الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 300
- بتاريخ: 03 - 04 - 1939
كذبة إبريل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
في أول إبريل يحلو لبعض الناس أن يكذبوا، ويطيب لهم أن يزعجوا بهذا الكذب إخوانا لهم، أعزاء عليهم، إثراء عندهم. ولو اختصوا بالكذب المثير أو المزعج، أو الذي يورث المتاعب، غير الأوداء والأصدقاء: أي الخصوم والأعداء، لكان هذا أقرب إلى العقل وأشبه بما ينبغي أن يكون، فما يبالي المرء على أي حال من السوء يكون عدوه، وكلما زاد الشر الذي يقع فيه أو ُيمنى به العدو كان ذلك أشرح لصدر عدوه وأثلج لقلبه. ولكن الصديق شيء آخر، والإنسان جدير أن يخجله أن يركب صاحباً له بدعاية مؤذية، وأن يضحك ويفرح بما ينزله بهذا الصاحب من السوء
وقد لقيت في أول إبريل هذا من المتاعب ما بغضه إلي، حتى لتمنيت على الله أن يلههم الناس حذف الشهر كله، وإسقاطه أجمعه من تقويم العام
صبحني واحد، وأنا أجلس إلى مكتبي، بأن برقية وردت بأن ألمانيا قذفت بجيشها على أرض بولندا، وأن القتال يدور بين الطلائع النازية وقوات الدفاع، فسألته:(أتتكلم جادّاً؟)
قال وهو يشير إلى ورقة في يده (هذه هي البرقية. اسمع ترجمتها)
فتفرست في وجهه وحدجته بنظرة فاحصة، فلم أر ابتساماً، ولا ما يشي بأنه يهم بالابتسام. فقلت:(إني كنت، وأنا آت إلى هنا، أحدث نفسي بأن أكتب في التصريح الذي ألقاه المستر تشمبرلن أمس في مجلس العموم البريطاني، وكنت أريد أن أقول إنه من العوامل المرجحة لكفة السلم؛ ولكنك تروي لي نبأ غريباً، لا يكاد يقبله عقلي، فهات لي هذه البرقية لأقرأها فإني لا أكاد أفهم، واحسبني سأجن، فما أعرف لماذا تجازف ألمانيا هذه المجازفة التي ليس لها أي موجب، ولا من ورائها أي خير لها أو لسواها)
وانتزعت منه الرقعة فإذا هي قديمة وتاريخها أول مارس، وليس فيها أي ذكر لألمانيا أو بولندا! وماذا يبالي صاحبنا هذا أن يهدم لي الدنيا، وأن يحيلها حولي أنقاضاً، وأن يدير لي رأسي حتى ما أعود أعي شيئاً؟!
وبعد نحو ساعة، طُلبت إلى التلفون، فقمت إليه، فإني أكره أن تكون آلته على مكتبي، أو في الغرفة التي أنا فيها، ولا أعرف ما هو أشد إزعاجاً لي من صوت جرسه حين يدق
فجأة، وقلت وأنا أضع السماعة على أذني (نعم)
فسمعت صوت زوجتي يقول لي: (أبو خليل. . . مبروك!)
فسألتها مستغرباً: (ماذا؟ مبروك إيه؟)
قالت: (بالهناء والرفاء والبنين! لماذا لم تخبرنا لنفرح لك معك؟)
قلت: (عن أي شيء تتحدثين؟ رفاء، وبنين. . .؟! ما هي الحكاية؟)
قالت: (برقية وردت بتهنئتك بعروس جديدة. . . هل أقرأها لك في التليفون؟ أو يكفي أن أذكر لك اسم مرسلها؟! وقبل البرقية دق الباب رجل وسأل عنك، فعرف أنك خرجت فكلفنا أن نبلغك تهنئاته القلبية. فلم نفهم، ولكنه انصرف قبل أن نتمكن من سؤاله. على أن البرقية ما لبثت أن جاءت ففهمنا كل شيء! مبروك، على كل حال)
فأيقنت أن أكاذيب إبريل كلها ستقذف عليَّ في هذا اليوم السعيد. وقلت لها: (آه، كذبة إبريل. . . اشكري عني المهنئين والمهنئات. فإني الآن مشغول بالعروس، أبثها حبي، وأناجيها بما يجن قلبي لها! ألا تسمعين؟)
فألقت السماعة، ولم تجب! والمصيبة أن النساء أميل إلى تصديق كل ما يثير غيرتهن، ولو كان كل شيء يدعو إلى نقيض ذلك فإني لا آكل شيئاً ويغري بالاطمئنان.
وخرجت، فمررت بصاحب لي، فقم لي شوكولاته، فاعتذرت فإني لا أكل شيئاً بين طعامين، فألح، فأصررت على التأبي، فاقترح أن أنتقي بضع قطع أدسها في جيبي، وآكلها حين أشاء فلم أر في هذا بأساً فأجبته إليه. وعدت إلى البيت، وخلعت ثيابي لأستريح، فسألتني امرأتي:(معك سجاير)؟!
قلت: (في جيبي. . . خذي ما تريدين)
فدفعت يدها في جيبي وقالت، وهي تخرجها وتتأمل ما عثرت عليه:(آه. . . شوكولاته العروس)!!
قلت: (لا تكوني سخيفة. . . هذه أعطانيها فلان).
فألقت في فمها واحدة، وهي تضحك، وإذا بها تلفظها فجأة وتصيح وقد عبست جداً:(ما هذا القرف؟)
فسألتها: (قرف؟ أي قرف يا شيخة؟ مالك في هذا النهار؟)
قالت: (تضحك عليّ، وتغريني بأكل شوكولاته حشوها ثوم وفلفل، وتزعم أن فلاناً أعطاكها؟! أي مزاح هذا؟ هل ارتددت طفلاً؟ ألا تجد أحداً غيري تمازحه هذا المزاح البارد؟)
فقلت - وأنا أحدث نفسي -: (شوكولاته بثوم وفلفل! يا امرأة، هل سمعت بالمثل العامي: تكون في فمك فتقسم لغيرك؟ أنا كنت المقصود بهذا المزاح البايخ، ولكني نجوت ووقعت أنت؛ وما يخالجني شك في أن هذا أبعث على سرور صاحبي الذي أهدى إليّ هذه الشوكولاته! ولكنا لن نخبره بشيء، وسندعه بضعة أيام يتقلى وبوده لو عرف ماذا كان من أمرنا. . . لا بأس! سأجزيه سوءاً بسوء! فانتظري!)
فظلت تصيح وتسأل عما عسى أن تصنع الآن، فقد فسد طعم فمها، وأكبر ظنها أن رائحة الثوم ستظل بأنفاسها، فاقترحت عليها أن تشرب قليلاً من الكولونيا!
فهزت رأسها وقالت: (تريد أن تقتلني لتخلص لك عروسك الجديدة، ويصفو لك الجو معها!)
فسكت ووضعت إصبعي في الشق، بل وضعت أصابعي العشر كلها في الشقوق فما من سبيل إلى إقناع المرأة بسخافة الغيرة
وأحسب أن الكذب يطيب في أحيان كثيرة، بل أحسبه لازماً للإنسان، وعسى أن يكون الصدق متعبة شديدة، ولعل التزامه في كل حال مما لا يطاق
ولكن من الكذب ما هو بريء، وما هو سوء يحسن اتقاؤه وأنا مستعد أن أضحك، وأن استظرف نكات الإخوان وأستملح دعاباتهم، ولكن لا أظن أن ما ذكرت يدخل في باب الفكاهة المستملحة. وقد يكون هذا وما إليه محتملاً، ولكن الفظيع أن ينعى لك صديق وهو حي يرزق، فتخف إلى داره لتعزي أهله، ويلقاك ابنه أو أخوه، ولا ترى في وجهه حزناً أو سهوماً، فلا تستطيع أن تقص عليه الخبر الذي حملك إليه، ولا تجد ما تسوغ به هذه الزيارة في ساعة غير مألوفة! وبعض الناس يضحكهم ويسليهم هذا الضرب من المزاح! ولم لا؟ كل ما سر جائز. . .
إبراهيم عبد القادر المازني
كتاب السياسة
للوزير نظام الملك
للدكتور عبد الوهاب عزام
نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق: وزير السلاجقة من أعظم الوزراء الذين عرفهم تاريخ الإسلام. ووزير للسلطان محمد ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه ثلاثين سنة (455 - 485) هـ.
كان أبوه أحد دهاقن طوس، وذهبت بماله الحادثات فولد نظام الملك في بيت فقير سنة 408. وماتت أمه وهو رضيع. ونشأ نجيباً زكياً فتعلم العربية والفقه وسمع الحديث. وتقلبت به صروف الزمان في أرجاء الأرض، حتى استقر في بلخ عند أحد عمّال داود والد السلطان ألب أرسلان. ثم تولى أعمال ألب أرسلان ووزر له قبل السلطنة. فلما خلف ألب أرسلان عمه طغرل بك دبّر نظام الملك أمور الدولة، وظهرت كفايته، وشاع ذكره؛ فاستقل بسياسة الملك طوال عهد ألب أرسلان وعهد ابنه ملكشاه. وتولى أبناؤه، وكانوا أثنى عشر، المناصب الرفيعة في الدولة. فتمكن سلطانهم، وعظم جاههم، وانقادت لهم الأمور حتى فاقوا البرامكة في أيامهم.
يقول ابن الأثير:
(كان عالماً جواداً عادلاً حليما كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت. كان مجلسه عامراً بالقراء والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد وببغداد وغيرها. وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطا نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما زالت الأمور في تصريفه، والأحوال مواتية له، إلى أن قتل سنة 485.
وذلك إنه كان مسافراً مع السلطان ملكشاه من أصفهان إلى بغداد، فنزلا على مقربة من نهاوند. قال ابن الأثير:
(فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفة إلى خيمة حرمه أتاه صبي ديلمي في صورة مستميح أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب،
فعثر بطنب خيمة فأدركوه فقتلوه).
وقد شاع بين الناس أن الملاحدة دبروا لقتله إذ كان يبغضهم وكتب في كتابه سياستنامه فصلاً في بيان مفاسدهم. ويقال إن ملكشاه هو الذي أوحى بقتله وكان قد نقم منه ومن أولاده تمكنهم في عظم المناصب، وجاههم، وأوغرت صدره عليهم امرأته تُركان خاتون، وكانت تسعى ليخلف ابنها الطفل محمود أباه على الملك، وكان نظام الملك يؤثر بركيا روق أخا محمود الأكبر. إذ يقال إن جمال الملك بن نظام الملك قتل مسخرة للسلطان كان يحاكي نظام الملك في المجلس السلطاني، فنقم عليه السلطان وأمر من دس له السم في شربة فقاع
ويروي ابن الأثير أن السلطان أرسل أحد قواده شحنة إلى مرو وكان يتولى أمورها حينئذ عثمان بن جمال الملك ومفيد نظام الملك. فوقع نزاع بين الشحنة وعثمان فحبسه عثمان ثم أطلقه فذهب إلى السلطان شاكياً؛ فأرسل السلطان إلى نظام الملك يسأله أأنت شريكي أو وزيري ويذكر استيلاء أبنائه على المناصب وتجاوزهم الحد
فلما بلغت الرسالة الوزير الكبير غضب وقال للرسول (قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فانك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي. أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه. . . فلما قدت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب ويسمع في السعايات! قولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق لهذه الدواة وأن اتفاقهما رباط كل رغبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقْت هذه زالت تلك).
ومن عجائب الاتفاق أن السلطات مات بعد شهر من قتل الوزير واضطربت الدولة اضطراباً شديداً
ومهما يقل من أسباب النفور التي وقعت بين السلطان والوزير فأنا بعد أن يدبر الملك لقتل وزيره الشيخ الذي كان يثق به ويعتمد عليه ويستصحبه في حضره وسفره.
كتب نظام الملك كتاب السياسة (سياستنامه) قبل موته بسنة واحدة، وضمنه علمه وتجاربه وآراءه في سياسة الملك وترتيب الدولة، وإنصاف الرعية، وقسمه إلى خمسين فصلاً.
وللكتاب مقدمة كتبها ناسخ الخزانة السلطانية يبين فيها سبب تأليف الكتاب فيما يأتي:
(أمر السلطان السعيد أبو الفتح ملكشاه ابن محمد أمين أمير المؤمنين أنار الله برهانه، سنة
أربع وثمانين وأربعمائة بعض الكبراء والشيوخ والعلماء أن تفكَّروا في أحوال المملكة وانظروا ماذا من السيئات في عهدنا، وماذا خفي علينا، وماذا فعله السلاطين السابقون ولم نفعله، وأعلمونا به. وكذلك اكتبوا ما تعرفون من سنن الملوك السالفين مما يتعلق بدولة السلاجقة وملكهم، واعرضوه علينا لنتأمّله ونأمر بعدُ أن يسير كل عمل ديني ودنيوي على قاعدته، ويوضع كل شيء في موضعه، وننهي عما لا يُستحسن. فإن الله وهبنا الدنيا وأتم نعمته علينا وقهر أعدائنا فلا ينبغي أن يكون أمر في مملكتنا ناقصاً أو يذهب عمل على غير وجهه أو يخفى علينا شيء.
(أمر بهذا نظام الملك، وتاج الملك، ومجد الملك وطائفة أمثالهم، فكتب كلُ ما تيسر له في هذا الشأن وعرضه على السلطان فلم يعجبه إلا ما كتب نظام الملك فقال: كُتبت هذه الفصول كما أردت فليس في نفسي عليها مزيد. وقد اتخذت هذا الكتاب إمامي وسأعمل به.)
ويقول نظام الملك في خاتمة الكتاب: (هذا كتاب السياسة. أمر سلطان العالم خادمه أن يكتب في هذا الموضوع فامتثل أمره. كتب تسعة وثلاثين فصلاً على عجل ورفعها إلى السدة العالية فلقيت قبولاً. وكانت مختصرة فزدت عليها، وأضفت إلى كل فصل ما يناسبه، وبينتها بلغة واضحة، وقد سلمته إلى ناسخ الخزانة السلطانية محمد المغربي سنة أربع وثمانين وأربعمائة ونحن على عزيمة السفر إلى بغداد، وأمرته أن ينسخه بخط جميل، فإذا لم يتح لي الرجوع من هذه السفرة قدمه إلى السلطان.)
وسأتكلم على الكتاب وأترجم فصوله في المقالات الآتية إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام
الجامعيون يحتربون
للدكتور زكي مبارك
كان الأسبوع الماضي من الأسابيع الدامية في حياة الجامعة المصرية، وكان رجعة إلى معارك الصعايدة والبحاروة في الأزهر الشريف، فما هي الصلات بين القديم والجديد من هذه المناوشات التي تقع في المعاهد العلمية؟
إن النضال بين الصعايدة والبحاروة من الأزهريين كان رجعة لأحقاد عرفتها مصر منذ عهد الفراعين بين سكان الشمال وسكان الجنوب، وكان لهذا النضال مواسم يذكرها من شهد الحياة الأزهرية قبل أن تخضع للنظام الحديث
فما هو سبب النضال بين كلية الآداب وسائر الكليات؟
وما الذي قضى بأن يكون للجامعيين تاريخ في العداوة والبغضاء؟
لقد كانت كلية الآداب منذ نشأتها محفوفة بالرعاية والعطف من جميع المعاهد العالية، فما الذي جد من الشؤون حتى تصبح هذه الكلية المحبوبة هدفاً للعداوات، وحتى تشن عليها الغارة بلا ترفق ولا استبقاء؟
ما الذي جد في دنيا القلوب حتى تثور الحرب الدموية بين طلبة الآداب وطلبة الحقوق؟
وكيف جاز أن يصبح الحرم الجامعي مجروح الهيبة والجلال وفيه تمثال الشهداء في سبيل الوطنية لا في سبيل المنافع الشخصية؟
كيف جاز أن يحترب الرفاق في بقعة مسَّورة بالأزهار والرياحين في مطلع الربيع؟
وكيف نسى أولئك الشبان أن من الجريمة أن يدنسوا الحرم الجامعي بالأحقاد الشخصية، وهو بفضل العلم لا يقل قدسية عن المحاريب؟
كيف نسى أولئك الشبان نعمة الله عليهم وهم يغدون ويروحون في رياض تذكّر بأرواح الفراديس؟
إن الجامعة لها موقع قليل الأمثال في الشرق، وهي تنتظر من أبنائها أن يكونوا جذوة روحية تضيء أقطار الشرق، فبأي وجه تلقى الناس إذا صح لأبنائها أن يحتربوا ويقتتلوا بأسلحة ينكرها العلماء؟
إن أولئك الشبان لا يعرفون أن هناك مسامع تستريح لأن تسمع فيهم قالة السوء، ولا
يدركون أن هذا النوع من المناوشات يغض من هيبتهم العلمية، ولا يذكرون أن سيرتهم قد تصبح قدوة لطلبة المعاهد العالية في الشرق
ولكن ما هي أسباب المعركة بين كلية الآداب وكلية الحقوق؟
السبب في جملته يرجع إلى كتابين يدرسان في كلية الآداب وفيهما فقرات تمس العقيدة الإسلامية
ولكن فات خصوم كلية الآداب أن من المستحيل أن يقع ذلك عن عمد: فعميد الكلية يعرف أن في مصر تيارات دينية وسياسية؛ وليس من مصلحته أن يتعرض لمكاره من جانب رجال السياسة أو رجال الدين. ومتى صح أن سوء النية غير موجود فمن التعسف أن يقال أن كلية الآداب تحارب العقيدة الإسلامية
أتريدون الحق أيها الجامعيون؟
لقد ضيعتم على أنفسكم فرصة عقلية لا تتاح في كل يوم، وهذه الفرصة بدت طلائعها بحديث عميد كلية الآداب وحديث شيخ الأزهر وشيخ كلية أصول الدين
وكان يجب اغتنام هذه الفرصة: كان يجب أن نرى المصاولات العقلية بين الأزهر والجامعة المصرية. كان يجب على الأقل أن يكون الحكم في هذه القضية إلى مناظرة علنية تقوم في قاعة الحفلات تحت رئاسة مدير الجامعة المصرية
ولكنكم أسرعتم ففصلتم في القضية بالأيدي لا بالعقول.
ثقوا أيها الجامعيون بأن الحركة الفكرية في حاجة إلى وقود، وهذه المحرجات التي تثور من حين إلى حين هي أعظم باعث ليقظة العقول، وأعداء هذه البدوات الفكرية هم من جيش الموت، لو تعلمون.
أقول هذا وأنا أعرف أن المشكلة فُضَّتْ ولم يبقَ إلا حكم التاريخ.
ولكن يؤذيني أن يكون للجامعة في حياة العقل تاريخ يشبه تاريخ العنف في أيام الظلمات.
إن كلية الآداب لها مهمة أعظم مما تظنون.
لا يراد من كلية الآداب أن تقف عند المحكيّات في الشؤون الأدبية والفلسفية، وإنما يراد من كلية الآداب أن توقظ غافيات العقول، وأن تخلق الفرص لوثبات الأخيلة والأحاسيس. فمن كان يظن إنه انتصر على كلية الآداب حين رجمها بالحجارة والطوب فلينم قرير
العين.
أما كلية الآداب فمن حقها أن تعتز وتستطيل بأن يكون لها في حياة العقل تاريخ.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
من برجنا العاجي
إني من الذين يعتقدون أن في مصر اليوم نهضة ملحوظة في الأدب والفن، وأن الأدباء والقراء يزدادون يوماً بعد يوم. على أن الذي يسترعي الالتفات ويدعو إلى القلق هو أن نتاج الذهن لم يبلغ بعد في قيمته المادية وأثره الاجتماعي المستوى المطلوب. لماذا؟ لأن هنالك عنصراً آخر في هذا الشأن ما زال مفقوداً. إن قوة الأدب والفن في أمة لا ترتكز فقط على طائفتي الأدباء والقراء. هنالك طائفة ثالثة عليها يقع قسط كبير من عبء العمل ولها ينسب بعض الفضل في إذاعة نتاج الذهن وإيصاله إلى متناول كل يد، وإحداث الضجيج حوله، والإعلان عن خطره. أولئك هم الوسطاء والتجار والناشرون. ففي فرنسا مثلاً ما يكاد يظهر كتاب جديد في باريس اليوم حتى تجده في صباح الغد معروضاً في أصغر قرية من قرى الريف الفرنسي. ووسائلهم في ذلك بسيطة أوجه إليها نظر تجار كتبنا الكسالى المتواكلين. إنهم يعلمون أن الكتاب لا يطلب عادة إلا في المحطة عند السفر، إذ هو خير أنيس في وحدة القطار. فتراهم قد جعلوا في كل محطة صغيرة أو كبيرة عربة يد صغيرة كتلك التي توضع عليها عندنا (البسطة) والفطائر والمأكولات. يعرضون عليها كل مستحدث من الكتب، ويعهدون بها إلى صبي يمر بها على الرصيف أمام كل قطار مار. هنا في مصر توجد فكرة عرض الكتب والمجلات في المحطات، ولكن الذي يؤسف له حقاً هو أن مصلحة السكة الحديدية المصرية قد منحت هذا الامتياز لرجل رومي لا يعرض غير الكتب والصحف الإفرنجية؛ لأن هذه المصلحة لا تنظر إلا إلى راحة المسافر الأجنبي والسائح الافرنجي؛ أما نشر ثقافتنا في أنحاء بلادنا على يدها فهو مشروع لم تفكر بعد فيه.
لذلك سيظل الأدب والفكر وكل ما يتعلق بالتثقيف الذهني والروحي في
بلدنا محصوراً في محيط محدود.
توفيق الحكيم
أبو تمام شيخ البيان
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
والسائر من شعر أبي تمام لا يقل في الصفات التي تؤهله لأن يسير عن شعر المتنبي السائر. وترى كثيراً من هذا الشعر السائر في جميع أبواب شعر أبي تمام من مدح أو رثاء أو وصف أو هجاء، وله أبيات كثيرة تدل على بصيرة وفهم وذكاء، وأسباب السيرورة هي التوفيق في الصناعة والإيجاز والبيان والوضوح وسهولة اللفظ وقوة السيل الشعري المنبعث من النفس وسلامة الفطرة والذوق. ولأبي تمام أبيات صارت ملكا مشاعاً مثل قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
ومثل قوله:
فلا تحسب هنداً لها الغدر وحدها
…
سجية نفس، كل غانية هند
وقوله:
ومن لم يُسَلِّم للنوائب أصبحت
…
خلائقه طرا عليه نوائبا
وقوله:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
وقوله:
وقد يستر الإنسان باللفظُ خلقَه
…
فيظهر عنه الطرف ما كان يستر
وفي رواية فعله (أي سبب فعله) بدل خلقه؛ وقوله أيضاً:
يعيش المرء ما استحيا بخير=ويبقى العُود ما بقي اللحاء
وقوله:
وإني رأيت الوشم في خُلُق الفتى
…
هو الوشم لا ما كان في الشعر والجلد
وقوله في تعزية الرثاء من قصيدة جليلة مشهورة:
أتصبر للبلوى عزاء وحِسْبَةً
…
فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائم
وقوله:
لذلك قيل بعض المنع أدنى
…
إلى مجد، وبعض الجود عار
وقوله:
ليس الغبيُّ بسيد في قومه
…
لكنَّ سيد قومه المتغابي
وقوله:
وإذا امرؤٌ أسدى إليك صنيعة
…
من جاهه فكأنها من ماله
وقوله وفيه روايتان في اللفظ:
ومن الحزامة لو تكون حزامة
…
ألا تؤخر من به تتقدم
وقوله:
إنْ شئتَ أن يَسْوَدَّ ظنك كله
…
فَأجِلْهُ في هذا السواد الأعظم
يعني جمهور الناس. وقوله:
فصرت أَذَلَّ من معنى دقيق
…
به فقر إلى فهم جليل
وقوله:
قد يُنْعِم الله بالبلوى وإن عظمت
…
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وقوله:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها
…
تنال إلا على جسر من التعب
وقوله:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا
…
من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقوله:
سكن الكيد فيهمُ إنَّ من أع
…
ظم إرْب ألا تُسَمَّى أريبا
وقوله:
فقد تألف العين الدجا وهو قيدها
…
ويُرْجَى شفاء السم والسم قاتل
وقوله:
أنكرتهم نفسي وما ذلك الإن
…
كار إلا من شدة العرفان
وإساءات ذي الإساءة يُذْكِرْ
…
نَكَ يوماً إحسان ذي الإحسان
وقوله:
وقديماً ما اسْتُنْبِطَت طاعة الخا
…
لق إلاّ من طاعة المخلوق
وهذا البيت الأخير فيه إلمام بمذهب الملاحدة الذين يقولون إن الاعتقاد بالخالق فكرة إنسانية ولها نشأة بشرية في قديم الزمن بسبب تأليه رب الأسرة ورئيس القبيلة في العصور التي
قبل التاريخ. على أن البيت يصح تأويله بما لا يخالف الدين. وقد طعنوا في عقيدة أبي تمام بسبب تركه للصلاة والصوم وقوله في الشاعر والفروض الدينية كلاماً، كما جاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي وفي غيره من الكتب. وقد طعنوا أيضاً في نسبته إلى طي، وبعضهم صحح نسبته إلى طي وقال إنه نشأ في فرع مسيحي منها ثم تظاهر باعتناق الإسلام؛ وقد مدح الإسلام في مدحه للخلفاء والوجهاء ووصف المسيحيين بالشرك والكفر وعبادة الأصنام كما قال في مدحه المعتصم ووصف فتحه مدينة (عمورية) وإذا أردنا أن نحصي خلاصة الخلاصة من شعر أبي تمام لم نستطع أن نستغني عن المدح، وإن استطعنا الاستغناء عن المدح عند إحصاء خلاصة الخلاصة من شاعر كالشريف الرضي فإن شعر المدح في صنعة أبي تمام يحبب إلى القارئ قراءة المدح حتى ولو كان ممن لا يميل إليه. انظر إلى قوله:
نَسب كأن عليه من شمس الضحى
…
نوراً ومن فلق الصباح عموداً
أو قوله:
خدم العلى فخدمته وهي التي
…
لا تَخدم الأقوام ما لم تُخدَم
أو قوله:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
…
لجاد بها فليتق الله سائله
أو قوله:
فلو صورتَ نفسك لم تزدها
…
على ما فيك من كرم الطباع
أو قوله:
غَرَّبتهُ العلى على كثرة الأه
…
ل فأضحى في الأقربين جنيبا
وله قصائد كثيرة فخمة حلوة في المدح مثل قصيدته في محمد ابن عبد الملك الزيات التي يقول في مطلعها:
لهان علينا أن نقول وتفعلا
…
ونذكر بعض الفضل منك فنفضلا
أو الأبيات التي يقول فيها:
ليس الحجاب بِمُقْصٍ عنك لي أملا
…
إن السماء تُرَجَّي حين تحتجب
وإجادته في المدح إجادة بطول حصرها، وهي ليست في مدح الأحياء فحسب بل هي أيضاً
في مدح الموتى في الرثاء مثل قوله:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله
…
إن الزمان بمثله لبخيل
أو قوله في رثاء بني حميد:
وانفس تَسع الأرض الفضاء فلا
…
يرضون أو يجشموها فوق ما تَسعُ
يود أعداؤهم لو أنهم قُتِلُوا
…
وأنهم صنعوا بعض الذي صنعوا
عهدي بهم تستنير الأرض إنْ نزلوا
…
بها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا
أو قوله من رثاء ابني عبد الله بن طاهر: (نجمان شاء الله ألا يطلعا) إلى آخر القصيدة وهي من مأثور قوله وبها بيت يتمثل به كثيراً وهو قوله:
وإذا رأيت من الهلال نموه
…
أيقنت أن سيكون بدراً كاملا
وقوله أيضاً في مدح الرثاء:
فالماء ليس عجيباً أَنَّ أعذبه
…
يفني ويمتد عمر الآجِنِ الآسِنِ
وأكثر رثائه على هذا النمط: رثاء صنعة فخمة رائعة لا رثاء حرقة ولوعة، ولا رثاء وجدان؛ ومن أجلِّ رثاء الصنعة قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
…
فليس لعينٍ لم يَفِضْ ماؤها عذر
ولا ينقص من قدرها أنها من رثاء الصنعة فإن الشعر كالفاكهة أنواع ولكل نوع طعم ولذة. وله مع ذلك قصائد من شعر رثاء العاطفة والوجدان مثل رثائه لأخيه الذي أوله:
إني أظن البلى لو كان يفهمه
…
صد البلى عن بقايا وجهه الحسنِ
والقصيدة التي يقول فيها: (بأرّان لي خل مقيم وصاحب) ولكنه أحياناً تغيض العاطفة من رثائه كما قال في رثاء جارية له:
يقولون لا يبكي الفتى لخريدة
…
إذا ما أراد اعتاض عَشراً مكانها
وهل يستعيض المرء عن عُشرِ كفه
…
ولو صاغ من حُرِّ اللجين بنانها
فالتعليل يدل على الذكاء، ولكن ليس هذا رثاء العاطفة؛ وكان ينبغي أن تكون حجته منزلة الجارية من نفسه لا أن يضعها بمنزلة عشر الكف. ومثل هذا رثاؤه محمد بن حميد إذ يقول إنه رآه في الحلم فسأله: ألم تمت؟ قال: لا. . . كيف يموت من كان كريماً مثلي كرمه خالد. وكان ينبغي أن يجعل المرثي أرفع من أن يقول هذا القول الذي كان يستطيع الشاعر
نفسه أن يقوله فيه بدل أن يضع المرثي موضع المفاخر بكرمه وإنه لو كان حياً لكان حرياً به أن يرى من الكرم ألا يفتخر بالكرم والبيت هو:
ألم تمت يا شقيق الجود من زمن
…
فقال لي لم يمت من لم يمت كرُمْه
ومن رثاء العاطفة قوله في رثاء ابنه وكان وحيداً بدليل قوله (بُنَيَّ يا أوحد البنينا) وهذه القصيدة هي التي مطلعها: (قد كان ما فخت أن يكونا) ولكنها ليست شيئاً إذا وضعت بجانب قصيدة ابن الرومي في رثاء ابنه وهي التي مطلعها: (بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجْدي). وإذا قارنا بين غزل أبي تمام وبين أقواله في المودة والإخوان وجدنا شعره في الإخوانيات أكثر عاطفة ووجداناً وأعلى مرتبة في الشعر مثل قوله:
من لي بإنسان إذا أغضبته
…
وجهلت كان الحلم رد جوابهِ
وإذا طربت إلى المدام شربتُ مِنْ
…
أخلاقه وسكرت من آدابهِ
وتراه يصغي للحديث بقلبه
…
وبسمعه ولعله أدرى بِه
أو قوله:
عصابة جاورت آدابهم أدبي
…
فهم وإن فُرِّقوا في الأرض جيراني
أرواحنا من مكان واحد وغدت
…
أبداننا بشآم أو خراسان
ورب نائي المغاني روحه أبداً
…
لصيق روحي ودان ليس بالداني
أو قوله:
جليد على ريب الخطوب وعتبها
…
وليس على عتب الإخلاء بالجلد
أو قوله:
وقلت أخٌ قالوا أخ من قرابة
…
فقلت لهم إن الشكول أقارب
نسيِبيَ في عزمي ورأيي ومذهبي
…
وإن باعدتنا في الأصول المناسب
أو قوله:
خليليّ ما ارْتَعْتُ طرفي ببهجة
…
ولا انبسطتْ مني إلى لذةٍ يد
ولا استحدثت نفسي خليلاً مُجَدَّداً
…
فيذهلني عنه الخليل المجدد
أو قصيدته في علي بن الجهم التي يقول فيها إن ودهما (عذب تحَدّر من غمام واحد) أو قوله:
وتكَشُّفُ الإخوان إن كشَّفْتَهُمْ
…
ينسيك طول تصرف الأيام
أما غزله فكثير منه من قبيل التغزل بالغلمان وأكثره غزل حواس وليس به عاطفة عميقة أو وجدان. وأكثره مقطوعات صغيرة في أغراض أكثرها بنت ساعتها ولعلها من عفو القريحة. هكذا أكثر غزله ولو أن به ذكر الدموع التي تحولت إلى دماء (إفْنِ صبري واجعل الدمع دما)، وذكر آلام الحب وحرقاته ولكنه ذكر لا يدل على شعور عميق كما يدل غزل العذريين، ولا على وجدان كوجدان العباس بن الأحنف أو كوجدان الشريف الرضي. وله في أول قصائد المدح بعض الغزل الرقيق، وهو مولع بذكر محاسن أعضاء الجسم كالعيون والخدود. . . الخ.
انظر قوله:
صبَّ الشبابُ عليها وهو مُقتَبلٌ
…
ماءً من الحسن ما في صفوه كدر
لولا العيون وتفاح الخدود إذاً
…
ما كان يحسد أعمى من له بَصرُ
وكثير من غزله يشبه غزل أبي نواس، ولعل هذا هو سبب ورود قصائد في الغزل في ديوانه وفي ديوان أبي نواس مثل التي أولها (قال الوشاة بدا في الخد الخ) والتي أولها (أفنيت فيك معاني الشكوى) والتي أولها (وفاتن الألحاظ والخد). ومما هو شبيه بالغزل في قصائد المديح مما يستحسن الأبيات التي يقول فيها:
أدار البؤس حسَّنكِ التصابي
…
إليَّ فصرت جنات النعيم
والتي يقول فيها:
يا موسم اللذات غالتك النوى
…
بعدي فربعك للصبابة موسم
والتي يقول فيها:
أصبحت روضة الشباب هشيما
…
وغدت ريحه البليل سموما
ولتي يقول فيها:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
…
فكأنها وكأنهم أحلام
وله في الغزل والوصف:
باشر الماء وهو في رقة الصن
…
عة كالماء غير أنْ ليس يجري
خدش الماء جلدَهُ الرطب حتى
…
خلته لابساً غلالة خمر
أما قوله في المغنية الفارسية فمن عذب القول وهي قصيدة مطربة وهي التي يقول فيها:
ولم أفهم معانيها ولكن
…
وَرَت كبدي فلم أجهل شجاها
وفي باب الوصف من شعره أشياء بلغت منزلة عالية من الجودة تجعلنا نأسف لقلتها ونود منها المزيد. ومن هذه القصائد وصفه لفتح عمورية، ووصف السحابة في أرجوزتها المشهورة، ووصف القلم في قصيدة يقول فيها:(لك القلم الأعلى الذي بشباته) وهو وصف مشهور أيضاً وهو من قصيدة مدح كوصف فتح عمورية. ومن وصفه أيضاً أرجوزة (إن الربيع أثر الزمان)، ومنها أخذ البحتري قوله:(وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا). وأحسن قصائده في وصف الطبيعة قصيدته التي يقول في أولها: (رقت حواشي الدهر فهي تَمرْ مِرُ) وفيها يقول البيت المشهور:
تريا نهاراً مشمساً قد شَابَهُ
…
نَوْرُ الرُّبَى فكأنما هو مقمر
والنَّوْر الذي يحدث هذا الأثر هو النور الذي له لون يغض من اصفرار أشعة الشمس كأن يكون لونه أبيض، ولا يحس القارئ مقدار صدق هذا الوصف إلا عند المشاهدة. وله في وصف الخمر قصيدته التي مطلعها:(قَدْكَ اتَّئِبْ أربيتَ في الغلواء)
وفيها يقول:
صعبت وراض المزجَ سيئَ خلقها
…
فتعلمت من حسن خلق الماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة
…
قتلت، كذلك قدرة الضعفاء
وكأن بهجتها وبهجة كأسها
…
نارٌ ونورٌ قُيِّدَا بوعاء
أو درة بيضاء بِكْرٌ أطبقت
…
حملاً على ياقوتة حمراء
يخفى الزجاجة لونها فكأنها
…
في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست
…
في أوجه الأرواح بالأنداء
وقد أسقطت بعض الأبيات للاقتصار، والبيتان الأخيران ينسبان إلى البحتري أيضاً في قصيدة له، ولأبي تمام إجادة في الهجاء وله في قصائده سائرة مثل قوله:
كم نعمة لله كانت عنده
…
فكأنها في غربة وإسار
كُسِيَت سبائب لؤمة فتضاءلت
…
كتضاؤل الحسناء في الأطمار
وقوله:
مساٍو لو قُسِمْنَ على الغواني
…
لما جُهِّزْنَ إلاَّ بالطلاق
فخلاصة الخلاصة من شعره لابد أن تشمل شيئاً من كل باب وهذا يدل على علو منزلته ومقدرته.
عبد الرحمن شكري
الأم فنانة عظيمة
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
تقولين إن حياتك الزوجية مقرونة بالسعادة، إلا انك كثيراً ما تعقّبين على ذلك بقولك إن الهموم والمشاغل تعمل على إقصاء أسباب هذه السعادة حيناً، وتفلح في القضاء عليها حيناً آخر، وإن جلبة الأطفال وضوضاء ثرثرتهم وهذرهم وطياشتهم الصبيانية تجهد هذه الأعصاب التي أرهقتها من قبل واجبات واهتمامات عديدة تبهظ الذرع، وتعيي الطوق، وتزحم سوانح الفراغ النادرة، وتجتاح نطاق الوقت الضيق. وكأنك تنسين أيتها الأم الفنية، أن رجال الفنون الكبرى، وهي الرسم والنحت وهندسة البناء والموسيقى والشعر، كذلك كانوا يشتغلون، وفي مثل هذه الحالات كانوا يجدُّون ويعملون، بل كأنك تجهلين أنك تفوقين هؤلاء الفنانين جميعاً، لأن أعمالهم الفنية مجالها العالم الماديّ، أما عملك أنت فمجاله رحاب الحياة البشرية بأسرها
ولعمري كيف لا يعرف العالم أن النحيب على الأمومة والتفطر لها، يحقران شأنها ويقوضان سرادق مجدها! وهل كان بركليس يطلب من الملأ الرحمة والرثاء لأنه بفضل جهاده ومصارعته الصعاب جعل لأثينا السيادة العليا في البر والبحر، وصيّرها مجد العالم؟ وهل كان ميكال انجلو يصيح طالباً الغياث والنجدة مما عاناه مدة سنتين قضاهما مضطجعاً فوق ألواح خشبية مشدودة إلى السقف ليتمكن من رسم قبة معبد (السيستين) في الفاتيكان؟ وهل كان رفائيل يسأل الناس الرأفة، ويجعل من ينظرون إليه يستشعرون مسّاً من الشفقة عليه، والتفجع لكفاحه الطويل المضني الذي جاءه أخيراً بصورة السيدة مريم العذراء وابنها الطفل؟!
إن كتب السيِّرَ لا تتوجع لجهاد أولئك الأقطاب، ولا تتبعهم بإحساس حار من العطف الباكي المحزون، والحنو الدامي المستحرق، بل إنها تتبين في صبرهم على المشاق عناصر رجولة نبيلة أبيّة أوغلت في ميادين العزم والشجاعة وعلوّ الهمة، وغذّت مواهبهم بقوة الإرادة، والقدرة على تذليل الصعاب، فزادتهم بذلك فضلاً على فضل، وأضافت إلى ظفرهم فلاحاً وعزّاً
ولكن هل تمكن المقارنة بين الموادّ التي يستخدمها الفنان لتدوين تعبيراته الفنية، ورسم كل
ما يقع تحت حسه من ألوان وظلال وأوضاع وانفعالات، وبين ما تتناوله الأم من المعنويات السامية الزاخرة بالممكنات التي تستطيع هي وحدها أن تستشفّها وتفسرها، وتبحث في ثناياها عن أحب الأشياء وأنقاها، وتحضها على استغلال أشرف ما أودع في القوى البشرية وتروضها على التحلي بأكرم الأخلاق الإنسانية، والتمسك بخير ما فيها من سجايا الطهر، التي تنيل الحياة عمقاً واتساعاً، وتكسبها نبلاً ومجداً وكرامة وسعادة
أجل. إني أراك في أحايين، توسعين لنفسك مجال التفجع، حين تجمحين في الإشارة إلى المتاعب التي تلقينها في العناية بأسرتك الصغيرة، والاهتمام بمطالبها التي تستنفد وسعك كله، وتهدّك وتطيّر النوم من عينيك، ولست أنكر أن هذا الاهتمام يستنفد الجهد حقاً، ولكن أليس محبباً إلى النفس؟ وأي شيء يفيض على حياة الفرد جمالاً أعظم من جمال العمل الحيوي الذي يقتضي الاهتمام المستفيض ويستغرق الجهد المستطيل الملهوف على مساكه وقوامه؟ وعملك من أعظم الأعمال في الحياة، وما الذي يجعل للحياة قيمتها؟ أليس هو شعور الفرد في كل صباح بأن مهمة خطيرة موكولة إليه، وأمراً جليلاً موقوف عليه دون سواه؟ وهذا الشعور يا سيدتي هو الذي ينبض بالاهتمام - الاهتمام الخالي من الهاجس والبلبال والتأرق، والمفعم بإدراك أهمية الواجب والمسؤولية. وإنها لحياة حقيرة تلك الحياة التي لا نعرف فيها قداسة الواجب والجد لتحقيق غاية مجيدة! بل إنه لوجود وضيع خسيس، ذلك الوجود الذي يكون فيه الفرد منفعلاً شيء فيه، دون أن يكون لبعض شؤون الحياة الحق فاعلاً. أو ليس من دواعي الغبطة إذاً أن تعرفي قيمتك من هذا العالم الوسيع الرحيب، ونصيبك من واجب الخدمة فيه؟ بل أليس من دواعي الفخر أن توقني من أن لك أنت فيه حياة أعلى من هذه وواجباً أجل وأكرم، وقد ائتمنتك الروح الكلية على أدائه. . فهل تبغين سواه؟ أتريدين أن تقومي بإلقاء الخطب والمحاضرات؟ أو أن تشغلي وظيفة في بعض المصالح والمؤسسات؟ أو تكوني رسامة مجيدة تحبو الناس بقبسات باهرة من مخيلتها المبدعة، وريشتها المبتكرة، وروحها المقتبسة، ونفسها الحساسة؟ ومع ذلك فهل تخلو هذه الصناعات والوظائف مما يفرض العناية ويستلزم الاهتمام، لو راعيت الأمانة والدقة في أدائها؟ ولست أريد أن أنتقص من قدرها بما أذكره في صددها الآن وكلها جليلة نبيلة تليق بأن تستغرق حياة من لم تنتدبهن السماء لذلك الواجب الأقدس، أو من أكملن
سعي الأمومة المبرور، وأحسنَّ البلاء في تعهد الأولاد بالعناية اللازمة، وهيأنَ من ريعان اقتبالهم، وعنفوان شبابهم خير عدة للمجتمع!
هذا ولا تنسى أن رجال الفن يتخذون أداة عملهم الفني من الجماد، والجماد لا روح فيه، ولا يملك من الاستجابات غير ما يشعر الفنانون إنه صوت العواطف والأفكار التي تدوي في نفوسهم. أما أنت فإن مادة تعبيراتك الفنية معنوية حية؛ تجيش في خلاياها الكائنات الحية، ويترقرق في أغوارها ماء الحياة الناشطة، ويقظة الفؤاد، ودقة الفهم، ولطافة الحسّ، وقوة العقل. وفي كل يوم ترين استفاضتها؛ في كل يوم ترين الأغصان النامية التي تساعدينها على اتخاذ سمتها إلى النور والسماء، وتستجيب لهاتف رعايتك وتثقيفك، وفي كل يوم تتكرر مظاهر اتصالها بك، إذ تلتفّ تلك السواعد البضّة حول عنقك لتحدثك عن حبها الساذج النقي، وفي كل يوم تشنف أذنيك مرارا تلك النغمات الملائكية كلما نادتك قائلة:(ماما! ماما)! وفي كل يوم ينفخ إيمانُ تلك القلوب الغضة، وثقتهم بما أوتيت من حكمة وخبرة، روحَ الحياة في قلبك. إن الفنان يحكي الطبيعة، وينقل ما يقع تحت حسه من صورها، ويتخذ من مخلفات حياته الفنية صلة الحياة بما بعد وجوده الفاني في عالم الزوال. أما أنت فتسلمين وديعة السماء السرمدية إلى الأرض، وتخلدين نبتة الحياة التي تنتقل ثمارها من جيل إلى جيل، وتتفتح أزهارها في متلاحق الحقب، ويدخر حصيدها الذهبي إلى ما وراء الأبد والبعث. . . وتقدمين للوجود على يديك إثباتا أكيداً لذات أوسع وأكبر، وبقاء أشمل وأكمل، وتمنحين الإنسانية فوزاً متكرراً، وذخراً يجدده بروز مواهبك في الأمومة الرشيدة الحكيمة. وما جمال الفن، وما مجد الفنان إلا بعض فضل الأم على كل مبتكراتهما وروائعهما! فهل تشتكين بعدُ من العناية بالبيت؟ وهل تقولين إن الأطفال أيضاً يضايقون ويزعجون! و. . . و. . . الخ. وزوجك العطوف؟ إنه يحبوك بالنصح والتدبير والمشورة في حيرتك وارتباكك، ويسرّي عنك آلامك، ويمحضك إعجابه، ويخصّك بحبه الذي تستمدين منه سنداً لضعفك. . وأمومتك نفسها توقظ فيه حنو الرجولة وتنّبه حنانها الشهم القويّ. . . فهل تحرصين على هذه العطايا أن تذهب بلا طائل؟ أم هل تعدّينها من الالتزامات والضرائب المفروضة على الزوج؟ أو لا تعرفين أيتها الجليلة الفتية الراتعة في بحبوحة الدعة أن هذه الدعة هي خير ما تستطيع أن تغدقه عليك عناية الزوج المحبّ؟ ألا
تعرفين أيتها الأم الشابة المنعمة بالطمأنينة التي يبعثها في نفسك شعورك بأنك توفرين أسباب الصحة والحياة لأولادك، وتظللينهم بستر جناحيك، وتجعلينهم في حرز حريز يصونهم من أحداث الزمن وسموم القدر التي تعصف بمن أذلهم اليتم، وأخنى عليهم الحرمان والفقر. . .
ألا خذي هذه العطايا البنوية الشاكرة والزوجية الواقية ولا تجحديها. . . لأنك بهذا الجحود تحطمين أشرف عاطفة، وتلغين أنقى رابطة قائمة على التفاهم والإخلاص، وإدراك الحياة الكاملة، والتوجه إلى ما فيها من حب وتعاون وشكران. . . فتقبليها من يد الزوج الأبرّ القوي، آية وفاء لحقوق تلك الشركة المقدسة التي ربطت بينكما، وتعاهدتما على أن تلتمسا بها لحياتكما أمناً بل زينة تنسيك أنت متاعب الفروض البيتية والعناية بالأطفال وتحيلها لذة ونعيما مقيما. . .
هذه أمانيّ الراجية المؤملة أزجيها غير متجافية ولا متبجحة. وهأنذي أتطلع إلى ما توحيه إليك نفسك السمحة، وينتهي إليه جهدك الجبار، فإنها لعمر الحق برهانك الذي يباهي به جنسك هذا المجتمع بل الإنسانية قاطبة، فاحرصي على أن تكون فَلَق الصبح المبين لمصرنا العظيمة. والسلام عليك ورحمة الله
الزهرة
أعلام الأدب
درامات إسخيلوس
للأستاذ دريني خشبة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
4، 5، 6 - الأورستية
هذه هي الثلاثية الواحدة التي وصلتنا سليمة من إسخيلوس وقد أخذ كل مادتها من هومر، وأجاممنون هو بطل حلقتها الأولى وباسمه تدعى. . . والمأساة تبدأ من ذلك اليوم المشؤوم الذي ضحى فيه أجاممنون بابنته إفجنيا حيث ذبحها لتتحرك الريح وتحمل الأسطول إلى طروادة كما مر بك في هوميروس. . . فلما علمت زوجته كليتمنسترا - أم الفتاة - بما وقع لابنتها من الغدر، ولم تكن تعلم بهذا التدبير من قبل، بل قيل لها إنها ذاهبة لعقد قرانها على أخيل بطل أبطال اليونان، ثارت ثائرتها، واعتراها حال من الهم والحزن أخرجها عن إنسانيتها فأبعدت عنها كل معالم الحياة. . . حتى ابنها الأوحد أورست لقد نفته بعيداً عنها، وعاشت وحدها في قصر البلوبيد الرهيب، واضطرمت في قلبها نار الحقد على زوجها القاسي. . . ثم وصلت أسبابها بأسباب إيجستوس أحد ذوي الثارات على بيت أجاممنون، فوافق شنُّ طبقة كما يقولون، وألفت التّرات بين قلبيهما فشاعت عن علائقهما الشائعات. . ولما وضعت حرب طروادة أوزارها وعاد أجاممنون مع تلك الفتاة النَّبيَّة ابنة بريام، دبرت له زوجته تلك القتلة المشئومة التي ذهبت بروحه وروح فتاته إلى هيذر
فأما الحلقة الثانية الـ (خُوَراُفْروَا) أو حاملات الخمر المقدسة فتقع حوادثها بعد ذلك بسنين عدة كانت الملكة وعشيقها يحكمان آرجوس طوالها. . . فلما شب أورست أستأذن ملك فوسيز في العودة فأذن له ولصحبه صديقه بيليدز. . . ووصل إلى مقابر آرجوس حيث وجد أخته إلكترا تصب الخمر على جدث أبيه لأن أمها رأت في المنام أنها تلد ثعباناً ثم تأخذه في حضنها، فأرسلت بنتها لتصب الخمر قربانا إلى روح أجاممنون. . . ويعرب الشاب أخته فيعرفها بنفسه وتكون قد صلت للآلهة على ثرى أبيها أن ترسل إليها أخاها، فتكون مفاجأة جميلة، ثم يوصيها أورست بكتمان الأمر حتى ينتقم لأبيه. . . ويدخل القصر
في هيئة تنكرية فلا تعرفه أمه، ثم يأخذ في سرد قصة فحواها أن أورست قد مات فتتظاهر الأم بالحزن ثم تدخل مخدعها، ويدخل أورست وصديقه حجرة الأضياف. . . وتذهب مرضعة لتدعو إيجستوس ليعلم ما قال الرسول عن وفاة أورست فما يكاد يصل إلى القصر حتى يسمع من الداخل وهو يصرخ ويجود بنفسه. . . لقد قتله أورست!!. . . وتهرع كليتمنسترا لترى ماذا حدث، لكنها تعاجل بضربة شاطور (بلطة) فتتلفت فترى أورست عند جثة عشيقها، وهي مع ذاك تنسى آلامها وتنحني فتبكي فوق جثة إيجستوس. . . ثم يأتي أروع مشاهد إسخيلوس الدرامية. . . فالأم حينما تعرف أورست لا تبالي الدم المتدفق من جرحها، بل تكشف عن ثدييها وتعيّر الابن بكفرانه هذا اللبن الذي غذاه صغيراً، ثم تنذره بملاحقة ربات العذاب إياه حتى ينتقمن منه على جريمة قتل الأم وهي أشنع الجرائم في الشرع اليوناني، ويهتز أورست، ثم تعروه نوبة من الجنون، وتتراءى له ربات العذاب فيذعر، ويفر من وجوههن ليحتمي بهيكل الإله أوبوللو في دلفي.
وفي الحلقة الثالثة (يومنّيدز) أو ربات العذاب، يتعلق أورست بأستار هيكل أبوللو ضارعاً إلى إله الشمس أن يحميه، وتكون الكاهنة وسنانةً فتستيقظ مفزّعة مروعة ثم يظهر الإله أبوللو نفسه فيطمئن أورست ويشمله بحمايته ويأمره أن ينطلق إلى أثينا حيث يعرض قضيته على رّبتها مينرفا (باّللا أثينا) فيصلي أورست وينطلق إلى حيث أمره أبوللو وتبقى ربات العذاب فيدخل شبح كليتمنسترا وتأخذ في تحريض الربات فيتغنّين قليلاً ثم يطردهن أبوللو. . . ويتغير المنظر فنكون في أثينا في هيكل مينرفا وقد تعلق أورست بأستار المذبح وقد أخذت تنوشه ربات العذاب فتبدو ميرنفا وذتودهن عنه، ثم تستمع إلى شكواه. ويكون في المعبد جماعة من المحلفين وينهض الإله أبوللو ليؤدي شهادته ويدلي برأيه فيقرر أن الإنسان ينتسب إلى أبيه لا إلى أمه؛ ولذا فهو مرتبط بوالده قبل أن يرتبط بوالدته. . . وبعد أن تسمع مينرفا إلى آراء الآخرين تنهض هي فتعلن رأيها ثم تجلس ويأخذ المكلفون في (فرز) الأصوات وتكون النتيجة متساوية بغير ترجيح فيحدث شيء من الهرج في قاعة العدالة وتتبرم ربات العذاب لتدخل أرباب أقل منهن مرتبة في أخص أمورهن، فتنهض مينرفا وتأخذ في تلطيف سورتهن بفصاحتها المعهودة وتهتف بهن (أن أسمى واجب الآلهة هو نشر السلام بين بني الإنسان!) وتعدهن بإقامة مأوى عظيم لهن في هضبة إيرس
فيهدأن ويختفي الجميع بذهابهن إلى مأواهن في حفل رهيب
هذه هي أرفع درامات إسخيلوس بل أرفع درامات الأدب اليوناني إذا استثنينا درامة برومثيوث للشاعر نفسه. . . وقد سخر فيها الشاعر بهذه الشريعة العجيبة التي تنافي العدالة المطلقة التي جعل لها الفوز والغلبة في النهاية. . . وكان إسخيلوس ماهراً في تلك الدرامة إلى آخر حدود المهارة فقد استدرج اليونانيين حينما أراد إصلاح وجهة نظرهم إلى تلك الأغوال التي يدعونها ربات العذاب حتى جعلهم يؤمنون أنها ينبغي أن تكون لخير الإنسانية لا لذعرها، ولنشر السلام لا لتعميم الذعر والأذى. وهكذا استطاع إسخيلوس أن يبشر بدين جديد من دون أن يحدث ثورة، وكان جل إيمانه بسيادة عليا تهيمن على الكون وتسير به إلى الكمال كما سنرى في برومثيوث
7 -
برومثيوث:
أخذ إسخيلوس موضوع ثلاثيته من أسطورة برومثيوث الخالدة وتتلخص فيما يلي:
بعد أن فرغ إيروس (كيوبيد) من توشية الأرض وزخرفتها بالنبات، عَمَرها بالحيوان، ثم دعا إليه الإلهين برومثيوث وإبيمتوث ليخلقا فيها حيواناً راقياً تكون له السيطرة على سائر صنوف الحيوان ويسمياه (الإنسان). فلما صنعاه سألا إيروس أن ينفخ فيه أنفاس الحب (روح الحياة) كما سألا مينرفا أن تنفخ فيه من روحها (روح الحكمة). فلما دبت الحياة في هذا المخلوق العجيب زُهي برومثيوث وشاعت فيه الكبرياء واعتزم أن يهدي إلى الإنسان منحةً جزيلة تفتح له أبواب المدنية وترقى به في مدارج الحضارة. . . وكانت النار إلى ذلك الحين حقاً خالصاً للآلهة وكان لهم دون غيرهم (امتياز) استعمالها، فاعتزم برومثيوث أن ينسرق إلى الأولمب ليحضر للإنسان جذوة من النار المقدسة فأحكم تدبيره وتغفل سيد الأولمب (زيوس) وسرق الجذوة ثم آب إلى الأرض دون أن يشعر به أحد. . . ومضى حين من الدهر، وتلفت زيوس من عليا سمواته فشهد النار تتأرجح في أطراف الأرض فهاج هائجه، وأقسم ليعذبن السارق عذاباً شديداً. ويعرف أن السارق هو برومثيوث فيأسره ثم يذهب به في أقل من لمح البصر إلى جبال القوقاز حيث يقيده ويربطه بسلاسل وأصفاد في قمة جبل هناك ويسلط عليه باشقاً من جوارح الطير فيظل ينهش كبده نهشاً شديداً. . . وهنا يبدأ إسخيلوس الحلقة الأولى من درامته. . . فهذا برومثيوث مُصفَّداً بالأغلال صابراً
لأنكى ألوان العذاب، ينهش الباشق كبده نهاراً ثم ترقأ جراحه ليلاً وتنمو الكبدة، فإذا أصبح عاد الباشق إلى نهشه وتعذيبه وهكذا دواليك. . لكن برومثيوث إله فهو لا يموت، ثم هو لا يقهره هذا العذاب بل هو يصبر له في سبيل سعادة الإنسان الذي خلقه وحضّره وجلب له النار وعلمه الفنون، والإنسان مع ذاك شاكر له ذاكر أياديه فهو يصلي له ويقنت، والفتاة يو البائسة المعذبة التي سلطت عليها حيرا زوجة سيد الأولمب هذا الوحش الفظيع آرجوس والذبابة المؤلمة تلدغها وتسومها من العذاب ألواناً. . . هاهي واقفة بجانب برومثيوث تواسيه وتتوسط له عند التيتان ليستغفروا له سيد الولمب فلا يغفر له، لأنه قوي مجنون ليس في قلبه شفقة ولا يعرف فؤاده العدالة. . . ويصبر برومثيوث ثم يصبر، ولا يرضى أن يخذل الإنسان لأن الإنسان يصلي له ولا يني عن عبادته. . . وفي الحلقة الثانية يذهب هرقل بن سيد الأولمب في إحدى مجازفاته فيشهد برومثيوث مصفداً في قُنَّة الجبل والطير تنهش كبده، فينقض على الباشق الجارح ويقتله، ويرد إلى برومثيوث حريته. فينطلق هذا الإله الطيب ويلقاه الناس مسبحين بحمده فرحين مستبشرين. . . وفي الحلقة الثالثة (برومثيوث حامل النار) يصف إسخيلوس احتفاء الأثنينيين بالإله الذي ضحى نفسه واحتمل نفسه واحتمل الآلام في سبيل الإنسان
هذه خلاصة سريعة لأعظم درامات إسخيلوس، وبرومثيوث خي درة فلسفية أعجب بها الشعراء في كل العصور، وقد عارضها شللي الشاعر الإنجليزي بمنظومة رائعة جرى بها في أذيال إسخيلوس. . . وقد كان إسخيلوس لاذعاً في هذه الدرامة، فقد سخر بهذا الإله المتغطرس زيوس الذي كان يكره الإنسان ويناوئه ولا يريد له الخير الذي أراده له برومثيوث. وجماع فلسفة إسخيلوس في هذه الدرامة أن القوة التي تهيمن على هذا العالم يجب ألا تكون قوة مجردة لا عقل لها، بل يجب أن تتضافر القوة والحكمة بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى لخير الإنسانية وعمار الكون، فإذا اختل التوازن بينهما لم يصح أن تكون هناك آلهة. . إذ كيف يكون إلهاً ذلك الذي يعذب إلهاً آخر (برومثيوث) ثلاثين ألف سنة؟ بل كيف يكون هذا الإله عاقلاً؟
وبعد، فلقد كان إسخيلوس يحتقر الديانة اليونانية ويعرف أنها أضغاث، وقد احتقرها من يوم نبوءة دلفي التي أمرت اليونانيين بأن يستسلموا للفرس لأنهم لا يغنون عن أنفسهم من
شرهم شيئاً. فلما انتصر اليونانيون آمن إسخيلوس بإله عادل يسيطر على الكون ويقهر الظالمين، ويرعى الضعفاء، فلم يأل جهداً بعد هذا في هدم هذه الآلهة الكثيرة التي خلقها السلف ووقع في عبادتها الخلف عن جهالة وغباء
هذا هو إسخيلوس الدرامي الأول، فلعل دراسته تمنعنا من الإسهاب في تأريخ من يليه من أدباء اليونان
دريني خشبة
من ذكريات لندن
حرية. . .!
للأستاذ عمر الدسوقي
مضى الشتاء متثاقلاً متلكئاً بعد أن أطلق لشياطينه العنان، تعبث بالأرض عبث الوليد بخذروفه، وتجوس خلال الديار بوجوه مقطعة مكفهرة، تتواري منها ينابيع الجمال والرحمة هلعاً وفرقاً؛ وتلفح أنفاسها الأوراق النضرة فتذوي، وأوراق الدوح فتساقط عصفاً مأكولاً؛ وتزفر زفرات مَرّتْ على زمهرير سقر، حتى تنتفض لها الدنيا، وتنكمش في أبرادها وتسري في أوصالها رعدة الفر، وقشعريرة الحمى البرود، أو ترسلها ضباباً أسود بشعاً، يملأ فجاج الأرض، تطرف منه العيون وتدمع، وتغص به الحلوق وتشرق، وتسيل الأنوف وتنتفخ، وتسعل الصدور وتنقبض؛ يحجب الشمس، ويعطل الحياة، ويحيل السبل سراديب مدجنة يرتطم فيها الأحياء بالجمادات وهم يتحسسون طريقهم، وتتراءى فيها الجمادات مردة طليت بالقار، أو اشتملت بمسوح نسجت من أديم الليل البهيم؛ أو ترسلها ريحاً زفزفاً مزمجرة، تهز الأرض هزّاً عنيفاً، وتزأر زئيراً منكراً كئيباً، يصم الآذان، ويرجف الأفئدة. . .
حتى إذا خالت الشياطين أن الدنيا قد هلكت رعباً، وحالت جثة هامدة باردة، وأشلاء ممزقة مبعثرة، دفعت بالثلج كفناً أبيض يتراكم كسفاً، ويجلل الأرض بقطع بيضاء هشة، كأنها زبد الموج الصاخب، أو شعر عجوز شمطاء اجتثته وهي مغيظة محنقة، أو العهن المنفوش، أو القطن المندوف
ثم حشدت فيلق المزن في عنان الجو، تتردى حبر الحداد، وتبكي وتنتحب، وتجهش بالعويل، فتسمع لها شهيقاً وزفيراً؛ وتسكب الدمع مطراً هتوناً تسقط حباته على الأرض كأنها نقرات الدفوف، أو عصا جبار ينكث الأرض موجدة وغيظاً، أو حجرات مسلم متعبد يرجم الشيطان بمنى، ثم تزدحم به الأودية فيطغى ويكتسح كل ما يعترض موكبه الهائج وتياره المائج
وها قد نفخ الشتاء في بوقه، فحشرت إليه شياطينه من كل فج، وولى مشيعاً باللعنات، وطفقت حرارة الحياة تتمشى في أطراف الدنيا، فتنهض الطيور الهاجعة، وتتثاءب البراعم
الوسنانة، وترقع الرياض ما بلى من كسائها بالحشائش الحواء، وتوشيه بالأزهار اليانعة العبقة الشذى
وهاهي ذي ذكاء صفراء عليلة، غب احتجاجها الطويل، ثم تتواري في خدرها بعد هنيهة، ثم تبدو أثبت قدماً وأربط جأشاً. وتحاول السماء أن تتجرد من ثياب الشتاء القاتمة الغليظة، فتمزقها إرباً إرباً، فتظهر أجزاء من أديمها الأزرق الصافي خلال بردها المهلهل الخلق
وهرع أهالي لندن إلى العراء ليشهدوا آخر معركة بين التوأمين الربيع والشتاء
وجاءتني ربة الدار فرحة متهللة، مشرقة الطلعة، كأنما نفث الربيع فيها من سحره، فغدا وجومُها بسمات، وحديثها ضحكات فحيت تحية كأفواف الزهر، ثم تغنَّت بفتنة الطبيعة في ديارها إبان الربيع، فحسبتها قمراً يُرَجِّع على فنن دوحة تميس في الحبر السندسية البديعة، أو مِزْهر عازف يوقع أنشودة الجمال الرائع؛ ثم قالت:
- حذار أن تظل جلس بيتك في مثل هذا اليوم النادر، فمسرح الطبيعة عندنا جم المناظر، تارة يلفظ شُواظاً من نار فتقبع المخلوقات في دورها، وتارة يبتسم ابتسامة الرضا فينسى الناس فترات تجهمه، فيعدون إليه بقلوب يستخفها الطرب، ويتملكها العجب. إن أشعة الشمس في بلادنا نفيسة كالذهب الوهاج، يتهافت عليها الناس ويدخرونها لأوقات يربدُّ فيها وجه السماء، وما أكثرها حتى في هذا الفصل الذي تخطر فيه الدنيا في حلة قشيبة من النّوْر، وتتنفس فيه الرياض عبيرَ الأقحوان النَّدّ، والياسمين والورد
- لقد حدثتِ فأطربت، ووصفتِ فأطنبتِ، فهل لكِ أن تهديني إلى أي الحدائق أبهج للفؤاد، وأجلى لصدى النفس، وأمتع للنظر؟
- إن لندن يا سيدي مدينة تزخر بألوف الألوف من البشر، مترامية الأطراف، واسعة الجنات، فسيحة الرقعة تتمثل فيها الحياة العاملة المجدة، والحركة الدائبة النشطة في أوجها؛ ترى قُطُر الكهرباء تجري فيها رائحة غادية، في سراديب تحت الأرض، وعلى قضب فوقها؛ وترى أسراب السيارات تجوب أرجاءها ألوفاً ألوفاً، فمنها ذوات الطبقتين كأنها بواخر تمخر عباب اليم، ومنها القميئة التي تنساب في الطرقات انسياب الصِّلال وسط الإحراج والأدغال؛ والناس فيما بين ذلك يهرولون زرافات ووحداناً، كأنما الحياة الدنيا قد أفلست وعرضت ذخائرها، وهم إلى الغنيمة يهطعون ولهم ضجيج يفزع الكواكب في
مسابحها، والشياطين في معاقلها
وحري بنا ونحن نتنفس هواء قد أفسدته الصناعة، وأنفاس الخلق، أن ننشئ الرياض العريضة الرحبة، تخُطُّها البحيرات الجميلة الجذابة، ففيها نستجم من نصب العمل والحياة المضنية، وإليها نهرع إذا ضاقت صدورنا، وكادت أرواحنا تزهق من حر أنفاسنا. ولكل روض خاصة: فإذا نشدت الهدوء والعزلة، والمنظر الخلاب البهيج، فدونك (الريجنت)؛ وإذا شئت أن تدرس طباع الشعب عن كثب، وتشهد صراع الفكر، وخطباء النَّدى، والجموع الغفيرة، والحرية المطلقة، فدونك (هايدبارك)؛ وإن كنت مولعاً بالتلال المعشبة، والرُبى الخضراء، والوهاد الفسيحة، والطبيعة الساذَجة الغفل التي لم تصقلها يد البشر، فأعمد إلى (هامستدهيث)؛ وإن كنت مغرماً بدرس النباتات وأنواعها المختلفة وأشكالها المتباينة، فعليك بحدائق (كيو) حيث يمثل فيها نبات الدنيا جمعاء. وهناك رياض أخرى لا تقل رونقاً وبهاءً وحسناً ورواءً عما ذكرت
- لقد شدت - يا سيدتي - بمدينتك فخورة مُدِلة، ولا غرو، فأنتم أمة لم تنس نصيبها من متع الدنيا وزخرفها. فها هي ذي لندن، قد تجَّلت في مبانيها سلامة الذوق والانسجام البديع، وحفت طرقها بالأشجار، وزينت منازلها بالحدائق الصغيرة سيان في ذلك بيت الأمير وبيت الحقير. وإني لنصيحتك جِدُّ مطيع، ولك مني ثناء عطر جزاء وفاقاً على ما أتحفتني به من حديث ممتع طريف؛ فمعي صباحاً، وإلى اللقاء. . .!
ذهبت إلى (هايدبارك) وها أذنا ألج ساحتها المزدحمة
يا عجباً هنا منابر وخطباء، وهنا جموع محتشدة تنصت وتنتقد وتجادل تسخر وتحتد؛ وعلى كل منبر رَق مرقوم، يفصح عن الفكرة التي يدعو إليها الخطيب أو ينافح عنها. والناس ينتقلون من حلقة إلى أخرى كأنهم زُمَر النحل، تقتطف من كل زهرة قطرة؛ حتى يقعوا على ما يَلَذ لهم حديثه، فيرهفون السمع ويعملون الفكر ويجادلون المتكلم أحرَّ جدال
هاك شيوعياً يبسط للناس مبادئ عقيدته، ويلوم في حدة وسلاطة وعنف، هؤلاء الذين اكتنزوا الذهب والفضة واستعبدوا بهما الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؛ وأخذوا يَنعمون بأطايب الحياة، ويبعثرون النضار في سبل الفسق، بينما يَغضص المجتمع بقوم يبيتون على الطوى ويندبون جَدَّهم العاثر، وزمنهم الغادر. ويدعو بكل ما أوتي من ذرابة لسان،
وشجاعة جَنان، إلى تقسيم الثروات حتى يتساوى الناس في الشقاوة والسعادة، والغنى والفقر
وهاك اشتراكياً لا يشتط كتربه وإنما يطلب - كما يقول - العدل والرحمة، والرفق بمن يكد ويكدح لينعم سيده ويقوى بمن يذوي شبابهُ ويراق دمُه، ويَضنى جسمه في المصنع والحقل؛ ليقدم للإنسانية عُدة الترف والبذخ؛ مفنداً في لباقة وطلاوة حديث ما يتصدى له الشيوعي من دعوة ترمي بالعالم في أحضان التهلكة والدمار؛ وكيف يُسَوَّي بين الذكي والغبي، والشجاع والرعديد، والقوي والضعيف، والجاد والخامل. . .؟ وهل الحياة الدنيا سوى كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيه من قويت مُنَّته، وحسنت عدته، ودأب على العمل لا يَكل ولا يمل. .؟
ثم يعرج على أزمات الأمم في عصرنا هذا، وأنها نِتاج استبداد الأغنياء بالفقراء، ولو رعى الأول حقوق الثاني لأخلص الثاني في خدمة الأول ولاستقام العالم وعاش في بُلَهنية ووفاق. ولم ينس أن يَصُبَّ ذَنُوباً من ألفاظ السباب على الحكام المستبدين وقتلهم لحرية الأفراد، وتسخيرهم الأمم لإشباع مطامعهم
وهاك يهودياً يبكي ويستبكي، ويناشد القلوب الرحيمة والعقول السليمة، أن تنصف شعب الله المختار، الذي كتبت عليه الذلة والمسكنة، والذي طارده الحكام المستبدون في كل بقعة عقد لهم فيها اللواء، وكتب الظفر، فبات شريداً طريداً، خالي الوفاض، كسير القلب، مهيض الجناح. ويقول: إننا قطعة من الإنسانية المعذبة، وأنتم يا أبناء التايمز قد ربُيتم على البر بالمحروم، والنصفة للمظلوم، ولا نطلب منكم سوى ديارنا التي كنا نقطنها منذ ألفي سنة، وما تركناها إلا قسراً وقهراً، جودوا لنا بفلسطين، نُحيلها جنَّة من جنان الخلد، ومعقلاً أميناً يصد كل من تحدثه نفسه بالتعدي على طرق الإمبراطورية العتيدة. ينفذ بمثل هذه العبارات إلى أفئدة الناس فيأسرها، ويستدر دمعهم، ويكسب عطفهم.
وهاك قسيساً، قد ارتدى مسوحه، ووقف في وقار وتزمت ينادي القطعان النافرة من حظيرة الكنيسة: أن ارجعوا إلى بارئكم، فالباطل لا يغني من الحق فتيلا وأن لكم في طمأنينة الروح عوضاً عن فقدان المادة، وأن الحياة الدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا لم يجده شيئاً؛ يدعها الإنسان وحيداً إلا مما قدمت يداه، فلا مال ولا عتاد، ولا جاه ولا
سلطان والآخرة خير لكم وأبقى
وهاك امرأة، قد تملكتها نزعة صوفية، فبرزت في أسمال، وأطمار وطفقت ترفع عقيرتها منشدة الأغنيات الدينية فتجذب إليها جموع الناس، ثم توسعهم لوماً وتأنيبا على تقصيرهم في حق المسيح، حتى إذا انفضوا عنها ضاحكين هازئين عادت تغني مرة أخرى.
وهاك ملحداً يسفه الشرائع والأديان، وهاك عالماً يشرح للدهماء أصول علم النفس وقوانين الاجتماع.
وهاك حبشياً يثير حماس القوم ضد القوة الغاشمة، والأمة الظالمة، ويلجأ إلى سجايا الإنجليز الكريمة، وأريحيتهم ومروءتهم وتقديسهم للحرية ألا يدعو وطنه يذهب نهبة لأطماع الاستعمار، وقرباناً على مذبح الغدر بالعهود والحنث بالذمم.
وهاك سفسطائياً يبرهن على أن الإنجليز هم (شعب الله المختار) لا بني إسرائيل، وأنهم أولى الناس بحلم العالم.
وهاك نازياً، يبرق ويرعد، ويتهدد ويتوعد، ويهدر كالسيل الجارف، ويغزو الديمقراطية في عقر دارها، ويرميها بالتفكك والانحلال، والضعف والفساد؛ ولاتباعها أوهاماً وخزعبلات، وتعلقها بمثل لا تغني أمام جبروت المدفع شيئاً؛ ولما لأوشاب الناس فيها من أيد وقوة، فيتخلف عن دست الحكم ذو الرأي الرشيد، ويطفر إليه من لا يقيم للأمور وزناً؛ ويرمي المجالس النيابية بأنها ميدان للثرثرة وقتل الوقت، ويقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
يا قوم، القوا أعنة أموركم ليد مصلحة سديدة، ففي ذلك العزة والمنعة، والعدل والمساواة، طهروا دياركم من اليهود الذين امتصوا دماءكم وأنتم في غفلة ساهون. ألم يسيطروا على صحفكم ويوحوا إليكم بما تعتقدون؟ ألم يخضعوا المسرح والخيالة لسلطانهم المالي، ويعرضوا عليكم ما يشاءون لا ما تريدون؟ ألم يغتصبوا ينابيع الثروة منكم، ويصيروكم فعلة مأجورين؟
إن آفات المجتمع - يا قوم - تجد المرعى خصباً ممرعاً، في ظل الديمقراطيات؛ حيث يتغنى الناس باسم الحرية فتوزع جهود الأمة، ويتفرق شيعاً، ويُشغَلون بالحزازات الحزبية عن السير في طريق الإصلاح والفلاح
راعني، وأيم الحق، تلك الحرية العجيبة، وكيف أن عقول الناس في هذا البلد، تصغي إلى كل هذه المبادئ المتباينة ولا تتأثر بها، وكيف أن حلمهم يسع كل هذه الطعنات في أنظمتهم وعقائدهم وآرائهم. ولو كان هؤلاء الدعاة في أمة أخرى غير إنجلترا لزجوا في غيابات السجون، أو حزت ألسنتهم أو قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما ينفثونه بين الناس من سموم، وما يريدونه من شر بالحكم ونظامه والمجتمع واستقراره
تركت تلك الجلبة الصاخبة، وأخذت أجوب الحديقة، فشاهدت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت؛ رأيت الفضيلة تذبح في معبد الشهوات، والناس لا يتورعون عن الفاحشة تحت شمس الضحى، وقد عادوا أشبه بالضواري في أدغالها، لا قانون ولا نظام ولا حرمة ولا حياء. انتهكت الأعراض علانية، ووطئت المكارم طواعية؛ ولم يرتفع صوت يهيب بهم: أن رفقاً بمبادئ الإنسانية والشرائع الدينية، والمثل الخلقية
بل سمعت أدهى من ذلك وأمر، أعني حماية رجال الشرطة لكل من في الحديقة، والضرب على يد كل من يتصدى لهم واعظاً أو مبكتاً، وأن الحديقة حرم يأوي إليه كل من يريد أن يفرج عن نفسه أو يطفئ نار شهوته، أو يفوه بما يعد جريمة في مكان غير هذا؛ وأن الشعب هنا يسير على سجيته وفطرته، فلا يتقيد بعرف أو نظام، بل يتمتع بالحرية المطلقة
فقلت: رحماك ربي، إن هذه أعجوبة العصر. . .!
ثم سألت شرطيا: أيتاح لي أن أعتلي منبراً كهؤلاء الخطباء؟
- ولم لا؟ ما عليك إلا أن تستأجر منبراً وتقول ما شئت، وإن استجاد الناس حديثك استمعوا لك، وإن لم يلذ لهم انفضوا من حولك
تركته شاكراً متعجباً، وقد عقدت العزم على أن أدحض باطل هذا الدجال الصهيوني الذي يفتري على الحق، ويعلي كلمة الزور والبهتان، ويدعي وطناً ليس له بحق عربي مبين؛ وقلت لنفسي: ما دام للدهماء في هذه البلاد كلمة وسلطان فجدير بي أن أسمعهم صوت فلسطين العربية
ثم عدت وزمرة من لداتي أبناء العروبة، نتبارى في تبيان قضية العرب العادلة؛ وكانت ملحمة حامية الوطيس بيننا وبين الصهيونيين، سأرجئ وصفها إلى حديث آخر إن شاء الله
عمر الدسوقي
وليم بتلر يايتس
الفنان الذي أوجد لأمة أدباً
1865 -
1939
للأستاذ عبد الكريم الناصري
في الثامن والعشرين من شهر فبراير، وفي روكبرون من كاب مارتن من أعمال فرنسا، فقدت أيرلندا وفقد معها العالَم عبقرياً من النسق الأعلى: وليم بتلر يايتس، زعيم حركة (الإحياء السلتي) وعميد الأدب الأيرلندي، وشاعر أيرلندا الأكبر، ومؤسس مسرحها الأول، وخالق نهضتها الأدبية والفنية، وعميد المذهب الرمزي في الأدب الإنجليزي الحديث. . .
كتب النقّادة (روبرت لِنْد) بعد وفاة يايتس يقول: (ما كان الفقيد فناناً عظيماً فحسبُ، وإنما كان إلى ذلك رسولاً عظيماً من رسل الفن؛ جعل حياته في سبيل خلق حركة أدبية ومسرحية أنزلت أمته أكرم المنازل بين الأمم)
ولعلّ أغلب الذين رأوه في صدر شبابه ورأوا ذلك الشعر الأسود الفاحم وتلك (الربطة) وتلك اليد الشاحبة، لم يكونوا ليروا فيه إلاّ أخا خيالات وأحلام لا قدرة له على عمل ولا صلاح فيه لتنظيم
بَيْدَ أن (يايتس) كان يشتمل على طاقة روحية وقوة حماسية لا حدَّ لهما، وكان في الوقت نفسه (عملياً) لا يقل عن غيره من أهل التنظيم والإنشاء، والمعنيّين بمسائل الجمعيات وإدارتها، حدّة ذهن وسرعة خاطر) - (وإذا كان (البعث الأيرلندي الأدبي) حدثاً من أشهر أحداث زماننا هذا فإنه إلى حماسة يايتس ودعايته ينبغي أن يُوّجه أكثر المدح والثناء)
- 2 -
ولد المستر (وليم بتلر يايتس) في (سانديماونت) من (دبلن) في 13 يونية سنة 1865، وكان أبوه مصوّراً معروفاً وكان جدّه لأمّه تاجراً قديراً. أُدخل وهو ابن تسع (مدرسة غودلِفنْ) بلندن، وحين بلغ الخامسة عشرة دخل (مدرسة إراسموس سميث). ثم دخل
الجامعة وتخصّص في التصوير، ثم انصرف إلى الشعر. وكان في العشرين حين نشر في (مجلة جامعة دبلن) أولى قصائده وهي (جزيرة التماثيل)
ويايتس نفسه يصف انصرافه إلى الشعر بأنه أكثر من استجابة لدافع من الطموح الشخصّي (فما كان موضوع أحلامه يومئذ) كما يقول النقّادة فورست (بأقلّ من خلق أدب لأيرلندة كامل. ففي تلك الأحلام تستقُّر بذور (الحركة الأيرلندية) الحديثة؛ ومع أن فكرة إنشاء مسرح قوميّ كانت لا تزال بعيدة، فإنها هي أيضاً لم تك إلا تطوّراً لطموح غلام لا يتجاوز العشرين)
كيف استطاع ذلك الفتى الصوفي الحالم، الذي كان فيما روت أديبة ناقدة في كتاب لها عنه عنوانه:(ذكريات خمس سنين) يظلّ ساعات من النهار يقرأ الشعر، ويترنم به في زاوية من الدار وهو في شبه غيبوبة، ولا يتذكر الجوع أبداً إن لم يذكّر به؛ أو ينهضُ في الهزيع الأخير من الليل ليقضي ما تبقى منه في الغناء والإنشاء، والذي كانت الراوية المذكورة تسلمه الرسالة ليُلقيها، وهو المطيع أبداً في صندوق البريد، فيتناول الرسالة ويضعها في سلة عظيمة، ويحمل السلة إلى دار البريد، والرسالة المسكينة تعلو وتنخفض، وتقوم وتقعد هنالك! والذي اتفق له مرّة أن كان واقفاً وهي إلى جانبه على الرصيف في الليل، ينتظران عربة، والمطر ينهمر مدراراً، والطريق موحل، والماء إلى الركب، فتذكر قصيدة شلي الطويلة:(النَّبتة الحساسة). فاندفع يصب الشعر في أذنيها وقد مالت المظلة التي كانت بيده بحيث لا تقي أيَّاً منهما! والذي شاهده أحد أصدقائه الشعرّاء مرة يرسم صورة لغابة أمامه، في وهج الظهيرة، والشمس تذيب الصخور؛ فلما دنا من الصورة، وجد المشهد هو مشهد الغابة ولكن الألوان. . . هي أشعة القمر!
أقول كيف استطاع هذا الشاعر الصوفي الحالم الذي ما سقنا الأمثلة السابقة من حياة صباه إلاّ لنبّين أنه ذاتيٌّ منطو على نفسه، أن يتزعم الجمعيات الكبرى، ويترأس حركة قومية وأدبية فنية تعدُّ (من أشهر أحداث زماننا هذا؟ لست أدري؛ فذلك سر من أسرار العبقرية والوراثة
ولكن الذي أدريه أن حياته كانت سلسلة باهرة من الفتوح (يتضح مَداها) كما يقول المستر روبرت لند، (لكلّ من يقارن بين مركز الأدب الأيرلندي في اللسان الإنجليزي قبل أن يبدأ
يايتس في الكتابة والنظم، وبين مركزه عند وفاته، لقد كانت أيرلندا قبل يايتس لا وجود لها على خريطة العالم الأدبية، ولكنها بقيادته أضحت مثوى للعبقرية. فليس لأديب من أدباء هذا العصر أن يفخر بعمل أجلّ من عمله وأبرز)
- 3 -
لقد التقت في (يتس) تأثيرات أيرلندية وإنجليزية وأوربية، فهو فنان رمزي، أو لعله شبه رمزي، يستمد الوحي والمادة من تقاليد أيرلندا القديمة، ومن أساطيرها البعيدة، ومن مشاهد أريافها وأرضها وسمائها، وقلما التفت إلى أهل البلاد أنفسهم، (ولكن أليست عبقرية البلاد ساكنيها؟) ويقوم شعره وخصوصاً في شبابه - وشعر شبابه قد يكون أروعَ من شعره فيما بعد، وأصدق عبارة عن طبيعة عبقريته - على صوفية رقيقة تذكر في غرابة أحلامها وشدة أسرها بصوفية (بلايك) وقد تميل إلى الرمزية وخصوصاً في مجموعته الموسومة (بالريح بين القصب) وقد ظهرت قبل بدء هذا القرن وبعد اتصال الشاعر (بملارميه) كما يقوم شعره على الألوان الغاسقة والأضواء الخافتة بوجه عام
ولفظه صقيلٌ نقيٌ بسيط. وهذه الصفة وإن غلبت على الشعر الرمزيّ والصوفيّ على العموم، لكنها في شعر يتس ترجع أيضاً إلى تأثره (بمدرسة ما قبل رفائيل). وهي مذهب في الشعر يتعلق بمذهب في التصوير تقدَّم عليه، وأساسه الرجوع بالأسلوب إلى أبسط الصور الممكنة مع العناية المبالغة بجماله وروعة إيقاعه، ثم قَصْرُه على التعبير عن معانٍ عاطفيّةٍ أو خياليّةٍ خالية من تعقيد الفكر والفلسفة. (فالفن) فوق كل اعتبار، والفنّ هو دينُ هذه المدرسة التي لا تدين بغيره. ومما يلاحظ ههنا أن أساطين هذه، ومنهم يتس، جمعوا بين فن التصوير وفن الشعر.
ولعلنا لا نغلو إذا نحن قررنا أن هذا الحس بجمال الشكل بلغ في يتس حدّاً هو إلى الإعجاز أدنى.
وليس فهم يايتس بالمطلب الهين الداني؛ ولكنك إن فهمت معنىً من تلك المعاني (الضبابية) القصية الحاملة لجو (اللاشعور) السحريّ الغاسق، ارتد جزءاً من أجزاء نفسك لا يتجزأ، وعنصراً من عناصر حياتك لا ينفكّ يعمل فيك عمله.
وليس يايتس بشاعر من (شعراء الطبيعة) - إن قصدنا بالطبيعة الطبيعة الخارجية - وإنما
هو كما سبق القول وبينت الأمثلة صوفي ذاتي (وما العالم الذي نجده في شعره إلا عالم مرَّ في دنيا خياله فتلفع بالغسق المخيم هناك). وما الطبيعة عنده إلا بحزن للرموز والحالات النفسية. فصيحة الطير رمزٌ لحبٍ مفقود، أو لقب هام على وجهه في طلاب حُبّ. وعويل الريح رمز للأسى وشهادة بالألم، وجَريَان الماء مثلٌ لذويّ الحسرة ومضيّ الزمن:
(لقد سمعت الشيوخ الطاعنين يقولون:
كل شيء يحول،
ولسوف نقضي واحداً إثر واحد، ونمضي
. . . وكانت لهم أيد كالمخالب، وكانت سوقهم ملتوية كأشجار الحسك القديمة، القائمة بجانب الجدول
لقد سمعت الشيوخ الطاعنين يقولون:
كل جميل يمضي،
كما يمضي الجدول. . .
وخيال (يايتس) يبدو على الدوام كأنه خيالُ إنسانٍ (متعبٍ) وما هو على ذلك بمتعب، أو خيال إنسان يعيش في (التخوم) بين عالم الإنس وعالم الجن (على أني في الواقع لا أستطيع أن أعبر عن مقصدي بعبارةٍ أَبين)
خيال يايتس يتّجه إلى (حيث تخوّضُ النجاد الصّخرية في البحيرة، فهنالك جزيرة وريقة، فيها الأطيار ترفرف وتصدح، فتوقظ فيران الماء الناعسة. . .) وهنالك تخفي الجنيات سلالهن المليئة بالتوت، وبالكريز الأحمر المسروق. . . هنالك:
(حيث الرسالة المعتمة الشهب
تلتمع تحت نور القمر،
وبعيداً غاية البعد عن أرض (روسن)،
سرينا، نحن معشر الجنيات،
راجلات،
نرقص قديم الرقصات،
فتختلط منا الأيدي وتختلط النظرات
حتى اختفى القمر. . .
فأنثينْا نثب هنا وهناك
ونطارد الفقاقيع الراغية،
بينما الدنيا مترعة بالآلام
والإنس قلقون حتى في المنام). .
(البقية في العدد القادم)
عبد الكريم الناصري
العاقل
للشاعر الألماني باول ارنست
للأستاذ بديع شريف
الأشخاص: (سقراط، ألسيبياد ،
المكان: (شارع في أثينا أمام بيت سقراط، السوق في المساء)
(الاثنان يبتعدان من بيت سقراط، بينما اكسانتيب تشتمهما من النافذة، ويذهبان إلى سوق المساء)
ألسيبياد - حدثتني نفسي كثيراً بأن أسألك يا سقراط عن عيشتك مع المرأة التي تزوجتها لأني أعلم أنك رجل ذكي الفؤاد، وأنك ما أقدمت على الزواج في صغرك إلا لأمر، ولا اخترت هذه المرأة إلا بعد تفكير
سقراط - إنك على حق يا ألسيبياد! فإني ما تزوجت إلا بعد أن علمت أن الآلهة ألقت في نفسي شيئاً وأني أريد أن أقوم به على أتمه، ولكني وجدت نفسي محتاجة إلى زوج أسكن إليها، فإننا معشر الرجال لا نستغني عن المرأة، ولكني ما فكرت قط في مالها وجمالها وحسبها، بل فكرت دائماً أن تكون لي زوج هادئة قنوع مرحة أستطيع أن أسكن إليها وأفكر في جنيها
ألسيبياد - أتقول إن كسانتيب كائن هادئ مرح، قنوع؟
سقراط - أتعتقد أن سقراط تزوج كسانتيب ولم تتزوج كسانتيب سقراط؟!
ألسيبياد - نعم، إن كسانتيب أيضاً تزوجت سقراط
سقراط - وماذا تظن في كسانتيب، هل فكرت في شيء حين تزوجتني؟
ألسيبياد (ضاحكا) - ظنت أنها تزوجت رجلاً مجتهداً عاملاً يكسب الدرهم، لتعيش هي مع أولادها على حسب منزلتها في المجتمع
سقراط - يظهر لي أن قولك الحق، ولكن يا ألسبياد! ماذا عساها تقول عني اليوم؟
ألسيبياد - إنها ملأت الشارع سباً، وعرفت جميع المارين أنك رجل باهلٌ وأنك تقضي طوال النهار تهذي مع الشباب بدلاً من أن يكون لك محل تعمل فيه.
سقراط - أتظن أنها على حق؟
ألسيبياد - ليس لها حق! ولكن لها أن تقول: إنني امرأة فقيرة، أريد رجلاً غير هذا. أريد زوجاً يكتسب، لا زوجاً يتفلسف
سقراط - ربما تريد قصاباً، أو خبازاً
ألسيبياد - نعم! تريد مثل هذين، فتكون له زوجاً مدبرة نظيفة مجتهدة مقتصدة يخشى بأسها الخدم
سقراط - ألست على الحق حين أقول: إنها امرأة أثرة، معتدة بنفسها، غضوب، سيئة غبية، حمقاء؟
ألسيبياد - لا! لست على حق، لكن لك أن تقول: إنني رجل تأمل فرأى نفسه محتاجة إلى زوج هادئة، مرحة قنوع، يستطيع أن يفكر في جنبها.
سقراط - لقد وصلنا إلى السوق، وهاهي ذي امرأة الفلاح جالسة، تلك التي ضحكنا منها كثيراً عندما كانت تحدثنا عن دجاجها وتثني على بيضها. أتعرف ماذا كانت تقص علينا؟ كانت تقول: عندي عشرون دجاجة وديك واحد، في كل يوم يبيضن عشرين بيضة، آتي بها إلى سوق أثينا فأبيعها، وإن دجاجي لا مثيل لها في القرية، وقد يكون في البيضة محان، لذل لا ينثني عن من اشترى مني أول مرة. ولا أكذبكم فقد تكون بيضة في هذا البيض ذات محين. إنني محسودة من جميع الجيران، ومن له مثل هذا الدجاج لا يعدم الحساد. إن لي مشترين كراماً يعرفون أن دجاجي من الطراز الأول. وكيف أقتني الرديء وقد ورثت تربية الدجاج أباً عن جد؟ أتدري يا ألسيبياد ماذا أوحت هذه المرأة إلى (أرسطوفان) فطفق يتحدث عن دجاجها؟ لقد أطرق أرسطوفان مليا ثم وضع إصبعه على أنفه وقال: دعونا نذهب إلى دار هذه المرأة ونسأل دجاجها ثم نرى ماذا تقول؟ إني لا أشك في أنها ستقول: إننا بين يدي امرأة صالحة تنثر لنا الحب الملتوت بكثير من المشهيات في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء بنظام لا يتغير. على أننا لا ننسى ذلك الصوت الحنون الذي نسمعه عند كل وجبة، وإذا قدمت لنا الماء قدمته عذباً صافياً، وفي كل عام تطلي قننا بالكأس مرة أو مرتين، وبالإيجاز إننا راضيات عن هذه المرأة ولا نريد امرأة كسلي لا نظام عندها لأننا ما تعودنا الإهمال وعدم النظام. هكذا كان ينشد أرسطوفان في شعره فكلكم ضحك عليه
وسخر منه، لأنه استطاع أن يعبر عن نفسية الدجاج لكن ماذا ترى؟ إني أرى بين يديها دجاجاً مذبوحاً!
الفلاحة: أتريدون مرق دجاج سمين؟ هلما! إنه دجاج حديث الذبح. المساه، إنه سمين. انظرا هذه القطعة الصفراء، إن أجوافهن مبطنة بالشحم، كل دجاجة تزن أكثر من ثلاثة أرطال
سقراط (إلى المرأة): يسرني أن أعرف شيئاً عن تربية الدجاج أيتها الفلاحة! فهل تستطيعين أن تعلميني: أيهما أنفع لك، ذبح الدجاج وبيعه في السوق ليطبخ ويؤكل أو تعنين به كل يوم فينتج لك البيض وتبيعينه في السوق؟
المرأة - وا حسرتاه! إن هذا الدجاج الخائن كاد يقضي عليًّ من الحقد والحزن عليه؛ فإن واحدة منهن باضت بيضة لم يتكامل قشرها، فأكلنها حالاً فاستذوقنها، وجعلن ينقرن البيض كلما بضن ثم يأكلنه، فما حصلت بعد هذا على واحدة. لهذا ذبحتهن. المساهن. إنهن سمينات. لقد كان لهن بيض نقي يندر وجوده في القرية. ويلهن! إنهن خائنات
سقراط - شكراً أيتها المرأة الصالحة، إني لا أريد شراء
الفلاحة - كل واحدة بدرهمين، منتوفة، منظفة. انظرا، هاهما تان الرئتان، هاهي ذه القانصة، هاهو ذي الكبد، والقلب، كلها موضوعة في الجوف، إن امرأتيكما تستطيعان أن تضعاها في القدر حالاً
ألسيبياد (إلى سقراط) - يجب أن نذهب بسرعة
الفلاحة - أما رأيتما غير هذه المرأة المسكينة موضوعا للهذر والتسلية أيها النكدان! إن رجلاً مثلك كسلان، لا يمتلك حذاء يستطيع أن يأكل دجاجاً؟ (المرأة تستمر في السب بحيث لا يتميز كلامها وهما يسرعان الخطا)
سقراط - ماذا تعتقد يا ألسيبياد في الدجاج؟ لو استطاع أن يتكلم حين ذبحته المرأة فماذا يقول؟؟
ألسيبياد (واضعا إصبعه على أنفه) - إنه يقول إن هذه المرأة لخائنة لقد ذبحتنا، إنها سفاكة، لقد كان علينا أن نعرف نياتها من قبل!
سقراط - ماذا تظن يا ألسيبياد؟ هل تغير الدجاج، فكان قبلاً صالحاً ثم صار خائناً؟ وهل
تغيرت المرأة حيث كانت ودوداً ثم عادت خائنة سفاكة؟؟
ألسيبياد (ضاحكا) - إن الدجاج هو الدجاج، وإن المرأة هي هي. لكن كلٌ في هذه الحياة يعتقد إنه هو الموجود الأهم. وليس هذا فحسب، بل على الغير أن يشاركه في هذا الاعتقاد. على أن هذا الغير يعتقد كما يعتقد الاول؛ لذلك كان الدجاج صالحاً عند المرأة؛ لأنه كان يقدم لها البيض، فلما احتفظ الدجاج ببيضه لنفسه أصبح خائناً. وكانت المرأة صالحة عندما كانت تقدم للدجاج الطعام، فلما ذبحته عادت سفاكة خائنة
سقراط - وحق الكلب! إن الأمر يجري هنا كما يجري هناك، أي كما يجري بيني وبين زوجي كسانتيب
ألسيبياد - إسمع يا سقراط - إنك تعرف أنني وقفت حياتي في خدمة الدولة وعالجت شئونها، ألا يحتمل أن تنشأ العداوة والبغضاء بين الناس كما نشأت بين الدجاج والمرأة؟؟
سقراط - يظهر لي أن هذه الفكرة لم تكن خطأ
ألسبياد - وأيضاً ليس كالعداوة بين المرأة والدجاج فحسب بل مثلما بين سقراط واكسانتيب؟
سقراط - ربما يكون الأمر كذلك
ألسبياد - لكن أيترك الرجل العاقل الناس يشتمون ثم يعمل هو ما هو الواجب
سقراط - هذا ما أعتقد.
بديع شريف
على هامش الفلسفة
طريقة الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
قلنا في الكلمة الأخيرة: ما هي الطريقة التي تتبع لمعرفة الخير من الشر، ولتحديد المثل الأعلى الأخلاقي تحديداً صالحاً مرضياً من الجميع؟ تساءلنا كذلك بعد أن أثبتنا أن الأخلاق علم من العلوم فيجب أن نسير في دراسته على الطرائق العلمية التي تصل بنا إلى الغرض في غير عوج ولا التواء
على أن الفصل في هذا ليس سهلاً ميسوراً؛ فهي مسألة ولا أبا حسن لها! مسألة اشتجر فيها الخلاف بين المفكرين والفلاسفة، بل لعل الخلاف لا يزال قائماً فيها حتى اليوم. يرى البعض أخذ الأخلاق من الدين - فهو المعين الذين ينقع الغلة ولا يكذب قاصده - أو مما وراء الطبيعة أو من علم الاجتماع؛ ويرى آخرون أنه من الخير أن نتعرف المبادئ الخلقية بأداة المعرفة المباشرة أي بالحماسة الخلقية التي تدرك الخير والشر من نفسها بدون نظر واستدلال:(استفْت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)؛ بينما يذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الواجب أن يطبق في الدراسات الأخلاقية الطريقة التجريبية الاستقرائية
الأخلاق الإستنتاجية
من الممكن كما يرى فريق من الباحثين أن نستنتج الأخلاق إما من الدين أو مما وراء الطبيعة أو من العلم الذي تنتمي إليه العلوم وهو علم الاجتماع
بالبحث نعرف أن الأخلاق، أو المبادئ الخلقية العامة، في كل الأديان التاريخية مستقاة من الإلهيات. نرى رجال الدين يقررون أولاً المسائل الخاصة بالله وصفاته وكمالاته، وبالحياة الأخرى ونعيمها وعقابها، ثم يربطون بذلك نتائج خلقية مردها للكتب المقدسة. يقررون أن الله لم يخلقنا عبثاً:(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) وأنه لابد محاسب كلا على ما جنت يداه: (لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وأنه لابد من دار أخرى يكون فيها ذلك الحساب على ما أسلف المرء من خير أو شر: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيدا). كما يقررون أن
الجنة التي عرضها السموات والأرض (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس) وأن النار عقبى الظالمين. ويستنتجون من هذه الحقائق الدينية وأمثالها أن المرء يجب أن يكون خيّراً في كل أعماله، وأن ينأى دائماً عن الشر وبذلك يصل للكمال الأخلاقي. والخير والشر هنا ما جاءت به الكتب السماوية
استنتاج منطقي حسن من الناحية العملية؛ إلا إنه ليس له القيمة التي تؤتى ثمرها الخلقي إلا لدى المؤمنين بالله والدار الأخرى والثواب والعقاب وبهذا أو ذاك من الكتب المقدسة. فكيف العمل بمن لا يؤمن بإله أو رسول، أو بمن يؤمن بالإنجيل دون التوراة، أو بالعكس، أو بهذين دون القرآن الكريم؟ إذن ليس من الممكن بهذا الطريق أن نصل لتحديد قانون أخلاقي يرضاه الناس جميعاً على ما بينهم من خلف في الأديان والمعتقدات (فضلاً عن هذا فالرباط الذي يكون بين هذه العقائد الدينية والأفكار والآراء والمبادئ الخلقية التي يربطونها بها يكون غالباً واهياً متداعياً، فلا يكون الاستنتاج قوياً له قيمته وخطره)
وهاهو ذا العلامة (جوستاف بيلو يقول عن هذه المسألة (من الناحية المسيحية طبعاً): (ليفتح من يشاء أي كتاب من كتب العقائد الدينية: وحينئذ ماذا يجد. يجد أن الجانب الأكبر منه مشحون بالنظريات الخاصة بالله وقدرته وصفاته وأن الأخلاق تجيء في المركز الثانوي منه، وأنه من الواجب أن نكره الطفل على أن يفهم ويقبل نظاماً من الاعتقادات الدينية دون أن نعني بالتساؤل عما إذا كان في مقدوره فهمها! إن رجال الدين يجأرون بالشكوى من تزعزع الأخلاق وتدهورها من يوم لآخر لأن الإيمان يتزلزل من آونة لأخرى. لو أن هذا كان صحيحاً فعلى من تقع التبعة والمسؤولية؟ أليس على هؤلاء الذين يعملون دائماً على تفهيم الأطفال أن الأخلاق تتعلق دائماً بالدين والعقائد الدينية؟ مع أنه ليس في مقدورهم حماية هذه الاعتقادات من حملات الشك ومعاركه التي تنشب من حين لآخر. إنه مما يتفق مع حقائق الأشياء كما يتفق مع الحقائق العملية أن يرد للأخلاق استقلالها)
ينقد هذان الأستاذان الباحثين في الأخلاق من المسيحيين، وقد أصابا في كثير مما نقداه. إن الديانة المسيحية أعلنت في مبدأ أمدها الحرب الضروس على الفلسفة الإغريقية معلنة أن الأخلاق ليس لها أن ترجع في معينها للعقل والنظر، ولا أن تُترك للفلاسفة الذين هم بشر
يخطئون ويصيبون؛ وإنما الدين وحده هو الحري بنشر التعاليم الصحيحة والأخلاق الفاضلة التي يوحي بها العليم الحكيم؛ ومن ثم أصبحت الأخلاق لا ترتكز على النظر المنطقي السليم، بل على الوحي المسيحي وحده، وصار أجل الفضائل في نظر المسيحية هو حب الله والإيمان به اللذان يوصلان إلى الخير الأسمى والسعادة الكاملة في الدار الأخرى بدل أن كان أرقى الفضائل وأسماها هي الحكمة في رأي الفلسفة اليونانية
أما الإسلام فلم يبخس العقل حقه ولم يحجر عليه في التفكير. أمرنا أن نعمل عقولنا فيما خلقت له، وأن نفكر في خلق السموات والأرض:(وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. إن في ذلك لآيات لأولى الألباب). كذلك لم يلجأ الإسلام في تحديد قيم الأعمال الأخلاقية، وبيان خيرها من شرها إلى ما فيها من منافع وملاذ في العاجل أو في الآجل كما يتوهم واهم إذا قرأ وصف الجنة، والترغيب فيها، والنار والترهيب منها؛ بل هو يخاطب كلاّ حسب ما يسعه فهمه تمشياً مع الغرائز الإنسانية. حتى إذا فعل المرء خير رجاء الصواب مرات عديدة أصبح له عادة، ويتشربه قلبه ويفهم ما فيه من جمال وسمو ذاتيين، فينتهي به الأمر إلى أن يفعله لذاته وحده. وهذا عين ما أراده الرسول إذ قال:(نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه). أي أن المثل الخلقي الكامل هو ما وصل إليه صهيب وأمثاله من فعل الخير، وترك الشر لذاتهما لا رغباً ولا رهباً.
على أننا نجد في تاريخ التفكير الإسلامي أن فريقاً كبيراً من المسلمين وهم المعتزلة يقررون أن الأعمال توصف بالحسن والقبح لذاتها لا لأن الشرع أمر بها أو نهى عنها، فيكون الشرع مبينا لصفاتها لا مثبتا لما ليس فيها. ويدللون لذلك باتفاق الناس على كثير من الفضائل والرذائل قبل مجيء الشرائع السماوية، إلى غير ذلك من الأدلة التي ليس هذا موضعها وليس هذا رأي المعتزلة وحدهم بل كان رأي غيرهم من مفكري المسلمين وحكمائهم أمثال الفارابي الذي يؤكد أن العقل يستطيع أن يحكم على العمل بأنه خير أو شر بنفسه بدون رجوع للوحي؛ لأن العقل عنده ليس إلا قبسا من النور الإلهي. وابن طفيل في رسالة (حي ابن يقظان) يجعل العقل قادراً على إدراك الحقائق كلها (ومنها طبعاً الخير والشر) وعلى العروج في المعارف العُلى حتى يصل للحقيقة المطلقة، لمعرفة الله تعالى.
وابن رشد فيلسوف الأندلس بل الإسلام يقرر أن العمل يكون خيراً أو شراً لمعان يكشفها العقل، وليس ذلك لأن الله أمر أو نهي
والخلاف في هذه المسألة يذكرنا بالخلاف بين الفلاسفة المحدثين فيما سمَّوه (نظرية القيم). فإنا نراهم مختلفين في أن القيم التي تقدر بها الأشياء من جمال وقبح وخير وشر وحق وباطل صفات عينية في الأشياء؛ كالألوان والطعوم والروائح، وبذلك يكون لها وجود مستقل عن العقل الذي وظيفته حينئذ إدراكها لا إثباتها؟ أم هي من صنع العقل (يصف بها بعض الناس الأشياء إذا كانت لها في نظرهم قيمة، ولهم فيها غرض أو غاية، ولا توجد إلا حيث توجد هذه الغاية). ذهبت طائفة إلى الرأي الأول، وأخرى إلى الرأي الثاني. ولكل وجهة هو موليها.
وأخيراً؛ إذا كان أخذ الأخلاق من الدين وربطها به منقوداً من بعض نواحيه كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار علماء ما وراء الطبيعة. وموعدنا ببسط آرائهم الكلمة الآتية إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
للأستاذ محمود الخفيف
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
ظل عرابي في مرحلته الأولى في الجندية ساخطاً على الأتراك في الجيش والجركس لا يفتر سخطه ولا ينقطع عليهم شغبه، يكيدون له ويكيد لهم. وإنا لنلمس في هذا سبباً قويّاً من أسباب زعامته للحركة العسكرية فيما بعد، فلسوف يلتقي في دار هذا المتبرم الساخط رؤوس الساخطين الحانقين من رجال الجندية يوم يزمعون أن يشتكوا إلى الحكومة في أوائل عهد توفيق مما يلحق بهم من سياسة وزير الجهادية الجركسي عثمان رفقي
ويشير عرابي في مذكراته إلى حسن صلته بسعيد باشا حتى لقد أهدى إليه هذا الوالي كما يذكر تاريخ نابليون؛ ولقد قرأ عرابي هذا التاريخ، ولست أستطيع أن أتبين على وجه التحقيق ما تركه مثل هذا الموضوع من أثر في نفسه، فلم يعلق هو على ذلك إلا بقوله:(ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سبباً لمطالعتي كثيراً من التواريخ العربية). ولست أدري كيف توحي قراءة تاريخ نابليون بحاجة مصر إلى حكومة شورية دستورية؟ على أن قراءة سيرة هذا الجندي المغامر الفذ الذي وصل بجده إلى قمة المجد الحربي وبلغ أوج الشهرة والجاه توحي إلى كل من يقرؤها معاني الإقدام والبطولة، وتملأ النفوس تطلعاً وحماسة. وعلى هذا فلا يصعب أن نتصور ما عسى أن تلقيه تلك السيرة من المعاني في نفس كنفس عرابي الجندي المتطلع المتوثب
ويشير عرابي في كتابه إلى أن سعيداً كان يميل إلى المصريين في الجيش والى رفع ما يلحق بهم من غبن أمام الجركس، كما يشير إلى إنه كانت لسعيد نزعة وطنية تجلت في خطبة أثبتها عرابي في كتابه وكان قد سمعها في الحفلة التي ألقيت فيها، يقول عرابي: (فلما انتهت الخطبة خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حانقين مدهوشين مما سمعوا؛ وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلل فرحاً واستبشاراً. وأما أنا فاعتبرت هذه
الخطبة أول حجر في أساس نظام مصر للمصريين. وعلى هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضع أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة)
ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سنت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على إنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبر
ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون حتى المغرضون منهم لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسبه من أن عرابياً قد اتجه منذ نشأته اتجاهاً قومياً وطنياً، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية. ففي هذه النزعة القومية نرى عرابياً الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرخين فما أبعده عن هذا. وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلوا حركة عرابي أقبح استغلال، إلا أن يصوروه أقبح صورة؟ فلا يكون عندهم إلا جندياً جاهلاً مغروراً واتته الظروف فراح يخيط في حماقته لا يلوي على شيء وما زال في جنونه يلوح بسيفه حتى اضطر آخر الأمر أن يسلمه صاغراً إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي!
ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية وهي لا تخلو من الصفة الوطنية بالحركة الوطنية العامة؛ ثم لقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تحاك الدسائس وتوقد نار الفتنة تنفيذاً لسياسة مرسومة سوف نميط عنها بكل ما وسعنا من حجة. . .
هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة، هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا. ولقد كانت هذه النزعة كما ذكرت تجيش بها نفسه منذ شب. كتب في ذلك مستر بلنت وكان من أصدقاء عرابي يقول في علاقة عرابي بسعيد: (وقد حظي عرابي الذي كان وسيما ووجيهاً برضائه حتى سمى أركان حرب له ورافق سعيداً إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته. وعندي أن عرابي كون آراءه السياسية الأولى أثناء حديثه مع سيده في هذه السفرة التي كانا فيها متلازمين،
وتنحصر هذه الآراء في المساواة بين الطبقات، وفي الاحترام الواجب للفلاح باعتباره العنصر الأساسي المجد في الجيش المصري؛ وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي ميز عرابيا عن مصلحي ذلك العصر. وغني عن البيان أن حركة الإصلاح الأزهرية كانت تشمل المسلمين ولا تميز بين الأجناس؛ أما حركة عرابي فكانت قومية ولذلك كانت الوطنية فيها أظهر، وإقبال الناس عليها أقوى وأكثر)
وفي عهد إسماعيل يزداد نفور عرابي من الجركس وتزداد ميوله الوطنية وضوحاً باتصاله بالحركة الوطنية التي أخذت تدب في جسد الأمة المنحل الذي أثقلته سياسة إسماعيل وديون إسماعيل
وكذلك تزداد في هذا العصر نزعة تمرده وسخطه وتتجلى في كثير من مواقفه، ومن أهم تلك المواقف ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له حتى رفت من الجندية، وكان خسرو هذا جركسياً ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهماً إياه بأنه:(صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية). وأما سبب الخلاف بينه وبين خسرو فيذكر عرابي إنه كان في لجنة لامتحان الضباط وكان على رأسها خسرو، فأراد أن يتحيز إلى أحد الجراكسة فيعطيه ما لا يستحق ولم يرض عرابي على رغم إلحاحه عليه أن يشايعه في ذلك فعول على الانتقام منه
والذي يعنينا من هذه الرواية أنها تصور لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف، كذلك يكشف لنا ما علق به عليها عرابي عن ناحية من عقليته، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من المصائب معدداً أسماءهم مبيناً ما لحق بكل منهم مورداً ذلك على إنه انتقام له من الله. . . وفي هذا نوع من السذاجة لاشك كما أن فيه دليلاً على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه
على أن هذه الناحية الدينية في حياته قد استغلها ضده خصومه كذلك محاولين أن يسوقوها دليلاً على إنه كان رجلاً لا يفترق كثيراً عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، دون أن يشعروا أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم هم، أو على الأقل أنهم إذا كانوا يدركون خطأ هذا التعميم ثم يتمسكون به فإنما ينالون من أنفسهم لا من نفسه
كان للدين سلطانه على عقل عرابي ما في ذلك شك، ولكن تلك كانت نزعة العصر. على أننا نسأل ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يساق هذا على إنه من مساوئه وحقيق به أن يكون من حسناته؟ وهل عاب أحد على كرمويل وهو جندي مثله تزمته وتقشفه وصرامته في دينه؟ وهب إنه كان يغلو أحياناً فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصب بالسياسة فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على إنه اتخذ يوماً من الدين سلاحاً في غير محله؟ أو على إنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مبعداً عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو فعاد، ولكنه طلب أن يحال على الأعمال المدنية كمكافحة الفيضان والإشراف على بناء الجسور من ناحية نقل ما يلزم من الأدوات؛ وإنه ليذكر إنه بذل في تلك الأعمال جهداً كبيراً، ولكنه رأى غيره يكافأ مكافآت مالية أما هو فكان جزاؤه كما يقول:(وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيا لله ما أمر وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة)
على أن مستر بلنت يذكر أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سبباً من أسباب نقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمرين
وأعيد عرابي بعد ذلك إلى الجندية وألحق بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب فقد كان يعمل في منصب مأمور مهمات بمصوع. ولقد عظم حنق عرابي على تلك الحملة فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل بالجيش فيها من كوارث في غير موجب. جاء في كتاب مستر بلنت:(وقد عاد منها كسائر زملائه ساخطاً على ما حدث فيها من سوء التصرف، وإلى هذا يرجع تفرغه الآن للسياسة، وتعاظم غيظه الذي كان موجهاً بعد ذلك نحو الخديو)
وفي فبراير عام 1878 وقعت مظاهرة الضباط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها
بوادر الثورة العسكرية. يتلخص الحادث في أن عدداً من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم، قد توجهوا إلى وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فلما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما وأشبعوا نوبار لطماً ولكماً وراحوا يجرونه من شاربيه، وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية؛ وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو بنفسه في فرقة من حرسه حينما نمى إليه خبره، وأمر الخديو بإطلاق النار إرهاباً فأطلقت رصاصات في الهواء وفر المتظاهرون
ولكن تهمة القيام بهذه المظاهرة أو تدبيرها قد وجهت إلى عرابي وأثنين آخرين من الضباط، وعقد لهم مجلس يحاكمهم وأصدر المجلس حكمه بتوبيخهم وفصل كل منهم عن ألايه إلى جهة بعيدة وكانت الإسكندرية نصيب عرابي، وفيها اتصل بكثير من الأوربيين
ويدفع عرابي التهمة عن نفسه مقررا أنه لا يد له فيها مطلقاً إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث، ذكر ذلك في مذكراته وذكره كذلك في التاريخ الذي كتبه لمستر بلنت بناء على طلبه عام 1903 بعد عودته من منفاه. ولقد أطلع مستر بلنت الشيخ محمد عبده على ما كتب عرابي، فوافق على براءته من هذا الحادث
ولقد أدى اتهام عرابي على هذا النحو إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل. ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع التي توجهه إلى الاتصال بالوطنيين بغية معاونتهم والاستعانة بهم على تنفيذ ما كانوا يأملونه من وجوه الإصلاح. ذكر عرابي فيما كتبه لمستر بلنت: (ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا (يشير إلى الضابطين اللذين اتهما معه) فاقترحت عليهما أن نكون عصبة لخلع إسماعيل. ولو فعلنا لحللنا المسألة من وقتها لأن القناصل كانوا يرغبون في التخلص منه بأية طريقة. . . ولكن لم يكن قد ظهر بعد من يقود هذه الحركة فوافق الموجودون على رأيي ولكنا لم نقدر على تنفيذه)
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ النشاشيبي
361 -
لا أعرف منهم شخصاً ولا يعرفوني
طلع الدين مستغيثاً إلى الله وقال: العباد قد ظلموني! يتسمون بي وحقك لا أعرف منهم شخصاً ولا يعرفوني
362 -
. . . حتى نروي أشعار المجانين
في (الأغاني) قال ابن دأب: قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئاً؟
قال: أوقد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين؟! إنهم لكثير
فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق
فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رؤوسها. فأما نزار فلا
363 -
ثلاث كلمات بألف دينار
في (سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون): كان رجل على عهد كسرى أتوشران يقول: من يشتري ثلاث كلمات بألف دينار؟ فتطير منه الناس إلى أن وصل إلى كسرى فأحضره وسأله عنها فقال: (ليس في الناس كلهم خير)
فقال كسرى: هذا صحيح، ثم ماذا؟
فقال: (ولابد منهم)
قال: صدقت، ثم ماذا؟
قال: (فألبسهم على قدر ذلك)
قال كسرى: قد استوجبت المال فخذه قال: لا حاجة لي به وإنما أردت أن أدري من يشتري الحكمة بالمال.
364 -
أليس نكون شهداء الطرب
(مسالك الأبصار) للعمري: قال محمد بن المؤمل: كنت مع أبي العتاهية في سميريته ونحن
سائرون إلى أشموني. فسمع غناء من بعض تلك النواحي، فاستحسنه وطرب له، وقال لي: أتحسن أن ترقص؟ فقلت: نعم. فقال: فقم بنا نرقص. فقلت: في سميرية؟ أخاف أن نغرق
فقال: إن غرقنا أليس نكون شهداء الطرب؟؟
365 -
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
في (تجارب الأمم) لابن مسكويه (أحمد بن محمد):
أفرد في دار عضد الدولة (في بغداد) لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه، وهو الحجرة التي يختص بها الحجاب. فكانوا يجتمعون للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم، وكرامات تتصل بهم
366 -
سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يختار
في (طبقات الشافعية): من ظريف ما يحكى عن القاضي عبد الجبار (المعتزلي) أن الأستاذ أبا إسحاق الشيرازي (الشافعي) نزل به ضيفاً. فقال (القاضي مداعباً): سبحان من لا يريد المكروه من الفجار
فقال الأستاذ: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يختار. وهو جواب حاضر.
367 -
أقدر على تركه
في (الغرر والدرر) لأبي القاسم علي بن الطاهر المرتضى: حكى أبو القاسم البلخي: أن عبد الله بن الحسن قال لابنه محمد. كل خصالك محمودة إلا قولك بالقدر
قال: يا أبت فهو شيء اقدر على تركه. فورد الكلام على رجل عاقل فقال: لا عاتبتك عليه أبداً
قال أبو القاسم البلخي: يقول إن كنت اقدر على تركه فهو قولي، وإن كنت لا أقدر عليه فلم تعاتبني على شيء لا اقدر عليه؟
368 -
فشرده بقرص دريهمات
إذا استثقلت أو أبغضت خلقا
…
وسرك بعدُه حتى التنادي
فشرّدْه بقرض دريهمات
…
فإن القرض داعية الفساد
369 -
دعوه فإني أعرف عذره. . .
في (المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء): يروى أن النضر بن شُمَيْل صاحب الخليل حضر مع جماعة من الأدباء فغنّتهم قينة:
وقالوا لها: هذا محبك معرض
…
فقالت: أرى إعراضه أيسر الخطْبِ
وما هي إلا نظرة بتبسم
…
فتصطك رجلاه ويسقط للجنب
وأحسنت، فطرب الجماعة إلا النضر. فألحوا عليه بالعذل، فقالت القينة: دعوه فإني أعرف عذره. إنما سببه كون إنشادي: (هذا محبك معرض) ولم أقل: (معرضاً) ألم يعلم أن عبد الله ابن مسعود قرأ. (وهذا بَعْلي شيخ) فلما سمع النضر ذلك قام وأظهر الطرب
370 -
من أجل أنك فارس
أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً
…
فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: مالي رأيتك راجلاً؟
…
فقلت له: من أجل أنك فارس!
وحي الشاعرية
تمرُّد الخيال
للأستاذ حسن القاياتي
أبت الهناءة أن تغازلها المَنى
…
شَبَهَ الفرادس ما أعزَّ وأَحسنا
لي من زماني أن أروع مجَادةً
…
وعليَّ أن أصِلَ الشكاة وأُفْتَنَا
لِمَنَ الهناَءة في غِنىً ومحبةٍ
…
كَلاّ فكم تصِم المحبةُ والغنى؟
ما للفتاة ازَّينت فهفا بها
…
لُبُّ الفتى ثم انثنى فازّيَّنَا؟
صَلَفُ الملاحة أنها معبودة
…
تَصِفُ المهانةَ كلما بُذِلَتْ لنا
قسماً لو أن الحسن أُرسل كله
…
طَلْقاً لما فتح القُلوب وأوْهنَا
كم فاتِكٍ حرس الجمالَ مخافةً
…
أن يستثير من الحنان الأْعينا
إن الذي خلق الصبَّاحة زينةً
…
قالوا تَغَضّبَ أن تلوح فَتُفْتَنَا!
وَرْدٌ يَرفُّ نضارةً ما بَاُلهُ
…
لا يجُتلَى إذ كلُّ وردٍ يجُتَنَى؟
لولا مخادعةُ الغرائز لم تَرُمْ
…
متمنِّعاً بالحسن إلاّ أَمْكَنَا
أوَّاه واكبدي أكلُّ مُحَّبب
…
إذ كان مُقْتَرَحَ العيون تَحَصَّنَا؟
فَتن الجمالُ على الحجاب وقَلّمَا
…
كان السفور أرقَّ منه وَأَفْتَنَا
الحسن يَخْتَبِلُ النفوس لأنها
…
وَصَمت حُلَاه بأن تُذال وتُسْجَنَا
زعم الحجا أن اللثام غضاضةُ
…
فاليوم إذ سفر الأوانسُ بَرْهَنَا
ليت الذي صنع السلاسل حليةً
…
للغيد أطلق سربهنَّ وغَلّنَا
للغيد أنفسنا فليت عُيونها
…
تُوْدي بنا شغفاً إذا لم تُحْينا
(إحسان) ما أقسى هواك فليته
…
في لين عطفك ما أرقَّ وألينا
أخلو فيعصمني الحياءُ فمن رأى
…
كيف انْثَنَيْتُ وفاتني كيف انَثنى؟
كَذبُ المنى وكرامة تَشْفَى بها
…
دون الهوان وعزةٍ تَشقَي بِنَا
ماذا لقيتُ وما أرَبْتُُ وشدَّ ما
…
خطب السموَّ فتىً أَراب فَأَعْلَنَا؟
ذو اللُّبِّ تحزنه مشاهدُ جَمَّةٌ
…
والُّلبُّ يعصم ربَّه أن يّحْزَنَا
أَدِرِ الحديث عن البيان لعله
…
يجني لنا ثمرَ المنَى ولعلَّنَا
ما قيمةُ الأدب السَّرِيِّ وما جنَى
…
منه البديع سوى أَجَادَ وَأحْسَنَا
سَل أفصح الشّادين أيَّةُ غِبطةٍ
…
حَلَّت ببيت صاغ أو بيتٍ بَنَى؟
يُزْجُون من رُتب البيان لمحسن
…
يَشْآهُ مُقْتَبَلٌ يَبُذُّ المحسنا؟
ليس البديع من العلاء ولم يكن=للأوْج أن يُهدي لكوكبه السَّنَا
كم فاتن تحت الخمول كما شدا=غرِّيدُ ليل ما أرقَّ وَأَفْتَنَا
تَرِفُ الشمائل كَمْ يُتَاُح لجفوةٍ
…
كالماءِ ينبت في مسالكه القَنَا
يا موحياً سور الإشادة رقيةً
…
أنا شاعرٌ صفتي ولكن مَن أنا؟
ملك الفصيح العذب ليتك آخذي
…
بوثيقةٍ عبدَ البيان الألْكَنَا
مَن عَزَّهُ وَزْنُ الرِّجال فَقَصْرُهُ
…
أَلا يصوغ الحمدَ حتى يُوْزَنَا
الرَّأْيُ أشيعه الأفِينُ إذا مشت
…
في الشعب خاطئةٌ أَصَاخَ فَأَمَّنَا
شهد الحجا أن الجماعة ضَلّةٌ
…
حتى إذا قضت الجماعةُ أَيْقَنَا
أَوَّاه من جَنَفِ العشير فإِنه
…
غَلَّ النُّهَا عنَتاً وفَلَّ الألْسُنَا
العدل في الأُخري وتلك عُلالةٌ
…
عدلُ يُقامُ هناك من ظلمٍ هنا!
الحر يَصْطَنِعُ الإباَء فديته
…
بالشعب يُصْرَعُ بالهوان فَيُقْتَنَي
أَمَلُ التَّحَضُّرِ كل جَزْلٍ مُفْضِلٍ
…
شَرِقُ الحجا بعلومه غَضُّ اْلَجَنى
في الناس مُبْتَكَرُ االحياةِ وهاتفٌ
…
شَادِيَّ غّرِّدْ بالقَديم وغَنِّنَا
إن الحياة فضيلة من هَدَّهَا
…
سقط الأخَسَّ من الشعوب الأوهَنا
من عاش لا وطناً حماه ولا انْتَحَى
…
للصالحات فكيف عاش بلا مُنَى؟
النُّبْلُ مُحْتَفَلُ الثراء فلا تَسَلْ
…
كيف استقلَّ الشعبُ بل ماذا اقَتنى
شعبانِ يصطرعان أَيَّةُ سُبَّةٍ
…
للحزْم إن عَكَفَ الصراعُ وَأَدْمَنَا؟
يا جَوُّ مالك بالأخوَّةِ عابساً
…
كالماء قَطّبَ للنسيم وَغَضّنَا
وَلَعُ الدسائس كم يسود ونسجُهُ
…
بيتُ العناكب ما أخسَّ وَأَوْهَنا
ظلَم الخِلاف مَتَى الوفاق فطالما
…
خفَّ الجمالُ إلى التَّواصُل مَوْهِنَا؟
طلب الحياة سرية رَفّافَةً
…
أَنّي أَعَزَّ دعاته وأذلنا؟
أين الوئَامُ وكلُّ بِرٍ قبله
…
صوتُ التآلف كالمُصَلِّي أَذَّنَا؟
هُبُّوا إلي الرأي الأصيل فإنه
…
أمنٌ وإن خلافه لن يُؤْمَنَا
الرأيُ أنبَله تجاربُ أشيب
…
كالسيف نازل دهره حتى انْحَنَى
صدق الحجا. الحزمُ أشرف نزعةً
…
والنَّاهض الوثّابُ أَنبلُ موطنا
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي
قلعة بعلبك
للأستاذ أحمد الصافي النجفي
دار وَحْيٍ أم قلعة أنا فيها
…
كنبيٍّ يستنزل الإلهاما؟
حرتُ أرنو إلى الطلول وأرنو
…
لقرون مضت ومجد أقاما
إيه أطلال بعلبك أجيبي!
…
أين خلَّفتِ قومك الأعْلاما؟
هل يبيد الحمامُ قوماً إذا ما
…
نهضوا للحروب قادرا الحماما؟
هل يبيد الحمامُ قوماً وهذي
…
غرّ آثارهم خلدْنَ عظاما؟
تلك أرواحهم خلدْنَ بفنّ
…
جلّ عن أنْ يخلِّد الأجساما
إيه باخوس. . . كم شربتَ قديماً
…
مِنَ سلافٍ وكم سقيتَ ندامى؟
صَرَعَتْهُمْ منك المدامُ. . . ولكن
…
أنت صاحٍ مهما احْتسيتَ المداما
كم سقيتَ الورى بجامك خمراً
…
ثم أعقبته من الموت جاما!
أنت تسقي الوضيع كأسك حيناً
…
ثم تسقي بها المليك الهماما!
رَفَسَتْهُمْ رجلاكَ لم ترع ذلاًّ
…
لوضيع، أو للمليك احتشاما!
والعواميد خلتها في صلاةٍ
…
رُكّعاً حول معبدٍ وقياما
صَرَعَ الدَّهر بعضهنّ، وبعض
…
واقفات تصارع الأيَّاما!
وشجاني من العواميد ستّ
…
واقفات صفاً يروع نظاما
ناظرات يسألن عن قرناء
…
قد قطعن القرون والأعواما
دُمْنَ يبحثن عن رفاق فلا
…
يبصرن إلاّ الإيوان والأهراما
وبقايا من تدمر كعروس
…
ذات حُسْنٍ بالتِّبِر هَامَتْ وهاما!
يتساَءلْنَ هل أخذنا عهوداً
…
للِيَّالي أو هل قطعنا ذماما؟
درست دوننا القصور ودمنا
…
ثم نرجو أنْ سوف نبقى دَوَامَا
يَتَفَاخَرْنَ عكس طبع الغواني
…
أيّ أخت تربو على الأخت عاما؟
يبغض السنّ من يخاف فناءً
…
وأخو الْخُلْدِ يعشق الأعواما
بِمرور السنين يَزْدَدْنَ حُسْناً
…
ثم يَزَدْدن لِلْخُطوب ابتساما؟
يَا لَستِّ من العواميد هاجت
…
في فؤادي ذكرى تؤجّ ضراما
أيّ شأن لها، وأيّ ملوك
…
سجدتْ حول عرشها تترامى؟
إِن رَأَتْ سجْدَةَ الملوك فهذا
…
الدهر ألفى لها السُّجود احتراما!
أنا أكرمتها بدمعي احتراماً
…
وكرام الأنام تبكي الكراما
يا لَستِ من العواميد تُلْفَى
…
لجميع الورى دروساً جساما
واقفات كأنها خطباء
…
تعظ الأرضَ والسَّما والأناما
قائلات: المجد يبقى وإنْ كا
…
ن بنوه تحت التراب رماما
يَا لَستٍّ من العواميد كم قد
…
رفعت ثُمَّ نَكّسَتْ أعلاما
صافحت في الزمان رُوماً وعرباً
…
ونصاري الغزاة والإسلاما
صافحتهم وودَّعتهم بكفٍّ
…
لم تطوِّل وداعها والسَّلاما
ولكم أبصرت ولم تتزعزع
…
عادياتٍ تجرّ مَوْتاً زؤاما
كم تلّقتْ بصدرها مِنْ سهام
…
ورأت للعدى قناً وحساما
بسمت نحوها الغزاة وعادت
…
وهي تذري لها الدموع انسجاما
يا لَستٍّ من العواميد ظلّت
…
كشموعٍ للِدَّهْرِ تجلو الظّلاما
قد تعالَيْنَ فاتحدن رؤوساً
…
ثم أحكمنَ في الثرى الأقداما
حاكيات وسط الفضا أخوات
…
قد تماسَكْنَ واتحدنَ غراما
وضع الحسنُ والبها تاجَ حسن
…
واحداً فوق رأسهنَّ تسامى
وَحَّدَ الحسنُ بينهنَّ بتاجٍ
…
حيث في الحسن قد بلغن التّماما!
فتعاهَدْنَ في كِفاحِ الّليالي
…
لا يبارِحْنَ حظّهُنَّ انهزاما
أو كقوّاد جَحْفَلٍ قد أَطلُّوا
…
يصدرون الآراَء والأحكاما
يتناجون دون تحريك هام
…
حيث ولّوا نحو الجيوش الهاما
ظلَّ بعضٌ يفضي لبعضٍ برأيٍ
…
واستمرُّوا يراقبون الصِّداما
يا لستٍّ من العواميد تبكي
…
أخوات لها قضين انهداما
هدّتها كفّ القضا فاشتهت لو
…
حطمت معول القضا الهدّاما!
ذكرت عهدها القديم فأمست
…
وهي يَقظَي تشاهد الأحلاما
كم وعت خطبةً وأصغت لنجوى
…
آه. . . لو أنها تعيد الكلاما؟
تتراءى كأنها كفّ جبا
…
ر عظيمٍ زادوا بها إبهاما
جسمه القلعة المهيبة لكن
…
أَلْبَسَتْهُ يد البِلى اسقاما
فانْهِدَامَاتها جراح بجسم
…
طالما مارس الوَغى والزّحاما
كسرت عظمة الليالي فلم
…
يُبْدِ انكساراً ولا اشتكى آلاما
وسبتني فيها تماثيل غيد
…
عبدتها أهل الهوى أصناما
سكب الفجر ضوَءه في ثنايا
…
ها وألقى الضحى عليها ابتساما
يشتهي الثغر لثمها وهي صخر
…
ويذوب الفؤاد فيها هياما
هِمْتُ فيها فقلت هزؤاً بنفس
…
أيّ صبٍّ قبلي أحبَّ الرّكاما
عاريات مثل الملائك لم يس
…
دلن ستراً ولا وضعن لثاما
اتخذت عفة النفوس رداءً
…
وسنا الحسن في الجبين وساما
لم تشوِّه بالصبغ يوماً وجوهاً
…
جعل الحسن عندهن مقاما
هنَّ مهما شاب الزمان صبايا
…
راميات بلحظهنَّ سهاما!
وشجتني منهن هيفاء خود
…
سامها الحظ دونهن اهتضاما!
شوَّه الدهر ثديها بانكسار
…
قبل أن يبلغ الرضيع الفطاما
فرنت نحو صحبها بانكساف
…
خوف نقص يعزى إليها اتهاما
وتمنَّتْ لو اكتسين جميعاً
…
برداء ليستر الأجساما!
ورأيت الضرغام فارْتعت منه
…
أيُّ قلب لا يرهب الضرغاما؟
مُعْلياً صمته المهيب زئيراً
…
ساكناً خضرة السما آجاما
أسد الغاب خلته احتل (برج
…
الأسد) اليوم، واعتلى الأجراما
فاتح الطرف، كاشر الناب، يبغي
…
أن يخيف القضا إذا ثمَّ حاما
نصبوه في الجوِّ حامي عرين
…
يقظ الطرف، لا يحب المناما
ظلَّ في الجو حارساً لحماه
…
ومخيفاً وحش الدجا والطغاما
قام أسد الحمى وظل مفيقاً
…
لا يذوق الرّقاد حتى لماما
وشجتني فيها مسارح لهوٍ
…
وفنون تنوّر الأفهاما
كم عَلَتْ فوق ساحها خطباء
…
وغوان ترجِّع الأنغاما
أقفرت تلكم المسارح منهم
…
واستحالت ساحاتها آكاما
إنّ أَطلالَ بعلبك كتابٌ
…
قد حلا مبدأَ وطاب ختاما
فيه تبدو طلاسم أَنا مهما
…
رمت حَلاًّ لها تزد إبهاما
صار فيها وهمي فخلت بأنّي
…
كنت فيها أجَسّم الأوهاما!
(دمشق)
أحمد الصافي النجفي
رسالة المرأة
الإسلام (والأتيكيت)
الأتيكيت أو الآداب العامة
دراسة وتحليل
للآنسة زينب الحكيم
نصت الشرائع السماويةُ كلها، على مراعاة الآداب العامة في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية. وإذا أنا اخترت أن أبين نسبة آداب الفرنجة إلى الآداب الشرقية وعلى الأخص الإسلامية منها، فما ذلك إلا لشدة الشبه بين هذه وتلك، ولأن في الإسلام وهو دين الاجتماع والتشريع الإنساني الرفيع - ما لو عرفناه وعملنا به - لما احتجنا إلى التقليد والنقل، مما تضيع معه قوميتنا الشرقية، وتتلاشى به شخصيتنا المصرية
ولقد اطلعت على كتب كثيرة شرقية وأجنبية في هذا الصدد حتى كوّنتُ فكرةً تحليلية عن الآداب العامة ونشأتها
فمجمل الكتب الشرقية (الإسلامية على الأخص) تشير إلى إنه من الواجب على الإنسان كفرد، وعلى الأمة كجماعة، أن تقوم بواجب الآداب العامة نحو الخالق الذي أوجدها سبحانه وتعالى؛ فتقر بفضله تعالى عليها - وتعتبر هذه أول خطوة في الآداب - ثم المحافظة على ما ورثته من نظم، وأن تتبع هذه النظم، وتسير على مهل في سبيل الانتقال بها من طور إلى طور أكمل منه في غير اهتزاز وعنف. كل هذا يكون الميراث التقليدي الأدبي، ونكون قد تدرجنا على شبه ما تدرج بالبرية موجدها الأعلى من مهدها ومن زمنها الأول وإلى الآن
والأديان السماوية أدل شيء على هذا التدرج المعتدل، فإن من يترسم خطى هذه الأديان، يلحظ سمة الطفولة على التوراة، ويرى سذاجة الفطرة والتضحية في الإنجيل، ويميز اتسام القرآن بسمة الرشد، ومدى النضوج العقلي الذي يعتمد عليه الإنسان للسير في الحياة وقد هُيئ له من أمره رشد
ولهذا فإن قائد الأمم أخلاقها وطباعها، والحاجة والزمان هما الكفيلان بإعداد النظم الجديدة،
وأخلاق الأمة هي التي تحكمها. فكل نظام أو تشريع لا يتفق مع هذه الأخلاق ويمتزج بها امتزاجاً تاماً، يكون نظاماً مؤقتاً وتشريعاً لا يدوم طويلاً
ومما يجب التنبه له أن البيئة والأحوال والحوادث، تدل دلالة واضحة على مقتضيات الزمن الذي هي فيه. . . فلو نظرنا إلى التقاليد في أي زمن، ولأي أمة، وجدناها عبارة عن ماضي الأمة في حاجاتها ومشاعرها وأفكارها
فالتقاليد إذن: عوامل تشخص روح الشعب والحقبة التي وجد فيها لما لها من تأثير عظيم في القوم
فإذا بحثنا مثلاً في ضرورة احتياجنا إلى تقاليد في الآداب العامة (أتيكيت) من نواح كثيرة تساءلنا:
1 -
لماذا نلاحظ قوانين واصطلاحات خاصة؟
2 -
لماذا يحيى الناس بعضهم بعضاً، بشتى الطرق مثل الانحناء، والابتسام، والسلام باليد، ورفع غطاء الرأس الخ؟
3 -
لماذا نقوم بعمل تعارف بين الأفراد، ونرسل الدعوات بعضنا لبعض؟
4 -
لماذا نهذب طباعنا وحديثنا؟
لكي نستطيع الإجابة على أشباه هذه الأمثلة، يجب أن تتبع سير المدنية من مبدئها، فإذا فعلنا ذلك، وجدنا أنه كان من أولى ضروريات الإنسان الهمجي تدبيرُ بعض الطرق، واختراع بعض الوسائط التي تقنع الهمج من قبائل أخرى بأنه لا يريد المشاجرة، ولا الاعتداء، وإنه يريد أن يعيش في سلام.
ولكن كان من الصعب عليه جداً أن يفعل ذلك مبدئيا. فقد كان تفكيره المحدود مرتبكاً بالخوف وبوعورة الحياة. إذ أن الإنسان في تلك العصور الأولى كان دائم الارتياب، شديد التطير، كثير الظن؛ وقد كان مضطراً إلى أن يكون كذلك، لأن حياته كانت متوقفة على حذقه وحرصه
ولكن الحاجة أم الاختراع دائماً، فأقيمت علامات خاصة، وروعيت أشياء أخذ يميزها الهمج، وتعارفوا عليها كتحيات سلام وأمان
فتحية اليوم نتيجة مباشرة لتلك الضرورة الغابرة، ويقاس عليها كثير من التقاليد المتبعة.
فإن تحية الأمان هذه كانت أول المخلفات من الآداب العامة التي نطق بها بين الإخوان والمريدين
ولما عرفت قيمة هذه الشعائر السلمية، اتبعت تحايا خاصة لكل ظرف ولكل مناسبة مما ساعد على وضع الأمور في نصابها بأقل مشقة، وبأخص طريق، فساد السلام نوعا ما، وأخذت العواطف الإنسانية تقوى (ومن هنا بدأ عهد جديد في تطور البشرية).
فإذا أودعت هذه الشعائر خفايا النسيان، وأسدل عليها ستائر الإهمال كان الغرض استئناف حياة الهمج من جديد.
على إنه لن يكون في استطاعتنا وأدْ الآداب دفعة واحدة وهي التي تكونت على مر الدهور، ولا يمكن أن ينكر أحد أن البشرية نشأت ونمت معها المدنية، فمن تحية الأمان الأولى، نمت سلسلة تحايا خاصة، وأشكال احترام خاصة جمعت الرجال تحت لواء حماية متبادلة، وصداقة مشتركة، فتولدت الحفلات، وحلقات الرقص لتعظيم القوى الطبيعية التي حار العقل البشري في فهمها حينئذ، كالشمس والنجوم، وقدمت الضحايا لآلهة الخوف التي أزعجتهم، كالظلام، والوحوش، والأصوات غير المعهودة لهم، كما أقيمت حفلات تأبين الموتى، وولائم الأفراح، وغير ذلك.
من ذلك نرى، أن الهيئة الاجتماعية حريصة على سلامتها، فهي لذلك أقامت تشريعاً اجتماعياً محدودا واضحا، مبنياً على الأخلاق والعادات، فأصبحت هذه التقاليد تشريعاً أرتآه، وعمل به نفر ممن تفخر بوجودهم في زمرتها الجماعة الإنسانية المثقفة الراقية.
فنحن ملزمون إذن أن نتعلم هذه التقاليد رغبنا أو كرهنا ما دمنا نعيش في جماعات، وننشد مجتمعاً راقياً في حياتنا
مما لا ريب فيه إنه توجد عند كل إنسان رغبة للخير، وإن جانب الخير في الإنسانية توقظه وتظهره الرحمة والآداب والأخلاق الكريمة بوجه عام. كما أن المران على (الأتيكيت) أو الآداب العامة يحتاج إلى أكثر من مجرد استقاء معلومات من معاهد التقاليد الاجتماعية الخاصة بالأخذ والعطاء، والقبول والرفض، والدعوات والولائم، أو عدد البطاقات التي تترك للآخرين بالمناسبات، أو استعمال الألقاب على وجه صحيح في التحدث وللكتابة. فإن التمرن العملي على (الإتيكيت) يجب أن يبني على المبادئ الأولية،
وهي الاحترام، ومشاعر الرحمة والشفقة نحو الآخرين، وإلا كانت التقاليد مجاملات جوفاء وهذه لا تلبث أن تزول
وان أميز ما يمتاز به الرجل الملم بمعرفة الآداب (العامة والخاصة) ما يتسم به من وقار وسماحة يغمر من يقابله، كما يساعده على العمل والقول اللائق الصحيح في كل موقف من المواقف. فالفرد الذي يعرف كيف يوجد بين جماعة راقية، لا يدع مجالاً للغضب ولا لعدم الصبر، ولا يتسيطر ولا يتحكم ولا يضغط على الآخرين بطباعه الجافة أن مركز الآداب الراقية، يمنع التبجح مع الرؤساء، كما يمنع الأحاديث التي تؤلم المشاعر، ويحبذ العمل على إيجاد رغبة صادقة في جلب السرور لمن نوجد معهم. فالمرأة والرجل المثقفان يجتهدان في جعل كل فرد مجتمعهما سعيداً مطمئناً (على شرط أن يستأهل هو ذلك أيضاً من جانبه). ثم أن مشاركة عواطف الغير واحترامهم مفروض على كل فرد مهما كان نوعه، وذلك واجب عليه سواء أكان غنيّاً أم فقيراً، عالماً أم جاهلاً. ومع أن الأخلاق الرقيقة قد تكون وراثية إلى حد ما، فانه يمكن تحسينها وإنماؤها بوساطة البيئة الصحيحة، وبدراسة القوانين الاجتماعية ومراقبة المجتمع نفسه، وتطبيق ما حصله الإنسان في معاهد الآداب عمليا في الحياة العملية حتى يجنى المجتمع ثمار عمل أفراده وبُناته
لعلنا بهذا التلخيص نكون قد أوضحنا بعض الشيء نشأة الإتيكيت وضرورته في الحياة.
زينب الحكيم
رسالة العلم
ما هي الحياة
وكيف ظهرت على الأرض؟
وحدة الأحياء والجمادات
للأستاذ نصيف المنقبادي
أثبتنا في مقالنا السابق وحدة الحيوانات (ومن بينها الإنسان) والنباتات وبينا أن النباتات الفطرية إنما هي الحلقة المتوسطة بينهما وقلنا أن هذا دليل على اشتقاقهما من اصل واحد؛ وهو الجمادات ونتكلم اليوم عن وحدة الأحياء والجمادات مستعرضين من جديد الصفات المشتركة بين جميع الكائنات الحية لنبين إنها ليست خاصة بها. بل توجد جميعها ولكن مبعثرة ومشتتة في الجمادات، كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق
ونقول إجمالاً من الآن أن تلك الصفات الموصوفة عادةً بالحيوية ليست لازمة للحياة ولا ضرورة لها، إذ أن هناك بعضاً من مظاهر الحياة - هي أهمها وأدقها - تقول بها مواد كيميائية وأجسام معدنية محضة لا يتوفر فيها شئ من تلك الصفات أو المميزات. ومن ذلك التخمر
فإذا سحقنا مثلاً كمية من النباتات الميكروسكوبية المكونة من خلية واحدة من النوع الذي يخمر المواد السكرية ويحولها إلى خمر (خميرة البيرة)، أو من النوع الذي يخمر الخمر ويحولها إلى خل، أو من النوع الذي يخمر سكر اللبن ويحوله إلى الحامض اللبني، ثم نقعناها في ماء معقم مطهّر ورشحنا الماء بعد ذلك، نحصل على سائل يخمر هذه المواد مما يدل على أن خواص الحياة ما زالت قائمة فيه. فهل لنا أن نقول أن السائل المرشح كائن حي؟ وإذا أغلينا هذا السائل إلى درجة المائة فوق الصفر فانه يفقد خاصة التخمير كأنه مات مقتولاً بالحرارة كما يحدث للكائنات الحية والواقع أن الذي يقوم بالتخمير وبمعظم أعمال الحياة في الكائنات الحية من هضم الأغذية على أنواعها، إلى تحليلها وامتصاصها وتركيبها من جديد داخل أنسجة الجسم وخلاياه إلخ إنما هي خمائر تفرزها غدد خاصة في الأجسام الحية المتعددة الخلايا أو كائنات حية أيضاً مكونة من خلية واحدة مثل النباتات
والحيوانات الأولية الميكروسكوبية، وهذه الخمائر تذوب في الماء وتفعل فعلها وهي ذائبة فيه
والخمائر لا يمكن القول بأنها كائنات حية بالمعنى التام لأنه لا جسم لها ولا قوام، وهي لا تتغذى ولا تتنفس ولا تنمو ومع ذلك تبدو كأنها حية، وتقوم بأهم مظهر من مظاهر الحياة وهو التخمير على أن كل هذا لا غرابة فيه، لأن الخمائر التي تسلك مسلك الأحياء لم تخرج عن كونها مفروزة من أجسام حية، ولكن المدهش حقاً هو فعل المواد المعدنية الغروية، فقد توصل العلماء إلى تحضير كثير من المواد المعدنية والعضوية على هذه الحالة، ' وقد شوهد أن بعضها مثل الفضة أو المنغانيز وغيرها تخمر المواد القابلة للتخمر. فإذا وضع قليل منها في شراب السكر مثلاً لا يلبث هذا الشراب حتى يختمر، لا فرق في ذلك بين هذا التخمر وبين التخمر الذي تحدثه الكائنات الحية بفعل الخمائر التي تفرزها سوى أن التخمر يتم هنا بأسرع مما يتم في حالة التخمير الحيوي. وأول ما يتبادر إلى الذهن أن جراثيم التخمر العادية تسربت إلى ذلك السائل من الهواء أو من الماء أو من الأوعية العادية والأدوات المستعملة، ولكن الدقة في تعقيم كل هذه الأشياء لا تدع محلا لمثل هذا الاعتراض
واغرب من هذا فعل الكلورفروم المخدر في المواد المعدنية الغروية التي نحن بصددها؛ فانه يخدرها ويبنجها تبنيجاً ويمنعها عن مواصلة التخمير إلى أن يتطاير، ويتلاشى فتعود إلى فعلها هذا المدهش، وإذا أضيف إليها قليل من سبيانور البوتاسيوم وهو سم قاتل، فأنه يمنع فعلها التخميري بتاتاً؛ فكائن هذه المعادن هذه الجمادات المحمضة - ماتت مسمومة ولا يمكن أن تعود إلى أحداث التخمر إلا إذا أزيل عنها هذا السم ثم تحولت إلى معدنها الأصلي الجامد ومنه إلى الحالة الغروية من جديد، وعند ذلك فقط تبعث بعثاً، وتعود إليها الخاصة التي كنا نظنها مقصورة على الأحيان دون غيرها.
وإذا لوحظ أن في المادة الزلالية الموصوفة (الحية) التي تتكون منها خلايا الحيوانات (بما فيها الإنسان) وخلايا النباتات وكذلك في الخمائر التي تفرزها الحية أثرا من المواد المعدنية التي كان يظن البيولوجيون إلى عهد قريب إنها مواد إضافية لا شأن لها بالمادة الحية، وإذا قورن هذا بما تقدم بيانه من فعل المعادن الغروية، لأدركنا معنى النظرية البيولوجية القائلة
بأن أداة الحياة أو أن الذي يقوم فعلا بأعمال الحياة في الكائنات الحية ليست المادة الزلالية الخاصة المسماة (بالبروتوبلاسم) وإنما هي تلك الزوائد المعدنية المحضة. وعلى هذا يكون الجزء الحي في الأحياء هو المعادن المذكورة أي الجمادات الخالصة، وما المادة الزلالية إلا قاعدة ترتكز عليها المعادن للقيام بأعمال الحياة. نعود إلى الصفات المشتركة بين الأحياء التي يقولون إنها تميز الحياة، لنبين إنها ليست وقفاً على الكائنات الحية بل إنها توجد جميعا بلا استثناء في الجمادات.
التكوين الخلوي والتكوين المعدني
قلنا أن الكائنات الحية مؤلفة من خلايا صغيرة لا ترى بالعين المجردة. ولكن هذه الظاهرة - أي جزئيات الجسم تكوينا دقيقاً - ليست خاصة بالأحياء، فان الأجسام المبلورة المعدنية التي يتكون منها معظم ما الأرض من مواد كجبال الجرانيت والرخام وكالأملاح العديدة المختلفة وغيرها، مكونة من بلورات متلاصقة؛ كما أن جميع الجمادات على الإطلاق مكونة من جزئيات صغيرة جداً وهذه الجزئيات مؤلفة من ذرات وقد اتضح بعد اكتشاف الراديوم والأجسام المتشععة المماثلة له الذرات مؤلفة من الكهارب وغيرها (تراجع المقالات النفسية التي جاد بها أخيراً يراع عالمنا المصري الدكتور محمد محمود غالي على صفحات الرسالة عن تكوين المادة)
التركيب الكيميائي
تتركب الأجسام الحيوانية والنباتية من مواد زلالية ودهنية وسكرية كما بينا في مقالنا السابق. ويظهر أن عدم وجود المواد المذكورة بحالتها هذه في الجمادات قد جعلها من قديم الزمان الحد الفاصل بين الأجسام الحية والأجسام المعدنية، حتى أن الكيميائيين كانوا يفصلون فصلاً تامَّاً بين المواد العضوية التي تستخرج من أجسام النباتات والحيوانات وبين المواد المعدنية، وأوجدوا بينهما هاوية سحيقة لا تعبر. ولكن العلم الحديث قد أزال هذا الحد واثبت وحدة المادة
وأول ما يلاحظ هنا على مواد الأجسام الحية وعلى المواد العضوية عموماً، أن العناصر المركبة منها الأوكسجين والهيدروجين والكربون والأوزوت والعناصر الإضافية الأخرى
موجودة جميعها في الطبيعة، وتدخل في التراكيب المعدنية التي لا عداد لها بحيث لا يوجد عنصر من العناصر خاص بالأحياء دون غيرها
والواقع أن المواد المسماة بالحية، وعلى العموم المواد العضوية، مشتقة جميعها من الجمادات رأساً، وهي تتركب منها مباشرة في كل لحظة أمام أعيننا وعلى مرأى منا على الوجه المتقدم بيانه في المقال السابق. فمادة النباتات الخضراء (الكروفيل) تستعين بقوة الشمس وتحلل غاز الحامض الكربونيك المنتشر في الجو وتنتزع منه الكربون وتمزجه بالماء فتكون منه السكر والنشا والسيليلوز ومادة الخشب والمواد الدهنية والأحماض والقلويات العضوية الثلاثية. وفي الوقت نفسه تمتص جذور النباتات التراكيب الآزوتية من الأرض، وهذه تمتزج بالمواد الكربونية سالفة الذكر بفعل قوة الشمس أيضاً فتتولد المواد الزلالية الحية
وما تنشئه الطبيعة بواسطة النباتات من المواد قد أمكن للإنسان أن يصنعه من مواد معدنية محضة، فقد توصل الكيميائيون إلى تركيب معظم المواد الحيوانية والنباتية ومشتقاتها من الجمادات مباشرة كالسكر والنشا، وبعض المواد الدهنية، ومواد الصباغة، وكثير من القلويات المستعملة في الطب، وجميع العطور وغيرها ذلك. ومن المدهش الذي يدعو إلى الإعجاب الكبير أنهم صنعوا عطوراً اصطناعية لا وجود لها في عالم النبات حيث لا توجد زهور تقابلها
ويجدر بنا هنا أن نخص المواد الزلالية بكلمة على حدة لأنها كانت إلى وقت قريب تعد معقل الحياة. فقد ثبت من تحليلها بطريقة علمية دقيقة إنها مكوّنة من امتزاج بعض الأحماض العضوية الآزوتية والفسفورية ببعض كالحامض النمليك وغيره. وما أن عرف العلماء ذلك حتى اخذوا يمزحون بعض هذه الأحماض ببعض على صور عديدة مختلفة. فنجحوا في وضع الجيلاتين والبروتين وزلال اللبن (مادة الجبن)، وزلال يدعى الكيراتين يدخل في تركيب أظافر الإنسان والحيوانات الفقرية الأخرى. وهذا النجاح يبشر بقرب الوصول إلى تركيب المواد الزلالية المسماة بالحية.
الشكل النوعي
فضلاً عما ثبت نهائياً وقطعياً من الكائنات الحية ليست ثابتة في أشكالها، بل إنها في تغير
وتحول مستمرين في ملايين السنين بحكم ناموس التطور والتسلسل؛ نقول إنه فضلاً عن ذلك فإن هذه الظاهرة (الشكل النوعي) ليست من جهة شاملة لجميع الأحياء لأن بعض المكروبات غير ثابتة في شكلها، بل إنه تتشكل حسب البيئة التي توجد فيها بحيث لا يمكن تميز أنواعها إلا بمفعولها، وكذلك الحال بالنسبة للاميبا، وبالنسبة لبعض أنواع النباتات الفطرية السفلى من فصيلة الميكزوميست التي سبق لنا الإشارة إليها في المقال السابق. فانه لأفرادها شكل معين حيث لا غلاف ولا غشاء لخلاياها في معظم الأحوال
ومن وجهة أخرى فان لكثير من الجمادات ونعني الأجسام المبلورة، أشكالاً ثابتة وهي بلوراتها الهندسية تميز كل نوع منها من غيره
واوجه الشبه بين الكائنات الحية والأجسام المبلورة عديدة فمن ذلك أن الأنواع المبلورة القريبة التركيب كيمائياً قريبة الشكل هندساً، كما أن الأحياء كلنا اقتربت أنواعها اقتربت أشكالها
وكما تحدث أحيانا أن الأنواع الحية القريبة يتناسل بعضا من بعض مثل الحصان والحمار كذلك يحدث أحيانا أن الأنواع المعدنية القريبة كيميائياً تتبلور معا مثل حجر الشب فانه مؤلف من بلورات سلفات الألمونيوم وبلورات سلفات البوتاسيوم مشتبكة بعضها مع البعض وهناك ظاهرة كان يظن أن الكائنات الحية اختصت بها دون الجمادات وهي استعداد أفراد الحيوانات والنباتات الصلاح كل تشويه يحدث لها واستعادة شكلها الأصلي بقدر الإمكان، فإذا جرحت يلتئم جرحها، وإذا انقطع جزء منها لا يلبث حتى ينمو غيره مكانه، وعلى الأخص في النباتات والحيوانات السفلى وكذلك في أطراف أعصاب الحيوانات العليا والإنسان. وهذا ما يحدث للبلورات المعدنية المحضة، فإنه إذا كسرت بلورة من أحد أضلاعها ثم غُطِّست في سائل مشبع من مادتها أو فوق المشبع نراها تنمو على الأخص من جهة الجزء المصاب إلى أن يعود إلى حالته الطبيعية وشكله الأصلي فيأخذ مجموع البلورة في النمو
تغذي الأحياء والجمادات
لعل التغذي هو أهم مظاهر الحياة وأكبر مميز للكائنات الحية، ولكنه غير خاص بها أيضاً بل يحدث لكثير من الجمادات. فبقعة الهواء التي تبدو صغيرة على قطعة المعدن ثم تكبر
إلى أن تنتشر على كل سطحه إنما هي تتغذى في الواقع من بخار الماء والحامض الكربونيك المنتشرين في الجو ومن مادة المعدن القائمة عليها، فتنمو وتتسع كما ينمو ويكبر الجسم الحي من التغذي. والبلورات الصغيرة المغموسة في ماء مشبع من محلول مادتها تتغذي منها فتنمو وتصبح بلورات كبيرة
على أن خير مثال لتغذي الجمادات بالمعنى الحقيقي التام ما هو حاصل في الآلات الميكانيكية فإنها تتغذى بالفحم أو البنزين أو البترول، وما الوقود إلا غذاء تلك الآلات تحترق فيها فتولد الطاقة (القوة) اللازمة لقيامها بأعمالها كما يحترق الغذاء بعد هضمه وامتصاص في الأجسام الحية فيولد فيها الطاقة اللازمة للقيام بأعمال الحياة ووظائف الأعضاء، وسنشرح في مقال قادم ناموس بقاء الطاقة ' وانطباقه على الكائنات الحية (بما فيها الإنسان)، وحسبنا أن نقول اليوم أن جميع القوى التي تعمل في الحيوانات (ومن بينها الإنسان والنباتات حتى التفكير والقوى العقلية ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء، أو بعبارة اصح الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء
التنفس في الأحياء والجمادات
ويلحق بالتغذي التنفس، وهو أيضاً ليس مقصوراً على الأحياء لأن الجمادات التي تحترق بسرعة أو تتأكسد ببطء إنما هي، تتنفس، أي أنها تمتص الأوكسجين من الهواء وتفرز الحامض الكربونيك وهذا التنفس بعينه، وقد عرف علماء الفسيولوجيا الحياة بأنها حريق أو تأكسد كما تقدم القول، وما الرئتان إلا مدخنة الآلة الحية الحيوانية، توصل الأوكسجين إلى الجسم وتخرج منه الغاز الناتج من ذلك الاحتراق، كما هو حاصل في الآلات الميكانيكية من جميع الوجوه
تحرك الأحياء وتحرك الجمادات
وليست الحركة وقفاً على الأحياء ولا هي خاصة بها، ولكنها تشمل الجمادات وتعم كل ما في الكون من الأجرام الفلكية إلى أصغر الذرات وما هو أصغر منها مما اكتشف أخيراً ونعني به الإليكترونات أو الكهارب وغيرها.
ومن حركات الجمادات التي تشبه حركات الحيوانات الأولية الميكروسكوبية الحركة
المعروفة باسم حركة براون فإننا نشاهد في كثير من السوائل عند فحصها بالأولترا ميكروسكوب أجساماً صغيرة جداً في حركة مستمرة وهي لا يمكن أن تكون كائنات حية لأنها تشاهد في السوائل السامة الكاوية التي تقتل الأحياء وجراثيمها في الحال كالحامض الكبريتيك وغيره. ولاشك في أن تحرك هذه الذرات ناتج من تحرك جزئيات المادة المستمر كما شرح الدكتور محمد محمود غالي ذلك أخيراً على صفحات الرسالة.
ومن حركات الجمادات التي تكاد تكون اختيارية حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية أو الألفة الكيميائية، فإنه بمجرد أن تشعر هذه الأجسام بقرب بعضها من بعض تتحرك وتنتقل من تلقاء نفسها إلى أن يتصل الواحد منها بالآخر كأنما يعشق بعضها بعضاً. وأمر بعض المواد الكيميائية لبعض معروف في علم الكيمياء. فالماء مثلاً يصعد من تلقاء نفسه رغم جاذبية الأرض ويندفع إلى الطبقة العليا من الجهاز الخاص بمجرد إدخال غاز الكلور في هذه الطبقة العليا، ولا يهدأ له بال إذا فاز بالوصل منه شأن العاشق الولهان. وما عاطفة الحب التي يتغنى بها القصصيون والشعراء من قديم الزمان إلا ظاهرة كيميائية محضة ترجع في النهاية إلى تلك الجاذبية التي تدفع جراثيم التلقيح المذكرة (مثل الحيوانات المنوية وما يقابلها من النباتات) نحو بويضات الإناث مما سنشرحه في مقال قادم
ومن حركات الجمادات تحرك نقط المواد الرغوية المعدنية المحضة من تلقاء نفسها كما تتحرك الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة واستمرار هذه الحركة بضعة أيام في التجارب البديعة التي قام بها العالم البيولوجي بوتشلي. ولولا ضيق المقام لشرحناها بالتفصيل
على أن حركة الجمادات المماثلة لحركة الكائنات الحية من جميع الوجوه إنما هي حركة الآلات الميكانيكية نتيجة احتراق الفحم أو البترول أو البنزين فيها كما أن حركة الأحياء هي نتيجة احتراق المواد الغذائية في العضلات المحركة لها
التأثر في الأحياء وفي الجمادات
نقول إن التأثر ليس خاصاً بالأحياء بل إنه يوجد في كثير من الجمادات، وإذا شئت فقل في كلها مع التفاوت. فالمواد المفرقعة تتأثر بل وتغضب وتنفجر عند أقل لمس. ومواد التصوير الشمسي تتأثر بالضوء، ولهذه المناسبة نذكر أمر اللوحات الفوتوغرافية الملونة،
فإنه إذا سلط عليها نور أحمر تلونت في الحال باللون الأحمر، وإذا سلط عليها النور الأخضر تلونت في الحال باللون الأخضر. فأملاح الفضة التي على هذه اللوحات لا تتأثر فقط بالضوء بل كأنها تدافع عن كيانه ضده لأنه يقتلها بأن يحللها ويحولها إلى مواد أخرى. فعندما يسلط عليها النور الأحمر تتلون في الحال باللون الأحمر لأن هذا اللون يمنع دخول الأشعة الحمراء؛ وكذلك الحال عندما يسلط عليها النور الأخضر أو غيره. أفلا تكون غريزة حب البقاء القائمة في الإنسان وفي جميع الحيوانات من نوع هذه الظاهرة الغريبة؟ وما الفرق بين هذه اللوحات الفوتوغرافية - هذه الجمادات المحضة - وبين بعض الحيوانات التي تتلون بألوان مختلفة حسب البيئة التي توجد فيها
ومن الأمثلة على تأثر الجمادات ما هو معروف في علم الصوت من أنه إذا دق إنسان على وتر من آلة موسيقية، فإن الوتر المقابل له في الآلة القريبة منها يتأثر ذاتياً ويهتز من تلقاء نفسه اهتزازاً خفيفاً، ولكنه يظهر جلياً بواسطة الآلة المكبرة للصوت
وقد وضع السيربوز العالم البيولوجي الهندي الكبير الذي زار مصر سنة 1928 جهازاً دقيقاً بديعاً لإثبات تأثر المعادن بالكهرباء يدل على أنها تتعب وتضعف اهتزازاتها إذا تكرر تسليط الكهرباء عليها مدة طويلة متعددة. وإذا استراحت مدة من الزمن عادت الاهتزازات التي تحدثها فيها الكهرباء إلى قوتها
النتيجة
يتضح من كل ما تقدم إنه لا يوجد أي فرق جوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات، وأن كل ظواهر الحياة توجد في الجمادات، بل إن بعض الجيولوجيين يرجحون أن الجزء الحي فعلاً في الحيوانات (ومن بينها الإنسان، وفي النباتات هو المواد المعدنية الغروية التي تدخل كميات قليلة منها في تركيب خلاياها. وقد ثبت أن المادة الحية تشتق رأساً من الجمادات على الدوام تحت أعيننا وعلى مرأى منا بفعل قوة الشمس بواسطة مادة النباتات الخضراء (الكلوروفيل) بحيث لا يوجد عنصر خاص بالأحياء. كما أن القوى التي تعمل في الأحياء وتديرها هي من القوة الطبيعية المحضة ومشتقة منها وليس شيء آخر خلافها
وكلما تقدم العلم تلاشى ذلك الخيال الذي كانوا يعتقدون فيما مضى أن له وجوداً خاصّاً قائماً بذاته مستقلاً عن المادة. وما الحياة في الواقع إلا تفاعلات كيميائية أو بالأحرى طريق
بطيء أو تأكسدات مستمرة، فهي ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)
رسالة الفن
الموسيقى الإيرانية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
لم يتح للموسيقى المصرية لسوء الحظ - ولسبب لا أدريه - أن تشترك في الاحتفاء بمقدم سمو ولي عهد إيران، كما فاتها حظ الاشتراك مع باقي الفنون العليا في التعبير عما خالج مصر من عواطف الفرح وخوالج البهجة والمرح. . اللهم إلا تلك الحفلات الهزيلة الشاحبة التي لم تقو على إعطاء سمو ولي العهد الإمبراطوري الصورة الحقة للنهضة الموسيقية المصرية الشابة التي طفرت إلى ذروة رفيعة مرموقة موموقة. . .!
وقد سمعت بعض الشائعات التي تقول بأنها أبعدت لأنها غير مفهومة من سموه؛ فعجبت لهؤلاء الذين طيروا هذه الشائعات لأنهم لا يعلمون أن موسيقانا بل وجميع الموسيقى الشرقية إطلاقاً من أصل فارسي، فكيف تنكر الأذن موسيقى نشأت على سماعها منذ الصغر؟ وكيف لا يستسيغها سموه وهي التي خلفت في وطنه؟ إن العبرة ليست بالكلام العربي أو الإيراني وإنما بالموسيقى التي تصور وتترجم في حدود الذوق الشرقي!
إن (السلّم) العربي لم يخلق في مكة أو المدينة ولا في تركيا أو مصر، وإنما خلق كما هو الآن في إيران ثم انتقل إلى بلاد العرب حين غزوها للفرس مع باقي الفنون والعلوم الإيرانية. وظل هكذا حتى انتقل إلى بلاد الترك الذين عرفوا كيف يستخدمونه جيداً فركبوا منه نغماتهم وموسيقاهم التي أضفت على الموسيقى الشرقية لوناً زاهياً واستحدثوا نغمات: النوا أثر، وشط عربان، والحجاز كاركرد، والفرح فزا، والكرد. . . إلخ
وليكون القارئ على بينة بالسلّم سنكتبه له:
(1)
يكاه (2) نيم قرار حصار (وهي لفظة إيرانية يسميها الترك (كابا)(3) قرار حصار (4) تيك قرار حصار (5) عشيران (6) نيم قرار عجم (7) قرار عجم (8) عراق (9) كَوِشْت (10) تيك كوشت (11) راست (12) نيم زير كولا (13) زير كولاه (14) تيك زير كولاه (15) دوكاه (16) نيم كرد (17) كرد (18) سيكاه (19) بوسالك (20) تيك بوسالك (21) جهاركاه (22) نيم حجاز (23) حجاز (24) تيك حجاز
هذا هو السلّم الفارسي الذي استعمله الشرق قاطبة واستخرجوا منه حسب استعدادهم الفني
وقدرتهم الموسيقية أنغامهم وألوانهم التي تتفق وأذواقهم ومشاربهم، وهو يتكون من ديوان (أوكتاف) سبعة مقامات: ثلاثة كبيرة وأربعة صغيرة (وهي التي يتكون منها النغم الشرقي الذي لا يعرف الماجيور، والمنيور أو الميجيير والمنيير كما ينطقها الفرنسيون. . .
وقد ابتكر الإيرانيون النغمات الآتية التي لم يكن الشرق يعرفها حتى سمعها منهم وهي:
الدوكاه (البياتي) والأصفهان، والعجم عشيران، والعراق والحجاز، والسيكاه. . . الخ. . .
وهي نغمات فارسية أصيلة تدل على قدرة عالية ومكنة متمكنة لا حد لها. . .!
قد يقال إن السلّم عربي، ولكن الأسماء هي الفارسية؛ وربما يستدل على هذا بما قاله الدكتور (هنري فارمر) من (أن ابن مسجح تعلم فن الغناء الفارسي، وتلقى أيضاً بعض الدروس عن الموسيقيين الروم العازفين منهم على (البريطين) وعلماء الموسيقى النظرية، واستعان بما تعلمه في غربته على وضع نظام للنظرية الموسيقية رضى به رجال الموسيقى في عصره. على أن هناك ما يدلنا على أن ابن مسجح رفض الطرق الفارسية والرومانية التي رآها غريبة عن الموسيقى العربية. ومن هذا يستدل على أن هذه النظم الموسيقية المنقولة من الخارج لم تكن سابقة لنظرية الموسيقى الوطنية العربية. قد يقال هذا، ولكن أليس فارمر هو القائل:
(ليس من العسير الوصول إلى معرفة الزمن الذي انتقل فيه العرب فعلاً من طريقة الديوان الواحد (الأوكتاف) إلى طريقة الديوان المضاعف أو الجمع التام، ففي أيام إسحاق الموصلي والكندي ويحيى بن علي والفارابي وإخوان الصفاء كانت أوتار العود الأربعة تسمى من الأعلى إلى الأدنى: زير مثنى، مثلث، بم، والاسمان الأول والأخير فارسيان)
فكيف يستعين الإنسان بأسماء غريبة عن لغته. ثم يدعي بعد هذا أن السلم له؟ إن العقل ليقف قليلاً متسائلاً:
كيف يوفق العرب إلى خلق السلم ثم لا يوفقون إلى خلق الأسماء فيسمونها بأسماء إيرانية بحجة أن نفوذ الفرس أدّى إلى هذا!
ثم إذا فرضنا جدلاً أن السلم لا يمت إلى الإيرانية إلا بالأسماء فقط فكيف عجز العرب إلى اليوم عن تعريبها وتسميتها بأسمائها؟!
هذا من الناحية الشكلية والعقلية (للسلم) الذي لا نزال نستعمله إلى اليوم بأسمائه الإيرانية
من مئات السنين. وقد حرصنا ألا نسهب فيه من الناحية التحليلية الفنية البحتة حتى لا يتسرب الملل إلى نفس القارئ أما من الناحية التاريخية فإن الفرس قد سبقوا العرب في الاهتمام بالموسيقى اهتماماً عظيماً حتى تأثر العرب بها تأثيراً كبيراً، و (طويس) أول من غنى بالعربية غناءً إيقاعياً، تعلم الغناء من الفرس، وكذلك سائب خائر الذي تأثر بنشيط الإيراني ونقل مثل غنائه إلى العربية وحاكاه في العزف على العود بعد أن كان العرب لا يعرفون في غنائهم إلا (القضيب)
وابن مسجح الذي احتج به الدكتور هنري فارمر كان أول من نقل الغناء الفارسي إلى العربية وقد أخذ عنه ذلك - كما قلنا قبلا - ابن محرز ومعبد وابن سريج والغريض.
ولعل في هذه العجالة الصغيرة ما يعطي القارئ صورة عن الموسيقى الإيرانية، وفضل الفرس في هذا الميدان الذي سبقوا جميع الشرق فيه حتى يعلم الجميع أن الموسيقى لم تقم بواجبها الحق أو لم تمكن من ذلك أمام سيد البلد الذي ترعرعت فيه الموسيقى وازدهرت ازدهاراً نقل عنه الجميع. . .!
محمد السيد المويلحي
البريد الأدبي
عطف ملكي كريم
تلقينا من ديوان حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء هذا الكتاب الكريم الذي نتشرف بنشره:
حضرة المحترم الأستاذ أحمد حسن الزيات.
أتشرف بإبلاغ حضرتكم الشكر السامي على النسخة التي قدمتموها إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم من عدد الرسالة الممتاز الخاص بالهجرة.
وتقبلوا حضرتكم وافر الاحترام
تحريراً في 26 مارس سنة 1939
كبير الأمناء
محمد سعيد ذو الفقار
حول إنسانية الرسول
قد قرأت ما كتب الدكتور زكي مبارك في إنسانية الرسول في العدد 297 من الرسالة الغراء، وقرأت ما عقب به الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في العدد 298، فوجدت كلا منهما قد غلب على قلمه فغالى فأخطأ. ومغالاة الأستاذ الصعيدي وخطؤه على قلته أعجب عندي من مغالاة الدكتور زكي مبارك وخطته على كثره. فالدكتور لم يتضلع من علم الأزهر ولا من فقه الإسلام وإن كان قد تقدم للعالمية المؤقتة منذ عامين. والقدر الذي عرفه في الأزهر أيام كان أزهريّاً قد عفت عليه السنون الكثيرة التي قضاها خارج الأزهر في جوه غير جوه الديني، بين القاهرة وباريس. ومن هنا الغلطة التي أخذها عليه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي من تصويره شخصية الرسول غير مدروسة حق الدرس في البيئات الإسلامية. ومن هنا المعاني الشاذة الأخرى التي يعرفها القارئ في لحن مقاله مما لا يسنده فيه كتاب ولا سنة ولا عقل: من نحو أن النبوة تكتسب، وأن وحي السماء ينزل على الرسول صلوات الله عليه هو من هذا الذي يسميه الدكتور وحيا يهبط كل وقت من
السماء!
هذا وأمثاله ليس غريباً أن يقع فيه مثل الدكتور زكي مبارك لأنه لم يقل هذا لقال كما تقول جماعة المسلمين. ولكن الغريب أن يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في خطابه: (والذي يعرفه المسلمون جميعا أن الوحي لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وسلم شأن في أمور الدنيا). هذا غريب من القول فيه غلو كبير من غير شك، وعبارته من غير شك أعم كثيراً من المعنى الذي إليه قصد. فتأبير النحل الذي ضربه مثلا ليس هو كل أمور الدنيا، ولا هو مثال لأهم أمور الدنيا، وإنما هو مثال لدنيا الناس التي يعرفونها بالتجربة من نحو حرث وزرع وسقي وصناعة، فهذه لم يأت الدين ليعلمهم إياها وإنما وجههم إلى البحث فيها ووكلهم في التفاصيل إلى نتائج بحثهم وتجاربهم. أما غير هذا النوع من أمور الدنيا فالإسلام قد هدى الإنسان فيه، وهداه فيه بالوحي، كما يعرف الأستاذ من الآيات الكثيرة المتعلقة بالأحكام في القرآن. فليست هناك ناحية من نواحي الحياة إلا وقد شملها الإسلام بهديه ووحيه حتى ما يأكل الإنسان وما لا يأكل، وما يشرب وما لا يشرب، وما يلبس وما لا يلبس، وما يبدي من جسده وزينته وما لا يبدي، وحتى الاستئذان قبل الدخول والسلام عند الدخول لم يهمل الإسلام تأديب الإنسان فيه. فإذا كانت هذه الأمور وأمثالها ليست من أمور الدنيا فما هي أمور الدنيا يا ترى؟
إن الأمثلة التي ساقها الأستاذ في خطابه على أنها من أمور الدين أكثرها من هذا القبيل كعتاب الله سبحانه لرسوله في إذنه في غزوة تبوك لبعض من استأذنه من المنافقين في القعود، وفي قبوله الفدية ممن قبل منهم من أسرى بدر. هذا كله من أمور الدنيا في الصميم. وإذا لم يكن القتال وأموره من أمور الدنيا فماذا يكون؟ طبعاً هذا كله أيضاً من أمور الدين، وهذا بالضبط هو الدليل الذي لا ينقض على أن أمور الدنيا في الإسلام جزء من أمور الدين
بقيت نقطة في خطاب الأستاذ كان يحسن أن يحتاط لها فيستتمها ولا يتركها كما تركها. فقد قال إن أكثر العلماء جوّزوا على النبي صلوات الله عليه الاجتهاد في أمور الدين بدون الوحي (وجوزوا عليه الخطأ فيها أيضاً) وسكت عند هذا. ولا عند هذا يكون السكوت، فإن إطلاق القول هكذا يوهم أن كثرة العلماء أو قلتهم ترى أن بعض أحكام الدين التي جاءتنا
عن الرسول. يجوز أن تكون في ذاتها. هذا هو لازم القول بعدم الخطأ على النبي في الاجتهاد من غير تنبيه إلى الحقيقة الكبرى وهي إنه ما من خطأ اجتهادي وقع فيه النبي. ومن هنا الأمثلة غير الكثيرة التي عاتب الله فيها رسوله في القرآن. فكل ما لم يعاتب فيه النبي، وكل ما لم ينبه هو صلى الله عليه وسلم الناس إلى خلافه هو من الدين طبق مراد الله سبحانه، وإلا لأرشد سبحانه نبيه ورسوله إلى الصواب فيه
هذا ما نرى أن الأستاذ الصعيدي كان عليه أن يحتاط فيه للناس فينبه إليه حين كتب ذلك الخطاب. والسلام على الأستاذ.
محمد أحمد الغمراوي
إصلاح بيتين في مجلتين
قال أديب في مجلة مشهورة شهرية: (إن قول عديّ بن زيد العبادي:
ويلومون فيك يا ابنة عبدا ال
…
له والقلب عندكم موثوق
خطأ، والصواب: موثق)
وعدي لم يقل (موثوق)، بل قال: موهوق، والموهوق المحبوس، ووهقه حبسه، والبيت من شواهدهم
وروى (فاضل) في مجلة شهرية أسبوعية بيتاً في أبيات لأحد الشعراء، والبيت هو:
وقبة ملك كأن النجوم
…
تضيء إليها بأسرارها
والأبيات لعلي بن الجهم صاحب (عيون المها. . .) وقد حرم بيتَه ذاك الرواية الصحيحة في كل موضع ورد فيه، فكتاب ذكر تضيء وميم النجوم في آخر الصدر، ومجموع قال تصفى والميم المذكورة في أول العجز. وإني لموقن أن علياً قال:
وقبة ملك كأن النجو
…
م تفضي إليها بأسرارها
وأفضى إليه بسره أعلمه به. والبيت من المتقارب، ومن المعلوم أن بحر هذا الشعر تتلاقى فيه العروض الصحيحة (والقبض فيها أحسن من التمام) والعروض المحذوفة. وقد بلبل ترتيب الصدور والأعجاز في أبيات هذا البحر كثيراً من الشعراء والأدباء - من شوقي والعقاد فنازلا - لتلاقي تلك الأعاريض التي تطول وتقصر. . .
(* * *)
مسلمو يوغوسلافيا
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة:
قرأت مقالكم الشائق (رسالة الأزهر) وأعجبت به وهزتني نشوة الطرب لأنه بشير بعدة مقالات لعلمي بصرخاتكم الاجتماعية والدينية الاستنهاضية
بيد أنني قد رأيت في حكمك على مسلمي يوغوسلافيا شيئاً من الشدة لعل سببها عدم إلمام الذي رويتم عنه - بأحوال المسلمين هناك، وإني مسلم عربي أعرف أحوال المسلمين في يوغسلافيا وأدواءهم لأني عرفت القوم وعاشرتهم وأقمت بين ظهرانيهم
لذلك أعلن أن البوسنيين والهرسك وهما العنصران اللذان يدينان بالإسلام في يوغسلافيا - لا يؤمنون بالصوفية الزائفة ولا يدينون بالخرافات، إلا أن فيهم جهالاً وفي طباعهم شيء من الشدة وفي تمسكهم بالدين شيء من العصبية لعل سببها أنهم مطوقون بالأمم الأجنبية التي لا تعتقد عقيدتهم ولا تدين بدينهم
ولئن كانوا يمتازون عن مواطنيهم بشيء فإنما يمتازون عنهم بطرابيشهم الحمراء القانية وعمائمهم البيضاء الناصعة، ثم بجرأة المسلم وعزة المؤمن والنشاط الإسلامي الذي لا يلهي بدنيا ولا يصرف عن دين
ولئن كانت العجمة والأمية تحولان بين المسلم الأوربي وبين دينه، فطغيان العامية وانتشار الأمية، وشظف العيش، وأعاصير السياسة وعسف السلطات، والأمراض الفتاكة في الشرق العربي كفيلة بصرف المسلم عن دينه والحيلولة بينه وبين فهمه.
ولقد طفت الشمال الأفريقي كله وتجولت في مصر، والشام، والحجاز والعراق، واختلطت بالعامة وتغلغلت في طبقات المتعلمين فما وجدت فرقا بين هذه الشعوب.
وما أراها أحسن حالاً من مسلمي يوغوسلافيا ولا سيما إذا صرفنا النظر عن طائفة القرويين في مراكش، والزيتونيين في تونس، والأزهريين في مصر، وجماعة النجف الأشرف في العراق
فالمسلم العامي في يوغوسلافيا لا يختلف في عقيدته، وعقليته، وعاداته عن أخيه المسلم
العامي في الشرق العربي، والمسلم اليوغسلافي الذي نزح إلى الشرق ودرس اللغة العربية لا يختلف عن أخيه المسلم الأزهري، والمسلم اليوغسلافي الذي تخرج في مدارس يوغسلافيا المدنية لا يبعد عن أخيه المسلم المصري الذي تخرج في جامعة فؤاد الأول. على أن المسلم اليوغسلافي لا يألو جهداً في فهم دينه بواسطة العلماء والكتب المترجمة، والتفاسير المنقولة إلى لغته أو غير لغته؛ أما كون هذه التفاسير أو تلك الكتب صحيحة أو غير صحيحة، فهذا ما نوجه السؤال عنه إلى مشيخة الأزهر.
والحقائق المرة التي نقررها والأسف يملأ جوانحنا هي أن الجهل لا يزال منتشراً بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الذين فهموا الدين أو قاربوا نهجه من المتعلمين لم يتجاوزوا العدد القليل بعد، وأن الجهل سبب ويلات المسلمين أينما حلوا، وأن الأزهر لم يؤد رسالته على الوجه الأكمل بعد، وأن مصر لم تقم بأعباء الزعامة الإسلامية التي تطفح بها صحفها صباح مساء، وأن الأغلبية من المفكرين والشباب الإسلامي في مصر لا يعلمون عن إخوانهم في الأقطار النائية قليلاً ولا كثيراً
حمدا لك يا حضرة الأستاذ وشكراً على اهتمامك بإخوانك وعنايتك بقضيتهم. وإنا معشر الغرباء والضيوف نهيب بحضرتك وحضرات السادة قادة الفكر الإسلامي، أن تؤدوا زكاة أقلامكم وتبذلوا لإخوانكم المسلمين شيئاً من عنايتكم وتنشروا عنهم الحقائق الصحيحة حتى يعلم قراؤكم العرب أن لهم إخوانا يمدون أيديهم للتعارف. وأملنا وطيد ورجاؤنا أكيد أن تعالج أنت القضية الإسلامية كما عالجت في الشهور الماضية قضية القضايا (الغني والفقر)، ورسالتكم كفيلة إن شاء الله بتحقيق كل أمنية، لأنها منتظرة كالحبيب، شافية كالمطهر، منتشرة كالقمر، محبوبة كالعافية. ونسأل الله أن يحقق آمالنا ويصلح أعمالنا ويوفقنا إلى فهم ديننا
علي محمد رفعت
مسلمون في فنلندا
هذا عنوان المحاضرة الطريفة التي ألقاها الدكتور بشر فارس في قاعة جمعية الشبان المسلمين في الأسبوع الماضي. وأولئك المسلمون لم يسمع بأمرهم قبل رحلة الدكتور بشر
إلى بلاد الشمال سنة 1934. فلما لقيهم هنالك تتبع آثارهم وفحص عن أحوالهم الدينية والثقافية والاجتماعية وبحث في شؤونهم القومية والقانونية فخرج برسالة وجيزة نشرها سنة 1935 باللغة الفرنسية في مجلة الدراسات الإسلامية الصادرة في باريس
والمحاضرة جمعت بين الوصف والإخبار والتقرير، وقد قسم المحاضر الكلام، فتناول الدين والثقافة والقومية وشؤون المرأة على الترتيب، ثم تلا القرار الذي به اعترفت الحكومة الفنلندية بالدين الإسلامي وأعقبه بقانون الطائفة الإسلامية الفنلندية وهو على خمس وعشرين فقرة تحدد واجب أبناء الطائفة وتعين معاملة بعضهم لبعض وغير ذلك من الشؤون الخاصة
وبعد المحاضرة ابرز الدكتور بشر بعض صور بالفانوس السحري؛ منها صورة الإمام، وثانية لزفاف بنت الإمام، وثالثة لدكان أحد المسلمين الأغنياء، وأخرى لفرقة كرة القدم
وقد وقعت المحاضرة عند السامعين ألطف موقع لما اشتملت عليه من البيانات الجديدة في عبارة فصيحة وأسلوب جذاب.
اللغة العربية وتدريسها في بعض جامعات الصين
ورد من (هونغ كونغ) عاصمة الصين المؤقتة، أن وزارة التربية والتعليم هناك قررت تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية في ثلاث من جامعاتها ابتداء من العام الدراسي المقبل، واختارت لهذا الغرض ثلاثة من أعضاء البعثة الصينية بالأزهر الشريف، هم: السيد محمد مكين والسيد عبد الرحمن ناجون والسيد بدر الدين هاي ويليانغ
وسيتولى الأول تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الجامعة المركزية بهونغ كونغ، والثاني في جامعة يونان بكوتمينغ حاضرة مقاطعة يونان، والثالث في جامعة شمال الصين الغربي بخانغ شونغ في مقاطعة شينسي
ونذكر لهذه المناسبة أن السيد ناجون نال شهادة العالمية من الأزهر الشريف عام 1936، ونالها السيد هاي ويليانغ عام 1937 أما السيد مكين فقد نال شهادة الأهلية من الأزهر عام 1935 وسيتقدم لنيل إجازة التدريس من دار العلوم في الصيف القادم
رقص ورقص
سيدي الأستاذ الزيات:
طالعت اليوم مقال الأستاذ العقاد (رقص ورقص) وقد ملأني الحماس والفرح وكلما اكتملت جمهرة من الإخوان قرأت على مسامعهم تلك الكلمات الحقة التي أجمع الكل على صحتها، فهو يعبر فيها عما يخالج كل مصري يهوى الموسيقى. وقد اتفق صدور المقال في يوم الذكرى الثانية عشرة بعد المائة لوفاة الموسيقي العظيم بيتهوفن، وأحيت محطة إذاعة أنقرة (التركية) تلك الذكرى بمقطوعات من ذلك الشاعر الموسيقي. وفي اليوم السابق سمعت أغاني وطنية من محطة روما. والحقيقة أن الإنسان قد حرم على نفسه المقارنة أو المشابهة لأنها كانت تنتج الحسرة والألم
أنعقد مؤتمر الموسيقى الشرقية منذ أعوام وسمع أغانينا وسجلها على أقراص احتفظت بها وزارة المعارف، وقرر التمسك بالموسيقى المصرية لمصر، وما كانوا إلا مؤتمرين هازئين بالموسيقى الشرقية ولا حاجة بي أن أردد شعورهم نحونا لأنه مفهوم. وقد كتبت مرة في المجلة الموسيقية أحبذ نشر الموسيقى الأسبانية لأنها سلالة من الأغاني العربية درسها الأوربيون وتتلمذوا عليها ثم كيفوها حسب طبيعتهم، وتغنوا بها، فصارت عالمية تعبر عن الشعور والإحساس والعواطف. وأمامنا الموسيقى الروسية، وهي تلائم شرقيتنا. ولم لا تبدأ مراقبة الموسيقى بوزارة المعارف في تعليم الناشئة أغاني الأطفال التي أصبحت عالمية يتغنى بها الطفل الإنجليزي الألماني والهولندي وغيرهما كل بلغته، وهي سهلة سائغة محببّة للنفس. تلك كلمات سريعة أذكرها وأفوض لأستاذي العقاد وللفنان المويلحي أمر تلك المسألة الحيوية
(أسيوط)
دكتور حسن إبراهيم وهبه
حول عياش بن أبي ربيعة
حضرة أستاذنا الزيات
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد قرأت بالعدد رقم 297 من الرسالة للأستاذ كامل محمود حبيب قصة إسلام عياش بن أبي ربيعة وافتتانه ثم عودته إلى حظيرة الإسلام بعد أن نزلت
الآيات: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم. . .) إلى آخر الآيات الشريفة
غير أن الحقيقة المذكورة في كل مراجع السيرة هي أن الآيات لما كتبها عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرسلها إلى هشام ابن العاص (الثالث الذي واعدهم على الهجرة) لا إلى عياش (كما هو مذكور في قصة الأستاذ)
فعمر رضى الله عنه يقول:
- (فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص) وقال هشام في ذلك:
- (فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى. . .) إلى آخر حديث هشام
(المنصورة)
دروش الجميل
تنبيه مهم
وقع في الآية الكريمة التي استشهدت بها في آخر مقالي في العدد الماضي من الرسالة تحريف بتقديم كلمة (الكافرين) على كلمة (المنافقين) وصحتها: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) فأرجو كل قارئ أن يتفضل بتصحيحها في العدد الذي عنده
الغمراوي
رسالة النقد
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
- 3 -
يعلم الله أننا ما نقصد بنقدنا هذا تجريح الأستاذين الفاضلين والعالمين الجليلين العوامري بك، والجارم بك. فإن حقهما علينا مرعي، ومقامهما لدينا كبير. وإنما أشفقنا على العربية التي وقفنا حياتنا على خدمتها أن يشيع في طبقات أهلها ما اعتقدناه مجانباً للصواب ومتجانفاً من الحقيقة التي ننشدها وينشدها معنا صاحبا العزة الشارحان للكتاب
أشفقنا على الحقيقة أن يضل الناس في أمرها، وقد شاع الكتاب وذاع وانتشر في شرق وغرب، وتناوله كل أديب واحتواه قمطر كل طالب. فأحببنا أن يصحح كل قارئ نسخته ليقرأه بعد ذلك سليماً وليجعله إلى الصواب محجة لا أمت فيها ولا عوج
ودليلنا على حسن النية أننا لا نعترض إلا على خطأ لا سبيل إلى التماس الصواب فيه، فأما الذي يحتمل الصواب ولو بوجه من الوجوه، وأما الخطأ الذي لا يوجب ارتباكاً في الفهم، فقد تركنا كل ذلك اتكالاً على فهم القارئ واجتناباً لأن نتهم بالاستكثار من عدالتهم والرمي بها جزافاً
في ص33 في رسالة سهل بن هارون التي يخاطب بها بني عمه يقول:
(وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم وإبقاء النعمة عليكم. ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم)
والكلام واضح لا يحتاج إلى تفسير، ولكن حضرتي الشارحين يأبيان إلا شرح ما لا يحتاج إلى شرح فهما يقولان:
(قوله (فيما بيننا وبينكم). (في) هنا للسببية أي بسبب ما بيننا وبينكم من صلة القرابة أي إن عدم خطئنا سبيل حسن النية إنما هو بسبب ما بيننا وبينكم من صلة)
وهذا كلام ظاهر التكلف: فيه تكلف في اللفظ بإخراج لفظة (في) عن معناها الأصلي إلى
معنى السببية، وفيه تجوز في معنى الكلام وعدم إجراء له على وجهه المتبادر. وإنما المعنى المفهوم الذي تدل عليه الألفاظ بوضعها الحقيقي الأول هو: إننا لم نكن غير حسني النية في الأمر الذي نحدثكم فيه وهو تصويب الرأي في البخل وعده حزماً وحيطة
هذا هو الأمر الذي بينهم وبينه وهو الذي بني عليه رسالته من أولها إلى آخرها. أفرأيت أيها القارئ أننا لم نكن بحاجة إلى جعل في للسببية وتفسير ما بينه وبينهم بالقرابة وهي لم يجر لها ذكر في الرسالة؟
في ص 34 يقول سهل: (إن من أعظم الشقوة وأبعد من السعادة أن لا يزالُ يتذكر زلل المعلمين)
وفي الشرح يرتكب الشارحان خطأ ظاهراً بجعلهما أن في قوله (أن لا يزال) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا يزال خبر لها. وقد تبع ذلك أن ضبطا الفعل يزال بالضم لأنه في نظرهما لم يسبق بناصب ولا جازم، كما تبع ذلك أيضاً أن فصلا أن من لا في الرسم لأنها حين لا تكون ناصبة تفصل من حرف النفي
ولسنا بحاجة إلى الإطالة في شرح هذا المقام وبيان ضرورة جعل أن مصدرية ناصبة للفعل، لأن شرط جعلها مخففة من الثقيلة أن تكون مسبوقة بيقين أو ظن، ولم يسبقها هنا شيء من ذلك
وهذه قصة صغيرة وردت ضمن رسالة سهل نوردها لحسنها في ذاتها أولاً، ولنذكر بعدها تعليقاً للشارحين على جملة منها أعرباها إعراباً غريباً ثم شرحاها شرحاً مضطرباً ينقض آخره أوله
وهذه هي القصة ص 46
(حدث أحمد بن رشيد قال: كنت عند شيخ من أهل مرو لا تريده، هو مالح! قلت: هات من كذا وكذا قال: لا تريده، هو كذا وكذا، إلى أن عددت أصنافا كثيرة. كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إلي. فضحك أبوه وقال: ما ذنبنا؟ هذا من علمه ما تسمع. يعني أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم)
أما الجملة التي نؤاخذهما على إعرابها وشرحها فهي (هذا من علمه ما تسمع) فقد أعرباها هكذا: هذا مبتدأ و (من علمه) جار ومجرور خبره وما بدل من ذا في هذا) وهذا الإعراب
خطأ لا يبرره أي تمحك مما اعتاد المعربون أن يلجئوا إليه، لأن الإعراب فرع المعنى كما يقولون
فلننظر قبل في المعنى الذي فهمه الشارحان من الجملة. قالا: (أي هذا الذي تسمعه ناشئ من علمه ولم يلقنه بل هو من سجيته)
وهذا كلام متناقض، كيف يكون الذي تسمعه ناشئاً من علمه ثم يكون لم يعلمه ولم يلقنه؟ وهل العلم إلا بالتعليم، فكأنهما قالا: تعلمه ولم يتعلمه فيكونان قد أثبتا شيئاً ثم نفياه في حال واحدة
إنما المراد لقائل الكلام هو أن هذا الذي بدا من كلام الصبي لم يصل إليه من طريق التعليم ولا التلقين وإنما هو وحي الطبع وإرشاد السليقة؛ وإذا كان كذلك فهو غير داخل في باب التعليم وإنما هو إلهام وغريزة مركبة في النفس. وحضرتا الشارحين أولى منا بفهم الفرق بين الغريزة والكسب لأن هذا من مباحث علم النفس الذي طلباه في أوربا وبه امتازا على إخوانهما ونالا مناصبهما العالية
ومن أجل ذلك وجب أن تقرأ الجملة هكذا: (هذا من علمه ما تسمع) ويكون الكلام على الاستفهام الذي يراد به النفي وتكون الإشارة في (هذا) إلى الصبي. والمعنى أن هذا الصبي لم يعلمه أحد ما صدر منه في جواب الممتحن وإنما أجاب بما ركز في طبعه وثبت في نفسه من طبيعة البخل المتوارثة في قومه
في ص66 في حديث بخيل عرف فضل ماء النخالة في شفاء السعال وفائدته في الغذاء، فقال لامرأته:(لم لا تطبخين لعيالنا في كل غداة نخالة فإن ماءها جلاء للصدر وقوتها غذاء وعصمة، ثم تجففين بعد النخالة فتعود كما كانت فتبيعين إذاً الجميع بمثل الثمن الأول ونكون قد ربحنا فضل ما بين الحالين)
ويعلق الشارحان على عبارة (فتبيعين بمثل الثمن الأول) بقولهما: (الجميع أي دقيق القمح ونخالته. أما الدقيق فلأنه باق على حاله، وأما النخالة فلأنها عادت بالجفاف كما كانت)
سبحان الله! ما رأيت كتكلف هذا الشرح. من أين جاء الشارحان بالدقيق وهو لم يرد له ذكر في الكلام؟ ومن أين لهما هذا الخيال الذي تصورا به أن هذه الأسرة قد استغنت بماء النخالة عن كل طعام وشراب فلم تعد بعد بحاجة إلى الدقيق؟ إن أحداً لا يعقل هذا!! ولكن
الأمر أيسر مما عسّرا وأبسط مما ركّبا، وذلك أن الرجل لما رأى في ماء النخالة غذاء وشفاء عرض له أن يستفيد من ذلك، فتقدم إلى امرأته بأن تطبخ للعيال كل غداة نخالة ليكون في متناول حسائها غنية عن أكلة من أكلات اليوم، ثم هو يوجهها إلى تدبيره المحكم بقوله (فتبيعين إذا الجميع بمثل الثمن الأول) يريد إنه إذا تجمع عندها مقدار صالح من مطبوخ النخالة بعد تجفيفه باعته بمثل الثمن الذي اشترته به لأن النخالة لم تتغير حالها بعد الطبخ عما كانت عليه قبله
فقد بأن مقدار التعسف في هذا الشرح بتصور القمح وطحنه وإبقاء الدقيق والاستغناء بالنخالة عن كل طعام آخر وأن أصحاب هذا التدبير قد وفقوا إلى أن يعيشوا حياتهم كلها بفرق ما بين النخالة جديدة ومطبوخة
فيا الله أيها الشارحان إذا كنتما جادين في هذا الخيال وقد اقتنعتما به، فلم أشتري الرجل وامرأته القمح وتكلفا طحنه ثم بيع الدقيق الذي بقي بحاله والنخالة بعد طبخها؟
أما كان يكفيهما أن يشتريا النخالة وحدها ليأخذا فائدتها ثم يبيعاها مسلوبة الفائدة فلا يكونان بحاجة إلى كل هذا التعب؟ ولكن تكلف الشارحين وتعسفهما قد جعلهما يكلفان الرجل والمرأة كل هذه المشقة في أمر معاشهما
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى
الكتب
حياة الرافعي
تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان
للأستاذ محمود الخفيف
عرفت الرافعي رحمه الله، واتصلت بيني وبينه أسباب المودة في دار الرسالة أعواما ثلاثة؛ وأعرف سعيداً - متعني الله بطول صحبته - معرفة وثوق وخبرة. لذلك أراني شديد الغبطة أن أقدم إلى قراء العربية كتابا عن الرافعي جرت به براعة سعيد. . .
يعتبر هذا النوع من الكتب (كتب التراجم) من أهم أبواب الأدب عند الأمم الغربية؛ ولقد عظمت عنايتهم بتلك المؤلفات التي يجمع الواحد فيها بين دفتيه حياة رجل كان له في الحياة الإنسانية خطره وكانت له فيها رسالته؛ ولذلك كانت تلك الكتب واسعة الانتشار إذ يجد القراء فيها إلى جانب الدراسة والتحليل المتعة واللذة، وأي متعة أدبية هي أجمل من أن تصاحب عظيما لحظة من الزمن على صفحات كتاب؟
ولقد صار هذا النوع من المؤلفات فناً بذاته وصارت له أصول وأوضاع كما هو الحال في القصص والشعر وغيرها من فروع الأدب؛ فلابد فيه من الإحاطة بالموضوع عامة وفهم فن المترجم له ورسالته خاصة، ولابد من سلامة المنطق وعمق النظرة وتقصيها؛ ولا بد من الإنصاف والنزاهة واللباقة، ثم لابد بعد ذلك مما يجب توفره في كل أثر أدبي من استقامة الأسلوب وجماله وبلاغته
فإذا أضفت إلى ما سلف معرفة الكاتب بالمترجم له وصلته به شخصياً، فهنا الكمال الذي لا مطمع بعده؛ وبقدر ما يكون من هذه الصلة تكون قيمة الترجمة وخطرها، ولذلك كان طبيعياً أن يعد هذا القسم الخاص من كتب التراجم أكثرها أصالة في هذا الفن وأعظمها استهواء للقراء، بله قيمتها من حيث صحة الإسناد وصدق الرواية
والرجل العظيم، كاتباً كان أو سياسياً أو جندياً أو ما سوى هؤلاء، لا يعرف من آثاره أو أعماله وحدها، فلابد من تمام المعرفة به من درس حياته، فمن ظروف تلك الحياة ولدت آثاره ومنها استوى له مزاجه ونشأ وجدتنه
ولقد كان الرافعي فيما أرى من عظماء رجال القلم لا في مجال العربية فحسب بل في مجال الفكر البشري كله. وكان رحمه الله من ذوي الأصالة، تجيش نفسه بالمعاني كما يتفجر الينبوع بالرائق العذب، لأن من طبيعته أن يتفجر بهذا دون حاجة إلى مدد من غيره: فلقد حيل بينه وبين الأدب الأوربي لأنه لم يتحرك بلغة من لغاته لسانه، وحيل بينه وبين مناقشات الناس في مجالسهم لأنها لا تنفذ في مسمعيه، فلم يبق إلا أن يقرأ العربية ثم ينطوي على نفسه ينظر ويتدبر. . .
أعجب سعيد بأدب الرافعي ثم ابتغى إليه الوسيلة حتى لقيه فنشأت بينهما صلة، ثم توثقت الصلة فكانت مودة، وتزايدت المودة فصارت إخاء، ثم كان بعد ذلك ما يكون بين الصديقين الحميمين من زيادة الألفة ورفع الكلفة. وتسنى بذلك لسعيد أن يدرس الرافعي الرجل في شخصه وأن يستبطن دخيلة نفسه كما درس الرافعي الكاتب في آثار قلمه، ومن هذه الناحية كملت ترجمته فهي كما ذكرت الناحية التي تكمل بها التراجم
وأدب الرافعي ثروة عظيمة يضم إلى تراثنا، ودراسة هذا الأدب لاشك أمر مطلوب في ذاته لناشئة الأدب عامة؛ ثم هو أمر لا غنى عنه للباحث المثقف شأن كل أدب رسخ أصله وامتدت فروعه
والرافعي كغيره من فطاحل الكتاب لابد من معرفة حياته لنفهم آثاره، بل لعله أجدر بذلك من كثيرين غيره لما أشرت إليه من صفاته؛ هذا إلى إنه لابد في دراسته من هاد، فلقد يعظم ويسمو أحياناً حتى ليغدو كالجبل الأشم لابد لمن يريد ارتقاءه من دليل. اقرأ على سبيل المثال مقالاته في النبوة، واقرأ مقالاته: رؤيا في السماء، وابنته الصغيرة وبين خروفين وإضرابها تجد البرهان على ما أقول؛ ولقد يرق ويسهل حتى تصبح مقالاته كأفواف الزهر ولكن لابد ممن يشير إلى سر جمالها، ثم لقد يعمق ويدق حتى يصير كالجدول المتواري لا سبيل إلى معرفة منبعه إلا أن يهديك إليه هاد، خذ مثالاً لذلك مقالاته في الجمال البائس والمشكلة، ثم لا تنس أوراق الورد ورسائل الأحزان وأشباهها فإنك لن تفهمها حق الفهم إلا أن تعرف المنبع الذي تفجرت منه. . .
ويسرني أن أذكر أن الأستاذ سعيداً قد دلنا بكتابه على نواحي القوة والجمال في هذا الأدب الفذ، ثم لقد كشف لنا من أسراره وخبيآته، وفرغ من عمله على خير ما يرجى من الجودة،
وهو بما يرشدنا ويدلنا يؤدي إلى الضاد خدمة من أجل الخدمات
هذا ويسرني كذلك أن أذكر دون أن أتحيز إلى سعيد، إنه قدم بكتابه هذا أقوى براهينه على أصالته، فلقد حيل بينه كما حيل بين أستاذه وبين الأدب الغربي في لغاته، ومع ذلك فإني لأشهد أن ما اتبعه في كتابه تلك الترجمة لا يختلف في جوهره عن أصول ذلك الفن. وفي ذلك دليل قوي كما أقول على إنه كالجواد الكريم، لم يأت كرم أصله من المحاكاة والتعلم، وإنما كان كرم ذلك الأصل طبيعة فيه لأنه هكذا خلق
سار سعيد سيراً منطقيا فتتبع حياة الرافعي في مراحلها دون تعثر أو ارتباك، ثم حلل ودرس المزاج الأدبي والنزعات الاجتماعية والسياسية التي امتاز بها عصر الرافعي، فكانت طريقته بهذا هي الطريقة العلمية، طريقة النظر والتبصر، وبها امتاز كتابه عن تلك الكتب التي تعمد إلى مجرد الحكاية والسرد، وإنك لتقرأ الكتاب فتحس كأنك صاحبت الرافعي وترتسم لك شخصيته قوية واضحة فتسأل هل كان مرد ذلك إلى حسن سياق الكاتب أم إلى شدة معرفته بمن يكتب عنه، ثم لا يسعك إلا أن ترده إلى ذلك جميعاً
وثمة حسنة في الكتاب زادتني محبة له، ذلك أن الدافع الأساسي إلى كتابته كما نعلم كان دافع الوفاء نحو صديق راحل فلم يحمل هذا الدافع القوي سعيداً على التحيز وعهده بصاحبه قريب، ورأيناه بصدقه. وإنصافه يرينا ناحية من نواحي قوته ككاتب. ثم لقد كان يجد نفسه أمام أمور دقيقة فكانت تواتيه فيها لباقة ترضي الذوق ولا تغضب الحق. . .
أما أسلوب سعيد فلست بحاجة إلى أن أتحدث إلى القراء عنه، وقد عرف القراء سعيداً بجمال أسلوبه وبلاغة بيانه قبل أن يعرفوه بكتابة هذا، وحسبي هنا أن أشير إلى إعجابي به
وعهدي بسعيد إنه يحب في إخلاص أن يعرف رأي المنصفين فيما كتب فيحفل بأن يسمع ما لا يرضيهم أكثر مما يحفل بالثناء والمجاملة وهي خلة تضاف إلى محامده، ولذلك أصارح سعيداً بأني كنت أحب منه أن يدرس أسلوب الرافعي وطريقته دراسة نقدية. ولقد يرد على ذلك بقوله إن لهذه الدراسة مجالاً غير هذا المجال، وهو رأي له وجاهته بل هو رأي أكثر كتاب فن التراجم وفي مقدمتهم أميل لدوج وأندريه موروا وغيرهما، بيد أني شخصّياً أرى أن الموضوع يكون بهذه الدراسة أتم وأجمل
ولقد طبع الأستاذ سعيد كتابه طبعاً أنيقاً متقناً في مطبعة الرسالة وختمه بفهرست للموضوعات وثبت دقيق للأعلام والصحف والمجلات والكتب التي ورد ذكرها فيه
أهنئ الأستاذ سعيدا بكتابه الفذ الجميل وأكرر له إعجابي. ويسرني في خاتمة هذه العجالة أن أشير إلى معنى آخر هو أن كتابه هذا بموضوعه وبما سلك فيه من طريقة يعتبر من مظاهر التجديد في أدبنا العصري، ولذلك كم أراني مغتبطاً بالحديث عنه في هذا الموضع من سجل الرسالة!
الخفيف
المسرح والسينما
حديث الأسبوع
625 جنيهاً تصرف يومياً على الفرقة القومية
أكدت لنا بعض المصادر العليمة أن حضرات النواب المحترمين الأساتذة عبد الحميد عبد الحق وسليمان غنام وأحمد أبو الفتوح سيتقدمون في هذه الدورة بسؤال إلى معالي وزير المعارف عن الفرقة القومية والرسالة الثقافية التي أدتها للبلاد وعن مبلغ الخمسة عشر ألفاً من الجنيهات التي تصرفها الحكومة إعانة لها. . . وتؤكد هذه المصادر أيضاً أن بعض النواب سينضم إلى الأساتذة مقدمي السؤال وأنهم سيطالبون بتوفير هذا المبلغ وتقديم جزء منه كإعانة للفرق الأهلية
والواقع أن هذه الفرقة يجب أن تحل لأنها تكلف ميزانية الدولة من المال مالا تستطيع أية حكومة في العالم أن تقدمه لمساعدة جميع الفرق في بلادها. وإذا عرف القارئ أن الفرقة تعمل في الموسم دورتين، وأن كل دورة تستغرق على أكثر تقدير أربعة أسابيع، وأن أيام العمل في كل أسبوع تصل إلى ثلاثة أيام لخرج بنتيجة وهي أن مدة عمل الفرقة في موسمها أربعة وعشرون يوماً. ومعنى هذا أن الحكومة تدفع لها كل يوم 625 جنيهاً مصرياً إعانة خلاف إيجار المسرح وأجور موظفيه وثمن التيار الكهربائي المستهلك والملابس المؤجرة وغيرها
هل يعرف حضرات النواب المحترمين هذه الأرقام المخيفة؟! إن البلاد الآن في عصر انتقال يتحتم عليها فيه أن تقضي على كل ضار فتمهد لبقاء الصالح. والتجارب العديدة أثبتت أن الفرقة القومية هزيلة الجسد لا تستطيع القيام بأعباء الرسالة الملقاة على كتفيها، وجدير بالحكومة أن تصرف الإعانة على مشروع جدي يعود بالخير على البلاد. . .
تقسيم جديد
قد يعرف المتتبعون للتطورات الفنية في البلاد أن ستوديو مصر كان قد استحضر خبيراً فنياً ليقدم تقريراً عن أوجه الإصلاح اللازمة للمؤسسة الفنية الكبيرة وأن الرجل قام بعمله وقدم تقريره ثم غادر مصر إلى فرنسا ثانية
وعملت إدارة ستوديو مصر على تنفيذ تقرير مسيو أفنيون الذي اقترح وجوه إصلاح عديدة وبدأت في الأسبوع الماضي تنفيذ الجزء الأول منها وهو القاضي بالتقسيم الإداري والفني وتحديد السلطات، فأصبح الأستاذ محمد رفعت مديراً للإنتاجبدلاً من الهر فريتز كرامب الذي أصبح مستشاراً فنياً، وأسندت مهمة المدير الإداري إلى الأستاذ رجائي، ومهمة مدير التوزيع إلى الأستاذ موريس كساب وكل هؤلاء المديرين يعملون تحت سلطة المدير العام الأستاذ حسني نجيب
موسيقى للجميع
المفروض - فنياً - أن الجزء الأكبر من نجاح الأفلام يعود إلى إتقان الناحية الموسيقية فيها وهي ناحية لا نجد في مصر من المنتجين من يهتم بها، ولذا نشعر بالملال يسود نفوسنا في معظم الأفلام المصرية التي يعتمد فيها المنتج والمخرج وكاتب السيناريو وواضع الحوار و. . . المؤلف أخيراً. . . على الحوار
والواقع أن الموسيقى التصويرية في مصر تكاد أن تكون مهملة، لأن ملحنينا يتجهون إلى مناحي أخرى توفروا عليها. ولذا رأت السيدة بهيجة هانم حافظ المديرة الفنية لشركة فنار فيلم بصفتها رئيسة نقابة الموسيقيين المحترفين أن تسد هذا النقص الموجود بأن تضع عدة قطع موسيقية تصلح لشتى (المواقف) السينمية وأن تسجلها وتطبع منها نسخاً عديدة تعرض للبيع لمن يطلبها من أصحاب الشركات التي ترى نفسها في حاجة إلى سد هذه الناحية الواجب أن تملأ بما هي جديرة به من الاهتمام والإتقان الفني
حوريس