المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 299 - بتاريخ: 27 - 03 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٢٩٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 299

- بتاريخ: 27 - 03 - 1939

ص: -1

‌المسلمون والإسلام

رسالة الأزهر. . .

دار الرسالة - وبفضل الله - ملتقى مفكري الإسلام العرب وغير العرب، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يزورونها أول ما يزورون من معاهد الثقافة بالقاهرة، فنتناقل الحديث ونتذاكر الرأي في موقف المسلمين اليوم من قراع المذاهب، وصراع القوى، واهتلاك الدول في التسلح بالعلم والدعاية والعدة، واحتفاز الأمم في التقوى بالتعلم والعمل والإنتاج، فنتبين من وراء الحديث أن الإسلام في غير بلاد العرب خلط عجيب من العقيدة السالفة، والصوفية الزائفة، والأساطير الموروثة، والتفاسير الخاطئة؛ ثم استحال هذا الخلط على تراخي الزمن وانقطاع الصلة واستعجام اللسان إلى مُر قد يعوق عن السعي، ويمنع من النظر، ويصد عن الفكر، ويذهل شاربيه عن حركة الوجود وسير الفلك. فالمسلمون في ألبانيا ويوغسلافيا من بلاد المغرب، وفي الصين وجزائر الهند من بلاد المشرق، يتميزون عن مواطنيهم بزهادة كالبلادة، وجهالة كالموت، وتوكل كالتواكل؛ ويتوهمون أن الإسلام ليس من شأنه الدنيا، وأن المسلم ليس من همه المادة، وأن ما هم فيه من رنق العقيدة وظلام الفكر وخدر الشعور إنما هو روح الدين ورضا الله وطريق الجنة. ثم لا يعدمون أن يجدوا مصدقاً لما يزعمون فيما يقرءون من الأحاديث الموضوعة والأخبار المصنوعة والأقوال الملفقة. فإن من محن الإسلام حين ضعف أهله وزال سلطانه، أن امتزجت به كل نحلة، وسرت إليه كل علة، وتراءت فيه كل حالة؛ فكل امرئ واجد فيه ما يلائم استعداده ويناسب فهمه. وإذا كان حاصلاً بين العرب وهم أصحاب الدين وأهل اللغة، فما ظنك بغيرهم ممن بلغتهم الدعوة مترجمة عن طريق الفرس أو عن طريق الترك بالتجارة أو بالفتح؟

لقد عصفت بالعالم كله عواصف هوج من السياسة والاقتصاد فلم تدع

فيه ساكناً إلا حركته، ولا بالياً إلا جرفته؛ وكان لابد للعالم الإسلامي

أن يهب على دوي هذه الزعازع، فنهض شبابه يستعدون بعدة الناس،

ويتجهزون بجهاز العصر؛ ولكن شيوخه الوانين أخذوا يعوقونهم عن

ص: 1

الأهبة والسعي بكلام ينسبونه إلى الله والله منه برئ. ثم كان من أثر

تلك الهبة العامة وهذه الحالة الخاصة أن نفر من كل قطر من أقطار

الأرض طائفة من شباب الإسلام إلى مصر ليتفقهوا في الدين ويتضلعوا

من اللغة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، فيكونوا شهادة صادقة لحقيقة

الإسلام، وقدوة صالحة لنهضة أهله.

ومصر اليوم وقبل اليوم هي بفضل الأزهر موئل اللغة ومعقل الدين ومشرق الهداية. والأزهر على الرغم مما يؤخذ عليه هو بفضل ما مكن الله له في التاريخ، وهيأ له من الموضع، وأتاح له من المال، أقدر على تبليغ الرسالة العظمى، وتوجيه الأمة الكبرى، وتصحيح العقيدة العليا، إذا صدق رجاله الجهاد، وأخلصوا النية، وأحسنوا العمل، وذكروا أنهم جنود الله يرمي بهم العدو في كل وقت وفي كل أرض وفي أي صورة، فيعيشون للموت كالجند، ويعملون للحياة كالقادة، ويعزفون عن الدنيا كالرسل. والإمام المراغي هو في رأينا خير من يضطلع بما يفهم المثقفون من رسالة الأزهر إذا لم ينله ما نال الأستاذ محمد عبده من اضطراب الريح حول مصباحه، وانبثاث العوائق الخازلة أمام إصلاحه؛ فإنه من أفهم الناس لمعنى الدين وروح العصر ومقتضى الحال.

ورسالة الأزهر التي يريدها الله ويرجوها الناس هي:

1 -

تنقية الإسلام من العقائد الواغلة والمذاهب الباطلة والعادات الدخيلة. وسبيل ذلك أن يفسر القرآن على هدى الرواية الصحيحة، وفي ضوء العلم الحديث، تفسيراً يجمع بين ما صح من أقوال السلف، وما صلح من آراء الخلف؛ ثم يؤلف في الحديث كتاب جامع لما لا ريب فيه من الكتب الصحاح، ويستعان على شرحه وتبويبه بعلوم التاريخ والاجتماع والأخلاق والفلسفة؛ ثم يصنف في الفقه كتاب شامل على المذاهب الصحيحة يوضع متنه مواد كالقانون، ثم يشرح شرحاً فنيا يستوعب أصوله، ويستقصي فروعه، في غير حشو ولا استطراد ولا تعمية. ثم تكون هذه الكتب الثلاثة المطولة مادة الدراسة ومرجع القضاء ومصدر الفتوى؛ فتقرر في الأزهر، وتنشر في الجمهور، وتترجم إلى أكثر لغات الشرق وأشهر لغات الغرب؛ ثم ترسل إلى كل بلد يعرف الإسلام أو يريد أن يعرفه. أما ما عدا

ص: 2

ذلك من الكتب، فما كان صحيحاً بقى في المكاتب بقاء الآثار في المتاحف، يرجع إليه الأخصائي والمؤرخ؛ وما كان زائفاً صنع به ما صنع عثمان بكل مصحف غير مصحفه

2 -

إعداد الوعاظ والدعاة من أهل اللسن والخلق والورع، وإمدادهم بالثقافة الحديثة واللغات الحية، وإيفادهم إلى الأمم الإسلامية البعيدة عن مهبط الوحي وموطن العروبة. ويدخل في ذلك العناية اليقظة بالبعثات الإسلامية في الأزهر، فإنهم أقدر من غيرهم على إرشاد قومهم باللغة والقدوة والنفوذ

3 -

جعل اللغة العربية لغة المسلمين كافة، فيكون لكل مسلم في الأرض لغتان: لغة لوطنه الأصغر، ولغة لوطنه الأكبر. والوسيلة أن تحمل المشيخة أقطاب الرأي في البلاد الإسلامية، بالمفاوضة أو بالائتمار، على أن يجعلوا تعلم اللغة العربية والتكلم بها إجبارياً في مراحل التعليم المختلفة، وأن تتكفل بإرسال المعلمين من المتخصصين في الأزهر، فإن في شيوع العربية بين المسلمين تمكيناً لفهم الدين وتثبيتاً لمعنى الأخوة

ذلك ما يجب أن يقوم به الأزهر؛ وذلك ما يضمن للإسلام الجدة، ويكفل للمسلمين الوحدة، ويجعل للرأي المحمدي سلطاناً يخشى في الحرب ويرجى في السلام

احمد حسين الزيات

-

ص: 3

‌رقص ورقص

للأستاذ عباس محمود العقاد

كان شتاء هذا العام في القاهرة موسماً عامراً بالمتعة الفنية التي تنتقل إليها.

شوهد فيه معرض التماثيل الفرنسية، وشوهد فيه معرض بل معارض شتى للصور المصرية، وشوهد فيه تمثيل فرقة من أحسن الفرق الإنجليزية لروايات من أحسن الروايات القديمة والحديثة، وشوهد فيه أو سمع فيه شريط شامل لأغاني الموسيقار العظيم جوهان شتراوس، الذي يقال بحق إنه أرقص الكرة الأرضية في مدارها؛ إذ لم يبق في المغرب ولا في المشرق إنسان يرقص على الأنغام الفنية المهذبة إلا وقد رقص على أنغام جوهان شتراوس.

عازف عظيم تفيض ألحانه بالمرح والطرب والشباب والحياة. بلغ مبلغ القادة أصحاب الفرق وهو في الحادية والعشرين، وعزف للملوك والملكات فغلبهم على وقار العرف، ووقار العرش، ووقار السن، في كثير من الأحيان. وما في التاسعة والأربعين عن مئات من أدوار الرقص على اختلافه، وخرج من العاصمة الإنجليزية قبيل موته في أسطول من الزوارق التي تحييه بالغناء والهتاف. . . وأوصى بعد كل هذا النجاح وكل هذا الطرب وكل هذا السرور الذي أمتع به الناس. فبماذا أوصى؟

بأعجب ما يخطر على بال. . . أوصى ألا يتعلم أبناؤه الصناعة الموسيقية أبداً، وأن يختاروا ما شاءوا من الصناعات إلا صناعة أبيهم. . . فأنبأنا بذلك نبأ ليس بالجديد، وإن كان لنسيان الناس إياه قد يحسب من الجديد الغريب: ذلك أن حياة الفن حياة فداء لأنها حياة فتوح. فما من فنان عبقري إلا وهو فاتح بمعنى من معاني الفتح والجهاد؛ وكل جهاد فداء، وكل فداء فيه ألم محقق، وللنصر بعده سرور مشكوك فيه، لأنه سرور يتمناه من قد حرمه من النظارة المتفرجين. . . أما صاحبه فقلما يحسه من قريب.

على أن أبناءه قد خيبوا حنانه وإن لم يخيبوا ظنه، فقد نشأوا جميعاً موسيقيين ناجحين مشهورين، وأوشكت إعمالهم أن تلتبس بأعمال أبيهم، ولم نسمع أن أحداً منهم أوصى بمثل وصيته في ساعة الوفاة، ولم نسمع بأعقاب لهم في عالم العزف والغناء!

كانت الليلة التي قضيناها في سماع (شتراوس) من ليالي الفن النادرة؛ وكانت دار الصور

ص: 4

المتحركة مكتظة بالسامعين؛ وكان تسعة أعشارهم من الأوربيين، والعشر الباقي من المصريين الذين لا يسيغون ما يساغ من ذلك الغناء الشائع في بلادنا، إن صحت تسميته بالغناء.

وسألنا أنفسنا: أين يختلف الفنان وهما على حسب المفروض أو المظنون من معدن واحد؟

إن موسيقى شبراوس إحدى الموسيقات التي يصح أن تسمى غنائية بسيطة تمييزاً لها من الموسيقى العويصة المركبة التي يريدها عشاق فاجنر، أو الموسيقى العقلية الصافية التي يذيعها في هذا العصر ستافنسكي فإذا كانت هذه الموسيقى الغنائية لا تساغ في مصر فما الفارق بينها وبين موسيقى الغناء الشائع بين الجمهرة (السامعة) من سواد المصريين؟

الفارق أنك لا تستطيع أن تضع موسيقى شتراوس على لسان حيوان.

فهي تمثل المرح، ولكنه مرح الفكر الإنساني حين ينشط فيملى نشاطه على الحواس والأعضاء.

فالراقص على أنغام شتراوس إنما يرقص لأن له نفساً إنسانية قد شاع فيها السرور فنهضت بالجسم الذي هي فيه إلى الحركة الموزونة والنشاط المنسوق.

أما المرح الذي تمليه الأغاني السقيمة عندنا فهي تمثل الحيوانية كما مسخها الإنسان حين استغرقها كلها في الشهوة والخلاعة، والحيوان لا يعرف الخلاعة في الشهوات كما يعرفها الإنسان الممسوخ

ومرقصات شتراوس لا تخلو من بعض الشجا وبعض الأنين ولكن أي شجا؟ وأي أنين؟

شجا إنسان وأنين إنسان.

أنا هذه الشكايات التي نسمعها في الأغاني السقيمة فليس فيها قط ما يستكثر على حيوان.

فإن الحيوان ليحس الانقباض ويحس الألم، وإذا ضرب أو سقم فترجمت شكايته كلاماً عربياً فليس بالكثير عليه أن يقول (آه) وأن يذكر اللوعة والسهر والصيام عن النوم والطعام

أما الأنين الذي يريك فكراً يتألم، أو يريك معنى إنسانياً في حالة الشكاية والقنوط، فذلك شيء مختلف جد الاختلاف عن هذه الكلمات التي لا تعدو أن تكون صرخات حيوان، مترجمة إلى عبارات إنسان

ص: 5

ومن الظلم للفن أن نطلق اسم الفنون على هذه الأغاني المرقصة التي تهتز لها أعطاف بعض السامعين في الأقطاب الشرقية

فالحق أنها نقيض الفنون في جوهرها المشترك بين جميع المعاني الفنية

لأن الجوهر المشترك بين جميع المعاني الفنية هو تغليب الفكرة على المادة، أو سيطرة المعاني على الأشكال

فالرخام مادة تتغلب عليه فكرة الفنان فإذا هو مثال لمعنى من معاني الجمال

والكلمات مادة مبعثرة تتغلب عليها فكرة الشاعر أو الكاتب فإذا هي وحي ناطق بأحاسيسه ومعانيه

والجسم مادة تتغلب عليه الحركة الموزونة فإذا هو رقص يريك كيف تساق الأعضاء في مطاوعة الألحان والأصداء، وكيف تخضع الأجسام لإملاء النظام والرواء

كل فن فهو فكرة غالبة على ما على مادة، أو معنى غالب على شكل، أو فوضى ممثلة في صورة جميلة

فما هي المرقصات التي تهز الأعطاف بين جمهرة السامعين من سواد الشرقيين

هي نقيض ذلك

هي غلبة الجسدي على المعنوي، وهي طغيان المادية على المطامح الإنسانية، وهي انقياد وليست هي بإخضاع وترويض وتنظيم

هي الشيء الذي يذهب سفلاً حين يذهب الفن صعداً، وهي الفتور الذي يهبط بالأجسام إلى مهاوي الشهوات، وليست هي بالنشاط الذي يطير بالأجسام في فضاء المرح والطلاقة

وقد تسف وتنحدر من سماء شتراوس إلى حضيض (الجازنبد) الذي لا شك في غلبة الشهوات عليه، فهل من عين بصيرة يغم عليها الأمر فلا تبصر الفارق بين شهوات الجازبند وشهوات المرقصات المعهودة في هز الأعطاف وتحريض النزعات؟

الجازبند مرح جسدي ولكنه مرح حيوان صحيح ممتلئ برغبات الحياة يصول في حركة حية لا تعرف الإعياء

أما (هز الأعطاف) المعهود فهو مرح جسدي أيضاً ولكنه يذهب بصاحبه إلى السرير ولا يندفع به اندفاع الحيوان القوي السليم

ص: 6

وفرق بين حيوان في سلامة الحيوانية، وحيوان يضاف إليه مسخ الإنسانية، ولا يظفر من الحيوانية بالصحة واستقامة الفطرة

فرق بين رقص شتراوس ورقصنا، بل فرق بين رقص الجازبند ورقصنا، لأن رقص شتراوس معنى إنساني، ورقص الجازبند فطرة حيوانية، ورقص الأغاني المبتذلة عندنا قد خلا من أجمل ما في الإنسان، واجمل ما في الحيوان، وجمع المسخ والتشويه في هذا وذاك

لم يكن شأننا كذلك في الزمن القديم، لأننا نرى على المعابد الفرعونية صور الراقصات والراقصين، ونرى في الريف المصري مثالاً متخلفاً من رقص الرجال والنساء، فلا نجد في هذه المناظر المرسومة أو المشهودة خلاعة ولا شهوة ممسوخة، بل نجد فيها جميعاً ما أسلفناه من غلبة المعاني وانقياد الأجساد، أو نجد فيها صحة الفطرة واستقامة البنية الحيوانية. ولا ندري متى نعود إلى ما كنا عليه، أو متى ندين بدين الفن الجميل في تغليب النظام على الفوضى، والفكرة على المادة، والمعاني الإنسانية على الدوافع الجثمانية. ولكننا ندري أننا عجزنا زمنا طويلاً عن إخضاع أجسادنا لأفكارنا أيام كنا بأجسادنا وأفكارنا خاضعين لغيرنا. . . فقد حان إذن موعد الخلاص من قيودنا، ولن تزال فينا بقية من قيود الأسر والاستعباد، ما بقيت الفنون عندنا فنون أجساد أو فنون استسلام وانقياد.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌أما لهذا الليل من آخر؟

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

إن المسلمين اليوم في ليل أليل لم يبق بأيديهم من مجد آبائهم إلا الذكرى، ولا يكاد يبقى في قلوبهم من عزة دينهم إلا القليل. لكن العجيب أن هذا القليل كلما بدأ ينمو ويشتد كما تنمو الحبة في الأرض الطيبة إذا أصابها غيث، نجم للدين من بين من أنعم الله عليهم من أهله بنعمة البيان من يصرف بيانه في ما من شانه أن يعوق ذلك النمو. وليس يهم أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد فإن النتيجة للمسلمين واحدة في الحالتين

ومن أقرب الأمثلة لهذا وأغربها الكلمة التي أرسلها على الناس للكاتب المعروف الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي في رسالة هذا الأسبوع. فقد كتب يعجب مما سماه قيام القيامة في الجامعة (ضد كتابين قيمين) لاشتمالهما على طعن في الإسلام، ويزعم أن هذا الذي سماه فزعاً من كل كلمة تمس الإسلام أكبر مسبة لهذا الدين العريق العميق، لأنه يوهم إنه دين ضعيف يخشى عليه من طعن الطاعنين مع أنه دين متين ثبت على الأحداث فلا خطر عليه من كتاب يؤلف أو عبارة تقال طعناً فيه. ثم يمضي فيعرب عن دهشته أن يكون مظهر هذا الفزع في الجامعة التي فيها شباب (انغرست في قلبه العقيدة الحارة فلا خوف الآن عليه من مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية) ويختم بقوله إن صحة العقيدة كصحة الجسم لا بد لها من الهواء الطلق لتكتسب المناعة، ولا خير لها في أن تحاط ببيت من زجاج

هذا ما قاله الأستاذ توفيق الحكيم كأحسن ما نستطيع أن ننصفه به في التلخيص

انه أولاً يكتب من غير أن يعرف فيما يبدو حقيقة المسألة التي يكتب فيها. لأن المسألة قي أحد شقيها على الأقل ليس فيها شيء يتعلق بمناقشة المسائل العقلية في جو الحرية، لأن أحد الكتابين المشكو منهما على الأقل ليس بكتاب مسائل عقلية تدرس وتناقش في جو من الحرية أو من غير الحرية ولكنه قصة كبعض قصصه هو ورد فيها ذلك الطعن الممجوج على لسان بعض أشخاصها.

فليت شعري كيف فات الأستاذ توفيق الحكيم معرفة ذلك حين كتب عن (مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية؟) أم كيف، وقد عرفه، فأنه أن ينصف الطلبة حين شكوا من ذلك

ص: 8

الكتاب؟

ثم هو فيما يظهر لا يجعل الناس سواسية في حرية القول والتفكير التي يدعو إليها، وإلا فلماذا لا يترك للطلبة الحرية في أن يشكوا مر الشكوى أو حلوها ويقيموا القيامة إذا شاءوا على كتابين يطعنانهم في شيء يعزونه ويقدسونه ولا يريدون أن يسمعوا فيه طعناً ولا تجريحاً؟ أفمن الحرية أن يقرر في الجامعة من قرر دراسة ذينك الكتابين، ولا يكون من الحرية أن يشكو الطلبة منهما كي يستبدل بهما غيرهما من الكتب الأدبية الراقية الكثيرة الخالية من الطعن في الإسلام؟ أفيعاب الطلبة أو الشباب ذوو (العقيدة الحارة) أن يغضبوا لدينهم فيأبوا أن يقرءوا طعناً فيه، ويطالبوا بتحقيق المصلحة لهم من غير إلحاق مضرة بهم في الدين، ولا يعاب من اختار ذينك الكتابين للدراسة عن جهل بما فيهما أو عن استهانة بالشعور الديني في المسلمين؟

إن الذي يقرأ كلام توفيق الحكيم يظن أن الطلبة أكرهوا على ترك كتابين حبيبين إليهم خوفاً على الدين في نفوسهم من طعن ورد فيهما، ويفهم أن الكاتب يشير إلى أن هناك تعدياً على حرية التفكير والدرس باسم الدين. والأمر بالعكس، فحرية التفكير والدرس تقضي بالا يدرس ذانك الكتابان في الجامعة لأن الذي سخطهما هم الطلبة الذين يريد توفيق الحكيم لهم حرية الدرس والتفكير. فهل حرية التفكير والدرس عند توفيق الحكيم ليس معناها حرية الدرس والتفكير؟ إن الطلبة هم الذين شكوا أولاً إلى الأستاذ وأبلغ الأستاذ شكواهم إلى العميد، فلما لم يشكهم العميد اعتماداً على ما يعتمد عليه توفيق الحكيم من أن الدين لا خطر عليه جهروا بشكواهم للجرائد، فاهتم بالأمر شيخ الأزهر ووزير المعارف وكان أن سحب الكتابان. فإذا كانت هذه قيامة فمن الذي أقامها؟ من طلب تغيير الكتابين في هدوء بالطريق القانوني أم من أبى عليهم ذلك التغيير برغم كثرة الكتب الأدبية القيمة البريئة من الطعن في الدين؟

إن المناعة في العقيدة التي يطلبها الأستاذ الحكيم للطلبة وللناس هي بالفعل عند هؤلاء الطلبة الذين أبوا ذنيك الكتابين. وما هي المناعة في العقيدة إن لم تكن هذا الإباء إباء الإصغاء للطعن في الدين من غير موجب ولا داع؟ وما هي إن لم تكن إقامة القيامة على كل ما يسئ إلى الدين في النفوس؟ إن أول ما يفعله الجسم امتناعاً على الأمراض هو ألا

ص: 9

يسمح لجراثيمها بدخول الجسم إن أمكن. ومن هنا تجمد الدم أو محاولته أن يتجمد على الجرح ليسده دون الجراثيم. ومن هنا المصفيات والمطهرات المختلفة في مداخل الهواء والغذاء إلى الأجسام. أما إذا دخلت الجراثيم فليس للجسم وسيلة إلى الامتناع منها إلا شن الغارة عليها وإقامة القيامة ضدها على حد تعبير الأستاذ توفيق الحكيم. وهذا بالضبط هو ما فعله الطلبة حين أحسوا من ذينك الكتابين بالجراثيم التي تتهدد صحة العقيدة والدين فيهم. وقد كتب الله لهم النصر في الدور الأول من أدوار الامتناع والكفاح فسدوا الجرح الذي يمكن أن تدخل منه تلك الجراثيم، وكفاهم بذلك الحاجة إلى كفاح تلك المطاعن بعد دخولها في النفوس

ومن العجيب أن يشبه الأستاذ الحكيم قراءة المطاعن الدينية وعلاقتها بصحة العقيدة بالمعيشة في الهواء الطلق وعلاقتها بصحة الجسم. إنه تشبيه مقلوب على أقل تقدير. ولا ندري كيف أمكن أن يغيب خطؤه وخطله عن مثل الأستاذ! إنه لا يستقيم إلا إذا كان تعريف الهواء الطلق عنده أنه الذي تكثر فيه الغازات الفاسدة والجراثيم. فإذا لم يكن هذا تعريف الهواء الطلق عنده فأنا نرجو أن يرى بعد ما بين تنفس الهواء الطلق وقراءة المطاعن الدينية، كما نرجو أن يرى في ضيق صدور الطلبة بما في الكتابين من مطاعن دليلاً على فساد جوهما الروحي، كما يدل على فساد الهواء ضيق الصدور به عند المتنفسين

لكن لعل أعجب ما في مقال الأستاذ الحكيم جعله متانة الإسلام وثبوته على أحداث الزمان وسيلة إلى استئناس الناس لاستماع الطعن فيه بحجة أنه لا خطر على الإسلام من طعن الطاعنين؛ فإذا أبى الناس أن يستمعوا الطعن طاعن وغضبوا لدينهم عد ذلك الغضب منهم فزعاً، وقال هذا الفزع أكبر سبة لديننا العريق العميق. هذا غريب من القول وعجيب من الاستدلال. إن الإسلام متين ثابت حقاً، لكن متانته وثبوته لا يمكن عند المنطق السليم أن يكونا مبرراً لترك خصومة يعملون المعاول فيه اتكالاً على أنها لا تضره. إنها لا تضر مبادئه وأصوله في ذاتها ولكنها تضره في نفوس أهله الذين لا يهبون لدرء الأذى عنه حين يرون خصومه جادين في الاستهزاء به والطعن عليه. إن الذي يصيبه الأذى بالسكوت على الطعن في الدين هو التدين في نفس المتدين الساكت. وإذا استمر على السكوت

ص: 10

فسيسلمه من غير شك إلى الهلاك

ولست أدري كيف غاب عن الأستاذ الحكيم أن المسلمين لو كانوا راضوا أنفسهم منذ بدء الإسلام على ما يريد الآن أن يروضهم عليه من السكوت على الطعن في الدين ما ثبت الإسلام للأحداث ذلك الثبوت الذي يتخذه الآن حجة يخطئ بها الناس في غضبهم للدين. ولماذا نذهب بعيداً؟ لنفرض أن المطعون فيه من غير عقل ولا روية هو توفيق الحكيم وفنه ومقدرته. ولنفرض أننا خاطبناه بما يخاطب به الناس فطلبنا إليه ألا يغضب ولا يدفع عن نفسه ولا يدع أحداً من أنصاره يغضب له أو يدفع عنه، لأن فنه ظاهر العبقرية فلا خطر عليه من طعن طاعن مبطل، ولأن الغضب والدفاع يوقعان في الوهم أن فن توفيق الحكيم ضعيف لا يثبت على الطعن والتجريح؛ ولنفرض أنه وأنصاره عملوا برأيه هذا فلم يغضبوا له، ولم يدفعوا عنه، ماذا يبقي على هذا من فن توفيق الحكيم أو صيته بعد قليل؟ لا شيء، فسيألف الناس حتى أشدهم تعصباً له سماع القالة فيه، وسيهون أمره عليهم بالتدريج حتى يدخل عليهم الريب في أمره ويسلمهم الريب إلى تصديق كل ما قيل فيه

على أن الناس، مهما فاتهم بتغيير رأيهم في توفيق الحكيم من نعمة التسلي بفنه وقصصه، سيظلون هم الناس لم يمسس أرواحهم خطر ولا سوء. لكن ليس الأمر كذلك إن هم ألفوا الطعن في الدين وصاروا إلى الرضا به والسكوت عليه. إنهم سيهلكون حتماً في الآخرة إن لم يهلكوا في الدنيا، أو على الأقل هكذا يعتقد الناس. وسيعتقد ذلك معهم توفيق الحكيم حين يقرأ ما قرءوا من قوله تعالى:(وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. إنكم إذن مثلهم. أن الله جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعاً.)

والقيامة التي قال توفيق الحكيم إنها قامت ضد الكتابين في الجامعة ليست بأكثر ولا أقل من إصرار الطلبة على تغيير الكتابين المستهزأ فيهما بدين الله بآخرين ليس فيهم استهزاء. فماذا في طلبهم هذا يا ترى مما يجعل مثل الأستاذ الحكيم يسميه قيامة ويرسل من أجله سهامه على الناس من برجه العاجي؟

على أنه سواء أقامت القيامة بعملهم ذلك أم لم تقم فإن الطلبة الذين استجابوا لصوت ضميرهم في ذلك إنما كانوا عاملين بتلك الآية الكريمة من حيث علموها أو من حيث لم

ص: 11

يعلموها، فهم فيما عملوا كانوا من غير شك على صواب. وسيجزيهم الله خير الجزاء من فضله على ما جاهدوا في سيل الإسلام.

محمد أحمد الغمراوي

ص: 12

‌من برجنا العاجي

القوة الحقيقية للرجل هي أن يستطيع أن: (يقول ما يريد وقتما يريد أن يقول). والرجولة الحقيقية هي أن يبذل المرء دمه وماله وراحته وهناءه ودعته وطمأنينته وأهله وعياله وكل أثير عنده وعزيز عليه في سبيل شيء واحد: (الكرامة). والكرامة الحقيقية هي أن يضع الإنسان نفسه الأخير في كفة وفكرته ورأيه في كفة، حتى إذا ما أرادت الظروف وزن ما في الكفتين رجحت في الحال كفة رأيه وفكره. كل عظماء التاريخ كانوا كذلك. بل إن مصر الفقيرة اليوم في العظماء قد عرفت ذات يوم رجالاً من هذا الطراز. رجال لم يترددوا في تضحية كل شيء من أجل فكرة، والنزول عن كل متاع من أجل رأي. بمثل هؤلاء الرجال ربحت مصر كثيراً في حياتها المعنوية والفكرية. بل إني لا أبالغ إذا قلت إن الأمم لا تبنى ولا تقوم إلا على أكتاف هؤلاء. وإن الخطر المخيف هو يوم تخلو أمة من أمثال هؤلاء. نعم. وإنه ليخالجني الآن شيء من القلق إذ انظر حولي فلا أكاد أرى في مصر أثراً لهذه الفئة العظيمة. فناموس اليوم هو وطئ الفكرة بالأقدام راكضاً خلف الجاه الزائف والمال الزائل، وإنكار الرأي والجبن عن إعلانه حرصاً على الراحة وإيثاراً للطمأنينة. وهكذا قد خلت صفحة تاريخنا من أسماء العظماء هذه السنوات، وعجت بلادنا بأصحاب الألقاب وحملة الشارات وراكبي السيارات! وحق لنا جميعاً أن نسأل هذا السؤال: ما هي المعجزة التي تنهض هذا البلد وهو على هذا الخلق؟ وهل يطول غضب الله علينا فلا يظفرنا بعظيم من هؤلاء العظماء الذين يستطيعون أن يردوا الاعتبار إلى قيمة الرأي، ويطهروا النفوس من درن المادة، ويعيدوا المثل العليا النبيلة إلى مجدها القديم، ويرتفعوا بالأمة كلها في لحظة إلى سماء الخلق العظيم! إذا حدث ذلك فقد نجونا. وإذا لم يحدث ذلك فلا شيء ينتظرنا غير انحلال أكيد، وهبوط إلى مرتبة العبيد.

توفيق الحكيم

دراسات في الأدب

للدكتور عبد الوهاب عزام

أمثلة من النقد في الأدب العربي

ص: 13

1 -

نقد الجزئيات:

قال أمرؤ القيس في فرس:

وأركب في الروع خيفانة

كسا وجهَها شعَر منتشِر

فقال النقاد: هذا غلط في مدح الخيل لأن انتشار الشعر على الوجه عيب فيهن

وقال زهير في الضفادع:

يخرجن من شَربَات ماؤها طَحِل

على الجذوع يخفن الغمّ والغرقَا

فقالوا: هذا جهل بطبيعة الضفادع فإنها لا تخاف الغرق

وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف فرساً:

قُصِر الصبوح لها فقصّر لحمها

بالنيّ فهي تثوخ فيها الإصبع

قال الأصمعي: حمار القصّار خير من هذا. وإنما يوصف الفرس بصلابة اللحم

وقال أبو تمام:

ألذ من الماء الزلال على الظما

وأطرف من مر الشمال ببغداد

أخذ عليه القاضي الجرجاني أنه جعل الشمال طرفة في بغداد، وهي أكثر الرياح هبوباً بها. . . الخ

فهذه أمثلة من الغلط في طبائع الأشياء

وقال أبو تمام:

اسقِ الرعية من بشاشتك التي

لو أنها ماء لكان مَسوسا

إن البشاشة والندى خير لهم

من عفة جمست عليك جموسا

لو أن أسباب العفاف بلا تقي

نفعت لقد نفعت إذاً إبليسا

قال القاضي الجرجاني: فليت شعري لو أراد هجوه، وقصد الغضّ منه هل كان يزيد على أن يذم عفته ويصفها بالجموس والجمود وهما من صفات البرود والثقل ثم يختم الأمر بأن يضرب له إبليس مثلاً ويقيمه بازائه كفواً؟

وقال أبو الطيب في مطلع قصيدة:

وفاؤكما كالربع: أشجاه طاسمه

بأن تسعدا، والدمع، أشفاه ساجمه

وقال القاضي الجرجاني: ومن يرى هذه الألفاظ الهائلة والتعقيد المفرط فيشك أن وراءها

ص: 14

كنزاً من الحكمة، وأن في طيها الغنيمة الباردة؟ حتى إذا فتشها وكشف عن سرها وسهر ليالي متوالية فيها حصل على (أن وفاءكما يا عاذليّ بأن تسعداني إذا درس شجاني، وكلما ازداد تدارساً ازددت له شجواً كما أن الربع أشجاه دارسه). فما هذا من المعاني التي يضيّع لها حلاوة اللفظ، وبهاء الطبع، ورونق الاستهلال، ويشحّ عليها حتى يهلهل لها النسج ويفسد النظم، ويفصل بين البا ومتعلقها بخبر الابتداء قبل تمامه، ويقدم ويؤخر، ويعمى وُيعوص. ولو احتمل الوزن تركيب الكلام على صحته فقيل: وفاؤكما بأن تسعدا أشجاه طاسمة كالربع. أو وفاؤكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمه. لظهر هذا المعنى المضنون به المتنافس عليه. . . الخ

وقال المتنبي في مدح سيف الدولة:

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

وثغرك وضّاح ووجهك باسم

فقال سيف الدولة: ينبغي أن تطبّق عجز (البيت) الأول على الثاني وعجز الثاني على الأول وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:

كأني لم أركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزقّ الروىّ ولم أقل

لخيلي كرّى كرًّة بعد إجفال

قال المتنبي: أدام الله عز مولانا؛ إن صح أن الذي استدرك هذا على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا. ومولانا يعرف أن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفصيله؛ لأنه أخرجه من الغزلّية إلى الثوبية؛ وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر بالشجاعة في منازلة الأعداء.

وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه؛ ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا، وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى.

2 -

ومن قولهم في نقد الشعراء:

كان النابغة أحسن الناس ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر

ص: 15

وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحا وهجاء وفخرا وصفة.

وروى أن عمر بن الخطاب قال: أنشدوني لأشعر شعرائكم. قيل: ومن هو؟ قال: زهير. قيل: وبم صار كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين القول ولا يتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما فيه.

وفي الشعر والشعراء: كان أوس بن حجر عاقلاً في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق وهو من أوصفهم في الخمر والسلاح ولاسيما القوس. وسبق إلى دقيق المعاني وإلى أمثال كثيرة.

وقال الجرجاني:

(ولو تأملت شعر أبي نواس حق التأمل ثم وازنت بين انحطاطه وارتفاعه وعددت منفية ومختارة لعظمت من قدر صاحبنا (يعني المتنبي) ما صغرت، ولأكبرت من شأنه ما استحقرت، ولعلمت أنك لا ترى لقديم ولا لمحدث شعرا اعم اختلافا وأقبح تفاوتا، وأبين اضطرابا، وأكثر سفسفة، وأشد سقوطا من شعره) يعني أبا نواس.

وفي العمدة:

(وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل، يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفا على دينه.

وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء يهجم على ما يريد. لا يبالي ما لقي ولا حيث وقع)

3 -

ومن قولهم في تأثير البيئة في الأدب قول الجرجاني:

(ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك (الخشونة والجفاء) ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بدا جفا. ولذلك تجد شعر عديّ وهو جاهلي، أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما إسلاميان لملازمة عديّ الحاضرة، وإبطانه الريف، وبعده عن جلافة البدو، وجفاء الأعراب. وقال ابن رشيق:

(قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند غيره؛ ونجد الشعراء الحذّاق تقابل كل زمان بما استجيد

ص: 16

فيه وكثر استعماله عند أهله بعد ألاّ تخرج من حسن الاستواء وحدّ الاعتدال وجودة الصنعة)

(فلما ضرب الإسلام بجرانه واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى؛ وفشا التأدب والتظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله وعمدوا إلى كل شئ ذي أسماء كثيرة فاختاروا أحسنها سمعاً وألطفها من القلب موقعاً. . وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة الطباع والأخلاق، فانتقلت العادة وتغير الرسم وانتسخت هذه السنة الخ

4 -

ومن قولهم في الطبع والخلق وأثرهما في الأدب قول الجرجانيّ:

(ثم قد تجد الرجل شاعراً مفلقاً، وابن عمه وجار جنابه، ولصيق طُنبه بكيا مُفَحما، وتجد فيها الشاعر اشعر من الشاعر، والخطيب أبلغ من الخطيب. فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدة القريحة والفطنة؟ وهذه أمور عامة في جنس البشر، لا تخصيص لها بالأعصار، ولا يتصف بها دهر دون دهر

(وقد كان القوم يختلفون في ذلك فتتباين أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر؛ ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلَامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة

وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك. وترى الجافي الجلف منهم كزّ الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب، حتى انك ربما وجدت ألفاظه في صورته ونغمته، وفي جرسه ولهجته)

5 -

ومن قولهم في طرائق البيان:

قال القاضي الجرجاني: (ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحد، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه؛ وأرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك؛ بل ترتب كلاّ مرتبته، وتوفيه حقه؛ فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه؛ فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام. فلكل واحد من

ص: 17

الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه. وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر. بل يجب أن يكون كتابك في الفتح والوعيد خلاف كتابك في التشوّق والتهنئة واقتضاء والمواصلة، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت.

فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى الهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس. فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم)

وقال ابن رشيق في العمدة:

(يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر من جد وهزل وحلو وجزل، وألا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح انفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم وحاز قصب السبق كما حازها بشار وأبو نواس بعده). . . الخ.

6 -

ومن قولهم في حرية الأدب قول صاحب الوساطة:

(فلو كانت الديانة عاراً على الشعراء، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولو جب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبدي وإضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، وعاب من أصحابه، بكما خرساً وبكاء مفحمين؛ ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر).

7 -

ومن قولهم في صفات الناقد:

قال ابن قتيبة في مقدمة الشعر والشعراء: (ولم أقصد فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختار له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيرة، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده ألا أنه قيل في زمانه ورأى قائله. ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا

ص: 18

خص به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوماً بين عباده وجعل كل قديم، منهم حديثاً في عصره)

وقال صاحب الوساطة:

(وملاك الأمر في هذا الباب خاصة (النقد) ترك التكلف ورفض التعمل والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه، والعنف به. ولست أعني بهذا كل طبع، بل المهذب الذي قد صقله الأدب وشحذته الرواية، وجلته الفطنة وألهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبيح)

هذه أمثلة من ضروب النقد المختلفة سردتها ليلتفت طلاب الأدب إليها، ويستزيدوا منها، ويتبينوا ما وراءها من طرائق النقد ومذاهب النقاد. وفي كتب الأدب كثير منها ومن شاء فليرجع إلى الجزء الأول من البيان والتبيين، ومقدمة كتاب طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي وكتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري

تاريخ الأدب

- 1 -

إذا نقد شعراء أمة وكتابها المتعاصرون، وقرن هذا النقد بعضه إلى بعض وتألفت مما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه صورة لعصرهم، وبينت الأسباب التي اجتمعت على تأليف هذه الصورة، ألوانها وهيئتها، فهذا تأريخ عصر من عصور الآداب

وإذا شمل النظر عصوراً متتابعة فاستبانت صور الآداب فيها، وعرف تطوّر هذه الصور وانتهاء كل واحدة إلى التي تليها، وُرد هذا التطور إلى أسبابه فهذا تأريخ الأدب في هذه العصور

فتأريخ الأدب وصف آداب العصور وترتيبها وتعليلها

- 2 -

وهو كالنقد يستمد من ذوق الناقد وتقديره مزايا الكلام وعيوبه وأطواره، ومما أحاط بالأدباء من حقائق التاريخ والجغرافيا، والاجتماع وغيرها. وعلى مؤرخ الأدب أن يلائم بين ذوقه وعلمه بهذه الحقائق فلا يحكم الذوق على غير بينة، ولا يغفله ويعتمد في تاريخه على

ص: 19

الحقائق العلمية الجافة؛ بل يجعل حكمه نتاج الذوق المهيأ للحكم بمعرقة واسعة، وتأمل دقيق، وتقدير لأحوال الأدب بليغ، فيكون حكمه خلاصة العلم، ونتيجة الذوق الذي لابد منه في تقويم الأدب

- 3 -

لم يكن تاريخ الأدب على هذه الشاكلة معروفاً لدى القدماء؛ وإنما كان سبيلهم جمع تراجم الشعراء والكتاب، وتبيين محاسنهم ومساوئهم، والاستشهاد ببعض أقوالهم، ولم يكن قولهم موصلاً مستوعباً يؤلف صورة عامة للأدب في عصر أو عصور ولا كان التعليل قيها مطرّداً. فكان عمل المؤرخين تراجم متفرقة ينقصها الجمع والمزج والترتيب والتعليل. فهي مصادر لتاريخ الأدب لا تاريخ

ومن الكتب التي ألفت على هذا النمط:

1 -

طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 231

2 -

الشعر والشعراء لابن قتبية المتوفى سنة 276

3 -

معجم الشعراء للمرزباني المتوفى سنة 384

4 -

يتيمة الدهر في شعراء العصر لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 429

5 -

الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الأندلسي المتوفى سنة 429

6 -

دمية القصر لأبي الحسن الباخرزي المتوفى سنة 467

7 -

قلائد العقيان للفتح بن خاقان الأندلسي المتوفى سنة335

8 -

مطمح الأنفس للفتح بن خاقان الأندلسي المتوفى سنة 335

9 -

سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر لصدر الدين المديني من رجال القرن الحادي عشر

10 -

ريحانة الألباء لشهاب الدين الخفاجي المتوفى سنة 1069

- 4 -

وتاريخ الأدب كما نعرفه اليوم عرفه الأوربيون في عصر نهوضهم؛ سبق إليه الإيطاليون وسار على أثرهم الأمم الأخرى ولا سيما الفرنسيون. ولهم فيه طرائق مختلفة مبنية على

ص: 20

مذاهبهم في النقد وقد قدمنا إشارة إليها

عبد الوهاب عزام

ص: 21

‌أبو تمام شيخ البيان

للأستاذ عبد الرحمن شكري

هو حبيب بن أوس الطائي، وقد سبقه إلى صناعة البيان بشار ومسلم والحسن بن هاني، ولكنه ظهر بها ظهوراً كبيراً وحاكاه البحتري وغيره، وكان حقيقاً بسبب كثرة إجادته في تلك الصناعة أن يسمى شيخ البيان. وكان أبو تمام يقدم الحسن بن هاني ويلقبه بالأستاذ وبالحاذق ويجاريه في طريقته، ولكن أبا تمام قد بز ابن هاني أبا نواس في المدح ووصف الطبيعة، وإن لم يكثر منها وفي الرثاء والأمثال والحكم، وجاراه في وصف الخمر والغزل المذكر. وقد سئل البحتري عن أبي تمام وعن نفسه فقال: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه. وهي قوله حق، فقد كان عند البحتري من حذر ذوي الصناعة وإحجامهم ما لم يكن عند أبي تمام الذي كان أكثر جرأة في صناعته. ولم يكن رديئه القليل عن جهل، فقد سئل فيه فقال: إن أبيات الشاعر كأبنائه فيهم الجميل وفيهم القبيح وكل منهم حبيب لدى أبيه الذي يعرف أيهم القبيح وأيهم الجميل. ولقد قال في إساءة ظن الشاعر بشعره ويعني نفسه:

ويسئ بالإحسان ظناً لا كمن

هو بابنه وبشعره مفتون

ولكنه يقول أيضاً:

من كل بيت يكاد المَيْتُ يفهمه

حسناً ويعبده القرطاس والقلم

ولا غرابة في أن يكون قائل البيت الأول هو قائل البيت الثاني، فإن نفس الشاعر قد تتردد بين الثقة بقوله ثقة ليس بعدها ثقة، وبين الشك كل الشك في مرتبته. ولعل هذا الشك وإساءة الظن مما يحفزه على استئناف الإجادة والى الاستزادة من الإبداع كيلا يستنيم إلى ما أجاده من سابق قوله. والشاعر الجريء في صنعته البيانية يكون نصب نقد الناقدين، وعندما مدح أبو تمام أحمد بن المعتصم بقصيدته التي مطلعها:(ما في وقوفك ساعة من باس) أنكر بعض النقاد أن يشبهه بمن هم أقل منه منزلة في قوله:

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

ومثل هذا النقد يهدم صناعة التشبيه من أساسها لأنه لم يشبه الممدوح بهم في المنزلة، وإنما يكون للتشبيه وجه شبه خاص لا يتعداه اتفاق المشبه والمشبه به، وهذا النقد يدل إما على الإفراط في تملق الممدوح والمغالطة مع علم، وإما على جهل بالصناعة البيانية. وقد دفع

ص: 22

أبو تمام حجتهم بأن زاد في المديح قوله:

لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه

مثلاً شرُوداً في الندى والبأس

فالله قد ضرب الأقل لنوره

مثلاً من المشكاة والنبراس

وأمثال هذا النقد اللفظي كثير فقد انتقدوا أيضاً قول أبي تمام:

دنيا ولكنها دنيا ستنصرم

وآخر الحيوان الموت والهرم

وقالوا: إن الهرم يأتي قبل الموت ولكنه أخره وقدَّم الموت. وهذا اهتمام بالصغائر، فقد كان في استطاعة الشاعر أن يقول:(وآخر الحيوان الشَّيبُ والعَدَم) وقد فعل المتنبي ما هو أشد من ذلك وكانت له عنه مندوحة عندما قال:

جفخت وهم لا يجفخون بِهَابهم

شيم على الحسب الأغر دلائل

يعني جفخت أي فخرت بهم وهم لا يجفخون بها، وكان يستطيع أن يقول:(فخِرتْ بهم وهُمُ بها لم يفخروا) فيستقيم الوزن والأسلوب ولكن هذا لا يؤخر الشاعر الكبير ولا يقدمه. ومثل هذا النقد يغري به الشعراء أنفسهم عند الملاحاة فقد ورد في كتاب العمدة لابن رشيق أن مسلم بن الوليد انتقد قول أبي نواس

ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا

وأمله ديك الصباح صياحا

وقال: كيف يجتمع الارتياح والملل؟ كما انتقد أبو نواس قول مسلم

عاَصي الشباب فراح غير مُفنّدٍ

وأقام بين عزيمة وتجلد

وقال كيف يجتمع الرواح والإقامة؟ وفي كل من البيتين يريد الشاعر اجتماع حالات نفسية مختلفة الأسباب. على أن أبا تمام قد يأتي في الفلتات بما لا يستجاد مثل قوله:

بلد الفلاحة لو أتاها جَرْوَلُ

أعني الحطيئة لاغتدى حَرَّاثَا

و (أعنى) هنا أثقل من الرصاص

وقد عد بعض أدباء العصر أبا تمام من شعراء الرمزية، وهذا في رأيي غير صواب، لأن كل شاعر يستخدم الرموز، ولكن ليس كل شاعر من أدباء الرمزية. وأستطيع أن أفهم سبب عد أبي تمام من شعراء الرمزية، وإن لم يكن كذلك، فإنه يكثر من استخدام التشبيه والاستعارة والمجاز، فللاستعارة رمز والكناية رمز. ولكن شعراء الرمزية في أوربا تخطوا منزلة الاستعارات والكنايات وصاروا يرمزون إلى حالات نفسية بأشياء مادية وبألفاظ أو

ص: 23

جمل، ويقطعون الصلة بين الرموز وما يرمز لها بها اعتماداً على خيال القارئ وإحساسه وأحلامه وهواجس نفسه الغامضة، وأحياناً يستخدمون رموزاً مدلولها أشياء مادية ويرمزون بها إلى تلك الهواجس الغامضة في الوعي الباطن، وهي لغموضها لا تستطيع عقولهم الظاهرة تفسيرها إلا بتلك الرموز. وهذه طريقة لم يكتب فيها شاعر عربي. أما طريقة أبي تمام فهي طريقة الصناعة البيانية المألوفة وإن كان قد أبدع وأغرب فيها، وشعره شعر الخيال المشبوب بنار الشاعرية، والجيد من شعره يجمع بين القوة والحلاوة وإقناع الصنعة الفنية، وهي ليست صنعة ألفاظ فحسب بل صنعة ألفاظ وخيال وإحساس وذكاء وعقل وبصيرة. وترى في قوة الجيد من شعره قوة الخطيب، ولا أعني، أن الشاعر خطيب فللخطيب صفات قد تدابر صفات الشعراء، وإنما أعني أن لشعره قوة تشبه وقع خطاب الخطيب في الأذن فكأن له صوتاً يسمع. وإذا كان للشاعر نفسه من صفات الخطيب فهي الصفات التي يقترب الخطيب فيها من عبقرية الشاعر ومن بصيرته النافذة وخياله المشبوب، وليست الصفات التي يقترب فيها الخطيب من فن الممثل وهي صفات عالية في فنها وفي الخطابة. ولا نأسف لإضاعة شاعر من شعراء العرب في التكسب بالمدح شعراً كان يكون أعظم شأناً في وصف الحياة والنفس قدر ما نأسف لإضاعة أبي تمام، فإن الرجل كان قادراً على أن يبلغ ما بلغه شعراء أوربا من وصف الحياة والنفوس ومظاهر الكون؛ على أن في شعره في المدح أشياء من هذه الأشياء. ولعل القارئ يقول: ولماذا لا نأسف على المتنبي قدر أسفنا على أبي تمام أو أكثر، وليس المتنبي بأقل منزلة وهو ذو بصيرة وخيال. ولكن أبا تمام كان عنده من نشوة الصناعة البيانية أكثر مما كان للمتنبي؛ وكان للمتنبي من قوة الشخصية وأثرتها أكثر مما كان لأبي تمام؛ وقوة الشخصية هذه لها أثر في الشعر يظهر في كل أبوابه وتجعل الشاعر يترك بعده دوياً كما قال المتنبي:

وتركك في الدنيا دوياً كأنما

تداول سمعَ المرءِ أنمُلهُ العشْرُ

أما أبو تمام فإننا نقرأ أنه كان مولعاً بالخمر إلى حد الإفراط أحياناً، ونقرأ أنه سكر مرة في مجلس عظيم وعربد وحُمِلَ من المجلس بين أربعة، وأنه كان إذا اخذ صلة أمير أفناها بين الغناء والموسيقى والرياض والخمر والأوجه الوسيمة. وهذه الأمور ربما كانت تقلل نتاجه وتلهيه عن الشعر لو أنه لم يكن مضطراً إلى قرض الشعر في المديح أو الرثاء لكسب

ص: 24

المار، فإننا عند ما نقرأ سيرة الرجل وشعره نميل إلى الاعتقاد أن الحياة عنده كانت شعراً يُعاشُ وأن الشعر عنده كان حياة تكتب أو شعراً يكتب، وأنه ما كان يلجأ إلى الشعر الذي يكتب إلا إذا سمح له أو اضطره شعر الحياة الذي يُعاش. ولعل هذا هو سبب إقلاله وسبب موته وقد تخطى الأربعين قليلاً. وإننا نتساءل ماذا كان يكون نتاجه لو كان من المعمرين من غير أن يفني قدرته الحيوية بالحياة؛ ولكن من العبث التأسف، فلعل إفناءه قدرته الحيوية بالحياة كان من لوازم نشوته الشعرية، وإن قدرته في صناعة البيان كانت من مظاهر انتشائه بالحياة، وانتشاؤه بالحياة ميز شعر التكسب في قوله عن شعر التكسب في أقوال الشعراء الكثيرين، فشعر التكسب في قولهم ألفاظ ميتة مهما حاولوا إحياءها بصناعة البيان أو بالأناقة، وكانت قوة شعره مستمدة من انتشائه بالحياة، فلم تكن قوة كتلك القوة في شعر بعض الشبان المبتدئين الذين يفتعلون القوة فيخيل للقارئ أنهم يخنقون ألفاظهم ومعانيهم كي تصيح كما تصيح الدجاجة إذا حاول الطفل الصغير أن يخنقها، وكانت ألوان البيان في شعر أبي تمام طبيعية كألوان الحياة بالرغم من أغرابه، ولم تكن كتلك الألوان التي وضعها القرد على ما لونه المصور في نقشه ورسمه، وقد انتهز القرد فرصة انشغال سيده المصور بأمر من أمور الحياة. وقد أسف المغاربة أيضاً لموت محمد بن هاني الأندلسي في سن مبكرة وكانوا يأملون أن يعمر حتى يفاخروا به أكثر شعراء المشرق، وكان لابن هاني بعض مقدرة أبي تمام ولكنه لم تكن له - ثروّته الشعرية في نفسه وكان كل منهما مولعا بشعر الحياة الذي يعاش. وجرأة أبي تمام في التشبيه والاستعارة والمجاز هي ما يصح أن يسمى بالجرأة الموفقة إلا في القليل من شعره، وهي تشبه في المبارزة بالسيف نوعا من الهجوم إذا أجاده المبارز نثر سلاح خصمه وأصابه في الصميم وإذا أخطأ المبارز في هجومه سقط وسلاح خصمه في قلبه.

(البقية في العدد القادم)

عبد الرحمن شكري

ص: 25

‌أعلام الأدب

درامات إسخيلوس

للأستاذ دريني خشبة

أقدم ما وصلنا سليما من مآسي إسخيلوس هي درامته البارعة (نسوة متضرعات) وهي درامة شائقة لا يعرف في أي سنة نظمها الشاعر بالضبط، وتليها في القدم درامة (الفُرس) فقد نظمها سنة 472 ق. م وفي سنة 458 تقدم إلى المباراة التمثيلية بدرامة مفقودة ففاز عليه الشاعر الشاب سوفوكليس للمرة الأولى وكان لهذا الحادث أثره الذي لم يمح من نفس إسخيلوس والذي قيل إنه هاجر بسببه إلى جيلا بعد ذلك بعشر سنين

وفي السنة التالية (467) فاز على جميع منافسيه بدرامته (سبعة ضد طيبة)، ولا يعرف المؤرخون على وجه التحقيق متى نظم رائعته العصماء (برومثيوث) ويظن الأستاذ جلبرت موراي أنها نظمت هي وأختها المفقودة (ليكورجيا) بعد (سبعة ضد طيبة)

وقبل أن يموت في جيلا بعامين نظم أقوى دراماته وأعنفها (الأورستيّة)(458ق. م) وهي الثلاثية الوحيدة الكاملة التي وصلتنا سليمة من هذا التراث الأدبي الحافل المفقود

1 -

نسوة متضرعات

نسوة متضرعات هي الحلقة الأولى من ثلاثية كاملة ما تزال حلقتاها الثانية والثالثة مفقودتين وإن يكن موضوعهما معروفاً. . والثلاثية كلها تتلخص في أن إيجبتوس أحد أمراء مصر الشمالية كان له خمسون ولداً؛ وكان له أخ يدعى دانوس رزقه الله بخمسين ابنة ذوات جمال بارع، فحدث أن هام كل من أبناء إيجبتوس بواحدة من بنات دانوس. . . وتقدم إيجبتوس إلى أخيه يخطب بناته على أبنائه. . . وهنا تقوم عقبتان أولاهما تلك النبوءة التي تنبأ بها بعضهم لدانوس وهي أن أحد أزواج بناته سيقتله، وثانيتهما أن شريعة القوم في هذا العصر كانت تحرم زواج الرجل من أبنة عمه وتعتبره زناً. . . فماذا يصنع دانوس؟ فكر الرجل ثم فكر، ثم رأى أم يقر ببناته إلى بلاسجوس ملك آرجوس إحدى ممالك اليونان. . . ورست الفلك على الشاطئ ونزل الركب، ولمحت إحدى البنات رجلاً عظيما بادي الوقار يتنزه هناك، فلما سألت عنه قيل لها إنه الملك. فأستاذنت أباها وذهبت

ص: 26

إليه تدعوه إلى والدها ورحب الملك بهؤلاء المحتمين به اللائذين بظله وخصص لهم منزلاً رحباً وعيشة رغداً. . . وأقبل قائد مصري بعد أيام يطلب تسليم دانوس وبناته الخمسين. فجمع الملك وزراءه ومجلس شوراه، وجميع مواطني آرجوس يعرض عليهم الأمر فأبوا جميعاً أن يسلموا اللائجين لما في صنع ذلك من منافاة النخوة وعدم الوفاء. . . فيرتد القائد المصري، ويعود بعد أيام بجند كثيف فيغزو آرجوس ويقبض على دانوس وبناته ويعود بهن معززات مكرمات إلى مصر

إلى هنا تنتهي الحلقة الأولى. . . وقد سمى إسخيلوس درامته الثانية من هذه الثلاثية (فِراش العرائس) أو (ماهدات فراش العرس) وفيها يتآمر دانوس وبناته على أن يقتلن أزواجهن ليلة العرس بعد أن يناموا على ألا يمكنَّهم منهن من شيء. وتُنَفّذ البنات ما عاهدن عليه أباهن من هذا الإثم إلاهيير مسترا التي استفظعت أن تريق دم هذا الجمال الشاب النائم المستسلم لها، فوقفت تنظر إلى الخنجر المشحوذ مرة، وإلى ابن عمها الذي أحبته وهويته وأغرمت به مرة أخرى فلم تر بدا من أن توقظه، وتبوح له بالسر الهائل. . . وهنا يستيقظ القصر كله، ويكون دانوس مرتقبا الإشارة التي اتفق مع بناته عليها ليعلم أنهن قد قمن بواجبهن وأنفذن ميثاقهن، لكنه لا يرى العلامة تنبثق بالضوء من شباك هيير مسترا فيرتجف، ويسمع إلى الضجة فيحاول الهرب، ولكن ابن أخيه، وزوج ابنته الذي لم يقتل، يفاجئه ثم يعالجه بضربة تقضي عليه فيثأر لاخوته وتنفذ على يديه النبوءة.

ثم تبدأ الحلقة الثالثة التي سماها إسخيلوس الـ (دانايدز أي بنات دانوس اللائى يلقين جزاءهن في هيدز ويكلفن بملء وعاء كبير مثقوب من ماء نهر بعيد الغور وعر المنحدر فكلما جئن بجرارهن وصببنها فيه ذهب الماء ولم يبق منه شيء، فإذا جلسن يستجممن صُب عليهن وابل بارد فيهرعن إلى عملهن وهن ناصبات لاغبات. أما هيير مسترا فتقدم للمحاكمة بتهمتين، أما الأولى فعصيانها أباها فيما أعطته عليه مواثقها، وأما الثانية، فزواجها من ابن عمها وهو زنا في نظر الشريعة المعمول بها حينذاك.

كيف حلّ أسخيلوس هذه العقدة؟ وفي أي الجانبين يقف؟ في جانب القاتلات، أم في جانب الزوجة الوفية التي استنكرت القتل؟ يبدو لنا أنه آثر أن يقف إلى جانب هيير مسترا، لأنه أتى لها بربة الحب فينوس (أفروديت) فشفعت له وبرأت ساحتها. ولا ندري هل عادت إلى

ص: 27

زوجها أم حيل بينهما. . . لم يذكر لنا التاريخ شيئاً من ذلك!

وتمتاز هذه الدرامة بالإ كبار من شأن الديمقراطية التي أبداها الملك بلاسجوس عندما جمع كل المسئولين من رعاياه ليشاورهم فيما طلب قائد أبناء إيجبتوس، كما تمتاز بهذه السخرية اللاذعة من تلك الشريعة الفاسدة التي كانت تحرم زواج البنت من ابن عمها وتعتبره زنا إذا تم.

2 -

الفرس

ودرامة الفرس هي الحلقة الثانية من ثلاثية ما تزال أولاها وثالثتها مفقودتين. . . والأولى عن البطل فنيوس كاهن أسطول الأرجنوت الأعمى وباسمهُ تدعى. والحلقة الثالثة تدعى جلوكوز وهو الصياد الذي تحول إلى إله من آلهة البحار وأغرم بالهولة سكيلا.

وقد جعل إسخيلوس مسرح هذه الدرامة في سوسا وجعل جميع أبطالها من الفرس، وفيها تبدو أتوسه أم أجزرسيس وزوجة دارا، وهي تقص رؤيا مزعجة على بطانة من حاشيتها، فما يكادون يطمئنونها حتى يدخل رسول فيقص نبأ الهزيمة المنكرة التي منى بها أجزرسيس وأجناده في سلاميس، وبذا تتحق رؤيا أتوسه، وتأمر حاشيتها بتقديم القرابين لاستحضار روح دارا. . . وتبدو روح الإمبراطور الراحل فتأخذ في سب إجزرسيس، وتنعى عليه طيشه وقلة بصره بمزالق السياسة، وإقدامه على محاربة اليونان دون رجوع إلى أهل الرأي. ثم يدخل أجزرسيس فيأخذ هو الآخر في حزن طويل يشاطره إياه وزراؤه ومشيرو السوء الذين لم ينصحوا له بما كان يحول بينه وبين تلك الكارثة

والدرامة قطعة فنية رائعة، وقد خدمت التاريخ ووصفت سلاميس وصفاً عجز عن الإتيان بمثله أبو التاريخ هيرودوتس. ولا غرو، فقد حضر أسخيلوس سلاميس وجاهد فيها جهاد الأبطال. . . غير أن قيمة الدرامة في ناحيتها الدستورية التي نعى فيها أسخيلوس على الاستبداد والمستبدين بقدر ما أكبر من شأن الحرية والشورى. . . ومع أن الشاعر يرفع في درامته هذه من شأن أثينا فإنه لم يقلل من قدر المنهزمين. بل هو قد أضفى على الفرس وقار العدو العظيم فلم ينتقص من شأنهم ولم يقدح فيهم، وبذا كان درامياً عادلاً

3 -

سبعة ضد طيبة

ص: 28

هذه الدرامة هي الحلقة الثالثة من ثلاثية ما تزال حلقتاها لأولى (لايوس) والثانية (أودبيوس) مفقودتين. وتتلخص لايوس وأوديبوس في هذه الأحداث المؤلمة التي حاقت ببيت لايوس ملك طيبة وزوجته جوكاستا. فقد رُويت لهما نبوءة تقول أنه سيولد لهما طفل يقتل أباه ويتزوج أمه ويقضي بالشقاء على ذريتهما. فلما ولد لهما طفلهما الوحيد بعثا به إلى الجبل ليقتله أحد رعاياهما، لكن الرجل أشفق على الطفل فتركه ثمة وعاد بدم كذب على قميصه وادعى أنة قتله. وعثر أحد القضاة على الطفل ملقى في شجرة وقد ورمت قدماه؛ فأخذه وسماه أودبيوس:(أي ذا القدمين المتورمتين). وشب أوديب وتعلم الفروسية في بلاط ملك كورنثه. ثم حدث أن هجر البلاط لخلاف بينه وبين أحد الأمراء الذي غمزه في نسبه وهاجر إلى دلفي يستوحي الكهنة فيما غمزه به هذا الأمير. وقيل له إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ويجر الشقاء على أبنائه. . . فانطلق والهم والحيرة يمزقان قلبه. . . فبينما هو في طريقه إذا قائد عظيم يأمره أن يتنحى عن الطريق حتى يمر مولاه أولاً. فلم يمتثل أوديب وانقض على القائد فقتله. ثم جاءت عربة فنزل منها الحرس فنازلهم وقتلهم. ثم نزل منها وجل عجوز شيخ فنازله وقتله، ولم يكن هذا الرجل سوى لايوس الملك والد أوديب الذي كان ذاهباً إلى دلفي يستوحي كهنتّها في أمر مما نزل بطيبة، ويمم أوديب شطر طيبة فوحد الناس في فزع من أمر تنين (سفنكس) يقف عند باب المدينة من جهة البحر بالمرصاد لكل داخل أو خارج: يقول التنين (ما حيوان تكون له أرجل أربع في الصبح، واثنتان في الظهر وثلاث في المساء؟) فإذا لم يجب الشخص افترسه التنين في الحال. . وقد حار الناس في تأويل هذه الأحجيّة، ونذروا لمن يخلصهم من التنين أن يتزوج ملكتهم الأرمل زوجة لايوس وأن يتربع على عرش مملكتهم. . . سمع أوديب أهل طيبة يهمسون بذلك، وكان قد برم بحياته فاعتزم أن يلقى التنين فإما أن يقتله وينقذ طيبة من شره وإما أن يريحه التنين من الحياة. . . وأول أوديب الأحجية بأن الحيوان المقصود هو الإنسان بعينه، فهو يحبو صغيراً على أربع، ويدب شاباً على رجلين، ويتوكأ على عصا إذا بلغ به الكبر عتياً. . ثم انقض على التنين فقتله، وبذا تربع على عرش طيبة وتزوج الملكة التي هي أمه وهو لا يدري. . .

بذلك تحقق شطر النبوءة الأول ثم شطرها الثاني. . . ثم يجتاح طيبة طاعون هائل ويذهب

ص: 29

الناس إلى دلفي يستوحون كهنّتها فيقال لهم إنه لا بد من القصاص من قاتل الملك لايوس ليرتفع أذى الطاعون عن طيبة. . . وهنا ينتشر الجواسيس والرقباء في كل فج يجمعون الأخبار ويتجسسون أنباء القاتل فيتبين أنه أوديبوس الجالس على العرش طيبة وأنه هو نفسه ابن لايوس وابن الملكة جوكاستا. . . ويعترف الخادم الذي عهد إليه بقتل الطفل بأنه لم ينفذ ما أمر به، فيذهل أوديب وينطلق إلى الغابة فيسمل عينيه ويهيم على وجهه حتى يموت

ثم تبدأ حوادث الدرامة الثالثة (سبعة ضد طيبة). . . فقد ترك أوديب ولديه إتيوكليز وبولينيسيز يتنازعان العرش كما ترك ابنتين أخريين نظمت فيهم جميعاً درامات كثيرة. . . ويتفق الشقيقان على أن يتبادلا الحكم عاماً لكل منهما، ولما ينتهي عام أتيوكليز ويقدم أخوه ليتسلم مقاليد الحكم يرفض شقيقه أن يسلمه إياه فيلجأ الآخر إلى أدراستوس ملك آرجوس يستنصره ويعرض أن يتزوج من ابنته، فيقبل الملك ويرسل مع صهره سبعة من قادته يقودون سبعة جيوش إلى طيبة. . . ويستمر الحصار سبعة أعوام طوال دون أن ينالوا من طيبة قليلاً أو كثيراً وإن يكن الحصار قد أجهدها فيعرض القادة أن يطلب بولينيسيز مبارزة أخيه على أن يكون الفائز صاحب الحق في العرش، ويجيز إتيوكليز هذا الحل فيمضي إليه بقلب ثابت وجنان رابط وهو يعرف النتيجة، لكنه يذهب في غير خوف لكي يريح طيبة من ويلات القتال. . . ويلتقي الشقيقان، ويستمر النزال ساعة ثم يضرب كل منهما أخاه فيسقطان معاً ويضرجان الأرض بدمائهما. . . وبذلك تتخلص طيبة من كليهما كما تتخلص من نسل لايوس وتتحقق النبوءة كلها.

(للمقالة بقية)

(دريني خشبة)

ص: 30

‌بين مصر ولبنان

إلى الدكتور زكي مبارك

للأستاذ محمد رشدي الخياط

سيدي الدكتور

تستطيع الأمم أن تحتجز كل شئ دون الخروج من أراضيها إلا الثقافة فلا تستطيع قصرها عليها دون غيرها، فهي قسم مشترك بين العالم يدلف إليها كل فرد وتطلع عليها كل أمة، وتؤثر في كل من يصل إليها كما أنها تتأثر بما يصلها، وذلك أمر بَدَهي لا مندوحة لنا من الإقرار به. وثقافة الأمم منها ما تشارك فيه دون أن تكسوه لوناً خاصاً وهو ما يكون علماً خالصاً، ومنها ما تلبسه ثوباً إقليمياً حسب المؤثرات الخاصة التي توجد لديها ويبقى بعد ذلك عالياً في نزعته وأثره. هذا إلى أن ثقافة الأمم لم تكن في يوم من الأيام أثراً خاصاً من آثار أمة دون أخرى، فهي مزاج من ثقافات العالم القديم والحديث ترتكز كل أمة في ثقافتها عليه فلا يحق لنا إذا ما ذكرنا الثقافة اللاتينية مثلاً أن نقصرها على نتاج عقليات هذه الأمم بل يجب أن نقر أثر الأمم الإغريقية والعربية ونتيجة الثقافات الفرعونية والهندية وسائر الأمم القديمة التي حملت الثقافة الأولى في العالم، ونستطيع بعد ذلك أن نزيد عليها أثر الأمم الحاضرة في تغذية هذه الثقافات وتقدمها. والأمة العربية ليست بدعاً من هذه الأمم، فهي إنما تخضع لقوانين العالم، فالثقافة المصرية لم تكن في يوم من الأيام مقصورة في نهضتها على العقول المصرية كما أنها لا يمكن أن تبقى محصورة في دائرتها الخاصة، بل من الواجب الحتم أن تتعداها إلى غيرها من البلدان كي يظهر أثرها في التأثير في العالم، وقيمتها في المساعدة على تقدم الثقافة العربية. ومصر بما لها من الموقع الجغرافي، والبسطة في المال، والكثرة في السكان، تستطيع أن تباهي شقيقاتها الدول العربية في قطعها دونها شوطاً بعيداً في بناء النهضة الأدبية الحديثة؛ ويجب في الوقت نفسه ألا ننكر جهود سائر البلدان العربية على اختلاف هذه الجهود في القوة والضعف، إذ قام كل بلد بما يستطيعه من المشاركة في هذا الأمر. ولا يعزب عن بالنا أثر لبنان خاصة والبلاد السورية عامة في هذه المشاركة الفعالة؛ فنحن نعلم أن طلائع النهضة بدت في سوريا مسايرة لطلائعها في مصر أو متقدمة عليها بعض التقدم. ولئن استطاعت مصر أن تتقدم شقيقاتها

ص: 31

في هذا المضمار فإن مرجع ذلك إلى أمور لا تتعلق بخصب العقلية المصرية، وضعف غيرها كما يفهم من كلمة الدكتور زكي مبارك في (العدد: 295) من الرسالة. إذ يقول: (ولكني أتحداكم أن تثبتوا أن لبنان نبغ فيه أديب واحد، ولم يكن مصدر نبوغه الاتصال بالثقافة المصرية). ثم يقول في موضع آخر: (إن الأدباء السوريين لم يذوقوا طعم المجد الأدبي إلا بعد أن شربوا من ماء النيل). وإنما يعود ذلك إلى مؤثرات خاصة نستطيع أن نجملها في أربع نقط.

ترجع أولى هذه النقاط إلى ما وهبته مصر من خصب في التربة درّ عليها إخلاف الرزق في سهلها المخضوضر المعشب فتهيأ لها بذلك الأساس الذي تقوم عليه النهضات، وهو المادة التي استطاعت بها أن تبث البعوث في مختلف أشتات أوربا لتعود إليها بالغذاء العقلي؛ والبلاد السورية خاصة والعربية عامة صفر من المادة، فهي في لبنان جبل أجرد ضيق أكثر بقاعه لا يمكن سكانه من استغلاله إلا في أشهر معدودات من الصيف، ثم ينقلب بعد ذلك غطاء أبيض ناصعاً من الثلج يحول دون زرعه أو الاتكال عليه في كفايته حاجات السكان. هذا إلى أن المدن المنتشرة في منبطحة ليس لها من الموارد ما يهيأ لها أسباب الراحة وبلهنية العيش كما هيأتها طبيعة مصر لمصر. وسائر البلاد العربية يتكون أكثرها من صحارى محيطة بأطرافها وسهول ضيقة الأركان تنبت خلالها. كان من أثر هذه البيئة أن ضاق النبوغ العربي ذرعاً بهذه الحياة فكبت في مهده، ولم تتجمع له المادة التي تمكنه من استغلال هذا النبوغ فوجد في بقاع الأرض متسعاً لإظهاره، فاحتمل نفسه إلى مصر وما وراء البحار حيث استطاع أن يثبت هذا النبوغ ويؤكده، فكان أثره في مصر بارزاً في نهضتها وفي غيرها من بلدان العالم وبخاصة في أمريكا مركزاً كل التركيز. ولا يفهم من هذا أن مصر أو غيرها من البلدان هي التي أوجدت هذا النبوغ وإنما يعود ذلك إلى البيئة الأصلية ولم يكن من أثر البيئات الجديدة ألا أن ساعدت البيئة الأصلية على استغلال هذه الثروات العقلية الكامنة في زوايا الفقر والفاقة. ومن هنا لا نستطيع أن نوافق الدكتور فيما ذهب إليه من حملة كنا نرجو ألا تثور به حتى يقعد على مثل الألفاظ التي استقر عليها. ومع ذلك فإن الشعب العربي مع فقره وشدة حاجته إلى المادة استطاع أن يشارك في النهضة العربية بقدر ليس بالقليل، وبخاصة لبنان حيث الثقافة العامة في الشعب أكثر منها

ص: 32

في مصر حتى الآن، وكل ما في الأمر أن مصر أنجبت طبقة من المثقفين عالية لا تستطيع أن تجاري الشعب في تفكيره، إذ أن التوازن مفقود بين هذه الطبقة العالية في ثقافتها وبين الشعب الذي لا يزال أكثره أمياً أو ضئيل التعلم. وعكس ذلك لبنان وسائر البلاد العربية، إذ نجد الطبقة المثقفة هناك لم توجد بينها وبين الطبقة العامة مثل الهُوى التي توجد في مصر. هذا السبب المادي الذي آل إلى تخلف بعض البلدان العربية عن مسايرة مصر يتبعه سبب آخر هو قلة السكان في أي قطر من الأقطار بالنسبة لمصر، فأكبر بلد عربي لا يتجاوز سكانه خمسة ملايين، بينا مصر تعد بفضل الله ستة عشر مليوناً أو تزيد، وهذا له أثره في قيمة انتشار الثقافة العامة، إذ لا تستطيع الطبقة المثقفة أن تسير في واجبها بوساطة التأليف ونشر المجلات العلمية والأدبية لقلة عدد المستهلكين حيث لا يجد القائمون عليها وسيلة من وسائل الاستغلال والإفادة، بينا مصر تساعدها كثرة سكانها على نشر مختلف المجلات وطبع متباين المؤلفات، ومع ذلك نستطيع أن نسأل الدكتور نفسه عن عدد الكتب التي طبعها وعدد نسخها وما هي الكمية من هذه الكتب التي استطاعت مصر أن تهضمها بالنسبة إلى الكمية التي أقبلت عليها البلاد العربية؟ أكبر الضن أنا سنرى البون شاسعاً بين ما تناولته مصر من مؤلفات الدكتور وبين ما التهمته العقول العربية ولنا في شهادة أستاذنا الزيات أكبر دليل، فالرسالة أثيرة لدى الشعب العربي حبيبة إليه يقبل لذلك عليها أكثر من إقبال إخواننا المصريين. أليس فهذا دليل على رقي الشعب وكثرة المفكرين فيه؟ ولكن ما الحيلة في أن الله قد ابتلانا بضعف المادة وقلة السكان مع ما سيأتي من الأسباب فحرمنا ذلك من كثير من وسائل الإعلان والدعاية؟

وبعد ذلك يا سيدي يحضرنا السبب الثالث الذي يقوم على السببين الأولين - ضعف المادة وقلة السكان - وهو انعدام وسائل النشر والدعاية أو ضعفها، إذ أن المادة التي يقوم عليها البشر لا تواتي المؤلفين والناشرين على الإكثار منهما لقلة ما بأيديهم منها؛ هذا إلى أن ضآلة الاستهلاك من هذه المطبوعات والمنشورات لقلة عدد السكان قعد بالبلاد عن الإعلان والدعاية اللذين اتخذتهما مصر سبباً من أسباب نهضتها بصحفها ومجلاتها وكثرة مطبوعاتها لاعتمادها على ما لديها من المادة وكثرة الاستهلاك المحلى. فالصحف المصرية مثلاً تستطيع أن تنفق عن سعة لأنها ترتقب انتشارً سريعاً بين السكان وقل مثل ذلك في

ص: 33

المجلات. من هنا نرى أصحاب الصحف في مصر قد أثروا من عملهم هذا، وكان في ذلك دعاية أي دعاية لمصر في البلدان العربية، ويتبع ذلك المجلات. وهنا نستطيع أن نميز فيما بينها، فهناك المجلات الأدبية والعلمية وهذه يستهلك منها في خارج مصر أكثر مما يستهلك في مصر، أما المجلات الإخبارية أو الروائية أو المصورة فلها عناية خاصة لدى إخواننا المصريين. ولا أبالغ إذا قلت أن أثر بعض المجلات في الدعاية لمصر كان معكوساً، وبخاصة ونحن في بلد لا يزال يحرص على كثير من تقاليده، فهو لا يقبل أن يرى المرأة كاشفة عن ساقيها معلنة عن نهديها ملوحة بذراعها العاريتين أو نصف العاريتين، هذا إلى ما تحويه بعض هذه المجلات من أخبار نسائية ومشاكل اجتماعية ليس من الخير أن تنشر بمثل هذه الإبانة لما توقره في نفوس بعض القراء من آثار سيئة، وبخاصة أولئكم الشبان الذين لم يتجاوزوا طور المراهقة إذ يقبلون عليها بلهفة وشوق ينتهيان إلى انحراف في الأخلاق أو ميل إلى التهتك دون أن يعرفوا الأثر السيئ الذي سيعود عليهم. ما كنت لأرغب في أن أعرض لهذا الآن ولكن المناسبة قادتني إليه.

من هنا يا سيدي الدكتور نستطيع أن نلم ببعض الأسباب التي دفعت مصر إلى أن تخطو خطوات واسعة في طريق النهضة العربية دون أن تستطيع الوقوف على ما يجري لدى شقيقاتها من هذه النهضة. وأنت أدرى يا سيدي بما تلقاه المؤلفات والنشرات التي تصدر في البلدان العربية من إقبال لدى إخواننا المصريين! لو ذهبت تعدد قراء البلاد العربية للمنشورات المصرية لألفيتهم عدداً جماً، ولكنك هل تستطيع أن تدلني على أناس لا يتجاوزون عدد الأصابع قرءوا أو اقتنوا كتاباً واحداً ألفه أديب غير مصري

ولكن ما العمل وإخواننا المصريون قد تضخم لديهم حب الذات حتى غدوا لا يبصرون في هذا العالم أحداً غيرهم ولا يقبلون في الثقافة العربية على غير مؤلفيهم - مع قلة هذا الإقبال - وأنت تقر معي يا سيدي الدكتور أن هذه ناحية من نواحي الضعف في جمهور القراء من المصريين. وأنتم في مصر مع ذلك تشكون قلة القراء على ما لديكم من كثرة السكان وتوفر المادة فكيف بنا نحن العرب الفقراء في كلتا الناحيتين؟

ونستطيع أخيراً أن نبرز الناحية الرابعة التي دفعت بالبلدان العربية إلى عدم استطاعتها المضي مع مصر في طريق النهضة، وهي ناحية سياسية خاصة تختلف كل الاختلاف عن

ص: 34

الناحية السياسية في مصر. وذلك أن مصر قد كفل لها استقلالها بشئونها الداخلية منذ أيام محمد علي باشا حيث تمكن من بعث البعوث والنهوض بمصر في مضمار الثقافة، ثم مضت البلاد في ذلك فيظل خلفائه إلى أن أظلها القرن العشرون فأتت النهضة أكلها. أما البلاد العربية فكانت تحت الحكم التركي المباشر حيث كانت الأمية ضاربة إطنابها في مختلف البلاد، وحيث كنت تبحث عن المثقف بمصباح ديوجين، ومع ذلك كان لبنان في مقدمة العاملين في سبيل النهضة الحديثة تحت لواء آل البستاني وآل اليازحي وآل المعلوف وغيرهم، هذا إلى ما قامت به الإرساليات الأجنبية من جهود لا تنكر، ثم تقلبت الظروف وإذا بنا في معركة حامية الوطيس بين الحلفاء وتركيا، تبع ذلك تمزيق أوصالنا إلى دويلات تحت دول متباينة في ثقافاتها. وكان من أثر هذا الصراع أن اتجهنا في حياتنا وفي تفكيرنا إلى حفظ كياننا السياسي - وهو أمر طبعي - قبل التوغل في العمل في الحقل الثقافي. ورغم هذه الظروف استطعنا أن نقطع في طور الثقافة شوطاً غير قليل

قد يقول قائل إن ما لقيته مصر لا يقل عما لقيته شقيقاتها، وفي هذا ما فيه من المغالاة إذ أننا إذا استثنينا الثورة العرابية والثورة المصرية الأخيرة لا نجد صراعاً مسلحاً أخذ بمجمع القلوب المصرية وشغلها عن كل ما عدا ذلك من شئون الثقافة هذه يا سيدي الدكتور الأسباب التي دعت مصر إلى أن تتقدمنا في طريق النهضة الحديثة، وهو في الوقت نفسه لا يدل على ضعف في عقليتنا أو خصب في غيرها، وإنما يعود إلى عوامل لا بد من مراعاتها قبل الحكم في هذه القضية. أما الإبقاء على تراث الجدود والمحافظة عليه فما من أحد ينكر على مصر قيامها به بل نرى من الواجب العض عليه بالنواجذ

وأخيراً يا سيدي الدكتور أستطيع أن أختم كلمتي حول هذا الموضوع بعتب إخوانك وقرائك عليك لحملتك التي خرجت في بعض مواطنها عن حد الاعتدال. وليتك وقفت من مثل هذه الدعوة التي وصلت إليك موقف الأستاذ (ابن عبد الملك) في تهجينها دون تجريح، وفي إنكارها دون جنف أو ميل لك أو عليك، فتكون بذلك قد تجنبت بعض الآثار التي ليس من الخير إثارتها الآن وأنت تعلم أننا أتوق إلى مطالعة آرائك ومنتوجاتك الأدبية من توقنا إلى مثل هذه المنازعات

(فلسطين)

ص: 35

محمد رشدي الخياط

ص: 36

‌ابنتي.

. .!

للأستاذ محمد سعيد العريان

مرحباً يا عزيزتي الصغيرة!

هاأنتِ ذي يا ابنتي أمام عيني حقيقةً أراها وكنتِ حلماً من أحلامي!

وهأنذا ألقاك بعد صبرِ صابر وجهدٍ جاهد وطول تشوُّف وارتقاب؟

مالك مغمضةَ العينين أكثر ما تكونين يا ابنتي كأنما لا تجدين في دنياك الجديدة ما يغري على اليقظة والنظر؟

وما لك صامتةً أبداً فما تفتحين فمك إلا للبكاء كأنما تشعرين بالغربة في هذا العالم الجديد؟

وما لهذه اليدين والرجلين دائبات على الحركة أبداً كأنما تحاولين الفكاك من قيد غير منظور؟

أين كنتِ يا ابنتي؟ ومن أين جئتِ؟ والى أين المسير؟

أهذا يوم ميلادك يا ابنتي أم هو أول الطريق في مرحلةٍ بين مرحلتين من عالم مجهول إلى عالم مجهول؟

حدِّثيني حديثك عن دنياك التي كانت، ودنياك التي تكون؛ فأنت أقرب عهداً يا بنية إلى ما كان، وأصفى نفساً إلى تصوُّر ما يكون!

هأنذا أرى شفتيك تختلجان وأنت نائمة كأنما تهمسين بسرٍ في أُذُن!

وتبسمين أحياناً بسمات غامضة كأنما تستمعين إلى نحوي صامتة في دنيا الأحلام التي تصل جديدَك في هذا العالم بماضيك القريب في العالم المجهول!

وتعبسين أحياناً باكيةً بلا صوت ولا دموع كأنما لا يعنيك أن يسمع أحد أو يرى؛ لأن الذي تعنين أن يعلم بشكواك ليس خَلْقاً من الخلق ولكنه روح من روح الله؟

حدِّثيني ماذا ترين يا بُنيةُ في منامك وماذا تسمعين؟

مَنْذَا يسامرك يا ابنتي في أحلامك وما عرفتِ شيئاً بعدُ في دنيانا تؤلِّفين من أشتاته أقاصيصَ في أحلام!

ليتني أعرف ماذا كنتِ أمس؟ وماذا أنت اليوم؟ وماذا تكونين ونكونً في غد!

أطوار ثلاثة في تاريخ البشرية ليس في أيدينا من العلم بها إلا اليوم الذي نعيش فيه؛ أما

ص: 37

أمس قبل أن نكون، وأما غدُ بعد أن نصير. . .!

من يدري، من يدري؟ إن هنا سرّ الأزل، وسرّ الأبد، وبرهان الخلود!

حياة بين حياتين، ليس لنا من العلم بأولاها إلا بطن الأم، وليس لنا من العلم بالأخرى إلا بطن الأرض، ونحن بين الحياتين في مضطرب مائج لا نكاد نحس إلا ما تقع عليه أعيننا وما تلمس أيدينا، وإننا على ذلك لنزعم أن لنا الحق في أن نتحدث عم قبل الحياة، وما وراء المادة في جدال السفيه ودعوى المغرور!

ابنتي طفلة في المهد لم تتجاوز من العمر في تاريخ البشرية إلا أياماً معدودة، ولكنها إلى ذلك كبيرة كبيرة في نفسي وفي أوهامي، إنها لم تولدْ أمس، ولكنها كانت في رحلة ثم آبت. إنها كبيرة كبيرة لأنها كانت تعيش في أحلامي منذ سنوات وسنوات. منذ أيقنت أنني يجب أن أكون أباً؟

هل كنتِ تسمعين نجواي يا بُنيتي من وراء حدود المجهول وقد جلست ذات مساء أهتف باسمك في دنيا الأماني متسائلا: أين أنتِ يا ابنتي؟ أين أنتَ يا ولدي؟ أين أنتِ يا زوجي التي لم أرها ولم أَعرفها بعد؟ أين أنتم يا أحبائي؟

. . . طفلةُ هي على حساب الزمن إن كانت سن الحي تُعَدُّ بالسنين والأيام؛ فكم تكون سنها على الحقيقة منذ كانت أمنيةً تتراءى لي في اليقظة وطيفاً يُلمُّ بي في الأحلام؟

صورة إنسان في بضعة أرطال من لحمٍ ملفّفة في طيات الفراش، ولكنها معي أينما كنتُ، أُطوِّف بها ما أُطوِّف في دنيا عريضة من الأماني والأوهام!

خرساء مالها بيانُ بعد، فإذا التقت عينان بعينين فإن بينها وبين نفسي حديثاً أفصحَ من حديث كل ذي شفةٍ ولسان!

طفلةُ هي إذا نظرتُ إليها في فراشها هادئة مستسلمة لا تقدر على الحركة؛ فإذا أغمضتُ عيني وسبحتُ فيما أسبح من آمالي فهي غير منْ هي: صبيّة تدرج، أو فتاة تخطر، أو عروس في جلوة العرس إلى ذراع عروس. . .!

تعالي إلي يا بنيتي أضمك إلى صدري؛ إنني أنا أبوك؛ أتراك تعرفين؟

هاتان عيناك الساجيتان تنظران إلي نظرات ليستْ من مثل ما تنظرين إلى أخي وابن عمي؛ برِّبك من علمك؟

ص: 38

انظري إلي يا ابنتي وأَطيلي النظر، إن في عينيك سرًّا يلهمني ما لم تلهمني مشاهد الدنيا جميعاً منذ كنت إلى يوم عرْفتك!

حدثيني حديثك الصامت يا عزيزتي لعلي استشفّ من وراء حديثك سرَّ المجهول؛ ما أنتِ؟ وأين أنت؟ وما كان ماضيكِ؟ وكيف تأملين أن يكون غدك. . أأنتِ هنا أم أنت هناك؟

. . . شمس تشرق وتغيب، وليل يطبق وينجلي، ورياح تعصف وتهدأ؛ وإنسان يعبس ويضحك، ومعدة تمتلئ وتفرغ، وقلب صافٍ صفاء الحق أو عابس عبوس الضلال، وعيون فيها بريق الشهوات أو فيها دموع الألم، ووجوه سافرة ووجوه عليها نقاب. . . هذه هي دنيانا أيتها الصغيرة، فما هي دنياك؟

أتراك تعرفين يا عزيزتي الصغيرة؟. . . ما أرى صمتك الطويل يا بنيتي إلا حذراً ورقبة حتى تعرفي ما أنتِ في دنياك الجديدة. . .! تُرى من أدبك هذا الأدب يا بنيتي؟

سائح جوّال رمتْ به الأقدار إلى وادٍ غير واديه؛ ودنيا غير دنياه، وعيش لم يعش مثله فيما استدبر من حياة؛ ماذا يقول وكيف يتحدث. . . أهكذا أنتِ في صمتك يا عزيزتي؟

هذه أمك يا صغيرتي لم تحمل ولم تلد قَبلُ؛ علِّميها الأمومة يا صغيرتي، إنها لم تكن تعرف. . .!

هاهي ذي حانيةُ عليك صابرة على ما تعاني من أوجاع الأمومة الأولى وإن في عينيها لبريقاً لم أر مثله فيما رأيتُ من عينيها قَبْل!

مغتبطة سعيدة أن تضمك إلى صدرها في حنان ورقة وإن بها من الآلام ما يذهل كل ذات ولد!

وهاتان شفتاك الصغيرتان تبحثان عن شئ هنا. . . مَنْ علّمك أيتها الصغيرة أن هنا أودع الله ما أودع ليكون لك شبعاً وريِّا؟

ورأيتك تلقمين ثديها مغمضة العينين تناول الخبير الفطن، فأحسنت الرضاعة، وما تحسن أمك أن ترضع!

يا عجبا! الطفل الصغير يعلم أمه الأمومة قبل أن تتعلم هي أن تكون أماً!

في كل مرأى عين منك يا صغيرتي درس يهديني ويلهمني!

هل أنت سعيدة بدنياك أيتها الصغيرة؟ هل تتألمين لشيء؟

ص: 39

هل تؤملين في شيء؟ هل وجدت الحياة كما علمك باريك الأعظم؟

من لي بأن أسمع جواب ما سألت! ولكن، لا، لا، حسبي الذي أرى؛ إنك أنت أنت لأنك لا تجيبين؛ إنك أنت أنت لأني لا أعرف من أنت؛ حسبي من العلم ما تلهمني نفسي؛ إن ذلك أعمق أثراً في جناني من كل بيان!

هذا جسمك ينمو كل يوم شيئاً شيئاً، وهذه حركاتك تقوى وتشتد، وهذا صراخك يتنوع نبره وتختلف أنغامه؛ وغداً - إن شاء الله سيكون لك غد - ستكبرين يا صغيرة حتى تبلغي ما تبلغين؛ وكم يلذني أن أتمثلك في خاطري صبيةً وفتاةً وسيدة كما آمل أن تكوني؛ ولكن شيئاً واحداً هو أغلى من كل ذلك آمل أن يظل معك صبية وفتاة وسيدة؛ هو قلب الطفلة، وابتسامة الطفلة، ونظرة الطفلة، و. . .، وصمت الطفلة حين تضج الحياة من حولك وتصطخب، ويلتمس كل سؤال جوابه. . .!

ولكن، آه. . . إن حكمة المقادير لتأبى. . .!

هكذا كنا جميعاً، وهكذا صرنا؛ وكانت لنا حياة أين منها الحياة التي نعيش اليوم!

عيشي لي يا ابنتي واسلمي، وكوني ما تكونين؛ فأنت أول من أبوت، وأنت أول من علمني معنى الحياة. . .!

. . . لماذا تبكين يا بنية؟ هأنذا على مقربة منك، تملين عليّ وأكتب؛ تعالي بين ذراعي، إنهما على ما إنهما، لألين مسا على جنبيك من هذا الفراش الوثير!

. . . تبكين لأني منصرف عنك منذ ساعات إلى أوراقي أكتب؟ من علمك هذه الغيرة يا بنية؟ إن فيك لطباع الأنثى وإن لم تكونيها بعد!

ابتسمي لأبيك أيتها الصغيرة؛ لا تبكي؛ إنني أنا أبوك؛ لقد تعلمت منذ الساعة ما أنا، وعرفت ما علي من واجب؛ إنني لك منذ الآن، لا يصرفني شأن من شئون الحياة عن هذا الواجب إلا أن يكون سعياً إلى ما يصلح من شأنك. . .

تعالي تعالي علميني! إنني أنا والدك ولكنك أنت ولدتني يوم ولدت لأنك أنشأتني خلقاً آخر من يومئذ. . .

تعالي، قبلي أباك!. . لا تعرفين؟. . هذه قبلتي على جبينك يا صغيرة تذكرينني بها إلى معاد؛ وإنها لدين إلى أجل لا بد أن اقتضيه يوماً من شفتيك!

ص: 40

محمد سعيد العريان

ص: 41

‌استطلاع صحفي

جولة في مزرعة الجبل الأصفر

لمندوب الرسالة

في دار النيابة زوبعة نائمة ينتظر نواب الأمة أن يثيروها عندما يعرض الاستجواب الخاص بالتحقيق في مزرعة الجبل الأصفر. وبذلك سجلت هذه المزرعة لنفسها تاريخا خاصا وأثارت في نفوس القراء فضولا رأينا أن نشبعه بأن نقدم للقراء وصفا شاملا لما يحدث في تلك المزرعة متوخين في تحثنا أن نكون بعيدين كل البعد عن السياسة ومراميها.

الأرض المتمردة

على مسير20 دقيقة من المرج معهدان أولهما مستشفى المجانين، والثاني مزرعة الجيل الصفر. وكلاهما يقع في الصحراء بعيداً عن الناس. ففي الأول أناس اقتضت التقاليد عزلهم لما أصاب مراكز التفكير فيهم من خلل؛ وأما الثاني فبرغم بهائه ونضرته، وعلى رغم زرعه وضرعه، لم يجد الناس مندوحة من إقامته بعيداً عن عيونهم وأنوفهم، فمواد سماده من فضلات المجاري، فهي خطر على الصحة العامة لما تنقله من الجراثيم، وهي خطر على حاسة الشم لأن رائحتها كريهة، وهي خطر على المزاج لأنها تعكر صفوه وتشيع في الإنسان الكآبة: ولذلك اقتضت ضرورة الذوق السليم أن تخط مزرعة الجبل الأصفر في بقعة نائية من الصحراء

ولا يربط هذين المعهدين بالمرج إلا خط حديدي مفرد تسير عليه مركبة الترولي مرات معدودات أثناء النهار عندما ينتقل إلى سكان المزرعة البريد اليومي أو يحاول أهلها الاتصال بسكان العالم عن طريق الرسائل. ولو استطاعت الصحراء أن تتحدث لاتهمت المزرعة بالجنون كما اتهم به الناس سكان المعهد المجاور، فكلاهما خارج بل متطرف في الخروج على مألوف بيئته، فأينما وقفت من أطراف المعهدين تجد الأفق ينطبق على رمال الصحراء سوى هذه البقعة، فقد تمردت بفعل الإنسان فأرسلت من جوفها إلى العالم حياة طافحة بالخير والشر، وأشجاراً باسقة تعطي الظل والخشب، وأثماراً تدر على الإنسان

ص: 42

الربح الوافر والغذاء الدسم

تلك الأرض التي كانت منذ سنوات صحراء جرداء تستوي مع جيرانها في أديمها الأصفر وهجيرها اللافح وشمسها المحرقة، أصبحت الآن بستاناً تهوى العين رؤيته وتتوق النفس إلى سكناه. وليس غرام البقعة قاصراً على عشاق الطبيعة الذين يحبون جمعها بين الصحراء وتلالها الرملية وبين الماء والخضرة، بل إن هذا الغرام يمتد إلى التجار. ألم تسمع عن الثورة القائمة في دار النيابة؟ وهل سمعت أيضاً بحديث القتيل الذي راح ضحية المنافسة عليها عند البيع والشراء؟ فإذا لم تكن تعرف هذا فتيقن أن المزرعة مصدر ربح وفير، فإنتاجها حسب تقدير قسم البساتين بوزارة الزراعة يزيد على اثنين وعشرين ألفاً من الجنيهات.

صيد طائرين بحجر واحد

أما مساحة المزرعة فثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون فداناً حولتها فضلات المجاري إلى حالتها الراهنة، إذ استعملت سماداً عضوياً جيداً لتغذية الأرض حتى أنتجت الأشجار والأثمار المختلفة. ولكن المشرفين رأوا أن يستفيدوا من الأرض في التجارة بزراعة الموالح من برتقال ويوسفي بأنواعهما. أما البقول والفول والشعير فاقتصر زرعهما على الاستهلاك المحلي لسكان المزرعة الذين يزيدون على ألف نسمة

ويزرع من هذه المساحة ألف فدان موالح، وهي الأرض التي يسمح باستغلالها في التجارة، وبذلك تكون هي منشأ النزاع وإن شئت الدقة قلنا الاستجوابات المطروحة في دار البرلمان. ويزرع من المساحة الباقية 150 فداناً شعيراً ومثلها فولاً و30 فداناً غابات، ومثلها للنخيل وعشرة أفدنة للخضروات؛ أما الباقي فأراض بور لم يتم إصلاحها بعد، ولو توفر الماء لريها لصبحت كمثيلاتها؛ فالسماد العضوي الذي تجلبه إليها المجاري غذاء غني للنبات

وليست الناحية التجارية هي الأصل في إنشاء هذه المزرعة بل الغرض أسمى من ذلك، ففي مدينة القاهرة مجار تجمع الفضلات من المنازل لتلقيها بعيداً عن الناس دون أن تكلفهم مشقة التعب في النقل وإيجاد المكان. وهذه المواد يجب أن يقتل ما فيها من جراثيم كما يجب أن تستهلك لتنعدم رائحتها وحتى لا تزيد وتتكاثر بمرور الزمن. ولذلك فكر ولاة

ص: 43

الأمور في إنشاء مزرعة يتغذى نباتها بتلك الفضلات، وبذلك يضربون طائرين بحجر واحد كما تقول الأمثال؛ فمن الناحية الأولى نجد مصرفاً دائماً للفضلات، ومن جهة ثانية نزرع الأرضة ونجني الثمار.

ولذلك لم تكتف المزرعة بالناحية المادية والتجارية، بل أرادت أن تضيف إلى الثروة الزراعية المصرية نباتات جديدة لم نعرف أثمارها من قبل فأدخلت زراعة بعض الفواكه (كالكوم كوات) كما استطاع الأخصائيون الزراعيون إنتاج فواكه في غير أوانها، فاستطاعت المزرعة أن تمد السوق بالفواكه في أكثر أوقات السنة. ولم تقتصر الفائدة على الحكومة بل عمت فاستفاد منها الشعب فقد اشترى بعض المزارعين بذور تلك الفواكه فشاركوا المزرعة في إنتاج الفواكه على غير ميعاد.

بر الشيطان

وتأبى أرض المزرعة إلا أن تضع أمام اخصائيها معضلة حاروا في كشف سرها إذ يظهر نبات شيطاني اسمه (المنتنة) لم تبذر له بذور ولم يعتن به في سقي ولا حرث، ومع ذلك فأنه ينمو ويكبر؛ وهو غني بالزيت، ولذلك أريد استغلاله باستخراجه منه فجربت زراعته ففشلت. (فالمنتنة) نبات ينمو إذا تركته للطبيعة، فإذا أخذت بذوره وأعطيتها العناية والوقاية فإنها لا تنبت؛ أما إذا تركت على الأرض فإن نبات المنتنة يكثر فيها. أما كيف ينبت فهذا سر الطبيعة؛ وأما لماذا لا ينبت إذا قدمت له العناية فأمر علمه عند الله، وكل ما نعرف عنه أنه نبات شيطاني يحتفظ بسر نفسه، وما زالت التجارب تعمل. وما يظن أنها بذوره تدفن في الأرض أو تبذر على سطحها لتنبت، ولكنها تختفي في الجهات التي تزرع فيها لتظهر في جهات ثانية. والغريب في أمرها أنها تنبت بإذن الله وحده في عدة جهات وبكميات كبيرة، فأمكن استخراج كميات من الزيوت منها.

وتحاول المزرعة أن تحتفظ في حقول تجاربها بكثير من النباتات ولكن بعضها قد لا يحتمل حرارة الشمس لأنه نبات إحدى المناطق الباردة، أو أن حرارة شمس مصر لا تكفيه لأنه نبات إحدى المناطق الحارة، ولذلك فإن المزرعة مجهزة ببيوت من الزجاج، وأخرى من الخشب

فأما بيوت الزجاج فتوضع فيها نباتات المنطقة الحارة حتى إذا انكسرت أشعة الشمس

ص: 44

داخلها كانت حرارتها أقوى مما هي في العادة، وهذه البيوت حوائطها من الزجاج الذي يسمح لأشعة الشمس بالنفاذ. أما بيوت الخشب فإنها تصنع لتعطي النبات كثيراً من الظل، وبذلك تقل الحرارة داخل البيت فيستطيع النبات البارد أن يعيش. وبعض النباتات يمكث في هذه البيوت مدة حتى يمكنه أن يتحمل الحرارة والبرودة وعندئذ يمكن غرسه في أرض المزرعة في العراء

سماد عضوي

تروى أرض المزرعة وتسمد من فضلات المجاري التي تصل من القاهرة بواسطة أنابيب تقذفها في أحواض واسعة حيث ترسب الفظلات الثقيلة في قاعها وتمرر في عدة أحواض أخرى إلى أن تصبح ماء صافياً يستعمل في ري المزرعة. أما المواد الغليظة فإنها تنشر في أحواض رملية وتعرض لأشعة الشمس حتى تجف وتباع للزراع كسماد عضوي جيد، ويختلف ثمن المتر المكعب منه تبعاً للمكان الذي يسلم فيه

وتنحل المواد البرازية أثناء انتقالها داخل الأنابيب من القاهرة إلى تلك الأحواض فإنها تبقى عدة ساعات كافية لقتل أي مكروب، ولذلك فإن المواد تصل إلى تلك المنطقة سوداء مما يدل على انحلال موادها. أضف إلى ذلك أنها في ماء جار لا يسمح للميكروبات بالحياة. بل إن بعض الأطباء يؤكدن خلو تلك المواد من أي ميكروب؛ ولذلك يأخذون على وزارة الصحة اعتبارها للمواد التي تسقط على أرض ملوثة؛ ويقول آخرون إن هذا احتياط واجب وهو ادعى لطمأنينة الناس وثقتهم بنباتات المزرعة

ولأول مرة شاهدت أرض المزرعة عجبت لكثافة الحشائش في أرضها مبيناً ضرر ذلك على النبات. ولكن محدثي وهو ممن عاشوا في المزرعة مدة طويلة قال: أن هذه الحشائش الطفيلية تنبت بغزارة وقد تعبنا في التخلص منها بدون جدوى. وثلاثة أرباع العمل الذي نبذله هنا يقتصر على حشها ولكنه لا تمر 24 ساعة حتى تنبت بهذه الكثافة من جديد. ولما سألته عن السبب قال: إن الماء الذي تزرع به الأرض يحتوي على كميات كبيرة من السماد فتشبعت به الأرض أكثر من الحد الطبيعي حتى أصبحت أرضها صلبة مما يضر بالمزروعات أحياناً، وإذا أردنا أن نرجع بالأرض إلى الحالة الطبيعية وجب أن نزرعها مدة عشر سنوات بدون سماد

ص: 45

تجارب لعزل الفضلات

ومن المشاكل التي يحاولون التغلب عليها الحصول على ماء خال من السماد الذائب فيه، ولذلك عملت تجارب لتصفية ماء المجاري والحصول على ماء نقي. فليس هذا سهلاً باستيراده من النيل أضف إلى ذلك أن مشكلة ماء المجاري ستظل بدون مصرف لها. واتبعت عدة طرق مازالت تحت التجربة لتنقية الماء بطريقة السواقي أو الرشح بين الزلط والرمل، وينتظر أن تصل هذه التجارب إلى نتائج حاسمة قريباً فقد شاهدت إحدى التجارب وقد أصبح الماء المتخلف منها شفافاً ولكن تكاليفه غالية. ويراد استنباط طريقة رخيصة التكاليف. وقد بنيت لتنفيذ تلك التجارب عدة نماذج مساحة الواحدة منها خمسون متراً تقريباً

وهناك مشروع لتحضير غاز الاستصباح من فضلات تلك المواد، فإذا نجح هذا المشروع فإنه يكفي لإضاءة شوارع القاهرة جميعها. وقد بدأ القائمون بالأمر بعمل التجارب اللازمة، فأنشئوا لذلك بئراً عمقها 11 متراً كما شيدوا خزاناً من الحديد لاستقبال الغاز وتوزيعه

محافظة على الصحة

وتحرص وزارة الصحة كما قلنا على منع الثمار الملوث من الوصول إلى أيدي الناس، ولذلك إذا أراد مستغل المزرعة أن يجمع ثمار قطعة من الأرض فعليه أن يخطر رجال للصحة ليمروا في تلك المنطقة وليجمعوا منها الثمر الذي يلمس الأرض سواء كان ساقطاً أو في فروع قريبة من الأرض فلامستها. ويدفع للمستغل ثمن ما يتلف لأنه ملوث وقد قدر بخمسة آلاف جنيه في العام الماضي

ويعدم الثمر الملوث بوضعه في حفر عميقة وصب (حامض الفنيك) عليه ثم ردم الحفر

فوزي جيد الشتوي

ص: 46

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

للأستاذ محمود الخفيف

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

يذكر المصريون أسم عرابي فلا يبتعث هذا الاسم وا أسفاه في أذهانهم إلا صور العنف والنزق والحمق، وتراهم - وإن لم يقصدوا - يقرنون اسم عرابي بمعاني الهزيمة والاحتلال والمذلة كأن هذه المعاني من مرادفاته

وما اذكر مجلساً تطرق الحديث فيه إلى عرابي إلا وسرت في الوجوه كآبة، وتسابقت الألسن للهزء به وتعديد مساوئه وإبراز مثاليه. . .

والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلاً ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي المسكين فيما ارتكب وفيما افترى عليه من سيئات؛ وكذلك قل أن نجد في رجالنا رجلاً كرهه بنو قومه واستنكروا أعماله بقدر ما كره هؤلاء عرابيا واستنكروا ما فعل وما أسند إليه من الأعمال زوراً وإفكاً. وفي ذلك دليل قوي على أن التاريخ قد يظلم عامداً كما قد يخطئ غير عامد؛ وفيه كذلك دليل على أن الأمور كثيراً ما تجري فيه كما يرسم الحظ لا كما يضع العدل من قسطاس؛ فيكون نصيب بعض الرجال من التعظيم بقدر ما يتوافي لهم من حظ لا ندري كيف اتفق لهم دون غيرهم، بينما يجني على كثير من ذوي النفوس الصحيحة والعظمة الصادقة ما يلحق بهم من سوء الطالع وما يحيط بهم من نحس الأيام

وما كان عرابي فيما أعتقد أثقل الرجال وزراً وإن لم يكن أقلهم أخطاء. ولعلي أستطيع أن أجلو ذلك في سيرته بقدر ما أصل إليه من وجوه الصواب في تلك السيرة التي بالغ كثير من ذوي الأغراض في تشويهها والحط من قدر صاحبها

ومهما يكن من الأمر فما أحسب من الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة، وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصاً فيما يفعل وفيما يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة خرج من

ص: 47

بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في موقف هام من مواقف نهوضها علما على الجهاد ورمزاً للمقاومة حتى شاءت الظروف فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها يذود عن أراضيها ويقف غير هازل ولا طامع في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها. . .

بهذه الروح اكتب عن عرابي، وعلى هذا الأساس أبين سيرته، فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم الأول، بل هو فيما أرى اصح المقاييس وأهمها؛ أما الصواب والخطأ وما إليهما، فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء!

ولد أحمد عرابي في عام 1840 م في قرية تدعى هرية رزنة بمديرية الشرقية، ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيراً باختلاف العصور في هذه القرى التي نبتت على ماء النيل منذ الأزل. . .

نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يجري اسمه يوماً ما على كل لسان في مصر ودرج بين لداته عرضة للأمراض المختلفة، يحيط به في الجهل والفقر أينما اتجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده صبي مثله ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقى العلم المنظم في مدرسة منظمة

على أنه يذكر عن أبيه في مذكراته أنه كان (شيخاً جليلاً رئيساً على عشيرته عالماً ورعاً تقياً نقياً موصوفاً بالعفة والأمانة)؛ ومهما يكن من أمر أبيه فليس يعنينا في هذا المقام سوى أنه أرسل ابنه إلى مكتب القرية وهو كما يقول ابنه من منشآته فيها، وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم فحفظ شيئاً من القرآن وتعلم القراءة والكتابة؛ وتعهده صراف القرية زمناً فعلمه مبادئ الحساب

ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطاً من العلم في الأزهر فلقد أرسله أخوه الأكبر إلى هناك عسى أن يكون عالماً من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر كثيراً فعاد إلى قريته، وكان من الممكن أن يعيش في تلك القرية ثم يموت فيها كما يعيش ويموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين من أهلها. . .

ولكن الأقدار تخرجه من هذه القرية ليغدو فيما بعد رجلاً من رجال مصر، وليثبته التاريخ

ص: 48

في سجله، بعد أن يصل اسمه إلى مسامع جميع الساسة في ذلك العصر؛ وتنطوي السنون وتبقى ثورته صفحة من أهم الصفحات في تاريخ هذا البلد

أراد سعيد أن ينهض بالجيش، لا لأنه كان رجل حرب وأطماع، ولكن لأن الجيش كان ملهاته، فأمر بتجنيد أبناء المشايخ والأعيان، وكان من بين من جندوا ذلك الفتى الأزهري القروي الذي لم يكن له من عمل في قريته، وكان يومئذ في الرابعة عشرة

وبالتحاق عرابي بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه. ومن ذلك نرى أن كل ما ناله عرابي من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر قبل سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته الخاصة فيما بعد وهي أمر لا يمكن تحديده. . .

ولطالما رمى عرابي بالجهل ثم عد هذا الجهل من أهم نواحي ضعفه، بل لقد كانت تلك الناحية في مقدمة ما يهزأ به منه خصومه، وبخاصة أولئك المؤرخون الأجانب الذين ينتابهم أبداً لذكر عرابي ما يشبه الحمى فيطلقون ألسنتهم فيه بلا حساب

ولست أحاول هنا أن أنسب العلم إلى عرابي فما أبعده عن أن يوصف بالعلم، ولو كان يفهم أهل عصره من مدلوله؛ ولكني من ناحية أخرى لا أراه من الجهل كما يصفون أو كما يسخرون، ذلك أني أقيسه إلى جمهرة المتعلمين في عصره من أهل مصر، وما كان لي أن أعدو ذلك فأقيسه إلى رجال جيله في أوربا إلا أن أعتبر مصر يومئذ في مصاف تلك الدول علماً وثقافة وحضارة. ولن توصف الشمعة لعمري مهما كانت ضئيلة النور بأنها مظلمة، ولا سيما إذا قيست إلى غيرها من الشموع وما على شاكلتها من المصابيح؛ أما أن تقاس إلى المشاعل القوية أو أن تنقل من ظلمة الليل إلى وضح النهار ثم يتحدث بعد ذلك عن مقدار نورها، فهذا ما لا يجوز إلا في حساب المغرضين والمبطلين

ومتى كان العلم الغزير من مستلزمات البطولة؟ ألا كم شهد التاريخ من أناس لم يكن لهم من العلم إلا مثل حظ الرجل العادي منه بحيث لو أنهم قيسوا من هذه الناحية إلى معاصريهم من العلماء والفلاسفة لكانوا في حكم العدم، ومع ذلك فلم ينل نقصهم هذا من بطولتهم أو يقعد بهم عن مواصلة السير إلى مثلهم التي رسموها؛ وذلك أن قلوبهم كانت عامرة بما هو أغلى وأعظم من نظريات العلماء وأحلام الفلاسفة. . . كانت قلوبهم عامرة

ص: 49

بالإخلاص والحماسة والعزم وهي خلال لن تقوم عظمة حقيقية بدونها ولن تغنى عنها سواها من الخلال مهما كان من قيمتها في مجال آخر؛ ولرجل واحد وثيق العزيمة صادق الإخلاص متوقد الحماسة خير في قيادة الناس وتحريرهم من عشرات الفلاسفة الغارقين في أوراقهم وكتبهم

وما كان عرابي فيما استخلص من سيرته خلواً من هذه الخلال، بل لقد كان ما توفي له منها لا ينزل به في البطولة عن مرتبة شريف والمويلحي والقاني ومحمد عبده وجمال الدين والبارودي وغيرهم من مثقفي عصره، إن لم يكن يرتفع به عليهم على ضآلة علمه بالنسبة إليهم. ولست أغلو في ذلك أو أتحيز، وإلا فكيف انتهت إليه في وقت ما زعامة الحركتين الوطنية والعسكرية معاً؟ ولقد كان في الأولى كما ذكرت من الرجال من هم أعلى كعباً منه في المعرفة، وفي الثانية من هم أرسخ قدماً في الجندية؟ وهل يعزى ذلك إلى الحظ وقد كان عرابي من أكثر الناس شغباً على رؤسائه في الجيش، أم يعزى إلى الجاه والثروة وقد كان فلاحاً ابن فلاح من بيت عادي لا ثروة له ولا جاه؟

ألا إنه لا مناص لنا إذا أردنا الإنصاف من أن نعزو ذلك إلى انه كان أكثر ممن حوله أيماناً وأقوى منهم جناناً وأشد منهم توثباً وتطلعاً، وإن كان من أقلهم معرفة واطلاعاً؟ وهنا لا أتردد أن أثبت رأياً آخر وهو أنه لا يجوز عندي أن يعد عليه ما يعزى إليه من جهل أو أن يؤخذ به، وإنما ينبغي أن يعد له وأن يعتبر داعياً من دواعي فخره!

انتظم عرابي في سلك الجندية (نفراً) عادياً فما لبث أن ترقى بعد سنتين إلى رتبة (ملازم ثان) وكان ذلك حوالي عام 1860 ثم إلى رتبة ملازم أول فيوز باشي في نفس العام، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام (بك) وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته

وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في نحو أربع سنوات وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القدر من العلم الذي أشرنا إليه، فيه تمكن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز الامتحانات متفوقاً، ويدلنا ذلك على ندرة المتعلمين في ذلك الجيش، ولا شك أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس الفتى القروي كثيراً من الطموح والإقدام. . .

ص: 50

على أنه كان شجاعاً بطبعه في عصر كثيراً ما كانت تعد الشجاعة فيه ضرباً من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه؛ لسوف نرى من مواقفه في هذا العصر ما يزيد معنى بسالته ويظهرها مضاعفة. . .

وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الجركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضباً وكراهية لهؤلاء الأجانب. أليست هذه النزعة من جانبه هي نزعة الوطنيين في الجيش حينما تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانباً من الوطنية ومعنى من معانيها؟

ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل ليسرف بعضهم فيرميه بالتبجح قائلين: ما لهذا الفلاح وعليا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في ذلك ليمتدحونه من حيث لا يشعرون! ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحاً، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجح عرابي هذا فما أعظمه وما أجمله، وما أجدره بالتقدير والإعجاب! وليت شعري كيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعاً؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصرياً؟ وهل كان يعتز بغير مصريته إذا اعتز بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي، فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الرجل إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدم غيره عليه حتى ولو كان ذلك الغير أجنبياً؟

إن الرجل المخلص لا يقف ليقول للناس إنه مخلص وفي ذلك شك منه في نفسه، ولا يكون هناك دليل على إخلاصه إلا ما يعمل في سبيل تحقيق مبدئه، أما الكلام فسبيله ميسور؛ وفي استطاعة كل مبطل أن يملأ أسماع الناس بدعوى إخلاصه في غير مشقة.

(يتبع)

الخفيف

ص: 51

‌مقدمة (ليلى المريضة بالعراق)

تقرير طبي

(مرفوع إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف)

للدكتور زكي مبارك

أيها الأستاذ الجليل

كنتم سألتموني منذ شهرين أن أقدم إليكم تقريراً عما صنعت في مداواة ليلى المريضة في العراق، فأنا اليوم أجيبكم عما سألتم، راجياً أن تغضوا النظر عما وقع من إمهال وتسويف

وأسارع فأعتذر عن تقديم هذا التقرير مطبوعاً إلى الجمهور في الوقت الذي أقدمه إليكم، لأن لي في ذلك غاية نبيلة: هي تذكير زملائي من الأطباء بواجبهم في التعرف إلى الدراسات الأدبية والفلسفية، على نحو ما كان يصنع الأطباء العظام في الأمم العربية والإسلامية، وقد أعلنت هذا المعنى منذ شهور طوال في مجلة (المعلم الجديد) التي تنشرها وزارة المعارف العراقية، فاستقبله الأطباء هناك بالترحيب

ومعاذ الأدب أن يكون في نشر هذا التقرير بطريقة علنية دعاية لنفسي، فما أطمع في أن أكون أستاذاً للحكمة الوجدانية بكلية الطب بعد أن صنع الأدب بحياتي ما صنع: فقوض عيادتي بشارع المدابغ، وأغلق عيادتي بشارع فؤاد، وأصارني إلى احتراف الصحافة والتدريس

وقد كنت نشرت بعض فصول هذا التقرير بمجلة (الرسالة) في السنة الماضية فارتاع زملائي من أطباء بغداد وشكوني إلى الجمعية الطبية المصرية، وكانت حجتهم أنه لا يليق بالطبيب أن يفشي سر المريض

وما اجهل أني أخطأت، ولكن متى سلمت أعمال الرجال من الأخطاء؟ وهل يدعي العصمة إلا أهل الغفلة والحمق والخبال؟

إن أعظم مزية يتحلى بها كاتب هذا التقرير هي أنه يعترف سراً وعلانية بأنه إنسان يخطئ ويصيب، وقد يشطح وينطح في كثير من الأحايين!

وما أتخوفه اليوم وأنا أقدم إليكم هذا التقرير قد تخوفته من قبل: فقد كاد ما نشر من هذا

ص: 52

التقرير يزلزل الأرض تحت قدمي في بغداد، واضطرني ذلك إلى الدفاع عن نفسي أمام (نادي القلم العراقي) وفيه كثير من الأطباء، فتقبل الزملاء دفاعي بأحسن القبول. ومن ذلك عرفت أن الأطباء قد يحسون معاني الإنسانية حين يتصلون برجال الأدب والبيان

وما أخفي عليكم أني كنت أعرف أن اهتمامي بمداواة ليلى سيعرضني لكثير من المكاره، فهدتني الفطرة إلى أن أحتاط لنفسي فأوهمت أهل العراق أني أديب عظيم، واستطعت بذلك أن أتصدر لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية، على قلة ما أملك من الذخائر الأدبية، وقد أعانني الله تباركت أسماؤه على تحقيق ما ادعيت، فألقيت على تلاميذي وعلى جمهور أهل العراق محاضرات أسبوعية بكلية الحقوق كان لها في آذان أدباء بغداد رنين أي رنين

ولم اكتف بذلك، بل بالغت في ستر الموقف فأنشأت الفصول التي رأيتموها في كتاب:(وحي بغداد).

فأن عجبتم من أن أوفق إلى ما وفقت إليه في زمن لا يزيد عن تسعة أشهر فتذكروا أن الإخلاص قد يزعزع رواسي الجبال

أليس من العجيب أن أهاجر إلى بغداد وأنا طبيب فأرجع وأنا أديب؟!

ولكن ما الذي ستقرءونه في هذا التقرير الذي تعد صفحاته بالمئات ويقع في ثلاثة أجزاء؟

من المؤكد انه يغاير التقارير التي أقدمها إلى مكتب تفتيش اللغة العربية من أسبوع إلى أسبوع

ستجدون في هذا التقرير صراعاً مروعاً بين الحلم والجهل، والرشد والغي، والهدى والضلال. وستجدون فيه ما هو أخطر من ذلك: ستجدون فيه صراعاً بيني وبين نفسي، والجهاد الأكبر جهاد النفس، كما قال الرسول

سترونني هززت شجرة النفس الإنسانية هزة عنيفة لأعرف ما تحمل من الثمار المعطوبة والثمار الصحاح

سترونني صنعت بالقلوب والنفوس ما تصنع الأعاصير بالشجر والنبات لا ينجو من عنفها إلا القوي المتين

فإن رأيتموني قدمت إلى أصونة وزارة المعارف تقريراً لم تعرف مثله قبل اليوم فاجزوني

ص: 53

بكلمة ثناء تخفف ما أصارتني ليلى إليه: فقد رجعت من دارها مفطور القلب مصهور الروح. وإن رأيتموني أحدثت في عالم الطب بدعة سيئة فاغفروا ذنبي، فحسبي من المحنة أن أسكب الدمع كل يوم ما أسرفت على نفسي من الهيام بأودية المعاني، والضلال في هوى الملاح. أعاذك الله من بلاء الحب، ونجاك من فتك العيون السود!

أتذكر أيها الوزير الجليل كلمة جاءت في كتاب (ثورة الأدب) الذي ألفه كاتب من أقطاب الكتاب في هذا الجليل؟

أتذكر أن ذلك المؤلف قال: إن هناك آفاقاً من المعاني يتحاماها كتاب العصر الحديث؟

فما رأيك في من يكفر عن سيئات أولئك الكتاب فيتحمل المشاق في ارتياد تلك المجاهيل؟

لقد اقتحمت تلك الآفاق بلا زاد ولا ماء، وأنا أعرف أني أعرض سمعتي للأقاويل والأراجيف، لأن الناس عندنا لا يفهمون كيف يدخل الطبيب على نفسه ليشرح على حسابها أهواء النفوس والقلوب والعقول؟

اقتحمت تلك المهالك وليس لي إلا سناد واحد هو الشعور بأني أودي خدمة للأدب والطب. وهل يخدم الأدب والطب بأفضل من التغلغل في تشريح النزعات والأهواء؟

وهل كنت أملك الفرار من الصنع الذي صنعت؟

لقد قضيت نحو تسعة أشهر في بغداد وأنا في حوار موصول مع ليلى وظمياء، وأنت تعرف كيف يتعرض القلب - حين يألف مثل هاتين الشيطانتين - للطواف بأركان الحقائق والأباطيل

أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أوفق كل التوفيق في تدبيج هذا التقرير لأنه خلا خلواً تاماً من شوائب الرياء، في وقت صار فيه الرياء سيد الأخلاق، وإلا فما الذي كان يمنع من أن أضيف إلى نفسي وإلى ليلى محامد ومناقب يسير بها الركبان؟ ما الذي كان يمنع من أن أقول إن ليلى لم تعتب علي مرة واحدة وإني كنت في هواها أعقل الناس؟

منع من ذلك التعقل مانع واحد هو الغرام بالصدق. منع من ذلك أني أشعر بأن الأدب العربي أصبح على شفا الهاوية بفضل شيوع التدليس في تصوير العواطف والغزائز والطباع

منع من ذلك أني أبغض أشد البغض أن تشعر وأنت تقرأ هذا التقرير بأن فيه شيئاً من

ص: 54

الزور والبهتان

وهل من القليل أن تراني وصلت إلى ضمير الحياة العراقية ثم وصفته بأسلوب يخفي سحره الدقيق على هاروت وماروت؟

في هذا التقرير، أيها الوزير، ما يشبه التحامل على الأطباء ولي في ذلك عذر مقبول.

فأنت تعرف أن الحكومة كانت أوعزت إلى الجمعية الطبية المصرية أن تقيم مؤتمرها العاشر في بغداد لتعينني على مداواة ليلى المريضة في العراق.

ولكن أولئك الأطباء حاربوني وقاتلوني بلا ترفق، وقد جزيتهم بما يستحقون، وأنا مع ذلك أشعر بأني أحسنت إليهم كل الإحسان.

أما يكفي أن أصور بقلمي فلماً للمؤتمر الطبي العاشر، فلماً رائعاً لم يشهد مثله الناظرون؟

سترى في هذا التقرير أن ليلي - وإن بالغت في الدلال - لم تضمر غير الحب ولم تمنح الواشين الآثمين غير الصد والإعراض

سترى أن ليلى عرفت أني لم أكن إلا طيفاً زار في السحر بساتين الكرخ وبغداد.

ويؤذيني أن أعرف أنه قد يصعب أن أرى ليلى بعد اليوم فقد قيدني أهلي وأبنائي بقيود من حديد، وقهروني على أن أعترف بأني من مصر لا من العراق

وإن رأيتم في هذا التقرير حبسا شديداً للأمة العراقية فلا تعجبوا، فما ذقت طعم الحياة إلا في العراق، ولا رأيت صدق القلوب إلا في العراق، ولا عرفت جمال النيل إلا بعد أن رأيت لون مائه في دجلة والفرات

وما أسفت على شيء كما أسفت على أن لم يقدر لشاعرنا شوقي أن يزور العراق.

وقد دعوتكم إلى زيارة العراق، فمتى تجيبون؟

أحب أن أعرف متى أراكم في العراق بين قومي وأهلي؟

أحب أن تسمعوا سجع الحمائم في الموصل، وأن تروا غابات النخيل في البصرة، وأن تعانوا بقايا السحر في بابل، وأن تكحل أعينكم بغبار الصحراء في النجف، وأن تستصبحوا بظلام الليل في بغداد

أدعوكم أيها الوزير إلى زيارة الأماكن التي قضت بأن يتموج هذا التقرير بعباب الهدى والضلال.

ص: 55

أدعوكم إلى زيارة العراق لتواجهوني بما في هذا التقرير من الزائف والصحيح، إن ارتبتم في بعض ما ستقرءون.

ستروه في هذا التقرير رموزاً كثيرة، وقد تجزون من يحدثكم بأني سلكت فيه مسلك الغمز والتجريح، فإن سمعتم شيئاً من ذلك فاختبروه بأنفسكم على ضوء الحق لتعرفوا أني أخلصت النصح للأمتين العظيمتين:(مصر، والعراق).

وما الذي يوجب التصريح في مواطن يكفي فيها التلميح؟

أن البلاغة تجعل اللبس والغموض من أغراض الكتاب في بعض الأحيان فكيف تحرمون على ما استباحه المفكرون في مختلف العصور والأجيال؟

إن هذا التقرير يحدد صلات مصر بالأمم العربية والإسلامية ويدلها على مذاهب الخلاص من الشبهات والأراجيف. وهو كذلك يشرح المعضلات التي يتعرض لها الجيل الحديث في مصر والشرق، وما كان يتيسر ذلك إلا إذا اعتمد الكاتب على رموز وإشارات يفهمها أولو الألباب.

وإني لواثق بأنكم ستعجبون حين ترونني وصلت إلى دقائق لم يفطن إليها أحد قبل اليوم وأنا أتلقى الوحي من ليلى ومن ظمياء

وهل كان ينتظر من رجل يلهو ويلعب أن يصل إلى ما وصلت إليه في تشريح السياسة الدولية في الشرق العربي والإسلامي؟

ذلك شيء غريب، ولكن الأغرب أن تتلقوا الحكمة عن أفواه المجانين!

وأعيذكم أن تظنوا أني آذيت بهذا التقرير أحداً من الناس، فقد عرضت بعض فصوله على ليلاي بالعراق قبل أن أعرضه عليكم فتلقته بالقبول، وهي التي علمتني مذاهب الرمز والإيماء، وسيرمي النقاد مني بداهية إن بدا لهم أن يعترضوا على ما في هذا التقرير من رموز لا يدرك مغازيها إلا الراسخون في الحب والطب

ولك يا معالي الوزير أن تبلو سرائر هذا التقرير إن أردت لك أن تسأل - بيني وبينك - عما في هذا التقرير من غرائب وأعاجيب. . .

وليس لك أن تطالبني بأن أفسر للجمهور ما يقصد إلى طيه الحكماء، وأنا من الحكماء لأني بحمد الله مجنون!

ص: 56

في هذا التقرير خطابات شخصية، فلا يرعك ذلك: فقد كان أدبي من مواسم الأفراح الروحية في بغداد، وفيه صور كثيرة لمعالم العراق وبعض أهل العراق، وكان في نيتي أن أحلي هذا التقرير بصورة ليلى - أعزها الحب - ولكني خشيت أن أخرج على أمرها العالي، وهي قد أشارت بأن يصان وجهها الجميل عن شره العيون.

لا تعجب من أن أفتن بما وفقت إليه في هذا التقرير، فسترى أني لم أفرط فيه من شيء، وسيدعوك إلى أن تستوحي ليلى المريضة في أسوان كما استوحيت ليلى المريضة في العراق!

أيها الأستاذ الجليل

سترى في هذا التقرير صفحات تشرح الحوادث التي كانت سبباً في وقوع فاجعة بغداد، فاقرأ تلك الصفحات - غير مأمور - لترى أن ما وقع لم يكن أثراً لعداوة موجهة إلى الأمة المصرية، وإنما هو نتيجة لتصرفات أوقعت فيها المقادير بعض الناس لتعرف من في أنفسنا من الصلاحية للاستبسال في خدمت المقاصد العالية بمعاهد الشرق

وكان في نيتي أن أطوي تلك الصفحات من هذا التقرير، ولكن دعاني إلى إثباتها ما عرفت من أن بعض المفسدين يريدون أن يجعلوا تلك الفاجعة نهاية الصلات الودية بين مصر والعراق

وأرجو أن تعرفوا أني لم أتلطف في سرد تلك الأسباب، ولم أضف إليها شيئاً يمليه الغرض في مراعاة مصر أو التحامل على العراق، وإنما وقفت موقف الرجل الأمين الذي يقدر المسئولية أمام الله وأمام التاريخ

وعند قراءة الفصول الخاص بتلك الفاجعة سترون أن الله قدر ولطف: فلم تكن تلك الحوادث إلا سحابة صيف، وقد تقشعت بفضل الله الكبير المتعال

لقد قلت ما قلت، وكتبت ما كتبت في الدفاع عن العراق، ومن الله وحده أنتظر حسن الجزاء. فمن كان له هوى في أن يصدني عن قول الحق فليمض في ضلاله كيف شاء، فما أنتظر العطف من أحد، وقد أقمت حياتي الأدبية على قواعد من الحديد

وما هذه الدنيا الصغيرة التي يتعادى فيها الناس بلا بينة ولا برهان؟

وما بال قوم يؤذونني وما قدمت إليهم غير الجميل؟

ص: 57

اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون

(مصر الجديدة)

زكي مبارك

ص: 58

‌أبي

للآنسة الفاضلة فدوى ط.

(إلى النبراس الذي يضيء أفق حياتي، إلى ذلك العزيز الذي

يتململ الآن على فراش المرض في ظلمات السجن، إلى أبي)

يا أبي ضاق بي الفضاء على رحب مداه

إذ ضاق صدري الكظيمُ

وعراني مما أصابك من نف

يٍ وسجنٍ كآبةٌ وهمومُ

وحشةٌ تملأُ الفؤاد وغمُّ

راسخٌ في جوانحي لا يريمُ

لا الأخ البَرُّ يا أبي فيه للنف

س سلوٌ ولا القريب الحميم

أنت ظلّي الظليلُ في العيش إمَّا

لفحتني أو لوَّحنتي السَّموم

أنت ركني، لا قوَّض الله ركني

وملاذي البرُّ الحفيُّ الرحيم

يا أبي حال بعدك الأنس في الد

ار فأضحى وهو الأسى والوجوم

كيف تمسي، ترُى وكيف تصبح فالس

جن ثقيل على النفوس أليم

ليت شعري هل كفَّ عنك مضيض الس

قم أم أنت موجع مكظوم

يا لقلبي وكيف جسمك في القُرِّ

فعهدي به معنَّى سقيم

أبا دفء المهاد يجفوه جنبي

ويح لي، كيف يزدهيني نعيم؟

ويح لي، كيف أنشد الخفض

واللين وأنت المقيد المحروم

يا أبي كلما تدلت سجوفُ الليل

فالليل مدلهمٌ بهيمُ

وغفتْ أعين، وقرتْ نفوس

حشوها خِسةٌ وطبع لئيمُ

زيَّن اللؤمُ قبحَ ما أبرمته

من أمورٍ، واللؤم خلق ذميم

فاستراحت لمخزيات فِعال

هي عند الأحرار إثم عظيم

تشتري الذلّ بالكرامةِ فاعجب

كيف يرضى ذلّ العبيد (زعيم)

راح يُزهى تيهاً بعارية المنصب

يغريه صدره الموسوم

كل شؤم كانت بلادي بمنجًى

منه لولا وسامه المشؤوم

أًرَّقتني ذكراك، والليل للذ

كرى كتاب مفسِّر مرقوم

ص: 59

فأرى في السطور أخلاقك الزُّ

هْر يزين الأخلاق قلب سليم

وأرى نفسك الأبية لا تع

نو لضيم يبغيه باغ ظلوم

رعاها أن يميل بالوطن الأقد

س - لا مال - مستبدٌّ غشوم

فسعتْ سعيَها النبيل تردُّ

الكيد عنه إذ أزمعته الخصوم

وأرى صحبك الكرام وكلُّ

نهجه نهجك السوَّيُّ القويم

لم يَضِركم أن قيد القيد أيد

يكم ولاقت مرَّ العذاب الجسوم

همم، لو هوت نجوم لإعظ

اٍم لأهوت تجلهنَّ النجوم

كلما هَّم أن ينهنه منها

بضروب النكال جان أثيم

قام روحٌ من الإله يقو

يها فيشتد أزرها فتقوم

وطني، بي مما عراك شجون

وبقلبي مما دهاك كلوم

الرزايا حلت بساحك والأ

يام جارت والبؤس فيك عميم

الأيامي، ويا لبؤس الأيامي

خضب الأرض دمعها المسجوم

رفرفت حولها فراخ مها

زيل براها الشقاء فهي رسوم

أجنحٌ ما نمت قوادمها الز

غبُ وقد هاضها المصاب الجسيم

هاضها اليتم وهي في جدة الر

يش ويا شدَّ ما يلاقي اليتيم

والنسور الأباة لما استضيمت

ضاق عنها في الأرض هذا الأديم

أَنِفَتْ عيشة الهوان وراحت

في سما المجد والعلاء تهيم

أعنقتْ تستجيب للواجب الأس

مى دعاها إليه حقٌّ هضيم

لم تبال الهول المبيد ولم تف

لل شباها صواعق ورجوم

ترسل الموت فاغراً فاه عن زر

ق حداد وهو الأكيل النهيم

يا ضحايا الجهاد في ذمة الله

لأنتم مجدُ البلاد المروم

أيّ نار كنتم وقود لظاها

لو وعاها لريع منها الجحيم

قد تركتم في مصحف المجد ذكراً

هو باق على الزمان مقيم

سطرته لكم مواقعُ حُمرٌ

صبغتها جراحكم والكلوم

(جبل النار)

ص: 60

فدوى

ص: 61

‌من الشعر المنسي لحافظ

إلى محرر المرأة

أرسل إلينا كثير من الأدباء جملة طيبة من شعر حافظ المنسي سنوالي نشره شاكرين لهم فضلهم وعنايتهم، وهذه القصيدة أرسلها إلينا الأديب حسنين محمود حسنين بالإسكندرية وهي مما تجاوزه الديوان الذي طبعته الوزارة على أنها من أروع ما قال شاعر النيل:

// لحاظك والأيام جيش أحاربه

فهذي مواضيه وهذي كتائبه

وهمين ضاق القلب والصدر عنهما:

غرام أعانيه وشوق أغالبه

وليل كمطل القوم كابدت طوله

وأيقنت أني لا محالة صاحبه

كأن دياجيه صحيفة ملحد

تخط بها أعماله ومثالبه

قريت به جيش الصبابة والأسى

وأنزلته صدراً تداعت جوانبه

وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح

بما فعلت بين الضلوع قواضبه

تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي

رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه

رجائي في قومي ضعيف كأنه

جنان وزير سودته مناصبه

ودائي كداء الدين عز دواؤه

وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه

فيا ليت لي وجدان قومي فأرتضي

حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه

ينامون تحت الضيم والأرض رحبة

لمن بات يأبى جانب الذل جانبه

يضيق على السوري رحب بلاده

فيركب للأهوال ما هو راكبه

فما هي إلا أن تجشمه النوى

وما هو إلا أن تشد ركائبه

ويحرج بالرومي مذهب رزقه

فتفرج في عرض البلاد مذاهبه

أقاسم أن القوم ماتت قلوبهم

ولم يفقهوا في السفر ما أنت كاتبه

إلى اليوم لم يرفع حجاب ضلالهم

فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه

فلو أن شخصاً قام يدعو رجالهم

لوضع نقاب لاستقامت رغائبه

ولو خطرت في مصر حواء أمنا

يلوح محياها لنا ونراقبه

وفي يدها العذراء يسفر وجهها

تصافح منا من ترى وتخاطبه

وخلفهما موسى وعيسى وأحمد

وجيش من الأملاك ما ت كواكبه

ص: 62

وقالوا لنا رفع النقاب محلل

لقلنا نعم حق ولكن نجانبه

في أفق البساتين. . .

وهي بساتين بركات بالشرقية، انتقل إليها سعد باشا رحمه الله في الفترة الأخيرة من حياته انتجاعا للراحة، وكان بصحبته نفر من الميامين من أبنائه وفيهم مكرم وحافظ والدكتور محجوب ثابت، وكان لهم ملس حافل بالأنس والسمر قال حافظ في وصفه:

لّما مددْنا بِساط للهو وانبعثت

روائح الأنس تزري بالرياحين

أغنت شمائلُ سعدٍ عن معتّقة

من العنا قيد تسري في الشرايين

وأرشفتنا سجَاياهُ على ظمأٍ

ألذّ من رشفات الخرّد العين

في أنس سعدٍ وفي أوْفَي صراحته

ترى جلالاً ورأيّا غيرَ مأفون

لما مثلت على أنس بحضرته

رأيتُ بين الندامى وجه هارونَ

رأيتُ وجهًا صبوحًا حوله نفرٌ

من الميامين من شمِّ العرانين

إذا دعاهم إلى الجليّ حسبتهمُ

على أعاديهمو مثل الشواهين

وإنْ دعَاهْم إلى أنسٍ رأيتهمُ

مثل الحمائم في خَفضٍ وفي لين

وجالَ محجوبُ جولاتٍ موفّقةٍ

فأحرز النصرَ في كل الميادين

عصى نَذِيرَ الحجا عمداً وصاح به:

(ما لذة العيش إلا للمجانين)

وحلم سعد وسعد يعجبان معاً

من لوثة الشيخ - شيخ الأقرباذين

يرغى ويزبد بالقافات تحسبها

قَصْفَ المدافع في أفق البساتين

وتجد بقية القصيدة في الديوان من باب الإخوانيات بعنوان الدكتور!

(م. ف. ع)

ص: 63

‌رسالة العلم

وزن الكون

وعدد ما به من إلكترونات

للدكتور محمد محمود غالي

لم يكن الموضوعان الأخيران اللذان تعرضنا لهما على صفحات الرسالة: (الكون ينتشر) و (الكون يكبر) من الموضوعات السهلة التي يمكن للقارئ أن يتصورها كغيرها، ولعله اقتنع إلى حد أنه موجود في كون محدود، وأنه محمول على حيز متقوس، وأن عالمه أحد ملايين العوالم التي تبتعد كلها الواحد عن الآخر، والتي تقع كلها في قشرة كرة كبيرة لكنها جوفاء، شاء لها القدر أن تتسع وتمتد على نحو كرة من المطاط، وهي بهذا تكون كوناً واحداً محدوداً منتهياً يختلف عن الكون اللانهائي الذي تصوره أقليدس والذي اعتقده العلماء منذ الإغريق حتى عهدنا القريب

ولم يكن في وسعي أن أواصل اليوم موضوعاً دقيقاً كهذا، وأخطو بالقارئ خطوة أخرى، أدله فيها على الطريقة التي توصل بها العلماء إلى معرفة عدد الجسيمات أو الإلكترونات المكونة للكون، كنتيجة للدراسة المتقدمة، دون أن يتخلل أحاديثنا فترة من الراحة ودون أن نهيئ للذهن فرصة للتأمل، هذا الشعور من التأمل والراحة نود أن يشعر به القارئ في هذه الأسطر من هذا المقال

لم تصبح دراسة هذه الظواهر الحديثة من تمدد الكون وابتعاد جميع العوالم بعضها عن بعض وما يترتب على ذلك من معرفة وتحديد عدد جسيمات هذا الكون، من المسائل التي تدخل في حدود الهندسية والميكانيكا المعروفة، ولا في حدود تصوراتنا المعتادة، مع أن التجارب الطبيعية التي ثبت لنا منها فرار جميع العوالم بعضها عن بعض، وبالتبع فرارنا عنها، بسيطة جداً لا تدعو لكثير من التأمل، وأبسط ما فيها أنها وقعت كلها داخل المجموعة الشمسية التي نحن فيها، بل وقعت جميعها فوق سطح الأرض، بل في حجرة في أحد المراصد الأرضية المتعددة

عجيب ألا يعرف العالم الطبيعي من هذه الحجرة المتواضعة أن الكون محدود فحسب بل

ص: 64

يحاول أن يعرف من رسائل الطيف العديدة التي تصل إليه، والمنبعثة من العوالم البعيدة، عدد الإلكترونات المكونة للخليقة، وهي التي لا يتغير عددها في نظر العالم الطبيعي ما دامت مكوِّنة لكون محدود.

إن النتائج التي ترتبت على معرفة تمدد الكون وقياس الدرجة التي يكبر بها في خلال الزمن، والتي تتلخص في معرفة عدد الإلكترونات المكونة لهذا الكون، مهما كان جسيم الإلكترون متناهياً في الصغر، ومهما كان الكون متناهياً في الكبر، قد تبدو للقارئ غريبة، لذلك رأيت لزاماً أن أحاول رفع هذا النوع من الدهشة لديه قبل شرح الأسباب التي أدت إلى مثل هذه النتائج

لو سألنا عالماً طبيعياً أن يحصي لنا عدد الذرات ونوعها وبالتبع عدد الإلكترونات والبروتونات التي تتكون منها مدينة القاهرة، فإن من المستحيل أن يعطينا هذا العالم أي فكرة عن هذا العدد مهما استعان بمئات الأخصائيين والعلماء. إن محاولة إحصاء المنازل وما بها من أثاث ومعرفة نسبة أوزان جميع العناصر التي تدخل قي تكوينها، بل إن إحصاء الأحياء، الإنسان منها والحيوان والنبات، ومحاولة الوصول من ذلك إلى عدد ما تحويه المدينة المائجة من إلكترونات ضرب من العبث

ولو أننا بعد ذلك حاولنا أن يعطينا عالمنا الطبيعي فكرة عن عدد الإلكترونات الموجودة في مياه النيل مدة فيضانه، وهي كمية أكبر بكثير من الموجودة في القاهرة لأجابنا أنه قد يستطيع بعد البحث والتحري أن يدلنا على فكرة ولو تقريبية عن هذا العدد. صحيح أن هناك صعوبة كبرى في تقدير تصرف المياه المتدفقة في النهر في مثل هذه المدة من السنة، كما أن ثمة صعوبة في تقدير أطوال النهر وأحجامه في المناطق المختلفة وفروعه المتعددة، بل إذا أردنا أن ندخل في حسابنا ما تحمله المياه من طمى تعترضنا صعوبات أخرى، ذلك أن الطمى يختلف مقداره في الزمان والمكان ويتركب من أكثر من عشرين عنصراً، لكل عنصر ذرات تختلف في عدد إلكتروناتها عن الأخرى، ولكن مهما يكن من الأمر، فإن عالمنا الطبيعي قد يستطيع بعد مجهود مضن أن يعطي فكرة عن هذا العدد من الجسيمات، وأن يحدده بين رقمين يتعلقان على دراسة هيدرولوجيه طبيعية معقولة.

ولو أردنا أن نعرف عدد الذرات المكونة للكرة الأرضية الحاملة لنهر النيل وغيره لهان

ص: 65

الأمر قليلاً، ذلك أوزن الأرض معروف بينما وزن مدينة القاهرة أو لندرة غير معروف، بل إن الكثافة المتوسطة للكرة الأرضية معروفة أيضاً وهي تساوي 5 ، 25. ليس المجال هنا لإثبات ذلك. وهكذا يحاول العالم أن يعطينا فكرة تقريبية رغم ما يتخلل الموضوع الأخير من مصاعب، منها عدم معرفتنا مقدار النسب الموزعة بها العناصر المختلفة في باطن الأرض. ومهما يكن من الأمر فإنه يبدو أن الخطأ النسبي في معرفة العدد التقريبي لذرات الأرض بالنسبة للعدد الحقيقي لها أقل بكثير من الخطأ النسبي عندما نحاول عد هذه الجسيمات لمدينة القاهرة.

ولو أننا سألنا العلماء اليوم عن عدد الذرات ونوعها وبالتبع عدد الإلكترونات والبروتونات المكونة للكون، وعن بعض البيانات الأخرى الخاصة به مثل نصف قطرة قبل تمدده ودرجة تقوسه وكتلته وكثافته وغير ذلك لأعطونا الإجابة التي نراها في هذا المقال - إجابة يظهر أنها عند هؤلاء العلماء أقرب للحقيقة من كل تقدير سابق.

وليس السبب في ذلك أننا نرى الكون وحدوده، ولا أننا نعرف أجزاءه جزءاً جزءاً، ولا أننا نحيط بمقدار كل عنصر من العناصر المكونة له، ولكن لأن ثمة معارف في مسائل أخرى مثل تمدده تجعل بين هذه المعارف وبين إلكترونات الكون رابطة تسمح بالوقوف على هذا العدد، بحيث إذا كانت معارفنا في هذه المسائل صحيحة كان عدد الإلكترونات المكونة للكون صحيحاً. ولعل القارئ قد أدرك أن هذه المعارف لا بد وأنها تتصل مباشرة بعلاقة بين الكون في مجموعه وبين الإلكترون المتناهي في الصغر والذي قلنا إنه يدور في المادة حول النواة كما يدور القمر حول الأرض

قد يتراءى للقارئ أن هذا الترتيب غريب لا يتفق مع المنطق في شيء. كيف أستطيع أن أعرف عدد إلكترونات الكون أكثر مما أعرف عدد إلكترونات الكرة الأرضية؟، بل كيف أعرف عدد جسيمات هذه أكثر مما أعرف جسيمات مدينة القاهرة؟ هذه المدينة التي أعرف حدودها أكثر مما أعرف الأرض، وهذه الكرة الأرضية محدودة أمامنا أكثر من الكون. إن طيارا مثل كامبل الإنجليزي قطع دون توقف المسافة بين لندرة ومدينة سدني من أعمال استراليا في ثلاثة أيام وثلاث ساعات، أي أن الطيار يدور في عهدنا حول الأرض في أسبوع واحد. كيف تصعب معرفة عدد جسيمات الأرض عن الكون؟ وهذا الأخير مكون

ص: 66

من ملايين الملايين العوالم - كل عالم مكون من ملايين الملايين الأجرام والشموس.

ولكن لا أريد أن يعجب القارئ لذلك فإنه على قدر المستندات العلمية التي أمامنا تكون درجة معرفتنا للأشياء صحيحة.

هب جدلاً أن صديقاً لك شيد مسكناً خاصاً في إحدى ضواحي القاهرة، وأنك عثرت في أوراق صديقك على مستندين: أحدهما يدلك على أن الأرض والمباني قد كلفته ثلاثة آلاف جنيه، والثاني يدل على أن الأثاث قد كلفه ألف جنبه أخرى، عندئذ تستطيع أن تؤكد أن هذه الدار كلفت صاحبها 4000 جنيه

وهب أن صديقاً آخر سألك عن تكاليف حجرة المكتب بمفردها أو عن القيمة التي دفعها ثمناً لأشجار الحديقة أو لسجادة موجودة في غرفة الاستقبال، فإنه يتعذر عليك عندئذ أن تعرف أيا من هذه. قد تحاول أن ترجع إلى أسعار السوق لتعرف كم كلفته هذه السجادة الفاخرة، ولكن يعوزك مثلاً معرفة التاريخ الذي اشتراها فيه، وقد يعوزك إن عرفته تعيين الظروف التي اقتناها فيها، فقد يكون ابتاعها في مزاد تصادف وقوعه في ذلك التاريخ، وقد يكون المزاد خاصا بصديق له فلا تعرف أن كان تساهل معه في تقدير الثمن: ثمة عوامل عديدة تجعل تقدير ثمن أثاث كل حجرة ضرباً من المحال. ولكن ليس لصديقك أن يدهش إذا علم أنه إن فاتك معرفة ثمن جزئيات الدار، فلا يفوتك معرفة الثمن الكلي لهذه الدار؛ إذ أن من حقك دائماً إن تقول لمحدثك: لا تسائلني عن أجزاء الدار ولا عما تكلف صاحبها لشراء هذه السجادة أو المكتبة، كل هذا لا أستطيع أن أعطيك فكرة عنه، ولكن سلني عن الدار بأكملها أجبك أنني أعرف

هذا ما أود أن يعلق بذهن القارئ، فلسنا في حاجة لأن نتجول في الكون لنعرفه فقد يكون لدى العلماء مستندات جديدة تدل على عدد ما به من إلكترونات أو على طول نصف قطره قبل ابتداء تمده أو درجة تقوس الحيز فيه في الوقت الذي يتعذر علينا أن نعرف فيه عدد الإلكترونات المكونة الأرض أو لمياه النيل أو لمدينة القاهرة

على أنني إن تحاشيت فيما تقدم من مقالاتي أن أشغل ذهن القارئ بالأرقام، أرى لزاماً علي هذه المرة أن أدله على وصف الدار التي يسكنها وعلى حدود المملكة التي هو فرد فيها هذا الكون الذي ذكرنا أنه كروي وأنه يكبر بات أرضاً خصبة للتفكير العلمي. وللقارئ فيما يلي

ص: 67

النتائج الكمية الخاصة بالكون وفق آراء أدنجتون العالم الإنجليزي المعروف

(1)

سرعة ابتعاد العوالم

528 كيلومتر في الثانية لكل

3.

26 مليون سنة ضوئية

(2)

نصف قطر الكون قبل

ابتداء التمدد

1068 مليون سنة ضوئية

(3)

كتلة الكون

2.

14 10 55 جرام أي

1.

08 10 22 قدر كتلة الشمس

(4)

عدد الإلكترونات المكونة للكون تساوي عدد البروتونات

1.

29 10 79

(5)

كثافة الكون الأولى

1.

05 10 - 27 جرام س م3 أي بمعدل ذرة واحدة من الهيدروجين لكل 1. 58 س م3

(6)

الثبت الكوني

9.

8 10 - 55 س م - 2

ومما يجدر بالذكر أن هذه النتائج التي هي آخر حدود معارفنا حتى سنة1934 مرتبطة الواحدة منها بالأخرى، بحيث إذا عرفنا إحداها عرفنا البقية منها، وتتعلق كلها بالسرعة التي تبتعد بها العوالم أي بالرقم 528 الموجود بالصف الأول من الجدول

على أن درجة معرفتنا لسرعة السدم والعوالم البعيدة وعلاقة ذلك بتمدد الكون تزيد سنة عن أخرى، ففي سنة 1931 لم يكن يعرف العلماء سوى 90 سديماً وكانت أكبر سرعة يعرفونها هي سرعة سديم الأسد وهي 19600 كيلومتر في الثانية، ويبعد عنا هذا السديم بمسافة يقطعها الضوء في 104 مليون سنة

أما في سنة 1936 فقد وصلت معارفنا إلى قياس سرعة 179 عالماً وسديماً من العوالم البعيدة عنا وكان أكبر هذه السرعات لسديم موجود في اتجاه الدب الأكبر وهو يبتعد عنا

ص: 68

بمسافة 241 مليون سنة ضوئية ويبتعد بسرعة 42 ألف كيلومتر في الثانية، وهذه المعلومات الأخيرة عرفناها من كتاب الأستاذ الكبير بريا أستاذ السوربون الذي يشغل الآن كرسي الطبيعة الفلكية، هذا الكرسي الذي أوجدته جامعة باريز منذ سنة 1937 وقد طالعنا في الأسبوع الماضي أن منظار مرصد مونت ولسون بأمريكا الذي يبلغ قطره مترين ونصف المتر والذي ترى صورته الفوتوغرافية هنا يكشف العوالم المفصولة عنا بمسافة 500 مليون سنة ضوئية

ذلك ما بلغناه من المعرفة، وللقارئ أن يتصور مبلغ خطورة هذه المعرفة منذ أن ذكر وليم هرشل في أواخر القرن الثامن عشر أن للسدم اللولبية جزرا كونية شبيها كل منها بعالمنا المجرة. ومنذ أن نشر أينشتاين في سنة 1915 النسبية في وضعها العام وتنبأ (دي ستير) في سنة 1917 بابتعاد العوالم عنا، ووضع شابلي في سنة 1918 القانون الذي يربط القدر المطلق للنجوم المتغيرة بفترة تغيرها، ومنذ أن اكتشف هبل في سنة 1924 نجوماً في السدم القريبة من هذا النوع الأخير، ناهيك بما بلغته الأجهزة الفلكية من الكمال

عجيب هذا الإنسان! كل يوم يزداد معرفة عن يوم، حتى أصبح الكثير من الأمور لا يخفى على ذكائه.

أنستطيع أن نحصي إلكترونات الكون؟ نعم. وأي عجب في ذلك ما دمنا نتبع طريقاً علمياً سليماً يعطينا هذا القدر.

عندما نريد أن نعرف وزن كرة صغيرة من مادة معينة نفكر عادة أن نضع هذه الكرة على كفة ميزان، ولكن إذا استحال وزنها لتناهي صغرها بدا للشخص أن القيام بهذه العملية مستحيلاً، ولكن العالم الطبيعي يعرف مثلاً علاقة بين وزن الكرة، وبين سرعتها في الماء أو الهواء، وحيث أنه يتيسر له قياس هذه السرعة فإنه يصل لمعرفة وزن هذه الكرة، وهو لذلك غير محتاج إلى الاستعانة بالميزان للوقوف على حقيقة ثقلها.

وإنما أردت بالكرة المتقدمة أن أقدم للقارئ مثلاً كيف يصل العلم بطريق غير مباشر لاختراق طريق المعرفة، وليس هناك أي علاقة بين سرعة الكرة المتقدمة وموضوع تمدد الكون أو معرفة وزنه.

ولو أن السحب المحيطة بالكرة الأرضية كثيفة بحيث لا نرى الشمس بل تكتنفنا ظلمة

ص: 69

حالكة، لما استحال علينا أن نعرف دورة الأرض حول نفسها. فللوصول إلى ذلك نرقب كرة معلقة بخيط طويل بعد هزها فنلاحظ أنها لا تهتز فقط بل نلاحظ دوران المستوى الذي تهتز فيه.

وهكذا لم يكن العالم الكبير (فوكوه) بحاجة ليرى الليل والنهار ليعرف من تعاقبهما دورة الأرض، بل استدل على ذلك من بندوله المعروف الذي علقه من قبة (البانتيون). مدفن العظماء في باريس، هذه القبة التي ترتفع عن سطح الأرض 78 متراً. ذلك البندول نرى شبيهاً له في متحف فينا الحالي.

وهكذا يزداد قاموس المعرفة وتتقدم العلوم بين البشر، ولعل في وزن الكرة الصغيرة المتقدم ذكرها وفي بندول فوكوه الذي عرف منه دوران الأرض سبباً عند القارئ ليعرف أن قطر الكون ووزنه وعدد إلكتروناته مسائل يجيز معرفتها العلم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 70

‌القصص

أقصوصة من الكاتب الإنكليزي ينز

الشاعر

(جائزة نوبل)

للأستاذ صلاح الدين المنجد

مشى يتخلع ثملاً في حنايا المدينة، وقد أغفى الليل وسجا الكون، فطرق سمعة نغم حلو يصعده ناي حزين. فسعى إليه، جذلان طرباً. فقد كان للأنغام أثر في نفسه، وسلطان على حسه، وسيطرة على هواه. . .

فلما جاز بالدار التي ترسل النغمات. . . نادى صاحبها، فقام إليه يندى وجهه فرحاً، فرحب به وقال له:

- ما هذا الهجران الطويل يا هانرهان. . . فلقد صرمت حبالنا منذ بعيد، فنحن بعدك في شوق يلح، وكآبة تضني. . . أهلاً. . . حللت يا هانرهان. . .!

فلكزته زوجه بجمع كفها، وهمست في أذنه: أن اطرده، فإن الناس يتقولون الأقاويل عليه، وإن الكهنة يقصونه عن المعبد كلما أتى إليه. . . ثم إن ثمل. . . دعه. . . دعه يمض وحيداً

فصاح بها زوجها قائلاً: (أأطرده أن جاء إلي بعد سنين طويلة. . .؟ إنه شاعر رقيق القلب، طيب النفس

ودخل الشاعر الدار يتبع ربها. . . فقاده إلى غرفة تكدس الناس فيها من الجيران. . . فغشيها وقد شخصت الأبصار إليه. وقال فتى كان هناك:

- أليس هذا هانرهان الذي ذاع صيته. . . وكان معلماً فطردوه. . .؟

فأخرسته أمه وقالت له:

- لو أنه سمع مقالتك لا ندرأ عليك سباً وشتماً. . . أنصت!

وساد السكون. . . ولكن أحد الفتيان نادى الشاعر لينشد القوم شعراً. فأبى رب الدار ذلك عليه. . . لأنه لم يصب بعد من الراح شيئاً، ولم ينل من الراحة قسطاً. فأخذ الشاعر يعب

ص: 71

الخمر وقد جاشت في كأسها. . . ثم يحول بصره نحو الباب لينظر إلى (وانا) فتاة الدار، وقد أتت تعانق حزمة من الحطب الجزل، لتؤرث بها النار، وشعرها الأشقر الجعد متهدل على وجهها وعينيها

وقام إليها الفتيان مسرعين ليأخذوا منها الأعواد. ولكنها رمت بها إلى الموقد. . . وانثنت وثغرها المرفاف يضحك لترقص مع فتى لها، فغضب الشاعر. . . وضرب الأرض، ثم دفع بالفتى وهو يزبد صائحاً:

- ولقد قطعت طريقاً طويلة، وأتيت لأراها. . . فأنا الليلة فتاها. . .

وأسرعت (وانا) إلى الشاعر فمدت إليه يديها والخجل يعلو خديها. . . وعزفت الموسيقى، وقام الناس ليرقصوا. . . ولكن وا أسفاه. . . لقد انحنى الشاعر فرأى حذاءه الذي حال لونه وبلى فبدت من خلاله أصابع رجليه التي نفذ إليها الطين، وأبصر سرواله الممزق، وساقه العارية المملوءة بالشعر الأسود الغليظ. . . فارتد إلى مكانه وهو يقول:

- لا أستطيع الرقص والموسيقى تسرع

ولها الناس، وجنت الموسيقى، وعربدت الأنغام. . . والشاعر جالس مع (وانا) يقص عليها أحلى الأقاصيص

وأدركت الأم خطر الشاعر الذي يريد أن يسحر الفتاة. . . فنادتها ولكنها أعرضت عنها. . . فأقبلت الأم على الموقد تتظاهر بتأريث النار، وتصغي إلى حديث هانرهان. لقد سمعته يحدثها عن (ديردر) ذات الأيادي البيض. . . التي قادت الأمراء إلى الموت فماتوا وجداً بها وهياماً. وأحزنها فقدهم. . . فطفقت تبكي. . . آه يا (وانا). . . إن الأزهار تذرف الدمع في السحر حزينات رحمة بها، وإن الشعراء يتغزلون ويبكون لها. . . ما كان أجملها وأعذب صوتها يا (وانا)!

واضطربت الأم، وأرهفت أذنها. إنه يقول لها:(مثل الشمس والقمر يا (وانا) كمثل المرأة والرجل، خلقا ليتحابا. . . ألا تنظرين إليهما يتنقلان في السماء؟ لقد خلقت يا (وانا) معي قبل أن يخلق الله الناس لكي نرقص بين طيات السحاب الرقيق. . . نرتفع مع النغم الهادئ، ونهبط مع النشيد الجميل بخفة وسرور، على حين يسقط الناس صرعى لاغبين!)

وانتصبت المرأة مضطربة الشعور، ومشت إلى زوجها وهو يلعب الورق، فحدثته حديث

ص: 72

الشاعر والفتاة. . ولكنه ازور عنها يضحك منها. فأحزنها الأمر، وقامت إلى عجوز فقصت عليها نبأ (وانا) مع الشاعر المخيف:(ويلي كيف السبيل إلى طرده. . . إنه ساحر ملعون. . . فلأحرضن الفتيان عليه!)

وجاءت إلى الفتيان وقالت لهم: (ويحطم. . . ألا تستطيعون نزع ابنتي من هذا الشاعر فترقصوا معها. . . هيا. . . هيا!)

وقام الفتيان. . ولكنها ردتهم خائبين. . فمالوا إلى الشاعر يلحون عليه في الرقص. . فأذعن بعد لأي. . وانتصب يرقص مع الفتاة. .

وبينا هو كذلك. . . إذ طرب. . . فاندفع لينشد الشعر. . . فخرست القيثارة. . . وأنصت القوم وقال هانرهان:

(يا أصابع الموت المخيفة. . .!)

(لن تمسِّي روحينا في هذا المكان. . .!)

(ولكن في ذلك الوطن الغالي الحبيب. . .!)

(حيث تبسم الزهور وترفّ الثغور. . .!)

(من راد الضحى. . . حتى جنوح الأصيل.)

(حيث تدب الجداول. . . الجذلى. . .!)

(تحمل موجات الجعة العذبة الشقراء. . .)

(وحيث يلعب الشيخ الهِمّ على الأوتار. . .)

(في الغابة المليئة بالذهب والفضة. . .!)

(وحيث الأميرات ذوات العيون الزرق الصافية)

(يرقصن على الحشيش الغض بفرح وكبرياء. . .!)

كان يغني بحماسة وشوق و (وانا) تتقرب منه، وقد حرك إنشاده شجونها وملك عليها أمرها. . . فلما فرغ من إنشاده. . . أطرقت (وانا) وسقط الدمع من عينيها ندي. فقال أحد الفتيان:

- أيها الشاعر. . . . أين هذه البلاد التي تصفها في شعرك؟ (وانا) إنه يخدعك. . . إن الطريق طويلة. . . والوطن بعيد!

ص: 73

وقال فتى آخر:

- ليست بلاد الصِّبا هذه يا (وانا) إنك لم تخلقي لتصاحبي هذا المجنون!

عندئذ شخصت (وانا) ببصرها إلى الشاعر الحزين. . . كأنها تريد أن تسأله شيئاً. . . ولكنها وضعت كفها بين كفيه ورفعتهما إلى أعلى. . . وقالت بصوت رخيم:

- إن الوطن لقريب منا. . . يا شاعري. . . إننا نستطيع إدراكه الآن. . . إنه هناك. . على ذرى الهضاب ذات الرفيف. . بالقرب من الغاب التي تأويها الريح ذات الزفيف. . .

فصاح الشاعر:

- نعم في ذرى الهضاب. . . يا فتاتي. . . يا ذات العيون الزرق. . . ولكن الموت لن يجدنا. . . هناك. . . لأننا نختفي بين السحاب الأبيض الجميل. .!

وأنا. .! يا ذات العيون الزرق. . . هل تريدين المجيء معي. .؟

وذعرت الأم وقالت لعجوز كانت إلى جانبها:

- كيف السبيل يا جارتي إلى طرده؟

- ولكننا لا نستطيع. . . إنه شاعر الآلهة، ومن يطرده تنصب عليه اللعنات تتري في الغدوات والعشيات! ثم يجف الضرع ويموت الزرع، وتهلك النفوس. .!

- ربّاه عونك! إن في لسانه السحر. .

- كان عليك طرده. . ولكن. . اسمعي. . تعالي. . سنخرجه وهو راض عنا، تعالي. .

وخرجت العجوزان ثم عادتا تحملان حزماً من الفصفصة الخضراء، وكان الشاعر يكلم (وانا) ويقول:

- (إن الديار يا وانا ضيقة والعالم فسيح، ولن تجدي يا فتاتي مخلوقاً تيمه الحب، يخاف الليل أو الفجر، والشمس أو النجوم، وأشباح الأماسي وأطياف الأسحار، هيا يا فتاتي.)

واقتربت الأم من الشاعر فربتت على كتفه وقالت له:

- هات يدك يا هانرهان. .

وقالت العجوز:

- أنت قوي يا هانرهان. . . ساعدنا على ربط هذه الحزم الخضر. . .

وتقدم الشاعر يربط الحزم بحبل والعجوزان تفكان العقد التي يعقدها ويجران الحبل نحو

ص: 74

الباب، والشاعر منهمك في الربط. . والفتاة تنتظر. . حتى إذا كان عند الباب دفعت الأم به، فهوى إلى الشارع لا يعي. .

واستفاق الشاعر يبكي. . . فضرب الباب. . . وصعد الزفرات وأرسل اللعنات. . . ولكن لم يجبه أحد. . .

وساد السكون. . . وتلاشت الأنغام. فقد مضى الشاعر في طريقه يذرف الدمع. . . وا رحمتا له!. . . لا رفيق ولا حبيب، لا كأساً يجيش فيها الخمر، ولا فتاة ترهف لأناشيده وأنغامه الأذن

وقالت له نفسه: هيا إلى البحر، فلن يسعك شيء سواه!

وجلس فوق الصخور الشم يستمع إلى تصفيق الموج، ويصغي إلى همس الريح السجواء. . فطرب واندفع يغني، وكان الضباب الهف يغمر الفضاء ويحف بالشطئان، وكانت أشباح الليل ترقص حوله. . هنا وهناك تصعد من البحر وتهبط من السماء!

لقد خيل إليه فجاءة أن طيف الأميرة التي حدث (وانا) عنها يناجيه. . .

ولكن. . . آه! إنه يتذكر الحبل والعقد. . . أهو حبل؟ لا. . . تلك أفعى خرجت الآن من البحر. . . هاهي ذي تحيط به يا لله! لشد ما تخيف. لقد وسعت كل شيء: الأرض، السماء حتى النجوم الخافقات. . .!

ولكن. . لا. . هاهو ذا طليق، فمشى يتماوح ويعربد ويغني

لقد اختطفته الأمواج، وحفت به الأطياف، وحملته الأشباح على الزبد الجياش، وهي تغني. . وتقول:

(هيا لنحمله إلى بنات الهضاب. . . إلى الحسان الراقصات هناك. . . فهو لن يذوق الحب في الأرض. . . لقد دب الفناء في نفسه. . وجثم الظلام فوق قلبه، دعوه ينم. . دعوه يمت. . . دعوه يحلم ببنات الهضاب)

صلاح الدين المنجد

ص: 75

‌البريد الأدبي

الفرقة الإيطالية للغناء في دار الأوبرا الملكية

الثقافة غير محصورة في القراءة والكتابة. الثقافة تجمع بين الفن والغناء والأدب والعلم والمسرح؛ على وجه التخصيص. فقد ولى الزمان الذي فيه كان يقال: تأدب فلان إذا قرأ كذا وكذا. ومعنى ذلك أن متأدب هذا الوقت يحق عليه أن يرهف الحس لألوان الفن؛ ويميل الأذن لضروب الغناء والعزف، ويقلب النظر فيما يجري على خشب المسرح، إلى جانب المطالعة والتلقي

والكلام هنا على الغناء والعزف. فمن يخبرني على أي وجه تقوم الموسيقى السائرة في مصر مقام مصدر من مصادر الثقافة؟ أما الغناء الدوار على ألسنة أهل الصناعة فمرذول، لما فيه من الإسفاف والابتذال وضيق المجرى، فضلاً عن مسخ طائفة من الأغاني الإفرنجية. وأما العزف فقد جمد وجف بفضل جماعة قصروا هممهم على التقليد، وفي ظنهم أنهم حضنة الموسيقى؛ عفا الله عن المعهد الملكي للموسيقى العربية، وأصلح من يمده بمال الأمة!

الموسيقى عندنا غير صالحة، وليس في وسعها أن تساير النحت والتصوير والرسم - وقد جل شأنها جميعاً على أيدي الفنانين المصريين - في تهذيب الجانب الفني من طبائعنا، ولا في إسعاف من يهوى الموسيقى الجيدة ببغيته. ولذلك لا بد لمن ينشط لما وراء (البشرف والسماعي والموال والطقطوقة) أن ينصرف إلى سماع الموسيقى الغربية. وهذه وزارة المعارف تجلب في فصل الشتاء من كل سنة فرقة إفرنجية تعمل في دار الأوبرا الملكية.

ومما يورث الأسف بل الحزن أن الفرقة التي هبطت دار الأوبرا لهذه السنة (وهي إيطالية) لم تصنع شيئاً في سبيل الثقافة. وذلك لأن الموسيقى الغربية فيها الحسن والقبيح، والرفيع والساقط، والطريف والمبتذل. فكأن من وكل إليه لم أفراد هذه الفرقة (وهو إيطالي) قال في نفسه:(ليس في مصر من يحسن السماع، وليس فيها من يميز اللحن الجيد من اللحن الرديء). قال هذا أو نحوه ثم جاء بفرقة لا تتجاوب أطرافها، إذ فيها نفر من المغنين الحذاق، وكثير من المغنين الضعفاء. وأحسن ما فيها القائد الأول للعزف واسمه فتو.

وأما القطع التي أدتها تلك الفرقة فبينها وبين الفن الخالص مسافة. ذلك أن طائفة منها بالية

ص: 76

والأخرى مبتذلة؛ وهذه القطع تكاد تؤدي كل سنة في مصر، وأساميها لاكتها الألسنة: مثلاً ، ، ، ، ، هذه القطع تلحق اليوم، في أوربة، بنوع الأوبرة الشعبية، لأن الألحان فيها لا تعدو، في غالب الأمر، النغم القريب المنال. ودليل هذا أن أكثر القطع التي أديت من تلحين فردي وهذا الملحن الإيطالي (1813 - 1901) عمد، إلا في قطعته الأخيرة: إلى اللحن الوجداني تساوقه الآلات في استرخاء. وهذا اللون من التلحين عقبه ما يقال له: الموسيقى الفيرية: وخصائص هذه الموسيقى المأساة المفرطة، والخطابة في الغناء. وهز الأعصاب، والمبالغة في التعبير. ومن أصحاب هذا اللون من الموسيقى ملحن والمذكورتين قبل. هذا وفيما أدته تلك الفرقة قطعة للملحن الفرنسي واسمها وليس ذلك الملحن في المرتبة الأولى ولا الثانية - عند أهل الدارية - لما في صناعته من التكاليف وقرب الإحساس والرخاوة.

فإذا أنت استثنيت هذه القطعة الأخيرة (وقطعة فجنر الآتي ذكرها) تبين لك أن تلك الفرقة عنيت بتأدية قطع إيطالية. ومما لا يخفي على البصير بالموسيقى أن فن الأوبرة إنما بلغ الغاية أو قاربها على يد فجنر الذي حطم القيود اللاتينية، ثم على أيدي فئة من الفرنسيين مثلاً) والروس مثلاً). والفرق الذي بين الأوبرة الإيطالية والأوبرة الفجنرية، على سبيل التمثيل، كالذي بين ديوان ينظمه شاعر رقيق كما يقال اليوم، وشاعر فحل كما كانت العرب تقول.

ومن الغريب أن الفرقة أغفلت أن الفرقة أغفلت الأوبرة الحديثة من ألمانية وفرنسية وروسية وغير ذلك. وقد بدا لها أن تعلن أنها تؤدي قطعتين لفجنر هما: الأولى، وأما الثانية فقد أدتها على شكل كان الإهمال عنده أفضل

بقى أن الفرقة أعلنت أنها تؤدي قطعة طريفة لملحن إيطالي مجهول: فما بلغني هذا حتى أسرعت إلى دار الأوبرة، مهتزاً. فإذا القطعة شر ما مزق أذني من التلحين (الرومنتيكي) المفرط في (الميلودرام)

أن ظن بعضهم أن لا رغبة في الموسيقى الحقة بمصر، وأن الحظ الأعلى فيها لألوان الأوبرة البالية والمبتذلة، فليقصروا ظنهم على أنفسهم أو على الفئة الكبرى من الإفرنج المقيمين بهذا القطر. فإنما في المصريين من يرغب في الموسيقى الجيدة، الطريفة،

ص: 77

الموسيقى التي تقوم مقام مصدر من مصادر الثقافة

عفا الله عن وزارة المعارف، فهذه خمسة آلاف جنيه أنفقت لإعانة فرقة لم تصنع لمصر شيئاً.

بشر فارس

كشف أثري عظيم

وفق المسيو مونتيه رئيس بعثة الحفريات الفرنسية للعثور على مقبرة ملوكية لقدماء المصريين بالقرب من صان الحجر

والمقبرة لملك اسمه شوشنك، والمعروف أن خمسة ملوك بهذا الاسم قد حكموا مصر ما بين عامي 850 و750 قبل الميلاد، وأولهم هو الملك شوشنك الذي استولى على القدس وغنم هيكل سليمان بن داود (ع)، ولا شك أن هذه المقبرة لواحد من هؤلاء الملوك الخمسة سيصل إلى حقيقته البحث العلمي فيما بعد

وقد عثر المسيو مونتيه في الحجرات التي تم فتحها على تابوت من الفضة يمثل شكل آدمي له رأس الصقر، وبداخل هذا التابوت مومياء محنطة سليمة مغطاة برداء من الذهب. وقد تبين من قراءة النقوش أن المومياء للملك شوشنك نفسه، وبجوار التابوت جثتان باليتان، وعلى الجثة الموجودة إلى اليسار عقد من الحجر الأحمر مصنوع على شكل سلسلة من الذهب، وفي الحجرة جملة من التماثيل الجنائزية الصغيرة التي يعثر عليها عادة في مقابر الموتى من قدماء المصريين، وفها أيضاً جملة من الأواني الجنائزية المقفلة بالطين، وقد فتح مسيو مونتيه ثلاثاً منها - بحضرة صاحب الجلالة الملك - فوجد بداخلها ثلاثة تماثيل من الفضة للملك شوشنك، وهي عبارة عن أوان على هيئة تماثيل، وفي داخل كل منها بعض أحشاء الميت وفي جانب من الغرفة آنية كبيرة من الفخار مسدودة بالطين، يبلغ ارتفاعها 130 سم، وقطرها30 سم ولم تعرف محتوياتها بعد

وتحيط بهذه الغرفة عدة غرف لم يفتحها مسيو مونتيه، ولكنه احدث في إحداها ثغرة تيمناً بزيارة صاحب الجلالة الملك، فظهر من خلالها غرفة متوسطة الحجم بها (ناووس) كبير من حجر الجرانيت الأحمر يعلوه غطاء من حجر البازلت الأسود، وقد دلت القرائن على

ص: 78

أن صاحب هذا الناووس من الشخصيات الملكية، وأن اللصوص لم تصل أيديهم إلى مقبرته

ولهذا الكشف قيمة كبيرة من الناحية التاريخية، لأن مقابر ملوك الأسرات: 21، 22، 23 لم يسبق اكتشافها من قبل ذلك، وإنما عثر على بعض تماثيل لهم في مدينة طيبة، ولا شك أن هذا الكشف سيجلو تاريخ هذه الأسرات الثلاث، وقد كانت فترة غامضة في تاريخ قدماء المصريين

وقد قرر الدكتور دريوتون مدير مصلحة الآثار نقل محتويات غرفة الملك (بسوسنس الثاني) التي تحتوي على تابوت الملك شوشنك إلى دار المتحف المصري لتعرض على الجمهور

كشف أثري آخر

علمنا أن بعثة كلية الآداب التي تشتغل في الحفر بمنطقة (تونة الجبل) تحت رياسة الأستاذ سامي جبره عثرت في هذا الأسبوع على أشياء هامة من الوجهة التاريخية

وكانت البعثة قد عثرت على غرف المحفوظات الخاصة بكهنة هرمو بوليس في جنوبي المنطقة وعثرت فيها على ملف كبير من البردي يتضمن نصوص القانون المدني المصري

وقد وجدت البعثة أخيراً ملفاً آخر يبلغ طوله مترين ونصف متر موضوعاً في قادوس مقفل ومختوم بالطين. وقد فض هذا القادوس فوجدوا فيه ملف البردي الذي دلت القراءة الأولى لما ورد فيه من النصوص على أنه يتضمن نص أسطورة طويلة من الأساطير الشعبية

وقد أرسل الملف إلى معهد الآثار ليتولى الأخصائيون قراءته وترجمته.

وعثرت البعثة أيضاً على تمثال صغير للآله (مين) إله التناسل عند قدماء المصريين يبلغ طوله نحو 60 سنتميتراً، وقد صنع من الخشب، وغطى بطبقة من الصفائح الذهبية اللامعة

ويعد وجود هذا التمثال غريباً في تلك المنطقة لأنه لم يكن بين معبوداتها الرسمية التي هي طائر الإيبيس والقرد. ويمثل كل منهما إله الحكمة (تحوث) معبود تلك المنطقة وقد سماه الإغريق (هرمز) وسموا المدينة على اسمه (هرمو بوليس)

والبعثة مستمرة في الكشف عن السراديب الأرضية الطويلة الممتدة تحت الأرض إلى مسافات بعيدة وتحتوي على مئات الآلاف من جثث الطيور والقرود المحنطة.

ص: 79

فلم التشريفات الملكية

عنيت شركة مصر للتمثيل والسينما بتصوير غدوات صاحب الجلالة الملك وروحاته مع ضيفه الكريم صاحب السمو الإمبراطوري محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران، وجاء التقاط المشاهد المختلفة على أجمل شكل سواء في النهار أو في الليل، وكان اختيار المشاهد حسناً، ويساوق المشاهد عزف رقيق يناسب مقتضى الحال. إلا أن صوت المتكلم كان رفيعاً من غير داع إلى ذلك

إلى الأستاذ توفيق الحكيم

هل لك أن تنضو مسوح ذلك الجاه فتشرف من برجك المنيف على مستوضح منك الرأي فيما كتبت بالرسالة عن (كتابين قيمين، قد ورد فيهما طعن على الإسلام) قلت إنك بحثت المسألة من جهة الدين فبدا لك العجب لأن الكتب التي تعرضت للمسيح بالطعن والتجريح تطبع وتنشر في أوربا ولا يفزعون. وهنا أسألك متحدياً: أي برنامج من برامج التعليم في أوربا قررت فيه تلك الكتب في قاعات الدرس والامتحان وفرضت فرضاً على الطالب أن تكون من أسس ثقافته الرسمية التي تحث عنده عقداً نفسية تتولى تنميتها تأثيرات الأستاذية القوية. لا مانع من البحث والتحليل والتمحيص وإلا لما تكونت سبيكة الذهب من العروق الملقاة في التراب، ولكن للبحث أزمنة وأمكنة قد مضت منذ أزمان. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا طعن صريح، باعترافك أنت، لا شبه علمية تستحق جلال الدرس وعظمة العلم، وفوق ذلك كله أنها موجهة لشخصية الرسول أكثر منها لدينه، فكيف يستسيغها شعور الجماهير من المسلمين. ألا ترى أن إنجلترا حرمت دراسة نظرية دارون (النشوء والارتقاء) في مدارسها احتراماًً لشعور الجماهير، بيد أنها لم تحرم دراستها خارج دور التعليم؟ وأما قولك (إني أعتقد دائماً أن صحة العقل وصحة العقيدة كصحة الجسم لابد لها من الهواء الطلق حتى تكتسب المناعة) فذلك حق لا مريه فيه، كما أن حصوله وثبوته الآن واقع بين المسلمين لا مريه فيه. ألا تعلم أن في الأزهر والمعاهد الدينية تدرس شبه الجبرية والمعتزلة والرافضية والمجسمة والشيعة وسواهم ويرد عليها في جو علمي محترم لأنها شبه لا طعن تدسه العصبية الممقوتة. ألا تدري أن المذهب الأبيقوري مذهب اللذة

ص: 80

والإباحية يدرس في الأزهر ويرد عليه في جلال من العلم وحرية من الفكر، ومثله مذاهب الشيوعية والشعوبية، وسواهم. فليس إذا (حبس العقيدة والعقل في قفص من الزجاج خوفاً عليهما من خطرات النسيم) كائناً بين المسلمين. وما على الشاك إلا أن يغشى بيئات الدراسات الإسلامية فيعود منها متغير الرأي هادئ البال وإن في هذا لبلاغاً

(كلية للغة)

احمد عبد الرحمن عيسى

فتش عن المرأة

فتشنا عن أول من قال: (فتش عن المرأة) في العربية وعن قوله فوجدنا هذين البيتين في كتاب (الكشكول) لبهاء الدين العاملي غير معزوين، وهما في معنى القول الفرنجي

إذا رأيتَ أموراً

منها الفؤاد تفتتْ

فتشْ عليها تجدها

من النساء تأتتْ

* * *

جمعية أنصار التمثيل والسينما

انتهى الأساتذة سليمان نجيب، وعلى شوقي، وعبد الوارث عسر من تأليف رواية الحجاج بن يوسف، وقد رأت الجمعية رأياً جديداً يتعلق بتمثيل الشخصيات في العصور العربية، ولهذا سنبدأ في دراسة هذه الرواية بمحاضرة يلقيها الأستاذ على شوقي عن (عصر الحجاج بن يوسف) ثم يعقب عليها الزميل عبد الوارث عسر بكلمة تعد تمهيداً لدراسة الشخصيات العربية في ذلك العصر ووضعها على الأشخاص الذين سيقومون بتمثيلها من أعضاء الجمعية. ورغبة من الجمعية في فائدة الجمهور من هذا الموضوع الطريف، رأت أن تكون هذه المحاضرة عامة يحضرها من يشاء

وتبدأ المحاضرة بدار الجمعية 8 شارع البورصة الجديدة بحضور جميع الأعضاء في تمام الساعة السابعة من مساء الخميس 30 مارس 1939

رسالة شكر وتقدير

ص: 81

تلقينا من الأستاذ شاهين إبراهيم شاهين كلمة مسهبة ينوه فيها بالمقدرة البارعة التي يعالج بها شيخ الصحافيين الأستاذ خليل ثابت بك الموضوعات الاجتماعية في المقطم وبخاصة موضوع (أي السياسات الإيجابية تختار مصر) ونحن نشاطر الكاتب الفاضل إعجابه بالأستاذ خليل بك وثناءه عليه، ونكتفي لفوات المناسبة بهذه الإشارة الموجزة لهذه الرسالة الطيبة.

حياة الرافعي في العراق

قرأنا في جريدة (البلاد) العراقية ما يأتي:

اقتراح على وزارة المعارف - حول كتاب حياة الرافعي

سيظهر قريباً كتاب (حياة الرافعي) للأديب الكبير الأستاذ محمد سعيد العريان، وهو كتاب أدبي فذ يبحث عن جميع الخصومات التي حدثت بين الرافعي وأدباء عصره، فحبذا لو أن وزارة المعارف تشتري منه كميات كبيرة لتوزعها على طلابها، وعلى مكتباتها؛ وبذلك تسدي أكبر خدمة أدبية نحو فقيد البيان المرحوم مصطفي صادق الرافعي

(بغداد)

مقترح

(الرسالة): ظهر كتاب حياة الرافعي منذ قريب.

ص: 82

‌الكتب

من وحي السيرة

1 -

بطل الأبطال: للأستاذ عبد الرحمن بك عزام

2 -

صور إسلامية: للأديب عبد الحميد المشهدي

- 1 -

لاشك أن الإنسانية لم تعرف في تاريخها من عظمة النفس، وسمو الروح، ونبل الغرض، وقوة العزيمة، وصفاء النفس، وحسن السيرة، مثل ما عرفت في شخصية محمد صلوات الله عليه، ذلك النبي الكريم، والرسول العظيم، والمثل الأعلى للبطولة والجهاد في سبيل العقيدة والإخلاص لله!

هذه العظمة الإنسانية التي تمثلت في شخصية محمد صلى الله علية وسلم وفي سيرته، كانت وما تزال وستظل على مدى الدهر روعة تملأ القلوب وتهز مشاعر الناس في جميع العصور والأجيال سواء آمنوا أم كفروا، وتفتح لأهل الفكر والأدب والتاريخ آفاقاً مشرقة يقبسون من نورها، ويهتدون بهديها، ويجدون في كل جانب من جوانبها مادة مواتية، وثروة باقية للفكر والأدب والتاريخ. . .

والذين كتبوا في سيرة النبي وشخصيته كثيرون حتى ليخطئهم العد، وما أحسب سيرة ولا شخصية قد أخذت من عناية الكتاب والأدباء والمؤرخين في الشرق والغرب مثل ما أخذت تلك السيرة الحميدة، وهذه الشخصية العظيمة. وعلى الرغم من ذلك فما زال القول فيها جديداً، والبحث عنها طريفاً، والحديث في أسرارها مهما طال وتكرر حلو سائغ كله الروعة والجلال، يهش له القلب، وتهفو نحوه الروح، وترتاح له النفس. . .

وهذان كتابان من وحي الشخصية العظيمة، والسيرة الخالدة أسعدني بهما الحظ ونحن في مطلع الهجرة حيث يحلو الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب التأسي بسيرته.

أما الأول فكتاب (بطل الأبطال) للأستاذ عبد الرحمن بك عزام، وهو جملة أحاديث تناول فيها المؤلف الفاضل أبرز صفات النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عن شجاعته، ووفائه، وزهده، وقناعته، وتواضعه، وتعبده، وعفوه، وصفحه، وبره، ورحمته، وفصاحته،

ص: 83

وبلاغته، وحسن سياسته، وحكمته في تصريف الأمور، ونظام الحرب، ووضع الأساس لحرية الدعوة وحرية العقيدة للأديان السماوية جميعاً، ثم تكلم عن أثر الدعوة المحمدية في النفوس، وصلتها بالقلوب، وكيف فعلت فعلها في الفرد، وشمل سحرها الجماعة، فبدلت الناس غير الناس، والأرض غير الأرض، وما زلنا وما زال العالم في آثار ذلك حتى آخر الدهر.

ولقد أحسن الأستاذ المؤلف كما يقول أستاذنا المراغي إذ تناول السيرة الكريمة من الناحية الخلقية، فإن الناس أحوج ما كانوا في أي عصر من العصور إلى أن يهتدوا بأخلاق محمد، ويقبسوا من نوره. وزاد الأستاذ إحساناً إذ استخلص هذه السيرة الكريمة من الحادثات والوقائع الصحيحة في التاريخ، فلم يرسل القول دعاوى يعوزها البرهان، ويلتمس لها الدليل، بل قرن الرأي بالحجة، وثبت القول بالواقعة، واستدل للحديث بالرواية الصادقة

وإذا كان الشاعر لا يفهمه إلا شاعر كما يقولون، فالرجل لا يقدره إلا رجل كذلك، والأستاذ عزام بك رجل من أهل الجلاد والجهاد، والرأي والعزيمة، وانه ليكبر ذلك في شخصية محمد صلوات الله عليه، ويتخذه مثلاً أعلى للبطولة والرجولة، فلما وقف بقبره أخذ مأسوراً - كما يقول - بهذه البطولة، وتملكه روح لا يزال يشرق من غيابة الماضي، هو روح سيد الرجال، وبطل الأبطال، وبهذه العقيدة تحدث الأستاذ الفاضل عن النبي الكريم، فجاء كتابه صفحة مشرقة بالإعجاب والإشادة ببطولة محمد ورجولته، وما ينقصها إلا الإفاضة والاستيعاب بما يكافئ عظمة السيرة الخالدة، والأستاذ يعترف بذلك ويرجو أن تسعفه الفرصة فيفيض ويستوعب وإنا لمنتظرون.

- 2 -

أما الكتاب الثاني فكتاب: (صور إسلامية) للأديب عبد الحميد المشهدي، وهو - كما يقول المؤلف الفاضل - أفق من آفاق الحياة المحمدية، وصورها الكثيرة، مازج الحقيقة فيها الخيال، وخالط فيها الفن التاريخ، دون أن يعدو على حقائقه، أو يستر الخيال جمال الحقيقة الرائع، وجلالها الواقع.

قال المؤلف: فما أجريت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، ولا أخضعت اتجاه التاريخ من أجل طبيعة الأسلوب، وإنما حاولت بقدر المستطاع أن أخضع الفن ليكون

ص: 84

في خدمة الحق والتاريخ لتبدو السيرة المحمدية في جمالها الشفاف، وفتنتها الأخاذة وأسرارها الاجتماعية، وسياستها الخالدة. وليس القصد من هذا كله إلا أن أستخرج معين السيرة من تحت جلامد التعابير الخشنة والعنعنات المملة، وكثرة الروايات الطامرة للحقائق، وأن أنظمها أسلوباً قصصياً سهلاً ليستطيع الناس أن يستوعبوا نواحي الصورة التطبيقية للشريعة الإسلامية التي جاء بها القرآن، وفصلتها سيرة سيد الأنام!

والواقع أن المؤلف الفاضل قد وفق في غرضه، واستطاع أن يصل إلى غايته في تجلية السيرة على هذا النمط الذي شرحه، وإنه لنمط قويم، ونهج قريب إلى النفوس والأرواح. وما أستطيع أن آخذ عليه في ذلك إلا بعض هفوات في الأسلوب، والتهويل في التصوير، والخروج في بعض المواقف عن حدود الحياة الإسلامية كما وصفها التاريخ. وإنك لتقرأ في صدر الجزء الثاني من كتابه حديثه عن تحرش قريش بالنبي وأصحابه، فكأنك تقرأ وصفاً لمظاهرة تسير في شوارع القاهرة هاتفة صاخبة. ولعل مرد هذا إلى ما عرف عن المؤلف الفاضل من ثورة الشباب، وإنها لثورة جامحة تتمثل لك في كتابه، بقدر ما تتمثل لك رزانة الأستاذ عزام في كتابه

وكتاب (صور إسلامية) يقع في جزئين، انتهى بهما المؤلف في الحديث عن السيرة إلى بيعة العقبة وإسلام عمرو بن الجموح من سادات يثرب، وقد وعد بالجزء الثالث عن قريب، وإنا لنرجو له التوفيق حتى يصل إلى الغاية، وينتهي إلى النهاية.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 85

‌المسرح والسينما

على هامش الفنون

المسارح القومية في النرويج

نقرأ في الصحف التي تعنى بالدراسات المسرحية العالية أنباء شتى عن المسارح المعروفة كما نقبل مشغوفين على دراسة آدابها؛ ولذلك ليس بالعجيب أن نسمع أن جمهرة قراء الصحف المصرية ونقاد المسرح ودعاة هذا الفن وهم كثيرون يعرفون - إن لم يكن عن دراسة - حركات التطور الفكري في المسرح الإنجليزي وحب الفرنسيين للمسرحيات الاستعراضية الراقصة في الوقت الذي يفضل فيه الألمان (الأوبرات الكلاسيكية) وهكذا

ولكن هؤلاء جميعاً لا يعرقون - وقد زحمتهم الصحف بعدد محصور من الأنباء عن مسارح خاصة - أن في العالم مسارح أخرى وآداباً مسرحية عريقة غير تلك التي يعلمون. بل مَنْ من هؤلاء جميعاً يفكر في ترك دراسة المسرحين الإنجليزي والفرنسي - ولو إلى حين - ويعرج على دراسات أخرى أكثر تعمقاً وأنقى فكرة وأرقى فلسفة ثم يأتي بعد ذلك ليطالعنا بدراسة مقارنة؟!

إن الفكرة التي قدمت من أجلها العجالة السابقة لن تجد الأذن السميعة، ولذا أجد نفسي مضطراً لطرق الباب وفق طريقة سبقني إليها غيري في تقدمة المسارح المعروفة إلى جمهرة القراء وجموع المتأدبين آملاً أن يجد دعاة النقد المسرحي في مصر مادة جديدة لهم عند ما يتحدثون عن مسرح جديد بالنسبة إليهم وهو المسرح النرويجي

والنرويج بلاد في طبيعتها ما يساعد على خلق أدب مسرحي يعبر عن البيئة والأفكار التي تجول في رؤوس هذا الشعب الذي يعيش في شبه عزلة عن العالم. بل إن النرويجيين قوم خياليو النزعات ميالون إلى الابتكار الخرافي، ولذا كان لهم مسرح وكانت لهم آداب مسرحية، وفي بلادهم مسرحان قوميان أسسا في أواخر القرن الماضي أحدهم في العاصمة (أوسلو) والثاني في مدينة (برجن)

وقد ظل هذان المسرحان القوميان في عملهما دون أية حاجة إلى مساعدة الحكومة حتى عام 1927 عندما فكر أولو الأمر في مساعدتهما مادياً فأجدت المساعدة وشجعت على إيجاد مؤسسة فنية أخرى هي (المسرح النرويجي)

ص: 86

وقبل ظهور الكاتبين النرويجيين هنريك أبسن وبيورنسون لم تكن للمسرح النرويجي أهمية تذكر، وكان محصوراً داخل دائرة خاصة لا صلة تربطها بالحياة الأدبية؛ ولكن ما حل عام 1851 وعين الشاب هنريك أبسن في وظيفة فنية بمسرح (برجن) حتى بدأ المسرح النرويجي عهداً جديداً. فهناك كتب المؤلف الشاب مسرحيته الأولى وما بعدها مفرغا في كل ما كتب تجاريبه الفنية ومعلوماته التي استفادها من عمله، والتي صارت دستوراً لمن أتى بعده لا من كتاب النرويح بل لجميع الكتاب في كل أصقاع العالم

ولعل الظروف التي قيضت هنريك إبسن لخلق مسرح نرويجي جديد لم ترد أن تتركه يناضل وحده فشدت أزره بمؤلف مسرحي آخر ظهر في نفس الوقت هو بيورنسترن بيورنشون. وكان أن ظهر على خشبة المسرح عدد كبير من نوابغ الممثلين والممثلات الذين ساروا جميعاً وفق طريقة تقليدية ظلوا يتوارثونها حتى شهدها الجميع أخيراً عندما احتفلت كبيرة ممثلات النرويج جوهان دايبواد البالغة من العمر سبعين عاماً بيوبيلها الذهبي ونجحت هذه الطريقة نجاحاً كان مثار حسد الشباب الذي قام ينادي مطالباً بالتجديد

ولقد اقترن ظهور ابسن وبيورنسون بنهضة فكرية كانت مؤلفاتهما المسرحية مثارها. وبدأ الشعب يقبل على التمثيل وآدابه كفن ضروري جميل مثل الموسيقى والنحت والتصوير والدراسات الأدبية. . . كما أثبت ظهور هذين الكاتبين أيضاً أن (الدراما) تستطيع أن تحتل مكانة أرفع وتصل إلى مستوى عظيم، ومن هنا نشأت النهضة المسرحية وأقبل الناس على المسرح فظهر نوابغ الممثلين وعظيمات الممثلات، واستحالت بلاد النرويج في العصر الحديث إلى ما يمكننا أن نشبهه بأثينا في عصورها الذهبية القديمة، فلم يكن عسيراً وقد ارتقى كتاب المسرح بإفهام الناس أن تنشأ المسارح القومية وأن تعمل فيها الفرق الأهلية وأن يقبل عليها الشعب مشجعاً مما حفز بعض المهيمنين على المرافق من ذوي المكانة على إغراء الدولة لتضع هذه المسارح تحت رعايتها وتقدم لها المساعدات اللازمة

ولرب سائل يسأل وقد عرف أن للفرقة القومية المصرية برنامجاً تعمل على تنفيذه وإليه يرجع السبب في إنشائها وإن لم تكن قد حققت منه أي شيء. . . وبدوري أسارع فأقول إن للمسارح القومية في بلاد النرويج أغراضاً ترمي إليها، وبرامج من اللازم أن تنفذ ما جاء فيها، وإلا تعرض القائمون بالأمر فيها للمسئوليات الجسام من مادية وأدبية. ولعل أهم ما

ص: 87

أنشئت من أجله هذه المسارح هو تمهيد الحقل الفكري لإنتاج أدب الدراما المحلية. ولا بأس في نفس الوقت من إعطاء فكرة عن تطور الأدبيان المسرحية في أمم العالم وعرض صور منها بين قديم وحديث، إلا أن التجاريب دلت على أن البرامج ذات المسرحيات (الكلاسيكية) التي يتكلف إخراجها الشيء الكثير من المال لا تحدث تغييراً محسوساً في الإيرادات ولا ترتفع بالميزانية إلى درجات خطيرة، ومن هنا ظهرت قيمة الشعب الروحية وبرهن جمهور النظارة على أن له رغبة يجب أن تطاع، وأثبت للقائمين بالأمر المسرحي أن بيده توجيه الحركة الفكرية والإنتاج الفني إذ أقبل بكثرة على المسرحية العصرية (والأوبريت) وفضل على الـ (كلاسيك)

وقد أثرت السينما في المسرح النرويجي كما أثرت في نفس الوقت على جميع مسارح العالم؛ وهذا شيء ملموس بطبيعته. ولعل أهم ما فيه هو رخص أسعار دور السينما وتكرار المشاهد فيها وسرعة تغيرها. . . ولكن الأثر الذي أحدثته السينما في العالم المسرحي شيء وما أحدثته في بلاد النرويج شيء آخر، أحدثت ما يمكن أن نسميه بالموقف الغريب إذ لم يسبق أن وفقت الحكومة في أي من دولة من دول العالم مثل الموقف الذي وقفته حكومة النرويج من أزمة المسارح وكسادها بسبب منافسة السينما لها، إذ راحت البلديات النرويجية تساعد بالمال كل مسرح قومي، ولكن هذه المساعدات المتكررة لم تستطع موازنة المالية كما أنها لم تؤثر في الإيراد ولم تصلح الميزانية العامة، الأمر الذي أجبر الحكومة على التنازل للمسارح هناك عن جزء كبير من إيرادات اليانصيب الحكومي، وقد حدث هذا في مستهل عام 1927

والأدب المسرحي النرويجي يكاد يكون الأدب الوحيد الذي يقوم على دعائم قوية معززة، فنراه يطرق السياسة ويحلل أساليبها، ويتحدث عن الاجتماع والإصلاح وينقده، ويطلع الشعب على آراء جديدة في الفلسفة واللاهوت دون أن ينسى السخرية من بعض النظم والرغبة في هدم القديم ليقوم على أنقاضه جديد مدعم البنيان. والنهضة الأدبية المسرحية هناك تقوم على أكتاف الشباب الذين أذكر منهم الكاتب المسرحي الراديكالي:(نورداهل جريج) الذي يحبه الشعب ويعرف فيه ميله إلى السلم وكثرة دعوته إليه في كل كتاباتة، وزميله هلج كروج الذي تشبع بروح الكاتب الايرلندي الساخر برناردشو وحاكاه في

ص: 88

كتاباته ونقده اللاذع في الوقت الذي لم يفته فيه أن يخرج للناس مسرحيات قوامها علم النفس الحديث وبعض مشاكل المجتمع

وحدث في عام 1935 أن أرادت الحكومة دراسة حالة المسرح في النرويج فصدر أمر إداري بتعيين لجنة فنية لكتابة تقرير واف عن المسرح ومدى تقدمه وما ينتظر له في مستقبله وأوجه النقص فيه وكيفية إصلاحها. . . وباشرت اللجنة عملها ودرست المسرح النرويجي دراسة وافية، ثم وضعت، ثم وضعت تقريراً لست في حاجة إلى نقله، بل أفضل تلخيصه ليستوعبه أفراد الهيئات الفنية في مصر:

(يجب على الحكومة والمجالس البلدية أن تضاعف قيمة الإعانات التي تقدمها للمسرح القومي كي يستطيع أن ينهض بأعباء الرسالة المقدسة التي اضطلع بها، وكي يشرف الاسم الذي يحمله كما يجب على الحكومة أن تسرع في سن قانون يحدد مركز المسارح ويضمن تغطية نفقاتها. . .)

ورأى هؤلاء الخبراء أن يعمدوا إلى طرق منطقية لترقية المسرح وكان أن اقترحوا ضرورة تعميم الإذاعات الأثيرية من مسرح المملكة كي يسمعها سكان القرى البعيدة فيأخذوا من المسرح فكرة أولية تنمو مع الأيام فتستحيل حباً وإعجاباً.

وبلاد النرويج تكاد تكون الوحيدة بين بلدان العالم التي تعنى بتربية الناشئة تربية ثقافية فنية، فتراهم يلقنون الطفل في المدرسة حب المسرح وذلك الخلق جيل جديد يتفهم الرسالة المسرحية، ويعمل مخلصاً على رفعة المسرح القومي فأنشئوا للأطفال (الجماعات التمثيلية المدرسة) وشجعوا الطفل على ارتياد المسارح بأجور زهيدة حتى إذا شب علق بهذا الفن وأصبح يرى في إحدى ضروريات الحياة.

والممثل في النرويج يعيش في بحبوحة من الرزق لأنه يتبع النظم ويسير وفق القانون وينفذ بنود العقد المرتبط به، ولا يخل بشرط منها مهما كانت الأسباب قوية واضحة. إنهم هناك يحترمون العقود ويقدسون إمضاءاتهم على العكس من السادة ممثلينا من فطاحل المسرح المصري الذي نسمع بالواحد منهم وقد موضع إمضاءه على أكثر من عقد وفي أكثر من فرقة

أما أصحاب المسارح هناك فيحبون ممثليهم ويعملون على نصرتهم وجمع شملهم، وتوحيد

ص: 89

صفوفهم، وذلك بمساعدتهم على إنشاء النقابات الفنية وإعطاءهم المعاش عند بلوغهم سنا معينة

هذا هو نموذج من المسرح القومي، وتلك لعمري الطرق الفعالة لرفعة هذا الفن الجميل الذي بحت أصوات الكثيرين في مصر من جراء تكرار المناداة بإصلاحه حتى هبت الحكومة من غفوتها ولبت النداء بأن وكلت أمر أهل الفن إلى من لا علاقة لهم بالفن فمات التمثيل، واللجنة العليا لترقيته تعقد الاجتماعات للنهضة به ورفع مستواه!

إبراهيم حسين العقاد

حول مجنون ليلى

كتب محرر الصفحة السينمائية عن مجنون ليلى ما كتب بأسلوب كالسب موجهاً إلي والى الأخوين إبراهيم وبدر لاما قائلاً فيما يخصني من هجومه أنني أحد الذين يؤلفون لصالات الدرجة الثالثة في شارع عماد الدين

وأي ضرر على الكاتب أن يكتب للصحافة أو للمسارح بالأسلوب التجاري الذي يقوم بأود حياته ما دامت كتابته لا تمس جوهر الفن في نفسه.

إني لم أكتب كلمتي هذه متبرماً بنقد ناقد فإني ممن يؤمنون بفائدة النقد وجدواه ولكن على أن يكون نقداً لمجرد النقد لا أن يكون هجوماً لمجرد الهجوم، فحضرة الكاتب لم ير شيئاً حتى يحكم عليه؛ وما يدريه لعلني وأنا لست بذي الاسم الرنان أن أكون قد وفقت في كتابة حوار القصة وأشعارها توفيقاً قد يعجب ويرضي، وكان عليه أن ينتظر حتى يرى الثمرة بعد أن تخرج للناس ثم يحكم عليها بعد ذلك حكمه

السيد زيادة

ص: 90