المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 3 - بتاريخ: 15 - 02 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 3

- بتاريخ: 15 - 02 - 1933

ص: -1

‌بين السوامر والصحف

الرسالة وقراؤها:

خرجت الرسالة إلى قرائها على الحال التي سمحت بها صعوبة البدء وأثالة العمل. فاستقبلوها إستقبالا ما وقع في الظن ولا تعلق به الأمل. ولا يزال البريد يحمل إلينا كل يوم رسائل الأصدقاء والقراء تفيض بحسن الظن، وجمال العطف، وكرم التعضيد، ومحض النصيحة. ومن هذه الرسائل الكريمة ما يستحق النشر لدقة ملاحظاته، أو رقة أدبه. أو سداد رأيه؛ ولكن دورانه على الثناء والتقريظيجعل في نشره إتهاما لخلق الرسالة.

وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته، ثم يحمِّل نفسه ووقته لجهد الكتابة إليك صفحات في تأييده وقدره، ثم لا يريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه!!

فإلى هؤلاء تتقدم الرسالة بموفور الشكر على ما يرجون لها من خير، وما ينيطون بها من ثقة، وتسأل الله أن يؤكد بها أسباب التوفيق حتى تتحقق الظنون وتصدق الأماني.

آراء القراء:

من الكرام الكاتبين من يطلب إلى الرسالة المزيد في التعمق والإفاضة، ومن يرغب في شيء من الفكاهة والبساطة، ورأي الأولين أن تقصر على أدب الخاصة، ورأي الآخرين أن تستدرج ذوق العامة، والرسالة ترجو أن توفق بين الرأيين، بأن تتخذ طريقها بين بين، ثم تنشر الحين بعد الحين أعداداً خاصة بما تجمع لديها من البحوث المستفيضة والدراسات العميقة والقصص الضافية.

لأشاغيل طرآنة:

للأستاذ محمد بك مسعود أثر جميل على الثقافة العامة منذ

زمن طويل. وعهد القراء بأسلوبه سائغ المورد مأنوس اللفظ

فيما نشر من صحف وألف من كتب. ولكنه منذ توفر محاكاة

الأستاذ وحيد في تحقيق اللغة. ومباراة شيخ العروبة في

ص: 1

تمحيص التاريخ، بدت على أسلوبه الصحيح أعراض الغرابة

التي تلا زم اللغويين، والإعتداد الذي يساور العلماء.

ولا نحب أن نعرض لهذه الروح المنبثة في المنظارة (الطرطوشية) وأمثالها. فإنها بين عالمين جليلين لا يجهلان أن المن يفسد العلم، وأن شهوة التغلب تظلم الحقيقة، إنما نرغب إلى الأستاذ مسعود أن يوافقنا على أن حياة اللغة في أحياء اللفظ الذي لا نظير له في مألوف الكلام، أما استبدال صيغة مهجورة بصيغة مشهورة كاستعمال أشاغيل بدل شواغل، وطرآنية بدل طارئة، وصروح مكان صراحة، وقدور في موضع قدرة، ومشيوخاء بدلاً من شيوخ، فأحياء شر من الموت، وبيان أغمض من العي!!

التجديد والتقليد:

صديقنا الهراوي على تجديده ينكر التجديد، ويزعم إن كلمتي قديم وجديد ينقصهما التحديد، وكنت أحب أن أكون في جانبه حين قرأ في الأهرام (نفثات شاعر) لصديقه وزميله الأستاذ نسيم، إذن لأخذت إعترافه بأن في الشعر جديداً وقديماً، وأن الحطيئة قد يسمى عبد المطلب وقد يسمى نسيماً: وإلا فإلى من كان ينسب هذا الشعر لو لم ينشر تحته أسم صاحبه؟

وما زعزعتني الحادثان كشامخ

رسا بهضاب فوقه واكام

وللدهر مرنان رددت سهامها

وقابلتها من حعبتي بسهام

فقدت صديقي اللذين تبوآ

من الشعر أعلى ذروة وسنام

وأصبحت في جيل نبا بي ودهم

وساء ثوابي بينهم ومقامي

وليس لهم غيري إذا جد جدهم

وخطب الرزايا حولهم مترام

ولو شئت كانت لي زعامة شعرهم

وكنت لمن يأتم خير إمام

شوارد تزري بالحطيئة هاجيا

وتعي جريرا في مديح هشام

له الحمد ثم الحمد ما ذر شارق

وما در غيم بارق برهام

وما ذرعت بطحاء مكة أينق

تحن بأرزام لها وبغام

وما شدت إلا كوار فوق متونها

وقيدت بشزر محصد وزمام

وبعد فأن الشاعر الذي يجعل للشعر جبلا وجملا ويتخيل الهضاب والآكام والجعاب والسهام

ص: 2

والأرزام والبغام، ويذكر بطحاء مكة وأكوار النوق وهو في رياض الجزيرة وعلى ضفاف النيل، ويزعم أنه موئل قومه وليس من الزعامة في كثير ولا قليل؛ لا يسوغ في العدل الأدبي أن يقيد على حساب هذا الجيل: إن تعدد الأساليب في العصر الواحد أثر طبيعي لاختلاف العوامل المؤثرة في كل شاعر؛ ولكن الأسلوب الذي لا ينسجم مع أمور الحياة؛ ولا يتصل بشعور الأحياء، لا يدخل في هذه الأساليب، ولا يدل وجوده على شاعر ولا أديب.

الشبان والشيب:

كتب الأستاذ إبراهيم المصري فصلا قيما في البلاغ عن (أدباء الشباب وأدباء الجيل الماضي) نعى فيها على هؤلاء إستئثارهم بالمجد وإحتكارهم للشهرة وإنكارهم في سبيل ذلك جهود الشباب. وخشى أن يكون ذلك الأئتمار المضمر بالأدب الشاب تخوفا من انهزام أدب أنتشر لخلوالميدان، وأشتهر بطول الإعلان، فلا يجلد بطبعه للتنافس والنقد. وقال أن شيوخ الكتاب في الغرب لإخلاصهم لرساتهم الأدبية وثقتهم بملكاتهم الفنية، يسددون خطى النبوغ الناشئ، ويرفعون ذكر الشباب الموهوب، ويمهدون السبيل لخلافة الجيل الحاضر، ثم يهيب بالعزائم الفتية أن تعلن الحرب المشروعة على هؤلاء القادة الذين كسبوا هذه العناوين من غير جهد، ونالوا هذه النياشين من غير حرب.

والرسالة تقر الأستاذ المصري على رأيه وترى من الجناية على الأدب أن تطغى أثرة الكهول على هذا الطموح. وأن تكون الهيمنة على الصحافة وسيلة لكبت هذا الروح، وتعلن أنها بطبيعتها ومبدئها أن تكون ملتقى الوئام بين الجيلين، وسفير السلام بين الفريقين.

العراق ومجمع اللغة العربية:

ينام صديقانا الحصري والزهاوي ملء الجفون في قصريهما المتقابلين على طريق الأعظمية ولا يعلمان أنهما أقضا مضجع وزارة المعارف المصرية ليلة: فقد روت الصحف المحلية أن الأستاذين الكبيرين جميل صدقي الزهاوي وساطع بك الحصري رفضا ترشيحهما لعضوية المراسلة للمجمع وجرى في خلال ذلك ذكر لجنة التأليف والترجمة، فظنت السياسة أن هذا الترشيح كان إقتراحاً من لجنة التأليف والترجمة التابعة للمجمع،

ص: 3

وإذن يكون هذا الرفض تسفيها للوزارة من جهة، ودليلا على إعراض البلاد العربية للمجمع من جهة أخرى. فأخذ الوزارة من مقال السياسة المقيم المقعد، وأصدرت بلاغا رسميا تكذب فيه أن يكون منها عرض، ومن الأديبين رفض. ووجه الوفاق بين المعارف والسياسة أن لجنة التأليف والترجمة هذه ليست تابعة للمعارف المصرية وإنما هي لجنة من لجان المعارف العراقية، تنظر في تأليف الكتب العربية ونقل المؤلفات الغربية. أما كيف دخل في اختصاصها ترشيح الأعضاء، فذلك أمر تسأل عنه وزارة (الزوراء).

ص: 4

‌مسارح الأذهان

الأدب والعلم

للأستاذ أحمد أمين

الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية

مرت كلمة الأدب والعلم في اللغة العربية في أدوار عدة، استعملوا كلمة الأدب أحياناً فيما يرقى الخلق ويهذب النفس واستعملوها بمعنى أوسع حتى عدوا أفحش شعر لجرير والفرزدق والأخطل أدباً، وعدوا خمريات أبي نؤاس وغلمانياته أدباً كما يعد الفنان بعض الصور فنا وإن كانت صورة لوضع مستهجن أو فعل فاضح، وكذلك الشأن في كلمة العلم، كانوا أحياناً لا يستعملونها إلا في العلم الديني، ثم توسعوا في معناها حتى شمل كل ما ينتجه العقل والفن. وفي العصور الحديثة فرقوا بين الأدب والعلم ورسموا لكل دائرة، ومن ثم كانت الصحيفة أو المجلةأحياناً أدبية، وأحياناً علمية، وأحياناً أدبية علمية، وأصبح من المضحك أن نقول علم الأدب لأنالعلم غير الأدب، وأصبح لدينا من يسمى (أديباً) فلا يكون عالماً، وعالماً فلا يكون أديباً، وقد يكون أديباً عالماً ولكن كلمة (عالم) الأزهرية إنما إشتقت من العلم بالمعنى الواسع الذي يشمل الأدب والعلم معاً.

وبعد فما الفرق بين العلم والأدب وما الذي يجعل الأدب أدباً والعلم علماً؟

الحق إن كلمة الأدب والعلم من الألفاظ الغامضة التي نفهمها نوعاً من الفهم فإذا أردنا تحديدها حرنا في أمرها، كالجمال والعدل والخيال والحرية والعبودية، وإذا سألنا (حتى الخاصة) في معناها أجاب كل حسب ميوله وأغراضه وحسب طبيعة فهمه للكلمة. وهناك أشياء لا نشك في أنها علم أو أدب، فلو سئلت عن نظريات الهندسة وقانون اللوغارتمات وقوانين الحساب والطبيعة والكيمياء فذلك علم بالبداهة، وإذا سئلت عن قصائد بشار وأبي نؤاس والمتنبي ومقامات الحريري فذلك أدب لا علم، ولكن ما حدود الأدب وما حدود العلم؟

قد عودتنا الطبيعة أن الأضداد تفهم ما تباعدت، فإذا ما تقاربت حدودها صعب فهمها، ما أسهل ما تقول أن هذا ظل وهذا شمس، ولكن عند تقارب الظل من الشمس تجد خطوطاً يصعب أن تقول أهي ظل أم شمس، وما أسهل ما تقول إن هذا الماء حار أو بارد إذا

ص: 5

إشتدت حرارته وبرودته ولكن ما أصعب ذلك إذا أخذ الحار يبرد والبارد يسخن فأنك تصل لا محالة إلى درجة يعسر عليك الحكم فيها بالحرارة أو البرودة.

أكبر ظاهرة في التفريق بين الأدب والعلم إن الأدب يخاطب العاطفة، والعلم يخاطب العقل، فإذا قلت إن زوايا المثلث تساوي قائمتين فإنك تخاطب العقل ولا تمس العاطفة وإذا قال المتنبي:

خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا

لفارقت شيبي موجع القلب باكياً

فهو يمس العاطفة أولا، ومن أجل هذا كانت الجملة الأولى علماً وبيت المتنبي أدباً.

العالم يلاحظ الأشياء يستكشف ظواهرها وقوانينها وعلاقتها بأمثالها وما يحيط بها، على حين إن الأديب لا ينظر اليها إلا من حيث أثرها في عواطفه وعواطف الناس، ينظر النباتي إلى شجرة الورد فيدرس كل جزء منها والتغيرات التي تطرأ عليها من وقت بذرها إلى وقت فنائها، ومن أية فصيلة هي، وما علاقتها بالفصائل التي تقرب منها، أما الأديب فينظر إلى أجزاء الشجرة منسقة متناسبة ويرى أنها لم تخلق إلا لزهرتها الجميلة، وأن بين الزهر وقلبه نسباً، يعجب بحمرة لونها على خضرة أوراقها ويذهب خياله في ذلك كل مذهب. أما النباتي فيبحث لم كانت الزهرة حمراء وأوراقها خضراء. عالم الحياة لا يرى في الفتاة المحبوبة إلا إنساناً خاضعا لكل أبحاث البيولوجيا أما الأديب فيرى في محبوبته شيئاً وراء كل ما يبحث عنه العالم، هي الحياة وهي الدنيا وهي النعيم إذا وصلت والبؤس إذا صدت، أو يقول مع القائل:

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت

وقع السهام ونزعهن أليم

فالكلام إذا لم يثر عاطفة لم يكن أدباً فإذا هو خاطب العقل وحده كان علماً، وإذا أمعن في إثارة العاطفة كان أمعن في الأدب. وليس الأدب وحده هو لغة العاطفة فقد تفوقه في هذا الموسيقى فهي قادرة على أن تضحك وتبكي، وتسر وتحزن، وتسر سروراً حزيناً، وتحزن حزناًسارا وتؤلم ألما لذيذا، وتلذ لذة أليمة، وتثير الشجاعة حتى لتدفع إلى الموت، وتنفث الخمول حتى لتدعو إلى النوم، تقدر الموسيقى أن تفعل كل ذلك في العاطفة وهي اقدر من الأدب لأن الأدب يخاطب العاطفة بواسطة الكلام ومن طريقة أما الموسيقية فتخاطب العاطفة وجها لوجه من غير وسيط، تؤثر فيك أدوار العود والقانون والبيانو ولو لمتصخب

ص: 6

بكلام ولو لم تفهم أي معنى منها، بل تكره أن تفهمالا النغم وحلاوته والتوقيع وعذوبته. أما الأدب فلما أعتمد الكلام والكلام إنما يفهم بالعقل كان لا بد للقطعة الأدبية من قدر من العقلومن المعاني تستثار بها العاطفة وتهيجمنها المشاعر. وارتباط العاطفة بالأدب هو الذي منح الأدب (لا العلم) الخلود، فالنتاج الأدبي خالد أبدي لا النتاج العلمي، فقصائد أمريء القيس والنابغة وجرير والفرزدق وبشار وأبي نؤاسوالمتنبي كلها خالدة تقرؤها فتلتذ منها كما يلتذ منها من كان في عصرهم، فأن احتاج إلى شيء فتفسير ما غمض من الألفاظ والمعاني، وهو بعد يشعر بشعورهم ويسر كسرورهم، ثم القطعة الأدبية لا تمل، تقرؤها ثم تقرؤها فتسر منها في الثانية سرورك منها في الاولى، تتعشق تلاوتها وتكرارها، وليس ذلك هو الشأن في العلم فحقائق العلوم خالدة ولكن منتجات العلوم غير خالدة فما في كتاب أقليدس من نظريات هندسية خالدة ولكن الكتاب لايقرؤ الآن إلا من أراد أن يرجع إلى تاريخ الهندسة، وكل كتاب في الهندسة يموت بمرور سنين عليه ولا تعود له قيمة إلا القيمة التاريخية مهما حوى من نظريات جديدة وترتيب جديد، وكذلك كتب الحساب والجبر والطبيعة والكيمياء والفلك ليست خالدة وإن كانت الحقائق التي فيها خالدة، بل الطبعة الثانية من هذه الكتب تقضي على الطبعة الأولى بالفناء إذا دخلها تغيير، وليس طالب علم الآن يرجع إلى ما ألف من خمسين عاما إلا إذا أراد أن يؤرخ العلم ولكن طالب الأدب يرجع إلى ديوان المتنبي ليتذوق أدبه ويلذ مشاعره كما كان ذلك منذ ألف عام، وقد حفظت بعض قصائده ولا أزال أستمتع بترديدها ولكن إن أنت قرأت كتاباً في الرياضة وفهمت ما فيه لا تستطيع في الحال أن تعيد قراءته إلا على مضض.

والسبب في هذا (على ما يظهر) أن عواطف الإنسان لم تتقدم كما تقدمت عقولهم، قد ترقى العواطف شكلاً فترى أن الإحسان إلى الفقير بإعطائه درهماً ليس خيراً ولكن خيراً منه بناء مستشفى وإنشاء ملجأ ونحو ذلك، ولكن العاطفة هي هي في أساسها، وقد ترقى عاطفة الحنو الأبوي فلا ترى مانعاً من دفع الأولاد إلى حرب الحياة وجوب الأقطار، ولكن العاطفة في أساسها واحدة. أما العقل فوثاب دائماً راق أبداً، في الشكل وفي الأساس يرى حلالا اليوم ما كان حراماً بالأمس ويرى حقاً الآن ما كان باطلاً من قبل ويخترع كل يوم جديداً ويصوغ حياته وفق الجديد. ومن أجل ذلك لا يلذ له أن يقرأ عقل السابقين إلا كما

ص: 7

يقرأ تاريخهم ولكن عواطفه هي هي ركزت وثبتت فتلذذ اليوم بما يمثل عواطف الأقدمين وإن كرت عليها الدهور وتوالت العصور، وليس الأمر بهذا القدر من السهولة في الفصل بين الأدب والعلم. فهناك أنواع يصعب الفصل فيها حتى على الخاصة أأدب هي أم علم، هناك أدب (معلم) وهناك علم (مؤدب) هناك تاريخ صيغ صياغة أدبية فلا يكتفي بسرد الحقائق وتعيين سبب وقوعها وإنما يضع ذلك في قالب يثير شعورك للإحتذاء والقدوة أو للحب أو الكراهة. وهناك فلسفة صيغت في قالب قصة، وهناك طبيعة وكيمياء صاغتها يد صناع ماهرة في الفن تحمل قلم أديب فأخرجت منها موضوعات شيقة تثير عاطفة الجمال وتستخرج الإعجاب بما في هذا العالم من إبداع وفن.

هذه الموضوعات وأمثالها ليست أدباً خالصاً ولاعلماً خالصاً وإنما هي علم أدبي أو أدب علمي، هي أدب بمقدار ما تثير من عاطفة، وهي علم بمقدار ما فيها من حقائق.

العلم لغة العقل، والأدب لغة العاطفة، ولكن لابد في هذه الحياة أن يلطف العلم بالأدب، والأدب بالعلم، فالعقل إذا جمح استخف بالشعور وجعل الحياة ثمناً للعلم، وهو إذا مزج بشيء من الأدب مس الحياة ورفّه على الناس، والعاطفة إذا شردت كانت ثوراناً وهياجاً. ألا ترى التعجب يزيد فيكون نباحاً، والعشق يهيم فيكون جنوناً؟

ص: 8

‌حظ الأديب في مصر

للأستاذ عبد العزيز البشري

خاض بعض أفاضل الكتاب في هذا الحديث فتظاهروا على أن الأدب لا يجدي في مصر على أهله، وإن هو أجدى بعض الأحيان ففي شح وتقتير، إذ هو في بلاد الغرب يعود بالغنى والثراء، وقد يعود بأوسع الغنى وأضخم الثراء. وراحوا يتشعبون مذاهب العلل والأسباب لهذه الحال: ومن بين هذه الأسباب قلة عدد المتعلمين في البلاد، وفتور هؤلاء عن اقتناء كتب العلم والأدب، وخاصة إذا استخرجت منه أثمانها، وانتشار الأدب الرخيص تنتضح به بعض المجلات الأسبوعية فيقبل عليه الشباب من المتعلمين ومن لا يزالون في طريق التعلم مطاوعة للشهوة، ولأنه لا يحتاج إلى كد ولا مطاولة. وكذلك أضافوا الأمر إلى أثرة الناشرين وإستغلالهم حاجة الأدباء وضعف وسائل هؤلاء إلى القيام بنشر آثارهم بأنفسهم. ثم إلى عدم عناية القادرين، من أي صنف كانوا، بالأدب الرفيع يذكونه بألوان المعونة والتشجيع.

وكل هذه الأسباب لا تعدو في رأي الحق الواقع في كثير ولا قليل. وعلى ذلك لم أدفع القلم اليوم لمناقشتها والتماس سواها، وإنما لأسرد تاريخاً موجزاً لصلة الأدب بالمادة في بلادنا إبتداء من الجيل الذي شهدنا طرفه إلى غاية هذا الجيل الذي نعيش فيه. كان الأدب من بضع وخمسين سنة مجرد حلية وزينة يتكلفه المتأدبون إما للمفاكهة والتعابث والتظرف، وأما للزلفى طلبا للتمكين من المنصب أو الحظوة عند أولي الأمر، أو أستخراجا للإحسان.

لم بكن الأدب، في الجملة، إذن يطلب غرضاً سامياً سواء من إمتاع النفس باطلاعها على ما في الكون من فتنة وجمال، أو معالجة القضايا العامة وملابسة الأسباب الدائرة بين الناس. فكان الشعر في الجملة أيضاً، يدور في المذاهب التي سلكها العرب الأقدمون من مدح وهجاء، وفخر وغزل ورثاء؛ على أنه، حتى في هذه الأغراض الضئيلة لم يكن أكثره على شيء من الخطر سواء في سمو المعاني أو في قوة الأداء. بل كان نسلاً ضعيفاً متزايل الأجزاء. وكيف يشعر لا يزيد على أنه نقض دارس مما أزل شعراء العهد العثماني: التماس المحسنات البديعية من جناس وتورية واستخدام، بالغة ما بلغت المعاني وواقعاً ما وقع نظم الكلام.

ص: 9

أما النثر، وأعني النثر الفني بالضرورة، فكان أشد نسولة وأبلغ تزايلا؛ كلام لا يكاد يجري لغرض أو يستشرف إلى غاية؛ إنما هو السجع يلتزم فيه كله فترى فيه السخن والبارد، والحلو والحامض.

لم يكن من شأن هذا المقال أن يعرض للأسباب التي بعثت هذا الأدب القوي العالي الذي نذوقه اليوم، فذلك مبسوط في كتب تاريخ الأدب العربي. وإنما عقدنا هذا الكلام لأيراد موجز من تاريخ التكسب بالأدب عندنا في العصر الحديث كما ذكرنا في صدر هذا المقال.

لقد كان التكسب بالشعراء، في الجملة، من طريق واحدة، هي أن طائفة ممن يتكلفون نظم الكلام كانت الحاجة تبعثهم إلى أن يرتصدوا إلى حكام البلاد وأعيانها وموسريها حتى إذا دخلت على أحدهم نعمة من أي لون كانت أو مات له ولد أو نسيب بادروا بأزجاء التهنئات يموهون حروفها بماء الذهب، أو المراثي يجللون رقاعها بالسواد، ولا يزالون يختلفون اليه في طلب العطية. وقد لا يظفرون، في الغاية ألا بتسريح بغير إحسان. ولقد أساء هؤلاء إلى الأدب إساءة بالغة، بحيث نشأت ناشئة الجيل الماضي وهي لا تكاد ترى في الأدب إلا الكدية، ولا في الأديب إلا أنه شحاذ! أما التكسب بالنثر فكان له طريق آخر أقبح من ذاك وأخزى. وذلك بأصدار صحف صغيرة حقيرة قد تظهر مرة في الأسبوع أو في الشهر أو في نصف العام. ومادة كسبها في الواقع من تخويف ضعاف النفوس بتشهيرهم وطلب معايبهم والتدسس إلى مكارههم إلى أن يشتروا أعراضهم، فأن فعلوا وإلا فلأمهم الهبل.

ولقد إنتهى، والحمد لله، هذان الضربان من التكسب بالأدب ولم يبق لهما في بلادنا، على ما أرى، من أثر. ولعل ذلك راجع إلى تغير فهم الناس لمعنى الأدب، وإرتفاعهم به على ذلك الهوان، وإلى إنتشار الثقافة بوجه عام، وإلى خشية سطوة القانون بوجه خاص.

وليس معنى هذا أنه لم يكن هناك لا أدب ولا أدباء، بل كان الشعراء وخيار الكتاب، إلا أنه لم يكن يتكسب أحد من هؤلاء (ما عدا الصحفيين المحترفين) بصنعة القلم.

نعم كانت الصحافة بمعناها الصحيح، ولا زالت مهنة كريمة نبيلة تجدي على أصحابها وعلى المشتغلين بها ما يعودون به على شملهم، بل ما قد يغنيهم ويضيف إليهم الثروات الضخام. أما هواة البيان على حد التعبير الحديث، فلم يكن لهم من هذه الجدوى نصيب.

ثم كانت (الجريدة) وقام على شأنها الأستاذ العلامة الكبير أحمد لطفي السيد بك، فرأى أن

ص: 10

يدعو نفراً من كبار العلماء والكتاب إلى تغذية الجريدة من وقت لآخر بالمقالات المتخيرة المنتقاة في مختلف أسباب الحياة، واجتعل لهم ذلك الجعالات. ولعله في ذلك كان متهدياً بسنة الصحافة في الغرب.

على أنه لما إشتدت قوة الصحافة في مصر وعظم انتشارها بحكم إطراد الحضارة وكثرة المتعلمين، وإزدياد تتبع الجمهرة للأسباب العامة وشدة إهتمامهاً بها (اضطرت) كبريات الصحف، بنوع خاص، إلى العناية بتجويد تحريرها، وإغزار مادتها، حتى لقد جردت بعض صفحاتها لطريف البحوث في شتى العلوم والفنون، وفوق أنها أضعفت وظائف محرريها أضعافاً. فقد جعلت كذلك تؤجر الكاتبين فيها من غير محرريها بما لم يكن يحلم به أحد من عشر سنوات خلت. هذه حقيقة للأدباء أن يغتبطوا بها، وإذا كان المدى بين حظوظهم وبين حظوظ رصفائهم في الغرب لا يزال فسيحاً، فلهم من الأمل في القريب مزيد إن شاء الله.

بقى الحديث في التكسب بالأدب من طريق نشر الكتب ودواوين الشعر. والذي شهدناه من أعقاب الجيل الماضي ولا نشهد غيره إلى اليوم. أن الكسب من هذه الطريق يكاد يكون مكسوراً على جماعة الوراقين كما قال بحق بعض كبار الكاتبين على إنني أرجو منه أن يأذن لي في إستثناء أصحاب الكتب المقررة للتدريس، فاؤلئك وحدهم المجدودون، أو الذين كانوا مجدودين إلى وقت قريب. لقد كان الأدب عندنا، ولعله لا يزال عند الأكثرين إلى الآن ينتظم في سمط الكماليات، والكماليات عند أكثر الناس ليست حقيقة بأن يخف المرء اليها، اللهم إلا إذا واتته عفواً، أو بغير مشقة ولا جليل إنفاق. فبات بديهاً ألا تنفق كتب الأدب حتى تعود على أصحابها بنفقات طبعها بله الثروة وكرائم الأموال.

أما كتب العلم، فأن العلم يطلب في بلادنا على أن يفضي إلى إحراز شهادة رسمية تقلد محرزها منصباً حكوميا، ً فإذا لم يكن الأمر على هذا فلا كان علم ولا كان تعليم!

هذه حقيقة واقعة أرى إن إنكارها ضرب من الغش والتدليس مشايعة لهوى الجمهور، والعياذ بالله! لعل واحداً في كل ألف من الذين ختموا دروسهم في بلادنا هم الذين يشقون كتاباً علمياً لا تدعوهم إلى شقه حاجة المهنة. نعم لعل في الألف من المتعلمين واحداً أو دون الواحد هم الذين يطلبون العلم ويراجعون مدوناته ليكملوا أنفسهم، وليتزيدوا من

ص: 11

معارفهم، ويفسحوا في ملكاتهم. العلم عسير الهضم، يكد الذهن ويجهد النفس، ففيم مكابدته وشدة المطاولة في تحصيله ما لم تقض بتحصيله ضرورة ملحة قاسية، من إرهاق الولي أو إلحاح الحاجة، أو جموح الشهوة إلى المنصب يعرض الجاه، ويعز في الأهل والصحاب!. فكيف تريدون أن تنفق عندنا كتب العلم للعلم؟!. . . . . .

أما الكتب المقررة للتدريس فهي التي كانت إلى وقت قريب، تدر على أصحابها الكثير بل الذي يستطيعون أن يكاثروا به أعلى مؤلفي الغرب قدراً وأبعدهم صوتاً! ولا أحسب أن هذا الأجداء كله يرجع إلى فضل المؤلفين وحده وعظم تجويدهم لما يخرجون من فنون الكتب، بل لعل شيئاً من ذلك يعود إلى أن هذه الكتب مفروضة فرضاً على العديد الأكبر من تلاميذ المدارس تشتريه وزارة المعارف لهم أو تريدهم على شرائه، وإلا خذلوا في الإمتحان وأفلتتهم الإجازات، أو على الأصح فاتهم التأميل في المناصب الحكومية، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

الواقع أن أكثر الكتب المقررة موف على الغاية من التجويد والإحسان، ولكنها غير مدينة في رواجها إلى هذا التجويد والإحسان. بل هي مدينة في ذلك، مع الأسف الكثير، لأنها مفروضة على التلاميذ فرضاً، ولو قد عدل عنها ما أخرجت المكتبات عشر ما خرج منها على أسخى تقرير. وهذه الحقيقة المرة القاسية ترينا مبلغ حظ العلم والأدب في هذه البلاد.

ومهما يكن من شيء فأن لنا أن تغتبط، ولو قليلاً، إذا نحن قسنا حاضرنا بماضينا القريب، فبين مؤلفينا من يستردون من أثمان مؤلفاتهم ما أخرجوا لطبعها، وفيهم من تفضل عليهم من الربح الكثير أو القليل. وكل الذي نرجو أن تطرد همم الشباب في تحصيل العلم الصحيح، وتتجرد عزائمهم في طلب الأدب العالي، معرضين عن إلتماس هذا الأدب الهين الرخيص. هنالك تنبعث في البلاد الحياة القوية العزيزة، وهناك يجازى العلماء والأدباء بما يكافئ الجهد العظيم.

ص: 12

‌أثر الثقافة العربية في العلم والعالم

بقلم أحمد حسن الزيات

(2)

فرغ العرب من رسالتهم الدينية بانقضاء الفتوح، ولم يكد الأمر يستوثق لهم والنظام يستقر بهم وظلال الامن ترف عليهمحتى أخذوا يبلغون العالم رسالتهم العلمية بذلك العزم الذي لا ينكل عن خطة ولا يقف دون غاية. وكان مهبط الوحي بتلك الرسالة بغداد لأنها البلد الأول الذي رفرف عليها السلام وتدفق فيه الغنى واشتد به الخلاط وتجمعت لديه شتى الوسائل. ومن خير هذه الوسائل التي حققت هذا الشرف للعراق أن علماء النساطرة الذين نفوا إليه من الممالك الرومانية الشرقية لأسباب دينية، كانوا قد أنشأوا في إديسة من بين النهرين مدرسة تنشر علوم اليونان والرومان، ولما أغلقها الأمبراطور زينون الأوزريالي لأسباب دينية أيضاً، لاذوا بأكناف بني ساسان فلقوهم لقاء جميلاً، وأقام لهم أنوشروان في جنديسابور مدرسة وصلت ما انقطع من تلك الحركة.

وكان الأمبراطور جستنيان يومئذ قد فتح باب الجور على أساتذة المدارس الأفلاطونية في أثينا والإسكندرية فألجأهم للجلاء والشراد فما اعتصموا منه إلا بفارس. وأخذ هؤلاء وأولئك ينقلون إلى السريانية والكلدانية كتب أرسطو وسقراط وجالينوس وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، فكان ما ترجموه من العلوم ومن خرجوه من العلماء نواة صالحة لهذه النهضة المباركة التي نهد لها الخلائف الأولون من بني العباس. كان أول من تلقى وحي هذه الرسالة الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور فأنشأ المدارس للطب والشريعة واستقدم جرجيس بن بختيشوع رأس أطباء جنديسابور ونفراً من السريان والفرس والهنود فترجموا له كتباً في الطب والنجوم والأدب والمنطق. ثم حملها من بعده الرشيد فنفخ فيها من روحه ونشرها في العالم بروحه وترجم في زمنه ما وجد من كتب الطب والكيمياء والفلك والجبر والنبات والحيوان. فلما تلقاها المأمون لم يبق من كتب العلوم والفنون والصناعة شيء في العبرانية واليونانية والسريانية والفارسية والهندية إلا نقل إلى العربية. ولم يقف العرب عند الدرس في هذه المترجمات وإنما أقبل بعضهم على تحصيل اليونانية واللاتينية ليرجعوا بهما إلى بعض تلك الأصول. وفي مكتبة الاسكوريال ما يثبت ذلك من

ص: 13

قواميس عربية يونانية وأخرى عربية لاتينية قد ألفها العرب للعرب. ثم أقبل الناس في الشرق والغرب على هذه العلوم يعالجونها بالشرح والتحليل حتى اجتازوا سراعاً دور التلمذة والتقليد إلى دور الابتكار والتجديد، فهبوا ينشئون المدارس ويقيمون المراصد ويمحصون المسائل ويؤلفون الرسائل ويؤسسون المكاتب، وقد جروا في ذلك إلى أبعد الغايات. ذكر (بنيامين دتودليه) أنه رأى في الاسكندرية عام 1173م عشرين مدرسة، فما ظنكم ببغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة وغرناطة وقد كان فيهن عدا العدد الوفر من مدارس الثقافة العامة جامعات للثقافة الخاصة وما يتبعها من وسائل البحث كالمعامل والمراصد والمكاتب؟ وأنكم لتكبرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم إذا قستموه بما خلفوه من البحوث وما ألفوه من الكتب. فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق والغوص العميق حتى فرعوها إلى ثلاثمائة علم أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه مفتاح السعادة. ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشرق والغرب. فقد ذكر (جيبون) في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحوي ثلاثة ملايين مجلد أحرقها الفرنج سنة 502هـ، وقال المقريزي انه كان في خزانة العزيز بالله الفاطمي مليون وستمائة ألف مجلد نزل بها ما نزل بمصر من الأحداث فأغرقت في النيل أو ألقيت في الصحراء تسفى عليها الريح حتى صارت تلالاً عرفت بتلال الكتب! وروى المقري انه كان بخزانة الحكم الثاني بقرطبة أربعمائة ألف مجلد فيها أربعة وأربعون للفهرس، وأبلغها الأستاذ جوستاف لوبون إلى ستمائة ألف، ولاحظ بهذه المناسبة أن شارل الحكيم الذي اعتلى عرش فرنسا سنة 1364 أي بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة، لم يستطع أن يجمع في المكتبة الأهلية بباريس حين أسسها إلا تسعمائة مجلد كتب ثلثها في علوم الدين. ناهيكم بالثمانين ألف مجلد التي دمرها (كيمينيس) في ساحات غرناطة وبما أحرقه التتار في بخارى وسمرقند وأغرقه هلاكو ببغداد عاصمة العلم والعالم في ذلك العهد! ويلوح لي أنه ليس في ذلك كثير من المبالغة، فأن في المؤلفين من تبلغ تصانيفه بضع مئات، وإن في المؤلفات ما يقع في عشرات المجلدات، فلأبي عبيدة مائتا كتاب، وللكندي واحد وثلاثون ومائتان، وللرازي

ص: 14

مائتان، ولأبن حزم أربعمائة، وللقاضي الفاضل مائة. وجاء في نفح الطيب أن مؤلفات عبد الملك بن حبيبعالم الأندلس قد بلغت الألف. على أن توالي الفتن والمحن على العالم الإسلامي لم يبق للعصر الحديث من هذا الكنز المذخور والمجد المسطور إلا ثلاثين ألفاً وزعت على مكاتب العالم! يزعم بعض المتعصبين من العلماء الأوربيين أن العرب إنما كانوا في العلم حميلة على اليونان ونقلة عنهم، فليس لهم أصالة فكرية ولا عقلية فلسفية، ولو لم يكن للعرب على زعمهم من الأثر إلا أنهم أنقذوا هذه الكتب من عدوان الأرضة، وحفظوا تلك العلوم من طغيان الجهالة، حتى أدوها صحيحة نقية إلى العصور الحديثة لكان لهم بذلك وحده الفخر على الدهر والفضل على الحضارة. فكيف والواقع غير ما يدعون بشهادة المنصفين منهم؟ فأن ملايين الكتب التي دمرتها بربرية أسلافهم في الغرب، وأشباه أسلافهم في الشرق، لم يكن ما نقل منها عن خوالي الأمم إلا بضع مئات كانت أساساً لبناء باذخ ضخم شاده العرب، ونواة لدوحة باسقة ظليلة رواها وغناها الإسلام. فالطب قد أخذوا أصوله عن أبقراط وجالينوس وبعض السريان والهنود، ولكنهم نقوا هذه الأصول من الشعوذة، ورقوها بالترتيب، ونموها بالتجربة، وانتقدوا مذاهب القدماء في تعليل بعض الدواء، استحدثوا في التشخيص والعلاج نظريات وعمليات ووسائل أطبق الباحثون على إنها لم تعرف من قبلهم، ولم تنسب إلى غيرهم، ككشفهم علاج اليرقان والهيضة، وأحذ المرضى بالصفد والتبريد والترطيب في الفالج والحمى واللقوة على غير ما ألف الأقدمون. فعل ذلك صاعد بن بشر ببغداد فنجح تدبيره فأقتدي به سائر الأطباء بعده. وهم أول من أستعمل المُرْقد في الطب، والكاويات في الجراحة، وصب الماء البارد لقطع النزيف. وقد فطنوا إلى عملية تفتيت الحصاة، وعين أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المعروف عند الفرنح (بالبوكاريس) موضع البضع لإخراجها، وهو ماعينه متأخرو الجراحين من الفرنج. وأبو القاسم هذا هو الذي قال فيه الأستاذ هالير:(إن كتبه كانت المنهل العام الذي نهل منه جميع الجراحين بعد القرن الرابع عشر) وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي أول من كتب في أمراض الأطفال، وألف في الجدري والحصبة، وأستعمل الكحول والحجامة في الفالج. والرئيس أبو علي بن سينا أمير الأطباء وجالينوس العرب كما يلقبه الفرنج وضع كتابه القانون فكان شريعة الطب في العالم زهاء ستة قرون. وكان عمدة التدريس في

ص: 15

جامعات فرنسا وإيطاليا ولم ينقطع تدريسه في جامعة مونبلييه ألا أواسط القرن التاسع عشر. وقد تعرض فيه بالتفصيل الدقيق إلى علم الصحة وقرر نظرية (الهجين) الرياضي وهي نظرية كان المظنون أنها من ثمرات العلم الحديث. ومن الأقوال المأثورة أن الطب كان معدوماً فأحياه جالينوس، وكان متفرقاً فجمعه الرازي وكان ناقصاً فأكمله ابن سينا. وإذا مضينا نذكر أمثلة مما جدد سائر الأطباء العرب كإبن زهر وإبن رشد وإبن باجة وإبن طفيل إستبحر القول والتاث علينا تحديده وحصره. وفي كتاب طبقات الأطباء لأبن أبي اصيبعة وتراجم الحكماء لأبن القفطي وتاريخ الطب العربي للكلركما ينقع غلة المستزيد. وللعرب القدم الأولى واليد الطولى في الصيدلة والكيمياء والنبات، وهي في رأيهم شعب من علم الطب أو لواحق به، فهم واضعوا أصول الصيدلة وأول من مارس تحضير العقاقير واستنباط الأدوية. وكذلك هم أول من ألف في الأقرباذين على هذا النمط، وأقام حوانيت الصيدلة على هذا الوضع. وظل العرب معتمدين في المارستانات والصيدليات. على أقراباذين وضعه سابور بن سهل في منتصف القرن الثالث من الهجرة حتى نسخه أقرباذين ابن التلميذ المتوفي سنة 560 ببغداد. ولا تزال أسماء العقاقير التي أخذها الفرنج عن الشرق في كتبهم على وضعها العربي المرتجل أو المنقول. ولا نزاع اليوم في أن علم الكيمياء الصحيح إنما يؤرخ وجوده بجهود العرب فيه. فأنه في سبيل العثور على الإكسير أو إنكاره هدوا إلى عمليات أساسية ومركبات كيميائيةكان لها الأثر الظاهر في تأسيس هذا العلم. والإفرنج يعترفون للعرب بأنهم عرفوا التقطير والترشيح والتصعيد والتذويب والتبلور والتكليس، وإن جابر بن حيان وأخلافه قد استنبطوا طائفة من الأحماض التي تستعمل اليوم. كذلك برع العرب في علم النبات وبخاصة ما يتصل منه بالطب، فقد استفادوا مما كتبه دسقوريدس وزادوا عليه ما وفقوا اليه من شتى الأنواع ومختلف الشكول. والعلماء لسان واحد في أنه لم يأت بين دسقوريس اليوناني ولِنييه السويدي المتوفي سنة 1707 أطول باعا ولا أوسع اطلاعا في هذا العلم من أبن البيطار المالقي. فأنه درس كتاب دسقوريدس ثم رحل إلى بلاد اليونان وأقصى ديار الروم فحقق أنواع النبات بنفسه، وأتصل ببعض من يعانون ذلك فاستعان بفهمه على فهمه، وأضاف علمهم على علمه، ثم عبر إلى المغرب فقام بمثل ذلك، وطلب منابت العشب في مصر والشام فدرسها حق

ص: 16

الدراسة ثم وضع بعد طول الدرس وسعة الخبرة كتابه الموسوم بجامع مفردات الأدوية والأغذية فكان أجمع الكتب في فنه، ومرجع الأوربيين في موضوعه. ولا يقل عن ابن البيطار في التفوق والفضل معاصره ومآزره رشيد الدين بن الصوري المتوفيسنة 639 فقد من إتقانه أنه كان يخرج إلى الأودية والفلوات في درس النبات ومعه مصور قد أستكمل آلته وأصباغه، فيشاهد النبات ويحققه ويريه المصور في أبان نباته وفي وقت كماله ثم في حال ذراه ويبسه، فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله ثم يصوره في كل طور من أطواره بالدقة. وذلك غاية ما بذلته الأمانة العلمية اليوم من الكمال. أما أثر العرب في العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية فبحسبنا أن نشير إلى أنهم أول من نقل الأرقام الهندية إلى أوربا، وأول من أستعمل الصفر في معناه المعروف، وأن كلمة الجورتمي اللاتينية مشتقة من أسم الخوارزمي محمد ابن موسى المتوفي سنة 220هـ وأن الجبر بأسمه العربي يكاد يكون علماً عربياً بعد أن وضع الخوارزمي كتابه في الجبر والمقابلة. وقد قال (كاجوري) في كتابه تاريخ الرياضيات:(إن العقل ليملكه الدهش حينما يقف على أعمال العرب في الجبر.) وفي مادة المثلثات من دائرة المعارف البريطانية أن العرب أول من أدخل المماس في عداد النسب المثلثية. وهم الذين استبدلوا الجيوب بالأوتار وطبقوا الجبر على الهندسة وحلوا المعادلات التكعيبية. وفي الفيزياء أو علم الطبيعة كشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها، وبحثوا في الجاذبية وقالوا بها. وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الجوهري أول من وضع مبادئ الضوء وأوضح أسباب انعكاسه عن النجوم، وأصلح الخطأ الشائع يومئذ من أن الأشعة تنشأ في العين ثم تمتد إلى المرئيات. وتشهد دائرة المعارف البريطانية في مادة الضوء أن بحوث العرب فيه هدت العلماء إلى اختراع المنظار. وفضل العرب على الفلك من البينات المسلمة، فقد رصدوا الأفلاك وألفوا الأزياج وابتكروا آلات الرصد وصححوا أغلاط اليونان والهند وحسبوا الكسوف والخسوف ورصدوا الأعتدالين الربيعي والخريفي وقالوا باستدارة الأرض ودورانها على محورها. وذكر (سكوت) في كتابه المملكة الأندلسية أن عالماً من طليطلة رصد أربعمائة رصد ونيفا ليحقق أبعد نقطة في الشمس عن الأرض ولم يختلف حسابه في ذلك عن أدق المباحث الحديثة إلا بجزء من الثانية. ويقول (كاجوري) أن اكتشاف بعض الخلل في حركة القمر يرجع إلى أبي الوفاء

ص: 17

الفلكي الزرجاني لا إلى تيخوربراهي. وقد عد لالاند الفلكي الفرنسي البتَّاني في العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله ولا تزال طائفة الاصطلاحات العربية في الفلك مستعملة في كتب الفرنجكالسمت والنظير والمناخ والمقنطر والسموت فضلا عن أسماء النجوم والعربي منها لا يقل عن النصف. وأما أثرهم في الفلسفة المدرسية فأن الكندي والفارابي وإبن سينا في الشرق، وإبن باجة وإبن طفيل وإبن رشد في الغرب، قد توفروا على فلسفة اليونان بالدرس والشرح والتمحيص حتى جددوا دارسها وجلوا طامسها وكملوا ناقصها ووسموها بسمة الحرية والعبقرية والنضوج. وقد أثار أبن سينا بتفكيره الحر المنظم، وعقله القوي المنطقي، مسائل من العلم تشغل أذهان الباحثين اليوم. ووضع إبن طفيل قصته الفلسفية (حي بن يقظان) فأبان عن قوة نادرة في التفكير، وموهبة عجيبة في التصوير، واستيعاب موجز للأفلاطونية الحديثة. وقد نقل هذه القصة إلى اللاتينية (إدوار بوكوك) سنة 1671 فظهر أثرها سريعاً في قصة (روبنسون كروزويه) وشهد رينان لأبن رشد في كتابه عنه (أنه أعظم فلاسفة القرون الوسطى ممن تبع أرسطو ونهج سبيل الحرية في الفكر والقول) ودخلت العالم المسيحي فلسفة إبن رشد وفلسفة أرسطو فكان الاعتراض عليهما شديداً والإعجاب بهما أشد. وكان اللاهوتيون في القرون الوسطى يعجبون بأبن رشد وسعة علمه ودقة فهمه ونفاذ بصيرته ولكنهم كانوا يخشون أثر رأيه الجريء في العقائد. وتجدون (دانتي) في الملهاة القدسية قد جعل أبن رشد وأبن سينا في المقام الذي جعل فيه عباقرة الرجال من جهنم. تلك يا سادتي إشارات مبهمة مجملة إلى جهود العرب في العلم وآثارهم في الفكر تجدون بيانها وتفصيلها في تاريخ هذه العلوم، عرضتها بهذا الأِجمال على سبيل المثال لنقول لأصحاب ذلك الرأي الظنين الأفين أن التجديد في العلم يستلزم الاستقصاء البالغ والتمثيل التام والفكر المستقل، وإن العرب كما قال البارون (كارادفو) لم يكونوا نقلة للعلوم فحسب. ولكنهم بذلوا الجهد في إصلاحها وتحقيقها، وأفرغوا الوسع في بسطها وتطبيقها، حتى أدوا أمانتها إلى العصر الحديث.

ص: 18

‌فلسفة شوبنهور

للأستاذ زكي نجيب محمود

عصره:

سادت في أوروبا روح التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتملك النفوس يأس قاتل، وارتفعت بذلك أصوات الشعراء والفلاسفة في كل ناحية من نواحيالقارة: بيرون في إنجلترا، ودي موسيه في فرنسا، وهيني وشوبنهور في ألمانية.

ولقد يقف المرء امام هذه الظاهرة العجيبة وقفة لا تطول كثيراً حتى يجد اسباب ذلك في طبيعة ذلك العصر وظروفه التاريخية: فقد انفجرت الثورة في فرنسا ودوت في أرجاء أوروبا دوياً اهتزت من حوله عروش، وكان لصوتها صدى في كل الصدور وأثر عميق في كل النفوس، فمن أشراف ناقمين ساخطين، إلى زراع يهللون لها ويكبرون. . . ثم كانت واقعة وترلو فخفت ذلك الصوت الداوي، وعزل نابليون على صخرة سنت هيلانة الصامتة الموحشة في عرض المحيط، وعاد (البوربون) إلى ملكهم في فرنسا، وعاد في ذيلهم أشراف الإقطاع يطالبون بأملاكهم، وانتشرت في أوربا حركة رجعية تعمل على طمس معالم الثورة والتجديد.

كم من ملايين الشباب زهقت نفوسهم عبثاً، وكم من عامر الأرض بات خراباً بلقعاً. . . فكنت لا ترى على وجه أوربا إلا آثاراً خربة وأنقاضاً هنا وهناك، ذلك لأن الجيوش النابليونية الجرارة من ناحية، وأعداءها من ناحية أخرى، أخذت تروح وتجيء اكثر من عشرين سنة قضت فيها على الأخضر واليابس، وخلفت القرى والمدائن ينتابها فقر مدقع وبؤس شامل.

ماتت الثورة الفرنسية وكأنما انتزعت معها روح الحياة من أوربا، لأن قلوب الشباب الطامح في كل بقعة من بقاعها كانت قد صغت إلى الجمهورية الناشئة وعاشت في ظلال الأمل الوارفة حيث أملت في مستقبل ذهبي سعيد، فما هي إلا أن وقعت الواقعة في وترلو حتى تحطمت كل هذه الآمال وتبدلت بمأساة سنت هيلانه ومؤتمر فينا فدبت في النفوس روح اليأس التي ملكت على الناس شعب الحياة، وأثَّر ذلك في النزعة الدينية أثرين مختلفين: أما الطبقة الفقيرة الجاهلة فقد التجأت إلى الدينتجد في كنفه السلوى والعزاء، وأما

ص: 19

الطبقة المفكرة فطغت على قلوبهم موجة إلحادية، ولم تعد عقولهم تسيغ أن يكون ثمة مدبر أعلى لهذا الكون.

فأما فريق العقيدة والدين فقد أقتنع بأن هذه النكبات ليست إلا إذلالاً للنفوس جزاء وفاقاً بما نزعت إليه من الإعتزاز بحكم العقل ونبذ العقائد وراء الظهور. وأما فريق الإلحاد فقد ارتأى أن اضطراب أوربا ينهض دليلاُ قوياً على فوضى الحياة وعبثها، وعلى رأس هؤلاء بيرون وهينيوشوبنهور.

فلسفته:

1 -

العالم فكرة

يرى شوبنهور أن الوساطة الوحيدة بين الإنسان والعالم الخارجي هي الحواس والمشاعر، فأنت إذا رأيت شجرة انطبعت صورتها في ذهنك، وهذه الصورة إنما انتقلت عن طريق عدسة العين، فقد تكون مطابقة لحقيقتها الخارجية وقد لا تكون، وقل مثل ذلك في كل معلوماتك عن أجزاء الوجود، فالصورة التي كونهاذهنك عن هذه الدنيا هي فكرة خلقتها حواسك ولا يتحتم أن يكون لها حقيقة واقعة مطابقة لها وإذن فالإنسان كما يقولون دنيا نفسه، وأن في الوجود من الدنى بمقدار ما فيه من عقول بشرية.

يخلص شوبنهور من هذا بأن الواجب الأول هو دراسة العقل قبل البدء بدراسة المحسوسات، لأن في دراسة العقل المفتاح الذي نصل به إلى حقائق الوجود الخارجي.

2 -

العالم إرادة

يكاد يجمع الفلاسفة على أن كنه العقل وجوهره هما الشعور والفكر، إلا أن شوبنهور يرفض ذلك رفضاً، ويقول بأن الشعور إن هو إلا قشرة خارجية لعقولنا لا يعرف على وجه الدقة ما تحويه في باطنها، فهذا الغلاف المفكر يخفي وراءه إرادة لا شعورية، لا يخمد لها نشاط، ولا تنتهي لها رغبات وآمال، وهي التي تملك زمام الإنسان في كل حركاته وأعماله، أما هذا المنطق الذي نحتكم إليه في كثير من شئوننا، والذي يخيل إلينا أنه نابع من العقل الواعي، هو في الواقع ملجم بهذه الإرادة الباطنية، فنحن لا نريد الشيء لأن هناك من الأسباب المنطقية ما يدفعنا إلى ذلك، ولكننا نخلق الأسباب خلقاً إذا كنا نريده إرادة لا شعورية. فالأسباب نتيجة لا مقدمة!! بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا الزعم

ص: 20

فنقول: إننا إنما نخلق الفلسفات ونبتدع الديانات لنخفي في طياتها رغباتنا الخفية.

ابحث في كل نواحي النشاط الإنساني، تجد دوافعه مشتقة من الإرادة اللاشعورية، لا من العقل والشعور. فهذا التنافس والتناحر على أسباب العيش من طعام ولذات، إنما ينبع من (إرادة الحياة) التي يبطنها كل كائن في طوايا نفسه، حتى شخصية الفرد لا تتكون من أعماله العقلية ولكن من نزواته اللاشعورية التي يندفع اليها بإرادته الخفية؛ ومن هنا كانت الديانات على اختلافها تعد الجنة للإرادة الطاهرة (أي القلوب) ولكنها لا تعترف بالعقول الكبيرة ولا تحسب لها في جناتها حساباً.

وليست سيطرة الإرادة مقصورة على الحياة الفكرية، بل تتعداها إلى الدائرة الفسيولوجية. فإرادة الحياة خلقت أوعية يجري فيها الدم، وإرادة المعرفة خلقت مخاً يصل إلى شتى المعارف، وإرادة القبض على الأشياء خلقت الأيدي، وهكذا نشأ كل عضو بعد نشوء إرادة وظيفته، فحركات الجسم هي في الواقع إرادات مجسمة بل الجسم كله إرادة متبلورة.

إذن فالارادة، لا العقل، هي كنه الإنسان بل كنه الكائنات الحية جميعاً، هذه الإرادة التي نتحدث عنها هي رادة الحياة، وليس الحياة أياً كان لونها، ولكن (إرادة الحياة الكاملة).

وليست هذه الإرادة مقسمة بين الأفراد، أعني ليس لكل فرد إرادته المستقلة تعبث به كيف شاءت، ولكنها إرادة واحدة تتناول الحياة بأسرها كتلة واحدة وشيئاً لا يقبل التجزئة، فالفرد ليس حقيقة في ذاته ولكنه ظاهرة لحقيقة، فهو جزء من كل متماسك، ومحتوم عليه بحكم إرادته أن يسير في طريق مرسوم حتى لا يضطرب نظام ذلك الكل المتحد. ومن هنا نشأت رغبة التناسل مثلا، فهي ليست رغبة فردية، ولكنها رغبة الحياة بأسرها وهي وحدها التي تسخر الأفراد لصالحها بل أن هؤلاء الأفراد الصورة المحسة التي تظهر فيها إرادة الحياة.

يقول سبينوزا: لو أن حجراً ألقي في الهواء وكان لديه شعور وإدراك لظن أنه إنما يتحرك بمحض إرادته الحرة وأنه هو الذي يختار الزمان والمكان اللذين يقع فيهما. وما أشبه الإنسان في حياته بذلك الحجر الملقى: كلاهما تدفعه قوة خارجية وكلاهما يتوهم أنه حر لا سلطان على إرادته.

نعم، إرادة الحياة في عمومها حرة التصرف لأنه ليس هناك إرادة تحد تصرفها ولكن كل

ص: 21

قالب من قوالب الحياة، أي كل جسد مادي يدب فيه جزء من الحياة، محدود ولا ريب بتلك الإرادة الكلية سواء أكان ذلك القالب الحي نوعاً أم فرداً أم عضواً من فرد.

3 -

العالم شر

ما دامت الإرادة أساس الحياة فالحياة شر كلها. ذلك لأن الإرادة مبعث لسلسلة من الرغبات لا تنقطع. والرغبة عادة تمتد إلى أكثرمما يستطيع الإنسان تحقيقه: وهكذا يظل الإنسان مدفوعا في حياته بآلاف الدوافع من الآمال التي إن تحقق بعضها فمعظمها خائب فاشل، وهو أمام هذا الفشل الذي يغمره في كل خطوة يخطوها يستحيل عليه أن يتذوق في حياته سعادة مطلقة، ثم هو لا مناص له من هذه الرغبات التي يسوق بعضها بعضاً، لأن جوهر الإنسان إرادة كما بينا، فإذا هو تخلص من إرادته فقد تخلص من نفسه؛ ولابد لهذه الإرادة أن تعيش وتتغذى، وهذه المطامع المستمرة في حياة الفرد هي الوقود الذي تخلقه الإرادة لنفسها.

والحياة كلها شر كذلك، مادامت الآلام هي طبيعة مادتها التي تتكون منها، وليست السعادة إلا حالة سلبية يقف فيها تيار الآلام. وما اصطلحنا على تسميته بالسعادة إنما هي الحالة التي ينعدم فيها وجود الألم، أعني أن ليس ثمة سعادة إيجابية. وقد أشار أرسطو إلى هذه الحقيقة بقوله أن الحكيم لا يجوز له أن يبحث عن السعادة، بل يجب عليه أن يسعى وراء التخلص من آلامه.

وفوق هذا كله، فالحياة شر كلها لأنها عراك دائم، فأينما سرت صادفت تناحراً وتنافساً وجهاداً، فكل نوع يقاتل في سبيل المادة والزمان والمكان.

نعم لا ريب أن الحياة قاسية مؤلمة، وليس يعجب شوبنهور إلا من متفائل يبتسم لهذا العالم ويقول لو أن أشد الناس تفاؤلا طاف بالمستشفيات والسجون وساحات الحروب ليشهد ألوان الألم والعذاب، ولو أنه رأى البؤس الذي يتوارى خجلاً في اركان الأكواخ المظلمة. نعم لو أبصر هذا وذاك وما هو شر من ذلك جميعاً لأنقلب متشائماً يئوساً على الفور. وإلا فحدثني بربك من أين اشتق دانتي صورة جحيمه إلا من هذا العالم الذي نعيش فيه، ومع ذلك فقد كونها صورة ما أهولها من صورة!! ثم انظر كيف اصطدم بمشكلة سقطت أمامها عبقريته عجزاً وإعياء عندما أراد أن يصور جنة سعيدة لأنه التمس من الحياة أجزاء الصورة التي

ص: 22

يريد فعز عليه المثال!!

4 -

الفلسفة

رأينا كم يدفع المرء من الشقاء ثمناً باهضاً لأنفاسه! وعلمنا أن الحياة بما تحوي من شر تجارة خاسرة لا تساوي ثمنها!!. ولكن ألا نستطيع أن نرسم طريقاً للسعادة؟ ذلك ميسور إذا تغلب جانب العقل والمعرفة على جانب الإرادة والرغبة من الإنسان. فأنت عاجز عن إدراك السعادة إذا تملكت الإرادة منك الزمام، وأنت عاجز عن إدراك السعادة بالمال والجاه، وهي على قاب قوسين منك إذا أسلمت قيادك إلى العقل واستطعت أن تضغط على الإرادة حتى تحصرها في حيز ضئيل. ويعتقد شوبنهور أن الإعجاز لا يكون في إخضاع العالم بأسره بقدر ما يكون في إخضاع الإرادة. . . . . . إذن فالفيلسوف وحده هو الذي يستطيع أن يتغلب على شقاء الحياة. لأنه صورة من المعرفةغير المقيدةبالإرادة، وإذا استطاع الفكر أن يتخلص من قيود الرغبة والهوى أمكنه أن يرى الأشياء على حقيقتها المجردة.

فالفلسفة هي عبارة عن النظر المجرد عن الارادة، هي إنكار الذات عند النظر إلى مظاهر الوجود واعتبارها حقائق في ذاتها دون أن تربطها بالحياة البشرية.

5 -

الفن

نحن إذن ننشد تحرير المعرفة من استعباد الإرادة، ننشد إنكار الشخص لنفسه عند نظره للأشياء، وليس هذا المنشود إلا الفن في أصح معانيه. فالفنان العبقري يحاول أن يرى الأشياء من وجهة صفاتها العامة لا يعبأ كثيراً بالأشباح المادية التي تمثل تلك الصفات فموضوع الفن هو تجسيد الكلي العام في جزئي من الجزيئات والصورة الفنية يجب أن تكون المثل الأعلى للشيء المصور، ومعنى ذلك أن صورة البقرة مثلاً لكي تكون من آيات الفن الرفيع، يجب أن يتجمع فيها كل مميزات هذا النوع وما يتعلق به من صفات، كأن نوع البقرة كله قد تركز في هذه البقرة الواحدة. وصور الأشخاص يجب أن تقصد لا إلى الدقة الفوتوغرافية، بل إلى عرض كل ما يمكن عرضه من صفات الإنسان عامة في ملامح الشخص المصور، إذ الواقع أن الفنان سيصور صفات، وليست الأجسام إلا وسائل فقط لإبراز تلك الصفات.

ولنوجز هذا في عبارة أخرى: نقول أن الصورة الفنية لشيء ما يجب أن تكون عبارة عن

ص: 23

(المثل الأفلاطوني) لذلك الشيء، وبقدر ما تقرب الصورة من ذلك المثل الخيالي تكون قيمتها الفنية. فطربنا لجمال الطبيعة أو الشعر أو التصوير إنما يصدر عن تأمل الأشياء في حقيقتها الواقعة دون أن يمتزج ذلك التأمل بوجهة النظر الشخصية. فسواء لدى الفنان أن يرى غروب الشمس من قصر منيف أو من كوة في سجن مظلم.

فالفن يمحو بؤس الحياة وعللها بأن يعرض علينا صوراً خالدة من وراء هذه الصور الفردية الزائلة.

6 -

الدين

وإذا كانت الفلسفة وسيلة لاتقاء شرور الحياة بما تستطيعه من إخضاع الشهوة لحكم العقل، وإذا كان الفن عاملاً من عوامل السعادة لأنه لا يعبأ بالأشباح المادية التي تتحرك أمامنا وإنما يعنى بحقائق هذه الأشياء الخالدة، فالدين طريق ثالث يؤدي إلى سعادة النفس وطمأنينتها لأنه بدوره عبارة عن إخضاع الإرادة لحكمة العقل، فالصيام الذي تفرضه الأديان جميعاً يقصد منه تدريب النفس على قهر إرادتها أو شهوتها.

7 -

حكمة الموت

وبعد، فما أعجب أن تكون الحياة كما هي شروراً وآلاماً، ومع ذلك تتخذ لها من أنفسنا عوناً على الانتشار والذيوع!! يصيح شوبنهور بأعلى صوته أن الحياة سوء وشر ويجب أن نقضي عليها قضاء مبرماً. ولكن كيف؟ الحل عنده بسيط وهو أن نهجر النساء هجراً جنسياً لأنهن أس البلاء بما يقدمن للرجال من فتنة وأغراء. وهو يتساءل: إلى متى تدفعنا الحياة أمامها دفع الخراف وهي لا تحوي إلا شقاء وعناء؟ متى نستجمع كل ما نملك من قوة وشجاعة لنصيح في وجهها أن الحياة أكذوبة وخدعة. أن نجاة الإنسان وخلاصه إنما هو الموت!

-

ص: 24

‌لماذا ترجمت فرتر

(إلى الصديق الذي سألني هذا السؤال وهو طليق الحرية في بغداد فأجبته وهو سجين في كركوك)

تسألني لماذا ترجمت فرتر. . . والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غداً سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها:

قال ((جوت) يوماً لصديقه (اكيرمان): (كل امرئ يأتي عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) إنما كتب له خاصة) وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين!: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في دائرة ليس فيها من الواقع غير وجوده،. . . وإحساس مشبوبيتوقد شعوراً بالجمال، وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواطف سيالة ما تكاد تتماسك. . . . .! فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة!. . وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطقأفسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى. ثم غمر هذه الحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه مُلِحّ، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن، وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لاحِب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور!. . ورحت أسلك هذا الطريق السحري محمولاً على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة أصطدم عندها الخيال بالواقع، والحبيب بالخاطب، والعاطفة بالمنفعة!! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً ولا بد للحي أن يسير!!

تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض، والعرائس وحوش. فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس!. . ولكن أين أنشد ما أبغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث!!؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت عليّ، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي، فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟؟

ص: 25

قرأت هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأدولف، ودومينيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان دكريف، وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي. ولكنهم كانوا جميعاً غيري، نتفق في الموضوع ولكن نفترق في الوضع، كالنساء النوادب في مناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد هو الموت!!

فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت روحاً غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالاً غير تلك الحال!! كنت أقرأ ولا أرى في الحادثة سواي، وأشعر ولا أشعر إلا بهواي، وأندب ولا أندب إلا بلواي، فهل كنت أقرأ في خيالي أم أنظر في قلبي، أم هو الصدق في نقل الشعور والحذق في تصوير العاطفة يظهران قلوب الناس جميعاً على لون واحد؟؟

كنا يومئذ في مايو والطبيعة تعلن عن حبها بالألوان والألحان والعطر، ونفسي تحاول أن تعلن عن هواها بالدموع والشعر، فآلامي تجيش في عيني، وعواطفي تتنزَّى على لساني وبلابلي تتوثب في خاطري، وكلها تطلب السبيل إلى العلانية، (والشكوى في الحب كالطفح في الحمى كلاهما عرض ملازم) فلما قرأت (فرتر) تنفس جواي المكظوم، واستغنى عن البيان هواي المكتوم، لأنني لو كنت صببت مهجتي على قرطاس لما كانت غير (فرتر)، وهل فرتر إلا قصة الشباب في كل جيل؟ رجل شديد الحس قوي العاطفة يتقسم الخيال (والايديال) نواحي نفسه، ورجل آخر بارد الطبع عملي الفكر يعرف دائماً كيف يجر النار إلى قرصه، وامرأة بينهما يجذبها إلى الأول طبعها الغزلي وقلبها الشاعر ويربطها بالثاني عقلها المادي ووعدها المأخوذ. . . هذا هو موضوع آلام فرتر وهو عينه موضوع آلامي. . . فلم لا أنقله إذن إلى لغتي لينطق عن لساني كما ترجم صادقاً عن ضميري؟؟

فنيت في (جوت) وقادني إلهامه وروحه، وأهَبْتُ بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحات القدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طول القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورُقْيَة هم!! كأنما كان (جوت) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: (وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه وتلمسي البرء والشفاء في

ص: 26

أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو أقرب اليك وأحنى عليك؟؟

أ. الزيات

ص: 27

‌كسوف حلقي للشمس

يقع في يوم فبراير سنة 1933

للأستاذ عبد الحميد سماحة. مفتش مرصد حلوان

(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد

ولا لحياته)

(حديث شريف)

حسبنا أن يكون في ذلك دليل مفحم للذين يتقولون القول وينسبون إلى الكواكب سعادة قوم وشقاء آخرين، وهي بريئة من هذا وذاك. ولكن أنى لنا أن نقنعهم وفريق يتخذها وسيلة للكسب، وفريق آخر يتخذها رجاء وسلوة.

لقد انقضى ذلك العهد الذي حسب الناس فيه أن بين الكواكب وبين الأفراد والشعوب في سعادتهم أو شقوتهم وانتصارهم أو هزيمتهم ارتباطاً. وتقدمت الدراسات الفلكية في القرنين الماضيين تقدماً عظيماً، وأصبح في استطاعة الفلكيين أن يقيسوا درجة حرارة النجوم كما يقيس الطبيب درجة حرارة المريض، واستبانوا أبعادها وأحجامها وأوزانها وتركيبها! ولم تعد الظواهر الفلكية منذرة بالحروب والبلاء، أو مبشرة بالسعادة والرخاء بل أصبحت تجربة علمية كبيرة تجربها الطبيعة فيستغلها العلماء إلى أقصى حد فيما لا يتيسر لهم تجربته على ظهر الأرض. فهناك مثلاً كثافة السديم نراها أدنى مليون مرة من كثافة أية مادة تصل إليها أيدينا بينما هي في بعض النجوم أعلى بمقدار مليون من كثافة أية مادة على الأرض! فليت شعري كيف يتسنى لنا أن نعرف طبيعة المادة من التجارب التي نجريها في المعمل ولا يزيد مدى كثافة المواد التي بين أيدينا على واحد في مليون المليون من المدى الكلي لكثافة المادة في الطبيعة؟؟

لقد أصبح من الصعب إيجاد الحد الفاصل بين أنواع العلوم الطبيعية؛ وتقدمت الاكتشافات العلمية وهي سلسلة الحلقات، فمن إلكترونات أقطارها كسور من ملايين الملايين من البوصة، إلى سدائم تقاس بمئات الآلاف من ملايين الملايين من الأميال! فكل زيادة في معلوماتنا الفلكية تزيد حتماً في معلوماتنا في الطبيعة والكيمياء والعكس بالعكس.

ص: 28

لهذا كان اهتمام العلماء بالظواهر الفلكية عظيماً، فهم يستغلونها في أبحاثهم، ويقيسون عليها نظرياتهم، وكثيراً ما كانت الأرصاد الفلكية سبباً لاكتشافات عظيمة كان للبشرية منه نفع مادي جليل الشأن. مثال ذلك غاز الهليوم أكتشف أولاً في تحليل طيفي للشمس أثناء كسوفها في عام 1868. وهذا الغاز كما نعلم عظيم المنفعة لأنه الغاز الوحيد الصالح لملء المناطيد. ونحن إنما نذكر هذا الحادث العظيم على سبيل المثال للذين يزنون العلوم بمقدار ما يمكن أن تدر عليهم أو على البشرية من نفع مادي؛ ولكن الغاية الأولى من الدراسات الفلكية هي البحث وراء الحقائق العلمية وحدها ولذاتها، وهي غاية تدافع عن نفسها بنفسها.

لقد أصبح كل طالب يعرف أن الأرض ومثلها الكواكب السيارة الثمانية الأحرى إنما تدور حول الشمس في مدارات دائرية، وأن القمر يدور حول الأرض بمدار دائري أيضاً. وأنه إذا توسط القمر بيننا وبين الشمس حجب أشعتها عنا فتنكسف الشمس؛ ولكن يجب أن نضيف هنا أن مدار القمر حول الأرض يميل بمقدار خمس درجات على مدار الأرض حول الشمس، فالثلاثة لسن في مستوى واحد على الدوام، ولولا ذلك لحدث كسوف للشمس كلما كان القمر في المحاق حيث يتوسط وقتئذ بين الأرض والشمس.

لقد حسب الفلكيون أن كسوفاً حلقياً للشمس سيشاهد في القطر المصري في يوم الجمعة الموافق 24 فبراير سنة 1933 يبتدئ في الساعة الثالثة والدقيقة 43 مساء، وينتهي في الخامسة والدقيقة 29 مساء من نفس اليوم.

أجل ستنكسف الشمس في ذلك اليوم، وبين هذين الزمنين المحددين بالضبط لا محالة، ولكن لا سبيل في ذلك إلى التفاؤل ولا إلى التشاؤم، فليست الشمس والقمر والأجرام السماوية المختلفة الأخرى إلا آيات بينات لأولي الألباب.

ص: 29

‌في الأدب العربي

العوامل المؤثرة في الأدب

(1)

ليس الأدب إلا التعبير القوي الصادق عن مشاعر المرء وخواطره

وأخيلته، وهذه تتأثر بأحوال العيش وأنواع العقائد وأطوار المجتمع

وأنظمة الملك وتقلبات السياسة، ومن المفيد الإلمام بهذه العوامل المؤثرة

في الأدب لتكون دستور المؤرخ وشريعة الأديب ونبراس الباحث فيما

يصدر عن الإنسان من كد الأذهان وفيض القرائح.

فمن هذه العوامل (طبيعة الإقليم ومناخ البلد) وأثرهما في حياة الناس وسلائل الأجناس معلوم في بدائه العقول. فأحوال الإقليم هي التي تنهج لساكنيه سنن معاشهم ونظام اجتماعهم. وتكون الكثير الغالب من أخلاقهم وطباعهم، ومناظره هي التي تربي ذوق أبنائه، وتغذي كتابه وشعراءه، فالشعر الجاهلي مثلاً صورة صادقة لطبيعة البادية وحياة البدو: فألفاظه خشنة كالجبل، ومعانيه وحشية كالأوابد، وأساليبه متشابهة كالصخر، وأخيلته مجدبة كالقفر، ولن تجد في غير الجزيرة العربية أمثال الشنفري وتأبط شراً والسليك بن السلكة من هؤلاء الشعراء الصعاليك الذين تغنوا بحياة البادية ومناظرها وأباعرها وغزلانها وكثبانها وأطلالها وجبالها بشعر متين الحبك صادق الوصف جاف اللفظ عنجهي الخيال. وقد أختلف الشعر في شبه الجزيرة نفسها باختلاف الأماكن: فهو في نجد غيره في الحجاز، وهو في أهل الوبر غيره في أهل المدر. ولهذا العامل وحده نعزو انقراض الأراجيز وهي أقدم الأطوار لشعر البادية حين إرتحل ناظموها من الصحارى المجدبة إلى سواد العراق وريفه. وفي حواشي العراق وظلاله، وخمائل نجد وجباله، أخضر عود الشعر واستقام وزن القصيد ومن ثم قال القدماء أن امرأ القيس ومهلهل بن ربيعة وعمرو بن قميئة هم أول من قال الشعر وأطال القصائد، وما كانوا في الواقع إلا زعماء النهضة الأدبية في هذه البلاد.

وظل عامل الطبيعة يفعل فعله في الأدب خلال القرون، فخالف بين الشعر في عواصم الشرق وبينه في الأندلس فقد وجد

ص: 30

الشعراء العرب في أوربا ما لم يجدوه في آسيا من الأجواء المتغيرة والمناظر المختلفة والأمطار المتصلة والجبال المؤزرة بعميم النبت، والمروج المطرزة بألوان النور، فهذبوا الشعر وتأنقوا في ألفاظه ومعانيه، ونوعوا في أوزانه وقوافيه، ودبجوه تدبيج الزهر، وسلسلوه سلسلة النهر، وسلكوا به مسلك التنوع والتجديد. وهذا العامل هو الذي يخالف اليوم بين الأدب في مصر وبينه في الشام والعراق. فالطبيعة المصرية تكاد أن تكون نائمة: فالجو معتدل في جميع الفصول لا يكاد يختلف، وحقول الوادي الحبيب لا تعرى من الزهور والزروع، والسماء السافرة والصحراوان الوسيعتان لا تكاد مناظرهما تتغير. فإذا لم تكن طبيعة بلادنا نائمة فهي على الأقل مسالمة، لأنها لا تزعجنا بالزلازل العنيفة، ولا تهزنا بالعواصف الرعن، ولا تخزنا بالبرد القارس والحر اللافح، فطبعت أهلها على الوداعة والفكاهة والبشاشة والكسل والمحافظة على القديم من العادات والأخلاق والآداب فلا تتطور هذه الأمور في مصر إلا بمقدار. ولذلك تجد شعرنا منضد اللفظ جيد السبك بطيء التجدد هادئ الأسلوب لين العطف لا يأخذ الأمور إلا بالملاينة والرفق. بينما تجد الشعر في الشام شديد الحركة كثير التنوع سريع التجدد قلق الأساليب لتعدد المناظر واختلاف الصور وتقلب الطبيعة ونشاط الحياة. وهو في العراق قوي أبي ثائر ساخط متوثب منتشر على ألسنة الخاصة والعامة لالتهاب المخيلة وتوقد الشعور وصفاء الحس من إفراط الطبيعة في الحر والبرد وغلبة الحياة البدوية على كثرة السكان.

على أن هذا العامل قد أخذ يضعف منذ أواسط القرن الماضي لسهولة المواصلات وكثرة المخترعات وانتشار المدنية، فيستطيع الإنسان أن يعيش في آسيا وأفريقيا كما يعيش في أوربا، وسيزداد ضعفاً في المستقبل دون أن يمحي ويبيد.

ومنها (خصائص الجنس) فشعر العرب يختلف عن شعر اليونان في المذهب والخيال والغرض، وشعر ابنالرومي يختلف عن شعر ابن المعتز وقد نشأ في بلد واحد وعصر واحد، لأن الجنس الآري أميل إلى الاستقصاء والتفصيل والتحليل والتعمق، والجنس السامي لذكاء قلبه وحدة خاطره يفهم الشيء في لحظة، ثم يلخصه في لفظة، فهو أميل إلى التعميم والأجمال والبساطة. ومنها (دوام الحرب بين جنسين أو أمتين لفتح بلاد أو صد عاد أو تحرير وطن). فأن هذه الحروب تتمخض عادة عن أبطال ينمون في الخيال، ويعظمون

ص: 31

في الصدور، ويكبرون في الزمن، حتى تنسب إليهم الخوارق، وتخلع عليهم المحامد، فتسير بذكرهم الرواة، وتتحدث بأفعالهم القصاص، وتنتقل شهرتهم من فم إلى فم ومن جيل إلى جيل، وهي في خلال ذلك تتسع وتفيض حتى تصبح سيرهم لدى الشعب حديثاً وطنياً يجب أن ينشر، وتراثاً قومياً يحرصعلى أن يزيد، فيقيض الله لهذه السير المتجمعة على طول الدهور شاعراً سمح القريحة فينظمها بأسلوب شائق ونمط جميل، كذلك دارت الإلياذة الإغريقية على حروب اليونان لأهل طروادة. ومهابهاراته الهندية على الحرب التي نشبت بين نيدهو وبني كرو، والشاهنامة الفارسية على تاريخ الأكاسرة ووصف الحرب التي اشتعلت بين أهل إيران وأهل طوران، وقد كانت تلك الحروب مفخرة الفرس الأولين ورمزاُ للخلاف الدائم بين ألهي الخير والشر (وكذلك دارت أغاني رولان الفرنسية على حروب الفرنج لعرب الأندلس. وهذا هو الشعر القصصي أو الملاحم الذي خلا منه الشعر العربي لأسباب لا يتصل ذكرها بموضوع اليوم) على أن عامل الحروب قد أثر في النثر العربي والشعر العامي وأن لم يؤثر في الشعر الفصيح. فأن نشوب الحروب الصليبية قد اقتضى تدوين بعض القصص الحماسية كقصة عنترة وسيرة بني هلال والأميرة ذات الهمة إثارة للنفوس وتحميساً للشعب وتفريجاً من الهم.

ومنها (طبيعة العمران وتوزع الثروة وما يتصل من ذلك من حال الاجتماع) فأن تقدم الحضارة ورخاء العيش ونماء الثروة تؤثر في الذوق، وتزيد في الصور؛ وتساعد على نشر العلوم، وتنوع في معاني الشعر وأساليب الكتابة. وشاهد ذلك أن مدن الحجاز حينما زخرت بالمال ونعمت بالفراغ منذ خلافة عثمان إلى أواخر القرن الأول للهجرة تدفق أهلها في اللهو وعكفوا على الغناء وألقوا أزمتهم في يد الصبابة وانقطع شعراؤها إلى الغزل فافتنوا فيه وتصرفوا في معانيه وأغفلوا سائر أنواع الشعر الأخرى كعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزة. وشاهد آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية في الفنون الأدبية هو شيوع البذاء والفحش في شعر بعض البغداديين على عهد الرشيد والمأمون.

فقد حدث شئ من ذلك في الجاهلية وفي العصر الأموي حين كان الفرزدق وجرير ومن لف لفهما يتجاوبون بالفحش ويتهاجون بالبذاء، إلا أن ذلك لم يكن مقصوداً لذاته، وإنما كان يقال هجاء للعدو وسباباً للخصم. أما الفحش في شعر أبي نؤاس ومطيع بن أياس وحسين

ص: 32

الضحاك وابن سكرة الهاشمي وابن الحجاج فقد كان صادراً عن خلق وناقلا عن طبع ومعبراً عن حالة. فالشعراء يقولونه ويفعلونه، وأهل البيوتات وذوو الثمالة يسمعونه ولا ينكرونه، فيما ذا نعلل ذلك الفساد الذي نال الطباع العربية الحرة فجعلها تمتهن الكرأمة وتلقي شعار الحشمة؟؟ إذا عللناه بمفاسد الترف حين تطغى الحضارة ويثور البطر كان هذا التعليل وحده غير فاصل ولامقنع. فأن أكثر أمم التمدن الحديث اليوم قد غرقوا في اللهو وشرقوا بالنعيم وأمعنوا في الخلاعة، ثم لا تجد النوابغ من شعرائهم وكتابهم يجرءون على أن ينعوا أنفسهم بالفواحش أو يجهروا في كتبهم بالفضائح، وناهيك بما حدث لفكتور مرجريت حين نشر قصة لاجرسون.

إنما الأشبه بالحق أن هناك سبباً آخر يساعد هذا السبب وهو كثرة الرقيق، وتأثير الرقيق إنما حدث من جهتين: أولاهما قيام العبيد على تربية الأحداث في كرائم الأسر، وفي كثرة العبيد دناءة في الطباع ووقاحة في القول فأفسدوا النشء وعودوهم هجر القول وفحش الحديث، وأخراهما إقحام الجواري والسراري خدور العقائل فأعدينهن من أخلاقهن بالمجانة، فسقطت المرأة من عين الرجل فأخذها بالعنف وضرب عليها الحجاب وأقام عليها الخصية على عادة الفرس وأقصاها عن تربية الولد وتدبير البيت وأتخذها للمتاع واللذة، فكان من ذلك أن فشت في الخاصة أخلاق العبيد والأماء فتنادروا بالفحش وأكثروا الشعر في الأحماض والمجون. وإليك شاهداً آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية والأمور المادية في فنون الآداب: ظهر أدب العامة أو الشعر باللغة العامية في بغداد والأندلس في عصر واحد، ففي بغداد ظهر المواليا على لسان صنائع البرامكة من العامة، وظهر نوع آخر ذكره ابن الأثير صاحب المثل السائر قال:(بلغني أن قوماً ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وان لم يكن من بحار الشعر المنقولة من العرب، وسمعت شيئاً منه فوجدت فيه معاني حسنة مليئة وأن لم تكن الألفاظ التي صيغت بها صحيحة) ولكن الشعراء والأدباء استخفوا به واحتقروه فلم يقلدوه ولم يدونوه ولم يأبهوا لأربابه. وحاول أحد الأطباء الأدباء وهو محمد بن دانيال الموصلي أن يبتكر نوعاً جديداً من الأدب أقتبسه من ألعاب خيال الظل فألف كتاباً سماه طيف خيال فحبط عمله.

ص: 33

وأما في الأندلس فأبتدع عبادة بن ماء السماء القزار الموشح، وأبتكر أبو بكر بن قزمان الزجل، فطرب الناس لهما وأعجبوا بهما وأقبل أمراء القريض وزعماء الأدب على نظمهما وجمعهما فنبغ فيهما النوابغ واشتملت على روائعهما الكتب. فم السبب إذن في استهجان البغداديين لأدب العامة وعزوفهم عنه، واستحسان الأندلسيين له ونبوغهم فيه؟ السبب يعرفه المؤرخ الباحث في بغداد وهو أن بغداد كانت شديدة الأرستقراطية لأنها موطن الأشراف وذوي الأحساب والمثالة والثروة، فكانوا يترفعون عن الشعب ويستخفون بأدبه وذوقه وذكائه. ويجدون من الغضاضة أن يتحلوا بحليته ويجروا على أسلوبه؛ ولكن الأندلس كانت ديمقراطية غنية كأمريكا اليوم، فلم يعتز أحد فيها بالنسب لتساويهم فيه، ولا بالثروة لعموم الرخاء فيهم، وحسن توزيع الثروة بينهم، فكانت منازل الخاصة والعامة متصاقبة. وأذواقهم وآدابهم متقاربة. لذلك لم يتأبه الشعراء والأدباء عن تقليد الأدب العامي وتدوينه.

ص: 34

‌من طرائف الشعر

تطور في الجماد

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

ما حياة قديمها غير باد

لك إلاّ تطوُّر في الجماد

أنها تبتني لها في نظام

كل ما يقضي حاجها من عتاد

وإذا ما الجماد رثَّت قُواه

ذهبت كلها الحياةُ بداد

وهي ليست إذا نظرتَ اليها

في جميع البقاع غير جهاد

ولقد يهلك الذي يتوقَّى

ولقد لا يعيش أهلُ الحياد

ولدتها الأرض الكريمة بكراً

وسقتها السماء دَرَّ العهاد

ليس منا الأجساد بالروح تحيا

إنما يحيا الروح بالأجساد

إنما الأرض وهي ما نحن نسعى

فوقه ما بين رائح أوغادِ

كوكب مظلم يطوف من الشم

س حثيثاً بكوكبٍ وقاد

كفَراش يدور حول سراج

واهج ما لزيته من نفاد

وعلى وجهيها نهارٌ وليل

فهي لا تستغني عن الأضداد

كل ما في الوجود فهو لعمري

من نواميس الكون في أصفاد

ولعل الزمان في دوره يجم

ع بين الآزال والآباد

وكأن المجرَّ نهرٌ مديد

وردته من النجوم صواد

وكأن الوجود فاض على الشط

طين اذ عَبَّ سيله في الوادي

ويراه الحجا شموساً تُعاني الس

بح في لانهاية الأبعاد

وأحاطت بما هنالك أسر

ارٌ لعيني تجللت بسواد

من شداد الغموض فيها يحار ال

عقل والعقل بعض تلك الشداد

جل كون قد حف باللا تناهي

عن شبيه له وعن أنداد

أترى أن ماله قِدَمٌ في ال

كون ذو حاجة إلى أيجاد

عالمٌ يختفي وآخر يبدو

والذي يختفي عتادُ البادي

وفسادٌ يجيء من بعده كو

ن وكون يجيء بعد فساد

ص: 35

ليس موت الآباء إلا ضماناً

لحياة الأبناء والأحفاد

أنا في جوهري قديم على الأ

رض وإن كان حادثاً ميلادي

أنا جزء من عالم ماله من

آخر ينتهي به أو نفاد

ليست الأرض غير قبرٍ مُوارٍ

لرفات الآباء والأجداد

قل لمن طال في التراب كراهم

هل لكم يقظة وراء الرقاد؟

غيَّر الدهر كلَّ عضو بجسمي

غير قلب لي في الحبِّ هو هادِ

لم تكن مني الصبابة في شي

خوختي غير جمرة في الرمَاد

ولقد حاقت بي المصائب تترى

من أناس عاشرتهم في بلادي

ولمن في حياته خالط النا

س كثيراً أحبَّة وأعاد

أيّ ذنب لي إن تباعدت الشق

قة بين أعتقادهم وأعتقادي؟

كلما خالف الجماعة في الرأ

ي جريء رموه بالألحاد!

ثلَّة منهم العيون تريني

ما تكنّ الصدور من أحقاد.

عدَّني ان أردت في سعداء ال

قوم أو عدَّني من الأنكاد

إنني في جميع ما أنا آتٍ

مكره ليس في يديَّ قيادي

أنا هذا ولستُ أقوى على تغ

يير ما في خلقي أو استعدادي!

أنا بالشعر وحده متسلٍ

إنه كل طارفي وتلادي

وإذا وافته المنيّة قبلي

فاحفروا حفرة له في فؤادي

وإذا مت قبله فهو يرثي

ني لو ظل حافظا لودادي

أيها الناقد المهين لشعري

أنت ما بالنزيه في النقَّاد

لا تحقر بنات فكري فتلكم

كلُّ ما خلَّفت من أولاد

حان ذاك اليوم الذي ليس تورى

فيه ناراً إذا قدحتُ زنادي

ما ألذ الحياةَ لو هي دامت

غير أن المنون في المرصاد!

حبذا عهدٌ سالف لم أكن في

هـ لغير الجمال بالمنقاد!

ص: 36

‌مزايا الحجاب

للدكتور محمد عوض محمد

رُويداً! أنَحْزَن أم نطربُ؟

فَذِي قصة شأنها اعجبُ:

فتاة من الزِّنج تهوى الرجالَ

وعنها رجال الورى ترغبُ

قضت زهرة العمر تبغي الحليلَ

فما جاءها خاطبٌ يخطب

وقد صدَّ عنها وُوُلى الفرارَ

شبابُ بني الزنج والأشيبُ

ونَفَّر منها بني جنسها

مُحَيَّا لها كالح مُرْعب

وصوت وليس كصوت الكنار،

ولكنه البوم إذ تنعب

وأنفٌ مناخره كالجِفانِ

ذباب الملا حوله تلعب

ومن مِشْفَرٍ فوقه مِشْفَر

كعقربةٍ فوقها عقرب.

وإذ يئست من بني قومها

وعَزَّ لها فيهم المطلبُ

أتت أرض مصر ملاذ الغريب

وحيث لكل امرئ مهربُ

وألقت عصاها وقالت: (هنا

سأسعى لإدراك ما أرغبُ)

وقد أُعجبت بنظام الحجاب

ص: 37

وما فيه من حِكَمٍ تُعْجِبُ

فقالت: (حمدتك ربَ الورى،

لأن الوجوه هنا تحجبُ

ويَسدُلُ كل النساء النقابَ

إذا ما رقيب أتى يرقبُ

فلا يعلم الناس ما تحته

أظبيٌ من الغيد أم ثعلب

وهل وجهها مشرق في النقا

ب أم غيهب فوقه غيهبُ؟

وهل ساقها فوقها جوْرب

أم الجلد من طبعه جورب؟

وما لا تراه عيون الأنام

فأنفسهم نحوه تجذب.

وقد صدقتْ؛ فرآها فتىً،

واقبل من خلفها يدأب

رآها فأعجبه قدّها

وقد يسحر القدّ أو يخلب!

فقال لها: (يا حياتي: ارحمي

فتى صادق الحب، لا يكذب.)

فكان السلام وكان الكلام،

وكان القران وما يعقب

وراجت بضاعتها وانثنت

ومُجْدِبُها مُمْرِعٌ مخصبُ. . .

وكم سلعة كسدت سوقها

وفي أرض مصر لها طُلَّبُ!!

ص: 38

‌لقاء!!

للشاعر الشاب علي محمود طه المهندس

طال انتظارك في الظلام ولم تزل

عينايَ ترقب كل طيفٍ عابر

ويطير سمعي صوب كل مُرِنَّةٍ

في الأفق تخفق عن جناحي طائر

وترفُّ روحي فوق أنفاس الربا

فلعلها نَفَسُ الحبيب الزائر!

ويخفُّ سمعي إثر كل شعاعةٍ

في الليل تومض عن شهاب غائر

فلعلَّ من لمحات ثغرك بارق

ولعلها وضح الجبين الناضر!

ليلٌ من الأوهام طال سهاده

بين الجوى المضني وهجسِ الخاطر

حتى إذا هتفت بمقدمكَ المنى

وأصختُ أسترعي انتباهةَ حائر

وسرى النسيم من الخمائل والربا

نشوانَ يعبق من شذاك العاطر

وترنم الوادي بسلسل مائه

وتلت حمائمُه نشيد الصافر

وأطلَّت الأزهار من ورقاتها

حيْرى. . . تعجَّبُ للربيع الباكر

وجرى شعاع البدر حولك راقصاً

طرباً على المرج النضير الزاهر

وتجلَّت الدنيا كأبهج ما رأت

عينٌ وصورها خيال الشاعر

ومضتْ تكذبني الظنون فأنثني

متسمعاً دقات قلبي الثائر

وإذا بنا في الروض تملأ خاطري

سحراً وأملاً من جمالك ناظري!

متعانقين على الزهور ونحن في

شكٍ من الرؤيا وحلمٍ ساحر

غبنا عن الدنيا وغابت خلفها

صور لماضٍ لا يغيبُ وحاضر

حتى إذا حان الرحيل هتفت بي

فوقفت واستبقت خطاك نواظري

وصرختُ بالليل المودع باكياً

والدمع يشفع لي وأنت مغادري

يا ليتنا لم نصحوا منه وليتنا

ما أعجلته رحى الزمان الدائر!

ولقد أتت بعد الليالي وانقضت

وكأننا في الدهر لم نتزاور

بدلت من عطف لديك ورقة

بحنين مهجور وقسوة هاجر

وكأنني ما كنتُ إلفك في الصبا

يوماً ولم تك في الحياة مناصري

ونسيتَ أنتَ، وما نسيتُ وأنني

لأعيش بالذكرى، لعلك ذاكري!

ص: 40

‌في الأدب الشرقي

الأدب الفارسي والأدب العربي

للدكتور عبد الوهاب عزام. أستاذ بكلية الآداب

(2)

ولا ننسى بعد أن اللغة الفارسية بقيت لغة الدواوين المالية في إيران حتى زمان عبد الملك بن مروان.

ولا ريب أن اللغة الفارسية بقيت لغة التخاطب في إيران بين العامة على الأقل، ولا سيما في القرى والنواحي البعيدة، فأنا قد وجدناها منذ القرن الرابع ترتقي إلى أن تكون لغة الآداب؛ واللغة لا تموت جملة واحدة ولا تخلق جملة واحدة. على أن كثيراً من الدلائل يثبت إنها كانت لغة الكلام في هذه الفترة أي قبل عصرها الأدبي الحديث، وقد انتقلت منها كلمات كثيرة إلى البلاد العربية مع النازحبن من الفرس وتأثرت بها لهجات بعض العرب.

فرسل عبد الملك بن مروان إلى المختار بن أبي عبيدحينما جاءوا معسكر ابن الأشتر ، ،، لم يسمعوا كلمة عربية، وعبد الله بن زياد وهو أمير عربي كانت فيه لكنة فارسية (أخذها من زوج أمه) (والفرس الذين عرفوا العربية لم يخلصوا من لغتهم ولهجتها) وقد روى الجاحظأن الحجاج قال لنخاس فارسي: أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ فقال: (شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مدائنها وكما تجيء تكون) قال الحجاج ويحك ما تقول؟ فقال بعض من كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك: يقول شركاؤنا بالأهواز والمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب فنحن نبيعها على وجوهها. وأبو مسلم الخراساني على فصاحتهالتي جعلت رؤبةابن الحجاج يقول: ما رأيت أعجمياً أفصح منه (كان لا يستطيع النطق بالقاف) وقد رؤى المؤرخون أن إبراهيم الإمامحينما أوصى أبا مسلم قال له: وان استطعت ألا تبقي في خراسان لساناً عربياً فافعل. مما يدلنا على أن لغة الجمهور كانت فارسية. ونجد الشاعر العماني يتملح بذكر الألفاظ الفارسية في مدائح الرشيد

ويحدثنا الجاحظ أن لغة أهل البصرة بل لغة أهل المدينة كان بها كثير من الكلمات الفارسية في أيامه، يدلنا على بقاء الفارسية وتأثيرها البعيد، ويحدثنا أيضاً أنه سأل خادماً له إلى من

ص: 42

أرسل هذا الغلام؟ فقال إلى أصحاب السند نعال: يعني النعال السندية.

وأمثال هذا في كتب الأدب كثيرة. ولأمر ما ثار النزاع منذ أيام أبي حنيفة على قراءة القرآن بالفارسية. ثم بابك الخرميكما يؤخذ من الفهرست كان لسانه متعقداً بالأعجمية، و (به آفريد) الفارسي المتنبي على عهد أبي مسلم لما أراد أن يضع لأتباعه كتاباً وضعه بالفارسية. وأنتم تعلمون ما دخل العربية من الفارسية لا سيما في أسماء الطعوم والأثاث. هذه جملة تثبت أن اللغة الفارسية لم تمت في هذه الفترةإن كان هذا في حاجة إلى الإثبات.

وأما الفرس أنفسهم فقد خلطهم الفتح والإسلام بالعرب، أي خلط، فالقبائل العربية انتشرت في الأرجاء الفارسية، والفرس انتقلوا إلى البلاد العربية أسارى أو مهاجرين طلباً للرزق أو العلم أو المناصب. فالمدينة على نأيها كان بها فرس، وهم قتلوا هنالك عمر وسعيد بن عثمان بن عفان.

وسرعان ما تعلم الغرس العربية وشاركوا في العلوم الإسلامية. ولكن كان للفرس قبل قيام الدولة العباسية حال تختلف عن حالهم بعدها كل الاختلاف.

كانت دولة الأمويين عربية وقليل من غير العرب من سموا فيها إلى الدرجات العليا، وكان العرب، لأنهم أصحاب الدين والدولة ولأنهم الذين أقاموا الملكونشروا الدين، يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف على ما كان فيهم من الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم منذ أيام الجاهلية. فسخط الفرس من أجل ذلك عليهم، ولكن الفرس لم يكونوا قد أفاقوا من دهشة الفتح الإسلامي ولم يكونوا قد تمكنوا في الإسلام واللغة وامتزجوا بالعربامتزاجاً يمكنهم من منافسة العرب، وما كان العرب قد ضعفوا وتغيروا وتفرقوا في الأقطار. بقي الفرس ساخطين فاستعان بهم الثائرون على الأمويين، فكانوا عوناً للمختار بن أبي عبيد ولعبد الرحمن بن الأشعث، فكان جيش المختار من الموالي إلا قليلاً وقد عتب العرب عليه إذ استعان بالعتقاء من الموالي ثم أعطاهم حظهم في الغنائم. ولما قال رسل عبد الملك لأبن الأشتر: أجأت تقاتل جيوش الشام بهؤلاء؟ أجاب ما هؤلاء إلا أبناء أساورة الفرس.

وإذا نظرنا إلى أن جيش المختار كان أول من ثأر للحسين بن علي وقتل من قتله عرفنا أحد الأسباب التي جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد، فقد كان للعلويين والفرس سواء في كراهة الأمويين فتحابوا. جاءت الدعوة العباسية وقد تهيأت الأسباب ليأخذ الفرس

ص: 43

مكانهم في الأمة الإسلامية فكانوا أخلص دعاة هذه الدولة وإليهم يرجع الفضل في إقامتها، وقد رأى نصر بن سيار في هذه الدعوة خطراً على العرب والإسلام فقال فيما قال:

تعزي عن رحالك ثم قولي

على الإسلام والعرب السلام

كانت الدعوة العباسية خليطاً من الدين والعصبية الفارسية فأبو مسلم كان فارسياُ ومسلماً غيوراً مخلصاً، وقد أسلم من أجله كثير من دهاقين الفرس وهو الذي قتل المتنبي الفارسي سر (به آفريد) حين إنتهز فرصة الدعوة فقام يحيي الزردشتية؛ وكان أبو مسلم قد دعاه من قبل فأسلم وسود. هذا المزج يتمثل حتى في تسمية أهل خراسان الرماح التي خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافركوب (أي مضارب الكفار) فهو أسم مركب من كلمة عربية متصلة بالدين ومن كلمة فارسية. وما يتفكه به هنا قول بعض الشعراء:

وولهني وقع الأسنة والقنا

وكافر كوبات لها عجر قفد

بأيدي رجال ما كلامي كلامهم

يسمونني مرداً وما أنا والمرد؟

ومهما يكن فلا أخال البيروني قد أخطأ حين سمى الدولة العباسية (دولة خراسانية شرقية).

كان للدعوة العباسية وما عقبها من قيام الدولة نتائج كثيرة، وإنما يعنينا منها ما يتعلق بالفرس، فقد انتعشت الآمال في نفوسهم ومكنت لهم في الدولة وخلطتهم بالعرب خلطاً تاماً وكان من مظاهر هذا الانتصار في بلاد الفرس ظهور دعوات جديدة وثورات:(به آفريد) أنتهز الفرصة لوضع دين قريب من الزردشتية. فأعجلهأبومسلم وقتله. وقد أعجب الفرس بأبي مسلم أيما اعجاب، فلما مات أنكر المسلمية موته وقالوا أنه اختفى وسيجئ مهدياً من بعد، ومنهم من قال انه نبي بعثه زردشت وإنه لم يمت كما لم يمت زردشت. وقد دعا إلى هذا داعية في بلاد الترك يعرف باسم إسحاق التركي ولكنه فارسي. وقام صديق من أصدقاء أبي مسلم أسمه سنباد يقول: أن أبا مسلم اختفى في صورة حمامة بيضاء، ثم يعلن أنه سيذهب لهدم الكعبة انتقاماً لصديقه، وقد جمع حوله زهاء مائة ألف ولكن ثورته لم تلبث طويلاً. وتلت ذلك ثورات يوسف البرم والمقنع الخراساني وعلي مزدك، وبابك الخرمي، وأكثرها مصحوب بذكرى أبي مسلم. ثم جاء القرامطة وفعلوا ما فعلوا وكان منهم ابن أبي زكرياالذي شرع لهم أن من أطفأ النار بيده قطعت يده، ومن أطفأها بفمه قطع لسانه وهذا من أثر الزردشتية. كل هذه مظاهر تحتاج إلى شرح واستقصاء ولها دلالتها

ص: 44

على بقايا العصبية الدينية والجنسية في نفوس الفرس. هذا في بلاد الفرس، وأما أثره في سياسة الدولة وفي حاضرة الإسلام بغداد فقد كان للفرس الرجحان على العرب عند الخلفاء منذ قيام الدولة، وقد بلغ الأمر غايته حين تنازع الأمين والمأمون فكان المأمون في مرو من أقصى خراسان أشبه بخليفة فارسي وقد أعانه الفرس على حرب أخيه الذي كان يعتز بالعرب. وروي أن أول شعر فارسي نظم في مدح المأمون كان إذ ذاك. فلما غلب المأمون تمت الغلبة للفرس، ثم استمروا مسيطرين على الخلفاء حتى أديل منهم لأتراك المعتصم؛ حتى إذا قامت الدولة الفارسية ملك بنو بويه بغداد إلى أن كان طور السلطان التركي فأديل منهم للسلاجقة.

ساس الفرس الدولة على قواعد الساسانيين، وقلد الخلفاء وغيرهم الفرس في ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم؛ أم ر الخليفة المنصور أن تلبس القلنسوة الفارسية، وأتخذ هو ومن بعده الحلل المذهبة على الأساليب الفارسية، وقد أبقى الزمن من نقود الخليفة المتوكل ما يظهر هذا الخليفة في مظهر فارسي كامل. ومن الكلمات الجامعة في هذا ما قاله المتوكل حين أراد إصلاح السنة المالية ورد النيروز إلى مكانه من العام فأحضر الموبذ ليستعين به، فقال الخليفة. قد كثر الخوض في ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس. وسأله رأيه في الإصلاح.

ص: 45

‌الخلاص.

للشاعر الهندي رابندرانات طاغور

من كتاب ظهر حديثاً بعنوان (الزورق الذهبي).

ترجمة الأستاذ عبد المسيح وزير

(الأستاذ عبد المسيح وزير أحد كتاب العراق القليلين الذين يتتبعون تطور الثقافة الحديثة بشغف ولذة. وهو المترجم الفني لوزارة الدفاع العراقية، وصاحب الأثر الحميد في مصطلحاتها العسكرية ومغذي أكثر الصحف بالأبحاث العلمية والأدبية.)

تجلس العاشقة المنكوبة في حبيبها إلى حديقة أزهار تفتحت عن رائع زهوها. فتجبل لمعشوقها الراحل تمثالاً من طين يبرز رويداً رويداً في شبه الصورة المحفوظة في ذاكرتها.

تتفرس في التمثال ثم تحدق إلى الماضي فيجول الدمع في عينيها.

وفي كل يوم ينزل ظل متكاثف يكتنف الصورة المنقوشة في لوح قلبها. فالرسم الذي كانت تراه بالأمس بارزاً جلياً تلفيه اليوم متضائلاً مموهاً. وكما تطبق الزنبقة وريقاتها ليلاً تسدل العاشقة الستار على ذكرى غرامها.

تثور سورة غضبها على نفسها. ويأخذ الخجل مأخذه كله منها. فتعمد إلى التقشف. فتعيش على الثمار والماء، وتنام على أديم الأرض.

وكلما دنا التمثال من الكمال بعد عن شبه الصورة المكنونة في ذاكرتها. ويخيل إلى العاشقة أن ذلك التمثال لا يشبه صورة إنسان على الأرض، ولكنها تخدع نفسها فتحسبه شبه الحبيب الذي فقدته إلى الأبد.

تعبد التمثال مع عبادتها الزنابق. وتوقد حوله سرجاً مصوغة من ذهب. فيعبق المكان بالرائحة المنبعثة من زيت السرج. وتتراكم الأزهار والشموع يوماً فيوماً حول التمثال إلى أن يختفي. يتقدم إليها طفل ويقول: (نريد أن نلعب هاهنا).

- (أين؟)

- (بجانب دميتك)

ص: 46

فتجيبه قائلة: (لن أسمح لقدم بالدنو من هذا المكان)

ويقول طفل آخر: (نريد أن نقطف بعض أزهارك)

- (أي أزهار تريدون قطفها؟)

- تلك الزنابق القريبة من الدمية الكبيرة

فتقول له: (لن أسمح ليد بمس تلك الأزهار)

ويطلب إليها طفل آخر قائلاً: (أخرجي ذلك السراج وأنيري سبيلنا). فترفض طلب الولد بقولها: (لن ينقل ذلك السراج من مكانه)

يتوافد الأطفال عليها أفواجاً أفواجاً. فتنصت إلى هذرمتهم، وتشهد تواثبهم في مرحهم وجذلهم. فتستغرق في التأمل هنيهة.

ثم تنتبه من غفلتها مذعورة فتتورد وجنتاها خجلاً.

بعد ذلك يفتتح معرضاً في المدينة المجاورة فيزورها شيخ طاعن في السن ويسألها قائلاً: (ألا ترافقيني ايتها الحبيبة إلى المعرض؟)

(أني لا أستطيع ذلك)

وتهرع إليها فتاة تناديها قائلة: (هلمي بنا إلى المعرض!)

(لا أتمكن من مرافقتك، لأنني لا أستطيع الاستغناء عن لحظة أقضيها في سبيل ذلك)

ويمسك طفل بهدب ثوبها متوسلاً إليها بقوله: (خذيني معك إلى ذاك المعرض العظيم).

ولكنها لا تستطيع الانقطاع عن تأمل منية قلبها طرفة عين.

وفي جنون الليل تسمع صوتاً كهدير الرعد. لأن مئات الزوار وألوفهم يجوزون القرية في طريقهم إلى المعرض.

وعندما تفيق من نومها يسكت وقع أقدام الزوار تغريد الطيور. فتشعر برغبة في الذهاب إلى المعرض، ولكنها تتذكر آنذاك أنها لا تستطيع ذلك، إذ ليس في وسعها أن تهمل عبادة إلهها (صنم عشيقها الراحل) يوماً واحداً.

وفي الصباح تبكر مسرعة إلى الحديقة.

فأين الصنم، يا ترى؟

يمر الزوار زرافات بالقرية وقد عفا أثر الحديقة واختفى الصنم، أما سيل الرجال الجارف

ص: 47

فلا يقف لحظة عن جريانه، تناجي نفسها في لهف قائلة:(أين حبيبي؟).

فيهمس في أذنها هامس قائلاً: (هو بين عابري السبيل هناك!).

وفي اللحظة ذاتها يتقدم اليها طفل ويقول لها: (خذيني معك)

(إلى أين؟)

(ألست ذاهبة إلى المعرض)

(بلى. أني لذاهبة)

فتجوز حديقة الأزهار وتنضم إلى قافلة الزوار، لانها وجدت فقيدها المنشود بين الأحياء.

ص: 48

‌في الأدب الغربي

القرية المهجورة

للشاعر أوليفر جولد سمث

(أوبرن) يا جنة في سفح وادينا

يا نفحة السحر من فردوس ماضينا

حيث السعادة للحصاد: عافية

تشد منه، وخيرات أفانينا

وحيث تبدو بواكير الربيع بها

غيسا قبل أن تغشى البساتينا

وحيث يخلف فيك الصيف بهجته

زهراً يرف، وأطياراً تغنينا

معاهد كنت أغشى في عرائشها

ثرى بُلَهنيَة قد طاب أردانا

مقاعد من شباب كله مرح

سقيت فيها الهوى والسحر خلصانا

جررت ذيل شبابي في خمائلها

تيها، ومليت فيها اللهو ألونا

حيث السعادة فيها وادعة

تعز من كل شيء فوقها هانا

لكم وقفت لأستملي مناظرها

وأملأ العين سحراً جد مختلس

أشاهد الكوخ في أظلال أيكته

والجدول العذب يجري غير محتبس

وألمح البيعة الزهراء مشرفة

من سفح رابية في دجنة الغلس

أصغي الو الليل والطاحون

صاخبة والطير تشدو بصوت ناعم الجرس

هناك في دغل هذا الدوح كم أنست

فيه الطفولة مغنى من مغانينا

كانت مطاف الهوى في طيب عزلتها

حينا. . وكانت مطافاً للأسى حينا

كم حمل النسم من أطرافها عبقا

تساجل الشيب أو همس المحبينا

وكم حمدنا ليوم اللهو مقدمه

فيها لنحيي بها أصفى ليالينا

يوم ترفه عنها النفس ما لقيت

من المتاعب في رفق وإبطاء

ويجمع الحاصدون الغر شملهم

في ظل فينانة الأغصان فرعاء

تحويهم حلقات من شبابهم

فيرقصون على المزمار والناء

يناجزون من الألعاب أروعها

والشيب يلحظهم إغراء

وإن يمل من الألعاب صحبتهم

أستأنفوا طارفاً في اللهو وأنغمروا

كل ينافس في الصبر وفي جلد

رفيقه - ليقال الغالب الظفر

ص: 49

وكي تداول الآفاق سيرته

وينشر الحي ما أبدى فيشتهر

قد استخف بما يلقاه من تعب

والترب يعلو جبينا منه والعفر

بيننا ترى سامرا في القوم مغتبطا

يروي النكات لهم والكل مبتهج

يتلوا عليهم طريفاً من نوادره

حلواً يكاد مع الأرواح يمتزج

ورب ساجية الأجفان فاتنة

ظلت ترانيه منها أعين دعج

وتفهم الأم ما ترمي فتحدجها

حدج الملأمة في صمت فتنزعج

آها لعهدك (يا أوبرن) أذكره

وكيف تنفع ذكرى تنبعث الأسفا

هذي المفاتن كانت في ترادفها

توحي إلى قلب أهليك الهوى الشغفا

على خمائلها فاضت مراتعها

سحراً - ورفت على أدغالها طرفا

مفاتن أذوت الأيام بهجتها

وصيرتها الليالي للبلى هدفا

(أوبرن) أين تولت من مغانيك

هذه الملاهي وفرت من روابيك؟

لقد تمشت يد العاتي عليك فلم

ترحم قلوب الحزانى من أهاليك

وقد علاك شحوب من تعسُّفها

ووحشة قد تمشت في مراعيك

بأي حكم زمان صار يحكمها

فرد - وكانت تراثاً في أواليك

كانوا جميعا (فأمسى جمعهم بدداً

والربع أقوى) وكان الربع مأنوساً

والسهل لم يبق فيهبعد نضرته

إلا بقية زرع كان مغروسا

والجدول العذب لم نبصر تألقه

كما عهدنا - وفيه اليومُ معكوساً

لكن سرى وهو بالأعشاب مختنق

يشق مجراهبين الغاب محبوسا

وفي مفارجك الخضراء حل بها

ضيف غريب من الأدغال قد هتفا

هذا هو (الرخم) يبني وكره ويرى

مستمكنا في ذرى الأغصان مشترفا

وفي طلولك تدوي البوم ناعبة

تنعى بصوت كئيب ماضيا سلفا

آها لعهدك يا أوبرن أذكره

وكيف تنفع ذكرى تبعث الأسفا

هذي خمائلك الخضراء ذاوية

حلت مباهجها. دالت دواليها

تواثبت فوقها الأعشاب هائشة

والمحل أصبح ضيفا راعيا فيها

واليوم أهلك في خوف وفي وجل

من بطش منفرد الأحكام طاغيها

ص: 50

قد بدلوا عيش أرض غير أرضهم

وبدلوا ود أهل غير أهليها

م. ع. الهمشري

ص: 51

‌نفسية قطة

للكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه

نقلها عن الإنجليزي الأستاذ أحمد أمين

قطتي بيضاء الصدر، قرنفلية الأنف. زرقاء العين، تعيش معي على خير ما يكون الصديق لصديقه. إن نمت نامت تحت قدمي. وأن جلست على كرسي أكتب جلست هي علي متكئة تحلم، وإذا مشيت في الحديقة تتبعني وإذا أكلت زاحمتني، فحالت (أحياناً) بيني وبين لقمتي. أستودعني ذات يوم صديق لي ببغاء أخضر ريثما يعود من سفره. فأستوحش من منزلي، وشعر أنه غريب، فتسلق القفص حتى أعلاه، ثم جثم ساكتاً مرتعداً.

وكانت قطتي لم تر ببغاء قط، فكان مخلوقاً جديداً أمام عينيها، أدهشها منظره فكانت أشبه بقطة محنطة من آثار الفراعنة، وأستغرقت في التأمل كأنها تستعيد في ذاكرتها كل ما درسته من التاريخ الطبيعي على سطح الدار وفي حديقة المنزل؛ وكان ما يدور بفكرها يتجلى في نظراتها حتى لأستطيع أن أتبين من عينيها خلاصة أفكارها كما لو كانت تعبر بقول بليغ ومنطق فصيح. كانت كأنها تقول:(ليس هذا المخلوق دجاجة خضراء) ولما بلغت من درسها هذه النتيجة تركت المائدة حيث كانت ترصد الببغاء وربضت في ركن من أركان الحجرة مبسوطة الذراعين مطرقة الرأس ممطوطة الظهر، كأنها نمر يتربص غزالا ورد الغدير.

كان الببغاء يتتبع حركاتها في اضطراب، وقد نفش ريشه ورفع ساقه المرتعشةوسن منقاره على إنائه الذي يأكل فيه، وهدته غريزته إلى أن هناك عدواً يدبر الكيد له.

ثم أخذت القطة تسدد إلى الببغاء نظرات حادة وهو ينظر إليها فاهما حق الفهم ما يجول بخاطرها. فكأنها كانت تقول (لا بد أن تكون هذه الدجاجة لذيذة الطعم على الرغم من أنها خضراء).

وكنت أرقب هذا المنظر باهتمام موطناً نفسي أن أتدخل عند الحاجة.

ثم دنت القطة من الببغاء وأنفها القرنفلي يرتعد، وعيناها تضيقان، وأظافرها تنقبض وتنبسط، وعمودها الفقري يرتفع وينخفض، وأخذت تمني نفسها قرب الحصول على طعم لذيذ، كما يمني الشره نفسه إذا دعي إلى مائدة صفت عليها ألوان الطعام الشهي.

ص: 52

ثم انحنى ظهرها فجأة كما تحنى القوس في يد الرامي، ووثبت وثبة فإذا هي بجانب القفص. فأيقن الببغاء بما هو فيه من خطر وقال بصوت خافت رزين:(هل أفطرت يا جيمس؟) وهي كلمة تعوّد الببغاء أن يقولها كما علمه سيده. فأخذ القطة من الرعب مالا يوصف؛ فلو أن طبولاً دقت وصحافا كسرت، وطلقات نارية دوت، ما روعت القطة كما روعت من هذه الكلمة! إرتدت إذ ذاك إلى الوراء وعلى وجهها أنها غيرت كل آرائها في هذا الطائر، وكان يخيل إلى من ينظر إليها أنها تقول:(ما هذا طائراً. إن هذا إلا إنسان صغير).

هب الببغاء يغني بصوت عال، لأنه تحقق أن كلامه خير وسيلة يدفع بها عن نفسه.

نظرت القطة ألي نظرة أستفهام فلم يقنعها جوابي. فخبأت نفسها في فراشي ولم تتحرك طيلة يومها.

وفي اليوم التالي عاودتها شجاعتها فعاودت الكرة على الببغاء ولكنها لاقت في يومها ما لاقت في أمسها، فاعترفت بهزيمتهاوقررت أن تعامل هذا الطائر باحترام كما تعامل الإنسان.

ص: 53

‌بيت الراعي

للشاعر الفرنسي دفني

(3)

1.

أيفا. من أنت؟ وهل لك من علم بطبيعتك؟ أتعلمين. لم خلقت وما هو واجبك في الحياة؟ أتعلمين أن الله لكي يعاقب الرجل (مخلوقه) على خطيئته الأولى إذ امتدت يده إلى شجرة المعرفة شاء أن يكون حبه لنفسه في كل زمان وفي كل أدوار حياته غرضه الأول. مهموم بحب نفسه مهموم بأن يرى نفسه.

2) ولكن إذا كانت إرادة الله شاءت أن تسكني إلى جانبه أيتها المرأة. أيتها الرفيقة الرقيقة. أيفا. أتعلمين السر في ذلك؟ إنما هو لكي يرى نفسه في مرآة نفس أخرى. إنما هو لكي يسمع تلك الأغنية التي لا يمكن أن تصدر إلا عنك. ذلك الفيض الإلهي الذي يتردد في هذا الصوت العذب. إنما هو لكي تقضي في أمره وأن كنت له أمة. لكي تحكمي في حياته وإن أخضعك لقوانبنه.

3.

في أقوالك المرحة جبروت المستبد. في عينيك سطوة القوة، وفي مرآك أمارة السلطان، حتى لقد شبه ملوك الشرق في أغانيهم نظراتك في هول وقعها بنزول الموت. كل يحاول جهده أن يثني من أحكامك المتسرعة. على أن قلبك الذي يكذب جسارة مظاهرك سريع ما يخضع لضربات القدر من غير مقاومة ولا دفاع

4.

لعقلك وثبات كوثبات الغزال، إلا أنه لا يستطيع السير من غير مرشد ولا معين. الأرض تدمي قدميه، والهواء يضني جناحيه، وعينه يعشو بصرها عن ضوء النهار إذا سطع لألاؤه. وإذا اتفق أن سمت به الفكرة في دفعة من دفعات حماستها إلى مستقر علوي اضطربت بها الرياح وعجزت عن أن تمسك نفسها من غير خوف ولا ضجر.

5.

ومع ذلك فليس فيك مافينا من خصائص الجبن إذ تتردد صيحات المظلوم في قلبك، ويدق بها نبضه كالأرغن في سكون الكنيسة المطبق، يتأوه متألماً كأنه يرجع صوت ألم تلقاه. للهيب ألفاظك تتحرك الجماهير وبدموعك تمحي آثار كل إهانةونكران للجميل. بيمينك تهزين الرجل فينهض وسلاحه بيده.

6.

إليك يجمل أن تنتهي كبريات الشكوى التي تأن منها البشرية الحزينة. عندما يتضخم

ص: 54

القلب بالموجدة نرى هواء المدن يكاد يخنقهكلما دق، ومع ذلك تسمو تنهداته إلى ما فوق الدخان الأسود لتنعقد كلمة واحدة نسمعها بوضوح.

7.

تعالي إذن. ما السماء عندي إلا إطار تخيط بك زرقته. ويغمرك ضوؤه ويحميك جداره، ما الجبل إلا معبدك والغابة قبابه. العصفور فوق الزهرة لا ترنحه الرياح والزهرة لا ينبعث أريجها والطائر لا يجري أنينه إلا ليصفوا الهواء الذي تستنشقين. ما الأرض إلا بساط لقدميك الجميلتين كأقدام الطفل.

8.

أيفا: سأحب كل مخلوق، وسأتأمل في نظراتك الحالمة التي ستنشر في كل ناحية أضواءها المتعددة الألوان فتنشر معها لذتها السحرية وسكونها الضاحك. تعالي ضعي يدك الطاهرة على قلبي الممزق. لا تتركيني وحيداً مع الطبيعة لأنني أعرفها حق المعرفة لكي لا أخشاها.

9.

أراها تخاطبني قائلة: ما أنا إلا ذلك الملعب الذي لا تحركه أقدام اللاعبين. درجاتي الزمردية وساحاتي المرمرية وأعمدتي الرخامية صاغتها يد الله. هيهات أن أستمع إلى صيحاتكم أو إلى تنهداتكم بل ما أكاد أحس بالمهزلة الإنسانية التي تمر فوق ظهري باحثة لها عبثاً عن متفرجين بُكْمٍ في السماء.

10.

فأنا أطوي البشر بجانب من غير أن أسمعهم أو أبصرهم كما لا أميز بين أجحار النمل ومسحوق رفات الإنسان. لا علم لي بأسماء الأمم التي أقلها. يسمونني أمهم وما أنا إلا قبرهم. شتائي يلتهم أموتهم قربانا له، وربيعي لا يستمع لصلوات غرامهم.

11.

لقد كنت قبل أن توجدوا دائماً معطرة وجميلة يوم كنت أترك للرياح شعوري المنحلة، وأسلك في السماء طريقي المعتاد فوق قب الميزان ذي الكفات الإلهية. فلما وجدتم ذهبت وحيدة في صمت رهيب أعبر الفضاء الذي تتقاذف فيه الكائنات، وأشق الهواء بجبهتي وثديي الناهدين.

12.

هكذا تخاطبني الطبيعة في صوت حزين متعال، وأنا أبغضها في نفسي وأرى دمنا في أمواج مياهها، وجثث موتانا تحت حشائشها تغذي بعصيرها جذور غاباتها. وأقول لعيني اللتين قد ترياني فيها جمالا (حولا نظراتكما إلى غيرها) وأسكبا دمعاتكما على سواها. ليكن حبكما لما سوف لا تريانه مرتين.

ص: 55

13.

آه! تُرى من سوف يشاهد جمالك ورقتك مرتين أيها الملك الشاكي الذي يتكلم بتنهداته؟ ترى من سوف يولد مثلك حاملا قبلة كما تحملين فيما ترسله عيناك من بارقات النظر في ترنحات رأسك المنكس. في هذا القد المضني الساكن في دعة إلى فراشه، ثم في تلك الابتسامة النقية النقية التي تفيض بالحب والألم.

14.

عيشي أيتها الطبيعة، وعيشي إلى الأبد فوق أقدامنا وفوق جباهنا مادامت تلك سنتك؛ عيشي وأحتقري (إن كنت ربة حقاً) الإنسان، ذلك العابر سبيل الذي كان من المقدر أن يقوم عليك ملكاً، فإنني أحب جلال الألم البشري فوق ما أحب ملكك ومظاهره الكاذبة. هيهات أن تنالي مني صيحة حب!

15.

ولكن أنت أيتها السائحة المتهاونة! أما تريدين أن تضعي رأسك فوق كتفي وتستسلمي لأحلامك؟ تعالي نشاهد ونحن على مدخل منزلنا المتحرك من مرَّ ومن سيمر من البشر. لسوف تدب الحياة فيما يحمله إلى الشعر من صور الإنسانية عندما تمتد أما منزلنا آفاق الأرض الصامتة إلى غاياتها البعيدة.

16.

وهكذا نسير غير تاركين وراءنا فوق تلك الأرض العاقة التي مر عليها أمواتنا من قبل إلا شبحنا. سنتجاذب الحديث عنهم عندما تظلم الآفاق، ويحلو لك أن تسلكي سبيلا ممحوا لتستغرقي في أحلامك مستندة إلى الأغصان الضئيلة باكية حبك العابس المهدد كما بكت (ديانا) على شواطئ تبعها.

محمد عبد الحميد مندور. عضو بعثة كلية الآداب بباريس

ص: 56

‌القصص

على هامش السيرة

الفداء

للدكتور طه حسين

أصبحت سمراء محزونة كاسفة البال تبدو على وجهها المتجعد وجبينها المقطب كآبة مظلمة، لم تحاول في هذا اليوم أن تخفيها أو تخفف من حدتها كما تعودت أن تفعل منذ أعوام وأعوام، فقد عرفت سمراء ألم الحزن منذ احتفرت زمزم، ومنذ ظهر حرص زوجها على الولد، ورغبته في كثرة العدد، ومنذ خطب فاطمة المخزومية فأحبها وكلف بها، وانصرف إليها عن كل شيء وعن كل إنسان. ومنذ كثر ولد فاطمة من البنين والبنات واشتد لذلك حبعبد المطلب لها وكلفه بها، وانصرافه إليها، وتجافيه عن زوجه الأولى تلك التي أضاءت له سبيل الشباب وأعانته على احتمالأثقال الحياة الأولى.

نعم عرفت سمراء ألم الحزن في هذه الأعوام الطوال من حياتها، ولكنها كانت على بداوتها امرأة لبقة بارعة الجمال، زكية القلب، تعرف كيف تخفي عن زوجها ما يكره، وكيف تلقاه بما يحب.

وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء إلى أنتستميل إليها زوجها. وربما إضطرته إلى أن ينقطع إليها وقتاً ما وينسى زوجه الأخرى إلى حين، ولكن يوما أقبل يحمل إلى سمراء شراً ليس فوقه شر وألماً ليس بعده ألم، أصبح هذا اليوم مظلماً، فما أمسى حتى أظلمت له حياة سمراء كلها، ذلك أنه مضى بموت إبنها الوحيد، فأذاقها مرارة الثكل واليتم والترمل جميعاً. فقد كان الحارث لها إبناً تجد عنده قرة العين، وأباً تحس منه العطف وحنو الآباء، وكان هو يجد ألمها، ويعرف أسراره ويجد في الطب لهذا الألم، فكان يبالغ في رعاية أمه وحمايتها، وكان شديد الحرص على أن يلقاها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعلى أن يطيل المكث معها والتحدث إليها، يشركها في جد أمره ولعبه، يستشيرها ويظهر قبول مشورتها والاستماع لنصحها. فكان يقوم منها في أكثر الأحيان مقام أبيه، وكان يعزيها بحبه وبره عما كانت تجد من الوحشة حين يصد عنها زوجها فيطيل الصدود. فلما مات الحارث مات

ص: 57

معه أمل سمراء، ولم تلق الحياة إلا بوجه محزون كئيب يصور قلباً مكلوماً مظلماً. وقد جزعت سمراء لهذا الخطب وأشتد جزعها، وطال، ولكن أي شيء يبقي على الأيام! ولقد ذهبت الأيام الطوال بحدة هذا الجزع وشدته، كما ذهبت بنضرة شباب سمراء وكما ذهبت بحياة إبنها الحارث، وكما ذهبت بحب زوجها عبد المطلب، وأصبحت وقد تقدمت بها السن وأمتحنتها حوادث الدهر امرأة مذعنة لحكم القضاء، لا تنكر شيئاً ولا يسرها شيء محزونة ولكن في دعة! ملتاعة ولكن في هدوء!

وقد أحست إنكار الناس من حولها لما يرون من حزنها وكآبتها. وما يجدون من انقباضها عنهم. فجدت ما استطاعت في إخفاء ما تجد وكتمان ما تحس، وأحتفظت لنفسها بهذا الكنز الحزين، كنز الذكرى وما تثيره من العواطف وما تهيجه من اليأس. وتركت للناس من نفسها شخصاً عادياً يبتسم حين يبتسمون، ويرضى حين يرضون ويشاركهم في أكثر ما يجدون من عاطفة أو شعور.

على إنها كانت تجد شيئاُ من الرضى وراحة النفس حين تجد من زوجها عطفاً عليها أو أنساً إليها. وكان زوجها منذ أصابها هذا الخطب شديد الرفق بها، كثير الزيارة لها يصفيها مودة خالصة قوية، ولكنها خالية أو كالخالية من هذا الحب الذي يحيي قلوب النساء.

أصبحت سمراء في هذا اليوم محزونة ظاهرة الحزن، كئيبة بادية الكآبة. أقبل عليا إماؤها الثلاث يحيينها تحية الصباح فردت عليهن تحيتهن رداً فاتراً، ثم جلست وجلسن وأخذت مغزلها وأخذن مغازلهن، وعملت أيديهن في الغزل وسكتت ألسنتهن عن الكلام. وكانت سمراء تدع مغزلها من حين إلى حين وتظل ساكتة واجمة، وربما إنحدرت من إحدى عينيها دمعة حارة فأسرعت إليها تزيلها بيدها دون أن تقول شيئاً. والأماء صامتات ينظرن في حزن عميق إلى مولاتهن الحزينة، ولا تستطيع واحدة منهن أن تبدأها بالكلام. فلما طال عليهن هذا الصمت وهذا الحزن وثقل عليهن ما كان يجدن من ألم وما كان يملأ قلوبهن من حب للاستطلاع ورغبة في الكلام وميل إلى تعزية مولاتهن. اجترأت (ناصعة) وكانت أشجعهن قلباً وأطولهن لساناً. لأنها كانت تعرف مكانتها عند سمراء، فقالت: لقد أصبحت يا سيدتي على حال ما رأيناك عليها منذ زمن بعيد، فقد كنا نراك محزونة كئيبة ولكنك كنت تجاهدين الحزن وتدافعين الكآبة وتتكلفين الرضى، وكنا نجد من ذلك ما يشجعنا على

ص: 58

تسليتك وتلهيتك بالحديث حيناً وبالغناء حيناً آخر؛ تقص عليك كل واحدة منا ما حفظت من أخبار بلادها، وتغنيك كل واحدة منابما تعلمت من الغناء في رطانتها الأعجمية. وكذلك كنت تسمعينأقاصيص سورية وأخرى حبشية وأخرى يونانية. وكنت تسمعين أغاني في لغات أجنبية قليلاً ما تعجبك ولكنها كانت ترسم على ثغرك الابتسام في اكثر الأحيان، أما اليوم فلم نر منك الا حزناً قاتماً، ولم نسمع صوتك العذب، ولم يرعنا الا هذه الدموع التي تسفحينها في صمت أليم. تكلمي يا مولاتي! بيني ماذا تجدين؟ ماذا أحزنك اليوم؟ تكلمي واحسني ظنك بنا، فقد نستطيع أن نعينك على الحزن كما كنا نستطيع أن نبعث في قلبك السرور. نحن إماء ولكننا نساء نجد الحزن كما تجدينه، ونحس اللوعة كما تحسينها. ولعل حبنا للبكاء أشد من حبنا للضحك، ولعل حرصنا على الحزن أشد من رغبتنا في السرور. ولعلنا إن شاركناك في الحزن والألم جارينا طبائعنا، وأرسلنا نفوسنا على سجاياها. فليس في حياتنا وإن كنت لنا مكرمة ما يسر أو يرضي، وأي شيء يسر أو يرضي في حياة الأمة الغربية التي لا تملك نفسها، ولا تحس إلا ذل الرق ولا تستطيع أن ترضى حقاً أو أن تسخط حقاً إلا إذا خلت إلى نفسها، وأنى لها أن تخلو إلى نفسها! تكلمي يا سيدتي ماذا يسوءك وماذا يغشى وجهك بهذا الغشاء الحزين؟ قالت ناصعة ذلك وانتظرت أن تجيبها سمراءولكنها لم تظفر بجواب، وإنما رأت دموعاً تنحدر ثم تنهمر ثم تستحيل إلى زفرات حارة ونحيب غير منقطع، هنالك محا الحزن ما بين السيدة الحرة وإمائها من فروق، فأسرعن إليها يهدئنها ويرفقن بها. هذه تقبلها، وهذه تمسح دمعها، وهذه تمر يدها على رأسها، وهن جميعاً يبكين لهاويبكين لأنفسهن. وقد هدأت سمراء بعض الشيء، وسكنت نفسها الثائرة إلى هؤلاء الإماء الرفيقات فابتسمت لهن في حزن، وشكرت لهن ما أظهرن لها من مودة وعطف، وطلبت إليهن العودة إلى ما كن فيه من عمل، وأخذت هي مغزلها وجعلت تديره في يدها ولكن ناصعة لم تلبث أن عادت إلى الكلام فقالت وهي تتكلف الابتسام وتتصنع الضحك: ليس يغني عنك الصمت يا مولاتي فأنا نعلم ما تسرين كما نعلم ما تعلنين، ولولا خوفنا منك وإكبارنا إياك لقصصنا عليك القصة التي تحزنك وتجري دموعك الحرة على خدك النقي. ولكن أنى لنا أن نبلغ منك هذه المكانة وإنما أنت سيدة ونحن إماء! قالت سمراء كفي عن هذا الحديث يا ناصعة فقد أنسيت اليوم أن بيني وبينكن

ص: 59

فرق ما بين السيدة وإمائها، ولست أرى منكن الآن إلا نساء تعسات مثلي. إنما نحن أخوات في الشقاء والبؤس، وما ينفعني أنني حرة وأنا مثلكن مقيمة على الضيم محتملة للذل، مذعنة لصروف القضاء! لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ولا أستطيع أن أبرح هذه الدار! وإلى أين أبرحها! لقد ذهبت غارة بني أسد بأبي وأخي، وأصبحت أمي وأخواتي مثلكن إماء مثلكن، لا أعرف من أمرهن شيئاً ولمينهض فتيان بني عامر للثأر! ليت شعري ماذا يصنع أبو براء بأسنته! ماله لا يلاعبها لقد ذهب الموت بابني وأصبحت أسيرة في يد عبد المطلب، أسيرة لا كالأسرى: يجفوني ولا أستطيع له بغضاً ولا قلى كما يفعل الأسرى. وإنما أحبه ولا أجد عن داره منصرفاً، هاهو ذا قد عاد من رحلته إلى اليمن منذ ثلاث، فلما بلغ مكة أسرع إلى هالة بنت وهيب فقضى عندها أولى لياليه وأول أيامه لأنها أحدث زوجاته به عهداً. ثم أصبح فانتقل إلى نتيلة فأقام عندها يوماً وليلة. ثم أصبح فانتقل إلى فاطمة فأقام عندها يوماً وليلة وما أرى إلا أنه سيقبل بعد حين، فيلم بهذه الدار إلمامة قصيرة ثم يسرع إلى هالة! فما أشد شوقه إليها وقد حدثت أنه أقبل من اليمن كأحسن ما يكون الرجال سمة وابرع ما يكونون جمالاً، وحدثت أن هالة أنكرته حين رأته فقد ودعنا أبيض الرأس وعاد فاحم الشعر، كأنه لم يتجاوز الثلاثين. وقد أنكرته من الغد قريش كلها لما رأت من سواد لمته. ولكنه أزال عجب قريش حين أظهر لها هذا الخضاب الذي حمله من اليمن، والذي يرد الشيب شباباً، والذي أسرعت قريش إليه فاشترت منه وأختضب به شيبها فإذا أهل مكة كلهم شباب. كل ذلك ولم أر عبد المطلب، ولم أحس منه ذكراً لي وحنيناً إلي. وماذا يصنع؟ ليس لي شباب هالة، ولا جمال نتيلة ولا ولد فاطمة! وإنما أنا عجوز فانية، يتيمة وحيدة ليس لها أب ولا أم ولا ولد، أنا هذا الحمل الثقيل، الذي يضيق به صاحبه، ولكنه يأبى أن يلقيه ويتخفف منه مخافة أن يصفه الناس بالضعف أو القصور.

قالت ذلك وأغرقت في بكاء طويل شاركها فيه إماؤها الثلاث. ولكن ناصعة لم تلبث أن قالت: أهذا كل ما تعلمين من أمر زوجك يا سيدتي؟ إنك إذا لتجهلين كل شيء ولا تعلمين إلا أقل أمره خطراً، وأن عندي من أمر سيدنا ما لو قصصته عليك لأرضاك ولخفف لوعة الحزن هذه التي تحرق فؤادك الكئيب. لن تري زوجك اليوم يا مولاتي فهو عنك في شغل، لقد كان راضياً مسروراً حين كان يرى نساءه ينكرن سواد لمته ويعجبن بشبابه الجديد،

ص: 60

وحين كانت قريش تستبق إليه تشتري منه هذا الخضاب بما أحب من مال، ولكنه محزون منذ أمس، مغرق في حزن لا قرارة له، فهو خليق بالرثاء. إنك تحبينه يا سيدتي وستنسين إعراضه عنك، وسترثين له، وإني أخشى أن تخفي إليه حين تعرفين نبأه. قالت سمراء في شيء من الجزع بدأ هادئاً ولكنه لم يلبث أن اشتد قليلاً قليلا حتى بلغ أقصاه: ماذا تقولين وبم تتحدثين؟ وهو محزون! هو خليق بالرثاء لماذا؟ أبيني متى علمت بذلك؟ وكيف أخفيته علي؟ ما الذي يحزنه؟ ما الذييسوءه؟ ما الذي يجعله أهلاً للرثاء؟ ما الذي يضطرني إلى أن أخف إليه لأعزيه وأواسيه؟ قولي، أسرعي، لا تخفي علي شيئاً. قالت ناصعة: مهلاً يا سيدتي أرفقي بنفسك ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب، لابأس عليه في نفسه، ولا في ماله ولكنه يمتحن منذ أمس في بنيه. هوني عليك إن في هذه المحنة لعزاء لك عن فقد حارثك العزيز. أتذكرين يوم احتفر زمزم فنذر لئن أوتي من الولد عشرة ذكوراً. . . . . . . قالت سمراء: يراهم ليضحين بواحد يا بؤس هذا اليوم! لقد عرفت هذا النذر فكان مصدر شقائي كله، عرفت أنه سيستكثر من النساء ورأيت مدية التضحية ممدود إلى عنق قد تكون عنق ابني العزيز. منذ ذلك اليوم كرهت النساء جميعاً لأني رأيت في كل واحدة منهن ضرةلي، ومنذ ذلك اليوم رأيت شبح الموت مقيماًبهذا البيت ما أقام فيه ابني مفارقاً لهذا البيت ما فارقه أبني، ومنذ ذلك اليوم لم أر ابني في يقظة ولا في نوم إلا رأيت الموت له ظلاً، أتمي حديثك يا ناصعة. قالتالفتاة: لقد ذكر زوجك أمس وهو يتحدث إلى فاطمة نذره هذا وذكر أن أبناءه الذكور قد بلغوا عشرة أحياء يراهم بمولد طفلهحمزة فأقسم ليوفين نذره، وليضحينبأحد أبناءه وليجعلهم تسعة منذ اليوم حتى تتمهم له هالة أو نتيلة أو غيرهما عشرة أو تزيد بهم على العشرة. ولم يكد يعقد هذه اليمين التي جزعت فاطمة وشاركها بناتها في الجزع. أشفقت على الزبير وأبي طالب وعبد الله وغيرهم من بنيها.

وبلغ الخبر نتيلة فخافت على العباس، وبلغ الخبر هالة فجزعت على حمزة وثارت لكل امرأة قبيلتها. وألح الناس على الشيخ؛ تأبى كل قبيلة أن تكون التضحية منها. ومضى الشيخ في يمينه فجمع إليه بنيه وأنبأهم بنذره فكلهم أقره وكلهم أطاعه وكلهم ألح عليه ليوفين بالنذر ولتقدمن الضحية. وليس لقريش منذ أمس حديث إلا هذا النبأ هم يتناقلونه ويكبرونه وينكرونه وقليل منهم من يقر الشيخعلى هذا العزم الفضيع. قالت سمراء وهي

ص: 61

مضطربة، ثم قالت الفتاة: ثم أقبل الشيخ ببنيه إلى الكعبة مع الصبح فأجال فيهم قداحه فخرج القدح على أحب بنيه إليه. وآثرهم عنده، قالت سمراء وقد سالت من عينيها دمعتان محرقتان: خرج القدحعلى عبد الله قالت الفتاة: نعم. فأخذ الشيخ بيد ابنه يقوده إلى المذبح وفي يده المدية ولكن بناته جميعاً وأمهن قمن دون الفتى صائحات يستصرخن بني مخزوم ويستصرخن قريشاً كلها ويمنعن الفتى بحياتهن. وأقبلت إحداهن إلى الشيخ ضارعة ثائرة معاًفقالت: إذا كانقلبك قد استحال إلى صخر فلا ترق لأبنك الشاب ولا لأمه الشيخة ولا لأخواته البائسات، وإذا كانت شريعة قريش قد قست وجفت وغلظت حتى جعلت للآباء على أبناءهم حق الحياة والموت كأنهم الرقيق أو الحيوان، فدعنا نحتكم في هذا الفتى إلى رب هذا البيت فهو أوسعمنك رحمة وأجدر منك أن يضن بهذا الشباب على الضياع وأن يربأ بهذا الدم الذكي أن يراق. لنحتكم إلى رب هذا البيت في أمر هذا الفتى، لنقرع بينه وبين هذه الإبل الكثيرة التي تسيمها في الحرم ولنبلغن من ذلك ما يرضي رب هذا البيت.

وكانت قلوب قريش قد تفطرت حزناً وتصدعت أسى لقول هذه الفتاة وهي تبكي، وقد التزمت أخاها تعانقه وتقبله وتغسل وجهه الناصع بدمعها الغزير وهي تصيح: لأموتن قبل أن تموت. فما زالت قريش بالشيخ تلاينه حيناًٍ وتخاشنه حينا حتى اضطرته إلى أن يقبل تحكيم الآلهة.

قالت سمراء وقد بلغ بها الهلع أقصاه: ثم ماذا؛ قالت الفتاة ثم لا أدري تركتهم يتأهبون لإجالة القداح بين الفتى والإبل وأقبلت لأقصعليك النبأ فرأيتك فيما كنت فيه من حزن عميق.

قلت سمراء يا بؤس لهذه الحياة! لا يسعد فيها الناس بخير مهما يكثر كل السعادة، ولا تشقى فيها الناس بشر مهما يعظم كل الشقاء. أسعيدة أنا بموت الحارث أم شقية؟ لو قد عاش لذقت الآن ما تذوقه فاطمة من هذا الحزن اللاذع والخوف المهلك ولكني كنت أوثر مع ذلك أن يعيش فقد كان يمكن أن تخطئه القداح، وقد كان يمكن إن لم تخطئه في المرة الأولى أن تخرجعلى الإبل من دونه وقد كنت أستمتع به أعواماً، ولكن هلم لا مقام لنا الآن لنسرع إلى حيث هم لنشاركهم فيما يجدون. وا حسرتاه! إني لصادقة الحزن! إني لصادقة الخوف! إني لشديدة الإشفاق! إني لشديدة الرجاء، ولكن فاطمة ستضن بي سوءاً وستقدر أني أقبلت غير

ص: 62

بريئة النفس من الشماتة، قالت ذلك ونهضت يدفعها حزنها الخالص ويردها خوفها من سوء الظن، ولكنها أسرعت مع ذلك وأسرع معها إماؤها. ولم تكد تتقد م في الطريق نحو المسجد حتى سمعت أصواتاً ورأت إضطراباً ثم تبينت في الأصوات فرحاً ورأت على الوجوه بشراً، وعرفت أن القدح قد خرج بعد لأي على مائة من الإبل. وأن عبد المطلب يؤذن في الناس أنه سينحر هذه الإبل بين الصفا والمروة، وأنها حرام عليه وعلى بني هاشم، مباحة لغيرهم من الناس والحيوان والطير.

فأسرعت سمراء حتى اختلطت بفاطمة وبناتها وهن سائرات يحطن بالفتى ويحلن بينه وبين غيره من الناس، حتى إذا بلغن البيت ألفين فيه امرأتين تبكيان إحداهما هالة بنت وهيب أم حمزة وزوج عبد المطلب، والأخرى بنت عمها اليتيمة آمنة بنت وهب. هنالك أقبلت سمراء هادئة باسمة إلى الفتاة فكفكفت من دموعها؛ وضمتها إليها وقبلت جبينها الطلق، ثم التفتتإلى عبد الله وهي تقول: هلم يا فتى فقبل أهلك فمهما تغل لها في المهر فلن تبلغ هذه الدموع التي ذرفتها حزناً عليك. ثم نظرت إلى فاطمة وهي تقول: ألا ترين أنها أحق فتيات قريش أن تكون له زوجة!

ص: 63

‌الرجل صاحب الكلب

قصة مصرية.

للأستاذ محمود تيمور

حدثني الراوي قائلاً:

عندما كنت طالباً في مدرسة الزراعة بالجيزة كنت أتردد في أوقات فراغي على قهوة صغيرة بالقرب من الشارع العمومي يجري بجوارها جدول صغير وتتهدل فوقهاأغصان شجرة عتيقة. وكنت أعتبرها حلقة الاتصال بين الحضر والريف أو بين المدنية والحياة الساذجة البدائية. فبينما تكون جالساً في مقعدك البسيط تشرب القهوة في هدوء وتصغي إلى خرير الماء وتشم رائحة النبات إذ بك تسمع دوي ترام أو سيارة ويمتلئ أنفك برائحة البنزين والتراب.

وكان يتردد على هذه القهوة رجل بدين الجسم كروي الوجه بأنف أفطس وعيونصغيرة يلبس بدلا من المعطف حرملة من اللون الأزرق الكالح ويلف رأسه بشال قديم مهلهل. وكنا في ذلك الوقت على أبواب الشتاء. وكنت ألاحظ عليه مظاهر الجربعة. وأعتقدت أنه من أرباب المعاشات الفقراء. وأذكر أنني لم أذهب إلى القهوة مرة واحدة ولم أجده. أراه دائماً في ركنه المعهود بجوار باب القهوة منتفخاً في جلسته يدخن النارجيلة ويحتسي القهوة ويزعق بين فترةوأخرى على الخادم يصدر إليه أوامره الممضة. يصحب معه دائماً كلباً أسود بشع الهيئة من فصيلة الأرمنت. يزعج القهوة بنباحه الثقيل. كان سيده يبالغ في تدليله والإعتناء به. ويكلمه ببعض كلمات إنجليزية بلهجة سقيمة لا تتعدى قوله: كام هير جيمي كام هير ماي دير.

ولا أدري ما الذي دفعني إلى أن أهتم بهذا الرجل وكلبه وأدقق في ملاحظتي إياهما. مع نفوري منهما.

وذهبت مرة إلى القهوة فوجدت عويساً ماسح الأحذية يتشاجر معه. وكان الرجل يشتم الغلام بصوته العريض الوقح وهو منتفخ الأوداج محمر العين يبصق أماه بصقات متوالية. ورأيت الكلب ينبح ماسح الأحذية بشدة ويجذب بأسنانه طرف ثوبه. فتحاشيت التدخل بينهما وقصدت إلى مكاني بجوار الجدول ومعي كتاب الزراعة المصرية لأذاكر فيه. وجاء

ص: 64

صاحب القهوة فحسم الخلاف وشتم عويسا وأرضى الأفندي ببعض كلمات لا تخلو من تملق. وترك الكلب ثوب الغلام وذهب إلى سيده فنظر إليه مليا وهو يبصبص بذنبه ثم تمدد تحت أقدامه ونام.

وجاءني عويس يمسح لي حذائي كالمعتاد فمددت له قدمي في حركة آلية غير ملتفت إليه وأنشغل الغلام بالمسح وأنا بالتفكير وبعد برهة خاطبت عويسا ووجهي لا يفارق الكتاب. .

- من يكون هذا؟

فأجابني وهو منهمك في عمله.

- واحد حكيم لا طلع ولا نزل. يدعي أنه كان حكيمباشي في الجيش في الزمن الماضي.

- والآن؟

- على المعاش

ثم رفع رأسه إلي وقال:

تصور يا بيه أنه يريد أن يعطيني قرش تعريفة واحد في مسح حذائه ووضع شريط جديد له. وأي جزمة هذه التي مسحتها. ربنا لا يوريك أؤكد لك أن الورنيش لم يمسها منذ أن كان جنابه في الجيش. .

قرش تعريفة واحد نظير مسحة وشريط جديد. الله الغني يا سيدي. . هذا خلاف الخدمات التي أؤديها له بدون مقابل. ولو كان شخصاً فقيراً لقلنا نخدمه لوجه الله ولكنه رجل عاكم. عاكم تمام.

وسمعت الحكيمباشي يبصق بشدة على الأرض فخفف عويس من حدته وهمس قائلاً:

- تصدق بالله، لو ذهبت إلى بيته لظننت انك في مزبلة أو مربط بهائم. . . . . لم كل هذا والدنيا أخرتها موت. فضحك واردم على هذه السيرة. .

وغبت عن القهوة بضعة أيام. وبينما كنت مرة في الترام منهمكاً في قراءة (البلاغ) إذ شعرت بشخص يدخل العربة، وكانت مزدحمة بالركاب، ويحشر نفسه بين الجالسين وسمعت همهمة استياء من كل ناحية. ورفعت بصري لأرى من الداخل فوقع بصري أول وهلة على كلب اسود ضخم بشع الهيئة عرفته على الفور. ورأيت أمام مقعدي الحكيمباشي يمسح وجهه المحتقن المعقد ويشد حرملته على أكتافه ويدفع جاره وهو يدمدم. وتلاقت

ص: 65

أعيننا. وشعرتبأنني ابتسم له. وشاهدته يجيبني مجاملة بابتسامة سطحية خاطفة. وبعد لحظات قال لي مندفعاً:

- يدفع الواحد منا ستة مليمات لهذه الشركة الملعونة ليحظى بمثل هذه الجلسة المرهقة. نحن آدميون ولسنا بهايم حتى يحشروننا هكذا كأننا في عربة للحيوانات. لماذا لا يزيدون عربة على كل قطار في مثل هذه الأوقات. أقسم بالله ان سوارس الذي تدفع فيه ثلاثة مليمات فقط أحسن ألف مرة من هذا الترام.

فوافقته موافقة تامة. وأخذت أذم له الشركة بدوري. فظهر على وجهه الارتياح وأخذ يناقلني الحديث بلهجة ودية ومن غير تكلف كأنه يعرفني منذ أعوام، وقال:

- لم تحضر إلى القهوة منذ أيام

- كنت مشغولاً جداً. لقد هجمت علينا الدروس.

- إيه يا بني لو كنت معنا في الجيش لأستصغرت من شأن مشاغلك. . كنت أنا لا أجد الوقت الكافي لأتناول كوب اللبن في الصباح.

- حضرتك خدمت في الجيش مدة طويلة؟

فأجاب بلهجة متزنة وهو يعبث بسلسلة ساعته. .

- 45 سنة، 45 سنة وأنا أعيش في الخيام وعلى ظهور الجياد. أضمد جروح الجرحى وأعنى بالمصابين. ثم أخرج بعد هذه الخدمة الطويلة العريضة الشاقة بمعاش لا هو في العير ولا في النفير. . . لا مكافأة ولا يحزنون. .

ثم مال علي وهو يبتسم وقال:

- ألم تسمع المثل القائل: آخر خدمة الغز علقة.

وكان قد خلا مكان بجواره فنظر إلى كلبه الذي كان ممدداً تحت أقدامه وقال له وهو يفرقع بإصبعه. .

- كام هير جيمي. كام هير ماي دير.

وأشار له إلى المحل الخالي، فقام الكلب وبعد أن تمطى وتثاءب في هيئة شنيعة قفز بجوار سيده والناس يرمقونه بالنظر الشزر. وألتفت إلي الحكيمباشي وقال وهو يلاطف كلبه. .

- لم أر في حياتي كلباً وفياً كجيمي هذا. أنه إنسان وليس بحيوان. لقد إستغنيت به عن

ص: 66

البنين فهو أبني وعن الخدم فهو تابعي الأمين. وعن الحراس فهو حارسي الذي يبذل دمه في سبيلي. أتصدق أنني لا أعاشر سواه في منزلي.

ثم نظر إلى كلبه وقال:

- أوه جيمي أي لاف يو فري ماتش

وكان بجواري شيخ معمم فسمعته (يمصمص) بشفتيه ويتمتم قائلاً:

- لله في خلقه شؤون!

ووقف الترام على إحدى المحطات ودخل العربة محمد أفندي زكريا الموظف ببنك الكومرسيال الإيطالي فسلم علي في بشاشة. ثم إلتفت إلى الحكيمباشي وقال:

- أهلاً أسعد بك. في غاية الأشواق يا حبيبي.

وتحدثنا برهةً في العموميات، ثم رأيت أسعد بك الحكيمباشي ومحمد أفندي زكريا يفتحان باب البحث في المسائل المالية. فسكت وأصغيت لهما. وأخذا يتعمقان قليلاً قليلا فلم أعد أفهم من كلامهما شيئاً. وكانت أمثال الكلمات. . الكامبيو والبورصة وسندات الشركة البلجيكية وأسهم البنك العقاري والرنت الفرنساوي تطن في أذني طنيناً مزعجاً، وارتسمت على وجه أسعد بك أشد مظاهر الاهتمام فوجدت عينيه تحملقان في وجه محدثه حملقة الجائع الشره، وطاقتي أنفه تتسعان كأنهما تستجديان الهواء. . . وأخيراً وصلنا الجيزة فسلم أسعد بك علينا ونزل لأنه كان يسكن في هذه البلدة. أما أنا ومحمد أفندي زكريا فتابعنا ركوبنا إلى الأهرام إذ كنا نرغب في تناول الشاي في (مينا هاوس) وملت على محمد أفندي وقلت له:

- إن لصاحبك باعاً طويلاً في الأمور المالية.

- إنه يا عزيزي يلعب بالجنيهات في سوق المضاربة كما تلعب الأولاد (بالبلى)

- وهل يكسب؟

- لم أسمع مرة واحدة أنه خسر.

ومرت الأيام وكثرت مقابلتي لأسعد بك في القهوة وتوثقت بيني وبينه روابط الصداقة. وأتضح لي أنه شخص غير مزعج كما توهمت قبل معرفتي إياه. فكان إذا رآني في ركني المعهود منكباً على كتابي أذاكر درسي أحترم عملي ولم يفتح فمه بكلمة. أما إذا لاحظ أنني

ص: 67

لا عمل لي دعاني إلى الجلوس معه. ولا أذكر أنه أكرمني بفنجان قهوة. أو قدم لي سيكارة واحدة. أما حديثه فكان سخيفاً ولكنه مسل للغاية. معظمه حكايات عن حياته الماضية في الجيش ونوادر عن كلبه لا تخلو طبعاً من مبالغات ومغالطات. وكان إذا تكلم عن كلبه لمعت عيناه بوميض غريب وخيل إليك أنه يتكلم عن ابن وحيد له وهبه كامل محبته وحنانه.

وتغيبت بضعة أيام عن القهوة ثم عدت إليها فكان أول شئ لاحظته هو أن أسعد بك غير موجود. ولما جاءني غلام القهوة سألته عنه فلم يفدني شيئاً. وبعد قليل ظهر عويس ماسح الأحذية. وكان مسروراً يخبط بظهر فرشته صندوقه فسألته:

- ما الخبر يا ولد؟

- خبر عظيم جداً يا بيه.

- لقد أخذوا كلب أسعد بك في عربة الكلاب.

- يا شيخ!

- شاهدت ذلك يعيني رأسي.

ونالني شئ من الأسف. ولكنني لم أهتم بالأمر كثيراً. وأعتقدت أنني سأرى في الغد صديقي وكلبه يحتلان ركنهما المختار في القهوة.

وبعد انقطاعي بضعة أيام ذهبت إلى القهوة فوجدت أسعد بك وبحثت بعيني عن الكلب فلم أجده. وكانت عينا صديقي مربدتين حائرتين ووجهه محتقناً. وسلمت عليه فسلم علي في اقتضاب وصمت فلم أشأ أن أثقل عليه. وقصدت إلى مكاني وفتحت كتابي وبدأت دراستي ولكنني ما كدت أفعل حتى سمعته يتكلم في لهجة شرسة وكأنه يتحدى إنساناً أمامه قائلاً:

يأخذون الكلب ويطلبون مني جنيهاً مقابل إطلاق سراحه! جنيه! هذا نصب، نهب. . إخص على دي مصلحة.

وبصق بصقة كبيرة. ثم أتم كلامه. . .

-. . مع أني أفهمتهم أني حكيم. . حكيمباشي الأورطة التاسعة التي قهرت العصاة في الأبيض ودارفور. رجل مقامي معروف وماضي مفعم بجليل الأعمال. مصلحة دون! لا تعرف أصحاب المقامات. . إخص. .!

ص: 68

وبصق بصقة أخرى. وكان يتكلم دون أن يلتفت ناحيتي. ولكني كنت متأكداً أن الكلام موجه إلي إذ لم يكن في القهوة غيرنا. فرأيت من باب المجاملة أن أعير حديثه اهتمامي. وقلت:

- جميع مصالح الحكومة بايظة.

فاحتد في كلامه وهو ينظر أمامه دائماً وقال:

- الا هذه المصلحة. إنها ليست بايظة فقط. إنها غير موجودة. . . . . أتصدق أنهم يرفضون شهادتي الرسمية بأن الكلب غير مكلوب وأنه ليس من الكلاب الضالة، ويقولون أن الإجراءات يجب أتتبع مجراها. إجراءات؟ هه!. . سأريهم كيف تتخذ أمثال هذه الإجراءات معي ومع كلبي. سأريهم. .!

وضرب بشدة على المائدة والتفت إلي هذه المرة وعيناه تشعان باللهيب وقال:

- لقد أرسلت عريضة اليوم إلى وزير الحربية لتخلية سبيل كلبي في الحال. . في الحال.

فأجبته على الأثر.

- حسناً فعلت.

وفي الغد سافرت مع فرقة من طلبة المدرسة إلى الصعيد وقضينا هناك أسبوعاً كاملاً نتنقل بين ربوعه متفرجين على آثاره العظيمة. وفي اليوم التالي لعودتي إلى القاهرة قصدت إلى قهوتي المعروفة. فرأيت عويسا جالسا القرفصاء على الأرض بجوار إحدى الموائد وأمامه صندوقه ينتظر زبائنه. فناديته وسألته على الفور.

- ماذا جرى لكلب أسعد بك؟

فابتسم ابتسامة عريضة وقال:

- تعيش أنت!

- قتلوه؟

- منذ أربعة أيام.

ألم يدفع أسعد بك المبلغ؟

- يدفع المبلغ! انه يرضى أن يدفع لهم عينيه! ولا يتجاوز لهم عن الجنيه.

وشاهدت أسعد بك آتيا صوب القهوة يتوكأ على عصاه الغليظة ويسير في ثقل وإعياء، ولما

ص: 69

اقترب منيابتسم لي ابتسامة هزيلة وسلم علي ثم جلس. وأشار إلى المقعد الذي أمامه وقال:

- تفضل اجلس

جلست وبدأنا نتحادث في أمور تافهة. وكانت لهجته مهملة ونظراته فيها بعض الشرود. ولم يتكلم بكلمة واحدة عن جيمي فعلمت أنه لا يريد الخوض في هذا الموضوع. ثم خيم علينا صمت ثقيل فاستأذنت وقصدت إلى ركني.

ومنذ ذلك الحين اختلت مواعيد أسعد بك ولم أعد أراه دائماً في القهوة كلما ذهبت. وغير عادته في فنجان القهوة السادة الذي كان لا يحيد عنه ولا يزيد عليه واستبدل به بضع كوؤس من العرق. وكان كلما ثارت الصهباء في رأسه اندفع يتكلم في إسهاب ممض وبصوت مرتفع كأنه يصرخ أو يشتم. وكانت موضوعاته دائماً لا تخرج عن سبهمصلحة الطب البيطري وسب العالم كله على السواء. كان يقول دائماً:

- الدنيا كلها نهب في نهب. إخص بلا قرف. وبدأ يضيفني على شرب الزبيب معه ويقول لي:

- لا تخش ضرراً. أنا حكيم. إن الزبيب مقو للدم وفاتح للشهية. أحسن المشروبات كلها.

وأصبح مجلس أسعد بك لا يطاق. فلم أكن أنعم بتلك المحادثات المسلية. ولم يكن يتركني أذاكر دروسي في هدوء. بل كاندائماً يقلقني بصياحه المزعج ويضطرني إلى الإنصات له وتحبيذ كلامه. وكان إذا رآني مقصراً في الالتفات إليه جاء إلى مائدتي ونقل مشروبه إليها واحتل مقعداً بجواري وبدأ يسح بشكاياته وشتائمه.

وحدث مرة أن جاء صاحب القهوة بحساب الشهر (وكان من عادة أسعد بك أن يدفع الحساب شهرياً) فأخذ الورقة من يد الرجل وألقى عليها نظرة عابسة ثم صاح في وجهه:

- مائة قرش؟ جنيه! أما لصوص صحيح! لن أدفع هذا المبلغ ماحييت ودعك الورقة ورماهافي وجه صاحب القهوة. وأراد الأخير أن يتفاهم معه في لطف فأقترب منه ومعه الحساب وأخذ يوضح له عدد الطلبات التي طلبها. فدفعه أسعد بك بشدة وصاح. .

- اذهب من أمامي لن ادفع شيئا. كلكم لصوص أولاد كلب. فأحمرت عينا صاحب القهوة وقال:

- اللصوص وأولاد كلب يا حبيبي هم الذين لا يؤدون ما عليهم.

ص: 70

- اخرس! أتعرف من الذي تكلمه؟ أنا أسعد بك حكيمباشي الأورطة التاسعة في الجيش المصري.

- وماذا يهم؟ أنا أريد نقودي. ليس هذا الجنيه كجنيه مصلحة الطب البيطري الذي لم تدفعه إنقاذاً لكلبك. هذا جنيه ثمن مشروبات جررتها من محلي. .

ورأيت سحنة أسعد بك قد انقلبت وصارت كسحنة النمر الهائج وقال وصوته يرتجف:

- ماذا تقول يا وقح؟ جنيه الطب البيطري! أتظن أنني قد بخلت بالجنيه في سبيل إنقاذ كلبي؟ أتجرؤ على هذا القول يا لعين؟ أنا أرضى أن ادفع مائة جنيه لا جنيها واحداً من أجله. . ولكنني لا أدفع للصوص أولاد الحرام، كلكم تستحقون ضرب الصرم، ورأيته يدس يده المرتجفة في جيبه في حركة شاذة ويخرج ورقة مالية من ذات المائة قرش وينهال عليها تمزيقاً في وحشية غريبة ويقول:

- أتستطيع أن تقول إنني لا أستطيع أن ادفع جنيهاً. .

ثم قام وأنشب أظافره في رقبة الرجل. وقامت بين الاثنين معركة حامية استدعيت من أجلها الشرطة.

وساءت أحوال أسعد بكفلم أعد أراه الا مخموراً رثالهيئة ممزق الملابس. قوي الشبه بهؤلاء المشردين مدمني المخدرات الذين تراهم في الطرق يستجدون المارة. وكان لا يسكت لسانه عن النقود وبالأخص عن الجنيه الذي لم يدفعه إنقاذاً لكلبه، وكان يؤكد لي في حماس غريب أنه لم يدفع هذا الجنيه نكاية في مصلحة الطب البيطري وليفهمهم أنه ليس مغفلاً أو ضعيفاً. وكان يروي الحكاية لكل من يقع عليه بصره في القهوة أو في الطريق وهو يصيح ويهدد ويشتم. وإذا لم يجد من يكلمه رأيته يحدث نفسه محتداً وهو يلوح بيده في حركات شاذة.

وانقلبمن شحيح متكالب على المال إلى مسرف متلاف لا تعرف يمينه ما تنفقه شماله. وسمعت أنه كثيراً ما يذهب إلى مصلحة الطب البيطري ليفدي الكلاب الضالة ويخرج لها رخصاً بمبالغ لا يستهان بها. وكان يحرضني دائماًعلى التبذير ويقول:

- اصرف وبحبح على نفسك.

وقابلت مرة محمد أفندي زكريا الموظف ببنك الكومرسيال فروى لي أخباراً مزعجة عن

ص: 71

أسعد بك قال: أنه يضارب الآن بجنون ويخسر خسائر فادحة.

وحلت الإجازة السنوية وانقطعت عن زيارة القهوة ثلاثة أشهر كاملة ولما عدت إليها رأيت كل شئ فيها لم يتغير. وكانت مائدتي المختارة في موضعها بجوار الجدول تظلها أغصان الشجرة العتيقة. فكأنني لم أفارقها إلا منذ ثلاثة أيام. واستقبلتني الوجوه التي أعرفها كل بابتسامته الخاصة. وألتفت حولي مشرق الوجه وأنا أقول:

- كل شئ كما هو!

وبغتة قلت لعويس الذي كان يمسح مقعدي في هرج وسرور ويهيء نفسه لمسح حذائي. .

- أين أسعد بك؟

فتوقف عن عمله ورفع بصره إلي وقد غابت ابتسامته وانقطع ضجيجه المرح وقال بلهجة قابضة:

- ألم تسمع عنه شيئاً؟

- كلا

- لقد أرسلوه إلى المارستان. كانت حالة المسكين في المدة الأخيرة عبرة. وكنت أنا الذي أعتني به.

- ما هذا الكلام؟

- الحقيقة ما أرويها لك.

- وهل يمكن أن نزوره في المارستان؟

ومد عويس صندوقه تحت قدمي وبدأ يمسح في هدوء. وقال في لهجة غريبة:

- كلا يا سيدي لا تستطيع أن تزوره. . . لن تراه أبداً. . ونكس رأسه. . . فنكست رأسي أنا أيضاً وبدأت أستغرق في تفكيري الحزين.

ص: 72

‌قصة عراقية

تريد أن تحب. . .؟

للأستاذ أنور شاءول

الأستاذ أنور شاءول كاتب عراقي وشاعر غزلي رقيق يمارس المحاماة ويزاول الصحافة ويصدر مجلة (الحاصد) وهي أرقى المجلات الأسبوعية في بغداد. وهو ثاني إثنين أقاما القصة العراقية على قواعد من الفن الصحيح وله فيها كتاب الحصاد الأول. (الرسالة)

فرغت من قراءة المقال وفي هذه المرة لم ترم المجلة بعنف ويأس شأنها كل يوم إنما وضعتها بلطف قرب وسادتها ثم مدت يدها تضغط على زر المصباح فساد الظلام.

وفي حلكة الغرفة كانت عيناها مفتوحتين يلتمع فيهما بريق غريب. لم تستلم للنوم لأنها كانت تشعر بحاجة ملحة إلى الإنتباه والتفكير. عجباً أيمكن أن يكون شقاؤها الملازم قد أشرف على النهاية فتشرق شمس الغد ضاحكة وتقبل السعادة المفقودة لترتمي بين أحضانها؟

إنه مقال (في الحياة والحب والجمال) لا مثيل له فيما قرأته قبل يوم من تلك الفصول المطولة. أنه قطعة من وجد، فلذة من قلب بل هو حياة مثلى مصغرة لما حنت إليها بعد نكبتها قبل سنتين. ولكن هذا المقال لم يثر من اهتمامها قدر ما أثار منه كاتب المقال، ذلك اللوذعي القدير المتفنن ذو القلم الساحر الذي استطاع ما لم يستطعه قبله من أهاجة الجمرات الكامنة من أعماق صدرها.

فمن هو هذا الكاتب؟

المقال مذيل بإمضاء ولكن الإمضاء لا يشير إلى شخصية حقيقية إنما هو من تلك الإمضاءات المستعارة المبتكرة. (سمير النجوم). ومن هو هذا سمير النجوم؟ وضغطت على زر المصباح فتفجرت الأنوار تغمر الظلمة وكانت المجلة في يدها فجلست متكئة على وسادتها وراحت تطالع المقال ثانية. وهي في كل فقرة من فقراته تستمهل النظر فتطلق لأفكارها الجامحة العنان. لم تعرف (م) كم مرة أعادت تلاوة ذلك المقال في تلك الليلة. ولم يكن ليهمها أن تعرف ذلك. وعندما دقت الساعة إثنين بعد منتصف الليل تذكرت أنها آوت إلى فراشها في منتصف الساعة الثامنة.

ص: 73

و (م) من هي؟

هي تلك الزنبقة التي ما كاد ثغرها يفتر في الحديقة الغناء فتمتص الندى وتتشرب العصير وتستحم بأنوار الشمس حتى قطعت عنها الطبيعة مجاري المياه فراحت تشكو العطش وتحذر الهلاك!.

هي الزوجة الحسناء بالأمس المترعة الكأس سعادة قدسية، الأرملة البائسة اليومالممتلئة الجوانح شعوراً غريباً علوياً!.

يا للجمال الرائع تلامسه يد الأسى بأصابعها النارية! يا للقلب الفارغ بعد امتلاء تتسرب إليه الوحشة والحنين بين الذكريات الوامضة الجميلة!

ويا ليالي الشتاء ما أطولها وما أقسى بردها على هذه الحمامة الوحيدة الوادعة!

توفي زوج (م) ولم يمر على زاوجهما أكثر من عام فخلف شريكة حياته ولا سلوى لها سوى طفلة في مهدها وذكريات طيبة مشوبة بمرارة الفراق الأبدي. من الذي سيبادلها الحديث الحلو؟ الابتسام؟ القبلات والعناق؟ ومن سيشاطرها الحياة شهورها وسنيها؟!

أحبت وحيدتها شأن كل أم وأفرطت في الحب ولكن هذا الإفراط ما كان ليخفف من مصابها بشريك حياتها. ومرت الأيام والأشهر وتصرم عام وبعضه و (م) تستهدف سهام الحياة.

فتتألم ذلك الألم الأخرس الذي يجيش في نفس جريح خانته قواه فما استطاع كلاماً حتى ولا أنينا!.

سل الوسادة عما بللها من دمعها الغزير في ظلمات الليل! سل النجوم عما تصعد إليها من حسرات على أجنحة الرياح! وسل المرآة الصافية عما صوب إليها من نظرات حزينة! ومن خلال لآلئ الدموع كانت عيناها تنظران بخيلاء كسير إلى الجمال المضاع.

- إنني ما زلت حسناء. . . جاذبيتي ما زالت ثائرة. . . وقلبي فارغ. . . هل سيظل هكذا. . .؟ ولماذا يظل هكذا. . . . . .؟

تجول هذه الأفتكارات وأشباهها في رأس (م) فلا تلبث أن ترتمي على كرسي قريب وتجهش بالبكاء. فإذا ما دنت إليها طفلتها تصيح (ماما) انقلبت من البكاء للضحك ومن الإجهاش للقهقهة، وبقي شيء لم يتغير هو الألم الممض في قلبها الوديع.

(أريد أن أحب). . وحي علوي هبط على نفس (م) هبوط قطرات الطلعلى الزهرة العطشى

ص: 74

ولامس كل عاطفة من عواطفها ملامسة لفحة الموقد للجسم البارد ولكن أين من تحب؟ ومن هو؟ وكيف الحصول عليه؟.

شاب في مقتبل العمر، ممشوق القوام، ضحوك الوجه، براق العينين؛ جرسي الصوت؛ محبوب المعشر؛ مثقف؛ ذكي؛ ذلك من كانت تبحث عنه أو تحاول أن تبحث عنه (م) ليملأ فراغ قلبها الفتي.

ولكن أين نجده ومجتمعنا من القساوة بحيث يراقب منها الحركات والسكنات ويحصي عليها حتى أنفاسها. طريقها طويلة شائكة فهل تسير وهي حافية القدمين أم تنكص الأعقاب؟ (أريد أن أحب) كانت وحياً هابطاً ما أن له مرد.

بعد تفكير أيام بلياليها وصلت إلى أن بإمكانها أن تحب أحد كواكب السنما، وكواكب السنما كثيرون تتمتع بجمالهم وأصواتهم في السنما الناطق كل أسبوع، فما عليها إلا أن تحب أحدهم مثال روبرت مونتكومري أو كلارك كابل أو موريس شفاليه أو جاك بوكانان أو شارلس فارل أو رامون نوفارو أو أي كوكب آخر تقبل على إقتناء صوره ومشاهدة أفلامه وقراءة أخباره وتتبع كل أثر من آثاره. وهي فكرة جميلة تخفف من لواعجها ولكنها لا تطفئ أوار قلبها! إنها في حاجة إلى حب حقيقي، فلتبحث عن أمنيتها في غير هذه السبيل.

- لماذا لا تطالع الروايات العصرية التي ما زال أشخاصها أحياء يرزقون! فإذا ما تملك إعجابها بطل ما فلتبحث عنه عساها تصل إلى معرفته والانتصار عليه فتفوز به وعلى رأسها إكليل (كيوبيد) وإلى جانبها عشيقها العزيز المغلوب!

فكرة جميلة جداً حاولت أن تخرجها إلى حيز الوجودفقرأت أكثر من خمسين رواية فلم تظفر بمطمح أنظارها وأفكارها فأشاحت بوجهها حزينة ولهى!

وكومضة البرق الخاطف تحت جنح الظلام خطر لها خاطر أنست إليه ورأت فيه مخرجاً لهاً من هذه الحالة الأليمة، هو أن تبحث عمن (تريد أن تحب) في الجرائد والمجلات المحلية منها بوجه خاص، ففي هذه الصحف يكتب العشرات من الكتاب والقصصيين والشعراء فما عليها إلا أن تطالعها بانتظام حتى تعثر على ضالتها المنشودة.

مقالات! قصائد من الشعر المنظوم أو المنثور! كلمات مأثورة لا يحصى لها عدد! هذا سياسي؛ ذلك أديب؛ الآخر عالم. ألا إنهم كثيرون؛ كثيرون جداً ولكنهم على رغم كثرتهم لم

ص: 75

يثر واحد منهم كامناً في نفس (م) فكانت تطالع ما ينشرونه ثم لا تلبث أن ترمي الصحيفة جانباً ثم يتملكها شعور هو أقرب إلى النفور منه إلى سواه. حتى كانت تلك الليلة السعيدة التي وقع نظرها فيها على مقال (سمير النجوم) في الحياة والحب والجمال فتنفست الصعداء وبرقت أسارير وجهها وخفق قلبها خفقة غريبة لم تستطع (م) تأويلها إلا بأنها عثرت على من تريد أن تحب.

والمجلة التي نشرت مقال (سمير النجوم) أسبوعية كانت (م) تشتريها صباح كل أحد من بائع الجرائد المجاور لدارها أما اليوم فقد كتبت إلى إدارة المجلة ترجو أن تعدها مشتركة في ثلاث نسخ أرسلت بدل الاشتراك السنوي عنها سلفاً.

وكان نهار الأحد التالي فصدرت المجلة، ويا لحزن (م)! فهي بعد انتظار أسبوع كامل كان أطول من عام لم تقرأ شيئاً لـ (سمير النجوم) ويا لوحشة القلب!

(أريد أن أحب) وحي أخذ يتجسم مفعوله في نفس (م) يوما فيوما باعثاً الأمل في أعماقها؛ وفي الأسبوع الرابع قرأت ودمع الفرح تترقرق في أجفانها مقالاً ثانياً لسمير النجوم عنوانه (السعادة، الزواج والمال) فكان له أثر عميق في نفس (م) فأعادت قراءته ثانية وثالثة ورابعة حتى أوشكت أن تحفظه عن ظهر قلب.

وفي الأسبوع التالي نشر (سمير النجوم) قصيدة في 21 بيتاً بعنوان (قلبي. .) كل بيت من أبياتها يسيل رقة وجمالاً، فكررتها (م) حتى حفظتها كلها وراحت تتغنى بها صباح مساء.

وظلت (م) تتعقب آثار (سمير النجوم) عشيقها؛ مثلها الأعلى، معبودها، فتلتهمها التهاماً ولا تقرأ سواها. وفي أحد الأيام فكرت حقاً في الأمر وارتأت أن عليها أن تعمل عملاً جازماً في هذا الشأن فتقول لسمير النجوم وجهاً لوجه (أني احبك. . احبك إيه الكاتب القدير. . احبك أيها الفتى الجميل. .) فكيف تصل إلى ذلك؟ وأجهدت فكرها وإذا بوحي الحب يهبط فيلهمها أن تدعو (سمير النجوم)(برسالة تبعثها إليه بواسطة المجلة) لتناول الشاي لديها في مساء الثلاثاء القادم. ما أبدعها فكرة مصيبة سهلة التنفيذ.!

وفي هدوء الليل جلست إلى مكتبها تحبر الدعوة إلى سمير النجوم وكان القلم يرتجف بين أناملها فتكتب وتشطب وتمزق ثم تكتب وتشطب وتمزق ثم تعود فتكتب وتشطب وتمزق. .

هذه كلمة خشنة. . هذه جملة مفككة. . هذا تعبير غير صحيح. . وأخيراً استقرت على أن

ص: 76

تكون الدعوة كما يلي:

(أنا إحدى المعجبات بكتاباتك الفياضة بالروح. أتشرف بدعوتك إلى تناول الشاي في داري الواقعة. . . في الساعة الخامسة زوالية من عصر الثلاثاء القادم. أهلاً بك منذ الآن).

قرأتها ثانية وثالثة فأعجبتها، عند ذلك وضعتها في غلاف معطر وكتبت عليه: إلى الكاتب المحترم سمير النجوم - بواسطة مجلة. . . الغراء.

وحين استلقت على فراشها أرادت أن تقرأ الرسالة للمرة الأخيرة قبل أن تلتحف فتناولتها وتلتها بصوت عال كأنها تريد أن تتحسس موسيقى نبراتها فصدمتها منها الجملة الأولى (أنا إحدى المعجبات) لا. . لا لا. . يجب أن تكون هكذا (أنا معجبة ألخ. .) لماذا أتحدثإليه عن إعجاب الغير؟

ونهضت إلى مكتبها تعيد تبييض الرسالة وبعد هنيهة كانت تساورها الأحلام الجميلة. بعد ثلاث ساعات يأزف الموعد. كل شئ منظم بذوق سليم. الأواني، الطنافس، الوسائد، الصور، في وسط الغرفة رسم لها كبير يريك ثديها الأيمن تغطيه ملاءة حريرية شفافة، مجموعات الرسوم الفنية، الراديو غرامافون، السكاير، العطور. ما أعظمه يوماً في التاريخ.!

لم يبقى إلا ساعتان

لم يبق سوى ساعة ونصف!

ساعة واحدة فقط. . ثلاثة أرباع الساعة. . نصف ساعة. . ربع ساعة. . ما لقلبها يدق سريعا سريعا. .؟ ما لها لا تستطيع الثبات على المقعد. .؟ إنها تروح وتغدو كأن في صدرها ناراً تحركها. .

بقي عشر دقائق. . تسع. . سبع. .

وأحست بقلبها كأنه يريد أن يتحرك من مقره وبصدرها يعلو ويهبط. . وبأفكارها وأنظارها زائغة لا تستقر على قرار.

تن. . تن. . تن. . تن. . تن

دقت الساعة خمسة فطرق الباب على الأثر فهرولت تستقبل سعادتها المنتظرة.

فتحته قليلاً وهي تقول بصوت عذب متقطع. تفضل!

ص: 77

فدخل سمير النجوم يتوكأ على عصاه. . كان شيخاً تجاوز الستين، محدودب الظهر، غائر العينين. . . . . .

- مساء الخير سيدتي. .

- تفضل!!

وأومأت إليه أن يدخل غرفة الاستقبال وركضت إلى غرفتها فارتمت على فراشها تبكي بكاء الأطفال. . .

أنور شاءول المحامي. بغداد

ص: 78

‌رحلة إلى دير طورسينا

للأستاذ الدمرداش محمد. مدير الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف

1

كنا تسعة من الرفاقمن شعوب مختلفةجمعتنا المصادفات فأحسسنا رغبة مشتركة للقيام برحلة إلى قلب شبه جزيرة طور سيناء لزيارة ديرها الشهير (دير سانت كاترين) فاتفقنا على تنفيذ الرغبة رغم ما تنطوي عليه من مشقة ومتاعب جمة ولكنها كانت رغبة ثائرة دفعتنا إلى العمل بحماس شديد ساهم فيه الشباب منا والكهل والشيخ على حد سواء. وبعد أن استكملنا عدتنا من مرافق السفر والإقامة وتزودنا بكل ما يلزمنا من معلومات وخرائط. استأجرنا أربع سيارات من نوع معروف بالمتانة ومقاومة الصدمات والرجات العنيفة. ثم جعلنا إحداها لحمل المعدات والأخريات لركوب الجماعة.

تستغرق هذه الرحلة عادة أسبوعاً كاملاً ثلاثة أيام في الذهاب ويومين في الإقامة والتفرج على الدير ومثلهما في العودة، هذا إذا لم تصادفك عراقيل في الطريق ولكن كثيراً ما يضيع على المسافر يوم أو بعض يوم في إصلاح ما قد تصاب به سيارته من عطب أو في إنقاذها من ورطة، فقد تغوص عجلاتها في الرمل ولا يتيسر إخراجها منه إلا بجهد ومشقة، وتعتبر الكثبان الرملية من أكبر معطلات الانتقال السريع في الصحراء. وهي تعترض الطريق في كثير من الجهات، وكذلك جلاميد الصخر وهيمنتشرةفي كثير من الوديان ومجاري السهول، الا أنها أقل خطورة من الكثبان.

والمسافة بين القاهرة والدير نحو 425 كيلو متراً يقطعها المسافر عادة في ثلاثمراحل من القاهرةإلى السويس، والمرحلة الثانية إلى أبي زنيمة على خليج السويس، والمرحلة الثالثة من أبي زنيمة إلى الدير.

غادرنا القاهرةبعد ظهر يوم الخميس 23 أبريل 1931 بساعتين قاصدين السويس عن طريق الصحراء، فوصلناها

في الأصيل وبتنا فيها. وفي اليوم الثاني عند الفجر عبرنا قنال السويس إلى الضفة الشرقية عند نقطة الشط، وبعد أن فحصنا سياراتنا ورتبنا معداتنا انطلقنا نسير نحو الجنوب في طريق رملي منبسط (وعن يميننا خليج السويس وعن يسارنا تلال تتدرج في الارتفاع كلما

ص: 79

بعدت عنا نحو الشرق) وبعد ساعة من الشط مررنا بعيون موسى وهي عبارة عن واحة صغيرة قريبة من الخليج خالية من السكان وبها عين ماء راكدة ونخيل وبعض أشجار أخرى.

وعند الظهر قطعنا وادي الغرندل. وهو واد عريض يسير من الشرق إلى الغرب، كثير الشجيرات، وافر الكلأيتوسطه مجرى من الماء العذب. وبعد وادي الغرندل تتغير طبيعة الطريق فيصير صخريا في كثير من أجزائه كثير التعاريج والالتواءات بين انخفاض وارتفاع، وتقوم في جهته الغربية سلسلة من جبال عالية تحجب البحر ونسيمه. وقبيل العصر برزت أمامنا جبال المنجنيز بلونها الأدكن وعلوها الشاهق. وبعد أن مررنا بوادي الطيب وهو كوادي الغرندل كثير الماء، أنعطف الطريق نحو الغرب وبعد أن اجتزنا مضيقاً بين جبلين، انحدرنا نحو البحر إلى سهل واسع مواز للخليج تقع أبو زنيمة في طرفه الجنوبي وعلى مرفأ صغير للسفن وهي عبارة عن قرية صغيرة بها منشئات شركة المنجنيز ومستودعاتها ومساكن الموظفين والعمال ومسجد ومدرسة أولية ونقطة بوليس ومكتب للبريد والتلغراف ودكان صغير (كانتين) قد يجد فيها المسافر بعض ما يلزمه كالأطعمة المحفوظة والبنزين والسجاير، وبالقرب من الدكان المذكورة مستودع للماء العذب الذي يؤتى به من السويس في البواخر والشركة تعطيه للمسافر من غير مقابل.

كان وصولنا إلى أبي زنيمة قبل الغروب بساعة فلم نشأ المبيت بها بل تابعنا السير والطريق بعدها لمسافة ليست قصيرة ضيق يسير فوق صخور عالية تشرف على البحر من جهة وتحف بها الجبال من الجهة الأخرى، وعند الغروب وصلنا إلى نقطة بوليس لخفر السواحل واقعة على البحر تبعد عن السويس نحو 154 كيلومتراً فبتنا بالقرب منها. وفي صباح اليوم الثالث تابعنا السير جنوباً في الطريق المؤدي إلى الطور مبتعدين عن الطريق الشرقي للدير لكثرة رماله الناعمة وهو الذي تسلكهعادة سيارات مصلحة الحدود. وعند الظهر وصلنا إلى نقطة تفرع منها طريقيتجه شرقاً وهو طريق وادي فيران الموصل إلى الدير فتبعناه وبعد ساعة (وكان تقدمنا بطيئاً جداً لليونة الأرض وكثرة الجلاميد بها) دخلنا وادي فيران العظيم، وهو من أجمل الوديان التي شاهدتها. طوله نحو 120كم، كثير التعاريج وجباله جرانيتية شاهقة ذات ألوان متعددة بين أبيض وأسود وأحمر، وجوانبها

ص: 80

تكاد تكون رأسية وقممها مخروطيةتناطح السحاب والوادي كثير العشب والخيرات. وتقع واحة فيران في منتصفه طولها نحو أربعة كيلومترات، يرويها نبع من الماء الزلال يتفجر من جوانب الصخر، ويسيل في مجاري تتخلل بساتين الواحة وترويها، والواحة عامرة بالناس والحيوان والمزروعات والحشائش، ففيها من الحيوانات الجمل والغنم والماعز، ومن المزروعات القمح والشعير والبقول، ومن الأشجار النخيل والليمون المالح والتفاح والنبق والتين والزيتون والسرو والعنب والصبير وغير ذلك من الأشجار البرية التي لا أعرف لها أسماء.

كان وصولنا إلى الواحة قرب الغروب بساعة فنزلنا ضيوفاً على الحديقة التابعة للدير وبتنا تلك الليلة بها، وقد رحب بنا الراهب المشرف على الحديقة وزاد في إكرامنا فهيأ لنا عشاء شهياً مركباً من شاة مشوية وبعض البقول المطبوخة والفواكه المحفوظة.

وبعد العشاء جلست إلى الراهب أستمع لما يقول وهو من أصل يوناني يتكلم العربية برطانة ولكنها مقبولة مفهومة قال: جئت هذه الواحة موفداً من قبل المطرانية منذ ستة عشر عاماً وكنت قد جاوزت الستين فوجدت فيها ما كنت أنشده من العزلة وطيب الإقامة ولا يزيدني مرور الأيام إلا التصاقاً بها ومحبة فيها وقد عشت مع هؤلاء البدو الطيبين عيشة عائلية لم تشب عشرتنا طول هذه المدة أي شائبة، وكل ما أتمناه أن تكون حجرتي الصغيرة هذه (مشيراً إلى حجرة تتوسط الحديقة) وهي التي آوتني طول هذه السنين في قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، أتمنى أن يكون فيها لحدي كذلك. ثم سكت وأطرق برأسه، وبعد أن تثاءب طويلاً أخذ يرتل نشيداً دينياً بصوت خافت ونغمة عذبة شجية طربت لها واهاجت عواطفي حتى كدت أبكي ثم اتجه إلى ناحية في الحديقة ودعانا نرقب الهلال من ربى سربالة فكان مشهداً لم أر أجمل منه.

ومظهر الحديقة وحسن تنسيقها يدلان على ما يبذله هذا الشيخ من عناية ومجهود، ويقوم على خدمتها جماعة من البدو بإرشاده وله عندهم مكانة واحترام، وهو يعيش بينهم آمناً مطمئناً ويعيشون في كنفه مسالمين قانعين، وهو المتصرف في شئون النبع فلا يسمح لبساتين الأهالي من مائه الا بما يزيد عن حاجة حديقته. ويشرف على الواحة جبال سربالة بجدرانها القائمة وقممها الضاربة نحو السماء برؤوس مخروطية كالسهام. وقد شاهدنا بين

ص: 81

الربى مبان قديمة قيل لنا أنها منازل رومانية أثرية ومن بينها صوامع للرهبان.

وفي صباح اليوم الرابع تابعنا السير بين مناظر طبيعية رائعة خلابة وكان تقدمنا بطيئاً كاليوم السابق لتصعيد الطريق وقبل الظهر مررنا بقبة على ربوة بجانب الوادي قيل لنا أنها مقام نبي الله صالح عليه السلام وبعدها تغيرت معالم الوادي واتجهنا نحو الجنوب ثم مال بنا الطريق نحو الشرق وارتقى بنا في واد شديد الانحدار، وهناك في أحضان جبال ثلاثة وعلى ارتفاع ألف متر من سطح البحر أو يزيد، ظهرت لنا حديقة الدير بأشجارها الباسقة ومن خلفها الدير نفسه رابضاً عند سفح جبل موسى كالحصن ثابت الأركان عالي الجدران تعلوه المنازل والأبراج.

ص: 82

‌النقد

لاتينيون وسكسونيون

لم أحب أن تنتقل المناقشة بين الأستاذ العقاد وبيني من نقد اللاتينية

والثقافة السكسونية. ولست أحب أن تنقل هذه المناقشة إلى هذا

الموضوع. ولست أريد ولا أستطيع أن أجاري العقاد في المفاضلة بين

هاتين الثقافتين.

ذلك لأني أحب هاتين الثقافتين جميعاً وأوثرهما جميعاً وأريد أن أتثقف بهما جميعاً بل أريد أن أتثقف بكل ثقافة أستطيع أن أصل إليها وأن أظفر منها بحظ سواء كان ذلك من طريق القراءة في النصوص الأولى أو من طريق القراءة في التراجم. وإذا كنت أشكو شيئاً أو أضيق بشيء فهو أن قدرتي ووقتي لا يسمحان لي بأن أقرأ كل شئ، وأن آخذ من كل ثقافة بطرف قوي أو ضعيف طويل أو قصير. ولم أفهم قط مناقشة في تفضيل ثقافة على ثقافة أو إيثار ثقافة على ثقافة بالقياس إلى أديب كالأستاذ العقاد، أو إلى رجل مثلي كل همه أن ينتفع ما استطاع بالثقافات الإنسانية على اختلافها.

بل أذكر أن مسألة الثقافات المختلفة قد فرضت نفسها فرضاً في بعض الأوقات حين كنت أستطيع أن أوجه التعليم في بعض البيئات المصرية بعض التوجيه: فكرهت دائماً أن أؤثر ثقافة على ثقافة، ووقفت دائماً موقف الخصومة العنيفة من الذين كانوا يريدون أن يفرضوا على مدارسنا الثقافة اللاتينية أو الثقافة السكسونية، ودعوت وسأدعو دائماً إلى أن تكون مدارسنا وجامعاتنا ملتقى لأعظم حظ ممكن من الثقافات، وأن يترك للطلاب وأسرهم حق الاختيار بين هذه الثقافات. وقد دعوت وسأدعو دائماً إلى ألا تفرض على طلابنا وتلاميذنا لغة بعينها من لغات أوربا الكبرى، وإنما تدرس هذه اللغات الكبرى كلها في المدارس ويختار منها الطلاب وأسرهم ما يشاءون. وحجتي في ذلك أن للثقافات كلها قيمة خصبة وأن منفعتنا الصحيحة إنما تتحقق يوم نأخذ منها جميعاً بحظوظ مختلفة فلا نكون أسرى الإنجليز ولا أسرى الفرنسيين ولا أسرى الألمان وإنما نكون مصريين قبل كل شئ يأخذون بحظهم من الثقافات الحية حسب أمزجتهم ومنافعهم وحاجاتهم وطاقاتهم أيضاً. وإذا كان هذا

ص: 83

مذهبي في الصلة بيننا وبين الثقافات الحية فمن غير المعقول أن أجادل في تفضيل ثقافة على الأخرى، والذين قرءوا الفصل الذي كتبته في الرسالة يذكرون أني لم أوثر اللاتينيين على السكسونيين ولم أفضل هؤلاء على أولئك، وإنما أنكرت وما زلت أنكر على الأستاذ العقاد زعمه أن النقاد اللاتينيين يؤثرون الظواهر والأوضاع الاجتماعية ويتتبعون النكت ومراسم الصالونات على حين يعنى النقاد السكسونيون ببساطة الطبيعة وبالرجل من حيث هو رجل.

هذا بالضبط هو موضوع الخلاف بين الأستاذ العقاد وبيني. ويسرني أن الأستاذ قد برئ في الفصل الذي كتبه رداً علي من أن يكون قد أراد أن يعم اللاتينيين كلهم بهذا الحكم. فهذه البراءة في نفسها إنصاف لهؤلاء النقاد اللاتينيين اللذين جنى عليهم مدحالأستاذ أنطون الجميل لشعر شوقي رحمه الله.

وليس الدفاع عن النقاد اللاتينيين تعصباً لثقافتهم اللاتينية أو تنكراً لثقافة السكسونيين وإنما هو العلم ينبغي أن يقر الأشياء في نصابها. وليس من الحق بحال من الأحوال أن نقد اللاتينيين كله أو أكثره أو نصفه أو ثلثه كما أراد الأستاذ العقاد أن يصوره؛ وإنما النقد اللاتيني كان دائماً وما زال نقداً جدياً يقصد إلى طبيعة الكاتب أو الشاعر في بساطتها. ويقصد إلى الرجل من حيث هو رجل، وقد يصطنع في ذلك التأنق والظرف ولكن ذلك ليس عيباً له ولا غاضاً منه وإنما يعيبه ذلك ويغض منه لو لم يكن في النقد اللاتيني إلا تأنق وظرف؛ فأما وفيه بحث وتحقيق، فأما وفيه التماس لطبيعة الكاتب والشاعر في بساطتها. فقد يكون التأنق والظرف شيئاً لا بأس به ولا معنى للزهد فيه.

وعجيب جداً من الأستاذ العقاد أن يكره الاعتراف بأن النقد الحديث كله يقوم رغم تطوره واختلاف المذاهب الحديثة فيه على الثقافة الأدبية اليونانية واللاتينية وعلى ما شرعه ارسططاليس في كتاب الخطابة والشعر من أصول البيان. غريب جداً كره الأستاذ العقاد لهذه الحقيقة. فأن العقل الأوربي كله مهما تكن بيئته ومهما تكن جنسية أصحابه ومهما يكن حظه من التطور وليد العقل اليوناني الروماني سواء رضينا أم كرهنا. ولست أدري لماذا يقبل الأستاذ العقاد أن تكون طبيعة ارسططاليس ومنطقه وإلهياته ورياضيات اقليدس أصولاً لطبيعة الأوربيين المحدثين ومنطقهم وإلهياتهم ورياضياتهم ولا يرضى أن يكون نقد

ص: 84

اليونانيين والرومانيين أصلاً للنقد الحديث، مع أن اتصال الأدب الحديث بالأدب اليوناني واللاتيني مازال أقوى وأشد وأمتن من اتصال العلم الحديث بالعلم اليوناني. ولست أدري لم يرضى الأستاذ العقاد أن يكون تفكير اليونانيين والرومانيين في السياسة والتشريع أصلاً من أصول التفكير الأوربي الحديث في السياسة والتشريع ولا يؤمن للنقد بمثل هذه الصلة؟ أم هل الأستاذ العقاد ينكر أن يكون بين العقل الأوربي الحديث وبين العقل اليوناني الروماني صلة ما بين الأصل والفرع؟ فأن كان هذا مذهبه فليس من السهل أن نلتقي أو أن نتفق، بل ليس من السهل أن يلتقي الأستاذ أو يتفق مع الأوربيين أنفسهم. ومن الذي يزعم أن رقي النقد الحديث وبعد ما بينه وبين أصله القديم يقطع الصلة بينهما؟ وما عمل التطور إذن في حياة الأحياء؟ وهل بيننا نحن المتحضرين المترفين وبين آبائنا الذين كانوا يسكنون الكهوف والأغوار ويهيمون في الأحراش والغابات صلة! أم هل نحن قوم قد خلقنا أنفسنا وابتكرناها ابتكاراً؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوافق الأستاذ العقاد على أن النقد لا يمكن أن يكون علماً يذكر قبل أن يوجد علم النفس الحديث؟ أما أنا فلا أعرف أن النقد علم ولا أحب له أن يكون علماً وإنما أرى كما قلت في غير هذا الموضع أن يكون النقد مزاجاً من العلم والفن وهو على هذا النحو قد وجد منذ عهد بعيد، وجد منذ كان السفسطائيون يعلمون الناس في صقلية وأثينا صناعة الخطابة وفن الجدل. وجد حين كان أرسطوفان يوازن بين ايسكولوس وايروبيدس أمام النظارة من اللاتينيين وهو يمثل لهم قصة الضفادع أو عيد سبرس، وجد حين وضع ارسططاليس فن الخطابة وفن الشعر وأستمر في روما عند سيسرون وعند خلفائه من نقاد الرمان، ووجد ذلك عند العرب. ووجد عند الأوربيين المحدثين قبل أن يوجد علم النفس الحديث. إنما الذي نستطيع أن نوافق الأستاذ عليه هو أن هذه الفنون من النقد القديم قد أصبحت الآن لا ترضينا ولا تغنينا كما أصبحت طبيعة ارسططاليس وطب ابن سينا وفلك جالينوس لا تعجبنا ولا تغنينا، ولكن هذا الشيء وما يذهب إليه الأستاذ العقاد شيء آخر. أما أنا فاعتذر إلى الأستاذ من أني لا أستطيع أن آخذ الأشياء هذا الأخذ السهل الهين القريب ولا أن اقف بها عند أصولها القريبة وإنما أحب أن أتبعها وأن اتبعها إلى ابعد ما أستطيعأن اصل إليه من الأصول، وقد يكون ذلك عيباً من عيوب الثقافة العربية التي نشأت عليها أو من عيوب الثقافة اللاتينية التي تأثرت بها

ص: 85

ولكني حريص على هذا العيب لأني أراه الأصل الصحيح لكل بحث علمي له صبغة من الجد. ولست أشك في أن الأستاذ العقاد نفسه حريص على هذا العيب لأن الثقافة السكسونية تكبره أشد الإكبار ويخيل إلي أن قد كلن سكسونيا ذلك الرجل الذي لم يرضه أن ينتهي بالإنسانية إلى آدم فترقى بها أو تنزل في طبقات الحيوان الأخرى. ولست أدري لم نقر دروين حين يرد الناس إلى القردة ولا نقر الأديب الذي يرد النقد الحديث إلى نقد ارسططاليس؟

وبعد فأيهما أنشأ صاحبه: أهو علم النفس الذي انشأ النقد أم هو النقد الذي انشأ علم النفس الحديث؟ مسألة غريبة بعض الغرابة لأن المعروف أن علم النفس فرع من فروع الفلسفة قد تطور حتى أصبح الآن علماً تتناوله المعامل بالدرس والتحليل، والنقد فن من فنون الأدب. ومع ذلك فهذه الغرابة لا تثبت إذا فكرنا في أن هذا النقد إنما هو تحليل للآثار الأدبية وإن هذه الآثار الأدبية إنما هي صور لنفوس الأدباء الذين أنشئوها لنفوس القراء الذين استمتعوا بها. فدراسة الآداب دراسة للنفس الإنسانية. وليست هذه الفكرة جديدة ولا عصرية وإنما هي قديمة جداً عليها أعتمد ارسططاليس في كتاب الخطابة والشعر وعليها أعتمد العرب أنفسهم في فنون البيان. ومن المحقق الذي لا شك فيه أن الدراسات النقدية التي نشرها (سانت بوف) قد أعانت جداً على تكوين علم النفس الحديث. ومن المحقق الذي لا شك فيه أن (تين) كان ناقداً ولكنه ألف كتاب العقل الذي لا يزال له خطره العظيم في علم النفس الحديث. فليس وجود النقد الحديث نتيجة لنشأة علم النفس، وإنما النقد مؤثر جداً في نشأة علم النفس ومتأثر جداً بهذا العلم، وكلاهما قديم وضع اليونان أصوله الأولى. وأنا معتذر إلى الأستاذ العقاد من الرجوع دائماً إلى اليونان فقد أراد الله أن نرجع إليهم دائماً كل ما أردنا تاريخ مظهر من مظاهر الحياة العلمية أو الفنية أو الأدبية.

وهنا أريد أن أعاتب الأستاذ العقاد عتاباً رفيقاً. فقد زعم الأستاذ أن (سانت بوف) لا يشهد لمذهبي في نقد اللاتينيين، وإنما يشهد لمذهب الأستاذ لأنما في (سانت بوف) من مزايا راجع إلى تأثره بالثقافة السكسونية والدم السكسوني. ذلك أن أم سانت بوف من أصل إنجليزي وأنه كان يؤثر الشعر الإنجليزي على الشعر الفرنسي في بعض الفصول التي كتبها عن الإنجليز، وفي بعض رسائله الخاصة.

ص: 86

أما أن (سانت بوف) كان يؤثر الشعر الإنجليزي على الشعر الفرنسي فذلك شيء مشكوك فيه جداً لأن (سانت بوف) لم يكن يؤثر شيئاً أو قل كان يؤثر كل شيء أو قل ان أردت التحقيق أن أخص ما يمتاز به هذا الناقد العظيم أنه كان شاكاً مسرفاً في الشك يقر اليوم شيئاً ويعدل عنه غداً ويجوز أن يرجع إليه بعد غد. ولقد أراد (أميل فاجيه) أن يشخص عقلية (سانت بوف) فقال أنه لم يؤمن بشيء ولم يقتنع بشيء ولم يؤثر شيئاً على شيء حتى حين أعتنق الكاثوليكية في الدين والرومنتسم في الأدب، وخدع عن نفسه زعماء الدين حتى هم (لامنيه) أن يستصحبه إلى روما، وزعماء الرومنتسم، حتى فتن عظيمهم (فيكتور هيجو).

كان (سانت بوف) إذا عني بشيء جديد من شعر أو نثر أو تاريخ فتن به فتنة المؤمن الفاني في الأيمان حتى إذا أتقنه وقتله بحثاً وفهماً زهد فيه وانصرف عنه ونفر منه نفوراً شديداً. ولم يكن هذا دأبه في حياته العقلية والأدبية فحسب. بل كان دأبه في حياته العملية والشعورية. فقد كلف بالمذاهب السياسية كلها وزهد فيها كلها وكلف بالكاثوليكية حتى فتن الكاثوليك وبالبروتستنطية حتى شغف به البروتستنطيون. وقال عنه (فاجيه) انه لم يكن يستطيع ان يحب امرأة بعينها او كان يستطيع أن يحب النساء جميعاً. وإذن فلا ينبغي ان يخدعنا (سانت بوف) حين يثني على الشعر الإنجليزي ثناء المفتون به، فلعله لم يكد يفرغ من هذا الثناء حتى أنكره. وهو كذلك قد أثنى على الشعر الفارسي حين ظهرت ترجمة الشهنامة ثناء المفتون به وهو مع ذلك لم يعرف الفارسية ولم تفتنها ثقافته حقاً، وهب هذا الناقد العظيم قد آثر الشعر الإنجليزي حقاً على الشعر الفرنسي ولم يخدع نفسه ولم يخدع الناس عن رأيه الصحيح في ذلك فمن ذا الذي يزعم مخلصاً أن هذا يكفي لإثبات أن الناقد مدين بمزاياه للثقافة الإنجليزي؟ أؤكد للأستاذ أني لم أعتقد يوماً من الأيام أنه هو مدين حتى بوحي الأربعين وغيره من دواوينه ولا بكتابه عن ابن الرومي ولا بكتابه عن جوت ولا بأبحاثه الكثيرة الممتعة لثقافته الإنجليزي الخصبة التي يحبها ويذود عنها. وإنما هو مدين بهذا كله كما يرى (سانت بوف) لشخصيته ولبيئته الخاصة التي نشأ فيها عقله والتي لا تكاد تتجاوز الكتب التي قرأها والمعاني التي فكر فيها والمسائل التي عرض لدرسها. فحب (سانت بوف) لشعر الإنجليز إن صح لا يجعله مديناً بأدبه للإنجليز. وأين يقع تأثير الثقافة

ص: 87

الإنجليزي في (سانت بوف) من تأثير الثقافة الفرنسية فيه؟ والذي كتبه سانت بوف عن الإنجليز وعن الأجانب كلهم ليس شيئاً يذكر بالقياس إلى ما كتبه عن الفرنسيين في كتبه الضخمة المدهشة في هذه المجلدات الستة عن بورويال وفي هذه المجلدات الثمانية عن الصور، وفي هذه المجلدات الثلاثة والعشرين التي سماها أحاديث الأثنين، وفي هذين المجلدين عن شاتوبريان وأصحابه. أين يقع ما كتبه (سانت بوف) عن الإنجليز مما كتبه عن الفرنسيين بل مما كتبه عن اليونانيين واللاتينيين؟ فالأستاذ العقاد يعلم بالطبع أن (سانت بوف) عين أستاذاً للأدب اللاتيني في الكوليج دفرانس، ولما منعه الطلاب من إلقاء دروسه عن فرجيل لأنه كان يؤيد سياسة الإمبراطورية الثانية طبع الدروس التي لم يستطع إلقاءها فكان منها كتاب قيم عن صاحب الانيادة. وقد كتب (سانت بوف) عن كثير من الشعراء اليونانيين وعن الإسكندريين منهم خاصة. فما بال الأستاذ العقاد يرى تأثر سانت بوف في نقده بالثقافة الإنجليزي ولا يرى تأثره بالثقافة اللاتينية واليونانية لأنه أحب شعراء اللاتين واليونان، وبالثقافة الإيطالية لأنه كتب عن شعراء إيطاليا في عصر النهضة، وبالثقافة الألمانية لأنه كتب عن جماعة من الألمان وعن جوت؟ أما أن أم الناقد العظيم كانت من أصل إنجليزي فالأستاذ يبالغ في نتيجته، فقد كانت أم (سانتبوف) نصف إنجليزية كما تقول دائرة المعارف البريطانية، وذلك أن أباها كان بحاراً فرنسياً وأن أمها كانت إنجليزية. فإذا كان الأستاذ العقاد يرى أن هذا يكفي ليكون (سانت بوف) مديناً بمذهبه في النقد للإنجليز فليسمح لي بألا أذهب معه في هذه الطريق لأنها طريق شديدة الالتواء. للوراثة أثرها في تكوين الفرد ولكن من الإسراف أن نذهب في تقدير هذا الأثر مذهب الأستاذ ومن الغريب أن الذين أرادوا أن يدرسوا مذهب (سانت بوف) في النقد لم يحفلوا بهذا العنصر الإنجليزي في تكوينه، فلم يلتفت (فاجيه) ولا (لنسون) إلى أم (سانت بوف) كثيراً. أما تين فرأي الأستاذ العقاد فيه عجيب، فهو يرى أني لم أوفق حين استشهدت به أيضاً لأن عمه علمه الإنجليزية في صغره ولأن تين شغف بالآداب الإنجليزية فكتب لها تاريخاً، ولكن الأستاذ العقاد نفسه تعلم الإنجليزية صغيراً وشغف بها وقرأ كثيراً من الآداب الإنجليزية. والثقافة العربية ضعيفة بالقياس إلى الثقافة الإنجليزية. ومع ذلك فأنا لا أطمئن إلى الحكم بأن الأستاذ مدين بأدبه للإنجليز. فكيف إذا عرفنا أن الثقافة الفرنسية التي نشأ

ص: 88

فيها تين ونبغ بفضلها قوية تستطيع أن تثبت للثقافة الإنجليزية، وأن تين لم ينبغ بتاريخه للآداب الإنجليزية وإنما نبغ بكتب أخرى أجل خطراً من هذا الكتاب، نبغ بكتابه عن لافونتين الذي نال به الدكتوراه من السوربون، ونبغ بكتابه الضخم الذي أرخ فيه فرنسا الحديثة، ونبغ بكتابه عن العقل، ونبغ بكتابه في فلسفة الفن. فهل يظن الأستاذ بعد هذا كله أني لم أوفق حين اتخذت سانت بوف وتين أعلى مثل للنقد اللاتيني الفرنسي؟ وما ذنبي أنا إذا كان الله قد أراد أن يكون هذان الرجلان رمزين خالدين لحياة الأدب الفرنسي في القرن الماضي؟ وقد بعدنا جداً عما كنا بسبيله من تشخيص النقد الفرنسي اللاتيني، أهو نوع من تتبع النكتة وتأنق الصالونات أم هو نقد بأدق معاني كلمة النقد؟ لن ينفع الأستاذ العقاد أن يحتاط وأن يقول أنه لم يرد النقاد الفرنسيين جميعاً، وإنما أراد كثرتهم أو قلتهم، فليس من الحق أن كثرة النقاد الفرنسيين أو قلتهم كما يظن الأستاذ. وإنما الحق الذي لا سبيل إلى الشك فيه أن السمة الفنية الخالصة هي أظهر ما يتصف به النقد الفرنسي، وأن من ظلم العلم والحق أن يقال في هذا النقد غير ذلك. وأما بعد فهل يسمح لي كتاب آخرون أرادوا أن يخوضوا معنا في هذا البحث بأن أتحدث إليهم حديثاً قصيراً ولكنه لا بد منه. فأما أحد هؤلاء الكتاب فالأستاذ سلامة موسى الذي تفضل فجلس مجلس القاضي وأصدر بين الثقافتين حكم الواثق المطمئن في أسطر ما أحسبها تتجاوز العشرة، ووجد طريقاً إلى أن يقارن هذه الأسطر القليلة بين الإنجليز والفرنسيين وبين أناطول فرانس وبرنارد شو وأن يقول أن الفرنسيين قادوا العالم في القرن الثامن عشر وإن الإنجليز يقودون العالم الآن. أظن أن الأستاذ سلامة موسى يوافقني على أن هذه المسألة أعسر وأعظم خطراً من أن يقضي فيها بجرة قلم وبهذا الإيجاز الذي لا يمكن أن يوصف بأقل من أنه يدعو إلى الابتسام.

وأما الكاتب الآخر فهو الأستاذ محمد علي غريب، فقد كتب الأستاذ في البلاغ فصلاً أشهد أنه أضحكني وأضحكني ضحكاً فيه إعجاب كثير. فهو يسخر من العقاد ومني لأنا نتناقش في مسألة كهذه لا تصلح موضوعاً للمناقشة ولا تنتهي المناقشة فيها إلى نتيجة عملية. وله كل الحق في أن ينكر هذه المناقشة لولا أنه يخطئ حين يطلب إلى كل بحث أو مناقشة أن تكون له نتيجة عملية. قد تكون المناقشة خيراً في نفسها وقد يكون من القصور أو التقصير

ص: 89

ألا يكتب الناس إلا ليحققوا غرضاً عملياً، وقد يكون إحقاق الحق في نفسه أهم غرض ينبغي أن يكتب من أجله الكتاب. وقد يكون الأستاذ مخطئاً أيضاً حين يزعم أن ليس في مصر نقد أدبي مصري ويكفي أنه هو ينقد الأستاذ العقاد وينقدني. وقد يكون الأستاذ مخطئاً أيضاً حين يزعم أننا نجادل في الأدب الأجنبي ولا ننتج شيئاً، فأنا أظن أن الأستاذ العقاد قد أنتج شعراً ونثراً وأظن أني لم أنفق حياتي عبثاً. وأنا أحب أن ينقدنا الناقدون بل أنا شديد الحرص على هذا النقد وقد أفتن به أحياناً، ولكني أحب أيضاً أن يتلقى هؤلاء الناقدون نصحنا لهم لقاء حسناً، لعل أحسن ما ننصح به لهم ألا يسرفوا على أنفسهم ولا على الناس.

ص: 90

‌الكتب

ضحى الإسلام

ألفه العلامة أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر في 450 صفحة من القطع الكبير وقدم له (الدكتور طه حسين بهذه المقدمة) وستعود الرسالة إلى هذا الكتاب القيم فنقول كلمتها فيه. قال الدكتور:

أراد ناقد من نقاد التمثيل أن يثني على قصة راقته، وملكت عليه إعجابه، وكان صاحب القصة له صديقاً حميماً فتوقع أن يلام في الثناء عليه، ولكنه لم يتحرج من إهداء هذا الثناء إلى صديقه في غير تردد ولا تحفظ. وأعلن في صراحة (أعجبتني) أن من خيانة الأصدقاء أن تتخذ صداقتهم وسيلة إلى جحود مالهم من حق وإخفاء مالهم من فضل، وتجاملهم هذه المجاملة السلبية التي تدفعك إلى أن تتردد وتتحفظ، وتقدم إليهم ثناء ممتقعاً شاحباً، حتى لا تتهم بالإغراق، ولا توصف بالمحاباة. وحتى لا يسوء ظن قرائك بنصيبك من الأنصاف، وحظك من الاستقلال.

رأى ذلك الناقد (وأنا أرى معه) أن هذا النحو من معاملة الأصدقاء خيانة منكرة، وظلم قبيح. وأنه فالوقت نفسه نوع من اتهام النفس، والإسراف في سوء الظن بها. فليس ينبغي للناقد أن يصدر (فيما أرى من رأي) عما يقول الناس فيه أو ما يمكن أن يقولوا فيه، وإنما هو مدين لنفسه ولقرائه بما يعتقد أنه الحق الخالص، سواء أرضي الناس أم سخطوا، وسواء أوافق رأيه هوى القراء، أم أنحرف عنه.

وعلى هذا النحو من الاستعداد عمدت دائماً إلى النقد، واجتهدت ما استطعت أن لا أظلم الصديق لصداقته، ولا الخصم لخصومته، وليس الظلم مقصوراً على أن تغضَّ من العمل الأدبي أو العلمي، أو تنقص من قيمته لأن صاحبه صديق لك، أو حرب عليك. بل هناك ظلم أقبح من هذا وأشنع، وهو أن تثني على من لا يستحق الثناء أو تغلو في حمد من لا يستحق الحمد إلا بمقدار، وأن تحمد الخصم لأنه خصم، ولأنك تكره أن يقول الناس فيك خاصمه فعجز عن إنصافه وتحامل عليه.

ولست أريد أن أخون صديقي (أحمد أمين) بالإسراف في الثناء عليه، ولا أن أخونه بالغض منه والتقصير في ذاته، وإنما أريد أن أنسى صداقته، وأهمل (ولو لحظة قصيرة) ما بيني

ص: 91

وبينه من مودة كلها صفو وإخاء استطعنا أن نجعله فوق ما يتنافس الناس فيه من المنافع وأغراض الحياة، وإنما أريد أن أنصفه، وأشهد لقد فكرت وقدرت، وجهدت نفسي في أن أجد شيئاً من العيب ذي الخطر أصف به هذا الكتاب الذي أقدمه إلى القراء فلم أجد، ولم أوفق من ذلك إلى قليل ولا كثير.

وليس ذنبي أن (أحمد أمين) قد قصد إلى عمله في جد وأمانة وصدق، وقدرة غريبة على احتمال المشقة والعناء، والتجرد من العواطف الخاصة. والأهواء التي تعبث بالنفوس، فوفق من ذلكإلى أعظم حظ يستطيع العالمأن يظفر به في هذه الحياة. نعم؛ وليس من ذنبي أن (أحمد أمين) قد استقصى فأحسن الاستقصاء، وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط فوفق إلى الصواب. ليس من ذنبي هذا ولا ذاك، وليس من ذنبي أن (أحمد أمين) بعد هذا كله، وبفضل هذا كله، قد فتح في درس الأدب العربي باباً وقف العلماء والأدباء أمامه (طوال هذا العصر الحديث) يدنون منه ثم يرتدون عنه، أو يطرقونه فلا ينفتح لهم، ووفق هو إلى أن يفتحه على مصراعيه، ويظهر الناس على ما وراءه من حقائق ناصعة، يبتهج لها عقل الباحث والعالم والأديب، ليس شيء من هذا ذنبي أنا! وإذا لم يكن بد من أن يلام أحد لأن عالماً مصرياً قد وفق إلى هذا الفوز المبين، أهدي إلى اللغة العربية كتاباً لم يسبق إلى مثله، فليُلَم هذا العالم المصري نفسه، وليعاقب (أحمد أمين) لأنه ظفر بهذا الفوز.

لقد اختار (أحمد أمين) لكتابه عنوانه هذا (ضحى الإسلام) وهو لا يقدر إلا أن الضحى يأتي بعد الفجر، وأنه وقد أظهر (فجر الإسلام) يجب أن ينغمس في ضحاه. أما أنا، فكنت أفهم معه هذا الفهم، وأذهب معه هذا المذهب، ولكني لم أكد أبدأ معه قراءة الكتاب حتى أخذت أحس شيئاًلم أرد أن أتحدث به إليه، مخافة أن يكذب ظني مضينا في قراءة الكتاب، ولكننا مضينا، ومضينا حتى أتممنا هذا الجزءالذي نقدمه إلى القراء. فإذا هذا الشيء الذي كنت أحسه يزداد وضوحاً وجمالاً وقوة. وإذا ظني يصدق شيئاً فشيئاً حتى يصبح يقيناً وإذا أنا مؤمن إيماناً لا يشوبه الشك بأن هذا الكتاب الذي أنا سعيد بتقديمه إلى القراء يلقي على تاريخ الإسلام في العصر العباسي الأول نوراً رائعاً وضاء قوياً هو أشبه شيء بنور الضحى.

فالكتاب (ضحى الإسلام) لأنه يدرس تاريخ الحياة العقلية للمسلمين في القرن الثاني

ص: 92

للهجرة، وهو (ضحى الإسلام) لأنه قد جلى هذه الحياة وأظهرها للناس كأوضح ما يمكن أن تكون، وكأجمل وأبهى ما يمكن أن تكون، ولست أدري أيهما أهنئ بهذا الفوز (أحمد أمين) لأنه قد جدوألح ومضى في الجد وإلحاح، حتى انتهى إلى هذا التوفيق، أم الجامعة المصرية لأنها قد اهتدت إلى (أحمد أمين) ووكلت إليه ما وكلت من أنواع الدرس وفنون البحث، ولعل الخير كل الخير في أن أصرف هذه التهنئة عن (أحمد أمين) وعن الجامعة إلى الذين يقرءون اللغة العربية، ويعنيهم أن يؤرخوا آدابها، ويستكشفوا ما اشتملت عليه من الكنوز التي كانت مجهولة إلى الآن، هؤلاء أحق بالتهنئة لأنهم سيسيرون منذ اليوم إلى أغراضهم في طريق واضحة سهلة معبدة، يغمرها نور الضحى.

لن تكون حياة المسلمين منذ اليوم، كما كانت من قبل، غامضة مضطربة، يتحدث عنها مؤرخو الآداب بالتقريب لا بالتحقيق، ويقولون فيها بالظن لا باليقين. ذلك عصر قد انقضى، وألقى بينه وبين الذين سيؤرخون الآداب ستار صفيق. ألقاه (أحمد أمين) وأصبح الذين يقصدون إلى تاريخ الأدب قادرين منذ اليوم على أن يحققوا ويستيقنوا، ويسيروا فيبحثهم على بصيرة وهدى.

ما أكثر ما كنا نضيق صدراً بهذه الرموز الغامضة التي كان يلجأ إليها مؤرخو الآداب حين كانوا يذكرون تطور الحياة الإسلامية (أيام بني العباس) بفضل الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم. وبفضل اتصال العقل العربي بالعقول الأجنبية، وبفضل الترجمة والمترجمين؛ والتأليف والمؤلفين. كانت هذه الألفاظ كلها رمزاً إلى الآن تدل على أشياء كثيرة، ولكنها لا تدل على شيء. تُصَوِّرُ أمام الباحثين صوراً مختلطة مضطربة لا تحصى ولا تستقر، فهي ذاهبة أبداً، جائية أبداً، غامضة أبداً. نسعى إليها، ولا نظفر بها. أو يصرفنا عنها الكسل العقلي؛ الذي هو آفة حياتنا الأدبية في هذا العصر.

أما الآن فقد ضبطت هذه الصورة أحسن ضبط وجليت أحسن تجلية، وأصبحنا إذا ذكرنا تطور الأمة العربية أو الأمم الإسلامية في القرن الثاني للهجرة نعرف بل نحس حقيقة هذا التطور ومصدره، والآماد التي انتهى إليها، وأصبحنا إذا ذكرنا الحياة الاجتماعية للمسلمين في هذا العصر لا نقول كلاماً مبهماً، وإنما نقول كلاماً يدلعلى ما يراد به أحسن دلالة وأجلاها؛ يدل على طبيعة هذه الحياة وما تقوم عليه من اتصال بين الأفراد والجماعات،

ص: 93

على اختلاف الأجناس والبيئات والأمزجة، يدل على طبيعة الزواج الذي كان يكون بين هؤلاء الناس فيخلط دماءهم خلطاً، أو قل يمزجها مزجاً، يدل على طبيعة الرق الذي محا الشخصيات الفردية والاجتماعية لكثير من الأفراد والأمم، وصهرها كلها في مرجل واحد هو الدولة الإسلامية، فكون منها شخصية جديدة كل الجدة، طريفة كل الطرافة، هي شخصية الأمة الإسلامية.

نعم ويدل على هذه الطبقات التي كان يتألف منها الجسم الاجتماعي، للأمة الإسلامية، والتي كانت تتقسم فيما بينها الأعمال الكثيرة المختلفة، التي يحتاج إليها هذا الجسم لا ليحيا فحسب، بل ليرفه هذه الحياة ويرقيها، ويأخذ فيها بأعظم حظ ممكن من الترف المادي والعقلي والشعوري جميعاً.

وإذا ذكرنا الثقافة اليونانية، فلن نفهم منها منذ اليوم هذا المعنى المبهم الذي نرمز إليه بالفلسفة أحياناً، ولكنا سنعرف بالضبط مقدار ما أخذ العرب عن اليونان، وكيف أخذوه، ومن أين أخذوه، وكيف أساغوه أولاً، ثم تمثلوه بعد ذلك؟. وقل مثل هذا في الثقافة الهندية والفارسية، أستغفرالله بل خيراً من هذا، قل أكثر جداً من هذا فما أعلم أن باحثاً عن تاريخ الأدب العربي وفق إلى تحقيق الصلة بين العرب والهند، أو بين العرب والفرس إلى مثل ما وفق إليه (أحمد أمين) وهو (بعد هذا كله) أول من بسط هذا في اللغة العربية بسطاً يطمئن إليه الباحث الذي يسلك إلى بحثه طريق الجد والصدق، لا طريق العبث والتضليل.

وإذا ذكرنا الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية، فلن نفهم منهما منذ اليوم ما كنا نفهمه من قبل، من أن اتصال المسلمين باليهود والنصارى قد أحدث بين أولئك وهؤلاء ضروباً من التأثير العقلي العام.

ولكننا سنعرف طبيعة هذا التأثير ومقداره ومصدره، ثم سنضع أيدينا على مظاهر هذه الحياة الجديدة، فيما أنتج المسلمون من أدب وعلم وفن.

أستطيع أن أقول إن (أحمد أمين) حينما انتدب لتأليف هذا الكتاب قد أتخذ لأمة المحارب، ووضع أمام عينيه غرضاً أقسم ليبلغنه، أو ليعدلن عن إظهار الكتاب. وهذا الغرض: هو تخليص الحياة العقلية الإسلامية في القرن الثاني من الغموض والإبهام، وما زال بهذا الغموض والإبهام حتى أجلاهما عن موقفهما، وانتزع منهما حياة المسلمين العقلية إلى

ص: 94

منتصف القرن الثالث للهجرة. وكان يزورني كل أسبوع ومعه طائفة جميلة رائعة من الغنائم التي كان يكسبها في هذه الحرب الشاقة المتصلة، فأقاسمه سعادته بالظفر، واغتباطه بالفوز.

ولست أحب أن تقدر أني أعمد في هذا الكلام إلى ضروب المجاز وألوان التمثيل لأزين القول وأنمقه، ولكني أحب أن تستيقن أني إنما أقول الحقخالصاً من كل زينة، بريئاً من كل تنميق. فقد كان تأليف هذا الكتاب حرباً عنيفة طويلة مملة بين المؤلف وبين الغموض والإبهام. وكان المؤلف كلما تقدم خطوة وقف ينظم انتصاره، ويصوغ ثمراته هذه الصيغة الجميلة التي ستراها في فصول هذا الكتاب ويتأهب في الوقت نفسه لهجمة أخرى يكسب بها موقعة أخرى، وينتصر بها انتصارا جديداً.

ومع أن المؤلف قد أنفق جهداً قوياً في أن يجنبك مشاركته فيما كان يحتمل من عناء، ويلقى من مشقة، ويذوق من مرارة الصبر والمصابرة، ومطاولة المسائل المعضلة التي كانت تعرض له. فأنت واجد أثر هذا كله في فصول الكتاب، حين ترى المؤلف يسير في أناة تشبه البطء، ويعرض عليك جزئيات ضئيلة، تشبه أن تكون إغراقاً في التفصيل، وتقليداً للجاحظ في حب الأستطراد، ولكن إثْبُتْ لهذا البطء، واصبر لهذا التفصيل، وامض مع الكاتب في رفق وأناة فسترى أن نتيجة هذا الثبات والصبر والرفق أقوم جداً مما كنت تظن، وأنفس جداً مما كنت تنتظر، وأن الكاتب لم يتورط فيها تورطاً، وإنما قصد إليها قصداً، وتعمدها تعمداً. لأنه لم يكن يستطيع أن يعدل عنها حتى يضحي بالأمانة العلمية، والتحقيق الذي يفرضه البحث الحديث فرضاً على العلماء. ولا تَخَفْ من هذا البطء، ولا تشفق من هذه المطاولة، فلن يعترضك ملل، ولن يفل من حدك سأم، ولن تضيق بالكتاب لحظة، فقد عرف الكاتب كيف يهون عليك طول الطريق إلى غايتك، وكيف يبث أمامك في هذه الطريق من الزهر ما يستهوي عينك، وكيف ينشر حولك في هذه الطريق من الأصداء الحلوة ما يخلب أذنك. وأنا زعيم بأنك ستحتاج إلى أن تعيد قراءة بعض الصحف وبعض الفصول، وسترى أن الكاتب على إبطائه وأناته مسرع مسرف في السرعة بعض الأحيان.

أشهد لقد وفق (أحمد أمين) في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية معاً: أستكشف الحياة العقلية الإسلامية استكشافا لم يُسْبَقْ إليه، ثم عرضها عرضاً هو أبعد شيء عن جفاء العلم

ص: 95

وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته.

فلينعم القراء بفصول هذا الكتاب، ولينعم المؤلف بما ينعم به الظافر حين ينتهي إلى فوز لا تشوبه شائبة. ولتكن هذه الحياة الجادة الخصبة المنتجة (في تواضع ولين جانب) التي يحياها (أحمد أمين) درساً نافعاً، ومثلاً صالحاً للذين يريدون أن يحيوا في مصر حياة العلماء.

طه حسين

ص: 96

‌المنهل الصافي

لأبي المحاسن بن تغرى بردى

للأستاذ عبد الله عنان

من آثارنا التاريخية النفيسة كتاب (المنهل الصافي، والمستوفي بعد الوافي)، تأليف أبي المحاسن بن تغرى بردى المؤرخ المصري الكبير المتوفي سنة 874هـ (1469م) وهو معجم ضخم للتراجم يقع في ثلاثة مجلدات كبيرة، وتوجد منه نسختان خطيتان بدار الكتب المصرية. وفيه يترجم المؤلف أعلام الإسلام منذ أوائل الدولة التركية ويبدأ بالمعز أيبك التركماني زوج شجرة الدر وملك مصر (648 - 55هـ) أعني منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي إلى منتصف القرن الخامس عشر، ويفيض بوجه خاص في سير أعلام مصر والشام من ملوك وساسة وجند وعلماء وأد باء، ويترجم أيضاً بعض ملوك النصرانية وأمرائها في هذه العصور، مرتباً ذلك كله على حروف المعجم. وقد جعل أبو المحاسن مؤلفه تكملة أو ذيلاً لمعجم الصفدي الشهير (الوافي). ولهذا الأثر قيمة تاريخية خاصة، لأن مؤلفه وهو من أمراء البلاط القاهري في القرن التاسع الهجري لم يتأثر في وضعه بمؤثرات أو أهواء خاصة، ولا سيما فيما يتعلق بترجمة معاصريه، حسبما يشير إليه هو في مقدمته، إذ يقول إنه وضع كتابه (غير مستدعى إلى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والأخوان ولا لتأليفه وترصيعه من أمير ولا سلطان). والمعنى الذي يقصده المؤلف بهذه الإشارة ظاهر؛ فقد كانت معظم التراجم في عصره توضع بوحي معين أو تحقيقاً لشهوات لخصومات السياسية والأدبية، التي جعلت من كتاب القرن التاسع ومؤرخيه أحزاباً أدبية متنافرة متخاصمة. ولكن أبا المحاسن يقدم لقارئه سيَّر معاصريه والقريبين من عصره في صور أكثر استقلالاً وحرية في التقدير والحكم.

هذا الأثر المصري النفيس ما زال مخطوطاً لم ينشر، كمعظم آثارنا الأدبية. ولكن المستشرق المعروف الأستاذ (فييت) مدير دار الآثار العربية، أخرج لنا منذ عهدقريب بالفرنسية مجلداً ضخماً عن محتويات (المنهل الصافي) وسماه بنفس الأسم، ونشر ضمن مجموعة المجمع العلمي المصري، وكان ضمن مجلدات ثلاثة من وضعه قدمها أخيراً إلى جلالة الملك. والواقع أن كتاب مسيو فييت هذا لا يمثل كتاب (المنهل الصافي) لا في كثير

ص: 97

ولا قليل من محتوياته. فهو على رغم كونه يقع في 480 صفحة كبيرة، ليس أكثر من فهرس الكتاب الأصلي، يمهد له مسيو فييت بمقدمة صغيرة يصف فيها الكتاب ومحتوياته، ويحصي عدد التراجم التي يتضمنها (وعددها 2822ترجمة) حسب صفات أصحابها من أمراء وقادة وساسة وتجار وأدباء وعلماء. . ألخ، ثم يكتفي في كل ترجمة بذكر أسم صاحبها وتاريخ مولده ووفاته ورقم الورقة التي يشغلها من المخطوط الأصلي؛ ويذكر المراجع الأخرى التي تشير إلى هذه الترجمة، وأخصها كتاب النجوم الزاهرة لنفس المؤلف (أبي المحاسن) وخطط المقريزي، وإبن حجر، والسخاوي. . ألخ، ثم يذيل ذلك بفهرس أبجدي عام. وهذا مجهود له قيمته من الوجهة العلمية بلا ريب. ولكنا نلاحظ أن الفائدة التي تترتب عليه بالنسبة لكتاب المنهل الصافي ليست كبيرة، فهو كما قدمنا فهرس أو دليل فقط للبحث في الكتاب الأصلي. والتراجم التي يتضمنها الكتاب الأصلي مرتبة على حروف المعجم، ولم يكن عسيراً على الباحثين أن يستخرجوها منه. وليس مما يقدم البحث كثيراً أن يرشدنا مسيو فييت إلى أرقام المجلدات والصحائف، وأن يحيلنا في التراجم إلى مراجع يعرفها كل مشتغل بالتاريخ المصري. وكان خيراً لو أن مسيو فييت بذل هذا المجهود في نشر الكتاب نفسه أو جزء منه، لأن هذا الفهرس الضخم يقع في نحو الخمسمائة صفحة، أعني نحو نصف المخطوط الأصلي، وقد أنفق في إخراجه ما يكفي لإخراج مجلد ضخم على الأقل من المخطوط الأصلي. على أننا نرجو أن تتقدم لنشر هذا الأثر المصري النفيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، إلى جانب كتاب (السلوك في دول الملوك) الذي تشتغل الآن بطبعه فتسدي بذلك إلى التاريخ المصري وإلى البحث فيه خدمة جليلة.

ص: 98