذا هو أول من عني بإثبات قواعد الموسيقى العربية ونظرياتها بعد يونس الأكوي وجاء بعده الخليل بن احمد فصنف كتاب (النغم والإيقاع) ولكن الذي بزهما هو إسحاق ابن يعقوب الكندي الذي ألفَ عدة كتب في الموسيقى ونظرياتها؛ وهو

ص: 147

أول من دون الموسيقى بالحروف بشكل مرتب، وهذا أكبر رد على من يتهمون العرب بإهمال تدوين تلاحينهم. ثم جاء بعده أيضاً أبو نصر محمد الفارابي فوضع (كتاب الموسيقى الكبير) الذي تدين له الموسيقى بالشيء الكثير. وفي العصر العباسي أمر هارون الرشيد اسحق الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح ابن أبي العوراء، أن يختاروا له من الألحان العربية مائة صوت فصنعوا.

ومن أشهر الموسيقيين في هذا العصر إبراهيم الموصلي، وإسحاق الموصلي، وفليح بن أبي العوراء، ويحيى المكي، وحكم الوادي، وزلزل، ومخارق، وبذل المغنية، وابن جامع

وقبل أن نختم هذه اللمحة العابرة نحب أن نقول لهؤلاء الذين يعتقدون أن الموسيقى محرمة: هذه هو شأن الموسيقى في صدر الإسلام

إن الموسيقى في ذاتها نبيلة رفيعة، ولكن المحرم فيها هو التخنث والبكاء والاسترضاء واستغلال الغرائز البهيمية، وهذا ليس بمحرم شرعاً فحسب، بل هو محرم شرعاً وذوقاً ورجولة أيضاً

محمد السيد المويلحي

ص: 148