الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 298
- بتاريخ: 20 - 03 - 1939
الأدب والفن في القران الملكي السعيد
قلتُ لنفسي. . .
أستطيع أن أتحدث إليك يا نفس، وأن آمن أن يتسمع إلى حديثنا ناقد أو حاقد فينشره؛ فما كل ما يعلم يذكر، وما كل ما يذكر ينشر.
كان الشعب والجيش في أسبوع القران المصري الإيراني السعيد قصيدة شاعرة الأبيات بالجمال والحب، وملحمة عامرة الأناشيد بالفخار والمجد، تجلت فيهما عبقرية الجنس ونبالة التاريخ وأريحية النيل، ودلتا على أن الشعب يتقدم بصيراً بالفطرة ككرام الطير، وأن الجيش يولد جباراً بالروح كآلهة الإغريق. والفطرة والروح من عمل الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وهدى كل حي طريقه.
أما الأدب والفن وهما من خلق الناس فكانا - على حسبما بلغته عيناي وأذناي - موضع النقص وموضوع النقد. ومن الظلم لمواهب هذا البلد الكريم أن يكون ما ذاع منهما في هذا الأسبوع التاريخي مقياساً لقرائحه وترجماناً لعواطفه. وأسارع إلى استثناء النثر من أنواع الأدب؛ فقد كان أجمل الزهر الذي نثر على العروسين، وأنفس الدر الذي قدم إلى التاجين، وأصدق الدلائل على مكانة مصر في المدنية والعقلية والثقافة. . .
ولكن الشعر كانت كثرته الكاثرة كزقزقة الأفراخ النواهض في صبح من أصباح مارس: هي إلى الصُئِىَ أقرب منها إلى التغريد، وعلى المحاكاة أدل منها على التجديد، وفي التشابه أدخل منها في التنوع. والله وحده يعلم الآن موقف امرئ القيس من الجاحظ في الجنة أو في النار، وأحدهما يرى فنه يذوي ويهوي وينطوي، ولآخر يرى فنه ينمو ويسمو وينتشر!
ومهما يكن من قصور الشعر فإن فن الكلام في مصر أنبض الفنون الرفيعة بالحياة وأسبقها إلى النهوض وأدناها من الغاية. فإنك إذا وازنت بينه وبين التمثيل والموسيقى في هذا الأسبوع على الأقل والأخص عجبت كيف يتقدم فن الأمة المفكر هذا التقدم، ويتأخر فنها المصور هذا التأخير، حتى يكون ما في ذلك من الخلق والجدة والتطور والشعور، معادلا لما في هذا من النقل والركود والجمود والبلادة.
فالتمثيل - ومظهر النبوغ المصري فيه (الفرقة القومية) - كان خذلاناً من الله لإدارة هذه الفرقة، وبرهاناً من نفسها للناس على أنها لا تعلم ولا تعمل ولا تدير.
أرادت هذه الفرقة أن تساهم في الحفلة الموسيقية التي أقامتها وزارة المعارف في دار الأوبرا الملكية احتفاء بصاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران، لأنها تعيش على أموالها، وتعتمد على مشورة رجالها، فاختارت أن تمثل لهذه المناسبة في حضرة المليك العظيم وأمام الخاطب الكريم ملهاة (المتحذلقات) لموليير، وموضوعها كما تعلمين خطبة عابثة هازلة، يلبس لها خادمان لباس النبلاء ويخدعان بالحذلقة الغبية امرأتين من أغنى النساء!
كان من السهل لو كان للوزارة (فرقة)، وللفرقة إدارة، وللإدارة دراية، أن تطلب إلى كاتب من كتاب المسرح أن يقتبس لها في هذه المناسبة السعيدة موضوع مسرحية ذات فصل واحد من شاهنامة الفردوسي، كحكاية شيرين، أو قصة زهراب ورستم، فيكون تمثيلها أمام الأمير وحاشيته أبلغ في معنى الحفاوة، وأبين عن سمو الذوق، وأدل على أن في مصر تمثيلاً له أدبه المحلى وطابعه الخاص وروحه المميزة. أما متحذلقات موليير فقد مضى على تأليفها مائتان وثمانون سنة، قرأها فيها كل بلد ومثلها كل مسرح؛ فلو لم يدل اختيارها على سقم الذوق لسوء المناسبة، لدل على عقم الأدب لضرورة الاقتباس. ورحم الله من طلب إلى (غزلانزوني) في سنة 1871 أن يؤلف له (عايدة) لتمثل في هذه (الأوبرا) أمام الأضياف الأوربيين في مهرجان قناة السويس، فقد كان أسهل عليه وأسرع له أن يأمر الممثلين أن يمثلوا له ما شاء من الأوبرات الإيطالية والروايات الفرنسية؛ ولكنه لسمو نفسه وصفاء حسه أراد أن يكون الموضوع مصرياً واللون محلياً والتمثيل جديداً فكان له ما أراد!
والموسيقى - ومظهر الفن المصري فيها (معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية) - كانت ضرباً من السأم والغثاثة لا نعرف له ضريباً في موسيقى الأمم. فقد أقام هذا المعهد كذلك في داره حفلة ترحيب وتسلية للأمير الخاطب، فكانت ألحاناً مكررة، وأصواتاً منكرة، وبشارف وتقاسيم وأدواراً يعزفها لقلتها البادئ والمنتهى، ويعرفها لشيوعها الموسيقار والسامع، ولا تكاد الأذن الفنانة المرهفة تنفتح لنغماتها التقليدية المكرورة أكثر من دقائق! وما دامت موسيقانا تسير على نهج (التخت) في وضعه التمثالي الجامد، فهيهات أن تشيع فيها الروح، وتظهر عليها الجدة، ويرتاح إليها الشعور. وأعجب العجب أن هذه الموسيقى
الواحدة، يجعلون لها أسماء متعددة؛ هذه (تحية العروس) وهذه (رقصة الأمل) وهذه (سكرة الموت) ولو وضعت على كل واحدة منها أسم الأخرى لما أنكر ذلك سامع ولا اعترض عليه معترض!
أما إذاعتنا اللاسلكية فكانت على عادتها إهانة عالمية لمصر! فبينما تجدين محطات الإذاعة العربية في العالم تتغذى على الهنيء السائغ من فن عبد الوهاب وأم كلثوم، تجدينها هي تتغذى على الغث البارد من أنامل وحناجر لا هي معجبة ببراعة الفن، ولا هي مطربة بحلاوة الصوت!
أقول لك ذلك يا نفس، وأنا أعلم أن في قوله تفريجاً عنك، وليس فيه إن سمعه سامع ما يغضب الحق ويؤذي الناس!
ابن عبد الملك
بلادة أم اتزان؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يجيء يوم في حياة الإنسان يرزق فيه البلادة المريحة، وأعني بالبلادة انتفاء الحدة والعنف فيما يساور النفس من شعور، ويدور بها من خوالج. فَمَطَةُ بوزٍ هي كل ما يبديه من أسف على فائت، وهزة كتف خفيفة لا تكاد تلمح هي ما يقابل به الحوادث الجسام، والبرود أو الجمود هو ما يتلقى به الغمز والطعن والتشهير، والابتسام هو كل ما يبدو من سروره.
زارني مرة صديق لا يزال على ارتفاع سنه فتى الروح يغلي في عروقه دم الشباب، ودفع إلي بصحيفة وقال وهو يشير بإصبعه إلى موضع فيها، وكأنه يشكه برمح:(ألا ترد على هذا؟) فرفعت رأسي إليه - فإن قامته مديدة، وأنا كما يعلم القراء، أو كما لا يعلمون، قميء صغير - وسألته:(ماذا؟) قال وهو ينتفض كأن به حمى: (هذا الشتم! هذه القباحة! هذه السفالة! هذه. . .)
فاستوقفته بإشارة وقلت: (حلمك! لقد شتمني بعضهم مرة في صحيفة كبيرة فقال عني إني (من فراش العار) وأضاف إلى زملائي جميعاً فقال عنا إننا (أبناء الزواني) فهل قال هذا - أشرت إلى الصحيفة التي ألقاها على مكتبي - شراً من ذاك؟)
فترك هذا وسألني: (ألم تقتله؟)
قلت: (يا سيدي لو كنت أعلم أنه خالد لحاولت قتله، ولكنه فانٍ مثلي، فلماذا أجشم نفسي عناء باطلاً، وأتكلف تحصيل الحاصل، وأتعاطى العبث والسخافة؟)
قال باشمئزاز: (هذه فلسفة لا أفهمها. . . هه. . . من ضربك على خدك. . .)
قلت: (لا ليست هذه فلسفة، وإنما هي بلادة، ثم إني لا أدير للضارب خدي الآخر، وكل ما في الأمر أني لا أحس ما ظنه الضارب لطمة لي على خدي. . .)
فصاح بي: (كيف لا تحس؟ أيقول عنك إنك من فراش العار، وإنك ابن زانية وتجيء وتزعم أنك لا تحس ولا تبالي؟)
قلت: (حلمك مرة أخرى. إني أعرف أني لست من فراش العار، وأني لست ابن زانية، فما يشتمني به لا يغير ما أعرفه. ثم إنك تتوهم أن الناس يصدقون كل ما يذم به بعضهم بعضا. وهذا غير صحيح. ولو أن الذي شتمني التزم القصد، وآثر الاعتدال فيما يرميني به
لكان أخلق بأن يصدقه الناس ويقتنعوا، ولكنه أسرف واشتط فأفسد على نفسه مرامه، فكلامه في ينال منه ولا ينال مني. وقد أخجله ضني بنفسي على هذه الأوحال فاعتذر، فهل تدري ماذا قلت له؟)
قال: (لا أريد أن أسمع. يظهر أنك تحاول أن تقلد غاندي. . . المهاتما غاندي!) قالها بلهجة المتهكم الزاري
قلت: (ولا هذا أيضاً. إن غاندي حي - مثلك - ولكن أساليبكما مختلفة. أما أنا فأهون ما أقوله في نفسي أني أصبحت لا أطيق بعثرة القوة وتبديد الجهود في العبث الذي لا طائل تحته. أصبحت بخيلاً مقتراً أنفق حياتي بحساب دقيق، وأدخر كل ما يسعني ادخاره من القوة؛ وما زلت مسرفاً في إنفاق حياتي، ولكن في ما أحب أنا، وبإرادتي لا بالشعور الدافع. وإنه ليحلو لي أن أسمي هذه بلادة، ولكنه قد يكون اتزاناً، وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء. ولا تخف. ستراني يوماً أنقض على خصم فأمزقه إرباً إرباً، فما نفدت قوتي، ولا فقدت القدرة على استطابة أكل اللحم البشري، وما زلت ذلك الوحش القديم الذي يلذه أن يمزق لحم الفريسة، وأن يلغ في دمها. وإذا رأيتني أسطو على أحد، وأكر عليه وأصميه، أو أعذبه تعذيب القط للفأرة، فاعلم أني أفعل ذلك بإرادتي، لأن شعوري غلبني، فما يغلبني شعوري في هذه الأيام. وعلمي بما أقدر عليه هو الذي يصدني عن هذه المهاترات الفارغة)
فقال: (لقد تغيرت جداً)
قلت: (إنك تذكرني بقول القائل:
وقد زعمت أني تغّيرت بعدها
…
ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟
نعم من ذا الذي لا يتغير؟ حتى الحجر! ومع ذلك من يدري؟
لقد كنت في صدر حياتي مدرساً، وكان بعض التلاميذ يحاولون أن يعابثوني، فكنت آخذ عليهم طريق العبث وأكتفي بذلك، وأستغني عن الاحتياج إلى عقابهم، وكنت أزعم أن هذه حكمة، والواقع إني ما عاقبت تلميذاً قط، في عشر سنين زاولت فيها التعليم، وكان الذي بيني وبين تلاميذي عامراً كل هذا الزمن، ولكني كنت أدير عيني في نفسي وأفحصها، وأغوص في أعماقها، أتبين أني أكره العقاب الخفيف، وأنه لا يرضيني إلا أن تكون الضربة قاصمة للظهر، لأني بطبعي عنيف، ولما كان لا محل لضربة قاضية من أجل أن
تلميذاً لاعبني أو مازحني، وهو لا يريد شراً، وإنما تغريه بذلك طبيعة الصبي، فقد كنت أكبح نفسي وأردها عن الأذى، وأعمل بقول الشاعر:
توقى الداء خير من تصدٍ
…
لأيسره وإن قرب الطبيب
نعم تغيرت، بمعنى أن بعض الطباع التي كانت تظهر وتخفى فيما مضى، صارت أبرز وأقوى، فهي الآن السمة الغالبة والطابع الملحوظ.
هذه خلاصة ما حدثت به صديقي، وقد قلت له كلاماً آخر كثيراً، نسيته، فقد طال بيننا الحوار، وتركني وهو غير مقتنع بصوابي، فلم أحفل بذلك. وماذا يضرني ألا يقتنع؟ ولماذا أكلف نفسي تعب إقناعه؟ أنا الذي جربت مراراً كيف يخيب الأمل، ويذهب المسعى سدى؟
وأويت إلى مكتبي في الليل، بعد أن نام البيت، وأعفيت من ضجة الأطفال وأخرست لسان الراديو الصاخب. . . وعلى ذكر الراديو أقول أن بني مثلي، يأكلون على ضوضاء الراديو، ويراجعون دروسهم على ضجات الراديو، ولا يبدو عليهم أنهم يسمعون ما يصيح به، أو يبالونه، ومن شابه أباه فما ظلم، وإني لأرجو أن يظلوا مثلي، وألا يكترثوا لمن عسى أن يسبهم ويزعمهم (من فراش العار) - في حوار أدبي أو جدل سياسي - ما علينا.
سألت نفسي لما خلوت بها: (أهذا الذي صرت إليه اتزان أم بلادة؟ وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء، أم فتور حتى عن محاولة الإدراك؟ وهل النار كامنة تحت هذا الرماد، أم هي خمدت وأنت تحسبها لا تحتاج إلى أكثر من التقليب؟ وهل يشي هذا بالقوة، أو يشي بالضعف؟ ومن اليأس هذا، أم من العلم والفهم الصحيح؟ وحال تدوم، أم عارض يزول؟
وطال تفكيري في جواب هذه المسائل، ولم أنته إلى شيء تسكن إليه النفس، فنهضت وأنا أقول:(ولماذا أعني نفسي بهذه المتعبات؟ وماذا أبالي على كل حال سواء أكان الأمر هكذا أم كذلك؟)
وأعجبتني (لا أبالي) هذه، فقد صارت عندي مخرجاً من كل ورطة، وباباً لتفريج كل أزمة في النفس. ومن كان يسعه أن يقول - ويكون على نحو ما يقول - (لا أبالي) فقد أوتي الراحة، ولا أقول السعادة فإنها خرافة.
إبراهيم عبد القادر المازني
إنجليزي يتحدث في السياسة
لأستاذ كبير
أعرف إنكليزياً داهية في السياسة وإن لم يكن له مركز سياسي، ولكنه يميل إلى المبادئ الحرة. قابلته مرة وتحدثنا وجرنا الحديث إلى السياسة فقال: إنه يدهشني أن يكون بين المصرين من يسئ الظن بالسياسة الإنكليزية. فقلت: إن كنت قد رأيت من يسئ الظن بها من المصريين فلا يدهشك أن يكون بين الملايين من الناس آحاد يفعلون ذلك إذا كنت حقيقة قد رأيت منهم سوء الظن ولم تتوهمه. قال: ومع ذلك فأن أعظم الناس سذاجة يستطيع أن يفهم أننا لو شئنا نقض سياستنا الموالية لحليفتنا لكان ذلك من أيسر الأمور. قلت: ماذا تعني؟ قال: أعني أننا لا نريد الغدر بصديق ولسنا معروفين بذلك، فهذا تاريخنا يدل على أننا لم نغدر بأحد أئمتنا، فقد كنا دائماً أمناء، وكانت استقامتنا مضرب الأمثال، وليس لنا نفع نرجوه من وراء الغدر لأننا لا نريد أن نتحمل مسؤولية الحكم فتزيد أتعابنا العالية.
ثم سكت قليلاً وعاد إلى الكلام فقال: على أننا لو أردنا لاستطعنا أن نتبع خطة تطلق يدنا من غير أن نتحمل مسؤولية الحكم وأتعابه في الظاهر. ثم التفت إلي وابتسم ثم قال: ولكنا لا نريد. قلت: إني لم أفهم كلمتك الأخيرة. فسكت كأنما يشاور نفسه ويسألها: هل يبوح بما في نفسه أم لا يبوح؟ وبعد ذلك لوح بيده إشارة عدم الاكتراث لما قد يكون من نتائج ما أزمع أن يفسره وقال:
هناك أمور ثلاثة يمكن استثمارها وهي الأمور الدينية والأمور المالية والأمور الدستورية. ولا أعني استثمارها مباشرة أو الظهور بمظهر المستثمر لها؛ بل لابد إذا اتبعنا هذه الخطة ألا يفهم أحد أننا نستثمرها. ولنجاح هذه الخطة ينبغي ألا يفطن إليها أحد، ومن أجل ذلك يمكنك أن نثق بسبب شرحها لك أننا لا نريدها لأننا لو كنا نريدها لكتمناها ولأنكرناها إذا فكر فيها أو فطن إليها غريب عنا، ولحاولنا أن نقنعه بكل الوسائل أننا لا نريدها وأننا لم نفكر فيها.
قلت: وما هي هذه الخطة؟
قال: إنك تعلم أن خطتنا التقليدية كانت عدم المساس بالشعور الديني في صدر المحافظين
عليه؛ ومع ذلك كنا نستعمل وسائل كثيرة للتوفيق بين احترام الشعور الديني واحترام العرف والتقاليد، وبين مراعاة حالة مصر الدولية ووجود الأجانب بها ومراعاة ما تقتضيه التغيرات الاجتماعية والقانونية والفكرية الحديثة. وقد كان التوفيق بينهما يقتضي مرونة ولياقة إلى حد يجعل ذلك التوفيق غير مُحَسٍ به ولا مفطون له، وعلى ذلك كان يتوقف نجاحنا. ولا أقول إننا نجحنا كل النجاح، ولكني أقول إننا نجحنا نجاحاً يسهل إدارة الأمور فاكتسبنا مؤازرة العلماء والقائمين بأمر الدين فيما يهمنا من تصريف الأمور، كما تمكنا أن نمنع من حدوث ارتباك بسبب اصطدام الشعور الديني وشعور المحافظة على العرف والتقاليد بمنزلة مصر الدولية وبما تقتضيه التغيرات الاجتماعية والقانونية والفكرية الحديثة. . . وهنا ابتسم ابتسامة مكر ودهاء وقال: فلو كنا نريد بسط يدنا في إدارة شؤون البلاد مباشرة، لاستطعنا أن نمتنع عن هذا التوفيق بطريق مباشر وبطريق غير مباشر، واستطعنا أن نشجع المحافظة على التقاليد حتى يستولي على زعامتها أشد الناس تطرفاً، وأظهرنا في أول الأمر عدم ميلنا إلى التدخل. وهذه الخطة تؤدي حتما إلى تدخلنا في النهاية وإلى كسب الأنصار أولاً وأخيراً وإلى وجود الأعذار والفرص التي تبرر وتسهل ذلك التدخل وتجعله أمراً لا مناص منه حتى لدى كثيرين ممن يكرهونه.
قال ذلك وسكت قليلاً وجعل يضرب ركبته بأطراف أصابعه وكأنه مشغول بالتفكير في أمر. . . ثم التفت إلي كأنما قد أفاق من انشغاله بالفكر وقال:
أما المسائل المالية فإنكم تعلمون أنها هي التي أطلقت يدنا في مصر منذ ارتبكت المالية المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا وما كنا نستطيع أن نجيب طلبات المصريين الوطنية وأن نقيد يدنا في مسائل إدارة شؤون البلاد لولا أننا أصلحنا المالية؛ فلو كانت المالية لم تصلح لاضطررنا أن نضرب بمطالب المصريين عرض الحائط بحكم الضرورة ولوجدنا أنصاراً كثيرين من المصريين والأجانب يشد أزرنا في خطة التمسك بإدارة شؤون البلاد، بل لوجدنا من المصرين والأجانب ومن الدول أيضاً من يطالبنا بالتمسك بإدارة شؤون البلاد ويصر على ذلك خوفاً من كل على أمواله. لكننا لا نرى من يطالب أو يصر على ذلك لأن مالية الشعب والحكومة تحسنت كثيراً. . . وهنا عاد إلى سكوته كأنما يريد مني أن أهضم ما قاله وأن أفكر فيه، وأقتنع بصدقه قبل استئناف الحديث، ثم عاد إلى
الكلام فقال: لو كنا نريد أن نطلق يدنا في إدارة شؤون البلاد لاستطعنا أن نشجع الإسراف أو على الأقل نشجع الصرف صرفاً كثيراً على أمور لا تأتي بثمرة اقتصادية ولا بربح اقتصادي مباشر، وهذا أمر ميسور لنا (أولاً) بسبب شعور مصر بمقام استقلالها بين الدول وما يقتضيه من المصروفات في الأمور السياسية، و (ثانياً) بسبب خطر الحرب وما يقتضيه من المصروفات في الأمور الحربية. وهذا الصرف تطالب به العزة القومية ولا يشك أحد في مطالبتها به. على أنه مهما حسنت مالية الدولة والشعب فإن مالية الدولة لا تتوقف على موازنة الدخل والمنصرف في الميزانية وحدها ولا على الاحتياطي من المال لديها وحده، وإنما تتوقف أيضاً (أولاً) على موارد الدولة، وتنوعها ضروري لأنها إذا لم تكن متنوعة وأصيب المحصول الرئيسي بفشل أو تدهور مستمر في الأسعار ربما ذهب حسن المالية الذي برر كف يدنا عن التدخل في إدارة الشؤون. و (ثانياً) تتوقف مالية الدولة أيضاً على دخل الأهالي، فإذا فرضنا أن ثروة قطر من الأقطار زادت لتحسن طرق الإنتاج ومقداره ولكن زاد عدد السكان زيادة كبيرة وارتفع مستوى المعيشة وزادت الديون التي على الأهالي وكثر المتعطلون عن العمل وكان أكثر أفراد الشعب لا يملكون إلا القليل وبدأ يقل محصول الفدان الواحد في مقداره إذ كان القطر زراعياً. . . أقول إذا اجتمعت كل هذه الأمور وأشباهها لا يختزن أفراد الشعب كثيراً مما كان من ازدياد مجموع ثروة الشعب، ولا يكون عند الشعب من المتانة المالية ما يسند متانة الحكومة المالية ويشجعها في المضي في الصرف بسخاء على أشياء قد تكون شبه ضرورية. فإذا اعتمدت الحكومة على متانة ماليتها الحاضرة وحدها من غير نظر إلى ما قد تؤدي إليه هذه العوامل الاقتصادية في النهاية. وإذا أردنا أن نطلق يدنا في إدارة الشؤون ونجعله أمراً محتوماً يطالب به كما كان في الماضي أمكننا أن نقلل من أثر هذه العوامل وأن نهون أمرها لدى الحكومة. . . قال ذلك ثم التفت إلي وقال: ولكن الحكومة المصرية متيقظة تمام التيقظ. . . وقال: ومع ذلك يمكننا - إذا شئنا - أن نتغلب على هذه اليقظة. ولكننا كما أوضحت لك لإنشاء تحمل مسؤولية وأعباء الحكم حتى ولو أنه من المستطاع تحميل الحكومة الوطنية التي تطلق يدنا كل الإطلاق مسؤولية وأعباء الحكم. ثم رجع إلى سكوته الطويل كي أتدبر ما قاله عن المسائل المالية والاقتصادية كما سكت طويلاً بعد كلامه عن المسائل الدينية.
وبعد ذلك التفت إلي مرة أخرى وقال:
بقيت مسألة نظام الحكم، ونحن بطبيعتنا نميل إلى الحكم الدستوري الذي كنا أول من شاده بين الأمم، ونفضل الاتزان والاعتدال في الحكم الدستوري. وكثيراً ما تحول الدستور في بعض الدول الأوربية إما إلى حكومة نفعية غير ديمقراطية من طبقة المغامرين، وإما إلى حكومة رعاع مؤقتة. ولكننا في انجلترة قد صنا الديمقراطية على الحالتين؛ وهذا هو سبب ثبات الديمقراطية عندنا. ومن أسباب ثباتها أيضاً قدم عهدنا بالنظام البرلماني الدستوري ومحافظتنا على القديم من تقاليدنا الدستورية، أما عندكم فلا يوجد تقاليد كما عندنا تتغلب على النزعة التي ذاعت في كثير من الأمم للتخلص من النظام البرلماني أملاً في إصلاح أو رقي أو تحسن سريع يأتي على يد حكومة قادرة من الأكفاء يمكن انحصار السلطة فيها في أيد قليلة ويمكن عدم تقيدها بدورات المشاريع وعدم تأخرها؛ بسبب الشورى وبسبب قيود نظم الحكومات الدستورية. وقد بدأ الكتاب يكتبون في هذه النزعة في مصر وبدأ بعضهم يحبذها. فلو أننا كنا نريد إطلاق يدنا كل الإطلاق في إدارة شؤون البلاد لاستطعنا أن نشجع هذه النزعة بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر وكان يمكننا أن نتخذها وسيلة لخلق حالة في البلاد تتطلب أن نتدخل بسبب نزاع أنصار الديمقراطية وأنصار الدكتاتورية وما يؤدي إليه. بل يمكننا أن نخلق حالة تدعو كثيرين إلى مطالبتنا بالتدخل سواء أكان ذلك بسبب هذه الحالة التي يخلقها النزاع بين الدكتاتورية والديمقراطية أو بسبب المسائل المالية أو بسبب المسائل الدينية لو شئنا أن نتبع الخطة التي أوضحت لك إننا يمكننا أن نتبعها في المسائل الدينية أو المالية أو الدستورية؛ ولكنا كما قلت لا نشاء اتباع هذه الخطة حتى ولو أدت إلى إطلاق يدنا إطلاق تاماً في إدارة شؤون البلاد من غير تحمل مسؤولية وأعباء الحكم، إذ نستطيع أن نجعل من نشاء يتحملها عنا إذا جاءت نتائجها أحياناً عكس ما توقنا. ولو أننا كنا نشاء اتباع هذه الخطة لما كنا نتحدث فيها بصراحة إلى كل من نقابل من الناس.
وهنا غلبه الضحك فضحك ثم قال: والمأمول أن لا يفعل المصريون من تلقاء أنفسهم بدون دافع منا ما يؤدي إلى إحدى الحالات الثلاث التي تحتم تدخلنا ونحن آسفون على التدخل.
قارئ
من برجنا العاجي
حدث في الأسبوع الماضي أمر أحب أن أسجله هنا:
هو قيام القيامة في الجامعة ضد كتابين قيمين، لأنه قد ورد فيهما طعن في الإسلام.
لا أريد أن أنظر إلى الأمر من ناحية التفكير الحر، ولا من حيث تأثير
هذا الموقف في الحياة العقلية لبلد متحضر ولكني أريد أن أبحث
المسألة من جهة الدين نفسه. وهنا يبدو لي العجب: لماذا كل هذا الفزع
كلما وقع بصرنا على عبارة تمس الإسلام؟ إن الكتب التي عالجت
المسيحية وتعرضت للمسيح بالطعن والتجريح تطبع وتنشر في أوروبا
المسيحية دون أن يخشى أحد على كيان المسيحية. ذلك أن الجميع
يعلمون أن الأوان قد فات للخوف من مثل هذه الصيحات، وأن
المسيحية التي عاشت عشرين قرناً لا يهدمها عشرون كتابا. كذلك
نستطيع أن نقول في الإسلام أن هذا الدين المتين الذي عمر نحو أربعة
عشر قرناً وثبت لإحداث الزمان وشاهد دولاً تدول وعروشاً تزول
وشعوباً تولد وإمبراطوريات تقام، لا يمكن أن يتعرض للخطر أمام
كتاب يؤلف أو عبارات تقال. إن هذا الفزع منا لأكبر مسبة لدين
عريق عميق. كذلك يدهشني أن ينشأ هذا الفزع في جامعة عصرية،
يؤمها شباب قد قطع مراحل الطفولة والصبا الأول وانغرست في قلبه
العقيدة الحارة، فلا خوف الآن عليه من مناقشة المسائل العقلية في جو
الحرية.
إني أعتقد دائماً أن صحة العقل وصحة العقيدة كصحة الجسم لا بد لها من الهواء الطلق حتى تكتسب المناعة. وأن حبس العقيدة والعقل في قفص من الزجاج خوفاً عليهما من
خطرات النسيم معناه إنشاؤهما على بنية عليلة وكيان سقيم.
توفيق الحكيم
الأثر العربي
في الثقافة الإنجليزية في القرون الوسطى
للأستاذ عبد العزيز أمين عبد المجيد
ليس من الممكن معالجة موضوع الأثر العربي في الثقافة الإنجليزية بتفصيل واستيعاب في مقالة واحدة أو بضع مقالات. ولا من الممكن أيضاً ذكر الكثير من أسماء العلماء والمؤلفين والمترجمين الذين ساهموا بنصيب وافر في نقل الثقافة العربية إلى دائرة الفكر الإنجليزي أو الأدب الإنجليزي. ولذلك سأحاول معالجة هذا الموضوع في ثلاث مقالات فقط: هذه المقالة وموضوعها (في القرون الوسطى). والمقالة الثانية وموضوعها (في عصر النهضة). والمقالة الأخيرة وموضوعها (في القرنين الماضيين). وستكون معالجتي إجمالية عامة.
إن ما أعنيه بالأثر العربي هنا هو كل ما وصل إلى الثقافة الإنجليزية عن طريق اللغة العربية، سواء أكان ذلك من إنتاج العرب أنفسهم أم من إنتاج غيرهم من الأمم التي ترجمت فلسفتها وعلومها وآدابها إلى اللغة العربية. وأعني بالثقافة الإنجليزية ما أنتجته القريحة الإنجليزية من أدب وفلسفة وعلم وكتب حينئذ باللغة اللاتينية التي كانت لغة التأليف الآداب في إنجلترا وغيرها من ممالك أوربا في القرون الوسطى
لعلنا نذكر أن بغداد كانت مقر الخلافة العباسية، وأن خلفاء هذه الدولة قد انصرفوا بعد أن استتب لهم الحكم إلى تشجيع العلم والعلماء، فازدهرت العلوم على اختلاف أنواعها، وبدأ عصر جديد هو عصر الترجمة من اللغات الأجنبية كاليونانية والفارسية والهندية. وبلغ ذلك العصر أوجه في أيام الرشيد والمأمون. ووجد في اللغة العربية ما يسمى (بالعلوم الدخيلة) أي التي دخلت في اللغة العربية من لغات أخرى، كالطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضة. ويعزى أكثر الكتب التي ترجمت حينئذ إلى أرسطو طاليس وأفلاطون وبطليموس وأبقراط وأقليدس من علماء اليونان وفلاسفتهم. وكان أكثر المترجمين من غير العرب - كما نعلم - لأن العرب أصحاب السيادة كانوا منصرفين إذ ذاك إلى العناية بنظام الحكم والسياسة. ولأن من قاموا بالترجمة من السريان والنصارى واليهود كانوا على علم كاف بالعربية واللغات الأخرى المترجم عنها. نمت هذه العلوم الدخيلة وعكف على دراستها
وترقيتها كثير من العلماء حتى أصبحت بغداد مركزاً للثقافة العربية في الشرق
امتدت فتوح الإسلام إلى شمال أفريقيا وجزيرة صقلية وبلاد الأندلس، ووطد العرب سلطانهم هناك، وهاجر إلى تلك الممالك كثير من العلماء الذين تفقهوا في العلوم الإسلامية والدخيلة، ووجدوا من إكرام الخلفاء والأمراء لهم ما شجعهم على تنمية هذه العلوم ونشرها، وأقبل العلماء والطلبة من المسلمين واليهود والمسيحيين على دراسة الفلسفة وعلوم الطب والرياضة والفلك وغيرها في المعاهد الإسلامية والمكاتب العامة التي أسست في طليطلة وقرطبة وغرناطة وأشبيلية حتى أصبحت هذه المدن الأندلسية مراكز للثقافة العربية في الغرب كما كانت بغداد في الشرق
وإذا عرفنا أن أثر أية لغة في لغة أخرى إنما ينشأ عن الاتصال المباشر أو الغير مباشر بين متكلمي هاتين اللغتين وجب أن نبحث عن: (متى وكيف وجد الاتصال بين العرب والإنجليز في القرون الوسطى) وهنا نجد أمامنا ميدانين اتصل فيهما العرب بالأوربيين عامة ومن بينهم الإنجليز. الميدان الأول هو الميدان الشرقي في مصر وفلسطين والشام وآسيا الصغرى أيام الحروب الصليبية، والميدان الثاني هو الميدان الغربي في جزيرة صقلية وفي الأندلس. وفي كلا الميدانين كان تأثير العربية في كافة الثقافات الأوربية ومن بينها الإنجليزية. وربما كانت إنجلترا أقل الممالك تأثراً بالنفوذ العربي
بدأت الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي وتوالت ست مرات حتى أوائل القرن الثالث عشر. واشتركت في هذه الحروب الصليبية كل ممالك أوربا، كما قاد هنري الثاني ملك الإنجليز جنوده في الحرب الصليبية الثالثة ضد العرب. وكانت هذه أول مرة في التاريخ يلتقي فيها العرب والإنجليز وجهاً لوجه، ويرى الإنجليز ما كان عليه العرب من حضارة وتفوق في فن الحرب وتعبئة الجيوش وطرق الهجوم والدفاع. وكان لهذا الاتصال أثره المباشر في أن نقل الإنجليز عن العرب نظم الحرب والتحصين، ووسائل النقل، واستعمال النقود وتوزيع الضرائب وصنع الزجاج. ويرجع علماء اللغة أن بعض الكلمات قد تسرب من العربية إلى لغة الإنجليز (أعني اللاتينية) في ذلك العصر. وذلك مثل كلمة القطن، السكر، الدرقة، القائد، وغير هذه الكلمات مما لا مجال لذكره الآن. ولم يترك هذا الاتصال أثراً قوياً في الأدب الإنجليزي لأنه كان اتصالاً حربياً ولم
يكن اتصالاً علمياً
أما في الميدان الغربي فإن جزيرة صقلية كانت تحت حكم الأغالبة من العرب من أوائل القرن العاشر إلى أواخر القرن الحادي عشر. وبعد سقوط هذه الجزيرة في أيدي النرمانديين ظلت اللغة العربية لغة الكتابة والتأليف بجانب اللاتينية والإغريقية، ولقي العلماء من المسلمين واليهود كل تشجيع وعطف من الملوك المسيحيين، وبخاصة فردريك الثاني ملك صقلية الذي جمع بلاطه كثيراً من نخبة الفلاسفة والأطباء والمنجمين وعلماء الرياضة. وكذلك شجع الملك روجر الصقلي العلماء على التأليف والترجمة إلى اللغة اللاتينية، إما من العربية، وإما من الإغريقية. وكانت هناك علاقات صداقة قوية بين البلاط الإنجليزي، وبين بلاط الملك روجر الصقلي الذي عهد بمنصب ديوان الإنشاء في بلاطه إلى إنجليزي يسمى وقد مهد هذا الإنجليزي لكثير من العلماء الإنجليز الإقامة في بلاط الملك روجر والاتصال بعلماء العرب، وترجمة بعض مؤلفاتهم، ونقل بعض الثقافة العربية إلى ثقافتهم. وكذلك نجد إنجليزياً أخر تشير إليه السجلات الصقلية العربية باسم (القائد برون)، واسمه بالإنجليزية وقد شغل وظيفة القضاء في البلاط الصقلي، وعرف اللغة العربية، ثم عاد بعد ذلك إلى إنجلترا حيث اختاره الملك هنري الثاني وزيراً للمالية سنة 1158 م. وقد كان من نتيجة هذا الاتصال بين علماء الإنجليز وعلماء العرب في البلاط الصقلي أن أخذ الإنجليز عن العرب طرق البحث الفلسفية، وترجموا بعض الرسائل في الفلك والرياضة.
أما في الأندلس فإن تعاون المسلمين واليهود والمسيحيين في البحث والتأليف، وتسامح الولاة من المسلمين، وازدهار الحركة العلمية والأدبية قد فتح الطريق أمام طلاب العلم من ممالك أوربا المختلفة فوفدوا إلى المعاهد الإسلامية الأندلسية للدراسة والترجمة إلى لغاتهم. ونذكر من بين هؤلاء ادلار الباجى الإنجليزي الذي سافر كثيراً في الشام وصقلية ثم درس في طليطلة، وحين عاد إلى إنجلترا أدهشه ما وجد عليه القوم من جهل بعلوم العرب وفلسفتهم (كما يقول هو) فأدخل في الثقافة الإنجليزية والفلسفة طريقة التفكير الحر في البحث. وكذلك ترجم من العربية رسالة في الفلك اسمها (الأزياج) واستبقى كثيراً من الكلمات العربية في ترجمته، وألف كتاباً سماه (المعضلات الطبيعية) اعترف فيه بفضل
الدراسة العربية، وذكر فيه كروية الأرض، وأن المادة لا تفنى، وشرح أسباب الزلازل، وكان يعتمد في كل ما كتب على الأدلة العقلية أو التجربة.
وممن تتلمذ من الإنجليز على العرب فقد درس في الأندلس وهو أول من ترجم القرآن من العربية إلى اللاتينية، كما ترجم كثيراً من الكتب في علم الجبر والكيمياء. ولا تزال هاتان الكلمتان في الإنجليزية حتى الآن: وهناك أيضاً تلميذ أخر يسمى ألفرد الإنجليزي درس في الأندلس وترجم من العربية كتاب النباتات لارسطو طاليس.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا ميخائيل الاسكتلندي فقد زار صقلية ودرس في طليطلة ثم ترجم من العربية رسالة في علم الفلك لمؤلفها نور الدين أبي إسحاق البتروجي، ونقل فلسفة ابن رشد، وعلق على كتب ابن سينا وترجم من العربية كتاب الحيوان لأرسطو طاليس.
وكذلك عرف الإنجليز طب العرب، وكيفية استعمال الإسطرلاب، واستبقوا فيه بعض الكلمات العربية كالمغرب، والمريء، والقنطرة، كما اقتبسوا الطرق العربية في الحساب
ولما كانت الفلسفة والعلوم والآداب في القرون الوسطى قوية الارتباط بعضها ببعض تأثر الأدب الإنجليزي مباشرة بكل ما ترجم من العربية إلى اللاتينية من فلسفة أو علم أو أدب. ويذكر علماء الأدب أن تشوسر الشاعر الإنجليزي القديم اقتبس في أشعاره بعض المعاني من كتاب اسمه (أمثال الفلاسفة)، وكان قد ترجم هذا الكتاب أولاً من العربية إلى اللاتينية ثم ترجم بعد ذلك من اللاتينية إلى الإنجليزية، وهو أول كتاب إنجليزي طبع بمطبعة كاكستون. وكذلك كتب تشوسر رسالة في الإسطرلاب اعتمد فيها على كتاب (الإسطرلاب) للمؤلف العربي (ما شاء الله) وعلى كتاب للقبيسي اسمه (مقدمة في علم الفلك). وكتب أيضاً رسالة سماها (الخبز واللبن للأطفال) تجلت فيها الروح العربية.
وقد ترجمت مجموعة من القصص العربية إلى اللاتينية ومن بين هذه القصص بعض حكايات من كتاب كليلة ودمنة، وظهرت هذه القصص في الآداب الأوربية عامة كما ظهرت في الأدب الإنجليزي. وقد ضمن الشاعر الإنجليزي أشعاره كثيراً من هذه القصص والحكايات العربية
ويعزو بعض علماء الأدب انتشار الأشعار الغرامية الشعبية التي كان ينشدها الموسيقيون المتجولون في القرى الإنجليزية في القرون الوسطى إلى نفوذ عربي لمشابهتها كثيراً
للأشعار الغرامية الأندلسية، وبخاصة الزجل، ويذكرون أيضاً كتابين كان لهما الأثر في انتشار هذا النوع من الشعر الغرامي وهي كتاب (الزهرة) لابن داود وكتاب (طوق الحمام) لابن حزم وموضوعهما الحب العذري، وقد ترجما إلى اللاتينية
هذه فكرة إجمالية عن (أثر اللغة العربية في الثقافة الإنجليزية في القرون الوسطى) وسأعالج ذلك الأمر (في عصر النهضة) في العدد القادم إن شاء الله.
عبد العزيز أمين عبد المجيد
أعلام الأدب
إسخيلوس
للأستاذ دريني خشبة
ولد إسخيلوس عام 525 ق. م في قرية كان يعكف أهلها على عبادة دمتير ربة الزراعة، وديونيزوس إله الخمر، وهي قرية صغيرة متاخمة لقرية إيكاريا التي نشأ فيها الشاعر تسبيز الذي يعزون إليه نشأة الدرام
وقد ذكر لنا اسم أبيه في الأبيات التي أوصى أن تنقش على قبره حيث يقول:
هنا في سهل جيلا المثمر الخصيب
يضم هذا اللحد رفات إسخيلوس بن يوفوريون
فتى أثينا، الذي شهد له الميديون
وعرفت بأسه مرثون
ولقد برع إسخيلوس في الشعر منذ حداثته وكان يغشى حلقات الشعراء ويدرس طرائقهم ويحفظ أناشيدهم فإذا خلا إلى نفسه رددها وراح يهتف بها وقد راقته أغاني تسبيز فكان يقلدها وينظم المقامات على نسقها، ثم فرغ لنظم الدرامة الطويلة التي ثار فيها على العرف فكتب له التوفيق حتى إذا انبثق فجر القرن الخامس قبل الميلاد، وبلغ الفتى السادسة والعشرين من عمره استطاع أن يشهد الناس فنه في أكبر مسارح أثينا حيث مثلت أولى رواياته فبهرت الأثينيين وعرضت عليهم لوناً جديداً من أدب الدرام كان ثورة عنيفة على الماضي ودعامة وطيدة لمسرح المستقبل
ولما نشبت الحرب بين فارس واليونان ألقى الشاعر يراعه وامتشق سيفه وأسرع إلى مرثون الخالدة هو وأخوه فأبليا بلاءً حسناً ترك في نفس إسخيلوس أثراً عظيماً من الزهو والاعتداد لم يمحه نصف قرن عاشه بعد ذلك
ثم تلت موقعة مرتون التي استشهد فيها أخوه (490 ق. م) فترة من السلام فرغ فيها إسخيلوس إلى أدبه واستطاع خلالها أن يحرز النصر على جميع منافسيه في حلبة الشعر للمرة الأولى في المسابقة العامة عام 484 ق. م
ثم دعا داعي الوطن بعد ذلك بأربعة أعوام فترك أثينا مع جميع أهلها ليشترك في موقعة
سلاميس، وليناضل فوق صفحة البحر في تلك المجزرة المروعة التي ذابت فيها جيوش كسرى وحطمت أساطيله وفر أثناءها إلى بلاده بعد أن شهد الهزيمة بعينيه، فسلمت اليونان وسلمت أوربا إلى الأبد من التبربر
وقد اشترك بعد ذلك في حروب تراقية عام 476 كما تدل عليه جذاذات من ثلاثيته المفقودة المسماة (ليكورجوس)
وفي سنة 475 نظم مأساته (نساء إطنة) وكان إذا ذاك في سفارة سياسية إلى سيراكوزا
وقد رحل إلى سيراكوزا مرة أخرى، ونظم فيها درامته (الفرس) التي حازت الجائزة الأولى عام 472.
وفي سنة 468 ظهر منافسه العظيم سوفو كليس في ميدان المسرح فجأة ففاز على إسخيلوس بالجائزة الأولى، وكان لفوزه أثراً بليغ في نفس إسخيلوس لم يمحه أن فاز (إسخيلوس) بعد ذاك بجوائز عدة كان يسيل لها لعاب الشاعر الشاب
وقد عاش إسخيلوس عشر سنوات لا ينسى هزيمته سنة 486 حتى أن بعض المؤرخين يظن أنه هاجر إلى صقلية بسبب ذلك، ويقول بعضهم إنه كان كلما ذكر تلك الهزيمة الأدبية دمعت عيناه ونقم على الشاعر الشاب.
وفي عام 456 توفي فجأة في مهاجره ودفنت رفاته في جيلا.
هذه هي أهم الوقائع في تاريخ حياة إسخيلوس. ولا نستطيع أن نتناول أدبه بالنقد أو التحليل قبل أن نقف قليلاً عند هذه الوقائع نستخلص منها ما ينفعنا في دراسته وما يكشف لنا عن نوحي نبوغه
وليس من شك في أن نشأة إسخيلوس الأولى وبيئته كان لهما أثر بعيد في أدبه. بيد أن هذه النشأة وتلك البيئة ليسا شيئاً إذا قيسا إلى الأثر الكبير الصارم الحاسم الذي تركه في نفسه خوض غمار تلك الحروب الدامية العنيفة التي شنتها على بلاده فارس، والتي كانت حرباً بين جيش جرار كثيف يقدرون عدده بألف ألف أو يزيد، وبين أمة بأكملها قليلة العدد شديدة البأس ساهمت جميعاً، رجالا ونساء وأطفالاً، في آلام الحرب حتى لقد هجرت أثينا إلى إحدى جزائر البحر، وقام رجالها في السفائن يصارعون المنون ويغالبون الموت. ويهزءون بجبروت إجزرسيس، حتى كسروا شوكته وظهروا على أساطيله وأطعموا السمك
ووحوش الماء لحوم أبطاله
لقد تركت مرتون في نفس إسخيلوس أثراً لا يعد له إلا أثر سلاميس، وليس يعدل هذين الأثرين شيء آخر في نفس الشاعر الجندي الذي أخذ يبني مجده الأدبي على أكوام من أشلاء القتلى الذين أكلتهم هذه المجزرة الهائلة بين عدو قوي كثير العدد وبين أمة ضعيفة بعددها كثيرة بوطنيتها استطاعت ببضعة آلاف أن تقهر أكثف جند عرفه التاريخ
خرج إسخيلوس من هاتين المعركتين شخصاً أخر شديد الإيمان بقوة السماء مكبراً لسلطان الآلهة أيما إكبار، مقتنعاً باليد العليا التي تسهر على الكون وتدبر أموره، وترد الحق إلى المظلوم وتكبح جماح الظالم مهما كان ذا حول وطول وقوة. . . وقد ظهرت هذه الروح في أكثر دراماته التي نظمها بعد هذه الحرب، وهي أروع ما نظم.
أما سنة 501 فهي مفتتح القرن العظيم الباهر، القرن الخامس قبل الميلاد الذي يزهى على الزمان بما أفاء على الإنسانية من علم وأدب ومن نور وعرفان. . . وقد كان مطلعه مطلع سعد لعبقرية إسخيلوس، فقد مثلت أولى دراماته في أولى سني هذا القرن، وسنه حينذاك لم تتجاوز السادسة والعشرين.
ولعل عام 484 ق. م هو أهم الأعوام في تاريخ الأدب اليوناني جميعاً. . . وذلك أن مؤرخي هذا الأدب يجعلونه بداءة الفترة الذهبية المجيدة ليس في تاريخ الأدب اليوناني فحسب، بل في تاريخ الأدب الصرف قاطبة، وهم يبدءونها بهذا العام الذي أحرز فيه إسخيلوس أولى جوائزه الأدبية في المسابقة العامة بدرامة مفقودة قلب بها الأوضاع القديمة رأساً على عقب، ووضع الدعامة القوية القويمة للمسرح الحديث، حتى ليصح أن يطلق على هذه السنة: السنة الأولى تاريخ الأدب المسرحي.
وهم يجعلون هذه الفترة بين عامي 484 و431 حينما أحرز يوريبيدز أخرى جوائزه بدرامته الخالدة ميديا. . . وعلى ذلك تمتد الفترة إلى ثلاث وخمسين سنة مثل فيها على مسرحي أثينا أكثر من ألف درامة منها تسعون لأسخيلوس ومائة وثلاث وعشرون لسوفوكليس وثمانون ليوريبيدز وأكثر من مائتين لشاعر عظيم لم يحفظ لنا الأثر اسمه ومئات أخرى لشعراء نعرف بعضهم ونجهل بعضهم الآخر. . . وليس الكم فقط هو العجيب في هذا الإنتاج الباهر، بل الكيف أيضاً هو الذي يسحر ويبعث على الدهش، فهذه
الدرامات السبع الباقية فقط من إسخيلوس، والسبع الباقية من سوفوكليس، والثماني عشرة الباقية من يوريبيدز هي ثروة فائقة من تراث هذه الفترة، والقارئ يقف حيالها ذاهلاً لعمق التفكير وجمال الأداء؛ وقوة السبك، وسمو الغاية والخلو من الزيف والبهرج. . . وهي مع ذلك ليست أجمل ما أبقت عليه يد العفاء من الثروة الضائعة، إذ أن أكثر الدرامات التي فاز بها الشعراء بالجوائز الأولى ما تزال مفقودة، والأمل معقود على نجاح الكشف في أسكندريتتنا للحصول على الغرر والدرر من نتاج الذهن اليوناني العظيم.
وقد لا نجد في تاريخ الأدب المسرحي فترة تشبه هذه الفترة اليونانية إلا فترة الأربعين الذهبية في تاريخ الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات، فقد كتبت ومثلت في هذه الفترة جميع درامات شكسبير ومارلاو وبن جونسون وبومون وفلتشر وماسنجر وويستر وهايود. . . الخ. . . غير أن الشعراء الإنجليز في هذه الفترة كانوا على كل حال تلاميذ هذا السلف الصالح من شعراء أثينا، وكثيراً ما سطوا على آثارهم واستباحوا أخيلتهم واستعملوا طرائقهم التي أوفوا بها على الغاية.
وكما تتشابه الفترتان في الإنتاج الأدبي للمسرح فكذلك تتشابهان في الباعث على النهضة الأدبية في كل منهما. فلقد كان الباعث في الفترة اليونانية هو هذه الحرب الضروس التي شنتها فارس على اليونان والتي كانت مرحلتها الأولى في مراثون، ومرحلتها الثانية في سلاميس حيث حطم أسطول إجزرسيس، مما أيقظ الروح القومي في هيلاس وأجج نيران الوطنية في قلوب الأثينيين خاصة، فجاءت النهضة الأدبية المسرحية وليدة هذا الروح.
أما الفترة الإنجليزية فقد جاءت عقب تحطيم الأرمادا الأسباني اللجب الذي أعده فيليب الثاني لغزو إنجلترا. . . وهذا التشابه في الباعث في الفترتين يدل على ما بين الوطنية والأدب من وشائج قوية يزيدها النصر قوة ويمهد لها بمزيج عجيب من الحماسة والكبرياء يقابله مزيج آخر من المآسي والآلام.
وبعد، فماذا صنع إسخيلوس من هذا كله؟ وكيف ثار ثورته على الماضي العتيق وشاد هذا البنيان الشامخ؟ وما هي هذه المثل التي كان ينشدها ويعمل على إقامتها لتكون نبراساً للذهن اليوناني؟ وإلى أي حد نجح في جهاده الشاق الجميل الطويل؟ ومن يا ترى كان عونه في هذا الجهاد المشكور المبرور؟ وكيف يستطيع كاتب أن يستعرض كل هذا
التاريخ، وأن يلخص درامات إسخيلوس السبع أسرع تلخيص وأقصره في مثل هذه الفصول المقتضبة الضيقة؟
روى المؤرخون أن أسخيلوس كان لا يأنف أن يرى النقص في إحدى دراماته فيعترف به قبل أن يأخذه عليه أحد من النقاد ثم يعمل على إصلاحه في الدرامة التي تليها، وقد يحدث أنه يفوز بالجائزة الأولى في إحدى المسابقات بدرامة كان يشك أكبر الشك في نجاحها، فإذا تناول الجائزة لم يأبه أن يلفت الناس حوله إلى نواحي النقص في تلك الدرامة التي حازت إعجابهم واستولت على شعورهم. . . وفي هذا دليل على أن إسخيلوس كان ينشد المثل الأعلى لفن الدرامة، وكان لذلك يدأب على عمل التجارب ليأخذ بالأصلح وليتوقى ما لا غناء فيه، وكان لا يأنف من الانتفاع بجهود الآخرين وتجاربهم، وكان يعنى عناية خاصة (بتكنيك) المسرح فكان بذلك أول المخرجين الأكفاء وأعظمهم. . . وهو أول من خفض عدد أفراد الخورس وزاد عدد الممثلين، وجعل الغناء والإنشاد في المرتبة الثانية بعد الكلام والحوار. وهو أول من أبتكر الثلاثية، أي المأساة الكبيرة التي تتكون من ثلاث مآس تربطها عقدة واحدة ويجمع بينها موضوع واحد. وقد كان يعتبر هوميروس معينه الأول، فكان يقول أن مآسيه فتات من مائدة هومر، لكنه مع ذاك أبتكر الدرامة السياسية وانتزعها من الأحداث الجلائل التي كانت تحدق بوطنه في ذاك العصر. . . وكان يعنى عناية فائقة (بالحبكة) الدرامية في مآسيه ويجري من خلالها تجاريب الحياة التي تمرس بها فكانت دراماته تشبه التماثيل الفنية الرائعة التي يعنى فيها الفنان بإبراز معنى خاص يجتهد في أن يبرز لأول وهلة للرائي فيملك عليه لبه ويستحوذ على إعجابه.
وكان السراة من أهل أثينا وأغنياؤها يتسابقون إلى الإنفاق على درامات إسخيلوس، وقد ثبت أن بركليس نفسه، وهو سيد هذا العصر قد كان ال: (خوريجس لأكثر من درامة من درامات إسخيلوس.
وأبرز ما يلفت الإنسان من دراماته هو هذا الروح السفسطائي الذي يشيع فيها جميعاً، حتى لقد دعاه المؤرخون أول مبشر بمذهب السفسطائيين قبل أن يوجد السفسطائيون، فهو الذي لم يبال أن يتناول في دراماته ذوات الآلهة بالنقد والتجريح، ومهد بذلك لموجة الشك التي طغت على اليونان بعد ذلك. . . حقيقة لقد سبقه كثير من الفلاسفة إلى ذلك، لكن أحداً منهم
لم يجرؤ أن يصنع كما صنع هو حين قدم للمسرح درامته الخالدة العظيمة (برومثيوث) والتي كانت ثورة على سيد الأولمب فتحت الطريق على مصراعيه للملحد الأكبر وأعظم أدباء اليونانيين (يوريبيدز).
وكان إسخيلوس يؤمن إيماناً تاماً بالقضاء والقدر، وأنه لا حيلة للإنسان في دفع ما يحل به من أذى ولا سيما إذا تمت النكبة. وكان يعتقد أن كل المصائب هي نتائج لمقدمات تنتهي إليها حتما، وأن كل الأمور العظام هي كذلك نتائج لأمور أقل منها شأناً، ومقدمات لأمور أخرى أجل منها وأعظم. . . وهذه هي وحدة الكون. . .
وكان إسخيلوس يعلى من شأن الديمقراطية ويجعلها الهواء الذي ينبغي أن تستنشقه الإنسانية لتنمو وتترعرع ويطيب غراسها وستمر بنا الأمثال الكثيرة التي يكبر بها شأن الحرية حين نعرض لدراماته. ولا غرو فقد كان جندياً وكان أديباً، وكان يحض قومه على التفكير الحر بل التفكير المطلق. فهو من غير شك أول من مهد بأدبه لسيادة أثينا، وسيطرتها على جميع هيلاس بعد أن كانت ولاية أيونيوية لا شأن لها. وبالتالي فهو صاحب الفضل على الأدب وعلى المدنية مثل انبثاقهما في القرن الخامس قبل الميلاد.
دريني خشبة
في ذكرى يوم الاستقلال
إلى بلدي الحبيب
للأستاذ علي الطنطاوي
(في مثل هذا اليوم (8 مارس) ولد الاستقلال السوري. الذي
عاش عامين ثم مات في (ميسلون))
متى يا زمان الشؤم يعود بلدي كما برأه الله دار السلام ومعرض الجمال، ومثابة المجد والغنى والجلال؟ متى يرجع بَرَدى يصفق بالرحيق السلسل؟ متى تثوب الأطيار المروعة إلى أعشاشها التي هجرتها، ورغبت عنها حين سمعت المدافع ترميها بشواظها الحامي؟ متى تؤوب تلك الحمائم فتشدو على أفنان الغوطة تنشد أغنية السلام؟
متى؟ متى يا زمان الشؤم؟
أتظل الأشجار عارية في جنات الغوطة. لا تعلو هاماتها تيجان الزهر، ولا تتدلى أغصانها بعناقيد الثمر، لأن الزراع قد أغفلوها فلم يتعهدوها بالسقيا، ولم يجروا إليها بالماء؟ أتبقى هذه الحقول والجنائن جرداء قاحلة لأن الفلاحين انصرفوا عنها مستجيبين لنداء الوطن الجريح. الممزق الأوصال، مهطعين إلى داعي الجهاد حين أذن بهم: حي على خير العمل؟
متى؟ متى يا زمان الشؤم يستريح الشام (بلدي الحبيب)؟
ما رأيتك استرحت يا (بلدي الحبيب) ساعة واحدة، فهل كتب عليك أن تظل أبداً في تعب وعناء؟ إني لم أكد أتبين نور الحياة وأرى وجه الدنيا، حتى رأيت المدرس يدخل علينا (معشر الأطفال) مربد الوجه فزعاً مذعوراً. فسألنا: ماله. . . فقالوا لنا كلاماً لم نفهم له معنى، قالوا: إنها الحرب! ولكن إي حرب. . . إن المدرسة مفتوحة، والأسواق قائمة، والمدينة هادئة مطمئنة فأين هي هذه الحرب؟
قالوا: هي هناك في مكان بعيد. فضحكنا وقلنا: هل هناك أبعد من (الصالحية) أو (المزة) إننا لا نبلغها حتى نمشي ساعة على الأقدام، وليس فيها حرب، فأين هي هذه الحرب؟
وهزئنا ولبثنا نلعب ولكن الأيام أرتنا وا أسفاه هذه الحرب: رأيناها في أسواق دمشق، عندما شاهدنا القتال يدور فيها كل صباح من أجل رغيف من الخبز، والفرن مغلق ما فيه
إلا كوة واحدة مفتوحة، يقوم عليها الخباز والجندي إلى جانبه، يدعو واحداً بعد واحد من هؤلاء الناس الذي سدوا الشارع بكثرتهم لا يطلبون صدقة ولا إحساناً، وإنما يطلبون الخبز بالذهب فلا يجدونه، وما شحت السماء بالقطر وما أجدبت الأرض، ولكن (حلفاءنا. . .) الألمان. استأثروا بأطايب القمح وتركوا لنا شر الحنطة وأخبث الشعير ثم يا ليت أنا وجدناه.
نعم، لقد رأينا (نحن الأطفال) الحرب في شوارع دمشق حين أبصرنا الرجال يأكلون قشور البطيخ، وينبشون المزابل من الجوع، ثم رأيناها أوضح وأظهر، حين لم نعد نبصر في الشام رجالاً لأن الرجال أكلتهم الحرب. . . ثم رأيناها أشد ظهوراً بطلعتها الكالحة القبيحة حين تعودنا مرأى جثث النساء والأطفال الذين ماتوا من الجوع، نراها كل صباح ومساء، في غدونا إلى المدرسة ورواحنا منها. . .
في وسط هذه المذبحة المرعبة، وخلال رائحة البارود، وعزيف المدافع، وإعوال اليتامى والثاكلات. . . نشأت وعرفت الحياة فرأيت (البلد الحبيب) نصفه مقبرة للأموات، ونصفه مستشفى لمن ينتظر الموت.
وفي ذات صباح أفقنا على قصف يزلزل البلد، ويهز الدنيا، فسألنا: ما الخبر؟ قالوا: البشارة. هذا مستودع الذخائر يتفجر ويحترق، لقد أباده الألمان قبل هزيمتهم، لقد انتهت الحرب، وانتهى حكم الظالمين من أحفاد جنكيز خان!. . . وبعد ساعة واحدة يصل الشريف.
قلنا: من الشريف؟ قالوا: فيصل بن الحسين، هيا هبوا لاستقباله، فنهضنا ولكنا لم نبادر إلى استقباله، وإنما بادرنا إلى الجيش المنهزم نذبحه! فلما فرغنا منه مسحنا أيدينا من دمه وعدنا نستقبل الشريف. . .
نسيت دمشق جوعها وتعبها، ونسيت نصف رجالها الذين ماتوا على شاطئ غاليبولي وعلى ضفاف الترعة في سبيل مصالح الألمان، ونسيت أحزانها على من عانقتهم حبال المشانق في ساحة المرجة في دمشق والبرج في بيروت، وتكلفت دمشق الابتسام بل لقد ابتسمت حقيقة لما رأت وجه فيصل، وذهبت تبتغي أن تنثر على موكبه من أزهار الغوطة جنة الدنيا، فلم تجد في الغوطة زهرة واحدة، لقد صيرتها الحرب قاعاً صفصفاً، فنثرت على
موكبه أزهار القلوب: دموع الفرح، وهتاف المحبة وتصفيق الإعجاب وحيت لأول مرة العلم العربي الذي يرفرف اليوم فوق بغداد.
وأحبت دمشق فيصلاً أصدق الحب، كما أحبها فيصل، ووثبت ترقص من الطرب وتغني حتى كأن كل يوم من حكمه عيد وفي كل بقعة من الشام عرس، وفاض الخير وابتسم الزمان، وطغت الحماسة على الأفئدة، وعم البشر الوجوه، وولدت دمشق الأموية عاصمة الأرض مرة ثانية. . . وظننت أنك استرحت يا بلدي الحبيب!
ولكنا لم نلبث إلى قليلاً حتى سمعنا صوت النذير. . . ماذا؟ ماذا هناك؟ فقال: انهضوا دافعوا عن استقلالكم الوليد، لقد جاءت القوة العاتية تخنقه في مهده. . . فجن جنون دمشق، وعصفت النخوة في رؤوس بنيها، فلم يسمعوا قول فيصل الحكيم ولا أقوال العقلاء من صحابته، ولم تمض العشية وينبثق الفجر حتى كانت دمشق كلها في بقعة الشرف في (ميسلون) ولم يؤذن الظهر حتى رجعت دمشق من ميسلون وقد تركت فيها استقلالها الوليد وقائدها الشاب صريعين مجندلين على وجه الثرى، هذا قتيل شهيد، وذاك جريح مريض، وفقدت دمشق كل شيء، ولكنها لم تفقد الشرف، كما قال من قبل فرانسوا الأول ملك الأقوياء. . . الذين دخلوا دمشق دخول المنتصرين الفاتحين. . .
وعاد (بلدي الحبيب) إلى حياة الرعب والأسى والنضال. . .
ولكنه لم يخف ولم يجبن. لقد خسر في (ميسلون) ولكنه حفظ الدرس الذي ألقته عليه الحياة في ذلك اليوم، واستراحت دمشق حيناً ثم قفزت قفزة اللبؤة الغضبى، فإذا هي في العرين (في الغوطة الخضراء) وإذا الأقوياء بجيشهم كله وعتادهم يقفون أمام الثائرين، وهم بضع مئات يقودهم رجل أمي من دمشق كان خفيراً من خفراء الأحياء، فلا يستطيع الأقوياء الظفر بهم، فيعودون حنقين، فيسلطون نيران مدافعهم على المدينة الآمنة المطمئنة، فلا يروعها إلا جهنم قد فتحت أبوابها من فوقها، فيخرج أهلها من منازلهم تاركين كل ما فيها للنار، ويمسي المساء على دمشق وثلثها خرائب كخرائب بابل وقد كانت في الصباح أجمل وأبهى وأغنى قصور دمشق. . .
وتعيش دمشق سنتين وسط الرعب والنار والحديد، ثم يحل السلام وتخرج دمشق من المعركة وقد نجحت في الامتحان الثانوي في الغوطة، كما نجحت من قبل في الامتحان
الابتدائي في ميسلون. .
وأحسب أنك استرحت يا (بلدي الحبيب)!
أحسب أنك استرحت، فإذا النار تسري في أحشائك، وإذا المعارك في أسواق دمشق. . . حول صناديق الانتخاب، الذي أراده الأقوياء صورياً وشكلياً، وأباه الشعب إلا انتخاباً حقيقياً، فلما لم يكن ما يريد الشعب حطم الصناديق، وهدم قاعات الانتخاب وانطلق ثائراً مرعداً مبرقاً، يهزأ بالحديد ويفتح صدره للبارود. . . وظفر الشعب، وكيف لا يظفر وقد امتحن مرتين. . .
فقلنا: قد استراح ولكنه لم يسترح وإنما دعي إلى الامتحان العالي، إلى النضال الصامت المرعب، فثبت وناضل، ولبثت دمشق خمسين يوماً كاملة، وهي مضربة ليس فيها حانوت خباز أو بقال، وليس فيها قهوة مفتوحة، ووقعت المعارك في الأسواق وعلى أبواب المسجد الأموي، فأقبل النساء بصدورهن على الرصاص، وهجم الأطفال على الدبابات، وعزمت دمشق عزماً ثابتاً على الموت أو الظفر، وعرف العدو أنها لن تُفل عزيمتها أبداً، ولن تلين قناتها فلانت قناته ودعاها إلى الصلح أو التحالف. . .
وهتفنا هذه المرة من أعماق القلوب: لقد استراحت (بلادنا العزيزة). وعادت أيام فيصل مرة ثانية، ودقت طبول البشائر وأديرت كؤوس الفرح، ورجعت الأعراس. . .
ولكن الأعراس لم تتم. . . لم تتم يا زمان الشؤم. . .!
هذا صوت النذير العريان، وهذه ألسن النيران، وهذا صوت البركان، فماذا يحمل إلينا الغد يا زمان، أي مصيبة جديدة يأتينا بها؟ أكتب علينا ألا نستريح ولا نهدأ أبداً؟
لا بأس يا زمن الشؤم، إننا نرحب بالمصائب فسقها إلينا، إننا بنو المجد والحرية والحياة، فلا أمتعنا الله بالحياة إن لم ننتزعها من بين فكي الموت انتزاعاً. . .
وستحيا أنت يا (بلدي الحبيب) ماجداً حراً ولو متنا نحن ماجدين أحرارا!
(بغداد)
علي الطنطاوي
باقة من الفلسفة الإسلامية
لماذا يجب ألا نخشى الموت؟
(مهداة إلى معالي الأستاذ الجليل وزير الأوقاف)
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ما الموات إلا تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت
تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى)
(عن الفيلسوف مسكويه)
كثيراً ما ادعى المتعصبون إلى للفكر اليوناني أن الشرقيين لم يحذقوا التدليل النظري المحكم كما حذقه اليونان وأن الفلسفة الإسلامية لا تكاد تخرج في مجموعها عن آراء أفلاطون وأرسطو بحيث أن كل ما هناك من فرق بينهما لا يستطيع أن يشهد للإسلاميين بالخلق المجيد والإبداع الطريف! ومهما تكن أسباب هذا الادعاء من جهل وتعصب، فأظن أنه ليس أنجح في دحضه من نشر آيات الفلسفة الإسلامية والتعليق على ما فيها من أوجه الطرافة والإبداع.
لذلك أقدم للقراء اليوم باقة من باقات الفيلسوف (مسكويه) الذي حدثتهم عنه في العام الماضي. وأزعم أن هذه الباقة من أقوى وأجمل وأدق آيات الفلسفة الإسلامية تدليلاً وإبداعاً؛ وأنها لا تقل في موضوعها عن كتابات الفلاسفة اليونانيين شمولاً واتساقاً وجمالاً وتحليلاً!
وموضوع هذه الباقة هو: (دفع الغم من الموت!) أو لماذا يجب ألا نخشى الموت. وأحسب أنك تقدر تماماً خطورة هذا الموضوع! بل أحسب أنك لا تدري في الحياة ما هو جدير حقاً بالخوف منه، والرعب غير الموت: ذلك البلاء الداهم الذي يلبسنا ثوب الحداد ويمزق منا الصدور ويقطع نياط القلوب! ذلك الذي يصبغ الكثير من أيامنا بالسواد ويطلق أصوات الأمهات والزوجات والأطفال بالصياح والعويل والشكوى المريرة والأنين المبحوح! أجل أحسب أنك تقدر ذلك كله! وتعرف أن اطمئنان القلب للعقائد الدينية يحتاج في الكثير من
الأحيان إلى برهان العقل كيما يزداد ثباتاً ورسوخاً؛ ولذلك كان من أهم الأبواب في الفلسفة الإسلامية باب التدليل على صحة ما في الدين من أقوال وقضايا ووعود؛ وكان موضوع (الموت) من أهم القضايا التي تناولها ذلك الباب.
ويعرض مسكويه لهذه المسألة في المقالة السابعة من كتابه الخالد (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق). وهي مقالة (رد الصحة على النفس ومعالجة أمراضها) وكان قد وضع في المقالات السابقة دستوره الخلقي الإيجابي الذي أثبت فيه روحانية النفس البشرية وخلودها، وحدد الفضائل وأضدادها، وبين السعادة ودرجاتها وكيفية الحصول عليها ووسائل حفظ الصحة على النفس السليمة: فرأى أن يختم الموضوع بمعالجة النفس المريضة ودفع أهم ما تتعرض له في حياتها من مخاوف وأحزان.
لذلك نراه يقول بعد فراغه من معالجة (الخوف) وأسبابه:
(فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق، ولما كان أعظم ما يلحق الإنسان منه هو خوف الموت، وكان هذا الخوف عاماً وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف، وجب أن نبدأ بالكلام فيه فنقول:
(إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن يدري ما الموت على الحقيقة، أولاً يعرف إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً وليس هو بموجود فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، أو لأنه يظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبه تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والقنيات؛ وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.
(أما من جهل الموت ولم يدر ما هو على الحقيقة فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدناً كما يترك الصانع استعمال آلاته وأن النفس جوهر غير جسماني وليست عرضاً، وأنها غير قابلة للفساد،. . . فإذا فارق - (هذا الجوهر) - البدن كما قلنا، وعلى الشريطة التي شرطنا، بقي البقاء الذي يخصه، نقى من كدر الطبيعة، وسعد السعادة التامة، ولا سبيل إلى فنائه وعدمه، فإن
الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر، ولا تبطل ذاته، وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا ضد له. وكل شيء يفسد فإنما فساده من ضده. . . وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي هو أحسن من ذلك الجوهر الكريم، واستقريت حاله، وجدته غير فان ولا متلاش من حيث هو جوهر، وإنما يستحيل بعضه إلى بعض،. . . هذا في الجوهر الجسماني القابل للاستحالة والتغيير، فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الاستحالة ولا التغير في ذاته. . . فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي؟؟.
(وأما من يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه، وجهل بقاء النفس، وكيفية المعاد، فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه، فالجهل إذا هو المخوف، إذ هو سبب الخوف، وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به. . . فاستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية. . . واقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش. . . (. . . على أن من خاف الموت الطبيعي للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه، ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى، ومن علم أن كل شيء هو مركب من حده، وحده مركب من جنسه وفصوله، وأن جنس الإنسان هو الحي، وفصلاه الناطق والمائت، علم أنه سينحل إلى جنسه وفصوله لأن كل مركب لا محالة منحل إلى ما تركب منه، فمن أجهل ممن يخاف تمام ذاته، ومن أسوأ حالاً ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه؟. وذلك أن الناقص إذا خاف أن يتم فقد دل من نفسه على غاية الجهل، فإذا الواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان، ويأنس بالتمام، ويطلب كل ما يتممه ويكمله، ويشرفه، ويعلي منزلته، ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر، لا من الوجه الذي يشد وثاقه ويزيده تركيباً وتعقيداً. . .
(وأما من ظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه، فعلاجه أن نبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحي والحي هو القابل لأثر النفس، وأما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. . .
وأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف الموت بل يخاف العقاب، والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن العاثر. . . فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت، ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب. . .
وأما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونسبه، ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا وشهواتها، فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا يجدي الحزن إليه بطائل، وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا الباب إنما نذكر علاج الخوف، وقد أتينا منه على ما فيه مقنع وكفاية، إلا أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول:
(إن الإنسان من جملة الأمور الكائنة، وقد تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة، فمن أحب ألا يفسد فقد أحب ألا يكون، ومن أحب ألا يكون فقد أحب فساد ذاته، فكأنه يحب أن يفسد، ويحب ألا يفسد، ويحب أن يكون، ويحب ألا يكون، وهذا محال لا يخطر ببال عاقل، وأيضاً فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقى من تقدمنا، ولو بقى من تقدمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. . . قياما فكيف قعودا أو متصرفين؟. . .
(فقد ظهر ظهورا حسيا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته. . . وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق وليس بجسم. . . وإنما (يستفيد) بالحواس والأجسام كمالا فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه).
وبعد فهذا تدليل مسكويه على وجود عدم الخوف من الموت بناه في مجموعه على روحانية النفس وأقامه على المنطق المستقيم والذوق السليم، فهلا ترى معي أنه أبدع في الكثير من حججه إبداعاً جديراً بالتقدير؟ الحق أننا ندعو ملحين إلى قراءة كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وإلى المقارنة بينه وبين كتب أرسطو وأفلاطون في الأخلاق لأنا نعتقد أنه يفوقهم في الكثير من فصوله قوة ومنطقاً واتساقاً وانسجاماً. وأنه يقترب في بعض أفكاره من الآراء الفرنسية التي ظهرت أخيراً وعالجت نواحي علم الأخلاق.
محمد حسن ظاظا
مصرع خُبَيْب
للأستاذ ناجي الطنطاوي
سار الرجال صامتين، يخبون بأقدامهم على رمال الصحراء الملتهبة، لا يثنيهم عن غايتهم شيء، ولا يشغلهم عن مرمامهم أمر، وكان عددهم عشرة يرأسهم فتى غض الإهاب، ذو عزم ومنة، هو عاصم أبن ثابت، أرسلهم النبي صلى الله عيه وسلم عيناً على الأعداء في بعث الرجيع، يستطلعون أخبار العدو ويتعرفون إلى عدده وعدته. . . كانوا يسيرون مطمئنين آمنين لا يداخل نفوسهم حذر ولا ريب، وماذا يحذرون وهم في هذه الصحراء المترامية الأطراف، نفر قليل لا يتميزون عن سواهم من العرب وليست تبدو عليهم أية شارة تبعث الشك في نفوس من يراهم؛ كانت نفوسهم تفيض ثقة بالله وكانت قلوبهم عامرة بالإيمان الثابت الذي لا تزعزعه العواصف ولا توهنه النكبات، وكانوا قد وطدوا العزم على القيام بما عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما لاقوا في طريقهم من المصاعب والأخطار، لا يثنيهم عنه إلا الموت.
ولما مروا في طريقهم بمكان يقال له الهداة جاء رجل من قريش إلى بني لحيان وأخبرهم أنه رأى نفراً من المسلمين يجتازون بهم ولا يدري أين يريدون، فلم يكد القوم يسمعون كلامه حتى داخلهم الشك في أمر هؤلاء، وتبادلوا النظرات، وصمتوا يفكرون، ثم ثاروا إلى نبالهم فاحتملوها وساروا يقتفون آثار المسلمين ويجدون في طلبهم. وكانوا مائة رجل نصف رماة.
أحس أصحاب عاصم بالخطر المداهم الذي تهددهم، ورأوا أنهم قد أخذوا على غرة، فاضطربوا ووجموا وعراهم الذهول، ولكن عاصماً صاح بهم قائلاً:
- لا تقفوا هكذا، أسرعوا إلى هذا الفدفد الذي أمامكم نمتنع به قبل أن نصبح فريسة في أيدي الأعداء. . .
فأسرعوا إليه كما أمرهم، وتحصنوا فيه، ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم. . .
وبأسرع من لمح البصر، كان الرماة ومن معهم محيطين بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم ينظرون إليهم نظر الذئب إلى فريسته التي يخاف أن تفر من بين يديه، ووطد المسلمون العزم على استقبال الموت بثغور باسمة وقلوب مطمئنة وهم يتحرقون شوقاً إلى رؤية
الجنة وما أعد الله لهم فيها من نعيم مقيم وسعادة خالدة.
ـ انزلوا وأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحداً. . .
سمع المسلمون هذا البلاغ، فوقفوا واجمين للمرة الثانية، وفكروا في هذا الذي قاله المشركون، أهو قول صدق وشرف، أم هو مَيْن وخديعة؟ ومتى كان المشركون يصدقون في أقوالهم ويوفون بعهودهم؟ وهل يجدر بالمسلم أن يركن إلى مثل هذا الوعد؟.
أسئلة متوالية، جالت في خواطر المسلمين في تلك اللحظة الرهيبة الحاسمة، ولبثت تطلب جواباً، وفكروا قليلاً ثم اتجهوا بأبصارهم إلى رئيسهم ليسمعوا جوابه، وليعرفوا موقفه، فما لبث أن خاطبهم بقوله:
- أما أنا، والله لا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك وانتظر المشركون قليلاً، ليعلموا أثر كلامهم في نفوس المسلمين وليسمعوا جوابهم، ولم يطل بهم الانتظار، إذا وجهوا نبالهم إلى صدور المسلمين وأطلقوها فأصابت عاصماً وسبعة من أصحابه سقطوا شهداء في سبيل الله، وطارت أرواحهم الطاهرة لترفرف في سماء الخلود، وتحظى بنعيم الله الأبدي، وبقي منهم ثلاثة لم يكتب لهم أن ينالوا ما نال إخوانهم من شرف الشهادة، فأرادوا أن يضحوا بأنفسهم في سبيل تجربة أحبوا أن يقوموا بها، وفي سبيل درس رغبوا أن يستفيد منه المسلمون بعدهم؟ ترى هل يفي المشركون بتعهدهم ويصدقون وعدهم؟ ما دمنا على أبواب الآخرة فلنقم بهذه التجربة، ونزلوا فسلموا أنفسهم على العهد والميثاق، ولم يكد المشركون يستمكنون منهم ويعلمون أنهم صاروا في قبضتهم حتى أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فصاح أحد المسلمين:
- هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي أسوة بأصحابي الذين قتلوا.
وأبى أن يسير معهم فقتلوه، وساقوا الاثنين الباقيين، وكان أحدهما يدعى خبيب بن عدي، صمم على أن يتم التجربة التي بدأ بها مهما كلفه ذلك من المتاعب ليرى نتيجتها، وليختم الدرس الذي أحب أن يستفيد منه المسلمون.
- من هذا الذي أراه عندك يا ماوية؟
- هذا أسير لدي. ألا ترين القيد في رجليه؟
- ما أسمه؟
- إنه يدعى خبيب بن عدي الأنصاري.
- وماذا جاء به إلى دارك؟
- أغار قومي على نفر من المسلمين فقتلوهم وأسروه وابتاعه بنو الحارث بن عامر، إذا يقال إنه هو الذي قتل الحارث يوم بدر، وأبقوه عندي حتى تنقضي الأشهر الحرم ليقتلوه.
- وكيف رأيت سيرته ومعاملته؟
- أشهد أنه لمن أفضل الناس وأشرفهم ما عهدت فيه الكذب ولا الفحش في القول، وما رأيت منه إلا اللطف والدعة والمعاملة الحسنة، ما دخلت عليه في ساعة من ليل أو نهار إلا رأيته يقوم ويقعد ويخر ساجداً، فسألته عن ذلك فأجابني: أنه يعبد الله ويصلي له، وهو يرتل كل ليلة كلاماً جميلاً يسميه القرآن بصوت عذب فتنني وفتن كل النساء اللائى سمعنه وإنهن ليجتمعن عندي في كثير من الأحيان فيسمعن صوته فيبكين وترق له قلوبهن، وإني لأقول له: هل لك من حاجة؟ فيجيبني قائلاً: لا، إلا أن تسقيني الماء العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي.
- أهو كثير الجزع من الموت يا ماوية؟
- كثير الجزع؟ إني لم أره ذكر الموت إلا ابتسم وطرب، ولقد عجبت من حاله هذه فسألته عنها فقال: أو لا يسر ويطفر طرباً وسروراً من ينتقل من دار شقاء إلى دار نعيم وهناء؟ إنني إذا مت انتقلت إلى جنة عرضها السموات والأرض فلم لا أبتسم وأسر.
فحدقت المرأة في وجه مضيفتها وقالت متعجبة:
- عجيب أمر هذا الرجل، إنني لا أعرف رجلاً آخر بهذه الشمائل والصفات إلا أن يكون من أصحاب محمد.
فاقتربت ماوية منها وسارتها قائلة:
- إنني أقسم لك أنني رأيته أمس بعيني هاتين يأكل قطفاً من عنب وهو موثوق في الحديد ولا يدخل عليه أحد غيري وما أراك مصدقتي فيما أقول.
فضحكت المرأة وقالت:
كيف تريدين مني أن أصدقك يا ماوية وليس هذا أوان العنب وما في مكة كلها من ثمره شيء؟
- هذا ما أعجب له، وأقسم أنني غير واهمة ولا متخيلة، وما أدري تفسير ذلك.
ونهضت ماوية فحملت ما عندها من طعام، ودخلت به على السجين، ووضعته بين يديه، وانتظرت حتى أتم صلاته، فالتفت إليها وابتسم، وتناول الطعام من يدها دون أن يفوه بكلمة.
ولم يرق لماوية صمته فقالت له:
- هل لك من حاجة؟
فقال: لا، إلا أن تسقيني الماء العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبرني إذا أرادوا قتلي.
ولما علمت أن جوابه لن يتبدل، طمأنته وتركته.
- يا للهول! ماذا ترى عيناي؟ أهذا جزاء إكرامي لك وثقتي بك؟
- خفضي عليك يا ماوية، إنني لا أزال عند حسن ظنك بي.
- أتقول هذا، وابني في حضنك والموسى في يدك؟ ليتني لم أعرك هذا الموسى.
فابتسم الأسير وأجابها قائلاً:
- لا تغضبي هكذا يا ماوية، إنني لم أطلب منك إعارتي هذا الموسى لأقتل به ابنك، معاذ الله أن أفكر في هذا العمل الشائن، إن ديني يمنعني من ذلك يا ماوية، وما كنت لأفعل ذلك ما حييت؛ ولكن ابنك حبا حتى وصل إلى، وجلس على ركبتي، وكان الموسى في يدي، فلاطفته وداعبته، ولم يخطر لي أن أمسه بأذى، ولعلك ذكرت واقعة الأمس فجزعت. . .
- أجل يا خبيب، ذكرت مزاحك بالأمس عندما طلبت مني أن أعيرك الموسى، وقلت لي عندما صار في قبضة يدك: قد أمكن الله منك. . . أتدري أنك أخفتني بهذا المزاح؟
- إنك لم تعرفيني بعد، ولا أراك تعرفيني إلا يوم تسلمين، فتنجلي لك إذا ذاك حقيقة المسلم. والآن دعيني وشأني، إنني أريد أن أستعد للموت، ألم تقولي لي إنهم أزمعوا قتلي اليوم؟
- بلى.
ولم تمضي ساعة حتى أقبل القوم يهرولون، حاملين حرابهم ونبالهم، وهم مستبشرون فرحون، ولما دخلوا على خبيب فكوا القيد من رجليه وقالوا له:
- هلم يا خبيب، استعد للموت، إنه ليزعجنا أن تبقى حياً إلى اليوم، ولولا الأشهر الحرم لقتلناك يوم أسرك.
فرفع خبيب رأسه، ونظر إليهم طويلاً، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، ثم أطرق ولم يجب.
ولما خرجوا به إلى ساحة الإعدام وأجمعوا على قتله التفت إليهم قائلاً:
- هل تأذنون لي أن أركع ركعتين قبل أن أموت؟
فنظر بعضهم إلى بعض في دهشة وعجب وقالوا: أتصلي وأنت على هذه الحال؟ ألا ترى الخشبة التي سنصلبك عليها؟ ألا ترى رماحنا ونبالنا مصلتة عليك؟ ألا تبكي وتطلب الصفح والعفو؟ افعل ما شئت.
فقام خبيب بين يدي الله، متوجهاً بقلبه وجوارحه إليه وصلى صلاة كلها اطمئنان وكلها خشوع، لم يضطرب قلبه، ولم يتلجلج لسانه، ولم يتبدل لون وجهه، وكان في صلاته هادئاً ساكناً آمناً ولما انتهى التفت إليهم وقال بصوت هادئ عذب:
- والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا
…
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم
…
وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو كربتي بعد غربتي
…
وما جمع الأحزاب لي حول مصرعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه
…
وقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت
…
ولكن حذاري جحم نار ملفع
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزعّ
فلست بمبدِ للعدوّ تخشعاً
…
ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
…
على أي جنب كان في الله مصرعي
ولم يكد يتم الأبيات ويستغفر الله ويذكره حتى رفعوه على الخشبة وأوثقوه بها فقال:
- اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يفعل بنا.
وبدأ المشركون يرمونه بنبالهم ويطعنونه برماحهم، فلما بضع لحمه وسال دمه قالوا له:
- أتحب أن محمداً مكانك؟
فأجابهم وهو يغالب نفسه من الألم:
- والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم شيك بشوكة.
الله أكبر، هكذا فليكن الإيمان، وهكذا فليكن حب محمد صلى الله عليه وسلم، أما والله لو لم يكن الخبيب إلا هذا الموقف لكفاه شرفاً وفخراً وخلوداً، وإن رجلاً في مثل هذا الموقف وعلى مثل هذا الحال، بين الحياة والموت، يجيب بمثل هذا الجواب لهو مسلم بكل ما في كلمة الإسلام من معنى، وبأمثال خبيب هزم المسلمون - على قلتهم - جيوش الشرك والطغيان والظلم وفتحوا ثلاثة أرباع العالم، وبنوا حضارة ونشروا ديناً سيبقى لواؤه مرفوعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
على قبر زوجها
للأستاذ محمود الخفيف
صَلَّتْ لدَى أَحْجَارِه خَاشِعَهْ
…
ياَ قُدْسَ هَذِى الصَّلَاهْ
الله لِلزَّائِرَةِ الْجَازِعَهْ
…
كَمْ هَدْهَدَتْهَا يَدَاهْ
تَطُوفُ فِي نَظْرَتِهاَ الضْارِعَهْ
…
بِنَفْسِهاَ كُلُّ طُيُوفِ اَلْحيَاهْ
والصَّمْتُ في وَقفَتِهاَ الرَّائِعَهْ
…
ياَ عَيْنُ لَا يَبْلُغُ نُطْقٌ مَدَاهْ!
كَمْ يَسْحَرُ الأنفُسَ هَذَا الْجَمَالْ
…
بَيْنَ الضَّنَى وَالْحَزَنْ
كَأنماَ تُبْرِزُ تِلْكَ الظِّلَالْ
…
من سِرِّهِ ما كَمّنْ!
وَالْمَوّتْ يُلْقِي مِن سِمَاتِ الجَلَالْ
…
ما عَلِقَ القَلْبُ بِهِ وافتَتَنْ
مَا كانَ إِلاْ للصِّبَي والدَّلَالْ
…
والْحُبِّ وَالزِّينَةِ هذا البَدَنْ
وَاهَا لِهذَا المُلْهَمِ الْقَادِرِ
…
السِّحْرُ فِي رِيشَتِهْ!
لَوْ طُفْتُ بالواقِعِ لا الْخَاطِرِ
…
ما زاد عن صُورَتِهْ
لا يَنْثَنِي عَنْ سِحْرِهَا ناَظِرِي
…
إلاّ هَفَا قَلْبِي إلى رُؤُيَتِهْ!
كَمْ تَلِدُ الأَوْهَامُ للشْاعِرِ
…
في مَسْحَةِ الفَنِّ وفي لَمْحَتِهْ
وُجُومُ هَذِى الغَادَةِ المطْرِقَهْ
…
كَمْ رَفَّ قَلْبِي لَهُ
أَلْمَحُ فِيِه لْهفَةً مُوبقَهْ
…
تَرْسِمُ لِي هَوْلَهُ
فِي شَفَتَيْهاَ لوْعَةٌ مُحْرِقَهْ
…
من فَادِحٍ ما جَزِعَتْ قَبْلَهُ
مُمْسِكَةٌ إِيَّاهُاَ مُطْبِقَهْ
…
فِي مَوْقِفٍ مَا إِنْ رَأَتْ مِثلَهُ
ياَ رَحْمَتَا لِلزَّوْجَةِ الثّاكلِ
…
تَأْسَى عَلَى إِلْفِهَا
ذِكْرَانُهَا عَيْشَ الهوَى الزّائِلِ
…
يَزِيِدُ في لَهْفِهَا
والوَجْدُ فِي هَيْكَلِهَا النَّاحِلِ
…
تَحْمِلهُ ضَعْفاً عَلَى ضَعْفِهَا
كمْ عِنْدَ هذا الأثَرِ الماثِلِ
…
تَبْتَعِثُ الوَحْشَةُ مِن خَوْفِها
إلاَّ تُرِقْ دَمْعاً عَلَى قَبْرَهَ
…
فَقَلْبُهَا دَامِعُ
كَمْ حَاوَلَ الدَّمْعَ فَلَمْ يَجْرِهِ
…
مِنْ فَرْطِهِ جَازِعُ
ما يُشْبِهُ الصِّبْرَ عَلَى ثَغْرِه
…
والهمُّ في أَحْشائِهِ لاذِعُ!
لَوْ بَاحَ بالَمكْنُونِ مِن سِرِّه
…
ما مَلَكَ الدَّمْعَ لَهُ سَامِعُ
قَدْ خَتَمَ المَوْتُ عَلَى حُبِّهِ
…
فمَا لَهُ مِنْ فَنَاءْ
ياَ وَجْهَهَا ما إن تَبَدَّتْ بهِ
…
إلَا مَعَانِي الوَفَاءْ
ياَ صِدْقَ هذا الحُبُّ في هُدْبِهِ
…
ياَ رَوْعَةَ الوَجْدِ بِهِ وَالولَاء!
أَحْسِبُ هذا القَلبَ فِي وَثبِهِ
…
يَخْفِقُ لَا فِي الأَرْض بَلْ في السَّمَاءْ
عَزَائها فِي الأرْض هذا الأثَرْ
…
تَسْعَى له زائِرَْه
ياَ حُفرَة مِنْ تَحْتِ هَذَا الحَجَرْ
…
طَافَتْ بهَا نَاظرَهْ
ياَ وَطرَّاً مَا مِثْلُهُ مِنْ وَطرْ
…
تَحْيَا عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ الذَّاكِرَهْ
أنّى لَهَا مِنْ دُونِهِ مُصْطَبَرْ
…
في عِيشةٍ باتَتْ بهاَ سَادِرَهْ؟
ذِكْرَانُهَا أَنّ بهَذَا التُّرابْ
…
حُطَامَ أَوْصَالِهِ
كَمْ تَصِلُ القَلْبَ بَهذَا اليَبَابْ
…
وَصُمَّ أَطْلَالِهِ
يُطْفِئُ هَذَا الذّكْرُ بَرْحَ العَذَابْ
…
في قَلبِهَا المُسْتَسْلِمِ الوالِه
مَنْ فَاتَه فِي العَيْشِ عَذبُ الشُراب
…
يَعِيشُ بالوَهْمِ عَلَى آلِهِ
أَنّي لها مِنْ دُونِهِ مَوْئِلُ
…
يَوْمَاً بهَذِي الدُّنَي
ما إن لها سُؤلٌ
…
ولا مَأمَلُ=بَعْدَ ذُبُولِ المُني
هَيْهاَتَ يَفْنَى حُبَّهَا الأوَّلُ
…
أَيُّ هَوّىً ينْسَخُ هذا السَّنا؟
مَا حَمَلَ القَلْبُ وما يَحْمِلُ
…
يَرْسِمُهُ لِلْعَيْنِ هذا الضّنَى
يَا قِطْعةً مِنْهُ بهذا الوُجُودْ
…
هَلْ دُونَهُ مِنْ أَمَلْ؟
تَرِفُّ في مرآه بِيضُ العُهودْ
…
وما انطَوَي مِنْ جَذَلْ
يَا لَمْحَةَ الماَضِي ورَمْزَ الخلودْ
…
والُمْرتَجَى في عَيْشِهِ المُقْتَبَلْ
بأَيَّ سُؤْلٍ أمُّهُ لَا تَجودْ
…
أَيُّ عَنَاءِ فِيِه لا يُحْتَمَلْ؟
يَا لَاعِباً بِالزَّهْرِ فِي يَوْمِهِ
…
لم يَدْرِ غَيْرَ الزَّهَرْ
لَمْ يَدْرِ بَعْدُ الشَّوْكَ مِنْ يُتْمِهِ
…
أَوْ يَلْقَ وَخْزَ الإبَرْ
في شُغُلٍ بِالزّهْرِ عَن أُمِّهِ
…
وعن دواعي وَجْدِهَا بالصِّغَرْ
وُقِيتَ مَا يَخْبَأُ مِنْ لُؤْمِهِ
…
دَهْرٌ كفى مِنْ لٌؤْمِهِ ما ظَهَرْ
ياَ حَالِماً مَا أَيْقَظَتْهُ الْحَيَاهْ
…
ياَ لَا هِيًا لَا يَعِي
يَزِيدُ مَعْنَى يُتْمِهِ أَنْ أَرَاهْ
…
في ذَلِكَ الْمَوْضِعِ!
غداً بِهَذَا القَفْرِ يَبْكِي أَباَهْ
…
يَسْقِي تُرَابَ القَبْرِ بِالأدْمُع
وَيُوجِع القَلْبَ حَدِيثُ الرُّواه
…
عَنْ ذَاهِبِ وَلّي وَلَمْ يَرْجِع
لا تَحْبِسِي الدَّمْعَ عَلَى قَبْرِهِ
…
أَيَّتُهاَ الْجَازِعَهْ
عِظامُهُ تَهُفُو إلى قَطْرِهِ
…
طوفي بِهاَ دامِعَهْ
تَوَدُّ لو تَمْضِي لدي ذِكرِهِ
…
جُفُونُها طِائَعةً هَامِعَهْ
فَيَغْلِبُ الدَّمْعُ عَلَى أَمْرِهِ
…
والنَّارُ في مُهجتها لَاذِعَهْ
الخفيف
من برج بابل
قرأت في إحدى رسائل الأدب هذه النادرة اللطيفة: (أهدي إلى ملك الهند ثياب وحليّ، فدعا بامرأتين له وخَّير أحظاهما عنده بين اللباس والحلية. وكان وزيره حاضراً، فنظرت المرأة إليه كالمستشيرة له، فغمزها باللباس تغضيناً بعينه، فلحظه الملك. فاختارت المحظية الحلية لئلا يفطن للغمزة. ومكث الوزير أربعين سنة كاسراً عينه، لكي تقر تلك في نفس الملك، وليظن أنها عادة أو خلقة لازمة. وصارت الثياب للأخرى). قد يلتمس العذر لذاك الوزير المسكين بخوفه من غضب الملك وبطشه وحرصه على منصبه. ولكن ما عذر من يلزم النفس طائعاً مختاراً حركات وإشارات ونبرات وانتحال صفات دخيلة على الطبع الأصيل، فتنقلب الفتاة أو الشاب إلى قرد يقلد أو غراب يحاكي الطاووس! إن أشد ما يخدع المرء نفسه أن يتكلف ما يشذ عن طبعه، ويجرده من شخصيته التي تميزه عن غيره. إنما يدل ذلك على احتقار المرء نفسه واعتبارها من التفاهة بحيث تلغي وجودها وتستعير غيرها. وما عرف زمن كهذا العصر الميكانيكي الذي كثر من يخرجون فيه على غرار واحد كما تخرج الآلة صنوف الألوان والأنماط من متشابه المنتجات. ولعل مرجع هذه الظاهرة (الآلة السينمائية) أيضاً! فإن ما يزينه المرحون والدعاة للمتهافتات والمتهافتين أغرى فتياتنا وشبابنا بمحاكاة ما يصدر عن هذه الشخوص من حركة ترى أو لهجة تسمع. ولقد أصبح المثل الأعلى اليوم للفتاة والفتى بطلاً موهوماً أو نجمة لا سماء لهل. وأضحى الجميع على إلمام دقيق بحياة الممثلات والممثلين مما لم يظفر به درس بطل من أبطال التاريخ ورجال الإنسانية. إن هذه الفطرة السليمة البسيطة التي تتجلى في حركات أخواتنا الريفيات لمما يحملنا على الميل إليهن والإعجاب بخلالهن الكريمة النقية. فكما تزهو في ربوعهن الناضرة الوردة والوردة، وشتان ما بينهما من نسق ورواء وشذا، أو الشجرة والشجرة، وشتان ما بينهما من ثمر وجني؛ كذلك ترى الفتاة والفتاة، وشتان ما بينهما من سناء وسنا.
ماري نسيم
إيران في القديم والحديث
للأستاذ مصطفى كامل
تتمتع إيران بفضل ارتفاعها عن سطح البحر كثيراً واتساع رقعتها بمناخين متمايزين، أحدهما المناخ المعتدل، وثانيهما المناخ الاستوائي. وقليل من بلاد العالم في مثل اتساع رقعتها يستطيع أن يزهى بمثل هذا التباين في المناخ، فبينا تكثر الأمطار في الولايات الشمالية الثلاث التي تحد بحر الخزر، فإنها لا تسقط في الجنوب إلا في فصل الربيع. أما هضبة إيران نفسها فإنها منطقة المناخ المعتدل.
وإيران من البلاد ذوات المدنيات القديمة، فالاكتشافات التي تمت حديثاً في السوس تدل بجلاء على أن العلاميين وهم من الجنس الآري قد بلغوا مدينة مزدهرة في عهد يمكن تحديده بأربعة آلاف سنة قبل المسيح.
وقد حل الفرس أول ما حلوا بالقرب من إيلان على هضبة إيران، ثم قام واحد منهم فنال السلطان، ثم جاء بعده شيروس فتوج ملكاً عام 558 قبل الميلاد، وقوض إمبراطورية ميديا بعد عام، وبعد أن تحالف مع الكلدانيين والمصريين دمر سطوة كريزوس ملك ليديا الذي كان يقلقه، ثم فتح آسيا الصغرى ولم يلبث أن صار سيد كل آسيا الشرقية بلا منازع وكون إمبراطورية لم يسبق أن كان لها مثيل.
على أن إمبراطورية إيران بلغت ذروة المجد تحت حكم داريوس الأول، ونالت التنظيم الإداري الكامل واتسعت آماد حدودها اتساعاً كبيراً.
ولم يعرف العالم ملوك إيران بالفتوحات فحسب، بل عرفهم كذلك بما بذلوه من الجهود لرخاء أمتهم.
واحتفظت إيران في جميع العهود، حتى في العهد الإسلامي، بطابعها واستقلالها الوطني، فقامت تحت حكم الصفويين وخاصة عباس العظيم بتقدم باهر، وبلغت الهندسة والفن أوجهما في عهده
لكن إيران أخذت تنزوي بعد ملوك الصفويين شيئاً فشيئاً عن العالم، وبدأت طرق القوافل القوية الجميلة تعبث بها أيدي الإهمال، وتناسى آخر الملوك القاجاريين الفوائد التي كانت تعود على البلاد من موقعها الطبيعي في طريق مرور التجارة، ودفعوا أمتهم بسبب عدم قدرتهم إلى الانحطاط، لأن الرجل القوي الممتاز كان ينقصهم. . . إلى أن وجد العاهل الحالي، فكون رضا شاه، تحت اسم بهلوي الأول، الأسرة الحاكمة الجديدة. وسيسجل
التاريخ بحروف كبيرة اسم هذا الشاه العظيم الذي جمع في شخصه رئيس الجيش والمشرع والمنظم والمصلح.
ينحدر جلالة الإمبراطور من أقدم وأنبل أسر إيران التي قطنت البلاد منذ أبعد العصور، وجلالته من مقاطعة سافادكوه التي يمثل أفرادها أنقى العناصر الإيرانية التي عرفت على مدى عصور التاريخ وفي مختلف الحوادث بالبطولة تارة وبالوطنية أخرى.
وانتظم في السلك العسكري طبقاً لتقاليد أسرته، فتقلد المناصب المختلفة فيها ودرج في مراتبها حتى ولي قيادة الجيش العامة، ثم لم يلبث أن قلد منصب وزارة الحربية إلى أن تولى العرش في نهاية عام 1925.
ومنذ ولي الملك أيقظ روح النشاط الكامنة في شعبه بعد أن أشفى على الهوة وأحيا أملها وقوى يقينها، وبدأت الإصلاحات تتوالى في جميع نواحي النشاط الوطني.
لكن عمله لم يقتصر على إمداد شعبه بأمل وتأييده بنفسه في تحقيق الإصلاحات فإن أكثر أثره في وضعه الأسس القوية لقيادة شعبه نحو مستقبل رخي عظيم جدير بماضيه المجيد.
وكانت أولى جهوده العناية بالجيش، فأصدر قانون التجنيد الذي يلزم كل إيراني بالخدمة في الجيش، وأنشأ المدارس العسكرية وأرسل البعثات إلى أوربا لاستكمال التعليم العسكري؛ ثم وجه التفاته نحو تكوين قوة الطيران العسكري؛ وفي طهران مدرسة يذهب عدد وافر منها كل عام إلى أوربا. ثم أنشأ القوة البحرية لتأمين الشواطئ الإيرانية فاستطاع أن يحقق طمأنينة البلاد منذ سنتين.
وأما عمله في ميدان السياسة فإنه استطاع أن يعقد اتفاقات عادلة على أساس من المساواة بدل تلك الاتفاقات الجائرة التي فرضتها الدول الأجنبية على بلاده في عهد تدهورها.
وأولى أمور العدل عنايته كذلك، فقام فيها بإصلاح كبير وسن القوانين في زمن وجيز، كان منها القانون المدني والتجاري والتحكيم الإجباري كما وضع المحاكم الدينية تحت رقابة الحكومة الرسمية وحدد لها اختصاصاً ضيقاً؛ ثم استطاع أن يلغي في عام 1927 القضاء القنصلي والامتيازات الأجنبية.
ونالت مالية البلاد إصلاحات هامة فتعادلت الميزانية بعد استتباب الأمن وانتظام الحكم، وبعد أن كانت الضرائب لا تجبى أو سيئة الجباية لضعف الحكومة واختلال الأمن.
وتعد مالية إيران من أسلم ميزانيات العالم، والدولة لا تشعر برهق في مواجهة أعبائها، فماليتها تسمح بتحقيق مشروعاتها في الإصلاح والمدنية.
أما مسائل التعليم فتلفت النظر حقاً، فقد شمل التعديل والتنظيم أموره وأصبح يجاري العصر الحديث كما تضاعفت ميزانيته وازداد عدد التلاميذ زيادة ضخمة.
والتعليم إجباري للأطفال من سن 6 - 13 ذكوراً وإناثاً، ومدة التعليم فيها ست سنوات في المدن وأربع في القرى، بغير أجور في المدارس العامة أو بأجر طفيف في المدارس الخصوصية
أما مدة التعليم في المدارس الثانوية فست للذكور وخمس للبنات، والتدريس فيها على غرار المدارس الفرنسية خاصة.
ومعاهد التعليم العالي الآن هي كلية الطب وطب الأسنان والصيدلة، وكلية الحقوق والعلوم السياسية، وكلية التعليم والزراعة ثم معاهد الفنون والصنائع والتعدين، والتجارة والدباغة والفنون للبنات وغيرها من المعاهد.
وأنشأ نظام البلديات، فاستطاعت مدينة طهران بفضل بلديتها الحديثة أن تقوم بإنشاء المستشفيات والملاجئ ودور الإسعاف ودور الأمومة على منوال يضارع العواصم الأجنبية، وخطت الحدائق والميادين على أجمل نظام، وشقت الطرقات في أنحاء المدينة فسهلت ميادين العمل، وشيدت بنايات على أحدث طراز.
ولا تقل باقي المدن الأخرى في إيران شئناً عن العاصمة في نواحي الإصلاح فعاد الجمال والسحر إلى البلاد التي اشتهرت بهما بفضل هذه الجهود المتضافرة.
واهتم جلالته بالأمور الزراعية، فتربة إيران غنية ومحصولاتها منوعة، وعني خاصة بزراعة القطن أخيراً وزراعة الشاي وقام بإجراءات هامة لزيادة إنتاج البلاد من بينها إنشاء مدرسة الزراعة كما أنشأ مدارس نموذجية لتعليم الناس استخدام الوسائل العصرية.
ولا يقل نشاط الحكومة في ميادين الصناعة عما ذكر فأولت عنايتها الخاصة لإنمائها فقامت معامل الصناعة في مختلف البلاد منها معامل السكر التي تكفي حاجة البلاد، ومعمل الأسمنت، ومصانع النسج والدبغ والصابون والكبريت، ومصانع السجاد التي اشتهرت بها إيران في العالم.
وأرض إيران غنية بالمناجم، فيها الحديد والرصاص والنيكل والنحاس ولزنك والزئبق والمنغانيز. كما دلت الأبحاث على أن بها الذهب والفضة والبلاتين. كما يوجد بها البوتاس والفحم لذي يستخرج بانتظام وبطريقة علمية.
على أن أوفر منتجات مناجمها البترول مما يضعها بين أغنى بلاد العالم.
ولم يفت جلالة الإمبراطور أن يهتم بطرق المواصلات. ولو عرفنا أنه شق أكثر من 27 ألف كيلو متر من الطرق المنتظمة الواسعة رغم وعورة البلاد وطبيعتها الجبلية لأدركن عظم الجهود التي بذلها.
وامتدت كذلك أسلاك التلغراف كما أنشأ محطة لاسلكية قوية تتصل بأكبر محطات العالم، كما أن بها الآن خطى الطيران، بين باريز والهند الصينية، وبين امستردام وبتافيا.
هذه هي لمحة عاجلة عن أعمال الإمبراطور. كان عمله في كل ناحية حلقاً. كانت إيران ميتة، أما الآن فقد دبت فيها الحية.
الفن الإيراني
تعتبر أصفهان - مدينة الملوك الصفويين وعاصمة فارس مدى أحقاب طويلة - من ألطف بلاد إيران بفضل قصريها العجيين، وجسورها الرائعة، وهيكلها الفخمة الفنية؛ فان النقوش والتصاوير التي على جدرانها أعجب ما عمل من نوعها، والسياح الذين يسافرون بين أصفهان وشيراز يعجبون بمجموعتين فخمتين من الهياكل.
والبحوث التي تمت في السنين الأخيرة كشفت عن نقوش عجيبة دلت على ثروة هائلة من المعلومات التاريخية، ورفعت النقاب عن آثار جميع المدنيات التي تعاقبت على أرض الفرس.
وعلى مقربة من هذه المنطقة تقع مدينة شيراز حيث يوجد قبرا الشاعرين الكبيرين: السعدي وحافظ، كما يوجد غيرهم هياكل أثرية وأعمال فنية على جانب كبير من الأهمية.
وهذه الولاية وولاية فارس كانتا مهد العظمة الفارسية قبل الإسلام، وتوجد في أزربيجان جوامع جميلة جداً، كما توجد قبور الملوك الصفويين العظيمة.
وعلى شاطئ أركس في الجنوب الشرقي من أصفهان في سهل مردخب الحالي الفسيح، حيث ترى إلى الآن خرائبها، كانت تقوم برسيبوليس التي كانت عاصمة الإمبراطورية
الفارسية العظيمة منذ ألفين وخمسمائة عام، وكان ينضوي تحت لوائها عشرون ولاية، تمتد حدودها من فارجيانا في الشمال الشرقي إلى الحبشة في الجنوب الغربي، والبلقان في الشمال الغربي إلى السند في الجنوب الشرقي.
الأدب الفارسي
كان الأدب الفارسي زاخراً في كل وقت، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة عهود، العهد الديني، وعهد الملاحم، وعهد الشعر الغنائي، ويكمل هذه الأنواع الثلاثة أدب المسرح والقصة.
وقد خضعت اللغة الفارسية لعدة تعديلات، فقد ظلت الإيرانية لقديمة اللغة الرسمية إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وهي لغة ساذجة فقيرة.
ثم تطورت بعد ذلك إلى للغة البهلوية، وهي مزيج من الإيرانية القديمة والعناصر السامية، وبقيت هي اللغة الوطنية إلى الفتح الإسلامي.
على أن اللغة الفارسية الأخيرة لم تولد إلا في القرن العاشر، حين دخل على الروح الفارسية تطور أساسي، فبعد أن كانت محض لغة دينية أصبحت لغة أدب، وصار الشعراء محل إكرام وتبجيل في بلاط الملوك وشغلوا مناصب رفيعة.
وكان الفردوسي أكبرهم وأثرهم، تجسدت فيه الروح الشرقية بشكل عجيب، وخاصة في الناحية الشعرية والغرامية، وكان شعره يزدان بالفخامة والروعة اللتين كانتا تسودان في بلاط الملوك.
ويجب أن نذكر بين الشعراء الغنائيين السعدي الذي اشتهر بكتابيه كولستان والبستان اللذين يعتبران قانون الأخلاق الفارسية حتى لقد اشتهر في العالم أجمع كما أن العالم كله يعرف البديعيات الساحرة التي ينشر بها هذا الشاعر الكبير تعاليمه في الأخلاق الدينية والإنسانية، وأننا لنلمس تحت ستار الأمثال البديعة الدليل على إخلاصه في إصلاح النفس والقلب الإنساني؛ وقد يبدو أن الشاعر يعرفهما أتم معرفة لطول ما قاسى في كثير من الملاحظة والتأمل.
ويعجبنا في السعدي حب الجمال والملاحة على الخصوص؛ وهو على وجه خاص فنان لأنه شديد الحس، يحيا بين الزهور، ويحب الملابس المتألقة، ويجمل أشخصه بجواهر متناهية الدقة في النقش، ويعطرهم بالمسك والعنبر؛ وإن يكن فنه غير فخم لكنه شديد
الأناقة والرقة.
وحافظ هو أحد شعراء الفرس الوطنيين الرشيقين، وأحد الذين يفهم الغرب عنهم روح الشرقيين أحسن فهم بفلسفته الضاحكة وهزئه لساخر.
ثم عمر الخيام الذي يدين بشهرته لكتابه بالمعروف الرباعيات الذي يزخر بالسخرية والشك. وقد سببت ترجمة كتابه إلى الإنجليزية ضجة في أوربا وأمريكا حتى غدت شهرته الآن تملأ الآفاق.
مصطفى كامل
المحامي
نظام العالم ونظام الدول
للأستاذ طنطاوي جوهري
الحفل والجامع الأزهر
نشأت في قريتنا كفر عوض الله حجازي من أعمال مديرية الشرقية - شاركت أسرتنا في أعمالها الزراعية - كان لهذه الأسرة الكبيرة اتصال حميد بعلماء الجامع الأزهر يغدون ويروحون كل عام على سراة الأسرة وأكابر القرية، وأكابر بلدة (الغار) التي فيها أسرة أخوال والدتي، فأثر ذلك كله في المرحوم والدي، فأرسلني إلى كتاب في بلدة الغار وفيها جدتي لأمي، فحفظته بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثم أرسلني مع أقاربي إلى الجامع الأزهر لأكون كهؤلاء العلماء، ويكون لي عمود بالجامع الأزهر مثلهم. درست علومه. هنالك أصبحت السنة مقسمة بين دراستين: دراسة أزهرية، ودراسة حقلية. ذلك أني سمعت في علم التوحيد أن العالم منظم - يا سبحان الله، لا علم عندي، لا كتاب يهديني، لا مرشد يرشدني؛ للقوة السلطان الأعظم، ظلم مخيم، جهل فاضح، فأين نظام العالم؟ أخذت أصوم النهار، وأقوم بالليل، وأسأل صانع العالم أن يهديني. أخذت أدرس الشمس والسحاب والحجر والشجر والزهر والزرع نهاراً، وأدرس النجوم والقمر وأتأمل ذلك الجمال البديع في ظلمات الليل المدلهمات. وأخذت أقول: لعل وراء هذا الجمال حكما وعلموماً، ففي النهار جمال، وفي الليل جمال. فما أسبابه ونظامه؟ حائر، حائر!
دار العلوم بعد الأزهر والحفل.
لم يكن ليخطر لي أن في العالم حكمة وفلسفة تكشف اللثام عن هذا الوجود، كلا ولكن بعد اللتيا والتي أخذت أدرس الفلسفة القديمة بحذافيرها ولكني بعد ذلك لم أزل في موقفي الأول. أريد أن أفهم حقلنا الذي نزرع فيه القطن والقمح والذرة والبرسيم. هل هذه الأرض وما فوقها هي التي تحوي المواد الصالحة للبسنا وأغذيتنا وأغذية الحيوان؟ وأخيراً ما هذه الطيور الجميلة المغردة المنعشة للفلاح في حقله؟ وأخيراً ما هذا الجمال؟ الجمال هو الذي أخذ بلبي وأرقني ليلاً بنظراتي في النجوم، وأبهج قلبي نهاراً بنظراتي في الأشجار والزروع والأزهار.
اتصلت بدار العلوم فدرست فيها علم الفلك الحديث بعد ما درست القديم في الفلسفة. هنالك دهشت أعظم الدهش وقلت في نفسي: هذه فرصة سانحة، فهاهم أولاء علماء الأمم قديماً وحديثاً نظروا فيما كنت حائراً فيه في حقلنا (أ) نظروا في مقادير المادة المسماة عندهم (بالكم) المتصل والمنفصل من الهندسة وعلم الفلك ومن الحساب والموسيقى فقاسوا هذا العالم وحسبوا الكواكب أبعاداً وأحجاماً وحركات فأرونا السنين والشهور والفصول وأوقات الخسوف والكسوف - الله أكبر. نظام بديع. حركات منظمة هذه أعز مطالبي وأجل ما أتمناه. إني لسعيد جد سعيد. كيف لا أكون سعيداً؟ ألم يظهر العلم أن أبعد السيارات نفسها عن الشمس جاريات على سنن المتوالية الهندسية كما كشفه العلامة (يود): 3 - 6 - 12 - 24 - 48 - الخ.
(ب) ثم أن العلماء لم يقفوا عند هذا الحد من البحث فإنهم نظروا في أشكال المادة وتنوعها فكانت العلوم الطبيعية وقد أحاطت بها العلوم الرياضية حتى إنهم رأوا في نحو الأحجار الساقطة نظماً حسابياً يرجع إلى الجذر والتربيع والمتواليات العددية، ويدهش الحكيم حينما يرى الجذر والتربيع مسيطرين على حساب البنادل المختلفة الأطوال وحركات الضوء والصوت والحرارة والكهرباء.
نظام العناصر ونظام أوراق النبات.
وقد أدهشني أن للعناصر المشهورة اليوم (المبدوءة بالأيدروجين المختومة بعنصر (أورانيوم)) جدولا يضم متفرقها ويجعل بينها نسباً أفقية وأخرى رأسية بحيث ترى أن كل عنصر لو وضع في غير موضعه لاختل جميع النظام - يا عجبا! أيصل النظام إلى هذا الحد؟ أكسجين في الماء وفي الهواء، وحديد ونحاس في الجبال، وصوديوم وكلور كامنان في الملح المغمور بالماء في البحار، كيف يكون لها هذا الجدول المنظم وتكون بينها هذه النسب البديعة؟ فأما هذا الإنسان الذي له السلطان الأعظم وهو الغاية القصوى من هذه العوالم فلا يكون له نظام؟ كلا العقل ينكر هذا - هاهنا تحل مشكلة العالم - هاهنا مركز الدائرة - هاهنا عرفنا سبب النزاع المقام بين الأسرات والممالك - هاأنذا عرفت سبب لجمال في الحقول وفي السموات نهارً وليلاً، فأما أسباب الشقاق والنزاع بين الناس فالبحث جاري فيه الآن كما ستراه.
وكما رأينا نظام العناصر المختلفة في جدولها تاماً رأينا لأوراق النبات على الأشجار المختلفة جداول منظمة ذوات نسب في الصفوف الرأسية والصفوف الأفقية، ولا مناص لي من الاكتفاء بالإشارة إليها في هذا المقال حرصاً على وقت القارئ الكريم، وتفصيل هذا وما قبله في كتاب أحلام في السياسة موضحاً مصوراً تصويراً شمسياً. وهل في شرعة الإنصاف أن تعتبر أفراد إنسان في هذا العالم كمية مهملة لا نظام يجمعهم، ولا قانون يكبحهم؟ وقد رأينا النسب والقوانين لم تذر ذرات الأيدروجين مع ذرات الصوديوم، ولا ورقات التفاح مع ورقات الأعشاب، ولا حركات سقوط الأحجار، إلى آخر ما قدمنا، كلا كلا. إن قوى نوع الإنسان وعقوله لها نسب خفية، وكل امرئ في الأرض له نسبة إلى غيره في أمته وفي غيرها، ولما خفي ذلك على الناس حاروا في أمرهم فلم يجدوا مناصاً من الحرب لأنهم لم يهتدوا إلى نظامهم، فكل يزعم أن له عند آخر حقاً يريد أخذه بالقوة.
منفعة جوارح الطير والحيوانات المفترسة لهذا العالم الأرضي
وسعد الناس على ذلك أنهم رأوا جوارح الطير تأكل بغاثها والأسود والنمور تأكل الأرانب والحملان، فأخذ القوي يسطو على الضعيف. أو ما علموا أن ههنا نظاماً درسه علماء الأمم قديماً وحديثاً، فعلموا أن الحشرات تمتص العفونة والرطوبة اللتين لو بقيتا لأحدثتا في الجو فساداً فهلك الحيوان والإنسان، وهذه الحشرات بعد تأدية وظيفتها تصبح طعاماً سائغاً للطيور ونحوه ولو بقيت لكانت ضرراً وبيلاً. وهذه الطيور الكثيرة في الجو والحيوانات التي تأكل النبات تهاجما في الحياة كواسر الطير وسباع الفلوات وتأكل رممها بعد الموت حفاظً للجو من مكروباتها وإلا يفسد الهواء وكان الوباء العام، وروعيت الحكمة في قلة توالد نحو الأسود وكثرة توالد نحو الأرانب والجرذان، ثم روعيت الحكمة في الرحمة الملحوظة في المواد لمخدرة التي تفرغها العنكبوت مثلاً في الذبابة عند اقتناصها فتكون مخدرة لا تحس بآلام.
لم يفكر العامة والجهلاء في ذلك وتبعهم رجال السياسة في سائر أقطار الأمم الأرضية. إن هذه النظرة السطحية في العلم قد آن أن يسقطه البرهان ويدحضه نوع الإنسان لأنهم درسوا.
جمهورية الحيوان
لقد استبان للناس في عصرنا أن للنحل وللنمل ولكلاب البحر وللغربان نظماً عجيباً. وإن أبدع ما أدهشني مما اطلعت عليه نظام النمل الأبيض ذلك لذي ألف فيه العلامة (أوزوريك) الألماني في عصرنا الحاضر كتاباً خاصاً عنوانه النمل الأبيض وانتشر بجميع اللغات فترى فيه صورة الملكة وبجانبها الملك وهو أصغر منها جثة وقد رأيتها تحكم مملكة متسعة الأرجاء وهي عمياء وتحت إشرافها عمال وجنود يحفظون الأمن، ويشيد عمالها ممالك في الصحارى لم يقطعها الفرنسيون بمد السكة الحديدية إلا بالديناميت وهؤلاء العمال لهم نظام فوق كل نظام وعدل، ومنهم حراس في غاية الانتظام يقظون بل وصلوا على ما يقال إلى استنباط الماء من أوكسجين المادة وأيدروجينها، هذا هو النظام الذي يعيش على مقتضاه النمل الأبيض الذي تدير سلطانه ملكة واحدة تحت إمرتها عدد يبلغ أضعافاً مضاعفة لعدد الإنسان على وجه الأرض. يظن علماء العصر أن أمثال هذه الحشرات عاشت قبل الإنسان بما يزيد على ثلاثمائة مليون سنة وأن الإنسان لم يعيش عليها أكثر من ثلثمائة ألف سنة فتم نظام الأول ونقص نظام الثاني.
كافح الإنسان الأول أشد الكفاح ليصل إلى الحقيقة عن طريق القتال وساعده على ذلك تباعد الديار وحيلولة البحار والجبال بين الأمم - وهاهو ذا اليوم أزال الحواجز بالطيارات الطائرات والتلغراف بقسميه والراديو فاتصلت الأمم فآن لهم أن يفكروا - وهاهنا خاطبنا علماء الأمم وذكرناهم بأن نوع الإنسان لن يشذ عن قاعدة هذه المخلوقات - إننا نرى الحكماء والأذكياء في نوع الإنسان أقل عدداً من غيرهم كما قل البارعون في الجمال، ويقول أفلاطون قديماً: الناس ذهب وفضة ونحاس يريد بذلك الحكماء ورجال الجيش ثم الزراع والعمال وإضرابهم من سائر الناس. إذاً لم يتجاوز الإنسان نظام المعادن ونظام الهواء والماء، فقد قل الذهب ليصلح لتقويم الأشياء وكثر الحديد لكثرة الحاجة إليه، كما كثر الهواء وقل عنه الماء، فإن حاجة الحيوان إلى التنفس أكثر منها إلى شرب الماء.
النظام التام في المستقبل لنوع الإنسان
إن هنا لمنافع مادية وخواص طبيعية موزعة على الأرض، وما حولها من المخلوقات، وهاهنا قوى وأقدار موزعات على أفراد نوع الإنسان. إن هذه المواهب الإنسانية تقابل هذه
الخواص والمنافع المادية، ولم يتسن للناس الانتفاع بهذه الخواص المادية إلا باستفراغ الجهد في استخراج تلك القوى الكامنة في أفراد نوع الإنسان. هذه هي التي تحل مسألة السلام.
فلتشكل لجنة من جميع الأمم تقوم بدراسة العامر والغامر في جميع القارات وتجد في أن تدرس أحوال الأمم كلها، وتمضي كل أمة على استخراج ما كمن في عقول أبنائها من القوى والملكات وما في أرضها من الكنوز المعدنية والزراعية وغيرها من الفوائد والثمرات، وكل أمة قصرت فيهما أو كليهما فلترسل هذه الجمعية العامة من أبناء الأمم الأخرى الذين هم أقرب إلى هؤلاء الجاهلين من يكمل نقصهم ويرفع شأنهم في القسمين معاً، ولهم في نظير ذلك فوائد وثمرات، فإن كل قوة كامنة في فرد لم تستخرج في أي مملكة من الممالك الأرضية، وكل منفعة كامنة في أي بقعة من بقاع أي مملكة أرضية لم تظهر في الوجود تكون خسارة وحرماناً لجميع نوع الإنسان فربما كان من هؤلاء لمهملين في بلاد الصين مثلاً من إذا علم أصبح مفكراً كبيراً أو طبيباً عظيماً يتعدى أثره إلى سائر الأقطار وهكذا في البقاع المهجورة في ممالك المعمورة.
دفع وهم
ربما يقول بعض الناس: إن قياس عقول الناس ومواهبهم على نظام السيارات حول الشمس وغيرها مبحث علمي ليس إلى تحقيقه من سبيل. وللإجابة على هذا الاعتراض أوجه نظر القادة والزعماء إلى فرع من فروع علم النفس في التربية وهو علم مقياس الذكاء فليسألوا مديري المدارس في الولايات المتحدة وفي إنجلترا وغيرها: أليس مقياس الذكاء له اليوم السلطان الأعظم على وضع الشبان ولشابات في لأعمال اللائقة لهم بعد نيل الشهادات العالية، كما له ذلك السلطان يم دخولهم المدارس؟ إن الناس صائرون إلى ما قلناه شاءوا أم أبوا فليدرس نظام العقول ونظام الممالك، وليعلم جميع نوع لإنسان طوعاً وكرهاً. إن من مبادئ ذلك أنهم أخذوا يصطفون من الشبان في جميع أهل الأرض أقدرهم على المصارعة والمسابقة فيعونه بطلً في تلك المصارعة والمسابقة، وهكذا يفعلون مع الفتيات فيصطفون منهن ملكة الجمال وذلك بمجرد الاختيار لا بالقنابل والخناجر والرمح، فهكذا سيكونون في نظم السياسة وإدارة لأمم وحفظ المجموع، سنة لله التي قد خلت في عباده ولن
تجد لسنة لله تبديلً.
طنطاوي جوهر
نعي الشتاء
للأستاذ محمود غنيم
تعادلَ الليلُ والنهارُ
…
وأدرك القُرَّ الاحتضارُ
وراح فصلُ الشتاء يهوى
…
في هُوَّةٍ مالها قرارُ
يا صفرة الموت أدركيه
…
ليكسُوَ الأرضَ الاخضرارُ
كم ارتدينا فما وقانا
…
منه شعارٌ ولا دثارُ
لا كان. هل فيه غيرُ برق
…
من عينه يَقْدَحُ الشرارُ
وغيرُ رعدٍ يصكُّ سمعي
…
كأنما صوتُه خُوارُ؟
يا من رأى قبله صريعاً
…
غنَّى على رأسه الهِزارُ؟
أما ترى السُّحْبَ يوم ولي
…
حفت لها أدمع غِزارُ؟
لا يُثْلجُ الغيثُ حين يَهْمى
…
صدري ولو جفّتْ الثمارُ
وإن تغنَّت به تميمٌ
…
وسبَّحت باسمه نزارُ
الدفءُ والضوءُ أين راحا؟
…
لينكشِفْ عنهما الستارُ
والطيرُ والأيكُ أين غابا؟
…
لينتفضْ عنهما الغبارُ
كم من نهار - مضى - عليه
…
ثوبٌ من الليل مستعارُ
رياحه آذنت بحرب
…
فالنَّقعُ في جوَّه مُثارُ
كأن شمس الشتاء ظبيٌ
…
من طبعه الدَّلُّ والنِّفارُ
أو وجهُ عذراء ذاتِ خدرٍ
…
تظنُّ أن السفورَ عارُ
لا بدره إن بدا لُجَيْنٌ
…
كلا ولا شمسهُ نُضارُ
كم أصبح الفحْمُ - وهو َفحْمٌ -
…
كالزاد لم تَخْلُ منه دارُ
كل امرئ كالمجوس فيه
…
أمامه موقدٌ ونارُ
نجومهُ قد مشين حبواً
…
وشمسُه جرَّها البخارُ
إن جَنَّ فيه الدجى انصرفنا
…
فالأرضُ من أهلها قِفارُ
وبات كل امرئ سجينا
…
في داره حوله حِصارُ
يا ليت أَعمارَنا ربيعٌ
…
صِرْفُ ولو أنها قِصارُ
لهفِي على معشر إذا ما
…
دارت عروسُ السماء دارُوا
مَشَوْا معَ الشمس كلُّ فصل
…
لهم به كعبةٌ تُزارُ
كم ضاق مشتى بهم وجادت
…
لهم بشطآنها البحارُ
قد لطْفَ المالُ كل جوٍّ
…
فلا صقيعٌ ولا أُوارُ
وبات في الحالتين يشقى
…
من خانه مثلِىَ اليَسارُ
محمود غنيم
وحي الربيع
أنفاس مرتعشة!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
إنْ رَأَيْتِ الكَرْمَ تَسْتيْقِظُ في الوَادِي حَيَاتُهْ
وَحَدِيثَ اُلْحبِّ في الأَعْشاَشِ ذَاعَتْ هَمَساَنُهْ
وَرَنِينَ الْبَاغِمِ الْمَسْحُورِ نَشْوَى نَغَمَاتُهْ
وَحَنِينَ اَلْجوِّ في الشُّطْآنِ رَفَّتْ سَبَحَاتُهْ
وَالْهوَى في مَعْبَدِ الْعُشَّقِِ عَادَتْ صَلوَاتُهْ. . .
. . . مِثُلَها عُودِي إِلَيَّا
وَاسْكُبِي النُّورَ لَدَيَّا
وَالرَّحيقَ الْعَبْقَرِيَّا
عَلَّ أَقدَاحَ اْلأَمَانِي
…
تَسْعِدُ الْقَلْبَ الشَّقِيَّا
وَإِذَا بُستْاَنُكِ الهاجِرُ غَنَّاهُ اَلْخَيالُ
وَجَثَا السِّحْرُ بِدُنْيَاهُ وَناَغاهُ الدَّلَالُ
وَانْتَشَتْ مِنْ طُهْرِكِ الْعَالِي بِشَطَّيْهِ الظِّلَالُ
وأَتَاكِ الشِّعْرُ يُذْكِيِه حَنِينٌ وَاْبتِهاَلُ
كَنَبِيٍَّ تَحْتَ أَنوَارِكِ غَشَّاهُ اَلْجلَالُ. . .
فَاذْكُرِينِي فِي جِنَانِكْ
عَلَّ فَيْضاً مِنْ جَنَانِكْ
أَوْ صَبَاحاً مِنْ زَمَانِكْ
يَسْكبُ النُّورَ لِفاَنٍ
…
لَمْ يَعُدْ في الأَرْضِ حَيا!. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل
رسالة المرأة
غرائب العادات في الزواج
للآنسة زينب الحكيم
بمناسبة الزفاف لملكي السعيد، الذي تشرح معالمه الصدور، وتبهج زخارفه لأبصار بحيث لا نرى داعياً لوصف الواقع، ولا ضرورة للتنبيه إلى روعته وفخامته، كم أنن لسن في حاجة لأن نسجل عنه شيئاً اليوم ليبقى مسطوراً على القرطاس للمستقبل، لأنه حادث ستضل ذكراه باقية في حافظة الشعوب عامة، وفي حفظة لشعبين المصري والإيراني خاصة. لهذا أذكر فيم يلي بعض غرائب العادات في الزواج في مختلف البلاد:
1 -
شيكوسلوفاكيا: توجد عادة غريبة في بعض جهات تشيكوسلوفاكيا، وهي أن كل شباب يتقدم إلى فتاة كخطيب ثم يخفق في مسعاه يقدم إليها شريطاً تضمه إلى غطاء رأسها كالموضح بالصورة.
وكلما كثر عدد الأشرطة المقدمة للفتاة كن ذلك دليلً على شهرتها وارتفاع قيمتها في عين الخطاب الذين يتقدمون إليها. وعندما لا يبقى مكان لأشرطة أخرى تضاف إلى ما سبق أن علقته الفتاة على غطاء رأسها يتحتم على الفتاة أن تعزم أكيداً على اتخذ أمر تنفذه بالنسبة لزواجها. فتصمم على اختيار واحد ممن تقدموا إليها وتكون أسرة.
2 -
إنجلترا: في إنجلترا يتمتع العازمون على الزواج بحرية عظيمة في اختبار الشريك أو الشريكة ولهم ملء الحرية في المخالطة والتعارف قبل الزواج. ومما يذكر عنهم بالإعجاب والفخر أن الخطيب أيا كان مركزه ومرتبه يترفع عن أن يشاكي خطيبته عندما ترفض الزواج منه مهما يكن مقدار حبه لها.
ويرجح الإنجليز ارتفاع نسبة الزواج الناجح عندهم إلى الأسباب المتقدمة وهي نسبة تفوق جميع النسب في العالم.
3 -
فنلاندا في شمال غربي روسيا: لنساء فنلاندا طريقة مختصرة في معاملة خطابهن، وهي أن يوقد والد الفتاة شمعة أمام الهيكل في الكنيسة أثناء إحدى مقابلات أسرتي الخطيبين. فإذا تركتها ابنته تحترق كان ذلك دليلاُ على أنها قبلت الزواج من خطيبها. أما إذا أطفأت الشمعة فذلك دلالة على أنها ترفضه إذ لا توجد بينهما جاذبية.
4 -
السويد: إذا أكل فتى وفتاة من رغيف واحد من الخبز يقال إنهما متحابان دون ريب. فإذا كان ذلك صحيحاً يبدأ الخطيب التكلم في الموضوع، فيرسل صديقة له لتناقش الأمر مع أسرة الفتاة. فإذا نال العرض موافقة، يقدم الخطيب للتعارف إلى أسرة الفتاة في يوم الأحد المقبل بعد الحديث التمهيدي. وفي هذا الوقت لا يسمح للخطيبين بتجاذب أطراف الحديث أو بالمقابلة.
وفي صالة إعلان الخطبة يقام مهرجان يقدم فيه الخطيب للخطبة إناء فضياً يشبه فنجان الشاي الكبير بدون يد وبه قطع من النقود الفضية ملفوفة في أوراق. ويتبع ذلك الزفاف، وهما يتبادلان الهدايا وقت حضور القسيس.
5 -
لابلاند وإيسلندا: عادة تكون السيدة أكبر سنا من الرجل، وتطول فترة الخطوبة، ويرجع هذا غالباً إلى المصاريف الباهظة التي تسببها المجاملات وما يظهر به الخطيب من احترام لأسرة خطيبته كواجب حتمي عليه. ويكلف أيضاً بتقديم هدايا متوالية لها ولأقاربها.
6 -
اليونان: لا يسمح للخطيبين بالتقابل قبل يوم الزفاف إلا في مناسبات رسمية دقيقة. وفي إييرص عندما تكون الخطيبة قد تعرفت إلى زوجها في دار القسيس بعد أن باركهما، يطلب إليهما القسيس في رجاء شديد ألا يتقابلا ثانية حتى يوم زفافهما. . . .
7 -
رومانيا: فيها عادة مشهورة جداً، ولو أنها انقرضت الآن تقريباً، وهي ما يعرف (بسوق الصبايا) ففي يوم عيد سنت بول (في 29 يونيو) يجتمع البنات على قمة جبل عال اسمه وتكون كل واحدة منهن مزودة بجهازها، ويحضر الخطاب مع آبائهم ويختارون خطيباتهم.
وتوجد في جهات أخرى من رومانيا عادات مشابهة كل الشبه لما يوجد في ألبانيا، إلا أنهم يؤجلون مهرجان العرس عند الطوائف المسيحية حتى تلد المرأة ولداً، لأنهم يعتبرون أن الغرض الأول من الزواج هو خلف الأطفال الذين يظمون إلى القبيلة فيزيدون عددها وقوتها.
8 -
في غينيا الجديدة: للبنات والأولاد كامل الحرية في الاختلاط قبل الزواج، حتى لقد يضمون الليل سوياً، وإذا وجدوا أن لا بد من التغيير، فيفعلون ذلك حتى يتوق الخاطب إلى
الخطيبة التي توافقه تماماً.
إذا قارنا ذلك بما يحدث في اليابان، وجدنا تبايناً كبيراً، لأن مسألة الزوج عندهم من غير الأفراد المحدثين، تترك كلها لتصرف الخاطب الذي يوفق بين الخطيبين، ويرتب تقابلهما وتعارفهما، ويكون ذلك في مقهى يتناولون فيه الشاي، ويكون على الفتاة تقديم شاي المهرجان لزوجها المنتظر.
9 -
في جزائر سليمان: الفتاة التي تخطب لرجل عظيم تعتكف قسراً في خص بقرب خيام الحريم، ويقدم لها غذاء دسم، ولا يسمح لها بالخروج من ذلك الخص إلا مرة واحدة في اليوم لتغسل آنية نحاسية كبيرة. وتبقى على تلك الحال ثلاث سنوات متوالية تخرج في نهايتها من سجنها وقد نما على رأسها شعر أشبه بالفرجون الغزير جداً.
10 -
هنود كندا: عندما يصمم رجل على الزواج يطلب إلى من اختارها أن تحزم له شراك صيده، ويكون هذا التكليف منه لها بمثابة مفاتحتها بالخطبة، فإذا قبلته كخطيب تطلب منه دون خجل أن يكلم أمها في الموضوع. وعادة تخبر البنت أمها بنفسها، وعلى ذلك ترشدها إلى بناء مسكن لها بجوار مسكنها، وعندما يقام مهرجان الزفاف يصبحان زوجين.
11 -
في غينيا الجديدة: يتعارف المحبون في حلقات الرقص المشترك، فإذا أحب رجل امرأة لأول نظرة، وتبع ذلك عزم على الزواج منها، يفعلان ذلك دون جلبة أو إجراءات زواج من أي نوع؛ إلا إذا كان له منافسون فعندئذ يتقدم إلى والد الفتاة بثمن يدفعه له عنها، وأيضاً لا يتبع ذلك مهرجان زواج.
عادة التقبيل.
إن التقبيل بالفم عادة أوربية على ما يعلم. أما التقبيل عند الصين مثلاً فيكون بواسطة فرك الأنف والفم على الوجه.
أما في أفريقيا وغيرها من البقاع غير المتمدنة فلم يلحظ أن المحبين فيها يقبل بعضهم بعضاً. والرومانيون كان لهم عدة طرق للتقبيل، كتقبيل الوجنتين ويدل هذا على الصداقة. ويدل تقبيل الشفتين على العشق، ولا تزال هذه الاصطلاحات معمول بها في فرنسا وممالك أوربا.
والرقص والألعاب المختلفة كانت كلها من مميزات الحياة الغابرة، (كما أنها اليوم ميزة الحفلات الساهرة في حياة المتمدنين) وكما أنها وما تزال الأسباب المباشرة للتعارف واختيار الحبيبات.
أما الغناء والرواية فأمرهما مشهور معروف، لا سيما في أيام البطولة والفروسية وعند كثير من القبائل. فالمحب قد يروي قصة غرامه غناء أو إنشاد حال يمثل أصدقاؤه الرواية عملياً، ولا يسع الفتاة المقصودة في كثير من الأحيان إلا أن تفتح ذراعيها في النهاية وتراقص خطيبها دليلاً على إتمام الزواج.
القبلة في بلاد الحبشة.
تعتبر القبلة في بلاد الحبشة روح الحياة الاجتماعية فيها، وهي على عدة أشكال، فتستعمل لكل تهنئة، وكدليل على الاحترام، وتمييز المقامات، وتمضى بها المعاهدات السياسية أو التجارية، والناس الذين لا يقبل بعضهم بعضاً علناً هم الأزواج والزوجات.
هذا ويشاهد أن الحب يظهر بين المتمدنين في سن البلوغ، ولكنه يظهر بين الهمج في الطفولة، حتى لقد ترى الأطفال الصغار يمثلون أدواره في ألعابهم. كما يعد عند قبائل أفريقيا من العار ألا يكون للبنت أحباء ويسخرون منها إذا كانت ذلك. أما الولد الذي ليس له حبيبات، فيعمل له سحر يجلب الحظ والتوفيق لإيجاد الحبيبات.
هذا قليل من كثير مما يمكن أن يذكر من غرائب عادات الزواج وفلسفات العواطف الإنسانية.
زينب الحكيم.
رسالة العلم
الكون يكبر
العوالم منتشرة على حيز كروي محدود ولكنه يتسع.
للدكتور محمد محمود غالي
العوالم كالأسماك على شبك الصيد - أو كجسيمات على سطح
كرة تنتفخ - أثر تعديل إينشتاين لمعادلاته - الحيز الكروي
والعالم كون محدود -
في دراسة صورة الكون تجري المعارف أوسع الخطوات.
لو أن صياداً ألقى شبكته في الماء، فتعلق بها عدد من السمك، فمما لا شك فيه، تتوقف المسافة بين سمكة وأخرى على حالة الشبكة. قد يكون الصياد حسن الحظ، بحيث تتعلق سمكة على رأس كل معين في الصف المشار إليه بالسهمين: شكل 1 الذي يمثل هذه الشبكة، عندئذ يتحقق القارئ بنفسه أن الصياد قد وفق إلى اصطياد 16 سمكة. ولو أن السمك في عداد الكائنات، يرى ويفهم ويتصور، فإنه لا يعدم وسيلة، يتحقق بها من المسافة الواقعة بينه وبين كل سمكة.
لنفرض بعد ذلك، لسبب خاص بمهنة الصياد كسهولة إخراج هذه الأسماك، أن الصياد شد شبكته من الجهتين: اليمنى واليسرى في اتجاه السهمين بحيث اتخذت هذه الحبائل الشكل الثاني، الذي لا يختلف عن الشكل الأول إلا في أنه ممدود، فإن أي سمكة ترى جارتها الأولى ابتعدت عنها بمسافة معينة؛ ولكنها ترى الجارة التي تليها ابتعدت بضعف هذه المسافة، بحيث أن السمكة العاشرة مثلاً ترى كأنها قطعت عشرة أمثال ما قطعته السمكة الأولى، وعندئذ تعتقد هذه السمكة التي افترضنا أنها متأملة أن الأسماك كلها تبتعد عنها بالذات، أو أنها تهرب منها؛ وأنه كلما كانت الأسماك بعيدة عنها كانت سرعة ابتعادها كبيرة.
يتأنى هذا الإحساس للسمكة، لو أننا فرضنا أن الصياد قام بعملية شد الشبكة داخل الماء،
وأن السمكة المتأملة لا ترى حبائل الشبكة أو قاع البحر أو أي شيء غير جيرانها من السمك الذي وقع مثلها في الحبائل. ولو أن السمكة المتأملة رأت كائناً آخر كالصياد أو شجرة أو شيء ثابت، أو لو أنها رأت الحبال نفسها لأدركت أنها هي أيضاً تناولتها الحركة بقدر ما تناولت السمك جميعه، وأن الأقدار شاءت لها هي أن تبتعد عن جاراتها بقدر ابتعادها عنها، وأنه ليس هناك مركز خاص للابتعاد، بل إنها وأخوتها جميعاً قد وقع لها نفس الحوادث.
أمران أود أن يعلقا بذهن القارئ:
الأمر الأول: هو أن السمكة المتأملة إن لم تر من الكون إلا الأسماك الستة عشر التي تحدد عوالمها، فلا أرضاً ترى ولا ماء ولا صياداً ولا شجرة، تصل إلى نتيجة تتلخص في ابتعاد كل الأسماك عنها بسرعة تتزايد كلما كانت المسافة بعيدة.
الأمر الثاني: هو أن السمكة العاقلة ترى من العوالم المحيطة بها حبائل الشبك ورمال الشاطئ، بل ترى الصياد والشجرة، وكل هذه أشياء ثابتة بالنسبة لها فتدرك أن أمراً آخر قد حدث: ذلك أن الحبائل كلها قد امتدت، وأن الحركة تناولتها والأسماك بدرجة واحدة فليس هناك فرار بالمعنى الأول، بل شاءت الأقدار أن تقع على كون هو حبائل الشبك، وأن هذا الكون يمتد.
قد نستطيع الآن أن ننتقل من حبائل الصيد إلى الكون، فكما أنه ليس هناك في الحبائل المتقدمة مركز ثابت بل إن كل جزء منها امتد فابتعدت كل سمكة عن الأخرى، وكما أنه يتراءى أن السمكة البعيدة تزيد سرعة ابتعادها عن سمكة معينة رغم أن جميع الأسماك تتناثر بقدر واحد، كذلك الكون لسنا فيه مركزاً لابتعاد العوالم، وهناك حيز يحملنا جميعاً هو الذي يمتد، ولا يمنع امتداده أن نلاحظ ازدياداً في سرعة العوالم كلما كانت بعيدة عنا.
هذه السمكة العاقلة اتخذتها مثالاً للكون الذي نعيش فيه، نحن كسمكة من ملايين ملايين الأسماك، ممتدة على حبائل أوسع من هذه، وهناك صياد ماهر لا نراه، يتصرف بالعوالم كما يتصرف صياد السمك بالست عشرة سمكة التي كانت من نصيبه، ويبحث العلماء فعل الصياد وأثر القوة الخفية التي تقوم بهذه العملية.
قد يعترض القارئ أن أسماكاً، في صفوف أخرى، تقترب في الوقت الذي تتناثر فيه الست
عشرة سمكة المتقدمة، ولكن عليه أن يتصور أن حبائل الشبكة من مادة تجيز التمدد في جميع الجهات.
مثال أخر يقرب للقارئ الصورة التي يعتقدها العلماء في الكون، ذلك أن تتصور كرة من المطاط، انتشرت على سطحها وفي داخل قشرتها جسيمات صغيرة جداً، فإنه عندما تنتفخ هذه الكرة، تبتعد هذه الجسيمات الواحدة عن الأخرى وفق القانون المتقدم، بحيث يبدو ونحن عند جسيم معين ازدياد ابتعاد الجسيمات الأخرى كلما كانت بعيدة عنه.
هذه صورة الكون الذي يفسر مشاهداتنا إلى حد، ولا يزال علينا أن نعرف مدى ما يساعد عليه العلم النظري من التثبت من هذه الصورة، ويلزمنا قبل أن نبدأ هذا الشرح أن نلخص الوقائع التي نعرفها حتى الآن، ثم ننتقل إلى تعرف الحيز الحامل لنا، هذا الحيز الموجود في إطاره كل العوالم الطبيعية، والذي سنرى أنه يختلف عن حيز أقليدس اللانهائي.
أوضحنا أننا كما نستطيع أن نعرف اقتراب أو ابتعاد قاطرة عنا من سماع صفيرها، كذلك يمكن معرفة اقتراب أو ابتعاد مجموعة من النجوم عنا من موضع خطوطها الطيفية على الطيف العادي، ففي حالة ابتعاد هذه النجوم تقترب خطوط طيفها من الجهة الحمراء، وفي حالة اقترابها نقترب من الجهة الأخرى، وتتعين سرعة ابتعاد النجم أو اقترابه من درجة اقتراب خطوطه الطيفية من أحد الطرفين.
وذكرنا أن العلوم النظرية والتجريبية قد برهنت على ابتعاد جميع العوالم عنا، كما برهنت على زيادة سرعة ابتعادها من بعدها، فالعوالم، التي تفصلنا عنها مسافة يقطعها الضوء في 3 ملايين سنة، تبعد عنها بسرعة 500 كيلو متر في الثانية تقريباً، أما العوالم المفصولة عنها بمسافة 150 مليون سنة ضوئية فتبتعد عنها بسرعة 25 ألف كيلو متر في الثانية.
وتساءلنا لماذا تبتعد كل العوالم عنا، وأعطينا الآن صورة للكون الذي نعلم عنه أن كل عالم فيه يبتعد عنا، وأن سرعة الابتعاد تتزايد كلما كان بعيداً. هذه خلاصة ما وصلنا إليه، على أننا نخطو بالقارئ خطوة أخرى إلى الأمام.
مهما يكن من الأمر فإنه لم يكن هناك غير طريقين لنجد تعليلاً لهذه السرعة الكبيرة للسدم التي تبتعد كلها عنا.
(1)
إما أن هناك قوة إلى الخارج تدفع هذه الكائنات إلى السباق والتنافر.
(2)
أو أن تكون هذه السرعة موجودة ولازمة لهذه العوالم منذ التطور الأول للخليقة، ومن يدري ماضيها؟ فقد تكون أكبر من ذلك بكثير.
على أني لا أريد أن يفوت القارئ، أن هذه السرعات الكبيرة، قد لفت النظر إليها البحث النظري قبل البحث التجريبي هذا البحث النظري الذي بدأ بمعادلات (أينشتاين) عن النسبية في وضعها العام، والذي تتبعه دراسة (دي سيتير) الذي توقع هذا التنافر للعوالم البعيدة. ولنعد بكلمة أخرى إلى عمل (أينشتاين) لنرى العلاقة بين عمله وبين صورة الكون.
عندما نشر أينشتاين نظرية النسبية في وضعها العام سنة 1915 التي تناول فيها فيزيقية المجال، والتي درس فيها المادة والكهرباء والإشعاع والجهد، كان أهم جزء في نظريته قانون الجاذبية، الذي يتفق في الحدود العادية مع نظريات نيوتن القديمة، على أينشتاين قد واجه في ذلك الوقت بعض الصعوبات التي لكي يذللها، عدل معادلاته بحيث أصبحت تسمح بتقوس الحيز للمسافات البعيدة، فحذف بعبقريته فكرة اللانهائية التي كانت تشغل دوراً في العلوم، بحيث إذا سرنا في حيز أو كون أينشتاين الجديد دائماً للأمام، رجعنا للنقطة التي بدأنا منها المسير.
هذه المعادلات الجديدة الخاصة بالجاذبية، نرى فيها ثابتاً جديداً يطلقون عليه الثابت الكوني على أن الذي يهمنا أن هذا الطرف الجديد في معادلات أينشتاين خاص بوجود تنافر بين مجموعات الأجرام السماوية، يتناسب مع المسافة، تنافر كوني ليس له مركز خاص، أي أنه قوة متعلقة بالثابت الكوني وتتناسب معه.
ومما هو جدير بالذكر أن المسألة التي نحن بصددها الخاصة باتساع الكون وتعاظم مسافاته، لم تكن قط موضع نظر أينشتاين ولم تكن بين المبررات التي دعته للتعديل الذي قام به هذا العالم الذي لم يهتم للثابت الكوني بقدر اهتمام البروفسير فايل له فيما بعد.
على أن تفكير أينشتاين هذا، أفاد في معارفنا فيما يخص الكون، وخرج بنا من غير قصد من مصاعب كان لا بد أن نلقاها، ذلك أنه إذا اعتبرنا المسافات البعيدة عن 150 سنة الضوئية التي كانت أخر حدود رؤيتنا نصل إلى أجرام تقرب سرعتها من سرعة الضوء، وليس هنا المجال لنذكر ما في ذلك من تناقض للنظريات الحديثة؛ ولعل القارئ يدرك الآن
كيف يمنعنا أينشتاين الذي كان لا يعرف هذه الصعوبة القائمة أمامنا، من التوغل في الكون بشكله الذي نستوعبه، لأن الكون مغلق على نفسه ولأننا لا نلبث أن نعود من حيث نظن أننا لا زلنا نتوغل فيه.
لست الآن بصدد أن أذكر القارئ أن الرياضيين توصلوا منذ أكثر من مائة عام إلى فرض حيز مقوس يختلف عن حيز أقليدس، وليس في نيتي في هذه الأسطر أن أستعرض علماً من أهم العلوم المعروفة اليوم، هو هندسة ريمان وهندسة لوباتشيفيسكي التي تعتمد كلاهما على تقوس الحيز، وتختلف عن الهندسة التي اعتدنا حل مسائلها في المدارس، والتي لا وجود فيها للخطين المتوازيين، إنما أريد أن ألفت نظر القارئ إلى أن دراسة دقيقة للحيز الطبيعي أوصلت العلماء لخاصية تقوسه، كما أوصلت ريمان لنفس النتيجة. أما ريمان فوصل لهذا التقوس لعدم إمكان إثبات نظرية واحدة، من بين الأربع والعشرين نظرية لأقليدس التي تعلمناها في المدارس، وهي نظرية خاصة بالمتوازيات. أما الطبيعيون فقد وصلوا لهذا التقوس بتجارب سنأتي عليها عندما نتكلم عن النسبية.
وهكذا ظهر لنا حيز أقليدس المستقيم مقوساً، وظهر لنا أن هذا التقوس صفة طبيعية تسمح التجارب اليوم بالتحقق منها، كما نتحقق من وجود المجال المغناطيسي دون أن نراه.
وهكذا كما نصادف في الطبيعة سطوحاً منحنية، نصادف فيها حيزاً منحنياً، أي أن له هذه الخاصية من التقوس الممكن قياسه ولكن يوجد فرق جوهري بين التقوسين، ذلك أن يجوز لنا في السطوح أن نعدلها أي نحذف خاصية الانحناء منها، وذلك بالقيام بعملية معاكسة للانحناء، ولكن لا نستطيع في الحيز أن نجعله يتخلص من هذه الخاصية، أي انه لا يمكن تعديل صفته الطبيعية كما هو الحال في السطوح.
هذا الحيز أو الفراغ في حالته البسيطة حيز ذو أربعة أبعاد، وهذا البعد الرابع هو الذي ينحني الحيز في اتجاهه - هذا التمثيل الرباعي الأبعاد، في الحالة البسيطة المتناسقة، يصبح سداسياً أو ذا عشرة أبعاد عندما ننتقل من الحيز العادي إلى الحيز في الزمن، وليس للقارئ أن يرتبك بهذا الحيز الأخير وعلى حد قولهم - إن ما يميز العالم الرياضي من غيره أن الأول يرى الأشياء في أربعة حدود، إنه لا شك أن ثمة صعوبة في تخيل الحيز ذي أربعة الأبعاد، ويتصور أدنجتون لذلك فقاعة كبيرة، هذه الفقاعة ذات أربعة حدود،
حيث الطول والعرض والارتفاع، موجود كله في القشرة المكونة لها.
هذا الحيز ذو الثلاثة أبعاد المعوج في حيز ذي أربعة أبعاد، يعطينا الرياضيون عنه خواص تتصل بفهمنا للكون، منها أن التقوس كاف ليعطينا حيزاً مغلقاً يختلف عن الحيز المفتوح اللانهائي بالطريقة التي يختلف فيها سطح الكرة عن سطح مستو غير محدود.
كل ما أريد أن يعلق بذهن القارئ هو أن يعتقد أن الحيز المتقوس نتيجة رياضية، ونتيجة عملية في أن واحد، ونكرر القول أن الحيز الطبيعي الذي نحن فيه، حيز من شأنه أن خطا ما، أو موجة ضوئية أو كهربائية، تعود إلى النقطة التي بدأت منها، بعد أن يكون كل منها قد دار حول الكون.
صحيح قد دلتنا التجارب حتى اليوم على أن التقوس صفة ضرورية ولازمة في جزء من هذا الحيز، هو جزء محدود بحدود رؤيتنا فهل يتقدم العلم التجريبي تقدماً يثبت فيه أن هذا الحيز محدود وأنه مغلق؟ هذا ما يعتقده العلماء.
هذا الحيز المتقوس والمقفل على نفسه، يعتقدون أنه كروي، وأن وجود المادة فيه من أن لآخر يحدث اختلافات فيه عندها، كما تحدث الجبال اختلافات في كروية الأرض، وكما أن المساحة الجانبية للكرة الأرضية محدودة، كذلك حجم الحيز الكروي للكون محدود، ولكنه يكبر.
قد يتساءل القارئ: ما لي وكل هذا؟ لماذا هذه الصورة من الكون التي تمنعني تصوراتي من استيعابها؟ أو نحن في حاجة لهذه الصورة المعقدة، لنفهم تمدد العوالم وابتعادها الواحد عن الآخر؟ ألا يكفينا الفراغ الأقليدسي القديم الذي اعتدناه في المدارس، والذي فهمناه على أيدي مدرسين قديرين، قطعوا السنين الطويلة في تلقيننا صورته، والذي دخلنا من أجله عشرات الامتحانات؟ ألا يكفي حيز أقليدس الذي أتصور فيه الطول والعرض والارتفاع لأي كائن كما أتصور فيه المسافات مهما ابتعدت؟
وجوابنا أن عالمنا الأقليدسي لا يكفي لفهم الظواهر الجديدة في تمدد العالم، ويتناقض مع معارفنا الحالية، وإنني إذا كنت أجهدت نفسي في أن نفهم معاً كوناً كروياً، كروياً ليس كالكرة المعتادة، فلأن لذلك صلة كبرى، إن لم تكن بتمدد الكون في ذاته، فعلى الأقل بالنتائج التي تترتب على هذا التمدد. . . نتائج سيدهش لها القارئ عندما أدله عليها في
المقال القادم.
ومع كل ذلك فليس ثمة سبب جدي لهجر كون محدود وحيز متكور، للرجوع إلى حيز أقليديسي غير محدود وهو بهذا غير معقول، ما دام العلم النظري يجيز الحيز الجديد والعلم التجريبي يحتمه.
هب أن أحد المؤرخين، مهما علت مكانته، وصف لنا مقبرة خوفو بالجيزة مخروطاً قائماً في الصحراء، وهب أننا رأينا رأى العين أن هذه المقبرة تمثل شكلا هرمياً، له قاعدة وأربعة أوجه، فليس لنا أن نواصل وصف الأهرام كمخروط وهو ليس بمخروط
ومهما يكن من عدد ملايين النجوم والسدم، أليس أقرب للذهن تصورها على كرة محدودة عن تصورها منتشرة في فضاء لا نهائي؟ هذه اللانهائية تتضاءل يوماً بعد يوم، وإذا كانت هذه المجموعة يبتعد بعضها عن بعض، فبدهي أنه يلزم لها حيز يكبر بحيث يقبل هذا التباعد، ومن السهل أن نفهم ذلك لو تصورنا مخلوقات عديدة موزعة على الأرض. إن هذه المخلوقات لا يمكنها أن يبتعد كل واحد منها عن الآخر، دون أن تقترب في نفس الوقت من أي كائن على الأرض، إلا إذا تصورنا إن الأرض أن نفسها تكبر.
هذا هو الكون يدلنا العلم أنه محدود وأنه يمتد في جميع أنحائه، على نحو كرة المطاط السابقة، أو حبائل الصيد المتقدمة، قد تدل الأيام على خطأ في هذا التقدير، وقد تظهر هذه المسائل في يوم آخر بلون جديد، ولكن إذا أردت أن تعرف شكل الكون من هؤلاء الذين شغلوا أنفسهم بدراسته، فقد دللتك على آرائهم، وليس أمثال دي سيتير وأينشتاين وأدنجتون وغيرهم ممن لا يقام لرأيهم وزن، وغايتي بعد الذي وصلنا إليه أن أشرح للقارئ النتائج التي ترتبت على هذه الظاهرة الجديدة - ظاهرة تمدد الكون - نتائج أهم ما فيها الوصول لعلاقة بين الكون في مجموعه، وبين الذرة والإلكترون، أي بين الكون وأصغر ما فيه، بل الوصول إلى معرفة عدد ذرات وإلكترونات الكون مهما كان هذا الكون عظيماً.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهندس خانة.
رسالة الفن
الأغاني المصرية
للفنان محمد السيد المويلحي
أعتقد أن أسمى اللغات قاطبة وأقربها إلى العقل والقلب، وأكثرها شيوعاً وانتشاراً في مسالك الأرض: هي الموسيقى وحدها لأنها لغة الطبيعة السهلة التي تجري على كل لسان لتعبر عن خوالجه، وتترجم إحساسه وتصور أمله وعقله، بل وتسجل مقدار ما يتمتع به من حضارة وسمو، أو ما هو عليه من انحطاط وخمول!
ولا أحب في هذا المقام أن أستشهد بأقوال حكماء العالم فإنها معروفة، وإنما أحب أن أركز هذه الأقوال جميعاً في جملة واحدة للحكيم الصيني (كونفوشيس) الذي قال:(أروني أغاني أمة من الأمم أركم مدى ما وصلت إليه من حضارة ورقي. .!).
وقبل أن أعرض مع القارئ مبلغ ما وصلت إليه (أغانينا) من حضارة ورقي أو انحطاط وهبوط، سأحاول - ما استطعت - أن أعطيه فكرة عن الأغاني في شيء من الإيجاز، فإن للإسهاب وقتاً آخر.
1 -
الأغاني الوصفية: وتشمل الموسيقى المسرحية ومحاكاة ما تسمعه الأذن من التفاعيل الطبيعية.
2 -
الأغاني الحماسية: وتستعمل في إشعال النفوس وتهيئتها لجو الحروب، والتضحية والفداء. . .
3 -
الأغاني الشعبية: وتمتاز بلونها السهل الذي لا تركيب فيه ولا تعقيد.
4 -
الأغاني الغزلية: وهي التي تترجم خلجات النفس وأماني الفؤاد، وتصوير ما يلاقي الإنسان في حبه من توفيق أو فشل، وأثر هذا التوفيق أو هذا الفشل في حياته وتفكيره. .
5 -
الأغاني الصوفية: وهي التي يتداولها رجال (الذكر) ببراعة بارعة وقدرة قادرة على التصرف والخروج من نغم إلى نغم ومن مقام إلى مقام؛ ثم الرجوع إلى النغمة الأصلية والمقام الأول بسلامة ودقة.
6 -
أغاني العمال: ويستعملونها لمساعدتهم على أعمالهم الشاقة واحتمال ما هم فيه من حاجة وضنى.
7 -
أغاني الفرح: ويعبر بها الإنسان عن هناءته وسعادته وحبه لكل شيء جميل في الحياة. .
8 -
أغاني الأطفال: وتستعملها الأمهات للتنبيه وللمناجاة، ولجلب النوم، ولإطفاء الغضب.
9 -
أغاني الحيوانات: ويستعين بها الرعاة والحدأة على السيطرة على الحيوانات لتنتج أعظم إنتاج وأوفره. .
10 -
أغاني النواح: وهي التي تجري لحناً حزيناً مؤثراً فتلهب العواطف، وتحرك القلوب، وتثير الدموع.
11 -
أغاني المناسبات: وهي التي تغني في أوقات خاصة لمناسبات خاصة كأغاني رمضان، وأغاني الحج، وأغاني المواليد، وأغاني الزار. . . الخ.
12 -
أغاني الكنيسة: وهي من أروع الموسيقى القديمة ولها لون يضفي على النفس إهاباً من السعادة والنور.
هذه بعض الأغاني التي تستعمل بعضها أكثر الشعوب استعمالاً يتفق وحضارتها أو تأخرها. فالشعوب الحية الناهضة تستعمل الأغاني الوصفية، والحماسية، والشعبية والخ، وقلما تلجأ للأغاني الغزلية إلا في القليل النادر، وفي البيئات المحدودة، ثم هي لا تعرف أغاني الحزن أو تعرفها ولكن لا تعزفها. .!
والشعوب (الرخوة) المتأخرة هي التي تفني نفسها في أغاني الحب وأغاني الحزن، وذلك لانعدام قدرتها على السيطرة على عواطفها، والتحكم في خوالجها فهي خاضعة لشهواتها، أسيرة لغرامها، لا تعرف من الحب إلا (آهاته وأناته. . .)!.
ولننظر الآن في أغانينا لنحكم بأنفسنا على مبلغ ما وصلنا إليه فيها. . .
إنها بلغت درجة الإسفاف والانحدار تأليفاً وتلحيناً وبخاصة في السنوات الأخيرة، حتى أن الشعب أصبح على رغم صيحات الإنكار وصرخات الاحتجاج التي يرسلها المصلحون الناقمون على هذا التبذل الرخيص والمشفقون على الوطن، وشباب الوطن من هذا (اللون) المسترخي البغيض الذي يشيع في كل كلمة وكل لحن والذي تتناقله الألسن إما إعجاباً، أو محاكاة، أو ترديداً لا أكثر ولا أقل. . .!
أقول إن الشعب برغم كل هذا لا يحرك ساكناً، ولا يرسل صيحاته وإعجابه إلا للمغنى
الذي يبكي أمامه ويندب حظه وحبه ويبدي ذله ودموعه بشكل ضعيف سخيف، وإلا للمغنية التي تتأوه، وترثي حبها وحبيبها فتصف قلبها الذي أضناه البعاد، وحسنها الذي أذواه السهاد. . .
فإذا حاول مطرب بعد هذا أن يساهم في حركة الإصلاح فغنى مشيداً بتاريخ بلده العظيم، أو حاضاً على النهوض والوثوب أو مصوراً جلال الحضارة ورفعة المستقبل، لا يقابل إلا بالفتور.
فمن ذا الذي خدر أعصاب هذا الشعب، حتى غدا لا يستسيغ إلا الساقط المسترخي الذي لا يقوم على أساس ولا ينهض إلا على الأنين المدعى، والحنين المصطنع؟
من ذا الذي فرض تلك الأغاني التي لا فكرة فيها، ولا غرض منها إلا ابتذالها وانحلالها؟
للشهرة نصيب، وللجهل نصيب!
فقد انتهز بعض المشهورين بالنواح والبكاء فرصة هجعة الحياة المصرية ففرضوا (لونهم) على الشعب فرضاً، وسمموا حواسه وخدروها بالآهات المصطنعة، وبالأنات المفتعلة؛ ودأبوا طول هذه السنوات لا يغذونه إلا بهذا الغناء المسموم، ولا يسمعونه إلا موسيقى جافة ميتة، وإلا ألفاظاً ساقطة لا حياة فيها ولا فكرة تحييها، ولا غرض يسمو بها إلى أفاق المجد الذي تفيض به الأغاني الأجنبية حتى أصبحوا - الآن - حجاباً صفيقاً بين الشعب وبين نوابغه من الموسيقيين العباقرة الذين ظلمتهم الشهرة الطاغية، فوقفوا صامتين مقيدين لا تسمح لهم ضمائرهم بالهبوط إلى ذلك الدرك، ولا ترحمهم الحاجة الملحة إلى طلب القوت فترفع إليهم هذا الشعب الظالم نفسه وأهله.
لا أريد هنا أن أسمي بعض المطربين والمطربات، ولكنني أقول: إن بعضهم - وهم الذين يتحكمون في سوق الأغاني وفي سوق الإذاعة، وفي سوق التمثيل السينمي في هذا الوقت على الأقل - أقول إنهم قد اغتنوا واقتنوا ما يغنيهم عن استغلال أحط الغرائز الإنسانية التي لا تزال تتغذى منهم هذا الغذاء المجرم! ما الذي يمنعهم من أن يساهموا في هذه الطفرة المباركة التي ستنهض بالشعب عن طريق أغانيه؟ ما الذي يمنعهم من أن يتركوا البكاء ولعويل ويساهموا في رفعة الشعب فيعرضوا عليه ألواناً من الحماسة والشجاعة والوصف الطبيعي الجميل؟ إن تاريخنا مجيد سجدت له الدنيا، وإن حاضرنا عظيم بنفوس
أبنائه وهمة ملكيه الشاب المفدى، فلم لا نخرج للدنيا ألحاناً خالدة خالية من الحب، والغدر، والهيام السقيم واللون الإفرنجي الذي يخالف ذوقنا وفننا كما أشار بذلك سيد لشباب وحفيد إسماعيل. . .؟
إن بلادنا غنية بجمالها وجلالها، وإن شمسها وقمرها وسهولها وزروعها ونخيلها ونيلها، لو اتخذت موضوعاً للوصف والغناء لكانت فتنة للقلب، وسحراً للسمع، وإشادة صادقة بجمال صادق فذ فريد!
إن الشعب كالعجين في أيدي الشعراء، والزجالين، والمطربين والمطربات. . . يتشكل بالشكل الذي يريده هؤلاء جميعاً فلم لا نهيئه للجو الذي نريده ويريده مثقفوه؟ ولم لا نضطره إلى قبول هذا اللون الجميل الجليل بل إلى حبه وهو الذي يقبل منهم التافه المنحل. . .؟
إن الذين طبعوه على البكاء يستطيعون - لو أخلصوا - أن يطبعوه على حب المجد والتضحية ومسايرة الشعوب الحية الناهضة القوية، وإن الذين صوروه في هيئة الرجل الذي لا يعرف إلا قلبه وحبه، يستطيعون أن يصوروه في هيئة الرجل لذي لا يعرف إلا مجد وطنه وفخر أمته.
إن محطة الإذاعة يقع عليها جزء كبير من هذه التبعة فلن نكتفي منها بمحو كلمات (الذل، والهجر، والغدر) من الأغاني، بل نطمع في مساعدتها ومساهمتها في هذا المشروع العظيم بكل ما تملك من سلطة وقوة. . . نطمع منها أن تمنع بتاتاً (أهازيج الغرام، وأدوار الهيام) وإن تشجع هؤلاء الذين يتقدمون إليها بأغانيهم القوية تشجيعاً يحفزهم على مواصلة عملهم والتقدم بفنهم إلى الأمام أبداً. . .
عيها أن تضرب (بالشهرة) عرض الحائط، وستجد من الشعب المثقف ومن الصحافة خير مشجع لها ومشيد بفضلها.
إن الأمر لن يكلفها إلا القليل من الجرأة والإيمان بعدالة هذه القضية فهي متعاقدة مع بعض كبار الملحنين فلتكلفهم بتلحين جديد لكلام جديد. . . فإن عجزوا فالمباريات لن تعجز والجيل الجديد من الموسيقيين لناشئين لمثقفين لن يعجز!
اعتقد أن وزارة المعارف وهي التي تشجع الفنون على اختلاف أنواعها لن تظن على
الموسيقى بتشجيعها، وعلى رأسها وزيرها الأديب، ووكيلها لموسيقى بفطرته، ولذي يتمنى أن يرى الموسيقى قد أخذت مكانها الرفيع في التثقيف والتهذيب والتطريب القوي الذي لا انحدار فيه ولا استرخاء.
إن الوزارة لو اشتركت مع محطة الإذاعة في عمل مباريات تنظر فيها لجنة فنية من كبار الموسيقيين تكافأ بما يتناسب وجلال هذه المهمة لكنت خطوة موفقة، ولو كلفتهم الوزارة والمحطة بعمل قطع جديدة وكافأتهم مكافأة حسنة لكانت خطوة أكثر توفيقاً، وأكبر نجاحاً.
أيها الناس. . . لقد سئمنا الشهرة، وسئمنا هذا الاستغلال الذي يتنافر وشرف الفن، ومللنا هذا لبكاء المريض لذي لا يتفق وحضارتنا، وكبرياءنا.
نريد أن نحيا كما يحيا غيرنا. نريد أن نفخر بعزتنا، وبوطننا، وبملكينا الذي يود أن يسمو بالأغاني عن منطقة الدموع والشهوات والقلب والحب، والحسرات والزفرات. حتى لا يقال عنا إننا لا نعيش إلا لشهواتنا وقلبنا. . .!!
محمد السيد المويلحي
البريد الأدبي
النواحي الإنسانية في الرسول
قرأت كلمة للأستاذ زكي مبارك في العدد (297) من مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان، وقد بنى هذه الكلمة على أساس أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم لم تدرس حق الدرس إلى اليوم في البيئات الإسلامية، لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال، فهولا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلا بإشارة من جبريل.
ولو أن الأستاذ زكي مبارك رجع إلى ماضيه في الأزهر فقرأ شيئاً من كتب الأصول، لعرف أن المسلمين لم يكونوا بهذا الشكل الذي يصورهم به. وقد نعذر بعض المستشرقين إذا قال مثل هذا القول، ولكنا لا نعذر الأستاذ زكي مبارك، وقد تربى بين شيوخ الأزهر، ودرس الكتب الأزهرية، ووصل فيها إلى الحد الذي جعله يقدم نفسه من عامين لامتحان شهادة العالمية.
فليس بصحيح أن المسلمين يعتقدون أن النبي لا يتقدم ولا يتأخر في جميع أحواله إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلا بإشارة من جبريل، والذي يعرفه المسلمون جميعاً أن الوحي لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وسلم شأن في أمور الدنيا، حتى ورد عنه هذا القول المشهور:(أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقد قال هذا حينما رأى قوماً يؤبرون النخل، فقال لهم: لو تركتموه لصلح، فتركوه اتباعاً لقوله ففسد، فلما رجعوا إليه قال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
أما أمور الدين فقد جوز أكثر العلماء له الاجتهاد فيها بدون الوحي، وجوزوا عليه الخطأ فيها أيضاً، ولهذا عوتب في القرآن الكريم بقوله تعالى:(عفا الله عنك لم أذنت لهم) وبقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى).
وقد منع بعض العلماء أن يجتهد النبي في الأحكام من نفسه واستدلوا بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحي) وأجاب الذين ذهبوا إلى جواز ذلك بأن هذا مختص بالقرآن الكريم، وقد جاء رد لما زعمه المشركون من افترائه له.
فهل بعد هذا كله يصح أن يقول الأستاذ زكي مبارك: إن شخصية الرسول لم تدرس عند
المسلمين حق الدرس إلى اليوم؟ وهل من اللائق أن نتنكر لماضينا هذا التنكر؟
عبد المتعال الصعيدي
من ملك مصر والشام إلى ملك بيت المقدس
قاتلهم فكان خير مقاتل، وهادنهم فكان أفضل مهادن، وغلبهم فكان أكرم غالب، وتكلم في الحرب فكان القول زمجرة ونهيما، ونطق في السلم فكان الكلام عندلة وهديلاً، وللهيجاء لسان، وللموا دعة لغة. وكانت لهم في (بيت المقدس) مملكة استمرت مائة عام إلا قليلاً، ومات ملكها وبين (المغير والذائد) هدنة، فأرسل بهذا الكتاب معزياً، ونحن ننشره في (رسالة العرب والعربية) نموذجاً من أدب النفس والخلق العالي والسياسة الحكيمة.
إنه (صلاح الدين) تلميذ (محمد) خادم محمد، صلى الإله على محمد!
(كتب القاضي الفاضل عن السلطان (صلاح الدين يوسف ابن أيوب) إلى بردويل أحد ملوك الإفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه، معزياً في أبيه، ومهنئاً له بجلوسه في الملك بعده، ما صورته:
أما بعد: خص الله الملك المعظم حافظ بيت المقدس بالجد الصاعد، والسعد الساعد، والحق الزائد، والتوفيق الوارد؛ وهنأه من ملك قومه ما ورثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه، فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق، والنعي الذي وددنا أن قائله غير صادق؛ بالملك العادل الأعز الذي لقاه الله خير ما لقي مثله، وبلغ الأرض سعادته كما بلغه محله؛ معز بما يجب فيه العزاء، ومتأسف لفقده الذي عظمت به الأرزاء؛ إلا أن الله سبحانه قد هون الحادث، بأن جعل ولده الوارث؛ وأنسى المصاب، بأن حفظ به النصاب، ووهبه نعمتين: الملك والشباب. فهنيئاً له ما حاز، وسقياً لقبر والده الذي حق له الفداء لو جاز. ورسولنا الرئيس العميد مختار الدين أدام الله سلامته قائم عنا بإقامة العزاء من لسانه، ووصف ما نلنا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخلو مكانه، وودنا الذي هو ميراثه عن والده من ودادنا، فليلق التحية بمثلها، وليأت الحسنة ليكون من أهلها؛ وليعلم أنا له كما كنا لأبيه: مودة صافية، وعقيدة وافية؛ ومحبة ثبت عقدها في الحياة والوفاة، وسريرة حكمت بالدنيا بالموافاة؛ مع ما في الدين من المخالفات. فليسترسل إلينا استرسال الواثق
الذي لا يخجل، وليعتمد علينا اعتماد الولد الذي لا يحمل عن والده ما تحمل؛ والله يديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضي له بموافقة التوفيق، ويلهمه تصديق ظن الصديق)
ذلكم كتاب بطل المسلمين وقاهر الصليبين (صلاح الدين) وإن (معزي) ملك بيت المقدس هو (منقذ) بيت المقدس.
(الإسكندرية)
* * *
التصوف الإسلامي
أخي الأستاذ الزيات
يسرني أن أقدم إليك القصة الآتية: لما ظهر كتاب التصوف الإسلامي كنت أنتظر أن يقع من جميع الباحثين موقع القبول، ثم أزعجني أن يتلقاه بعض الناس بالكدر والامتعاض. وقد دلني ذلك على أن التضامن منعدم بين أدباء هذا الجيل.
وأعيذك أن تظن أني خائف على نفسي من لجاجة بعض الحاقدين. وكيف أخاف وذلك (البعض) واحد من جملة الذين عادوني وخاصموني ثم ارتدوا على أعقابهم خاسرين؟
أما الخوف على كتاب التصوف الإسلامي فهو لا يخطر في البال، لأن الكتاب سيشق طريقه إلى القلوب والعقول، ولو تظاهر الناس كلهم على دفع أمواجه الأدبية والفلسفية.
وإنما أشغل نفسي بهذه القضية لسببين: الأول حق التاريخ، والثاني حق الواجب.
أما حق التاريخ فهو تسجيل ظاهرة من ظواهر الأخلاق، لأن ذلك الأستاذ لذي يحارب كتاب التصوف الإسلامي هو رجل دفعت عنه كيد خصومه بكلمة قوية نشرتها في مجلة الرسالة، وما أمن عليه بما صنعت من جميل، وإنما أسجل أننا قد نخطئ مواطن الجميل في بعض الأحيان.
أما حق الواجب فهو دفع الأذى عن العقول التي تقبل على مؤلفاتي، فما يجوز أن أترك أنصاري عرضة لأراجيف المتقولين والحاقدين.
فما الذي عابه ذلك الأستاذ المفضال؟
1 -
قال: إني كتبت في التصوف ولست صوفياً، ولا يجوز عنده أن يكتب في التصوف
غير الصوفية!
وأجيب بأني درست التصوف من الوجهة الأدبية والفلسفية وقد وصلت من ذلك إلى ما أريد. أما القول بأني لست صوفياً فهو قول مردود، فتلك أسرار يعلمها الله ويجهلها الناس وأنا أكره أن أصف نفسي بالتقوى والزهد والتنسك لئلا أقع في بلية الرياء؛ وقد قلت ألف مرة إني أحب أن ألقي الناس بالفجور وألقي الله بالعفاف، وأنا راض عن نصيبي عند علام الغيوب.
2 -
وقال: إني لوثت كتاب التصوف الإسلامي بالحديث عن أبي العتاهية، وساق كلمة سفيهة وصف بها أبو العتاهية في كتاب الأغاني.
ولو أن هذا الناقد كان اطلع على كتاب (النثر الفني) لعرف قيمة الأخبار الواردة في كتاب الأغاني.
وهل يصح في حكم العقل أن نمحو أسم أبي العتاهية من سجلات الأدب بسبب كلمة سخيفة كتبها صاحب الأغاني؟
أنا لا أنظر إلى أبي العتاهية إلا من جهة واحدة: هي أنه أنشأ في الأدب العربي فناً جديداً حين نظم قصائده الزهديات.
ولن نستطيع أن نقاوم أبا العتاهية بعد أن أمد اللغة العربية بهذه الثروة الشعرية. وكيف نستطيع ذلك وفي المؤلفين من عد أبا العتاهية من أمراء الشعر في العصر العباسي؟
3 -
وعاب على أن أتحدث عن زهديات أبي نواس في كتاب التصوف الإسلامي.
وما لعيب في ذلك؟
أنا أتحدث عن الندم الذي عاناه أبو نواس يوم هداه الله إلى المتاب، فهل يغض ذلك من كتابي؟
وهل هناك فرصة روحية أعظم من فرصة الفاجر حين يتوب؟
وهل كان أبو نواس أسوأ خلقاً من بعض شعراء اليونان الذين بقيت آثارهم على وجه الزمان؟
إن الذين يعيبون على أن أتحدث عن زهديات أبي نواس في كتاب التصوف ينظرون إلى الأخلاق نظرة سوقية لا فلسفية، وأمثال هؤلاء لا يقام لآرائهم وزن وإن لبسوا مسوح
الرهبان.
4 -
وعجب حضرة الناقد من ألا أكتب عن الحلاج غير إحدى عشر صفحة، ولو أنه كان تأمل لعرف كيف اختصرت القول في الحلاج، لأن الحلاج درسه المستشرقون من قبل، وأنا أبغض الحديث المعاد.
وأنا مع ذلك أقول إن الصفات التي كتبتها عن الحلاج ستكون نبراساً لكل من يكتب عن الحلاج، ولن يستطيع باحث مهما اعتسف أن يجهل أني هديته إلى معالم الصواب.
5 -
وهناك مسألة سكت عنها هذا الناقد وتعرض لها بعض الأزهريين في كلمة نشرها بجريدة الدستور، وهي أنني قلت: إن الحلاج صلب كما صلب المسيح.
وأنا قلت ذلك في كتاب التصوف الإسلامي، ولكن له تأويل سجلته في الجزء الثاني من كتاب (ليلى المريضة في العراق).
وقد فرغت من طبع هذا الجزء قبل أن ينشر ذلك النقد بجريدة الدستور بأسابيع طوال.
وهل يفطن ذلك الناقد إلى السر في أن ينفي القرآن صلب المسيح؟
إن لذلك سراً سنذيعه يوم نأمن كيد الذين لا يهمهم غير مضغ الأحاديث، فقد شقينا بأراجيف الناس أعنف شقاء، ومن الله وحده ننتظر حسن الجزاء.
زكي مبارك
الفائزون بالمباراة الأدبية بين المدرسين
اعتمد معلي وزير المعارف النتيجة النهائية للمباراة الأدبية لتشجيع النتاج الفكري بين المدرسين.
وننشر فيما يلي أسماء الفائزين ومقدار المكافأة التي تقرر منحها لكل منهم.
في الأدب: الأستاذ فخري أبو السعود المدرس بمدرسة الرمل الثانوية وموضوع الرسالة (البارودي الشاعر) وقيمة الجائزة أربعون جنيهاً.
في التاريخ: الأستاذ عباس الخرادلي مدرس أول بمدرسة الأمير فاروق الثانوية وموضوع الرسالة (تاريخ الثورة الفرنسية) وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً. . .
(الخلافة والسياسة) للأستاذ فخري أبو السعود وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
في الكيمياء: (الكيمياء ومسائل الحياة اليومية) للأستاذ حسن عبد السلام مدرس أول بمدرسة بنبا قادن الثانوية وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
في الطبيعة: (الحسن بن الهيثم وجهوده في علم القوة) للأستاذ عبد الحميد حمدي مرسى المدرس بالأميرة فوزية وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
في النبات: (حياة النبات ومبدأ لسنابل) للدكتور عبد الحليم منتصر المدرس بكلية العلوم وقيمة الجائزة سبعون جنيهاً.
في الرياضة: (التحويلات الهندسية) للأستاذ حسن رضوان المدرس بالهندسة التطبيقية وقيمة الجائزة أربعون جنيهاً.
في الفلسفة والاجتماع: (أحلام الفلاسفة في المدينة الفاضلة) للأستاذ زكي نجيب محمود المدرس بالمدارس الثانوية وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
(روح القومية مقدمة الإصلاح الاجتماعي) للأستاذ أحمد خاكي المدرس بدار العلوم وقيمة الجائزة سبعون جنيهاً.
ولما كان من أغراض المسابقة إيجاد ذخيرة علمية وأدبية للطلاب وللجمهور في مصر باللغة العربية وخاصة في الموضوعات التي تنشر فيها مؤلفات عربية للآن فقد قررت الوزارة أن تقوم بطبع جميع الرسائل التي منحت جوائز، على ألا تطبع الرسالة إلا بعد إجراء لتعديلات التي اقترحتها اللجان العامة واللجان الفرعية وإقرار اللجان الفرعية للرسائل بعد تعديلها.
وستحتفل الوزارة في اليوم الثلاثين من هذا الشهر بقاعة المحاضرات بجامعة فؤاد الأول بتوزيع الجوائز عليهم، فيلقي معالي الوزير خطاباً، ثم يرد عليه أحد الأساتذة الفائزين بكلمة.
نشر الأدب العربي باللغة الفرنسية
نشرنا من قبل نبأ عن تأليف شعبة محلية لجمعية (جيوم بدييه) تكون مهمتها نشر كتب الأدب العربي القديم باللغة الفرنسية، رغبة في إيجاد صلة بين التفكير العصري وتفكير القدماء من أبناء لغة العرب.
ونذكر لهذه المناسبة أن جمعية (جيوم بدييه) قد درجت في فرنسا على ترجمة المؤلفات
التي صدرت باللغة اللاتينية ترجمة صحيحة باللغة الفرنسية.
وستبدأ الشعبة المحلية بترجمة كتاب عربي يقدمه معالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك وزير الأوقاف وتتوخى الجمعية في ترجمتها الحرص على إثبات النص العربي في أحد وجهي الكتاب وفي الوجه المقابل الترجمة الفرنسية.
وستطبع كتبها في مصر، ثم توزع في الخارج.
هافاس والرسالة
روت وكالة هافاس أن الحملة التي قامت بها مجلة (الرسالة) على الطرق بصفة عامة والتجانية بصفة خاصة قد أحدثت تأثيراً كبيراً بالمغرب، وأن قاضي سطات من كبار حملة الأقلام في المغرب الأقصى وهو من رؤساء هذه الطريقة قد ألف كتاباً صغيراً في الرد على مجلة الرسالة وسيطبع عما قريب بعاصمة تونس. وقالت الوكالة المذكورة إن لهجة هذا الكتاب على غاية من الحدة ضد الهادم للطريقة التجانية وخصوصاً ضد الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء بالجزائر.
هذا النبأ المفترى لا يوجد إلا في رأس مختلقة من أصحاب هذه الوكالة. وقد كذبت هافاس في هذا الخبر مرتين، فالرسالة لم تقم بحملة ما ضد الطرفيين، وهي أرفع من أن تقوم بحملة من هذا النوع، وكل ما كتبته في هذا الموضوع لا يتجاوز كلمة صغيرة للأستاذ علي الطنطاوي، كتبها تعقيباً على مقال للعلامة الحجوي مندوب المعارف بالمغرب أبان فيها أن الطرق - بصفة عامة - عديمة الجدوى، هذا إن لم تكن سبباً للتفريق بين جماعات المسلمين. والكلمة حق في حق لا تصل أن تكون حملة في الواقع؛ على أن الرسالة أفسحت المجال للشيخ محمد الحافظ التجاني للدفاع عن الطريقة التجانية بما لا تعد بعده أنها حملت على هذه الطريقة.
أما الكذبة الثانية فهي أن هذه الحملة الموهومة قد أحدثت تأثيراً كبيراً في المغرب، والقاضي الذي أشارت إليه الوكالة أكبر شأنه أنه تجاني متطرف من غلاة التجانين ليس أكثر. هذا علاوة على أن الطرقية بالمغرب خفت صوتها منذ أصبحت أداة مسيرة بيد رجال القبعات مختفية تحت أصحاب العمائم.
أما مجلة الرسالة الزاهرة، والأستاذ علي الطنطاوي المسلم المؤمن، والشيخ عبد الحميد بن
باديس المصلح الكبير، فهؤلاء جميعاً أكبر من أن ينتقدهم طرقي مذبذب في كتيب خرافي.
فاس - المغرب الأقصى
(ا. ن)
بكلية القرويين
في الفقه المقارن
أخرج الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي الطبعة الثالثة من كتابه (الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية والوضعية) وهو بحوث في الفقه المقارن عني فيها المؤلف ببيان فضل الميراث في الشريعة الإسلامية على غيرها بعد أن بين أحكام الميراث في الإسلام، وأحكامه في غيره من الشرائع السماوية والوضعية.
ويتناول المؤلف بعد بيان أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية، والمواريث في الشرائع القديمة: عند قدماء المصرين، وعند الأمم الشرقية القديمة، وعند العرب في الجاهلية، وفي الشريعة اليهودية، وعند قدماء اليونان، وعند قدماء الرومان؛ ثم المواريث في الشرائع الحديثة: في القانون الفرنسي، وعند الاشتراكيين.
وبعد ذلك يجري الموازنة في الميراث في الإسلام والشرائع القديمة والحديثة. ومن مواضع الموازنة: التسوية بين الذكور والنساء، التسوية بين الأخوة، إيثار أرشد الذكور، إعطاء البكر نصيبين. . . الخ
وقد سار في كل ذلك على نهج قويم من حيث بيان الأسباب المعقولة والأحكام، وقرع الحجة بالحجة؛ والكلام يتسلسل في أسلوب بين، سهل الورود، مسعف بالإفادة، إلى حسن تبويب ودقة ترتيب.
وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها بكثير من الزيادات والتنقيحات. ويقع الكتاب في 136 صفحة من القطع المتوسط. ويطلب من مكتبة الشرق الإسلامية بشارع محمد على أمام دار الكتب الملكية.
الأسماء العربية لجبال القمر
قرأت مقالة الأستاذ قدري حافظ طوقان، المنشورة في العدد 294 من (الرسالة)، بعنوان (القمر بين الحقيقة والخيال) فأعجبني ما جاء فيها من الحقائق العلمية الموضوعة بقالب يغري القارئ بمطالعتها. ولما كان حضرة الكاتب قد تطرق فيها إلى الكلام على جبال القمر، كما أنه ذكر أسماء بعضها، أحببت أن أؤيد كلامه بأمثلة أخرى من هذه الأسماء، تهمنا بنوعٍ خاص نحن الشرقيين، فأقول: كنت قد وقفت على كتابين بالفرنسية للعلامة الفلكي مورو أحدهما بعنوان (يوم في القمر) وثانيهما بعنوان (بحث في القمر). إن المؤلف يذكر في كليهما الأسماء الجغرافية التي أطلقها علماء الفلك من أبناء الغرب على جبال القمر، كما أطلقوا غيرها على سائر عوارضه السطحية. ومما يلفت الأنظار من هذه التسميات التي تعد بالمئات، تلك الطائفة التي اتخذت لها أسماء تعود إلى مشاهير التاريخ الشرقي، بل العربي على الأخص. وهاأنذا ذاكرها فيما يلي، مع ما يقابلها بالإفرنجية نقلاً عن الكتابين المشار إليهما:
أبو االفدا
ألغ
ثابت (بني قرة)
الحسن (بن الهيثم)
الزرقالي (إبراهيم بن النقاش الطليطلي)
المأمون
نصير الدين (الطوسي)
ولا يخفى أن أغلبية هذه الشخصيات كانت ذات يد طولي في علم الفلك وما يتصل به من العلوم الأخرى. فلا غرو أن يخلد ذكرهم بهذه الطريقة العلمية الصامتة التي قلما يعلم بها إخلافهم اليوم. وهلا تذكرنا هذه التسميات العربية بما يماثلها في كوكبنا الأرضي، حيث نجد مواقع عديدة سميت بأسماء مشاهير رجال العرب كجبل طارق وبلد الوليد والقاهرة والمدرسة المستنصرية وغيرها مما يطول سردها ويخرج بنا عما أردنا من هذه الكلمة. .
(بغداد)
كوركيس حنا عواد
رسالة النقد
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
- 2 -
ذكرنا في المقال السابق مظهرين من مظاهر عمل الأستاذين الفاضلين العوامري بك والجارم بك في شرحهما لهذا الكتاب، وهي العناية بالإعراب، والتطبيق على علوم البلاغة.
واليوم نذكر مظهراً ثالثاً هو الإكثار من ذكر أسماء المراجع اللغوية، فما نفتأ نرى أسم اللسان والقاموس والصحاح وشرح القاموس ولنهاية و. . . و. . . من غير حاجة إلى ذكر شيء من ذلك؛ لأن العادة جرت ألا يخص أسم مرجع بالذكر إلا إذا كان قد أنفرد من بين بقية المراجع بإيراد ما نستدل عليه أو نحتج به، فأما الأمور التي اشتركت فيها كل المرجع أو أغلبها فلا نرى داعياً للنص على المرجع إلا أن يكون ذلك إدلالاً بمعرفة اسم الكتاب أو حيازته. ونكتفي من الدلالة على هذا المظهر في عملهما بذكر مثلين وقعا في صفحة واحدة هي ص 29، قالا حفظهما الله:
(8)
الكُلوح (بضم الكاف) تكشر في عبوس. وقد كلح يكلح كمنع يمنع اهـ. من اللسان.
(9)
قال في القاموس: قطب يقطب قطباً من باب ضرب، وقُطوباً بضم القاف فهو قاطب وقطوب: زوى ما بين عينيه. اهـ.
والذي ذكر أنه من اللسان تراه في القاموس. قال (كلح كمنع كلوحاً وكلاحاً بضمهما تكشر في عبوس. والذي ذكرا أنه من القاموس تراه في كل كتاب غيره. قال في المصباح: (قطب بين عينيه قطباً من باب ضرب جمع. . .) ويتصل بأمر المراجع للغوية مسألة أخرى وهي الوقوف عند عبارات هذه المعاجم لا تزحزح معه ولا ريم منه مهما أدى ذلك إلى الإيهام أو الاشتباه بألفاظ لا يليق في ذوق الشارحين أن تقع عليها أعين الطلاب والطالبات. وذلك كقولهما في حاشية ص 64: الختن من كان من قبل (بكسر ففتح) المرأة كالأب والأخ والعم والخال.
أيدري القارئ لم اضطر الشارحان إلى تقييد كلمة قبل بكسر ففتح؟ ذلك لأنهما أرادا أن ينفيا شبهة قراءتها بضمتين فيقع المحظور الذي تتوقاه وزارة المعارف. ولكني أقول إن هذا الضبط الذي قصد به لفت النظر والفكر عن شيء غير لائق كان أدل شيء على ذلك الشيء. فأي داع إلى التزام هذا اللفظ خصوصاً بعد تنبه الشارحان إلى ما فيه من خطر على الطلاب والطالبات؟ لا نرى ذلك الداعي إلا وقوفهما عند ألفاظ المعاجم لا يرميان منها ولو قيد أنملة. وفي ألفاظ: جهة المرأة أو ناحية المرأة أو جانب المرأة ما يغنينا عن قولهما بكسر ففتح بين قوسين.
ومن ذلك أيضاً قولهما في حاشية ص 176: (6) المذاكرة مفاعلة من الذكر (بكسر فسكون) وهما لم يقيدا المفاعلة بأنها من الذكر (بكسر فسكون) إلا احترازاً من مفاعلة أخرى يكون الذكر فيها بضبط أخر غير ما ذكرا، وقد كان نفي هذه الشبهة أدعى إلى الوقوع فيها. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا نترك هذا المقام حتى نأتي فيه على أكثر ما لاحظنا من الجمود اللغوي لتكون تلك الملاحظات مجتمعة، وبذلك نكون قد عدنا إلى التبويب الذي رأينا ألا نتبعه في نقدنا هذا.
من الوقوف عند ألفاظ المعجم أن ترى الشارحين قد ألغيا عقلهما الحصيف ففرقا بين ما لا فرق فيه وعرفاً بما لا تعريف به، وظننا بعد ذلك أنهما قد أبليا عذراً في الشرح وحققا ودققا إلى أبعد غايات التحقيق والتدقيق.
وهاك فأسمع أيها القارئ أولها في صفحة 176 أيضاً:
(11)
قعر في كلامه تشدق وتكلم بأقصى قعر فمه وقيل تكلم بأقصى حلقه. لسان
وقبل أن نحتكم إلى الطبيب الشرعي أو الجراح العالم بتشريح الفم أؤكد وأشدد أنه لا فرق بين العبارتين وأنا أخالف مقدماً كل من يحاول إثبات فرق بين أقصى قعر الفم وأقصى الحلق.!!
كذلك تسمع قولهما في ص 161 عند قول الجاحظ فيمن لم يتخذ بناء البيوت للاستغلال وآثر دفع السكنى بأجر (وأنه قد أمن من الحرق والغرق وميل أسطوان وانقصاف سهم واسترخاء أساس) فهما يقولان: (6) السهم جائز السقف أو جائزته فماذا استفدنا نحن من تذكير لفظ جائز مرة وتأنيثه أخرى، ما دام المعنى قد صار أغمض مما كان؟ فهل يعقل
وقوع مثل هذا من عالمين فاضلين كالشارحين؟ إني أترك للقارئ الحكم على هذا العمل فالقول لا يتسع له.
وأعجب ما في عناية الشارحين باللغة أنهما حاولا أن يشرحا كل شيء حتى شرحا البديهي أو ما هو أوضح من البديهي. وقد تعجب من قولي أوضح من البديهي! ولكن أسمع، فهما في ص 73 يعلقان على كلمة أصبح بقولهما:
(1)
أصبح: دخل في الصباح!!. وهذه مسألة أخرى أثارها تفسير الشارحين لكلمة أصبح. هل نحن الذين ندخل في الصباح أم الصباح هو الذي يدخل علينا؟ وهل الصباح هو الواقف ونحن المتحركون، أم هو المتحرك ونحن الجامدون!!!
ماذا يسمي القارئ هذه العناية بالصغائر، وتفسير ما لا يحتاج إلى تفسير، والإغضاء عما في كتب السابقين من اضطراب، من رجلين وكل إليهما أمر إصلاح العربية في وزارة المعارف وفي مجمع اللغة؟!
نعود بعد ذلك إلى تتبع سقطات الشرح بحسب ترتيب الكتاب فنقول:
في ص 27 يقول الجاحظ: (ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة) فيضبط الشارحان كلمات: تبين وتعرف واستفادة بالكسر، ولا يتركان هذا الضبط دون تنبيه على سببه حتى كان يصح أن نحمل الخطأ فيه على الطابع الذي نحمله في كثير من الأحيان ما لا جناية له فيه، حتى لقد أسودت أعضاؤه وثيابه من تحمل غلطاتنا كما أسود الحجر الأسود من مسح الناس ذنوبهم فيه.
لم يترك الشارحان هذا الضبط الخاطئ من غير تعليق بل لقد علقا عليه بقولهما: (3) تبين بدل من أشياء. وأنا أربأ بكل قارئ عن أن أوجه إليه بيان الخطأ في ذلك فهو أمر ظاهر لكل من به مسكة من نحوية، ولكني أوجه قولي في ذلك إلى طلاب السنة الثالثة أو الرابعة من المدارس الابتدائية فأقول لهما إذا قلنا حضرني ثلاثة رجال محمد وعلي ومحمود، أليس محمد بدل بعض من لفظ ثلاثة لأنه بعضها، وإذا ضممناه إلى أخويه كان المجموع هو المدلول (ثلاثة) فكيف يجوز الإبدال من لفظ أشياء في جملة الجاحظ وهي بمثابة كلمة رجال في جملتنا هذه الصغيرة؟ ألم يقل النحاة إن البدل على نية تكرار العامل، فإذا أبدلت من كلمة رجال كان تقدير الكلام حضرني ثلاثة محمد وعلي ومحمود (بالإضافة). فهل
يسوغ هذا القول في ذوق أو فهم؟
هذه غلطة لو ضبطها أحد المفتشين لمعلم صب عليه غضبه وأعاده من الثانوي إلى الابتدائي وحرمه من العلاوة حين يجئ دوره فيها، بل إذا وقع فيها تلميذ في امتحان الابتدائية وكان نجاحه يتوقف على التسامح فيها لم ترض للمفتش غيرته على العربية أن يتسامح فيها ورسب التلميذ من أجل ذلك في الامتحان، وربما كان رسوبه قضاء على آماله فانتحر ولكننا نرى الشارحين قد وقعا فيها وأكداها بالتفسير والتعليق ومع ذلك لم ينقلا من عملهما ولم يحرما علاوة لهما، ولم. . . الخ.
وفي الصفحة عينها ينقل الجاحظ قول بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبي له: (لا تجزع فإنه أفتح لجرمه وأصح لبصره) فيعلق الشارحان على ذلك بقولهما:
(13)
أفتح لجرمه، الجرم الجسم وأفتح له: أعظم إنماء له. والمعجم الذي نقلا منه أن معنى الجرم الجسم، هو نفسه المعجم الذي يفسر الجرم بالحلق. فانظر إلى أي حد يتخط الصواب مع وضوحه، ويجنح للخطأ مع شناعته وبعد تصوره؟!!
وقبل أن تختم مقالنا هذا نرجو من حضرة صاحب المعالي وزير المعارف أن يلقي باله إلى كلامنا ويقيسه بمقياس العلم الذي ينشره أو الجهل الذي يحاربه. فوزير المعارف حريص على الحقائق خصوصاً إذا كان قد دفع من خزانة الدولة ثمناً باهظاً لها.
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى
المدرس بكلية اللغة العربية
المسرح والسينما
حديث الأسبوع
و. . . غلطة فنية أخرى
في نص القرار الذي صدر بتكوين (الفرقة القومية المصرية) ما معناه أنها أنشئت لتحمل رسالة ثقافية عن المسرح النموذجي ولتبذر في نفوس الشعب حب هذا المسرح ومولاة تشجيعه. . .
على هذا الأساس تكونت الفرقة وضمت إليها أقوى العناصر الفنية في الشرق وأقواها وأثبتها قدماً، وعلى أكتاف هؤلاء استقام البناء وطرق الشعب بابه، ثم عادوا بين مادح وقادح ومتفائل ومتشائم، حتى سلخت الفرقة من عمرها عاماً تركها بعده المخرج المعروف ومبعوث الحكومة في مسرح الأوديون (زكي طليمات) ليخدم المسرح عن طريق آخر ما دامت قد وقفت في وجهة أشباح المطامع والأغراض.
وظلت الفرقة في سيرها تتخبط، فاستدعت إدارتها خبيراً فرنسياً، ثم انتدبت بعد ذلك مخرجاً فرنسياً أيضاً ليعلم الممثلين المصريين التمثيل بلغتهم وليتولى إخراج مسرحيات لفظتها بلادها ورآها هو عندما كان يعمل مساعداً لأحد مديري المسارح المتنقلة في الريف الفرنسي (ريجسير) فنقلها كما هي فعدنا إلى الوراء سنين عديدة لنقلد ببغاء لولا أنه أجنبي ما وصل إلى مركزه.
حياة الظلام
اشترى ستديو مصر من الأستاذ محمود كامل المحامي حق إخراج قصته الطويلة (حياة الظلام) وعهد بإخراجها إلى المخرج الشاب أحمد بدرخان الذي بدأ العمل منذ أسبوع بعد أن أختار مجموعة فنية كبيرة لمعاونته.
و (حياة الظلام) قصة عاطفية تعبر عن نوع غريب من الحب العاصف الذي ربط بين قلب ساذج بكر وقلب أثملته تجارب الحياة الغرامية فامتلأ بالحب على أنواعه ومناحيه واستطاع أن يتفنن في الخديعة ويحسن الزيف ولكنه خضع أخيراً واستسلم. .
وهي أيضاً من نوع لم تألفه السينما المصرية إذ لم يستطع مخرج مصري أن يقدم على
طرق مثل هذا الموضوع والتفكير في إخراجه خشية الرقيب والتقاليد في الوقت الذي نرى فيه الشركات الأجنبية تفضل هذا الصنف من القصة العاطفية التي تتحدث عن (حياة الليل) وما نجاح (نانا) لأميل زولا ببعيد. . .
وعهدت إدارة ستديو مصر إلى الهر شارفنبرج بعمل (الديكوراسه) كما سيسجل الصوت فيه مصطفى والي وعزيز فاضل ويقوم بعمل (المونتاج) جمال الدين مدكور. أما من اختيروا للتمثيل فهم مجموعة فنية على رأسها الممثل الكبير زكي رستم ومنسي فهمي. أولهما في دور عبد الستار الشرقاوي، والثاني في دور الأب، ثم عبد الفتاح القصري، وأنور وجدي الذي سيمثل دور محمود الشيمي. ويأتي بعد ذلك دور احمد علوي بطل القصة وقد وقع الاختيار على وجه جديد ليقوم به. . . أما الأدوار النسائية فقد أسندت إلى السيدة أمينة شكيب وفردوس محمد وروحية خالد. ولعله ما يهم بعض متتبعي قصص الأستاذ كامل أن يعرفوا أن (للمواويل) نصيباً في فلمه، وسيغنيها عبده السروجي ومحمد الكحلاوي ومطربة ناشئة أسمها آمال.
رحلة الفرقة القومية
منذ زمن يرجع عهده إلى ما قبل انتهاء الدورة الأولى لهذا الموسم وإدارة الفرقة القومية تشيع إنها قد نظمت رحلة إلى الوجهين البحري والقبلي والمحافظات (لإعطاء الشعب الفكرة المثلى عن المسرحية العالية النموذجية وللارتقاء بإفهام الجمهور). ولكن الرحلة لم تتم وموعدها لم يحدد. وتسأل الناس هل عدلت الفرقة عن الرحلة أم أجلتها أم تراها في هذه الأيام تستعد للدورة الثانية التي تبدأها في الوقت الذي تقفر فيه القاهرة من مسارحها؟
والواقع أن الإدارة غير المستقرة هي السبب في كل هذا الارتباك وهي المسئولة عن تأجيل الرحلة وتعطيل العمل، وهي المسئولة أيضاً عن قرارها الذي صدر بتعيين موعد الرحلة وهو يوم 20 الجاري إلى الوجهين حيث تمثل بعض المسرحيات الناجحة. . .
وبتأجيل هذا الموعد لسبب من الأسباب التي تراها بعينيها الناقدتين. وعلى أية حال سواء قامت الفرقة بالرحلة أم لم تقم فقد أعدت للدورة القادمة مسرحياتها وهي (عطيل) و (تلميذ الشيطان) و (المال والبنون) و (رسالة المرأة)؛ وجميعها من إخراج فلاندر إلا (المال والبنون) فهي من إخراج جميعي.
إلى باريس
يعمل القسم الفني في شركة فنار فيلم تحت إشراف السيدة بهيجة حافظ للانتهاء من (مونتاج) النسخة الناطقة بالفرنسية من فيلم ليلى بنت الصحراء، وقد يتم ذلك في حوالي منتصف الشهر القادم إذ تكون النسخة قد أعدت (سالبة) وموجبة فتحملها بهيجة معها إلى باريس ليتم طبعها هناك.
ولرب سائل يسأل عن السر في اختيار باريس لطبع النسخة النهائية (ستاندرد) وبدورنا نقول له: إن هناك معامل تخصصت في إجراء بعض عمليات تكميلية فنية لا توجد في مصر؛ ثم إن شركة فنار فيلم ترى أن تقدم فلمها بعد إصلاحه على صورة جديدة تغاير الأولى بعض الشيء، فمن ذلك أنها اعتزمت أن تقدمه ملوناً بالألوان الطبيعية وفضلت لذلك لونين هما وأضافت إليهما في ذات الوقت اللون الأزرق الهادئ.
وستعرض النسخة الفرنسية أولاً في باريس والبندقية ثم تسافر إلى أمريكا، وفي هذا الوقت يكون الموسم السينمى الجديد القادم قد حل فتعرض في مصر والأقطار الشقيقة والبرازيل وغيرها.
مجنون ليلى
الحقيقة التي يجب أن أعترف بها أن الشقيقين بدر وإبراهيم لاما من أنشط الشباب الذي يعمل في السينما وأسرعهم إنتاجاً، ولكن. . . نتيجة ذلك الحتمية هي ضعف الإنتاج وعدم الإقبال عليه لأسباب عديدة يرجع أهمها إلى عدم وجود الدراية الكافية والاعتماد على شخصيات هزيلة ترضى بالتافه من النقود و. . . قلة توفر المال اللازم لمثل هذه المشروعات.
والحديث عن السقوط الشنيع الذي لقيه فلم إخوان لاما الأخير (ليالي القاهرة) يطول ويتفرع. . . أجل يتفرع من مآس كتلك التي تمخض عنها خيال الأخوين وأحد المخرفين من أتباعهما إذ زين لهما ضرورة إخراج قصة (مجنون ليلى) على الستار وهي لعمري جريمة فنية مزدوجة فيها جناية على اللغة العربية التي لا يعرفها أحد الأخوين، وجناية على الفكرة السامية التي أخذها الناس عن القصة، جناية على الشعر الذي وكل أمر نظمه
إلى أحد الذين يؤلفون لصالات الدرجة الثالثة في شارع عماد الدين.
وقدم الشقيقان لاما (سيناريو) مجنون ليلى إلى قلم المراقبة بوزارة الداخلية فأحسنت صنعاً بعدم الموافقة عليه (لضعفه و (سخافته)! ومنعاً لإساءة تنسب إلى خالد الذكر المرحوم شوقي بك) وكان طبيعياً أن يثور إبراهيم لاما محاولاً في لهجته الغربية أن يقنع القائمين بالأمر بأنه جدير بالقيام بأعباء هذا العمل وأنه على استعداد لتغيير أسم القصة وجعله (قيس ليلى).
والعقبات التي ذكرت يمكن تذليلها، ولكن الشيء الوحيد الذي يجب أن يذكره الجميع هو أن يطالبوا بإيقاف هذين الأخوين عند حدهما ونصحهما بأن ما لديهما من ملابس بدوية سابغة لا يكفي لنجاح قصة شعرية لها مكانتها في العالم العربي، وأنهما إذا يحاولان إخراجها يسيئان إلى نفسيهما وإلى اللغة وإلى أفكار الناشئة.
حوريس