المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 301 - بتاريخ: 10 - 04 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٠١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 301

- بتاريخ: 10 - 04 - 1939

ص: -1

‌يا للجلال الصريع!

الملك غازي. . .

في ذمة الله نبعةٌ فواحة من أرومة الحسين، ذوت في ازدهار الربيع وغيَدان الصبى وفوران الأمل، ثم أسقطها الجفاف والري موفور والخصب شامل!

كان الملك غازي - تغمده الله برضوانه - مهوى قلوب العرب ومعقد رجاء العراق؛ لأن شبابه يرافيء شباب النهضة، وطموحه يجاري طموح العروبة؛ ولأنه من بعدُ وريث فيصل باني العروش وقائد الثورة. وكانت تباشير الصباح المسفر تنبئ عن الضحى الجميل والنهار الصحو، لولا أن للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول ولا تسير على رغائب الأنفس

عرفت خليفة فيصل وهو لي عهد، ولم أنل شرف لقائه وهو ملك؛ لأنني تركت العراق وأبوه لا يزال على عرش الرشيد يدبر الأمر بذكاء على ودهاء معاوية. وكانت جلساتنا الليلية في حديقة البلاط المزهرة المقمرة، حيناً في حضرة الملك وحيناً في حضرة خاله، تكشف لي قليلاً قليلاً عن مصاير هذه النفس الرغيبة الطيِّعة التي نبتت في هجير مكة وأزهرت في ظلال بغداد، فكنت لا أنفك منها أمام طبيعتين مختلفتين: طبيعة تتأثر بحاشيته فتسامح وتساير وتمرح، وطبيعة تتأثر بأبيه فتصعب وتسمو وتطمح. ولكن المقرر في الأذهان كان أن الشبل سينتهي بالضرورة إلى طبيعة الأسد مهما أثر فيه طبع الناس ونال منه قفص الحديقة

قلَّ في الشباب الملكي من كان كغازي في سماحة نفسه وسجاحة خلقه ونبل شعوره وسمو تواضعه وظرف شمائله. وتلك هي الصفات الهاشمية التي تنتقل في بني الحسين بالإرث، وتقوى إذا ساعدتها القدوة وساعفتها البيئة. ولكن ما ورثه هو عن أبيه صقر قريش من الجناح الزَّفاف، والبصر النفاذ، واللب الحصيف، كان يتيقظ رويداً رويداً مع الزمن والخبرة؛ فلم يكن بعدُ قد توثقت آرابه للاضطلاع بالعبء الفادح الذي ألقي على ظهره فجأة. والعبء الذي كان يحمله فيصل من أمور العراق هو العبء الذي قسمه الدستور على سلطات الدولة الثلاث فجمعه هو على عاتقه. من أجل ذلك لم يضع غازي يده من سياسة العراق العليا موضوع يد أبيه للتعديل والموازنة، وإنما تركها في أيدي الزعماء تجري

ص: 1

سفينتها على مشيئة الريح، تضطرب حين تثور، وتستقر حين تسكن. ومن أجل ذلك امتحن الله الفراتين بالقوة الغشوم، فحكم الجيش، واستبد الطيش، واضطرب العيش، وسطت الأيدي المجرمة على عباقر الأمة. ومن أجل ذلك لا نتوقع لسياسة العراق بعد غازي ما توقعه لها الناس بعد فيصل. والغالب في الظن أنها ستجري في عهد فيصل الثاني كما كانت تجري في عهد فيصل الأول. فإن نوري السعيد الذي يقبض على سكانها اليوم هو تلميذ أبي غازي؛ وضعا معاً سياسة العراق الحديث على أساس من المرونة اللبقة، ثم ساساه بنوع من الدكتاتورية المعتدلة التي تسير مع النزاهة وتقف عند حدود العدل. ولعل هذه السياسة الفيصلية هي التي تقتضيها الحال اليوم بعد ما فت في أعضاد الشعب توزع الرأي وتقلب الهوى وتوقح الخصومة

إن مصرع الملك الشاب على هذه الصورة الأليمة فاجعة تدمى العيون وترمض الجوانح.

وإن العالم العربي كله ليشاطر العراق الحزين أساه على سيد شبابه ومناط أمله؛ ولكن للدواهي النُّكر صدمات تهز الشعور وتوقظ الفطنة، فتنبه على قدر ما تُذهل، وتوجه على أثر ما تُضل. والشعب العراقي من الشعوب الكريمة الحرة التي تصقلها الخطوب وتلمها الأحداث فتقف بفطرتها السليمة أمام الخطر هوىً واحداً ورأياً جميعاً وعزيمة صادقة. وسيرى الذين يتخيلون ويتقولون أن إرادته الصارمة الحازمة ستَثبت لدواعي الشقاق ونواجم البغي، وتُثبت أن عصر فيصل الثاني سيكون عصره الذهبي الثاني، فيشتد بنيانه ويمتد سلطانه ويتسع عمرانه وتهبُّ من جوف الهلال الخصيب عبقريات غفت في أحضان الخلود ولكنها لم تمت!

في ذمة الله نبعة فواحة من أرومة الحسين ومن دوحة فيصل، سقاها النبل الخالص، وغذاها الكرم المحض، وتعهدها الحفاظ الحر؛ حتى إذا أوشك الكم أن ينشق عن الزهر المثمرة قصفها الموت المفاجئ، فكان ذُوِيها حسرة في نفس شعب، وقرحة في قلب وطن!

برد الله ثرى غازي بالصيب الهتون من رحمته، وشعب قلب العراق بالصبر الجميل عن مصيبته، وجعل عهد المليك الطفل على العروبة والإسلام عهد سلام ووئام وبركة!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌دخيلة آسيا

للأستاذ عباس محمود العقاد

جون جنتر كاتب صحفي روائي ذو شهرة عالمية، بدأ حياته الصحفية في الحادية والعشرين من عمره حوالي سنة 1922 مخبراً في صحيفة شيكاغو دايلي نيوز الأمريكية، ثم أسندت إليه مراسلتها من عواصم أوربا والشرق الأقصى فأقام في لندن وباريس وبرلين وموسكو ومدريد وحواضر الصين واليابان والهند وكل حاضرة كان لها شأن في السياسة العالمية

واتصل بعظماء البلاد بين محادث ومجالس ومراقب، واستعان بالوسائل الكثيرة التي يستطيعها الصحفي الأمريكي من بذل المال وإقامة الولائم والتقاط الأسرار للإطلاع على دخائل الزعماء المحجبين في البيوت وفي دواوين الأعمال؛ ثم اعتزل الصحافة منذ ثلاث سنوات وتفرغ للتأليف في موضوعات تشبه موضوعات الصحافة، فكان تصنيفه الأول في هذا الباب كتاباً ضخماً يربى على خمسمائة صفحة كبيرة أسماه دخيلة أوربا ويشمل على نوادر مستملحة ومعلومات طريفة عن كل من عرف من الرجال، وكل ما عرف من الشؤون والأحوال؛ وهو محصول نفيس ولا شك يحتاج إليه كل من يعنيه أن ينفذ إلى حقائق الأمور في سياسة الدول الأوربية وسياسة العالم عامة

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في شهر يناير سنة 1936، وصدرت الطبعتان الثانية والثالثة منه قبل أن ينتهي الشهر، وأمامي الآن الطبعة الحادية والثلاثون منه؛ ولا يبعد أن تكون الطبعة الثانية والثلاثون في الطريق، وثمن النسخة نيف وستون قرشاً بالعملة المصرية. . . فلعلي لا أتهم غداً بالتحريض على جريمة قتل واغتيال إذا اطلع على هذه (الأسرار) أولئك الحانقون على كتابنا الكهول والشيوخ، لأنهم ناجحون!

وسر المؤلف بهذا النجاح فأقدم على تجربة ثانية باسم (دخيلة آسيا) في هذه المرة، تناول فيها عظماء اليابان والصين والهند وفارس وسائر العظماء الأسيويين، وكتب عن إمبراطور اليابان وقائد الصين وشاه إيران وغاندي وجوهرلال، وأجاد في هذه التراجم كما أجاد في تراجم المشهورين الأوربيين، فسيلقى كتابه الثاني من الرواج ما لقيه كتابه الأول؛ وسيقبل عليه الأمريكيون والأوربيون قبل إقبال الآسيويين وإخوانهم الإفريقيين عليه!

ص: 3

ولما يصدر الكتاب بعد من المطبعة، ولكنا اطلعنا على نخبة من فصوله في المجلات المختلفة، ومن هذه الفصول نلخص بعض ما يطيب الإطلاع عليه لقراء العربية

كتب عن إمبراطور إيران صاحب الجلالة رضا بهلوي بعنوان (ملك الملوك) أو شاهنشاه بالإيرانية، فذكر جهاد جلالته في كفاح الجهلاء من رجال الدين الذين يحاربون الإصلاح باسم القرآن، وما يحاربونه في الحقيقة إلا بما يجهلون من العلم ومن القرآن، وذكر اجتهاده في تعليم نفسه وقال: إن ظهوره كان أكبر حادث في التاريخ الفارسي بعد أيام جنكيز خان، وإنه كان قبلة الآمال حين فكرت فئة قليلة من الشبان في إنقاذ البلاد من الفوضى والفساد، فجمع حوله ألفين وخمسمائة من الجند وتقدم إلى طهران في العشرين من شهر فبراير سنة 1921 فاستولى عليها بغير عناء

ويقول المؤلف إن الشاه يستيقظ في الخامسة من الصباح، وليس في المملكة موظف كبير إلا ويتوقع دعوة منه في أي وقت من أوقات الليل والنهار للحضور إلى القصر بعد خمس عشرة دقيقة، وهو يستحث وزراءه إلى العمل الناصب فيفخرون بالعمل ويفخرون بإيران

ويقال إن الشاه أوسع الملاك أرضاً في أرجاء القارة الأسيوية، وأنه يملك أعظم الفنادق الكبرى، ويجعل السياحة في البلاد الفارسية حكراً للدولة، وليس على الدولة ديون بل لها موارد في احتكار السكر والشاي والملح والتجارة الخارجية، والنقل والنفط وما إلى ذلك، وتنفق كلها على المرافق العامة والإصلاحات الداخلية. وقد وهب الشاه بلاده كل ما عنده من الذهب منذ عهد قريب.

ولا يطيق الشاه تعصب الجمقي من رجال الدين. فمن ذلك أن جماعة منهم هجموا على موظف أمريكي في السك القنصلي فقتلوه لأنه التقط صورة شمسية لمحفل من المحافل الدينية، وكانوا بقيادة رجل يزعم أنه من نسل النبي عليه السلام. فأمر الشاه بمحاكمته وصدر الحكم عليه بالموت، فمات، وكان عبرة لغيره من الجهلاء الذين يسيئون بهذه الحماقات إلى سمعة البلاد.

وقال إن الشاه تدرج في إلغاء الحجاب فأصبح نساء المملكة جميعاً سافرات، وإنه يقتدي بالغربيين، ولكنه لا يستسلم لأحد منهم في سياسة داخلية ولا سياسة خارجية. وقد ألغى خطوط الطيران الألمانية والإنجليزية وسمح للطائرات الهولندية وحدها أن تطير فوق

ص: 4

بلاده، على أن تجدد الرخصة كل شهرين.

وندع ما أشار به الكاتب إلى (خصوصيات) الشاه، ونذكر بعض ما رواه عن (الإنسان الإله) أو إمبراطور اليابان ومن أنهم يستأنسونه شيئاً فشيئاً لأنه يعيش حتى الساعة عيشة الأرباب المعبودين، فلا يتكلم في المذياع ولا يجوز لأحد أن يصوره ولا أن يحدجه بنظره، وأنه مع هذا ينظم الشعر ويقيم في قصره مكتباً للمسابقات الشعرية تعرض فيه المنظومات كل سنة ويشترك الإمبراطور فيها وإن كان لا يشترك في الجوائز الممنوحة للسابقين

ونقل المؤلف عن بعض المصادر أن السياسي الياباني الكبير الأمير (إيتو) قد استشار بسمارك أثناء زيارته لبرلين في أمر الدستور والقواعد النيابية فقال له ضريبه بسمارك إن الشرط الأول لنجاح المملكة الدستورية هو اعتصام الملك بثروة كافية وافية. وعلى هذا يقول المؤلف إن رأس مال البيت الإمبراطوري هو الثالث أو الرابع بين رؤوس الأموال في الديار، وإن للإمبراطور أسهماً في كثير من الأعمال الصناعية والسكك الحديدية وخطوط الملاحة، ومع هذا لا يأذن العرف للإمبراطور بحمل النقود كما يقولون.

وكتب عن زعيم الصين (شيان كاي شيك) فقال: (إنه لغز من الألغاز النفسية لأنه لدود الخصام شديد الصرامة في النظام، ومع هذا يصفح عن كثير من أعدائه ويوليهم المناصب ويلقي عليهم التبعات.

يستيقظ عند الفجر ويدأب على العمل حتى المساء، ويحب أن يؤدي أعماله وهو مضطجع، وينام قليلاً أثناء النهار على صوت الأغاني التي تدار له على الحاكي، ويختار من الأغاني أنشودة دينية لشوبير، ويعلم مرءوسوه في الحجرة المجاورة أنه قد نام ساعة ينقطع الإنشاد.

لا يدخن ولا يشرب الخمر، وقلما يتعاطى القهوة أو الشاي، وله يومية يواظب على تدوين الملاحظات فيها؛ ويقال إنه نجا من الموت مرة بفضل هذه اليومية، لأنها وقعت في أيدي المعتدين عليه فقرءوها فبدا لهم الرجل في حياته الخاصة بعد قراءتها على صورة غير التي تعرضها لهم مغامراته السياسية، فأحجموا عن قتله

رياضته المختارة السير على الأقدام فوق التلال، أو تناول الغداء في الخلاء، ولا يزجى الفراغ في غير القراءة، وأكثر ما يقرأ في الكتب الصينية القديمة، وشعاره من كلام كونفشيوس الحكمة التالية:

ص: 5

(من أراد أن يحكم أمة فعليه أن يحكم أسرة. ومن أراد أن يحكم أسرة فعليه أن يروض جسمه قبل ذلك بالرياضة الأدبية. ومن أراد أن يروض عقله فعليه أن يخلص في نياته ومقاصد حياته. ومن أراد الإخلاص في النيات فعليه التوسع في المعرفة)

ومفتاح أخلاق الزعيم الصيني العناد والصبر والمثابرة. ويبلغ من يقينه بصوابه أنه ينتظر من أعدائه أن يثوبوا إليه مع الزمن نادمين موافقين ولو طال الانتظار

مرتبه ألف ريال صيني في الشهر، وهي تساوي مائتين وخمسين من الريالات الأمريكية. وهو سعيد في حياته المنزلية تعاونه زوجة فاضلة من بيت كريم هو بيت أستاذه زعيم الصين الأكبر (سون ياتسين)

ولا يزال وفيَّا كل الوفاء لأستاذه الجليل. ففي صباح كل يوم من أيام الاثنين يقام في معسكره حيثما كان اجتماع عام يحضره نحو ستمائة من أعوانه، وتعزف الموسيقى سلاماً فيقف جميع الحاضرين، ويرفعون القبعات وينحنون ثلاثاً راكعين أمام صورة كبيرة لسون ياتسين، ثم يتلو شيان كاي شيك وصية أستاذه في خشوع واتئاد كما يتلو الصلاة، ثم يسأل الحاضرين السكوت دقائق ثلاثاً يعقبها بإلقاء موعظة تستغرق الساعة أو أكثر من ذلك، يعرض فيها على أستاذه أعماله وحساب أسبوعه كما يعرض المرؤوس تقرير الأسبوع على رئيسه الذي هو مسؤول بين يديه، ويظل السامعون والمتكلم واقفين طوال وقت الاجتماع، ثم ينفضون خاشعين بعد أن يؤذنهم الخطيب بكلمة الختام)

ويرى المؤلف أن شيان كاي شيك ربما كان اقدر أبناء الصين منذ العهد الذي بنى فيه الحائط قبل المسيح بثلاثة قرون

ولا يتسع المقام لتلخيص ما كتبه عن غاندي وجوهرلال وغيرهما من أعلام الهند والقارة الآسيوية، فلعلنا نرجع إلى تلخيص الطريف النافع بعد صدور الكتاب

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌البحتري أمير الصناعة

للأستاذ عبد الحرمن شكري

قيل إن أبا العلاء المعري شرح ديوان المتنبي وسماه (معجز أحمد) وشرح ديوان أبي تمام وسماه (ذكرى حبيب) وشرح ديوان البحتري وسماه (عبث الوليد). ولعمري لو كان شعر البحتري عبثاً ما احتفل له أبو العلاء المعري ولما سلخ زمناً من عمره في شرحه، وإلا كان المعري عابثاً لإضاعة وقته في شرح العبث. وهذا أمر يذكرني بكارليل والقرن الثامن عشر، فقد كان كارليل كلما ذكر القرن الثامن عشر في أوربا سماه العصر العقيم وعصر طاحونة المنطق، ويعني المنطق الفارغ وعصر الإلحاد؛ ولكنا لو درسنا مؤلفات كارليل لوجدنا أن أكثرها كان في دراسة القرن الثامن عشر ورجاله ونزعاته الفكرية والسياسية، ولو كان عقيماً ما حفل له ولا أهتم به كل هذا الاهتمام. وكنت أود أن أسأل شيخ المعرة، على ما له عندي من الاحترام والمنزلة، هل شعر الوليد (ويعني البحتري وهو الوليد بن عبادة) هو العبث أم الجناس والتزام ما لا يلزم هو العبث؟ وإذا تساويا في العبث فأيهما أحب؟ يخيل إلي أن المعري إنما أراد أن يداعب البحتري، ولعله في صميم قلبه كان يحب عبث الصناعة بدليل ميله إلى الجناس والتزام ما لا يلزم؛ والحب يجلب المداعبة ويغري بها كما يداعب المحب حبيبه، وقد يكون ثقل المداعبة دليلاً على شدة الحب الذي لا يجد تنفيساً وترويحاً إلا بالتثاقل بالمداعبة. وإذا أضفت إلى ذلك اعتزاز المعري بتفكير كثير ليس للبحتري مثله كنت قد جمعت بين شِقَّي المداعبة وسببيها. فليس من المحتوم أن يكون لها سبب واحد. على أن المعري يُغْري أحياناً بمعارضة البحتري في شعره، وهذه مداعبة أخرى في ثناياها الجد فقد قال البحتري من قصيدة:

وعَيَّرتْني سجال العُدْم جاهلة

والنبع عريان ما في فرعه ثمر

أي أن الفقر لا يعير به الرجل كما أن الشجر النافع مثل النبع لا يعير بأنه ليس له ثمر. فقال المعري يعارضه:

وقال (الوليد) النبع ليس بمثمر

وأخطأ سِرْبُ الوحش من ثمَرِ النَّبْعِ

يعنى بالوليد البحتري ويقول: إن قول البحتري إن النبع ليس له ثمر خطأ لأن النبع تصنع منه القِسىُّ وبالقوس يقنص الصائد سرب الوحش، فكأن سرب الوحش من ثمر النبع الذي

ص: 7

ليس له ثمر من فاكهة النبات. فبالله أليست هذه دعابة؟ ثم أليست فكرة المعري مأخوذة من بيت البحتري، إذ يعنى أن النبع الذي يمد القانص بالقوس من خشبه لا يعير بأنه ليس له ثمر من فاكهة النبات لأنه يكون سبباً في اقتناص القنص فله مزايا؟ فأيهما إذاً العابث؟ على أنه لو كان شعر البحتري عبثاً لكان أفضل من كثير من عبث الحياة الذي يسمى جداً على سبيل تسمية الضد بالضد. ثم أما كفى المعري إضاعة وقته بشرح عبث الوليد في زعمه حتى يضيع جزءاً آخر من وقته بالإشارة إلى معانيه

والبحتري أقرب الشعراء في صناعته إلى أبي تمام وإن كان أبو تمام أكثر جرأة في تلك الصناعة وأعظم ابتداعاً. ونجد لأبي تمام معاني يجاريها البحتري، فأبو تمام يقول:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طُويَتْ أتاح لها لسان حسود

فيقول البحتري في المعنى نفسه:

ولن تستبين الدهر موضع نعمة

إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحاسد

وبيت أبي تمام أسير وأحسن معنى. وألاحظ أن الصناعة هنا هي التي أثقلت بيت البحتري وعاقته عن السير. أما أبو تمام فعرف كيف يجعل الصناعة خادمة للمثل السائر وأبى أن يعوقه بأن يحمله ثقلاً من الألفاظ، وهذا المعنى هو نصف الحقيقة المشاهدة في الحياة، والنصف الثاني من الحقيقة هو ما عبر عنه الشريف الرضي بقوله:

رُبَّ نعيم زال ريعانه

بلسعة من عقرب الحاسد

وهناك فرق قليل في المعنى بين بيت البحتري وبيت أبي تمام ولكن الموضوع واحد. وقال أبو تمام أيضاً:

لو سعيت بقعة لإعظام نعمي

لسعى نحوها المكان الجديب

فقال البحتري:

فَلَو أنَّ مشتاقاً تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

وقال أبو تمام أيضاً في أرجوزة:

إن الربيع أثر الزمان

لو كان ذا روح وذا جثمان

مصوراً في صورة الإنسان

لكان بَسَّاماً من الفتيان

فقال البحتري:

ص: 8

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد زاد البحتري في المعنى واختصر كلماته وأحسن سبكه. والحقيقة هي أن البحتري قلما يأخذ معنى إلا زاد فيه وأجاد سبكه أو تصرف في معناه. أنظر كيف أخذ قول أبي الصخر الهذلي:

تكاد يَدِي تَنْدَى إذا ما لمستها

وتنبت في أطرافها الورق الخُضر

فالهذلي يقول إنه إذا لمس حبيبته أعدته بالحسن، ولكن أي حسن؟ حسن النبات، فجعل البحتري العدوى بحسن الإنسان فقال:

أغتدي راضياً وقد بتُّ غضبا

ن وأمسى مولى وأصبح عبدا

وبنفسي أفدى على كل حال

شادياً لو يُمَسُّ بالحسن أعدى

وقد ظلم أبن الرومي البحتري بقوله فيه:

كل بيت له يُجَوِّدُ معنا

هـ فمعناه لابن أوس حبيب

فإننا لو شئنا لأتينا بأبيات يشترك في معانيها ابن الرومي ومن كان قبله من الشعراء. ويمتاز البحتري بجودة الصنعة، وكثيراً ما يزيد المعنى، أنظر إلى قول أبي تمام:(ولا يَحيِفُ رضا منه ولا غضب) وإلى قول البحتري:

يُرْتَجى للصفح موتوراً ولا

يَهبُ السُّؤْدَدَ فيه للحَنَقْ

فصفح الموتور أعظم من صفح الغاضب، والشطر الثاني زاد المعنى بهاء. لا شك أن ابن الرومي كان أكثر ابتداعاً، وكان يجيد الصنعة ولكن للبحتري قطعاً لا يستطيع أبن الرومي محاكاتها في حلاوة الصنعة ولا سيما في المدح، ومدح البحتري كان أسهل متناولاً، ولعل هذا وحلاوة صنعته مما جعله مسعوداً لدى الممدوحين أكثر من أبن الرومي. والظاهر أن الأمراء، والوجهاء كانوا يسيئون الظن بمدح أبن الرومي أحياناً لأنه كان هجاء ساخراً، ومن كان كذلك حُمِلَ بعض مدحه على محمل السخر، وهذا أمر مشاهد في الحياة. أما البحتري فإنه يذكرنا بما يحكى عن أحد طهاة باريس الذي أجاد صناعة الطهي حتى أنه طبخ ذات مرة نعلاً سال له لعاب آكليه من جودة صناعة الطهي. وقد بلغت جودة الصنعة في شعر البحتري مبلغاً جعلها تحاكي العاطفة والوجدان كما نرى في بعض غزله، ولكن لو كان كل ما في شعر البحتري حلاوة في الصنعة لما حفل به أبن الرومي قدر ما حفل به؛

ص: 9

وأما إتقان صناعة البحتري محاكاة صدق العاطفة فهي صفة في كبار الفنانين. فالممثل الكبير إذا مثل الحزن أو الحب لم تفرق بين الحقيقة والمحاكاة، بل إن المحاكاة تصير حقيقة حتى أن الفنان نفسه قد يخدع بمظهرهما في نفسه كما يخدع المعجبون بفنه، ومن أجل ذلك قد تختلط حقيقة العاطفة ومحاكاتها في حياة الفنان كما تختلط الحقيقة والعاطفة في فنه. أنظر مثلاً إلى قصة البحتري وغزله في مملوكه نسيم الذي كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يصنع فيه غزلاً من أرق الغزل ويعرضه على المثرى الذي اشتراه فيرد المملوك إليه هدية فيربح المملوك، ويربح ثمنه، ويصنع غزلاً من غزل محاكاة العاطفة، ولكن حلاوة الصنعة فيه تغطي على المحاكاة وتختلط الحقيقة والخيال فيه.

والمدح في شعر البحتري لا يقل كثيراً في جودته عن المدح في شعر أبي تمام. وإذا أردت أن تنتخب خلاصة الخلاصة لم تستطع ترك المدح من شعرهما. أما أبن الرومي فإن له أشياء في موضوعات وأبواب أخرى تلهيك عن مدحه عند اختيار خلاصة الخلاصة من شعره، وإن كان له في المدح قدرة كبيرة. ومن بديع شعر البحتري في المدح قوله:

تلقِى إليه المعالي قصد أوجهها

كالبيت يقصد أَمّاً بالمحاريب

كالعين منهومةً بالحسن تتبعه

والأنف تطلب أعلى منتهى الطيب

وقوله:

علا رأيه مرمى العقول فلم تكن

لتنصفه في بعده وارتفاعه

وقارب حتى أطمع الغر نفسه

مكاذبة في ختله واختداعه

فهذه الأقوال ليست صنعة فحسب بل هي أيضاً خيال وفكر. وأنظر إلى قوله في مدح قوم توارثوا خصال الحمد:

خلقٌ منهم تردد فيهم

ولِيَتْه عصابة عن عصابَهْ

كالحسام الجراذ يبقى على الده

ر ويفنى في كل عصر قرابه

أو قوله:

جهير خطاب يخفض القوم عنده

معاريض قول كالرياح الرواكد

وهذا تشبيه بديع، وانظر إلى قوله:

مدرك بالظنون ما طلبوه

بفنون الأخبار فناً ففناً

ص: 10

وقوله:

وكأن الذكاء يبعث فيه

في سواد الأمور شعلة نار

وقوله:

صحبوا الزمان الفرط إلا أنه

هرم الزمان وعزهم لم يهرم

وقوله:

عليم بتصريف الأمور كأنما

يعاني صروف الدهر من عهد تُبَّعِ

وقوله:

عَجلٌ إلى نجح الفعال كأنما

يمس على وِتر من الموعود

وقوله:

وكم لبست الخفض في ظله

عمري شباب وزماني ربيع

فمدحه حلو شائق سواء أكان المعنى سائراً مألوفاً أم كان جديداً مبتدعاً. أنظر إلى دقة المدح في قوله:

لم يرتفع عن مراعاة الصغير ولم

ينزل إلى الطمع المخسوس إسفافا

ولكنه مع ذلك لا يخلو من أشياء فيها فتور الصنعة وتكلفها عندما تكون الصنعة قاهرة لعاطفته الفنية ومنافسة لها بدل أن تكون زميلتها أو خادمتها. وقد روى أنه أحرق أكثر هجائه الذي به فحش وأن كان في ديوانه القليل من هذا النوع وله في الهجاء أشياء مستحسنة مثل قوله:

تزيد الإهانة في حاله

صلاحاً وتُفسِدُهُ التكْرِمهْ

وهذا البيت يصف الإنسانية في بعض حالاتها وهو في معناه شبيه بقول القائل:

يُصْبحُ أعداؤه على ثقة

منه وخِلاَّنُهُ على وَحَل

تَذَلُّلاً للعدو عن ضعة

وصولةً بالصديق عن نغَل

ومن مأثور هجاء البحتري قوله:

وبعضهُمُ في اختبارته

يُحبُّ الدناءة حبَّ الوطن

والظاهر أنه لم يجد حباً أشد من حب الوطن كي يقارن به حب المهجو للدناءة. ومن المشهور قوله أيضاً:

ص: 11

كل المظالم رُدَّتْ غير مظلمة

مجرورة في مواعيد ابن عباس

مَنعْتنِي فرحة النجح الذي التمست

نفسي فلا تمنعَنِّي فرحة الياس

وأبياته التي يقول فيها:

وبعد عن المعروف حتى كأنما

ترون به سقم النفوس الصحائح

والأبيات التي يقول فيها (ويعتمد العتاب من السباب) وذمه على أي حال لا يقارن بهجاء أبن الرومي الذي بزهم جميعاً في بابه

والبحتري لا يُعني نفسه كثيراً بالتفكير في معضلات الحياة كما يفعل المعري، ولكن أمراً واحداً يفكر فيه كثيراً وهو تفاوت الناس في الحظوظ ولا سيما في قسمة المال حتى أن في بعض قوله نفحة من الاشتراكية؛ فهو يقول إن الغنى مفسدة والفقر مفسدة ويود لو تقاربت الحظوظ في المال، وهو يكرر هذا المعنى فيقول

كان يُحْيِي هالكاً من ظمأ

بعض ما أوْبق ميْتاً من غرق

ويعني بالظمأ والغرق قلة المال وكثرته، ثم يكرر هذا المعنى فيقول

تفاوتت الأيام فينا فأفرطت

بظمأن بادٍ لوحُةُ وغريقِ

وتمنيه في البيت الأول أن يسعد جميع الناس في الحظوظ يخالف قول أبن الرومي:

ومُحَالٌ أن يَسْعد السعداءُ ال

دهرَ إلا بشقوة الأشقياء

(البقية في العدد القادم)

عبد الرحمن شكري

ص: 12

‌خواطر

للأستاذ فليكس فارس

كنت كلما سمعت النشيد الوطني المصري: (بلادي بلادي) أحول ذهني إلى فكرة بعيدة حين تكرار اللازمة فيه وهي:

(تعيش بلادي ويحيا الوطن)

كان يؤلمني أن أسمع مثل هذا التركيب الغريب في مبناه ومعناه ولا أفهم كيف يتغنى شعب هو في طليعة النهضة العربية بمثل هذا الشطر وفيه العيش شيء والحياة شيء آخر، وفيه البلاد شيء والوطن شيء آخر!

ثم مرت الأيام فإذا هذه اللازمة مسبوكة في قالب آخر تنشدها الجماعات والأفراد ويتغنى بها الأطفال هكذا:

(تعيش بلادي ويحيا الملك)

لا أعلم كيف وقعت هذه القافية على آذان الشعراء والموسيقيين لأول ما سمعوها، بل لا أعلم كيفْ كتبها من أقرها دون أن يتمرد القلم على يده أو تتمرد أعصابه على أذنه!

أين القافية المماثلة لكلمة (مَلِك) في النشيد نفسه أو في أية قصيدة نظمت منذ قرت الأبيات على قواف؟

أما أنا فقد رأيت سبابتيَّ تسدان أذني عندما سمعت هذه اللازمة فترحمت على اصلها

ولا أزل حتى الآن أتألم كلما سمعت هذا القرار الناشز في نشيد الوطن؛ ويخيل إلى أن حورية شعري تبسط ذراعيها هاتفة:

(يعيش مليكي ويحيا الوطن)

فهل يقرّ إخواني هذا التصحيح لتأخذ به وزارة المعارف فتنقذ النشيد وتحمي ذوق الناشئة من الانطباع على رطانة قراره؟

في بريد الولايات المتحدة أن قرينة الأستاذ جيمس آرجويت توفيت منذ أمد قريب تاركة، بوصيتها لجامعة هارفرد، مائة وخمسين ألف دولار يتصرف بها أستاذ يعين لتدريس اللغة العربية واستخراج ما في كتبها خدمة للعلم في الديار الأمريكية

ليعلق المفكرون على هذا الحدث، كل بما توحي إليه عقيدته. ليقل البعض إن ما أبقاه

ص: 13

الأجداد من تراث علمي وأدبي قد استنزفه الغرب فلم يبق فيه قطرة لرجال العلم في هذا العصر، وإن أدمغة العرب قد عقمت في هذه الأيام فليس فيها ما يُطمع به. وليقل البعض الآخر إن قرينة الأستاذ جيمس قد استهواها ما يبدو من أبناء وطنها من غرائب الأعمال. أما نحن فلا نملك القلم من أن يكتب تكراراً ما كتبه منذ سنوات ونشر في رسالة المنبر:

(إن هذه البلاد مستودع لأشرف الثقافات، ومكمن لأسمى المواهب، فمن واجب أجناد المنابر والأقلام فيها أن يظهروا هذه القوات لأبنائها نزوعاً بهم عن الانقياد لدخيلات العادات والأخلاق التي تغلبت عليهم بما وجدوه من التوهم في أنفسهم فاستصغروها)

وعين الرضى عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدى المساويا

في هذا البيت حكمة أصابت صميم الحقيقة في الشطر الأول، غير أنها قصرت في الشطر الثاني عن تصوير حالة الساخط النفسية؛ فإن من نقم على إنسان لا يقف عند إبداء مساويه بل يندفع إلى مسخ حسناته عيوباً

تلك حالة مستقرة في الطبيعة يصعب على الإنسان أن يحلق فوقها. ولكم نتمنى لو يخضد تهذيب النفس من شوكتها أو على الأقل لو انعتق الأدباء من سلطانها وهم الداعون إلى الإنصاف والمتجهون إلى المثل العليا

صديقنا الكاتب الروائي كرم ملحم كرم معروف في العالم العربي بآثاره الأدبية القيمة وصديقنا إلياس أبو شبكة كاتب من الطراز الأول وشاعر من طليعة شعراء هذا الجيل؛ ولست أدري أي شيطان نفخ بينهما فحول نورهما ناراً تتقد ولست أدري أيهما بدأ بإشهار الحرب لعدم اطلاعي على صحف بيروت كلها؛ غير أنني قرأت مجلة الأمالي فإذا فيها مقالات متتابعة يشن فيها الروائي الغارة على الشاعر ويتهمه بأنه سرق من شعراء الفرنجة جميع ما نظم في ديوانه (أفاعي الفردوس)

وعهدي بصديقي الأستاذ كرم عميق الغور رصيناً فإذا به يخرج من حلمه ويوجه نقده شتماً وتحقيراً، وما هذه الغضبة المضربة على قوله إلا غيرة على الأدب العربي وإشفاقاً على المسكين بودلير واضرابه، ينتزع منهم إلهامهم ويختلس ثمرات قرائحهم

وقد أورد صديقي كرم ما يزيد على عشرين قطعة من هؤلاء الشعراء باللغة الفرنسية وألحق كل قطعة بما اختلسه أبو شبكة وقيده لحسابه

ص: 14

وهأنذا أورد أنموذجاً من هذه الأدلة التي يقضي بها الأستاذ كرم قضاء مبرماً على زميله:

أبيات أبي شبكة من قصيدة شمشون:

شبق الليث ليلة فتنزَّى

ثائراً في عرينه المهجور

تقطر الحمّة المسعَّرةُ الش

هباء منه كأنه في هجير

يضرب الأرض بالبراثن غضبا

ن فيصدى القنوط بالديجور

ووميض اللظى يغلّف عين

يه فعيناه فوهتا تنور

ونزا من عرينه تتشظى

حمم من لظاه في الزمهرير

والهاث المحموم من رئتيه

يشغل الغاب في الدجى المغرور

وهذه ترجمة الأبيات التي يتهم شاعرنا باختلاسها وهي من قصيدة آلهة الغاب لألفريد دي فينى:

(ورأى النمر جبابرة الغاب يذهبون إلى بعيد بالنمرة دون أن يتمكنوا من حجبها عن نظراته الملتهبة، فوجم وتململ، فاهتز الغاب لهزيم صيحاته، وتدفق الزبد من شدقيه سائلاً على لسانه المشتعل، واشتد احتدامه فانطلق محطماً قيوده)

ويقول صديقي كرم بعد إيراد شعر السارق الوقح وشعر المسروق المسكين:

أليس النقل حرفاً بحرف؟ ألم نقبض على اللص الأديب بالجرم المشهود؟ أيجوز للأدب العربي أن يرضى عن هذا الشعر المسروق حتى بتكته وحذائه؟

فليسارع إلى نجدة الأستاذ كرم للدفاع عن الأدب العربي من يشاء إذا وُجد أديب يأخذ بحكمه. أما أنا فأجيز لنفسي أن أقول إن قطعة دي فيني فضلاً عن أنها في واد وقطعة أبي شبكة في واد من حيث معناها ومبناها لأبعد حتى في اصلها الفرنسي من أن تداني أبيات شاعرنا العربي في سمو الخيال وروعة البيان

متى نحول إيماننا بكل ما هو غريب عنا إلى ثقة بأنفسنا؟ ومتى يسود التضامن والإخاء بين من لا يجدون غير النصب والشقاء في سبيل هذا الأدب العربي الذي تتوقف على إحيائه حياة الأمة العربية

(الإسكندرية)

فليكس فارس

ص: 15

‌أعلام الأدب

سُوفُوكْلِيس

للأستاذ دريني خشبة

ظل سوفوكليس يمد المسرح اليوناني بروائع دراماته نيفاً وستين سنة، فكان عمراً ممدوداً مباركاً متصل الجهاد، وكانت حياته كلها كالحديقة الجميلة الغناء باسمة بالزهر يانعة بالثمر حافلة بالطير مزدهرةً بالألوان

وُلد سوفوكليس سنة 496 قبل الميلاد، في كولونوس؛ وكان أبوه سوفيللوس تاجر أسلحة ذا ثروة واسعة فنشأ ولده تنشئة راقية وضمن له حياةً مترفة مليئةً بالمناعم، وثقافة أثينيةً هي إلى الأدب والفن، أقرب منها إلى العلم والفلسفة، ويبدو ذلك واضحاً جلياً في جميع ما تركت لنا يد العفاء من دراماته التي بلغت ثلاثاً وعشرين ومائة فلم يصلنا منها غير سبع

ويبالغ التاريخ في وصف جمال سوفوكلس إذ هو صبيٌّ وإذ هو فَتىً؛ ويقال إنه لم يكن في أثينا كلها من كان يفوقه رشاقةً وتناسقاً وجمال تركيب، حتى إنهم اختاروه في الاحتفال بالنصر في سلاميس ليقود فريق المنشدين، فكان يتقدمهم عارياً مُجَلّل الرأس بالغار والأزهار، عازفاً على قيثاره أشجى النغم، فكان فتنة الاحتفال كله

وكان يجمع إلى جمال الجسم ورشاقة اللفتات محاسن النفس الخَّيرة وفضائل القلب التقي، فكان يحب الناس جميعاً ويقسرهم جميعاً على محبته والشغف بمواهب روحه

ولقد شدا الموسيقى - وربما الشعر - عن الفنان الكبير لمبروس، الذي كان له أكبر الأثر في توجيه سوفوكليس والذي حبب إليه الإنشاد وموسيقى المسرح فجذبه إلى الفن وأقصاه عن الفلسفة، وضمن له الظفر على أقطاب الأدب وفحول الشعر في عصره، وهو لما يزال شاْباً حدثَ السن

ويذكرون أنه نال أولى جوائزه، وكان منافسه إذ ذاك إسخيلوس الشيخ، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، بدرامة وطنية مفقودة تدعى (تربتوليموس). ويختلف المؤرخون في السبب الذي أظفر الشاعر الشاب بالشاعر الشيخ، واشهر الروايات أن إسخيلوس كان قد سخر بالآلهة سخرية واضحة لاذعة في درامته التي تقدم بها للمباراة مما أهاج الرعاع عليه وأثارهم ضده حتى كادوا يفتكون به وهو يمثل لولا أن حال أخوه بينه وبينهم، كاشفاً لهم

ص: 17

عن ذراعه التي جرحت في سلاميس دفاعاً عنهم، وذياداً عن بيضة الوطن. . . ويقولون إن سوفوكليس كان قد أغرى القضاة بماله الكثير، وإنه نحَّاهم، وكانوا خمسة، حينما حان وقت فرز الأصوات وتقدم القادة العشرة المعجبون بدرامة سوفوكليس الوطنية فزخرفوا الحكيم ودلّسوا النتيجة وقضوا بالجائزة الأولى للشاعر الشاب. وأيَّاً كان السبب فقد ترك الحادث في نفس سوفوكليس أثراً عظيماً من الزهو ليس يعدله إلا أثر الحسرة والمرارة في نفس إسخيلوس. . . ولم يضار المسرح ولا الأدب بما حكم للأول على الآخر، فقد نظم إسخيلوس أسمى روائعه بعد ذلك، كما أن سوفوكليس صمد لخصمه، وراح يعزز فوزه بعشرات ثم عشرات من أرفع ما شهد المسرح من المآسي في جميع عصوره.

ذاك، وقد ظفر سوفوكليس بالجائزة الأولى عشرين مرة، وبالجائزة الثانية أكثر من ثلاثين، وقلما هبط إلى الجائزة الثالثة. ومهما يكن لأمواله من اثر في هذه النتائج الباهرة فمما لا ريب فيه أن أدبه وفنه ودقته كانت العوامل الأولى الأساسية في تعدد مرات انتصاره. . . أما إسخيلوس فقد فاز بالجائزة الأولى خمس عشرة مرة، على قلة منافسيه وهوان شأنهم، كما فاز بها يورببيدز - سيد شعراء الدرام - خمس مرات فقط

ولما كان سوفوكليس جميلاً بارع الجمال، فقد كان يقوم بنفسه بتمثيل أدوار النساء في صدر شبابه، كما ذكرنا أنه أدى دور نوزبكا في درامته (نسوة غاسلات). وكانت ظلال جماله تنعكس على فنه، فكان يؤثر البساطة في التعبير والتفكير، ويفضّل العاطفة الجياشة الثائرة على العقل الخامد الرزين، ولذلك لم يفكر في أن يرتفع إلى أفق إسخيلوس في برومثيوث مثلاً، لأنه كان يتجنب عمق الفكرة التي تجهد قرائح النظارة وتكمدها، ويؤثر أن يشب في قلوبهم حرائق من الألم والتأثر في روعة من الشعر العالي وجمال من الفن الدقيق.

وقد عاش سوفوكلس حياته الطويلة هادئاً لا يعكر صفوه شيء، حتى ثار في أعماقه شيطانه الفنان فوصل أسبابه بأسباب عادة سيئة السيرة فاسدة الخلق تسمى تيوريس - اضطره فنه على ما يبدو لنا من تحليل حياته إلى أن يتخذها خليلة تذكي مشاعره، وتصل إلهامه، وتحيي من قلبه موات الشيخوخة، وتدفئه من ريح العمر الباردة. . . لكن صلته بها قد افتضحت آخر الأمر، وكان ينفق عليها بسخاء غريب فثار ولده يوفون وشكاه أمام القضاء طالباً الحجر عليه وإقامته وصياً ليحول بين أبيه وبين تسرب ثروته وبعثرتها تحت قدمي

ص: 18

تلك (المحظية) العابثة الهلوك!. . .

وهنا تكتسح عظمة سوفوكليس تدبير أعدائه، فإن ولده برميه أمام القضاة بتهمة العَتَه والسفه، فما يكاد يقولها حتى يقف الشاعر العظيم، ثم ينسخ التهمة بإلقائه وتمثيله إحدى قطعه الخالدة من درامته (أوديبوس في كولونوس) التي كان ينظمها خلال تلك المحنة، وسرعان ما يصفق له القضاة الذين خلبهم بشعره الرفيع الرصين، وفنه الجميل العالي، وتمثيله القوي الخلاب، ثم يحكمون بسلامة تفكيره وحريته المطلقة في تصريف شئونه. . . وهكذا اعتبر القضاة غرام سوفوكلس من شئونه الخاصة فلم يدمغوه بحكم يذهب بشرفه وربما كان يقضى على تلك العبقرية الرائعة التي عكست سناها على جميع العبقريات في جميع عصور المسرح.

. . . فغرام سوفوكلس بالغيد الأماليد لم يكن إلا إيحاءً فَنّياً تستلزمه حياة الفنان وتقسره عليه ميوله. ويكاد كل فنان يكون خاضعاً لمثل هذا الإيحاء، وقد خضع له إسخيلوس من قبل، فقد روُى أنه لم يكن يستطيع أن يحسن شيئاً من الشعر الرفيع إلا حين تلعب بلبّه حُميّا الخمر. وقد قال فيه سوفوكلس إنه نظم أبدع روائعه وهو لا يدري ماذا يقول ولا ماذا ينظم. . . على أن هذه المغامرة الغرامية قد ذهبت جُفاءً في حياة سوفوكلس، فلم تترك فيها وصمة، ولم تلطخها بالعار، بل على الضد من ذلك فقد زاد شغف الناس بشاعرهم العظيم حتى قيل إن طائفةً منهم عبدوه بعد موته عام 406 باسم الإله البطل دكسيون الذي يؤثر أنه ضاف في منزله الإله أسكلبيوس واعتبروا قبره طريق دكليا دار حج لهم

ولد سوفوكلس سنة 496 وتوفي سنة 406 ق. م وفاز على إسيخيلوس وهو في الثامنة والعشرين ثم لبث يمد المسرح نيفاً وستين عاماً درامتين كل سنة، فهو بذلك قد ملأ القرن الخامس العظيم من تاريخ أثينا بأدبه وروائعه، وشهد جلائل الأعمال التي تمت في هذا العصر وعادت بالخير الجزيل على اليونان خاصة وعلى الإنسانية عامة. . . لقد كان سوفوكلس أنضر زهرة في حديقة بركليس العظيم. . . لقد شهد نهضة الفن وساهم في نهضة الدرام، ووقف من شرفة برجه الرفيع يطلع على ذاك الصراع العنيف بين أثينا وأسبرطة، ويرى إلى الديمقراطية تصارع عسكرية الأسيرطيين فتساجلها مرة، وتواثقها مرة، ثم يموت بركليس فتسقط أثينا في الميدان وتغزوها أسبرطة بعد موت سوفوكليس

ص: 19

بعامين (404). . . عاصر سوفوكليس هذه الأحداث الجسام لكنه لم يندغم فيها، لأنه كان يشهدها بطبع الفنان الذي يؤثر الراحة ويخلد إلى الأدب ويطلب السلامة، لا سيما إذا كان في مثل ثروة سوفوكليس وجاهه اللذين رشحاه لعضوية أعظم مجالس الأمة بالرغم من قلة درايته بالأمور الإدارية وعدم بصره بشئونها. . . حتى قيل إنه كان إمّعة بين زملائه يوافق إذا وافقوا ولا يدري على أي شيء يوافق، ويرفض إذا رفضوا ولا علم عنده بما يرفضون. . لكنه مع ذاك أديب أثينا وفنّانها وبلبلها الغرّيد الذي يهذب ويوحي ويلهم ويواسي ويُسلي ويبكي ويغني وينفذ إلى سُوَيْداءات القلوب

لقد كان إسخيلوس صارماً متجهماً يرمي بشرر كالقصر حينما يرتطم بالقضاء والقدر، وكان يؤثر الأسلوب الفخم في الأداء والعبارة الفصيحة والمجاز العميق، وكان ينقصه كثير من روعة الفن. . . أما سوفوكلس فقد خلص من كل القيود التي تحول بينه وبين قلوب الناس. . . إنه لم يرتبط بنظام الثلاثيات الذي أخذ به إسخيلوس نفسَه، بل كان يعمد إلى الموضوع الذي كان إسخيلوس ينظمه في ثلاث درامات فيجعله هو درامة واحد في ثلاثة مشاهد مستعيناً على ذلك بسرعة الأداء وتقصير الحوار وتركيز الغرض والمحافظة على الوحدة في العبارة السهلة والبيان الهيّن

وليس هذا هو كل ما أدخله سوفوكلس على الدرامة اليونانية بل لقد أدخل عليها ألواناً من التجديد لم يلبث الجمهور أن شغف بها وأجاد تذوقها، فمن ذلك اتخاذه المناظر المنقوشة ثم اقتصاده في التهويل في كل من الصوت والملابس التنكرية وإيثاره النشاط ومقته للحركة البطيئة التي تشل الممثل وتربكه وتذهب بروعة الأداء وتشوه جمال التمثيل. . .

لقد كان سوفوكلس وسطاً ما بين إسخيلوس ويوريبيدز، لأنه وإن يكن قد حافظ على العنصر الديني في معظم درامته فجرى بذلك في غبار إسخيلوس إلا أنه اقترب إلى الناس وابتعد عن الآلهة ولم يرفرف دائماً فوق شعاف الأولمب كما كان يصنع إسخيلوس. . . لقد عرف القلب الإنساني واكتشف ما فيه من الكنوز التي لا تقوم بدونها دولات الدرام. . . لقد لمح القبس المقدس الذي يعمر قلوب البشر. . . القبس الإلهيّ!. . . الحب!. . . لقد أشركه في دراماته ولم ينأ به كما صنع إسخيلوس. . . لقد جعل له نصيباً أوفى في توجيه كثير من درامته وحل عُقَدها. واستطاع أن يصوغ له اللغة البراقة الدفاقة والأسلوب المصطخب

ص: 20

الملتهب فجاء كلامه عنه كلام المجرب ذي الصبوات

اسمع إليه ينظم للخورس هذه الأنشودة العالية في درامته أنتيجوني:

لله أنت يا حُب! أيها الظافر بنا في كل حَلْبة!

أيها المحارب الذي حطامنا أسلابه!

لله أنت إذ تكمن في خدود العذارى الناعمة كالمخمّل

تترصد فرائسك في غيهب الليل، طاوياً الموج

رفّافاً في الحراج والغاب، والهضاب والتلاع

وأكواخ الرَّعاء

لا يتعرض سبيلَك أحد.

الكل يخضعون لك

الناس والآلهة. . . سواسية جميعاً

كلهم مهزومون في ميدانك

يستولي عليهم جنونك

صناع يا حب! لشد ما تضل الهداة!

فيتردّون في التهلكة بأيديهم؟!

وكما أجاد سوفوكلس في كل ما كتب عن الحب الغرامي، فكذلك قد أتى في سائر ألوان الحب بما لم يستطعه غيره، ففي درامته إلكترا يصور لنا الحب الأخوي تصويراً رائعاً شائقاً ويعبر عن أحاسيس الطفولة تعبيراً هيّناً ليناً، فيه من ضَعْف الصغر وسذاجته وأحلامه ما يجعله أقرب إلى الطبيعة مما صنع إسخيلوس في أورست

كذلك كان سوفوكلس بارعاً إلى آخر حدود البراعة في تصوير شخصيات النساء. وقد عنى فيهن بناحية الضعف ولم يعن بناحية القوة والصرامة كما صنع إسخيلوس في كليتمنسترا. . . عنى بناحية المحبة والعطف والحدب والتألم والبكاء والخوف ولم يؤثر أن تكون بطلاته جبارات عاتيات كبنات لانوس اللائي قتلن أزواجهن ليلة الزفاف إلا واحدة، أو كزوجة ممنون التي تقتل زوجها وتؤثر عليه عشيقاً لم تحبه ولكن ربطه بها التدبير السيئ والمشاركة في الغرض الوضيع

ص: 21

وقد ثار سوفوكلس على أحد الأوضاع الهامة التي أخذ إسخيلوس بها نفسه؛ فقد أجاز حوادث القتل وسفك الدماء على المسرح وكان بذلك يثير شجون ويمزق أحشاءهم من الألم، ففي درامته (أجاكس) ينتحر البطل وتتصبب دماؤه أمام المتفرجين، وفي أوديب يسمل الملك عينيه فينبجس الدم منهما ويصيح من الألم مستنجداً أن يقوده أحد. . . هذا إلى المشاهد التي كان يتجنبها إسخيلوس ويجنب نظارته شهودها. . . فقد أوقف سوفوكلس كليتمنسترا تبكي تحت سكين ولدها قائلة له:(حنانيك يا بني لهذا الثدي الذي غذاك بلبانه!) وتكون ابنتها إلكترا واقفة عن كثب فما تكاد استغاثة أمها تصك أذنيها حتى تقول محرضة أخاها على قتل أمه: (وهل استشعرت حناناً لك أو لأبيك من قبل؟). . . أو ذلك المشهد الرائع الفاجع من مشاهد (فيلوكتييس) حينما يظهر البطل في غمرة من الذهول فيملأ المسرح أنيناً ويثير في قلوب النظارة زوابع هائلة من الألم والوجد

يعد المسرحيون هذه الظاهرة عيباً في فن سوفوكلس، بيد أنه كان يوجه دراماته وجهات تحتم أن يعرض تلك المشاهد على نظارته، وكان له من روعة الفن وعبقرية الأداء ما يحيل هذه المجازر إلى ضرب من الاستمتاع غير المستكره، ليس مرجعه إلى ما فطر عليه الإنسان من ميول سادية، لكنه يستمتع بما فيها من جمال الحق وروعة الإيمان، ويزيد في استمتاعه أغاني سوفوكلس العذاب ولغته السهلة، وذلك الترابط الوثيق بين أجزاء المأساة، والتوازن بين حوادثها، وإحكام المؤامرة، والقدرة البارعة في حل العقدة، ثم ذاك (التكتيك) المنتظم المتزن الذي كان يعرض به مآسيه. . . هذا إلى سرعة الأداء بإظهار أكثر من ممثلين مرة واحدة في المسرح

أما المعين الذي كان يستقي منه موضوعات دراماته فلم يكن يعدو الشعر الغنائي الشائع وشعر ملاحم العصريين ثم هذا البحر الزاخر من الأساطير التي حشدها أركتنوس ولسبوس وغيرهما من الشعراء الأسطوريين في منظوماتهم، وقل أن كان يعتمد سوفوكلس على هوميروس أو على أحد من شعراء الدرام من معاصريه

دريني خشبه

ص: 22

‌حديث السكوت

للشاعرة أيلا هوبلر ولككس

ترجمة الآنسة الفاضلة (الزهرة)

إن بحر السكوت الهائل المخيف يفصل بيننا

وأعرف أنك حيّ ترزق. . . وأنك تحبني. . .

ومع ذلك - فشدّ ما أتمنى أن تقبلَ إليّ من عبر المحيط -

سفينة بيضاء. . . تتحفني بكلمة منك!

إن الهدوء التام يرعبني بسكونه الصامت الرهيب

لا تعكّره في صدري خلجات الشك، وشبهات الارتياب، أو تهزه في عقلي خشية المداجاة

وتمويهات الإفك

فيا ليت موجة صغيرة من موجات اللسان، تلثم شطيّ الحزين الأبكم. . وتهز أعطافي. .

مثيرة رواكد هذا السكوت. . . غير المتناهي!

إنني ضائقة بهذا الإحساس العظيم بالحب، الذي عجمتُه دون قول، وأشر به قلبانا! وإنا

لنتبادل منه الشيء الكثير

بيد أني قد استروحتُ منه شذا حبّك الذي نفحني خلسة.

وكما يتسرب البخور الزكيّ النفّاذ من المجمرة، ويعقد سحبه في الفضاء، هو ذا حبّك قد

تكاثف حولي وشملني بفوحته المسكيّة، ولفّني في شملته العطرية

إن لغة الكلام غثّة تافهة، والألفاظ المحبّرة المسطورة جوفاء لا وجدان لها ولا معنى فيها.

. .

لذلك أطلب أن تحمل الصبا إلى مثواي نفحة من بليل نسيمها

تخفّف الضغط عن علمي التام بوجود الحبّ بيننا. . .

وتلطّف وطأة هذا السكوت الواصب الكتوم الذي يبهظ عقلي.

ما أشد إملاق الحبّ الذي يفتقر إلى الكلمة أو الرسالة، تمحو الشك، أو تغذي الجنان!

ولكنني مع ذلك ألتمس الكلمة والرسالة، رجاء أن تعززا حجج الحب وأسانيده التي

يجذمها السكوت ببلاغة تجاوز كل حدّ، ويقوض دعائم برهانها ويردهّا قميئة صاغرة

ص: 23

وكأنما أفرغ عليها ذَنوباً. ويوجد بحراً عظيماً يفصل بين المتحاّبين فيجعلهما غريبين

وذلك لأن الإحساس لا يكفي لإبراز ما استسرّ في القلب، والاقتناع بوجوب الحب وتعرَّف

مخبره لا يقدران وحدهما أن يضفيا على الحياة رونقاً

والكلام إن لم يبرز بياناً واضحاً منسقاً، يعجز في التعبير عن جوهر المعاني والأشياء،

ويقصر عن تأليف صلة القربى بين الروحين

إن اللغة التي تتناجى بها الروح غاية في الغموض والخفاء

والغمرات التي تهيم نفسي في رحابها، وتثير خبرتي لججها، فيحاء مترامية

فارسل سفينة بيضاء من عبر بحر السكوت الرهيب الأفيح

واقطع حبل حديثه المسهب. . . وجدله المسترسل

بكلمة منك. . .

(الزهرة)

ص: 24

‌وليم بتلر يايتس

الفنان الذي أوجد لأمة أدباً 1865 - 1939

للأستاذ عبد الكريم الناصري

(تتمة ما نشر في العدد السابق)

والحب عند يايتس صوفي، فذ في صوفيته ونقاوته. (هو لهب أبيض يحترق فيه كل ما له صلة بالأرض وبالتراب)

هو حب (شلى)، (آريلي)، حب مثالي لجمال مثالي

ولكن أين هذا المثل الأعلى من الجمال؟ إن دونه الكلال والملال، والهرم والشيخوخة، والصدى الذي لا يبل، والقلق الذي ماله من حد:

(خرجت إلى غابة البندق، لأن ناراً كانت في رأسي، فاقتطعت غصناً وقشرته، ومكنت بندقة من صنارة، ووصلت الصنارة بخيط، وساعة أن كان فراش العُث في جو السماء، وكانت النجوم تبزغ رفاقة خفاقة وكأنها الفراش، ألقيت الصنارة في الجدول فصدت سمكة فضية صغيرة، ثم وضعتها على الأرض ومضيت أنفخ النار لتلتهب، ولكن شيئاً حف على الأرض، وإنساناً هتف باسمي، وإذا بها أمست فتاة تكاد في الضوء الخافت المرتعش لا تبين، وفي شعرها زهرة تفاح، وقد هتفت باسمي وفرت واختفت في الفضاء الرفاف بأضواء اللهب

ألا إني وإن كان أهرمني التطواف الهائم خلال النجاد وخلال الوهاد، لواجد يوماً ملاذها ومأواها، فمقبل ثغرها ومتناول يدها، ثم سائر وإياها بين العشب المرقط الطويل، ثم مقتطف حتى آخر الزمان، تفاح القمر الفضي. . . وتفاح الشمس الذهبي)

ومَحْزنة الحب في هذه الدنيا أنه لا يدوم. إن يايتس ليعترف بهذه الحقيقة، ولكنه في بعض الأحيان يأبى أن يعترف:

(أيها الجبين الشاحب! أيتها اليد الساكنة! أيها الشر المظلم. . . لقد كان لي صديقة جميلة؛ ولقد خيل إليّ أن اليأس القديم سينتهي بالحب في النهاية، ولكنها نظرت ذات يوم في قلبي

ص: 25

فرأت صورتك هناك فابتعدت باكية)

على أنه يؤمن بأن القلب إذا كان عاجزاً عن صدّ عاديات الزمن، عاجزاً عن الاحتفاظ بالحب والروح حبيسة الجسد، فإنه يعود قوياً نشيطاً ويسترجع الحبَّ القديم جديداً كما كان أوّل ما بدأ، بعد انطلاق الروح. . .

(أيها القلب الرّثيث البالي)

(أخرج سالماً من شبَك الضلال والصواب)

(اضحك - أيها القلب - ثانية في الغسق الأشهب)

(تنهد - أيها القلب - ثانية بين ندى الصباح)

(أما والقلب والروحُ رهينا الجسد)

(فإن الحبَّ أقل رفقاً من الغسق الأشهب)

(وإن الأمل أقل نفاسة من ندى الصباح)

والشاعر من أجل ذلك يتمنى لحبيبته الموت. فلو أنها ماتت لعادت إليه وقد صفحت عنه، لأنها ماتت، وعند ذلك يضم جمالها إلى صدره.

ثم إن حبيبة هذا الشاعر أجمل مخلوق في الوجود. بل هي المرأة الجميلة الوحيدة. ثم إن الناس جميعاً، بل الكون جميعه، يحبها حبَّ عبادة وتقديس:

(ما عليك إلا أن ترفعي يداً من شحوب اللآلئ، وتجمعي ما تفرق من غدائر شعرك ثم تتنهدي. . . فإذا قلوب الرجال جميعاً تتأجج وتخفق؛ ثم لا يحيا الزَّبدُ على الرمال المعتمة، ولا النجوم وهي تصعد في السماء يتنزل منها الندى إلا لتنير قدمك العابرة)

وإذا كان هذا هو شأنها، فأي هدية إذاً تليق بها؟!

(لو كنت أملك أنسجة السماء الموشاة)

(تطرزّها أشعة من ذهب وفضة)

(ما بين أزرق ومعتم وأسود)

(ومن ليل أو نهار أو شبه ليل أو نهار)

(إذن لنشرت تلك الأنسجة تحت قدميك)

(ولكن فقيرٌ ما أملكُ إلا أحلامي)

ص: 26

(ولقد نشرت أحلامي تحت قدميك)

(فخففي الوطء لأنك تطئين أحلامي)

أحلام الشاعر! أجل أحلامه. . .

(ما ذوت الأغصان لأن ريح الشتاء هبّتْ عليها)

(قد ذوت الأغصان لأني قصصت عليها أحلامي)

وكما أن الحب عند يايتس مقدسّ لا يعلوه شيء، فكذلك اللهو البريء - الرقص والموسيقى - مقدس لا ينبغي أن يُنزل منزلة التخنث والصلاة، لأنه أعلى منهما وأقدس:

حين أعزف على ربابي في (دوُني)

يرقص القوم مثل موجة البحر

وابن عمي راهب في كفارنتْ

وأخي راهب في مُهارَبوى.

لقد فُقْت أخي وابن عمي،

فهما يقرءان في كتب الصلاة

وأنا أقرأ في كتاب الأغاني،

كتاب شريته من سوق الريف.

وحين نتقدم في آخر الزمان

من (بطرس) وهو جالس على عرشه الفّخم

سوف يبسم للأرواح الثلاثة القديمة،

ولكن يدعوني أنا أولاً إلى الدخول

لأن الخيرّين هم المرحون،

إلا من عثَر بهم الحظّ النكود. . .

والمرحون يحّبون الرّباب،

والمرحون يحبون الرقص.

وحين يلمحُني القوم هناك

سوف يتراكضون نحوي صائحين:

ص: 27

(هاهو ذا منشدُ دوني!)

ثم يرقصون مثلَ موجة البحر

- 4 -

وراء كل أدب عظيم فلسفة. والمستر يتس يلخص فلسفته فيما يلي:

(إني أعتقد بتعاطي فلسفة ما تواضعنا على تسمية بالسحر أو ما ينبغي لي أن أسّمَيهُ استحضار الأرواح - وإن كنت لا أدري ما هيه - أو بالقدرة على خلق أوهام سحرية، أو بانكشافات الحقّ في أعماق النفس إذ العين مغمضة؛ وإني لأعتقد بثلاثة مبادئ:

1 -

أن حدود النفس في تحوّل دائم، وأن الأنفس الكثيرة تستطيع أن تتصل أو يسيلَ بعضها إلى بعض إن صحّ هذا التعبير، لتخلقَ أو تظُهر نفساً واحدة، طاقة واحدة

2 -

أن حدود الذاكرة هي أيضاً في تحوّل دائم، وأن ذاكراتنا جزء من ذاكرة واحدة كبرى هي ذاكرة الطبيعة نفسها

3 -

أن هذه النفس الكبرى وهذه الذاكرة الكبرى يمكن استحضارهما بواسطة الرّموز

إن هذه (الذاكرة الكبرى) هي مخزن الرموز. وما الشاعر الرمزي إلا ساحر يقوم بدور الوسيط لاستحضار هذه الرموز - هذه الأرواح - ولكنه لا يخلق منها شيئاً. وعلى ذلك فكل ما نحس من عاطفة أو نرى من رأي أو نطلب من هدف ليس لنا، (وإنما صعد من الجحيم أو هبط علينا من السماء)

ولكي يستطيع الشاعر استدعاء هذه المعاني والرموز والعلاقات، ينبغي له أن يجعل نفسه في حالة سلبّية - أن يجعلها كالماء الساكن تنعكس عليه شّتى الصور. قال يايتس:

(كنت ذات مرة أنظم قصيدة شديدة الرمزية والتجريد فاتفق أن وقع قلمي على الأرض، فلما أنحنيت لالتقاطه تذكرت حادثاً من حوادث الخيالات والأحلام ولكنه لم يبد لحظتئذ أنه منها بل كأنه وقع لي فعلاً. فلما سألت نفسي متى حصل هذا الحادث وجدت أني إنما كنت أتذكر أحلامي في عدة ليال. ثم حاولت أتذكر ما فعلته في اليوم السابق، وما فعلته في الصباح، فلم أستطيع، إذ كانت حياة الوعي واليقظة قد غادرتني كلها، وما استطعت ذلك إلا بعد جهد شديد، فلما تذكرتها غادرتني بدورها حياة الأحلام التي هي أقوى من حياة الوعي وأروع. فلو لم يسقط قلمي لما فطنت قط إلى أن التأمل استحال غيبوبة)

ص: 28

إن آراء يايتس الجمالية تتصل بفلسفته هذه اتصالاً منطقَّياً وثيقاً

فغاية الفن استحداث نشوة في النفس الدائمة التقلب مصدرها ما يعرضه الفن من حقائق الكون وعناصره الثابتة

وما دامت هذه هي غايته وهذه هي وظيفته، فلا موضع فيه إذن (لعلم عصره أو سياسته أو فلسفته أو أخلاقياته) لأن هذه الظواهر جميعاً في تطور مستمر، وتغير دائم

وخليقٌ بالفن إذاً أن يرتدَّ إلى روح ماض كان الناس فيه يعبدون الطبيعة، ويدينون بالوثنية، ويعيشون (في عالم يستطيع كلُّ شيء فيه أن يتبدل ويستحيل، ويصير أي شيء آخر؛ وبين الآلهة العظام الذين كانت عواطفهم في الغروب الملتهب، وفي الرعد وفي هواطل الرعود). . . وفي تلك الأزمان (التي كانت الحزمة المسكينة من الَحلْفاء فيها) كما يقول الشاعر (ينظر إليها على أنها كانت يوماً من الأيام. . . إلهة تضحك بين النجوم)

هذه الحقيقة، حقيقة أن الفن لا يكون عظيما إلا إذا اعتمد على أساطير الأقدمين من عَبَدة الطبيعة، وما في عالمها من خصب وغنيً ومن حياة زاخرة فياضة، هذه الحقيقة أدركها (الأساتيذ) العظام جميعاً.

لقد لُخص موقف يايتس فيلسوفاً بهذه العبارة: إنه رجل يعتقد بوجود عالم الغيب)

وحين نشر يايتس لأول مرة (1903) كتابه (فكرات عن الخير والشر) أبى بعض ناقديه ومراجعيه أن يسلموا بأن المؤلف يعتقد بالذي يقول. ولكن أن يعتقد الإنسان بما يقول أو لا يعتقد لا صلة له في الواقع، بصواب رأيه أو ضلاله. ولست أدري، مع المستر ريد، لم يعلق الناس هذه الأهمية الكبرى على موقف صاحب الرأي من رأيه. إن العقيدة الفنية على كل حال تتعلق قبيل كل شيء بالجمال. فأيما شيء خاطب شعور الفنان بقوة واستمال خياله بشدّة، مالَ إلى الخروج من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة واليقين. (وحسب الشيء أن يكون على درجة من الجمال كافية ليرتدَّ جزءاً من عقيدته، جزءاً من دينه. وهذا هو الذي عناه كيتس حين نطق بقوله المشهور: (الجمال الحق والحق الجمال)).

هذه نظرة سريعة في (و. ب. يتس): عمله وفنه وفلسفته، أرجو أن أكون استطعت فيها أن أعطي القارئ فكرةً حسنةً عنه، وهو الأديب المعقَّد الشخصية، الضبابيُّ المعاني. وأرجو أن يتسع لي الوقت لأترجم لقراء الرسالة بعض آثاره الشعرية والمسرحية. وهنا أحب أن

ص: 29

يعلم القارئ جيداً أن (يايتس) - بالرغم من كل هذه (الغرابة) الظاهرية في أدبه - لم يصنع أكثر من أنه عبَّر بإخلاصٍ عن (عبقرية أرلندا).

(بغداد)

عبد الكريم الناصري

ص: 30

‌حياة محمد

باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية

للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد

ترجمة الأساتذة

عبد الفتاح السرنجاوي

عمر الدسوقي

عبد العزيز عبد المجيد

ويعتبر إسلام عمر فاتحة عصر جديد في تاريخ الإسلام، إذا استطاع أتباع الرسول حينئذ أن يجهروا بعقيدتهم. ترك محمد (ص) بيت الأرقم، وأقام المؤمنون صلواتهم جماعة وإعلاناً حول الكعبة. وبدأ أشراف مكة يتوجسون خيفة من هذه الحال الجديدة، لأنهم لم يعودوا بعد يناضلون عصابة من الخارجين المضطهدين المنبوذين الذين كانوا يدافعون عن حياة بائسة مستضعفة وإنما يناضلون طائفة أصبحت ذات بأس. تزداد قوتها يوماً بعد يوم بانضمام بعض ذوي السلطان من أهل القبائل، وتهدد كيان الحكومة القائمة، بالمعاهدة مع أمير قوي من قبيلة أخرى

لهذا أجمعت قريش أمرها أن تدبر محاولة ناجعة لتعرقل نمو تلك الحركة الجديدة في مدينتها. تعاقد أهل قريش على مقاطعة بني هاشم الذين حموا الرسول لما له بهم من صلة القرابة، واتفقوا على ألا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، ولا تكون بين القبيلتين معاملة أيا كان نوعها. ويقال إن بني هاشم استمروا مدة ثلاث سنوات لا يغادرون ناحية معينة من مكة، اللهم إلا خلال الأشهر الحرام التي تمتنع فيها الحروب في كل الجزيرة، والتي تعاهدت العرب من قبل على الأمن فيها حتى يفد الحجاج لزيارة الكعبة الشريفة مركز دينهم العام

أنتهز محمد (ص) الفرص في أيام الحج ليدعو إلى الإسلام بين القبائل المختلفة التي كانت تفد أفواجاً إلى مكة وإلى الأسواق المجاورة لها. ولكن الرسول لم يوفق لأن عمه أبا لهب

ص: 31

كان يقتفي أثره صائحاً بأعلى صوته: (إنه مشعوذ يريد أن يصرفكم عن دين آبائكم إلى العقائد الكاذبة التي جاء بها فتحاشوه ولا تسمعوا له). فكان الحجاج يعيرون الرسول ويجابهونه بقولهم: (إن أهلك أنفسهم وأقاربك أحق الناس بمعرفتك، فلم لا يصدقونك إذاً ويتبعونك؟). وأخيراً استفز كل هذا الاضطهاد الذي لحق بمحمد وأتباعه عاطفة جماعات كثيرة من قريش، فنقضوا عهد المقاطعة.

وفي هذا العام غمر محمداً أشد الحزن والجزع لفقد خديجة زوجه الأمين التي كانت له مشيراً ونصيراً مدة خمس وعشرين سنة. وبعد وفاة خديجة بمدة مات أبو طالب فحرم الرسول (ص) بموته أقوى حام له، وأثبت مدافع عنه. وبذلك أصبح الرسول مرة أخرى موضوع استهزاء الأعداء به، واحتقارهم له. قاسى محمد (ص) سخرية عشيرته به، وإعراضهم عنه، وفشلاً في رسالته التي ظل يبلغها إليهم مدة عشر سنوات، فصمم على أن يبحث عن عشائر أخرى لعلها تكون أكثر استعداداً لسماع دعوته، وعن أرض أخرى خصبة قد تنمو فيها بذور عقيدته، فخرج مصحوباً بذلك الأمل إلى الطائف، وهو مكان يبعد سبعين ميلا عن مكة. وهناك أمام جماعة من رؤساء القرية أوضح محمد (ص) دينه المتضمن وحدة الله، والرسالة التي بعث بها رسولاً للناس، وتوسل إليهم في الوقت نفسه أن يحموه ممن اضطهدوه في مكة. رأي أهل الطائف ألا توافق بين دعوة محمد الطموحة (التي كانت إذ ذاك أسمى من أن يدركها المشركون مثلهم) وبين حال الضعف وقلة الأنصار التي كان فيها، فذهبوا يحقرونه ويسخرون به، ويرمونه بالحجارة في غير شفقة، ثم طردوه من ديارهم

غادر محمد الطائف، وقد ظهرت بوادر النجاح أضعف ما تكون، فتنفس الصعداء بالعبارة التي تضمنتها الآيات الكريمة التي صدرت على لسان نوح عليه السلام:(قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا).

كانت عادة محمد (ص) خلال موسم الحج السنوي أن يذهب إلى منازل القبائل العربية المختلفة، ويتحدث إليهم عن الإسلام، فكان بعضهم يقابل دعوته بالجفاء، وآخرون يعرضون عنه ساخرين؛ ولكن عزاء جاء إليه من حيث لم يتوقع. ذلك أنه قابل شرذمة من

ص: 32

ستة نفر أو سبع، وعرف أنهم قدموا من المدينة أو يثرب كما كانت تسمى حينئذ، فسألهم قائلاً:(من أنتم؟) قالوا: (نفر من الخزرج). قال: (أمن موالي اليهود؟). قالوا: (نعم). قال: (أفلا تجلسون أسمعكم؟). قالوا: (بلى). فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزُّوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم:(إن نبيَّاً مبعوثاً الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم). فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض:(ياقوم، تَعلًّموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه). فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له:(إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك). ثم انصرفوا عن رسول الله (ص) راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا

هذا هو الخبر المأثور لهذه الحادثة التي تعتبر فجر يوم جديد للدعوة المحمدية. فلقد لاقى محمد قوماً مستعدين لقبول تعاليمه، قوماً كانت أحوالهم الاجتماعية حينئذ ممهدة لدعوته، كما سيتضح ذلك فيما بعد

كانت يثرب إذ ذاك مسكونة باليهود منذ زمن طويل، ويغلب على الظن أنهم أخرجوا من ديارهم على يد الإمبراطور أدريان الذي اضطهدهم (فاستقروا في مكان يثرب). ولما وصل بطنا الأوس والخروج من العرب - في إحدى انتجاعاتهم للمرعى - إلى يثرب، سمح لهم اليهود بالإقامة فيها. وبنمو النسل وتكاثر العدد اكتسبوا السلطان من رؤساء اليهود شيئاً فشيئاً، حتى نجحوا أخيراً، حوالي منتهى القرن الخامس الميلادي في احتجان كل السلطان على يثرب

اعتنق بعض العرب اليهودية وظل كثير من رؤساء يثرب اليهود مقيمين بها، تحت سلطان العرب الغزاة. من أجل هذا نجد عدداً كبيراً من اليهود من ساكني يثرب، في العصر الذي ظهر فيه محمد صلى الله عليه وسلم. كان سكان يثرب لذلك على علم بأمر (المنقذ) الذي

ص: 33

توقعوا قدومه، ونتيجة ذلك أنهم كانوا أكثر قدرة على فهم ما يقول محمد - وهو أنه رسول - وقبوله من أهل مكة الوثنيين الذين كانت فكرة الإسلام لهم غير مألوفة، كما كانت منبوذة من القريشيين خاصة، لأن سلطانهم على القبائل الأخرى، وغناءهم المادي ما كانا إلا لأنهم السدنة الورثة لجمهرة أصنام العرب التي نصبوها في حرم الكعبة

يضاف إلى هذا أن يثرب كانت مشتتة النظام لما حل بها من النزاع الداخلي الذي أشعل ناره شنآن قديم بين الأوس والخزرج. كان السكان دائماً في اضطراب وقلق، ولهذا اعتبروا أي عمل يؤدي إلى ائتلاف القبيلتين المتخاصمتين فأل خير وبشرى لمدينتهم

لقد حدث في القرون الوسطى أن اختار سكان الجمهوريات الشمالية لإيطاليا أجنبياً ليكون الحاكم الأعلى على جميع مدنهم، حتى يحتفظوا بالتوازن بين قوات الأحزاب المتنافسة، وحتى يتفادوا - بقدر المستطاع - الخصومات الداخلية التي كانت قاضية على التجارة، والأمن العام. وشبيه بهذا ما وقع من أهل يثرب، فإنهم لم ينظروا إلى ظهور أجنبي بينهم بعين التهمة، حتى حين أدركوا أنه ربما يستغل ما كانوا فيه من انحلال ليكتسب لنفسه سلطاناً عليهم.

إن الواقع ليثبت عكس ما كان يظن، إذ يظهر أن أحد الأسباب التي جعلت أهل المدينة يرحبون بمحمد (ص) ترحيباً محموداً هو أن العقلاء والمثقفين من السكان قد تبينوا أن اعتناق الإسلام هو العلاج الوحيد للاضطراب الداخلي الذي عانوه مدة من الزمن، لما جاء به الإسلام من نظم المعاش القويمة، ومن إخضاع الشهوات الإنسانية الجامحة لتهذيب القوانين الموحى بها من سلطة أعلى وأسمى من سلطة البشر المتقلبة.

وتوضح لنا هذه الحقائق كيف استطاع محمد - بعد ثمانية أعوام من الهجرة - أن يرأس جيشاً من أتباعه تبلغ عدته عشرة آلاف نفر، وأن يدخل المدينة التي جاهد فيها من قبل لينشر دعوته مدة عشر سنين فلم يفلح إلا قليلاً

لقد تعجلت الحوادث فيما ذكرت الآن. فلنعد إلى بدء عرض محمد نفسه على أهل الخزرج الذين دخلوا في الإسلام أن يصحبهم بنفسه إلى يثرب، ولكنهم رغبوا إليه في أن يعدل عن ذلك حتى يحدث صلح بينهم وبين بني الأوس. وقالوا:(إننا نتضرع إليك أن تدعنا نعود إلى قومنا لعل الله يخلق السلم بيننا فنرجع إليك بعد ذلك. وموعدنا موسم الحج القادم).

ص: 34

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام، واستجاب منهم نفر كثير فلم تبق دار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم طائفة من يثرب - عشرة من بني الخزرج واثنان من بني الأوس - فلقوه في المكان المعين، وبايعوه أن يتبعوا تعاليمه. وهذه هي البيعة الأولى المعروفة ببيعة العقبة، وسميت بذلك لأنهم اجتمعوا سراً في مكان خفي. وقد أخذوا على أنفسهم (ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف) رجع هؤلاء الإثنا عشر رجلاً بعد ذلك إلى يثرب مبشرين بالإسلام، وبذلك مهد السبيل للدين الجديد، وأقبلوا على نشر الدعوة بحماس ورغبة، حتى انتشر الإسلام سريعاً من بيت لبيت، ومن قبيلة لقبيلة

وقد صحبهم في دعوتهم إلى يثرب مصعب بن عمير. ويقال في رواية أخرى إن الرسول بعثه إلى أهل يثرب بعد أن كتبوا إليه بذلك. كان ذلك الشاب الناشئ أحد معتنقي الإسلام الأوائل. وكان قد رجع حديثاً من الحبشة، بعد أن حنكته التجارب هناك، وأنضجت التنشئة القاسية في ميدان الاضطهاد حماسته، وعلمته كيف يقابل الاضطهاد، وكيف يناضل أولئك الذين كانوا متوثبين للحط من شأن الإسلام من غير أن يعلموا شيئاً من تعاليمه الصحيحة. لذلك استطاع محمد (ص) أن يعهد إليه واثقاً القيام بذلك الواجب العسير، واجب إرشاد حديثي العهد بالإسلام وتعليمهم، وتنمية بذور الحماس والإخلاص الديني، التي غرست فيهم من قبل، حتى تؤتي أكلها طيبة

كان منزل مصعب على أسعد بن زرارة، وكان يجمع معتنقي الإسلام إليه للصلاة ولقراءة القرآن. يفعل ذلك أحياناً في دار مصعب وأحياناً في دار بني ظفر، وكانت في ناحية من المدينة يقطنها بطن بني عبد الأشهل وبطن بني ظفر

كان رؤساء بني الأشهل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وبينما كان مصعب جالساً ذات يوم مع أسعد في دار بني ظفر يعلم طائفة من حديثي العهد بالإسلام. إذ وفد سعد بن معاذ، وكان يبحث عن مكانهم فقال لأسيد بن خضير: (أنطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا ديارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وأنهاهما عن أن يأتيا ديارنا فإنه لولا أن أسعد بن زرارة من حيث قد علمت كفيتك ذلك لأنه كان ابن خالة أسعد. فأخذ سيد بن حضير حربته ثم أقبل

ص: 35

على أسعد ومصعب حتى وقف عليهما متشتما وقال (ماذا تفعلان؟ تسفهان ضعفاءنا؟ إعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة). قال له مصعب: (وتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفَّ عنك ما تكره) فركز أسيد حربته وجلس إليهما ليسمع، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. وبعد هنيهة صاح أسيد متهللاً وقال:(كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟) فأجاب مصعب: (تغتسل فَتَطهَّر، وتشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله) فقام أسيد وفعل ذلك، وكرر الشهادة. ثم قال:(إن ورائي رجلاً (يعني سعد بن معاذ) إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن). وبعد هذه العبارة انصرف أسيد، وجاء بعده تواً سعد بن معاذ بنفسه غاضباً حانقاً على أسعد لما منحه مبشري الإسلام من رعاية. فتوسل إليه مصعب ألا يحقرن الدين قبل أن يسمعه. فقبل سعد أن يستمع، ولم يلبث غير قليل حتى تأثر بما قاله مصعب من العبارات التي أدخلت في قلبه الإيمان فاعتنق الدين واصبح مسلماً. عاد سعد إلى قومه يلتهب حماساً، وقال لهم:(يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟) فقالوا: (سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة) قال: (فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله محمد). ومن ذلك اليوم لم يبق في دار بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 36

‌رواية المصاهرة

بمناسبة زواج حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فوزية

للأستاذ محمود غنيم

1 -

تتألف الرواية من فصلين: زمن الأول قبل الميلاد بنحو خمسة قرون، وزمن الثاني عصرنا الحاضر

2 -

أشخاص الرواية:

الفصل الأول

(1)

ملك الفرس (2) حاشية ملك الفرس وعلى رأسهم الوزير (3) ملك مصر (4) حاشية ملك مصر وعلى رأسهم الوزير (5) عراف مصري قديم (6) حاجب الملك

الفصل الثاني

(1)

ضابط مصري مع فرقة من جنوده

(2)

ضابط إيراني مع فرقة من جنوده

(3)

جندي يلتقط ورقة من ورق البردي

(4)

جندي معه صحيفة تتضمن نبأ المصاهرة الملكية الحديثة

الفصل الأول

المنظر الأول

كسرى وحاشيته المكونة من أربعة أشخاص منهم: الوزير. المكان: إيوان كسرى. الزمان: قبل الميلاد بنحو خمسة قرون

كسرى (يفتخر):

أنا للحُكم والحِكَمْ

أنا للبأس والكَرَمْ

إنّ عرشي على السها

قائمٌ راسخُ القَدَمْ

هل درى الدهرُ من أنا؟

إنني سيد العجم

إنما يخضع الزما

ن لكسرى إذا حكم

ص: 37

البرايا عبيدُه

والليالي له خَدَم

أنا كسرى ودولتي

دولةُ السيف والقلم

الحاشية:

عاش ربُّ التاج كسرى

عاش للأوطان ذخرا

أنت فقت الشمس نورا

أنت فقت الشمس قدرا

قد جعلت العدل للم

ك أساساً فاستقرا

كاد يا مولاي يعنو

لك أهلُ الأرضٍ طرّا

كسرى: وزيري

الوزير: لبّيك يا سيدي

كسرى: ألا فادنُ مني ولا تبعد

الوزير:

وماذا يريد المليكُ فِداه

حياتي وما ملكتهُ يدي

كسرى:

هنالك أمرٌ لديَّ خطيرٌ

ولم أرَ غيرَكَ من مُرْشدِ

وزيريَ إني أفكّر في أن

أصاهرَ قوماً لهم سُؤْدُدي

أفتش في الأرض عن دولةٍ

كدولة كسرى فلا أهتدي

(الوزير بعد أن يطرق هنيهة)

أمولاي إن شئت خير الحرم

إذن فعليك بأرض الهرم

هنالك قوم حسانُ الوجوه

كرامُ الجدود كبارُ الهممْ

ألا إن فرعون خير الملوك

وأمة فرعون خيرُ الأمم

ومَن مثلُ فرعون في مجده

وفي جَدِّه غيرُ شاه العجم؟

كسرى:

أشرتَ بالحكمة والسدادِ

ملوكُ مصرَ وحدَهم أندادي

غدا تسير مسرعاً من (سوس)

وتقطع الأرض إلى (منفيس)

سر نحو مصر حاملاً خطابي

وكن لمولاك من الخطَّابَ

ص: 38

المنظر الثاني

فرعون وحاشيته تتكون من أربعة أشخاص منهم الوزير. المكان: قصر فرعون. الزمان: قبل الميلاد بنحو خمسة قرون.

فرعون (يفتخر):

تعرف الأفلاك قدري

ويطيعُ الدهرُ أمري

إنني فرعون والأنه

ار من تحتيَ تجري

حسب فرعون جلالاً

أنه سلطانُ مصر

كم مليك من ملوكٍ ال

أرض قاسى ذلَّ أسري

يشبه الأهرامَ عزمي

إنه قطعة صخر

ينقضي عمري ويبقى

رغمَ أنف الدهر ذكرى

الحاشية:

عاش فرعونُ ودامْ

عاش مولانا الهمامْ

يا سليلَ المجد يا نس

لَ الفراعين العظامْ

أنت للكون هلالٌ

لاح والكونُ ظلام

إنما أنت مُرَبي ال

كون أستاذُ الأنام

(وزير فارس يصل ويقف بالباب فيستأذن له الحارس)

الحارس (يدخل): مليكي

فرعون: منْ؟

الحارس:

أنا الحارسْ

رسولٌ جاء من فارسْ

فرعون:

ما خَطبُ هذا الرسول

اسمح له بالدخول

وزير الفرس (يدخل):

ألا أيُّهذا المليكُ الهمام

سلامي عليك

فرعون: عليك السلام

ص: 39

وزير الفرس:

مليكَ الحمى يا رفيعَ الجنابْ

معي لك من عند كسرى كتاب

فرعون: كتابٌ وأينَ؟

وزير الفرس:

تفضَّلْ فدْيتُ

كَ يا خير من سار فوق التراب

(يناوله الخطاب فيقرأه فرعون صامتا ثم يقول):

فرعون: يا وزيري

وزير فرعون: نعمْ نعمْ

فرعون: إن كسرى فتى العجم

جاءنا يخطبُ ابنتي

أهْو كفءٌ كما زعم

الوزير (بعد أن يطرق قليلا):

وكيف القول يا مولا

ي في مملكة الفرس

وفي كسرى سليل المج

د ربِّ السيفِ والترْسِ

مليكُ الفرس إن فُهتُ

به أُحنى له رأسي

فتى النيرانِ والنورِ

جديرٌ بابنة الشمسِ

فرعون (بعد أن يطرق قليلا):

قد أجبنا يا رسولْ

قم فبشّر بالقبولْ

وزير الفرس:

دمتَ يا مولايَ في عزِّ

وفي عمرٍ يطول

أنت يا فرعون شمسٌ

ما لها قطُّ أُفُول

(ينصرف وزير الفرس ثم يقف العراف بباب فرعون فيستأذن له الحارس)

الحارس:

مولاي عرافٌ هنا بالبابِ

تقبضُ يمناه على كتابِ

فرعون:

قم فأت يا حارسُ بالعرَّاف

قد يكشف العراف بعض الخافي

ص: 40

(العراف يدخل):

ألا أيُّهذا المليكُ الهمامْ

سلامي عليكَ

فرعون: عليك السلامْ

ماذا يقول النجم في المصاهره

بين ملوك مصر والأكاسرهْ؟

العراف (بعد أن يفتح الكتاب ويقلب صفحاته ثم يتكلم وهو يكتب على ورقة من ورق البردي):

أميرَ الحمى يا مليكَ الزمانْ

ألا بارك اللهُ هذا القِرآنْ

وسوف يتم قرانٌ كهذا

إذا الله شاء وآن الأوان

إذا ما مضت خمسة بعد عشري

ن قرناً إذن تسعد الدولتان

بعرس سعيدٍ به شعبُ مص

ر ودولةُ فارسَ يرتبطان

وسوف يكون الفريقان حلاّ

من المجد إذ ذاك أعلى مكان

يكون على رأس كلِّ فريقٍ

أميرٌ مطاعٌ له الشعب دان

هناك (رضا) وهنا (ابنُ فؤاد)

يعيش لشعبَيْهِما الملِكان

(ستار)

الفصل الثاني

المنظر: فرقتان من الجند إحداهما إيرانية والثانية مصرية تتكون كل منهما من أربعة جنود ومعهم ضابطهم واقفاً منعزلا قليلا. ويلاحظ أن الفرقة الإيرانية تدخل أولا وبعد أن يتم كلامها تدخل الفرقة المصرية

المكان: ردهة في دار السفارة الإيرانية أو ما يقرب من ذلك.

الزمان: زمننا أي بعد مضي خمسة وعشرين قرنا من حوادث الفصل الأول

الجنود الإيرانيون

نحن نسلُ الفرس أبطالٌ كماةْ

نحن علَّمنا الورى معنى الحياةْ

سائلوا التاريخَ كم للفرس شاهْ

تخفضُ الدنيا له شُمَّ الجباهْ

من قِدَم

نبتني الملكَ كما تُبني الجبال

ص: 41

لِلْعَجمْ

شرف يأبى على الدهر الزوال

الضابط الإيراني

ما لِمَنْ بادوا ومالي؟

لست أحيا في الخيالِ

أتباهُون بعصرٍ

من قديم الدهر خالِ

أتباهُون بعظمٍ

تحتَ بطن الأرض بال

أنا لا أفخرُ يا قوْ

مُ بماض بل بحالِ

حاضرُ الفرس كماضي

هم جلالُ في جلال

قد خُلقنا لسخاء

وخُلقنا لنضالِ

عن بلاد حرّة ير

خُصُ فيها كلُّ غال

لم تشوّه بقيودٍ

أو تدنَّس باحتلال

قد نشِطنا مثل ما ين

شَط ليثٌ من عقال

وبذلنا للعلا مه

ريَن من نفس ومال

فاخروا الكونَ بشاهٍ

قادنا نحو المعالي

جودُه قد فاض فيض الن (م)

هر بالماء الزلال

بطشه قد بات منه

راجفاً قلبُ الليالي

(يستمر الفريق الأول في مكانه ثم يدخل الفريق المصري ويقف في مواجهته)

الجنود المصريون

نحنُ أبناءُ الفراعين الشدادْ

كم بنى فرعون بالأمس وشاد

سائلوا رمسيسَ كم عز وساد

وانحنى الدهر له بين العباد

مجدنا

سائل الأهرامَ عنه والنجوما

هاهنا

نبت العلم مع الفن قديما

الضابط المصري

فَخَرتم بالفراعنة الشِّداد

وقلتم نحن ساداتُ العبادِ

وليس الفخرُ بالرِّمم البوالي

وبالعُصُر القديم، من السَّداد

إذا أنا لم أشد مجدي بعزمي

إذن لا طاب لي مائي وزادي

ص: 42

لقد قمنا نشيد لمصرَ صرحاً

يقوم من العلوم على عماد

جعلنا النيل طَلْق الماء يجري

بسَلْسال من العذب البراد

وحطَّمنا قيوداً من حديدٍ

ونلنا ما نحاولُ بالجهاد

لنا سفنٌ على الأمواج تجري

تبثُّ الرعبَ في روع الأعادي

وجيشٌ بالمدافع قاذفاتٍ

يصولُ وبالمرقَّقَة الحِداد

وطياراتُنا في الجوِّ تعلو

تُذلِّلُ متنها بدلَ الجياد

إذا نزل النزيل بأرض مصر

يحلُّ من النواظر في السواد

لنا كرمٌ لنا همم كبارٌ

خُلقنا للسلام وللجلاد

فلا تفخر بفرعونٍ قديمٍ

رميمِ العظمِ مدفونٍ بواد

ولكن فاخر الثقلين طرَّاً

بفرعونٍ تحدَّر من فؤاد

الضابط الإيراني (للضابط المصري):

عجيب أمرُنا جدّاً

أرى أنَّا شبيهانِ

سمعت الشعر يا مصريُّ م

من فيك فأشجاني

الضابط المصري:

أرى يا صاح مجدَ الشر

ق في مصرٍ وطُهرانِ

فنصف المجد مصريٌ

ونصفُ المجد إيراني

الضابط الإيراني:

فمن يَفْخَر بتجديد

فشعبانا جديدان

ومن يفخَرْ بأجدادٍ

فشعبانا قديمان

الضابط المصري:

مليكُ النيل فاروقٌ

وشاهُ الفرس نِدَّان

هما في الجَدِّ والجِد

وفي النهضة سِيَّان

الضابط الإيراني:

وهل في الشرق من دانا

هما في رفعة الشان

كأن الشرقَ جسم

و

هما للجسم عينان

ص: 43

الضابط المصري:

ألا ما أسعدَ الشرقَ

لو انضَمَّ المليكان!

(هنا يدخل جندي مصري معه ورقة بردي التقطها)

الجندي:

تحيةً يا جندنا الأحرارا

هل فيكمو من يقرأ الآثارا؟

الضابط المصري: أنا. لِمَهْ؟

الجندي:

لقيتُ بالعِشىِّ

ورقةً من ورق البرديِّ

الضابط المصري: إيت بها

الجندي (يعطيه الورقة): خذ

الضابط المصري (يفحصها)

إنها قديمهْ

خطُّ محا طول المدى رسومَهْ

وهْي بخط كاهنٍ عرّافِ

من أهل مصر القُدم الأسلاف

الجندي:

ألستَ تستطيعُ أن تتلُوها

الضابط: بل أستطيعُ فاسمعوا ما فيها

أميرَ الحمى يا مليك الزمانْ

ألا بارك الله هذا القرآنْ

وسوف يتم قرانٌ كهذا

إذا الله شاء وآن الأوان

إذا ما مضت خمسةٌ بعد عشري

ن قرناً إذن تسعدَ الدولتان

بعرس سعيدٍ به شعبُ مصرٍ

ودولةُ فارسَ يرتبطان

وسوف يكون الفريقان حلاّ

من المجد إذ ذاك أعلى مكان

يكون على رأس كلَّ فريقٍ

أميرٌ مطاعٌ له الشعبُ دان

هناك (رضاً) وهنا (ابن فؤاد)

يعيش لشعبَيْهِما الملِكان

الجندي (في دهشة):

هذا كلامٌ واضحٌ صريحُ

يا حبذا لو أنه صحيحُ

ص: 44

الضابط الإيراني:

إن الأوان هذه الأيامُ

يا حبذا لو صحت الأحلامُ

في ذلك الوقت يدخل جندي حاملا صحيفة فيها نبأ الزواج ويصيح قائلا:

بشرى لكم يا معشرَ الإخوانِ

في الصُّحف لم تسمع بها أُذنانَّ

أما سمعتم نبأ القرآِنِ

(فوزية) مليكةُ الِحسَان

قد زفَّت اليوم بمِهْرَجانِ

إلى وليَّ العهدِ في إيران

الجميع ينشدون هذا النشيد:

أيها الطير تغَّنى

حلّ ميعادُ الأغاني

أيها الشاهُ تهَنَّا

تلك أوقاتُ التهاني

بالرِّفاء والبنين

دائماً طول السنين

إنه عرسُ البدورْ

قد تجلَّى في السماءْ

عرس أملاكٍ وحور

لا رجالٍ ونساءْ

بالرِّفاء والبنين

دائماً طول السنين

التقى التاجانِ فيه

تاج رمسيس وكسرى

يا بلادَ الفرس تيهي

يا بلادَ النيلِ بشرى

بالرِّفاء والبنين

دائماً طول السنين

مصرُ قد حان السرورْ

طبتِ يا مصرُ وطابا

رقص النيلُ الوقورُ

وجرى تبراً مذابا

بالرِّفاء والبنين

دائماً طول السنين

بلَّغ الشرقَ مناه

ذلك العُرسُ السعيد

دمت في عزِّ وجاه

أيها الشرقُ المجيد

بالرِّفاء والبنين

دائماً طول السنين

(ستار)

محمود غنيم

ص: 45

‌كتاب السياسة

للوزير نظام الملك

للدكتور عبد الوهاب عزام

الفصل الأول

في أحوال الناس وتقلب الزمان، ومدح ملك العالم غياث الدين

والدنيا قدس سره

الله تعالى يجتبي في كل عصر واحداً من خلقه، ويجمّله بالفضائل الملكية، وينوط به مصالح الدنيا وراحة الناس، ويغلق به باب الفساد والفتن والاضطراب، ويمكن هيبته وحرمته في قلوب الخلق وعيونهم، ليعيش الناس في عدله، ويأمنوا في سلطانه، ويرجوا بقاء دولته

وإذا عصا الناس الشريعة واستخفوا بها وقصروا في إطاعة أوامر الله تعالى فأراد أن يعاقبهم ويذيقهم جزاء أعمالهم، ويحل بهم شؤم عصيانهم - لا أرانا الله مثل هذا الزمان، ولا ابتلانا بمثل هذا الشقاء - يحرمهم الملك الخيِّر، فتختلف بينهم السيوف وتسيل الدماء، ويغلب كل قوي على ما يريد حتى يهلك هؤلاء المجرمون في هذه الفتن وهذا القتال. كمثل النار تشتعل في القصب فتحرق كل يابس، وتتعدى إلى كثير من القصب الرّطب

الله تعالى يمنح واحداً من عباده السعادة والدولة، ويرزقه الإقبال على قدره، ويهبه العقل والعلم ليسوس بهذا العقل والعلم كل واحد من الرعية على الوجه الذي يصلحه، ويضع كل واحد في مرتبته؛ ثم يختار رجاله وعماله من الناس، ويوفي كلا منهم درجته، ويعتمد عليه في كفاية أمور الدين والدنيا

ويكفل الراحة لمن يسلك سبيل الطاعة ويقبل على عمله من رعيته ليعيشوا مغتبطين في ظل عدله

وإذا تجاوز أحد عماله حدّه وأطال يده فإن أصلحته الموعظة والتأديب والتأنيب، واستيقظ من نوم الغفلة، حفظ عليه عمله ومنصبه، وأن تمادى في غفلته لم يستجز إبقاءه في عمله واستبدل به من هو أهل للعمل

ص: 47

وكذلك من جحد من الرعية حق النعمة، ولم يعرفوا قدر الأمن والراحة، واعتقدوا الخيانة وأبدوا التمرد، وجاوزوا حدودهم يعاقبهم على قدر جرمهم حتى يتوبوا

ثم على الملك بعدُ أن يدأب في عمارة المملكة فيحفر القنوات ويشق الأنهار، ويمد الجسور على الأنهار العظيمة، ويعمر القرى والمزارع، ويبني الحصون، ويشيد المدن الجديدة، والأبنية الرفيعة، والقصور البديعة، ويقيم الربط على الطرق السلطانية، فيخلد بهذه الأعمال ذكره، وينال ثوابها في الدار الآخرة، ويتصل الدعاء له بالخير. . .

ولما أراد الله سبحانه أن يجعل هذا العصر زينة العصور الماضية وغرة مآثر الملوك السالفة، ويرزق الناس السعادة التي لم يرزقها أحد من قبل اختار ملك العالم السلطان الأعظم من أصلين عظيمين ورثا الملك والسيادة أباً عن أب إلى أفر أسباب العظيم، وجمله بالكرامة والعظمة التي لم يظفر بها الملوك السابقون

فأنعم عليه بما يحتاج الملوك إليه من حسن المنظر، وجمال الطبع والعدل والرجولة والشجاعة والفروسية ومعرفة أنواع السلاح واستعمالها، والتحلي بالفضائل والشفقة والرحمة بالخلق، ووفاء النذور والوعود، وصحة الدين والاعتقاد وطاعة الحق تعالى، وتأدية النوافل من صلاة الليل، وكثرة الصوم، وإعظام أهل العلم وإكرام الصالحين والزاهدين والحكماء، وتواتر الصدقات والإحسان إلى الفقراء، ومعاشرة الرعية والعمال بخلق حسن، وكف الظالمين عن الرعية. لا جرم سخر الله له ملك العالمين على مقدار جدارته، وحسن نيته، ومد هيبته وسياسته إلى كل إقليم حتى يؤدي الناس الخراج إليه ويأمنوا بالتقرب من سطوته. وإن كان بعض الخلفاء أوتي بسطة في الملك وسعة فما فرغوا وقتاً من القلق وخروج الخوارج. وفي هذا العهد المبارك لا نجد - بحمد الله - أحداً ينطوي على خلاف أو يخرج رأسه من ربقة الطاعة

أدام الله هذه الدولة إلى قيام الساعة وأبعد عن هذه المملكة نظر السوء وعين الكمال ليعيش الناس في عدل ملك العالم وسياسته ويديموا دعاء الخير له

وإذ كانت حال الدولة كما وصفت كان العلم والبصر بالسنن الحسنة على مقدار هذا، والعلم كشمع ينشر ضوءاً كثيراً فيهتدي الناس به الطريق، ويخرجون من الظلمات، ولا يحتاجون إلى دليل ولكن تدبير الملك يعجز عنه العبيد، وهم لا يبلغون درجة عقله وعلمه. فلما أمر

ص: 48

هذا العبد أن اكتب طرفاً من السير الطيبة التي لا غنى للملوك عنها، وكل ما عمله الملوك الماضون ولا يعمل الآن من حسن أو قبيح، وكل ما سمعت في ذلك أو قرأت أو علمت فكتبت إطاعة للأمر العالي هذه الفصول بالإجمال وذكرت في كل فصل ما يلائمه بعبارة واضحة، بتوفيق الله عز وجل

عبد الوهاب عزام

ص: 49

‌من برجنا العاجي

ليس على الأرض أخطر ولا أقوى من آدمي يعيش من أجل فكرة. هذا

الآدمي يركز كل وجوده في فكرة كما تتركز أشعة الشمس في عدسة

ليستطيع أن يحدث مثلها حريقاً مخيفاً أو نوراً وهاجاً ساطعاً. إن أغلب

الأنبياء والرسل وقادة الفكر وعظماء التاريخ الذين قلبوا العالم أو ملئوه

ضوءاً وجمالاً كانوا كذلك: أشعة متجمعة في عدسة فكرة. إنهم لم

يعيشوا للحب والحياة؛ إنما عاشوا من أجل فكرة.

ذاك خاطر مر برأس في لحظة من اللحظات. ولست أدري أأنا مصيب فيه أم أنه عزاء جميل أدخله على نفسي كلما ذكرت وأيقنت أني أنا أيضاً آدمي لم يخلق كي يعيش للحب والحياة. لماذا أعطى دائماً الفكرة ثمناً أغلى من حياتي، دون أن أشعر ودون أن أريد؟ آه. . . لو أتيح لي أن أعيش حياتي كما أحب؛ ولو سمح لي أن أقدر الحياة كما يقدرها السعداء من الآدميين! لقد منحني الله من أسباب النعيم ما لم يتيسر مثله للكثيرين، فلم أبسم ولم أسعد؛ فقد عافت نفسي مائدتي المنمقة وسيارتي اللامعة ومسكني الرحب. آه. . . إن أجمل أفكاري ما ظهرت إلا أثناء سيري البطيء على الأقدام. وإن ألذ أكلة عندي ما اقتصرت على لون واحد من الطعام. وإن خير مسكن لي هو حجرة واحدة أضع فيها كل ما يربطني بالوجود من كتب وورق وفراش وثياب. لقد صحت يوماً من أعماق نفسي:(اللهم أتم نعمتك عليّ وجردني من كل هذا النعيم الذي لا أفهمه، واملأ قلبي بحب نورك وحده، فبه تزهر كل فضائلي الآدمية كما يزهر النبت تحت الشمس الحارة البارة!). وكان لي ما أردت، وانقطعت للفكر وتجردت. ولكن. . .

لكن هل كل من تجرد من حياته في سبيل الفكر ينظمه الزمن في سلك العظماء؟ لست أظن. وهنا الكارثة. هنالك رجال خلعوا رداء الحياة دون أن يلبسوا الفكر ثوباً وضاءً. أولئك هم التعساء في الدارين. أخشى أن يكون قد كتب عليّ مصير هؤلاء!.

توفيق الحكيم

ص: 50

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

371 -

من حق الفتوة أن أكتبها قائماً

قال الكراني: حرّم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة، وركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر بن خارجة يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق فبكى طويلاً وقال:

يا لقومي لما جنى السلطان

لا يكوننْ لما أهان، الهوان

فهوة في التراب ممن حلب الكرم (م)

عقاراً كأنها الزعفران

فهوة في مكان سوء لقد صادف (م)

سعدَ السعود ذاك المكان

كيف صبري عن بعض نفسي وهل يصبر

عن بعض نفسه الإنسان

قال: فأنشدتها الجاحظ فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائماً، وما أقدر ذلك إلا أن تعمدني - وقد كان تقوس - فعمَدته، فقام فكتبها قائماً. . .

372 -

حولها ندندق

في (مجمع الأمثال): قاله - أي هذا المثل: حولها نُدندن - صلى الله عليه وسلم لأعرابي قال: إنما أسأل الله الجنة فأما دندنتك ودندنة معاذ فلا أحسنها

الدندنة أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته، ولا تفهمه عنه لأنه يخفيه. أراد صلى الله عليه وسلم أن ما تسمعه منا هو من أجل الجنة أيضاً.

373 -

وكفى الله المؤمنين القتال

في (تاريخ ابن عساكر والنجوم الزاهرة): كان المتوكل قد ولى على أهل دمشق سالم بن حامد، فأذل قوماً بها كان بينه وبينهم طائلة ودماء، وكان لبني بيهس وجماعة من قريش دمشق قوة ووجاهة ومنعة وكلمة مقبولة، فلما رأوا كثرة تعدي سالم وجوره وأذيته وثبوا عليه فقتلوه على باب الخضراء بدمشق في يوم جمعة (سنة 236) وبلغ ذلك المتوكل فندب لإمرة دمشق أفريدون التركي وسيره إليها، وكان فاتكاً ظالماً، فقدم في سبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف راجل، وأباح له المتوكل القتل بدمشق والنهب ثلاث ساعات!!! نزل أفريدون

ص: 51

بيت لهيا، فلما اصبح قال: يا دمشق، أيش لا يحل بك مني في يومي هذا؟! ثم طلب الركوب فقدمت له بغلة فضربته بالزوج على فؤاده فسقط من ساعته ميتاً، فدفن مكانه، وقطع الله أمله، وصار حديثاً ومثلاً، ورجع الجيش إلى العراق خائباً. وبلغ المتوكل ذلك، فصلحت نيته لأهل دمشق

374 -

أدب النفس

في (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) للبطليوسي:

المتأدب أحوج إلى تأديب أخلاقه من تأديب لسانه وذلك أنك تجد من العامة الذين لم ينظروا في شيء من الأدب من هو حسن اللقاء، جميل المعاملة، حلو الشمائل، مكرم لجليسه، وتجد في ذوي الأدب من أفنى دهره في القراءة والنظر وهو مع ذلك قبيح اللقاء سيئ المعاملة، جافي الشمائل، غليظ الطبع، ولذلك قيل: الأدب نوعان: أدب خبرة، وأدب عشرة وقال الشاعر:

يا سائلي عن أدب الخبرة

أحسن منه أدب العشرة

375 -

إلا الأنبياء

قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني: قال لي المعري:

لهم أهج أحداً قط

فقلت له: صدقت إلا الأنبياء عليهم السلام. . .

376 -

أن الإزار على ما ضم محسود

في (العقد): خرج أبو السائب وابن أبي يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة فمال أبو السائب لأمر وعليه طويلته فانصرف دونها. فقال له أبن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك؟ قال؟: ذكرت قول كثيّر:

أرى الإزار على لبنى فأحسده=إن الإزار على ما ضم محسود!

فتصدقتُ بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني إلى برّ الشيطان؟!. . .

377 -

كريح المسك فاح بلا دخان

ص: 52

في (ذيل ثمرات الأوراق) لإبراهيم الأحدب: يحكى أن شهاب الدين الخفاجي المصري شرب الدخان هو وجماعة، فاعترض عليهم شيخي زاده، فكتب له الشهاب:

إذا شرب الدخان فلا تلمني

وُجدْ بالعفو يا روض الأماني

تريد مهذباً لا عيب فيه

وهل عود يفوح بلا دخان؟

فأجابه شيخي أفندي:

إذا شرب الدخان فلا تلمني

على لومي لأبناء الزمان

أريد مهذباً من غير ذنب

كريح المسك فاح بلا دخان

378 -

أرسلت نفسي على سجيتها

في (تاريخ بغداد). قال اسحق الموصلي: أتيت محمد بن كناسة لأكتب عنه فكثر عليه أصحاب الحديث فتضجر بهم وتجهمهم، فلما انصرفوا عنه دنوت منه، فهش إلي، واستبشر بي، وبسط من وجهه فقلت له: لقد تعجبت من تفاوت حاليك، فقال لي:

أضجرني هؤلاء بسوء آدابهم، فلما جئتني أنت انبسطت إليك وأنشدتك، وقد حضرني في هذا المعنى بيتان وهما:

فيَّ انقباض وحشمة فإذا

صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

وقلت ما قلت غير محتشم

فقلت له: وددت (والله) أن هذين البيتين لي بنصف ما أملك، فقال: قد وفد عليك مالك، والله ما سمعها أحد وما قلتها إلا الساعة. فقلت له: فكيف لي بعلم نفسي أنهما ليسا لي

379 -

لو تركته لأورثك السل

روى ابن الجوزي: أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً له، فقال: كيف تراه؟

قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من جوفك، لأنك لو تركته لأورثك السل

380 -

دين سوء يدور مع الدول

قال إبراهيم بن عبد الله الكَجَّي: قلت للبحتري: ويحك! أتقول في قصيدتك التي مدحت بها أبا سعيد:

يرمون خالقهم بأقبح فعلهم

ويحرمون كلامه المخلوة

ص: 53

أصرت قَدَرياً معتزلياً؟

فقال لي: كان هذا ديني في أيام (الواثق) ثم نزعت عنه في أيام (المتوكل)

فقلت: يا أبا عبادة، هذا دين سوء يدور مع الدول. . .

ص: 54

‌أنشودة الذكرى

في عيد الربيع

للأستاذ محمود الخفيف

ياَ حَدِيثَ النَّفسِ في خَلْوَتِهاَ

ياَ أَغَانِيهاَ وَياَ لَحْنَ بُكاَهَا

ناَمَتِ الأَلْحَانُ لَوْلَا شُعْلَةٌ

فيِ حَنَاياَ الصَّدْرِ لَمْ يَخْبُ لَظَاهَا

هَيِ ذِكْرَى لِعُهُودٍ أَدْبَرَتْ

رَجَّعَ الشَعْرُ مِن الماضِي صَدَاها

مَا لهِذَا الذَّابِلِ المُرْتَعِشِ

رَفَّ فِي صَدْرِيَ شَوْقاً وَهَفَا؟!

كُنْتَ ياَ قَلْبُ تَأَسَّيْتَ فَمَا

جَدَّ من عَيْشِكَ أَوْ ما اخْتَلَفاَ؟

أَيَّهاَ الخافِقُ في وَحْدَتِهِ

فِيمَ ذِكْرَانُكَ عَهْدً سَلفاَ!

أَوْرَقَتْ ياَ قَلُبُ في الروْضِ الغُصُونْ

وَزَكاَ الوَرْدُ وَرَاقَ الَموْسِمُ

وَمَشَى في الأرْض عُرْسٌ بَهِجٌ

نَفَحَاتُ الْخُلْدِ فِيهِ تَنسِم

وَالْتَقَى الشَّمْلُ فَبشْرٌ وَمُنىً

وحبيبٌ لحبيبٍ يَبْسِمُ. . .

إيه يا قَلِبي، دَوَاعِي الأمَل

لَمَحَتْ في كلِّ غُصْنٍ أَوْرَقَا

لَا تُلَبِّيهاَ وَقَدْ كُنْتَ إِلَى

سِحْرِهَا مِنْ كُلِّ قَلْبٍ أَسْبَقَا!

زَمَنُ الوَصْلِ حَلَتْ أَيَّامُهُ

وَقُصَارَاكَ بِهِ أن تَخفِقاَ!

ياَ فؤادِي كلُّ شَيْءٍ ضَاحِكٌ

في رَبِيعٍ راقَتْ الدُّنياَ بِهِ

في رَبيعٍ يُنبِت الوُدَّ وَمَا

يَمْلأُ الأنفُسَ مِنْ أَسْبَابِهِ

طَاف في الرَّوْضِ عَلَى سُنْدِسِهِ

بِرَحِيقِ الْحُبِّ فِي أَكْوَابِهِ

هَذِهِ ياَ قلبُ أفوافُ الرَّبِيعْ

مِهْرَجَانٌ بَثَّ فِيهِ خَطَرَاتِهْ

يُبْهجُ الأَنْفُسَ مِنْ أَزْهَارِه

بَسَماَتٌ حُلْوَةٌ مِنْ بَسَماَتِهِ

وَأَحَادِيِثُ جَرَتْ عَاطِرَةً

زَاخِرَاتٍ بِمَعاَنِي صَبَوَاتِهِ

الرِّضَا والسِّحْرُ فِيها وَالمُنَى

والشبَّاَبُ الغَضُ بُوحي نَزَوَاتِه!

ابْتَهجْ واطْرَبْ وَرَفْرِفْ والْعَبِ

وَتَنَقّلْ في الرُّبُوعِ النَّضِرَهْ

الْتَمِسْ في كُلِّ رُكْنٍ فَرْحَةً

كاَلْفَراشَاتِ، وَغَازِلْ زَهَرَهْ

واجْتَلِ الرَّوْعَةَ في أَفْوَافِهِ

أَفْرَغَ السِّحْرُ عَلَيْهاَ صُوَرَه

ص: 55

في زَمَانٍ مِنْ تَهاَوِيلَ بِهِ

كُلُّ حَيٍ رَاحَ يَقْضِي وَطَرَه

مَسْرَحٌ كَمْ جُلْتُ في أَنحْاَئِهِ

لَاعِباً، لَسْتُ أَمَلُّ الَّلعِبَا

لَمْ يَرُعْ نَفْسِيَ يَوْماً أَنَّنيِ

سَأَرَي جَنَّتَهُ مُكْتَئِبَا!

في رَبِيعِ العُمْرِ وَالعَيْشُ مُنىً

عَجَّلَ الدَّهْرُ لِيَ المُنْقَلَبَا

ياَ عِشاَشاً في الرِّياَضِ امْتَلأَتْ

غَنِمَتْ فِيهاَ الشَّوَادي الفَرَحَا

كُلُّ إِلْفٍ حَلَّ فِيهاَ لِهَجٌ

بِزَمَانِ الوَصْلِ فِيما صَدَحَا

نَسِىَ الوَحْشَةَ حَتَّى خِلْتُهُ

عَنْ حَوَاشِي أَيْكِهِ مَا نَزَحَا

ياَ شَوَادِي الأَيْكِ غَنِّي وَاطرَبِي

قَدْ توافَتْ لَكِ أسْبَابُ المُنَى

هَلْ شَجَا يَوْمَكِ أَمْسٌ أَوْ غَدٌ

أَوْ عَرَفْتِ الدَّمْعَ يَوْمَاً والضَّنَى؟

اهْتِفِي مَا شِئتِ أَوْ شاَء الهوَى

وَاتْرُكي لِي ياَ شوادِي الْحَزَناَ

أَنَا إِنْسِيٌّ مِن الطِّينِ فمَا

أَعْرِفُ النَّعْماََء إِلاَّ حُلُماَ!

عَاَلمِي مِنْ طَبْعِهِ أن أجْتَنِي

عَقِبَ الّلذّةِ فِيهِ الألَمَا

إِنْ شَرِبْتُ الكأسَ يَوْماً عَسَلاً

لَمْ يَدُمْ حتَّى أذوقَ العَلْقَماَ

شِقْوَتِي بالْغَيْبِ أَنْ أَجْهَلَهُ

وقُصَارَى الهمِّ في أن أَعْلَماَ!

جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مُنْذُ الأَزَلِ

لأِبي آدَمَ كاَنَتْ نُزُلَا

فَقَضَى اللهُ بِأَنْ يُبْدِلَهُ

بِرياَضِ الْخُلْدِ هَذَا الْبَدَلَا!

وَأَناَ مِنْهُ فَحَظِّى حَظَّهُ

كَمْ أرَى فيهِ لِنَفْسِي مَثَلَا!

غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَذُقْ من جَنَّتِي

أَبداً مَا عِشْتُ فِيهاَ أُكلَا. . .

كانَ لِيَ في الأرْضِ حُلمٌ زَاِهرٌ

فَمضَى فيهاَ كَماَ يَمْضِي الربِيعُ

رُحْتُ كالطِّفْلِ لدَى صَحْوَتِهِ

دَامِعاً يَبْكِي رُؤَى الْحُلْمِ الْبَدِيعْ

صَحْوَتِي قَدْ الْبَيْنُ بِهاَ

أَيْنَ مِنِّي ذَلِكَ الشَّمْلُ الْجَمِيعْ؟

عَادَ قَلْبِي يشتكي الوجد فَهَلْ

تُطْفِئُ الشَّكْوَى بِهِ هذا السَّعِيرْ؟

عِشْ عَلَى الذِّكْرَى وغَاِلط واخْدَعِ

فَمَدَى عَيْشِكَ في الدُّنْياَ قَصِيرْ

يَتَهاَوَى الْعُمْرُ فِيهاَ مِثْلَمَا

يَتَهاَوَى ذَلِكَ الزَّهْرُ النَّضِيرْ!

الخفيف

ص: 56

‌رسَالة المَرأة

صاحبة السمو الإمبراطوري

الأميرة فوزية

للآنسة زينب الحكيم

يا سليلة المجد، يا كريمة المحتد. . . تزوجت من ابن عاهل بلاد عريقة الحضارة، باسقة الدوحة، فشغل هذا الحادث السعيد انتباه الناس، وانصرف كل يحييه بشكل خاص

كنت أمشي مرتاضة على جسر الزمالك ثم إلى جسر إسماعيل، وكان ذلك في الصباح المبكر النادي، حيث ينتعش النبت ويبتهج الزهر ويصدح الطير

ترتفع الشمس من مشرقها فتواجه صنوها أهرام مصر، فينعكس إشراقها على مرآة الدهر؛ وليست عنه تغرب، وإنما هي تحييه كل يوم، وتحيي في هيكله المرصوص نور العلم، وقوة العقل، ونهضة البشرية؛ ثم تخط في سجله دورتها التي لا تنقطع

وقد تزول المدنيات، وتدول العروش، ويفنى الخلق؛ وتبقى الأهرام وتبقى الشمس. . . هذه تسجل وهذه تدور. . . والخلود للنافع الباقي في سجل الأبدية

فيا أميرة الأهرام فوزي بأمير الشمس رضا. . . لقد تنبأت بسعود مستقبلكما وهناء أيامكما وأنا أسير على الجسور. وقد استرعى انتباهي الأعلام المتناثرة المرفوعة على أعالي القصور وفي البساتين والميادين، كلها ترفرف في الجو معلنة صفاء نفسين واتحاد قلبين، مذيعة على موجات الأثير أفراح أمتين شقيقتين، ورجاء شعبين صديقين

في اللحظة الخاطفة الوامضة، التي أيقنت فيها بذيوع النبأ السعيد في العالم أجمع، وأكده تشريف ابن الأكاسرة ديار الفراعين؛ استوقفني بين الجسرين صوت التابع (الخادم) حيث لاحقني من البيت، قال: سيدتي، لقد نسيت هذا الكتاب، فأخذته منه وشكرته وانصرف

وتابعت سيري ووجهني جسر إسماعيل، فلما بلغت وسطه، شعرت أن الكتاب أثقل ذراعي، فوقفت استريح برهة، وقد شغل تفكيري قيمة ما يحتويه الكتاب بالنسبة إلى حجمه ووزنه

وحانت مني نظرة إلى ماء النيل، وهو يخاصر رقائق النسيم؛ ومن عجب أرى ضوء الشمس الفضي ينعكس على جهات خاصة من سطح الماء، فيكوّن من الموج الهادئ نجوماً

ص: 58

متلألئة، أما باقي سطح الماء فعادي إذا استثنينا اختلاف ألوان تموجاته في مواضع.

هذه اللوحة الفنية بإطارها المعشوشب، أوضحت أمامي صفحة من صفحات شهيرات النساء منذ أبعد الحقب، ومن ثم اطمأننت أنه يعتمد عليهن في فتح الكتب المغلقة وفهم غوامضها وتكييف الأقدار. وهذه الناحية من سطح الماء، التي تتلألأ عليها النجوم الساطعة، إنما تدل على شهيرات النساء اللائى جذبن انتباه العالم لخطورة مراكزهن كالملكة حتاسو، وفكتوريا، والسيدة خديجة، ومثيلاتهن ممن حكمن المماليك، وشرعن، وشيدن أسس العمران وسُسن مصلحي البشر؛ أو مدام كوري ومن على شاكلتها من العالمات، والمخترعات؛ أو كالسائحات والكاتبات اللائى يدرسن البشرية عملياً ويسجلن تاريخ البشر التجريبي؛ أو كرسولات السلام والمودة من أشباه أميرتنا المحبوبة فوزية.

وفي الحق أنه ينطوي في شخصية مثيلاتها تضحية، وأقوى شجاعة، وأحد نظرة وأجدها.

يا له من مركز خطير! يضطلع به الرجل فيثقله، فما بالنا إذا ما اضطلعت به امرأة؟! من غير شك تكون المسئولية أعظم، والتضحية أوفر، والإرادة أمتن

يا أيتها المرأة إنك ضحية الوجود، وزهرة الوجود، فيا له من شوك وشذى في وقت واحد!

أذكر عندما حمل البشير إلى فكتوريا نبأ تنصيبها ملكة على عرش بريطانيا العظيم، تلقت الخبر السار بذهول لهول المسئولية، وكانت سنها لا تزيد على الثامنة عشرة، ولكن ذاك الذهول، وذاك الهول، لم يثنياها عن المبدأ الذي ألهمته، وكان سبب نجاحها إذ أجابت بعد صمت لحظات سأكون صالحة. قول قصير ولكنه منطق حكيم ومبدأ متين

وهكذا عاشت الملكة فكتوريا عمراً مديداً، وحكمت خمسين عاماً من أحسن وأنفع السنين التي مرّت على بريطانيا. ولا يزال حب فكتوريا مستقراً في القلوب. تعرفت إلى سيدة إنجليزية عجوز في إحدى ضواحي لندن، فلما توثقت عرى الصداقة بيننا، أرادت أن تقدم إليّ هدية من أثمن ما تملك، فسارت معي إلى خزانة أنيقة من البلور، وأخذت منها علبة فضية ثمينة، أخرجت منها شيئين صغيرين، ولكن بدا على السيدة الاهتمام والرعاية لهما

بدأت تفض الأغلفة التي أحاطت بالدرة الثمينة على ما ظننت، وأيقنت أنني سأنال شظية من تلك اللؤلؤة النفيسة، وما كان اشد دهشتي عندما وجدت أن الجوهر المغلفة لم تكن أكثر من قطعة صغيرة من كعكة عرس الملكة فكتوريا!!

ص: 59

ثم عادت السيدة فأخرجت من المغلف الثاني نموذجاً لثوب العرس الذي ارتدته الملكة فكتوريا ليلة زفافها، وقد صنع من القصاصات التي تخلفت من قماش ذلك الثوب. أما نموذج الثوب، فكان تحفة ثمينة، وأثراً بارزاً يشير إلى بعض عواطف الإنجليز، وهم ناس تقاليد وناس وفاء وشمائل نبيلة كم أرجو أن ينال أفراد الشعبين: المصري والإيراني منحة تحفظ في ذاكرة الأجيال!! لا يخالجني شك في أن عبقرية الزوجين الكريمين ستكوّن طاقة من الزهر تشم في نسمات الخلود

يا أميرة النيل: إني أتخيلك وأنت آمنة الآن إلى خلجات قلبك، مفكرة في رياض المستقبل بما تحويه من أزهار وأثمار وأطيار، لا تلبث أن تصبح بلابل القصر المرمري العامر؛ ثم أتخيلك وأنت تجولين في بساتين إيران الزاهية وحقولها المخصبة، وأتخيل مواقفك التي ستفوق ديمقراطية إحدى ملكات أوربا

ذلك أنها كانت تكثر من تفقد حال رعيتها خفية، ففي ذات مرة كانت تتجول في الحقول منفردة، فرأت فتاة حسناء تعمل بنشاط في حقلها بحيث لم تنتبه إلى المتجولة العظيمة، فقربت منها الملكة وحيتها وتحدثت معها طويلاً مستفسرة عن محاصيلها وعن معيشتها، وكانت الفتاة تحادثها دون تعمل على طريقتها القروية الساذجة

ولما همت الملكة بالانصراف سألتها الفتاة عن اسمها وماهيتها، فأجابتها ببساطة مستملحة: أنها الملكة فلانة. فطربت الفتاة كما تطرب فتاة الريف الوادعة وسألتها عن عنوانها، فأجابتها الملكة إلى ما أرادت. فلما كان عيد الميلاد بكّرت الفتاة بإرسال زوج من القفازات الصوفية من صنع يدها هدية للملكة بمناسبة العيد، وتقبلتها الملكة راضية وأرسلت خطاب شكر إلى تلك الفتاة ومعه قفاز مملوء بالذهب، وآخر مملوء بالحلوى

وبعد أيام أرسلت الملكة خطاباً آخر للفتاة تستفسر منها فيه عن وصول الهدية، ومقدار ما نالها منها شخصياً، فأجابت الفتاة في حياء جميل: لقد استأثر أبي بالذهب، وتمتعت أختي الصغيرة بالحلوى، بينما أجاهد أنا في الحصاد. فعادت الملكة وأرسلت قفازين أحدهما مملوء بالذهب والآخر بالحلوى، وشفعتهما بخطاب منها شخصياً تقول فيه لوالد الفتاة:(أترك الهدية كاملة للفتاة هذه المرة) فما أجمل عطف المرأة وما أدق مواقفها!

هنيئاً لك يا إيران بابنة فؤاد المصلح، الذي شمل عطفه وبره ورقيه مصر وغير مصر من

ص: 60

بلاد المشرق والمغرب، وعم نور عهده الذهبي فتبدد عن العقول ظلام الجهل، وعن النفوس كابوس الملل

إن التاريخ يعيد نفسه. ومن حسن التوفيق أن يكون إشراق النجوم، وبشير السلام والمودة متصل الحلقات بمحور شريف.

فقد سبق أن حدثت مناسبة سعيدة مشابهة لحادث اليوم، بزواج الأميرة نازلي هانم أخت الخديو إسماعيل، وعمه المغفور له الملك فؤاد بأحد الأعيان التونسيين، وكانت تسكن قصراً بديعاً بالقرب من قرطاجنة على شاطئ البحر وسط بساتين غناء.

تحدثت عنها الكاتبة الفرنسية مريام هاري قالت: أدى بي الحديث مع الأميرة نازلي يوماً إلى الكلام عن المرأة المسلمة، فقالت لي: هل تقصدين المرأة المصرية؟ إنه لا توجد امرأة في العالم عرفت ما عرفته من الاستقلال في عهد الفراعنة! فأمريكا ذاتها لم تبتدع جديداً يمكن أن يقارن بالحركة النسوية التي كانت على ضفاف النيل منذ أربعة آلاف سنة.

لقد كانت تتمتع المرأة المصرية بوحدة الزوجية، بل كانت تنعم بما ينعم به الرجل من الحرية والمراتب، عكس ما كانت تعامل به نساء البلاد الأخرى في ذلك العهد كالإسرائيليات والبابليات وغيرهن.

والزوجة الحقيقة كانت تشارك زوجها في التاج والعرش، وكانت تمتاز عن أختها العصرية بالاشتراك مع زوجها في الأعمال الفكرية، وقد وجدت مؤلفات باسم الزوج والزوجة، وفي الألعاب الرياضية أيضاً، فكانت تخرج معه للصيد والقنص، وكانت ترأس الحفلات)

ثم أفضى الحديث بين الأميرة والكاتبة إلى التحدث عن كليوباترا الملكة العظيمة، فقالت الأميرة نازلي: حقاً إنها كانت ملكة قادرة من أسرة البطالسة، ومع ذلك كان أفول نجم المرأة المصرية بعدها. فقد فرض عليها القانون الروماني الذي أخذ عنه الفرنسيون قانونهم، أن تأخذ ترخيصاً من الزوج في أعمالها، وهذا أمر لا يعرفه الإسلام، إذ ليس الإسلام خلافاً لما يظنون هو الذي جعلنا في مرتبة أقل من الرجال وحرمنا حقوقنا، وإنما هو التفسير غير الصحيح للنص المقدس، وإهمالنا وقعودنا نحن النساء).

ولقد أبيح للمرأة المسلمة على الدوام أن تنص في عقد الزواج على أن تكون منفردة بالزوجية، ولو أن الزوج أخل بهذا النص لعوقب بالحبس

ص: 61

قالت الأميرة نازلي هذا القول من نحو ربع قرن مضى، فليتها ترى بنفسها اليوم مقدار ما بلغته المرأة المصرية الحديثة من التعاون مع الرجل في أكثر مرافق الحياة، لتعجب بنهضة المرأة الفكرية والرياضية والاجتماعية، ولتسرّ كل السرور بحفيداتها أميرات البيت المالك، إذا ما رأتهن يزرن المدارس ويشجعن التعليم، ويفتتحن المعارض العلمية والفنية من زراعية وصناعية. كم كان ينشرح صدرها لرؤيتهن أثناء لعبهن التنس ولهوهن بالثلج في سويسرا! لو كان ذلك لأدهشها أن ترى الملك المحبوب فاروق الأول مع زوجه جلالة الملكة فريدة وهما يجولان في الصحراء للصيد والرياضة، ولأثلج صدرها ما ألفته بعض الأميرات من نفائس الكتب كالأميرة قدرية حسين

وسمو الأميرة فوزية زهرة تتضوع شذى ذكيًّاً بما تحمله في دمها من عبقريات والديها الكريمين، وتنقل عن أخيها جلالة الملك (فاروق الأول) المحبوب روح الشباب الطامح، وحكمة الشيوخ الأتقياء، وحزم المجرمين الأشداء. وتتأثر بوراثات فوارة عن الأجيال الطويلة التي قطعتها مصر في الرقي العلمي والحضارة

فيا أيتها الوديعة العزيزة أنت خير من يفهم رسالة مصر، وخير من يمثل بلاده الخالدة، فتزدادين منعة وعظمة من رائع خيال إيران، ورفيع فنها، وواسع علومها وفلسفاتها. وإن من كانت مثلك في قوة الذكاء وروعة الحسن مع شخصية قوية وجرأة حازمة وسياسة رشيقة ونبل - وما استمتعت به من رعاية وجوار كريم من جلالة أخيك الملك الصالح - كل هذا، وليس بالقليل، تستطيعين به أن تتصفحي الكتاب الزاخر وتكفلي بهجة الحاضر ونجاح المستقبل ومودة الدهر

زينب الحكيم

ص: 62

‌رسالة العلم

ما هي الحياة

وكيف ظهرت على الأرض؟

انطباق نواميس الطبيعة على الأحياء

للأستاذ نصيف المنقبادي

تكلمنا في مقالنا الأول عن وحدة الحيوانات (ومنها الإنسان) والنباتات وأثبتنا في مقالنا الأخير وحدة الأحياء والجمادات بأن بحثنا عن مظاهر الحياة في الجمادات وقد وجدناها جميعاً بلا استثناء ولكن مبعثرة ومشتتة فيها كالتكوين الدقيق والشكل النوعي والتغذي والتنفس والتحرك والتأثر والنمو الخ

واستكمالاً لهذا التحقيق (وحدة الأحياء والجمادات) واستيفاء له من جميع نواحيه نسلك اليوم الطريق العكسي لنصل إلى نفس النتيجة بأن نبحث في الكائنات الحية عن نواميس الطبيعة التي تدير الكائنات الحية، وسيرى القارئ فيما يلي أن تلك النواميس تنطبق جميعاً بلا استثناء على الأحياء (ومن بينها الإنسان) وأنها هي التي تعمل فيها وتديرها وليس شيء آخر خلافها

نقول إنه يتضح لكل من يطلع على كتب العلوم الديولوجية الحديثة (علوم الحياة كالبيولوجيا العامة والفسيولوجيا وعلمي الحيوان والنبات، وعلم التشريح التقابلي، وعلم تكوين الجنين الخ) أن هذه العلوم أخذت تفسر المسائل الحيوية وتعللها بالنواميس والقواعد المقررة في علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، وقد خطت خطوات واسعة في هذا السبيل، ولا يهدأ للعلماء الآن بال وهم يعالجون أية ظاهرة من ظواهر الحياة حتى التفكير والقوى العقلية إلا إذا عللوها بالعوامل الطبيعية وردوها إليها ووحدوا بينها وبين الجمادات

فوظيفة القلب والحركة الدموية على العموم خاضعة لنواميس الهدروليكا أو الهدروديناميكا. وهضم الأغذية ليس إلا تفاعلات كيميائية محضة. وامتصاص الغذاء بعد هضمه، وإفراز المواد الإفرازية خاضع لقواعد التشرب المقررة في علم الطبيعة، وكذلك الحال بالنسبة لامتصاص الأوكسجين وإفراز الحامض الكربونيك في الرئتين وفي أعضاء التنفس

ص: 63

الأخرى وفي الشرايين الشعرية. وتحرك الحيوانات وسيرها على الأرض أو طيرها في الهواء أو عومها في الماء، كل هذا يجري طبقاً لقواعد علم الميكانيكا دون غيرها. وإبصار العين وسمع الأذن وحدوث نبرات الصوت ارتفاعاً وانخفاضاً، كل هذا يحصل بمقتضى القواعد المقررة في علمي الضوء والصوت المتفرعين من علم الطبيعة. وكذلك الحال بالنسبة للتلقيح وانقسام الخلايا وتكوين الجنين وتكوين الزهور والأثمار. . . الخ. وكذلك الحال أيضاً فيما يتعلق بالانفعالات النفسية والغرائز والعواطف والتفكير، فقد توصل العلماء إلى إرجاع الكثير منها إلى ظواهر طبيعية وكيميائية محضة وفسروها بالعوامل الطبيعية التي تدير الجمادات. ويضيق بنا المقام لو أردنا شرح شيء من ذلك لأن هذا يستغرق المجلدات الضخمة العديدة، فنحيل القراء على المؤلفات الحديثة في علوم البيولوجيا والفسيولوجيا والبسكولوجيا. ونقصر حديثنا الآن على الناموسين الأساسيين اللذين تتفرع منهما باقي نواميس الكون وهما ناموس عدم تلاشي المادة وناموس عدم تلاشي الطاقة (القوة سابقاً) '

المادة والطاقة

ينقسم كل ما في الوجود إلى مادة وطاقة ولا ثالث لهما. فالمادة تشمل الكواكب والشموس والسيارات ومنها الأرض وما عليها من المعادن والجبال والبحار والمواد التي تشكلت بشكل خاص كالأجسام المبلورة والكائنات المسماة بالحية كالإنسان وباقي الحيوانات والنباتات

والطاقة تبدو في صور مختلفة معدودة تتحول من الواحدة إلى الأخرى وهي الكهرباء، والجاذبية، والضوء، والطاقة الميكانيكية كالحركة، والطاقة الكيميائية الكامنة في ذرات المادة، والحرارة

والمادة والطاقة ليستا مستقلتين إحداهما عن الأخرى فلا يمكن تصور وجود الواحدة منهما بمفردها دون الأخرى

بل ثبت أخيراً على اثر اكتشاف الراديوم والأجسام المتشععة المماثلة له، أن المادة تتحول إلى طاقة والطاقة إلى مادة، فكأنه لا وجود للمادة في الواقع، وأنها ليست إلا طاقة متكاثفة كما أن السوائل غازات متكاثفة وكذا الجمادات بالنسبة للسوائل.

ص: 64

وعلى هذا تكون المادة صورة أخرى من صور الطاقة فوق الصور المتقدم ذكرها

ومن نواميس الطبيعة الأساسية ناموسا عدم تلاشي المادة، وعدم تلاشي الطاقة سالفا الذكر. ومعنى هذا أن مجموع المادة التي في الكون ثابت لا تزيد عليه، ولا تنقص منه ذرة واحدة، وإن كانت المادة تتحول على الدوام من تركيب إلى آخر ومن شكل إلى شكل، وكذلك الحال فيما يتعلق بالطاقة؛ فإن صورها أو مظاهرها في تحول مستمر من الكهرباء إلى الحركة إلى الضوء إلى الطاقة الكيميائية إلى الكهرباء وهلم جرا، ولكنها في مجموعها ثابتة لا تزيد، ولا تنقص منها أية كمية مهما صغرت.

انطباق هذين الناموسين على الأحياء

قلنا وكررنا في المقالين السابقين أنه لا يوجد عنصر من عناصر المادة خاص بالكائنات الحية، وأن العناصر التي تتركب منها أجسامها تدخل في تراكيب معدنية لا عداد لها. وبيّنا كيف أن المواد التي تتألف منها أجسام الأحياء مشتقة من الجمادات رأساً بفعل قوة الشمس أو طاقتها الإشعاعية بواسطة المادة النباتية الخضراء (الكلورفيل). فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى من الحيوانات النباتية، وهذه تتغذى من النباتات. والنباتات تركب المواد التي تتغذى بها وتشيد منها أجسامها من المواد المعدنية - أي من الجمادات - على الوجه المتقدم بيانه، بحيث لا يزيد على الكائنات الحية شيء أكثر مما تتناوله من الغذاء ولا ينقص منها شيء أكثر مما تفرزه أو يتبخر منها

وبعد الموت تتحلل أجسامها وتتحول إلى كمية من بخار الماء ومن الحامض الكربونيك ومن بعض تراكيب أزوتية ومعدنية بحيث يساوي مجموع كل هذا وزن الجسم عند الموت تماماً لا أكثر ولا أقل

وكذلك الحال بالنسبة للطاقة فإن الكائنات الحية تتحرك حركة ذاتية كالانتقال من مكان إلى آخر، وحركة أعضائها الداخلية وحركة نمو الخ، وهي تفرز عصائر وخمائر وسوائل مختلفة وإفرازات داخلية وخارجية متنوعة، وتحلل بعض المواد الكيميائية وتركب غيرها، وتتولد فيها حرارة ثابتة في ذوات الثدي (التي منها الإنسان) وفي الطيور، أو حرارة عرضية في الحيوانات الأخرى وفي النباتات، كما يتولد الضوء والكهرباء في بعضها، وهذه كلها من الطاقة، ولا يمكن أن تأتي من العدم لأن الطاقة لا تخلق ولا تنعدم، ولا بد أن

ص: 65

تكون قد اشتقت من صورة سابقة من صورها الأخرى. فما هو مصدر تلك الطاقة التي تدير الأحياء وتحركها وتعمل فيها؟

لقد أثبت علم الفسيولوجيا بالأدلة والاختبارات والمشاهدات القاطعة أن جميع القوى التي تعمل في الإنسان وباقي الكائنات الحية تنتج من احتراق المواد الغذائية داخل أنسجة الجسم وفي خلاياه، وما الغذاء إلا وقود الكائنات الحية يحترق فيها ليولد الطاقة والحرارة اللازمتين لأعمال الحياة كما يحترق الفحم أو البترول في الآلات الميكانيكية لإدارتها؛ وما الحيوانات والنباتات إلا آلات تحول الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء إلى طاقة ميكانيكية كالحركة وإلى حرارة وإلى كهرباء وضوء في بعض الحيوانات

وقد أراد علماء الفسيولوجيا أن يتحققوا مما إذا كانت العوامل الطبيعية، وبعبارة أدق الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية في الأحياء هي التي تدير بمفردها الكائنات الحية وتعمل فيها، أم أن هناك عوامل أخرى من وراء الطبيعة تشترك معها في ذلك. فمن أجل ذلك صنع اثنان منهم وهما الأميريكيان أثوثر وبينديكت جهازاً خاصاً هو عبارة عن كالوريمثر كبير مركب تركيباً دقيقاً من مواد تحفظ الحرارة وتمنع تشععها إلى الخارج وهو في الوقت نفسه يقيس أقل كمية من الحرارة توجد فيه مهما صغرت. ووضعا فيه شخصاً وأحكما غلقه عليه، ويخترق هذا الكالوريمتر تيار من الهواء يمر في أنابيب مصنوعة خصيصاً ومركبة عليها آلات للتحليل والقياس فيقيسون مقدار ما يدخل من الهواء وما يشتمل عليه هذا الهواء من الأكسيجين وغاز حامض الكربونيك، وكذلك مقدار الهواء الخارج من الجهة الأخرى وما نقص منه من العنصر الأول، وما زاد عليه من الغاز الثاني، والفرق يدل بطبيعة الحال على كمية ما احترق مدة العملية داخل جسم الشخص الجالس في الكالوريمتر من المواد الغذائية المدخرة في أنسجته وخلاياه، ذلك لأن كل احتراق حتى في الجمادات يستهلك الأكسيجين ويفرز غاز الحامض الكربونيك

ومن جهة أخرى يقيس الكالوريمتر كمية الحرارة التي تتشعع من جسم ذلك الشخص، والحرارة التي تتحول إليها في النهاية الحركات المختلفة التي يقوم بها كحركاته الذاتية، وكحركات أعضائه الداخلية كالقلب والرئتين.

فكانت النتيجة أن الطاقة (الحرارة) التي تنتج من احتراق المواد الغذائية المدخرة في الجسم

ص: 66

تساوي تماماً الطاقة (القوى) التي تعمل في الجسم وتتحول في النهاية إلى حرارة.

وكان بعض الفسيولوجيين قاموا قبل ذلك بمثل هذا الاختبار على حيوانات مختلفة وكانت النتيجة واحدة.

ومعنى هذا أنه لا تعمل في الكائنات الحية بما فيها الإنسان ولا تديرها سوى القوى الطبيعية، وأن هذه القوى ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء، أو بعبارة أصح الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء

وحتى التفكير والقوى العقلية فقد ثبت بالاختبارات والمشاهد العديدة أنها تستهلك كمية من الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية المدخرة في المخ والتي يوردها الدم إلى ذلك العضو. وإننا نكتفي بالتجربة التالية إثباتاً لذلك: فقد صنعوا جهازاً خاصاً دقيقاً لقياس كل زيادة تطرأ على حجم المخ مهما كانت طفيفة، يستخدمون هذا الجهاز في أشخاص يكون قد أصابهم كسر في الجمجمة وتفتت قطعة من العظم حتى صار مكانها مكشوفاً لا تغطيه إلا قشرة من نسيج رقيق، فيضعون قاعدة الجهاز على رسم الجزء المكشوف وقياسه ويغطونه بها. وتتفرع من قاعدة الجهاز هذه أمبوبة من الكاوتشوك تتصل بآلة تدل على أقل زيادة أو احتقان يطرأ على المخ وترسمه رسماً

يرسم هذا الجهاز في الحالة الاعتيادية خطاً متعرجاً ولكنه يكون في مجموعه على منسوب أو ارتفاع واحد، وهذه التعرجات هي أثر نبض القلب. ويكلفون الشخص الموضوع عليه الجهاز بالقيام بأعمال عقلية بأن يطلبوا منه مثلاً إجراء عملية حسابية، حتى إذا بدأ في التفكير أخذ حجم مخه في الزيادة بورود كمية من الدم إليه أكثر من المعتاد يدل عليها ارتفاع منسوب الخط المتعرج الذي يرسمه الجهاز، كما يحدث في كل عضو يؤدي وظيفته، لأن الدم يحمل إليه الغذاء الذي يحترق فيه لتوليد الطاقة اللازمة لقيامه بوظيفته، وعندما ينتهي ذلك الشخص من العملية العقلية التي كلف بها يرجع مخه إلى حجمه الطبيعي بأن ينزل الخط المتعرج إلى مستواه الأصلي

يؤيد هذا أيضاً التجارب التي قام بها كل من شيف من جهة وموسو من جهة أخرى، فإن كليهما استعان بآلات دقيقة جداً لقياس درجة حرارة المخ على مثل ذلك الشخص المكسورة جمجمته صنعها خصيصاً على أساس الكهرباء، وهي حساسة إلى حد أن تقيس واحدا من

ص: 67

الألف من درجة الحرارة الواحدة. وقد دلت هذه الآلات بطريقة ظاهرة على أن حرارة المخ ترتفع أثناء التفكير، وهذا الارتفاع لا يمكن أن يأتي إلا بورود كمية من الدم إلى المخ واحتراق بعض المواد الغذائية التي يحتويها أو من المدخرة في المخ شأن كل عضو في حالة العمل

يؤيد هذا أيضاً ازدياد كمية المواد الفوسفاتية في البول لدى الأشخاص الذين يزاولون الأعمال العقلية المتواصلة كما يدل على ذلك التحليل الكيميائي، وهي تنتج من احتراق المواد الغذائية الفوسفورية المدخرة في المخ مثل الليسيتين أو التي يوردها الدم إلى ذلك العضو

ويؤيد هذا أيضاً ما هو معروف للجميع من أن الطفل يكون عند ولادته عديم التفكير ثم تأخذ قواه العقلية في النمو بنمو مخه مع باقي جسمه، وأن كثيراً ما تضعف هذه القوى في الشيوخ حينما ييبس المخ وتتصلب شرايينه ويذهب فريسة كريات الدم البيضاء المفترسة، أو حينما يتناول الإنسان كمية من الخمر أو يصاب بحمى شديدة أو بأي مرض يؤثر في المخ. فلاشك في أن التفكير إنما هو وظيفة المخ وأن مصدره الوحيد الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية شأنه شأن باقي وظائف الأعضاء الأخرى

وبالجملة فإن ناموس بقاء الطاقة وعدم تلاشيها ينطبق على الكائنات الحية ومنها الإنسان وانطباقه على الجمادات

النتيجة

فمن أية ناحية نظرنا إلى الموضوع نجد أنه لا يوجد أي فرق جوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات كما قلنا في ختام المقال الأخير، وهذا يدل دلالة قاطعة على وحدتهما

ولا يسعني إلا أن أختم هذا البحث بالعبارة التي ختم بها أستاذي المأسوف عليه فريديك هوسيه أستاذ علم البيولوجيا بجامعة باريس (السوربون) محاضراته في هذا الموضوع حيث قال: (إذن فكل ما في الطبيعة حي، أو ليس فيها حي) ، (يقصد أنه لا يوجد أي فرق بين الكائنات الحية وبين باقي ما في الطبيعة من أجسام أخرى معدنية أو جمادات

وحتى الأخلاق فقد تناولها العلم وأثبت أنها ظاهرة طبيعية تطرأ على الحيوانات الاجتماعية كالنمل والإنسان نتيجة لازمة لحياة أفرادها جماعة، وقد أصبحت - أي الأخلاق - غريزة

ص: 68

متأصلة في النمل والنحل، وهي غريزة في دور التكوين في النوع الإنساني لأنه أحدث من تلك الأنواع كما سنبينه في مقال قادم

وسنبين في المقال الآتي كيف ظهرت الحياة على الأرض بعد أن ثبت لنا نهائياً وقطعياً أنها ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة

نصيف المنقبادي المحامي

دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية

من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)

ص: 69

‌أطفال الشمس

للأستاذ قدري حافظ طوقان

لاحظ العلماء أن هناك شقة واسعة بين المريخ والمشتري وقالوا: من المحتمل أن يكون فيها سيار يدور حول الشمس، وقد حاولوا أن يكشفوه وأن يعرفوا شيئاً عنه عن طريق الرصد فلم يوفقوا إلى ذلك. وفي بداية القرن التاسع عشر للميلاد كشف بعض الفلكيين أجراماً صغيرة أطلقوا عليها (النجيمات) أو (الكويكبات) عرفوا منها ما يزيد على الألفين، وقد أطلقنا عليها (أطفال الشمس) لأنها صغيرة جداً بالنسبة للسيارات. وقد ظن كثيرون أن هذه الكويكبات دليل الخلل والفوضى في النظام الشمسي، وأن السيارات ستتقلص وتصبح صغيرة يجري عليها ما يجري على تلك الكويكبات التي بدورها ستؤول إلى شهب ونيازك، وعلى هذا قالوا: إن بداية الكون في الدم ونهايته في الشهب والنيازك

ولسنا بحاجة إلى القول بأن هذه الآراء لا تستند إلى علم أو دراسة بل هي مجرد تخمين لا أكثر، وقد اثبت البحث العلمي بطلانها وعدم صحتها، وتحقق لدى الفلكيين والطبيعيين أن لا خلل ولا فوضى في الكون، وأن ما يسيطر على أصغر موجوداته يسيطر على أكبرها، وأن الإنسان كلما تقدم في وسائل الرصد وتفتحت أمامه المغلقات تجلى له أن الكون بأجزائه المختلفة المتعددة لا يتعدى دائرة من القوانين والنواميس لا يتطرق إليها خلل أو فوضى! وأن ما يظهر للإنسان شذوذاً دليل على أنه لا يزال عند عتبة اليقظة العقلية، وقد عجز عن إدراك كنه هذا الشذوذ وحقيقته

إن من يحاول الوقوف على عجائب الكون ويسعى لتفهم ما يجري فيه من مدهشات وغرائب ويعمل على الإحاطة بالقوى الطبيعية المتحكمة فيه يتبّين له أن ما ظنه شذوذاً وفوضى هو في الواقع اطّرادٌ ونظام. . .

والآن. . . ما هي هذه الأطفال؟. . . وما خصائصها؟. . . وما مقامها في النظام الشمسي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه بإيجاز

تسير هذه الكويكبات أو الأطفال حول الشمس في نفس الاتجاه الذي تسير به الكواكب السيارة، وقد حسب العلماء سعة أفلاكها وأقطارها، ووقفوا على كثير من خصائصها فوجدوا أن أكبرها (سيرس) وقطره لا يزيد على (480) ميلاً، ويليه (بالاس) الذي يبلغ

ص: 70

قطره (306) من الأميال، ثم (فِسْتا) ويقدر قطره بِ (241) ميلاً. وهناك من الكويكبات ما لا تزيد أقطارها على ميلين، ويتراوح زمن دورانها حول الشمس بين 1. 76 و 13. 7 من السنين، أي أن طول السنة عليها يختلف؛ فبينما سنة أقرب كويكب (سيرس) تعدل 1. 76 سنة من سنينا نجد أن سنة أبعدها (هيدالاكو) تعدل 13. 7 من السنوات

أما أيامها فقصيرة جداً حسب الفلكيون أطوالها فوجدوا أن يوم (إيرس) لا يتجاوز ست ساعات و 12 دقيقة، ويوم (أونوميا) لا يزيد على ثلاث ساعات ودقيقتين، ويوم (سيرمنا) يبلغ تسع ساعات وأربعين دقيقة. وهناك مجموعة من ستة كويكبات تسير وتتحرك بطريقة غريبة بحيث تكوّن مع الشمس والمشتري مثلثاً متساوي الأضلاع. والكويكبات صغيرة جداً حسب الرياضيون أوزانها كلها (المعروف منها) فتبيّن لهم أن الوزن الكلي لا يزيد على جزء واحد من ألف جزء من وزن الأرض. وتدل الحسابات وحركات الكواكب في أفلاكها أنه لا يمكن أن يزيد المجموع الكلي للكويكبات - ما كشف منها وما لم يكشف - على جزء واحد من خمسمائة جزء من وزن الأرض؛ ولو كان الوزن أكثر من ذلك لحدث اضطراب في فلك المريخ ولما التزم طريقه الحالية ولأقصى عنها بعض الإقصاء

ولقد كشف العالم الألماني (وِتْ) في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد كويكباً صغيراً اسمه (إيروس) يقع فلكه ضمن فلك المريخ وفي بعض الأحيان يتخطاه، ويبلغ قطره خمسة عشر ميلاً ويتم دورته حول الشمس في سنة وتسعة أشهر، طول يومه خمس ساعات وست عشرة دقيقة. وهذا الكويكب يدنوا أحياناً من الأرض حتى يصير على بعد (13840000) ميل، ولقد ساعد هذا القرب الفلكيين على رصده واستطاعوا من ذلك حساب بُعد الشمس عن الأرض وكتلة الأرض بدقة متناهية. واختلف الفلكيون في منشأ هذه الكويكبات فمنهم من ذهب إلى أنها تناثرت من صدام كوكبين، ومنهم من قال بأن سياراً حلّ به القضاء أي التمزيق والتناثر عندما اقترب قليلاً من المشتري، والحقيقة أن العلم لم يصل في هذه النقطة إلى درجة يرضى عنها العلماء ويطمئنون إليها. وقد تبدو هذه الكويكبات لا أهمية لها في علم الفلك، فهي لا أكثر من أجسام صغيرة جداً تسير حول الشمس، ولكنها في الواقع ذات قيمة وشأن في بحوث الفلك الرياضي، فمن حركاتها واقتراب بعضها من الأرض ومن دراسة تأثير المريخ على البعض الآخر من هذه جميعاً وغيرها تتكون لدى

ص: 71

الفلكي مادة يمكن بها تحقيق بعض القياسات المتعلقة بالأرض والشمس كما تتكون لدى الرياضي مسائل طريفة في حلها شحذ للعقول ومتعة للأذهان.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 72

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

الموسيقى روح ومعان

للأستاذ عزيز احمد فهمي

- أهنئكِ فقد أتقنتِ القهوة اليوم. أين أخوك؟

- ألا تسمعه؟ هو هذا الذي يعزف على العود في الحجرة المجاورة. تعال. . . تعال اسمع تلميذك النابغة

- لعله الدرس الأول هذا الذي يراجعه

- لا. إنه قطع شوطاً بعيداً في دراسة الموسيقى. إنه يتردد على المعهد الملكي منذ سنتين. وهذا الذي يعزفه لحن صاغه هو

- أعوذ بالله!

- مم؟

- من هذا الخبط الذي يخبطه. أي معنى له؟ وأي إحساس فيه؟

- ليس هذا شأني، وإن كان هذا هو رأيي

- نِاديه!

- قيل لي إنك برمت بلحني يا أستاذ، فهل هذا حق أو هي الماكرة تريد أن توقع بيني وبينك الشر؟ على أني أريد أن أحذرك منها فقد ربتها أمها تربية غربية فهي لا تتذوق فننا الشرقي؛ فإذا كانت قد نقدت أمامك موسيقاي فإنما ذلك لأنها أعجمية الحس

- ما شاء الله! منذ متى وأنت تقسم الناس إلى عرب الحس وعجم الحس؟

- منذ دخلت معهد الموسيقى وعلمت أن للشرق موسيقى ينقسم المقام فيها إلى أربعة أرباع بينما لا ينقسم المقام في الموسيقى الغربية إلا إلى نصفين

- أعظم بهذا علماً. أفما كنت تدريه من قبل وأنت تعلم أن في حروفنا العربية (قافاً) و (عيناً) و (حاء) عدمها الغربيون وأن عندنا ستة عشر بحراً من بحور الشعر لها مجزوءات لا تصل إلى عددها أوزان الشعر الغربي. . .

ص: 73

- ولكن هذين الفرقين لا صلة لهما بالحس، فالشعر فيه من المعاني والأخيلة والأحاسيس ما يصلح للترجمة، فإذا ترجم إلى لغة غير العربية راع أهلها جماله وليس لهم بعد ذلك شأن بقافاته وحاءاته ولا أوزانه وضروبه. . .

- وهل تحسب الموسيقى أعصى على العقل والحس من الشعر؟ إنها أسلس منه قياداً لأنها تتجرد مما يغل الشعر من الألفاظ والكلمات، فهي لغة النفس التي يفهمها الناس على اختلاف ألسنتهم. . هي اللسان الذي لم يتبلبل. . والذي لا يحتاج إلى ترجمة

- إذن فلماذا لا يطرب الغربيون لموسيقانا؟

- أو لا تطرب أنت لموسيقاهم؟ أو لا يستسيغ المصريون والشرقيون هذه الألحان الغربية التي يدسها بعض الملحنين المصريين في ألحانهم؟

- بلى!

- أتعرف لماذا؟ لأن هذه الموسيقى الغربية موسيقى. . . وعليك بعد ذلك أن تسأل نفسك ومعهدك لماذا لا يستسيغ الغربيون موسيقانا. . . فإذا تعجلت الجواب فهو عندي.

- هاته

- لأن موسيقانا ليست موسيقى. . .

- كلها؟

- لا. أستغفر الله فإن عندنا موسيقى لن تعرفها أنت وأضرابك الصغار إلا يوم يكف المعهد عن الموسيقى.

- وما هي هذه الموسيقى. . . أظن أمك تناديك يا أختاه. . .

- لماذا كذبت عليها وأخرجتها. . .

- لأني بدأت أشعر أنك ستهاجمني هجوماً عنيفاً. وأنا لا أطيق أن أتردى فريسة بين مخالب منطقك أمام ابتسامتها الساخرة الشامتة. والآن هاهي ذي قد خرجت فماذا تريد أن تقول؟

- أريد الآن أن تجيب عما سأوجهه إليك من الأسئلة.

- سل ما شئت.

- ما هو التعريف الذي اتفقنا على أن نحدد به معنى الأدب؟

ص: 74

- لقد قلنا إن الأدب هو الفن الذي يتجه إلى الحياة بما فيها من مناظر تراها العين، وأصوات تسمعها الأذن. . . واحساسات تشعر بها النفس، وأفكار يدركها العقل

- حسن. وما الذي يجب أن يتوفر في الأديب تبعاً لهذا؟

- قلنا إن الأديب لا بد أن يعيش مفتوح العين ليرى ما يحيط به، مرهف الأذن ليسمع ما يتعالى حوله من أصوات وما يتخافت، مرقرق النفس ليشعر بما يرفرف حوله من البشائر والنذر وبما ينتاب غيره من انفعالات، متحفز العقل ليتلقط ما ينبت حوله من أفكار وليتخطف ما يتطاير في جوه من آراء، فيعبدها نهجاً، وينظمها مسلكا، ويزيد عليها إذا شاء، وينتقص منها إذا أراد، ويبدل منها ويغير ما يحب

- حسن. وما هي الأدوات التي تلزم للأديب في عمله؟

- القلم، والمداد، والورق. فهو ينقش بالقلم المسقي مداداً على الورق حروفاً وكلمات يراعي في كتابتها صحة الهجاء، وصحة التركيب، وجمال التعبير، ثم بلاغته آخر الأمر

- أو لا يمكنك أن تتصوره يعمل بغير هذه الأدوات؟

- أما القلم والمداد والورق فيستطيع الأديب أن يستغني عنها. فقد عرف التاريخ كثيرين من الشعراء الأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون. وأما صحة التركيب وجماله وبلاغته فكلها مما تهدي إليه الإنسان سليقته وفطرته

- فإذا لم يكن الإنسان مفطوراً على الأدب. . . أفما من سبيل لترويضه عليه؟

- قد تكون هناك سبيل، هي التربية. فكثرة القراءة تربي فيه الذوق، وإغراؤه بالنقد يمكنه من تبين المحاسن والكشف عن المساوئ، وإرشاده إلى ما في الحياة من موضوعات صالحة قد يحمله على معالجة بعضها. . . على أنه مهما تعلم ومهما تدرب فإنه لن يثمر كما يثمر الأديب الموهوب أدباً ناضجاً شهياً

- فإذا اكتفى (الأديب (بتعلم القراءة والكتابة، وتاريخ الحروف وتطور أشكالها فماذا يكون؟

- لن يكون أكثر من خطاط!

- يكفيني هذا منك. وعليك منذ اليوم أن تقلع عن الموسيقى فلست منها إلا كالخطاط من الأدب

- لا يا أستاذ. إني أدرس الموسيقى في المعهد الملكي منذ سنتين، وأنا أحفظ عشرين

ص: 75

بشرفاً، وعشرة موشحات، وخمسة أدوار، وقد بدأت فلحنت هذه القطعة التي سمعتها اليوم

- ليتك لم تفعل. فأنت اليوم إذ لحنت هذه القطعة كنت كشيخ الكتاب الذي حفظ القرآن ولم يفهمه، والذي حفظ المعلقات السبع ولم يقرأ لها شرحاً ولا تفسيرا، والذي يكتب فلا يخطئ في الهجاء. . . ثم سولت له نفسه بعد ذلك أن يكون شاعراً فصنع كلاماً حسبه شعراً وما هو بالشعر. . . أسمع يا بني. . . إذا كنت تريد أن تلحن فاختبر نفسك أول الأمر وانظر: هل هيأك الله للتلحين؟ فإذا لم يكن قد هيأك له فاعدل عنه يا بني واكتف بالعزف

- ولكني أحب التلحين

- إذن لحن في السر، ولا تطلع أحداً على بليتك

- لا حول ولا قوة إلا بالله. . . ولكن كيف أستطيع أن أعزف إذا كان الله قد هيأني للتلحين أو أنه قد ضن علي بما يؤهلني له؟

- كم هي الحواس التي أنعم الله بها على الإنسان؟

- خمس. . .

- لنفرض هذا جدلاً

- وهل اختلفوا في عدد الحواس أيضاً؟

- وما أشده من خلاف. . . الدنيا تتقدم يا بني وأنتم في معهدكم لا تزالون آخذين بخناق ذلك اليوم الذي أغرى فيه مديركم بالعزف على القانون. . . هم يقولون اليوم يا بني إن للإنسان حاسة سادسة اسمها الحاسة العامة، ويقولون إن له حاسة سابعة هي الحاسة الدينية، ويقولون إن له حاسة ثامنة هي الحاسة الفنية؛ ولكني أقعد بك عند الحواس الخمس فلست أريد أن أتعب نفسي كثيراً معك. . . والآن لعلك تعرف أن كل حاسة من الحواس الخمس تشغل المخ بما يؤثر فيها إذ تنقل إليه ما انتابها من الأثر. . .

- أعلم هذا فقد درسته في علم النفس. . .

- في المدرسة لا في المعهد طبعاً. . . أريدك الآن أن تتخيل نفسك وقد وقفت في ميدان إبراهيم باشا خمس دقائق. . . فما الذي ترى أن نفسك أو (مخك) قد اشتغل به. . .؟

- تمثال إبراهيم باشا. المتاجر الكثيرة. المشارب العامة والجالسون فيها. المارون في الطريق وأخصهم الحسان. السيارات الرشيقة. الدواب المتعبة

ص: 76

- كفى كفى. . . لو أنهم سألوك هذا السؤال حين أردت أن تدخل المعهد فأجبت هذه الإجابة، وكانوا يعلمون، إذن لوفروا عليك جهدك ولأنبأوك بأنك فاشل في الموسيقى، فاشل، فاشل. . .

- عجباً. . . وما دخل ميدان إبراهيم باشا وما فيه من مركبات ومتاجر. . . في المعهد والموسيقى. . .

- أسمع يا بني. . . لو أنك راجعت ما سردته على مما يشغلك وأنت في ميدان إبراهيم باشا لرأيت أنك لم تحص غير منظورات تراها العين، وأنك حتى حين أحصيت السيارات وصفتها بأنها رشيقة وهو وصف فيما أظن ينصب على شكلها وحركتها ولا ينتبه إلى صوتها ولا يلتفت إليه. . . وهذا يدل على أن نفسك تطل على الحياة من عينيك لا من أذنيك. . . والموسيقى يا بني يستطيع أن يعمى وأن ينتج، ولكنه لا يقوى على الإنتاج إذا صمت أذناه

- وما رأيك في بتهوفن الذي كان يلحن وهو أصم؟

- إن الصمم لم يدركه إلا على كبر بعد أن اختزن في نفسه من صور الأصوات وخيالاتها ما جعله بعد صممه مادة لفنه؛ ولو أنه ولد وهو أصم لما استطاع أن يتكلم فما بالك بالموسيقى والتلحين. . . هل سمعت أبكم يغني. . . أو هل رأيت أعمى يرسم؟ الفنون يا بني ليست شيئاً غير تركيب (الخامات) التي تحصل عليها النفس وتأليفها تأليفاً منسقاً

- وما هي هذه (الخامات) التي تحصل عليها النفس؟

- هي الأحاسيس والانفعالات التي توصلها الحواس إلى المخ. هذه هي المنظورات، والمسموعات، والمشمومات، والمذوقات، والملموسات، والمدركات. . . تستقر في النفس مختلف عددها، وصاحب الفن يؤلف منها فنه. . . فإذا كانت نفسه تتلقى بطبعها منظورات أكثر من المسموعات فهو أصلح للرسم منه للموسيقى؛ وإذا كانت نفسه ترحب بالمدركات المعنوية المجردة أكثر مما ترحب بغيرها فهو أصلح للفلسفة والأدب العقلي؛ وإذا كان الله قد منحه قوة في أنفه فهو يشم ويميز الروائح أكثر من غيره كان أصلح الناس لإنتاج الروائح العطرية وتأليفها، وأظنك لا تنكر على أصحاب الروائح الجميلة أنهم كأصحاب الألحان الجميلة، فهم الذين يلهمهم ذوقهم إضافة البنفسج بنسبة خاصة، إلى الليمون بنسبة

ص: 77

خاصة، إلى الورد بنسبة خاصة فيخرجون بعد ذلك رائحة تطيب للغواني وعشاقهن

- ما هذا؟ لقد فتحت ليّ باباً لم أكن أحسب أنه مسلك إلى الفن. . .

- ولا مسلك غيره يا بني. . . ولا يمكنك أن تخطو في سبيل الفن خطوة واحدة حتى تعبر هذا المدخل. . .

- فإذا عبرناه وأردنا أن نخطو في سبيل الموسيقى الخطوة الأولى فكيف نخطوها؟

- كما خطونا في دراسة الأدب الخطوة الأولى. فكل صوت في الموسيقى يشبه الحرف في الكلام، والنغمة تعادل الكلمة، ومجموعة النغمات تعادل العبارة أو الجملة وهي التي تسمونها في معهدكم (فرازا) وهي كلمة إيطالية معناها (عبارة) ولكنكم قد لا تعلمون هذا. . . ومجموعة العبارات الموسيقية هذه يتألف منها اللحن الذي نسمي ضريبه في الأدب موضوعاً، وفي الرسم صورة. وموضوع الأدب تقرأه فتخرج منه إما بفكرة وإما بعاطفة وإما بشيء من هذه الأشياء التي اتفقنا على أن الأدب يعالجها. واللحن، أو الموضوع الموسيقي، إذا لم يؤد ما يؤديه الموضوع الأدبي لم يكن شيئاً. وأنت إذا لم تستطع أن تعبر بلحنك عن عاطفة أو فكرة أو صورة صوتية لم تكن موسيقياً، وكان من الخير لك - كما كررت عليك - أن تقلع عن الموسيقى

- لم أفهم شيئاً

- لأنك من تلاميذ معهد الموسيقى. اسمع مرة أخرى. في الطبيعة موضوعات تصلح مادة للأدب، وفيها موضوعات تصلح مادة للرقص (وهي الموضوعات الحركية) وفيها موضوعات تصلح مادة للموسيقى. . وهكذا. . . أما الموضوعات التي تصلح للأدب فقد تعرفناها، وأما الموضوعات التي تصلح للرسم فلعلك تعرف أنها هذه الأشكال وهذه الألوان التي تراها العيون فينقلها الرسام الجامد نقلاً أميناً، ويلفقها الرسام المهندس تلفيقاً جديداً، ويؤلف منها الرسام ذو الروح، والفكرة، والعاطفة موضوعاً ذا أشكال وألوان يعبر بها عن فكرته وعاطفته. . . والأمر في الموسيقى لا يختلف عن هذا. . . فأصلها مأخوذ من أصوات الطبيعة، فأهون الموسيقيين هو من يقلد صوت البلبل، وحفيف الشجر، واصطخاب الموج، وقصف الرعد، وهزيم الريح. . . كل صوت على حدة. وأشد منه تمكناً من الفن هو الذي يجمع هذه الأصوات في موضوع صوتي أو في لحن كما تسميه.

ص: 78

وهناك من الموسيقيين ملحنون اجتماعيون يصفون بألحانهم بيئات الناس المختلفة وطوائفهم المتباينة، ومن الموسيقيين مزخرفون نقاشون يرصون الأنغام بعضها إلى بعض في أسلوب هندسي يلذ للأذن فيطرب النفس ولكنه لا يحمل إليها معنى من المعاني، وليس يشبه هؤلاء أحد في الأدباء إلا إذا كان هناك أدباء يرصون الألفاظ رصاً جميلاً لا يهمهم بعده ما يحملون هذه الألفاظ والجمل من المعاني والاهتزازات النفسية. . . وإنما لهؤلاء أشباه في الرسامين الذين ينظمون الخطوط مربعات ومخمسات ومسدسات ودوائر وقطاعات في نظام جميل ترتاح له العين ومن ورائها ترتاح النفس وإن لم يكن لرسومهم معنى. فأي واحد من هؤلاء أنت؟

- أنا لم أسمع بهذا من قبل. . . وأرجو أن توضحه لي بأمثلة

- لا بأس. هل سمعت في معهد الموسيقى بسيد درويش؟

- نعم وأحفظ له دور (أنا هويت)

- ولا شيء غير (أنا هويت). إنهم يخفون عنكم سيد درويش لأنهم لو أظهروكم عليه لنفرتم منهم. . . ولكني لا أظن ذلك أيضاً. . . فأغلب الظن أنهم لا يعرفونه. . . كما أنك لا تعرفه إلا كما قد تعرف محمد عثمان. فأدوار سيد درويش على ما تحررت من قيود الصناعة فإنها لا تزال مقيدة بنهج (الدور)؛ فإذا أردت أن تعرف ذلك الرجل الذي هو المثل الكامل للموسيقي المصري فعليك أن تسمع مسرحياته. ففي هذه المسرحيات ترى أغلب هذه الألوان الموسيقية التي حدثتك عنها، ففيها ألحان عرض فيها سيد درويش العواطف والنزعات النفسية المختلفة فكانت هذه العواطف موضوعات ألحانه؛ وفيها ألحان كانت موضوعاتها الطبيعية الجامدة فصور فيها الرياض والجنان، والصحاري والبحار؛ وفيها أيضاً ألحان كانت موضوعاتها البيئات الاجتماعية المختلفة للمصريين وغير المصريين. وأما زخارفه الموسيقية فتلمسها في موشحاته وأدواره على الرغم من أنه لم يستطع أن يكبت إذ صاغها روحه فخرج بها عن تقاليدها القديمة ونفث فيها من الحياة ما قربها من الموسيقى التمثيلية وإن استبقى لها اتجاهها الزخرفي الهندسي. وذلك لأنه كان موسيقياً له وراء الأذن الحساسة المرهفة نفسٌ حساسة مرهفة، وعقل ذكي حاد

- إذن فما الذي تريدني أن اصنعه حتى أكون موسيقياً خالقاً ما دمت أشعر في نفسي الميل

ص: 79

إلى الموسيقى؟

- أما أنت فإني يائس منك. ولكن الذي يريد أن يكون موسيقياً مبتدعاً فعليه أول الأمر أن يسمع الدنيا، ثم عليه أن يشعر بها، ثم عليه بعد ذلك أن يحاول التعبير عن شعوره بالموسيقى؛ فإذا اهتم بنقد غيره ممن سبقوه إلى التعبير عن أنفسهم بها فإنه قد يبدأ إنتاجه الفني مقلداً ثم لا يلبث حتى يتميز بطابع خاص به في موسيقاه

- وهل للملحن أيضاً طابع خاص كالأديب؟

- وهل في الدنيا صاحب فن خلاق وليس له طابع خاص به إلا في مصر حيث يباح السطو والترقيع؟!

- الآن كأني بأهل المعهد لا يعلموننا شيئاً. . . فهم لا ينهجون في تربيتنا الموسيقية هذا النهج. . .

- أستغفر الله. إنكم تتعلمون العزف فيما أظن كما يتعلمون الكتابة والقراءة في الكتاتيب. . . ويكفي معهدكم فخراً أن به آلات كثيرة مختلفة الأشكال متباينة الأصوات. . . وهو في فخره بهذا كمدرسة الفنون الجميلة العليا عندما تفخر بأن فيها مجموعة كبيرة من ألوان الماء، وألوان الزيت، وألوان الرصاص. . . دعنا الآن من هذا واتل عليّ موضوع الإنشاء الذي اتفقنا على أن نكتبه

- أرجو أن تسمح لي بسؤال قبل أن أقرأ الموضوع

- سل ما شئت

- هب أنك مدرس في معهد الموسيقى وأنك أردت أن تضع أسئلة امتحان الدبلوم للطلبة فكيف كنت تضعها. .؟

- كما أضع لك أسئلة الأدب كل عام. فليست الموسيقى إلا أدب الأذن. . .

- أرجو أن تملي عليّ بعض هذه الأسئلة لأحاول الإجابة عنها. . .

- لا بأس. . . أكتب:

1 -

صف باللحن قرية مصرية عند الفجر، أو حبيبين التقيا بعد غيبة طويلة

2 -

صف باللحن جماعة من الفلاحين في الحقل

3 -

ضع لحناً يصور أسرة تودع فتاها الذاهب إلى الحرب

ص: 80

4 -

أنقد موشحة (منيتي عز اصطباري) لسيد درويش ووازن بينها وبين موشحة (طاف محبوبي) لكامل الخلعي

5 -

أذكر تاريخ حياة موسيقي مصري، واذكر العوامل الاجتماعية والطبيعية والدراسية والاقتصادية والعاطفية التي أثرت في موسيقاه، موضحاً إجابتك مع الشرح بالأمثلة

6 -

ما الفرق بين الموسيقى التمثيلية والموسيقى الزخرفية، ومن من الموسيقيين المصريين الأحياء تراه ينهج النهج الأول ومن منهم تراه ينهج النهج الثاني؟

7 -

سمعت لأول مرة دور (إمتي الهوى ييجي سوا) وسمعت لأول مرة مونولوج (يا غائباً عن عيوني) فأدركت أن الأول من تلحين زكريا أحمد، وأن الثاني من تلحين محمد القصبجي فكيف استطعت الوصول إلى هذا الحكم؟

8 -

ما هي العيوب التي تلاحظها في موسيقى عبد الوهاب أنقد أغنيته المعروفة (بلبل حيران) مع الإشارة إلى أصولها في الموسيقى الشرقية والغربية

9 -

وازن بين عصري عبده الحامولي وسيد درويش مبيناً أثر كل عصر من هذين العصرين في موسيقى كل من هذين الملحنين

10 -

ما هي الميزات التي كان يمتاز بها سلامة حجازي من حيث الصوت ومن حيث الفن، وما هي الميزات التي يمتاز بها محمود صبح من حيث الفن فقط؟

. . . وأخيراً فإنك تستطيع يا بني أن تضع بعد هذه الأسئلة وأشباهها أسئلة مما يدور حول الصناعة والآلات. . . وأنا أجهل هذا ولكنهم يعرفونه عندكم في المعهد. . .

- وهم في المعهد لا يعرفون شيئاً مما تقول. . .

- الله وحده يعلم أينا أدرى بالموسيقى!

عزيز أحمد فهمي

خريج كلية الآداب ومعهد التربية العالي

ص: 81

‌السيدة ملك.

. .

من الوجهة الفنية

للأستاذ محمد السيد المويلحي

أعتقد أن أعظم اللغات ذيوعاً وقوة لا تستطيع أن تكون لغة عالمية يفهمها الجميع، ويتخاطب بها الجميع. ولكن الموسيقى: ملك اللغة الصامتة السامقة التي تؤثر في النفوس جميعاً، وتأسر الأرواح جميعاً، وتربط بين النفوس برباط قوي مكين، هي وحدها ملك اللغة (العالمية) التي تترجم الخوالج المختلفة، والاحساسات المتنافرة. . .

على أن أسماها وأبقاها وأدناها إلى القلب والروح ما كان صادراً عن قلب وروح. ولن تجد قلباً وروحاً يؤثران في النفس، ويأسران الحس كقلب (ملك) وروحها التي وهبتها للفن خالصة

موسيقية عظيمة قديرة، تعيش عيشة مثالية، هي جماع ما في الإنسانية من مثل عليا. أقول:(موسيقية). ولا أقول: (مطربة). لأنها انفردت - وحدها - من بين جميع مطرباتنا بدراسة واسعة، وبثقافة علمية مكنتها من إتقان اللغات الفرنسية، والإنجليزية، والعربية، وبثقافة موسيقية أتاحت لها أن تلحن جميع ما تغنيه بنفسها تلحيناً إن دل على شيء فعلى قدرة قادرة، وعلى مكنة ودراسة عميقة هيأت لها هذا التوفيق، وهذا اللون الذي يزجي إلى النفوس أرفع ما في الفن من جمال ونبل!

أصغر مطرباتنا سناً، وأعظمهن إلماماً بعلم الموسيقى، وأقدرهن على العزف بالعود عزفاً يضعها في الصف الأول بين عازفينا الكبار؛ وليس ثمة من يقرب منها في العزف بين المطربات إلا نادرة، وأم كلثوم، وهما الوحيدتان اللتان تلمان بالعزف. . .

يتركيب صوتها من خمسة عشر مقاماً وهو من نوع: (الكونتر ألتو، والتينور، والميزوسوبورانو). وهذه المطربة الوحيدة (بين النساء) في التاريخين الحديث والقديم التي يمتاز (ديوانها) الأول بأنه (تينور).

صوت غني بذبذباته (نريولاته) حتى ليهيئ للسامع حين شدوه أن هناك أكثر من صوت واحد يغرد، وهو يتمتع (بنفس) طويل يمكنه من الاستمرار في الغناء أكثر من دقيقة دون أن ينقطع للزفير أو الشهيق، ولولا أن صاحبته تضم فكيها عند الغناء لأهلكت من يسمعها،

ص: 82

ولعل هذا من رحمة الله بالناس

خرجت على الناس بلون جديد من التلحين الشرقي العربي البحت الذي تجري السلامة في أعطافه ولم يخضع لشهوة السرقة والمزج باللون الغربي، فعرف كيف يملك القلوب بسحره الآسر، وأثره الساحر، وعرف كيف يلجم هؤلاء الذين يرمون الموسيقى العربية بالعقم والضعف وانعدام التصوير والتلوين وعدم إبراز العواطف الإنسانية في إهابها الحق الذي يترجمها الترجمة الصادقة

قلنا إنها تغني وبروحها، ولهذا سميت (مطربة العواطف)؛ وليس معنى هذا أنها تعتمد كغيرها على الآهات والأنات واللون المسترخي البغيض الذي يشيع تخنثاً وشهوة، والذي لا يعتمد إلا على استغلال أحط الغرائز في جمهرة السامعين

ولو أتيح للقارئ أن يسمعها مرة لسمع شعراً قوي الأسلوب سامي الخيال، رفيع الغاية، ولسمع تلحيناً شرقياً عربياً يأخذ بمجامع القلوب. ولعل (ملك) أول من غنى شعراء حماسياً يلهب الجوانح ويدفع دفعاً إلى التضحية. فقد أخرجت للناس سنة 1928 قطعتها الخالدة:

بني مصر صونوا حياة الوطن

فقد حاربتها عوادي الفتن

تعتد بنفسها اعتداداً يبلغ حد الكبرياء، وتسمح للغضب أن يستحوذ عليها ليجعل منها (عصيبة لا تطاق): تمتاز بثروة فنية عظيمة، فهي تحفظ جميع قصائد المرحوم الشيخ أبي العلاء، وجميع أدوار المرحوم الشيخ سيد درويش، وعدداً كبيراً من الموشحات القديمة الغنية بالنغمات المختلفة و (بالضروب) المتباينة، وبمجموعة عظيمة من أدوار: الحمولي، ومحمد عثمان، والمسلوب الخ

أكبر الظن أن أغلب القراء لا يعرفون أن (ملك) حاصلة على (البكلوريا) وأنها تقدمت عام 1931 لتجتاز امتحان (الليسانس) ولولا زواجها وقتئذ من أحد قضاة الدرجة الأولى لكانت الآن (الأستاذة ملك) ولكنها فضلت حياة البيت، وحياة الزوجية، وكانت المثل الأعلى للزوجة الرحيمة الوفية، وكان بيتها (جنة) ولكن (آدم) لا يحب أن يسكن الجنان. . . فخرج منها بعد خمس سنوات مضت كالسراب الخاطف، ورجعت هي إلى فنها لتعول نفسها بصوتها، بصوتها، بصوتها، وأكررها ألف مرة حتى يعلم الناس جميعاً كيف ينحنون أمام قدس الشرف الرفيع الذي لا يعجب بعض الناس في هذا الزمن فيحاربونه بأحط الوسائل،

ص: 83

ثم بعد هذا يرفعون رؤوسهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ما داموا قد انتقموا لشهواتهم من أقوات الشريفات الطاهرات اللاتي يعتقدن أن الرزق بيد الله وحده. . .!

رب قارئ يقول وكيف لم تسع إليها محطة الإذاعة وهي التي تقدم من لا تجرؤ على أن تكون تابعة لها في إطار المطربة الكبيرة، والجواب عند المحطة نفسها وأظن هذا يكفي لكشف الحقيقة للقارئ. . .!

قد نعجب إذا علمنا أنها ابتدأت حياتها الفنية وهي بنت عشر سنوات (عند نعيمة المصرية في كازينو الهمبرا) بمبلغ عشرين جنيهاً في الشهر فلم تمض سنوات ثلاث حتى كانت تشتغل في (مونت كارلو) والبوسفور (ماتنيه وسواريه) بمبلغ ثلثمائة جنيه في الشهر. . .

سنراها قريباً على الشاشة ولعلها تنجح في التمثيل السينمي كما نجحت في الموسيقى، وأظنها ناجحة

محمد السيد المويلحي

ص: 84

‌البريد الأدبي

حول إنسانية الرسول

قرأت ما كتبه الأستاذ محمد أحمد الغمراوي تحت هذا العنوان في مجلة الرسالة الغراء عدد (300) فعجبت لأنه ينسب إلي خطأ أعجب من خطأ الأستاذ زكي مبارك فيما رددت به عليه في العدد 298 وهذا لأني بحثت فيما أخذه عليّ فلم أجد فيه ما يصح أن يكون خطأ، أو أن يشغل وقته الثمين بالرد عليه. ولقد قرأ كلمتي كثير من علماء الأزهر وطلابه، فسروا بها سروراً عظيماً، وبلغ من سرور بعضهم أن سعى إليّ فأخبرني بأنه كان في نفسه شيء من مقال معروف لي، فذهبت هذه الكلمة بما في نفسه، وأظهر لي من السرور بكلمتي ما أظهر

أما الذي أخذه الأستاذ الغمراوي عليّ فهو تكلف لم يكن هناك داع إليه، لأني إذا كنت أطلقت في أمور الدنيا التي قلت إنه لم يكن للوحي شأن بها، فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً حين قال:(أنتم أعلم بأمور دنياكم) ولا شيء في هذا الإطلاق، لأن كل شخص درس دين الإسلام، يعرف أن المراد بأمور الدنيا في ذلك هي ما يعرفه الناس بالتجربة من نحو حرث وزرع وسقي وصناعة وتجارة، وما إلى ذلك من كل ما لم يأت الدين ليعلمهم إياه. وأما غير ذلك من أمور الدنيا مما يدخل في قسم المعاملات، كالبيع والنكاح والطلاق، فهو من أمور الدين، كما هو من أمور الدنيا، وشأنه في ذلك شأن العبادات سواء بسواء، وقد عنيت كتب الفقه الإسلامي ببحث القسمين حتى صارا في نظر المسلمين جميعاً كشيء واحد، ولهذا فهم كل من سر بكلمتي أن القسم الثاني من أمور الدنيا داخل في أمور الدين التي ذكرت اختلاف العلماء في جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكذلك وجوب تنبيهه صلى الله عليه وسلم بالوحي إذا أخطأ أمر مقرر في كتب الأصول، وهي في متناول أيدي الناس والسلام ورحمة الله على الأستاذ.

عبد المتعال الصعيدي

للبستي لا لأبي تمام

عزا الأديب الكبير الأستاذ عبد الرحمن شكري في مقالته (أبو تمام شيخ البيان) في الجزء

ص: 85

السابق من (الرسالة) الغراء هذا البيت:

من كل بيت يكاد الميت يفهمه

حسناً ويعبده القرطاس والقلم

إلى أبي تمام (أستاذ كل من قال الشعر بعده) - كما قال المتنبي - والحق أن هذا القول من خير ما يوصف به شعر حبيب. ولكنه ليس له ولم يشتمل عليه ديوانه، وبعض ما عند أبي تمام أو أبي التمام كما يسميه الحسن بن رجاء يكفيه. وهل من الإنصاف أن يعطي العظيم القوي الغني قوت المساكين

عجباً للناس في أرزاقهم

ذاك ظمآن وهذا قد غرق

والبيت الميمي إنما هو للبستي. وقد نسبه إليه نسبة صادقة صديقه الإمام عبد الملك الثعالبي في (اليتيمة) في أول سيرته قال: (أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريفة لطيفة. وقد كان يعجبني من شعره العجيب الصنعة البديع الصيغة قوله:

من كل معنى يكاد الميت يفهمه

حسناً ويعبده القرطاس والقلم

وبعد فما جئنا إلى الأديب الكبير الأستاذ (شكري) ناقدين وإنما أقبلنا مثنين على أدبه العالي وبحثه ومحيين

(القارئ)

مسألة فيها نظر

للدكتور إسماعيل احمد أدهم رأي في سياق دراسته لمطران نشر في المقتطف يتصل بتأثير بعض الأدباء في بعض، وقد عقب عليه الأستاذ عبد الرحمن شكري في العدد الأخير منها، فأرسل الدكتور أدهم إلينا هذه الكلمة تعليقاً على ذلك التعقيب، والمسألة لاتصالها بتاريخ الأدب تحتاج إلى تمحيص ودرس

حضرة الأستاذ صاحب الرسالة

قرأت كلمة الأستاذ عبد الرحمن شكري مدروجة بعدد المقتطف الذي صدر في أول أبريل سنة 1939 تعليقاً على دراستي عن خليل مطران: وإن ما أعلمه من تبحر الأستاذ الشاعر في الأدب يسمح لي بأن أذكره بان الناقد لا يأخذ برأي المنقود أخذاً تاماً، وقد يخالفه في

ص: 86

نفس معتقده ولو مس شخصه، وهذا غير خافٍ عن مثله. وبناء على ذلك فقد كتبت ما كتبت وقد خالفت فيمن خالفت الأساتذة طه حسين والزهاوي وأبو شادي وتوفيق الحكيم وغيرهم في الدراسات التي كتبتها عنهم

ويقيني المستخلص من مطالعاتي أن الأستاذ عبد الرحمن شكري تأثر باتجاهات مطران تأثراً قوياً. وللأستاذ شكري أن يتبرأ من ذلك، ولكن مثل هذا التبرأ لن يغير من استنتاجاتي شيئاً لأنها تقومّت بأسباب دقيقة إن لم أذكرها في ختام دراستي عن مطران حين أعرض لأثر مطران الكبير في الشعر العربي الحديث، فإن لها مكانها في بعض الدراسات الآتية

وأكرر بهذه المناسبة تقديري العميق لأدب الأستاذ شكري وزميليه الفاضلين، وليس لي أي غاية من دراساتي سوى التحقيق من سبل الدرس التحليلي حسب المقدمات التي تجمعت تحت يدي

أما إذا كان الأستاذ شكري يرى نقصاً في هذه المقدمات فله أن يظهره، وعلى كل حال فأنا في انتظار البيان الذي يعدني بنشره والذي فيه بعض ما يخالف ما جاء في البحوث التي نشرتها إلى اليوم من دراساتي عن مطران. وإلى أن ينشر بيانه فأنا على اعتقاد بصحة ما جاء في سلسلة البحوث التي نشرتها

إسماعيل أحمد أدهم

الإسلام والدعاية النازية

أعلن الهر جوبلز وزير الدعاية في الريخ أن خمسة وعشرين ألفاً من الألمان سيعتنقون الإسلام، والمسلمون في أقطار الأرض يغتبطون أن يهتدي إلى دينهم هذا العدد الضخم من أعداء السامية، ولكن إعلان هذا الخبر على لسان وزير الدعاية النازية يشككنا في إيمان هؤلاء الإخوة، ويحملنا على أن نظنهم فرقة من الجيش صدرت إليها الأوامر بالقيام إلى (مهمة حربية) بهذا السلاح وعلى هذه الصورة. وقد علمنا نابوليون وفلبي ولورنس أن اعتناق الإسلام قد يكون في بعض الأحيان أقصر الطرق إلى الغاية الاستعمارية. على أن المسلمين اليوم أنفذ بصيرة وأصح تمييزاً من أن تدخل عليهم هذه الحيل المكشوفة، فهم يعتزون بوطنيتهم كما يعتزون بعقيدتهم، وهم مصممون على أن يدفعوا عن وطنهم كل

ص: 87

دخيل طامع، كما يدفعون عن دينهم كل عابث خادع

حول عباس بن أبي ربيعة

سيدي الأستاذ الزيات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد فلقد قرأت في العدد رقم 300 من (الرسالة) الغراء كلمة الأديب الفاضل درويش الجميل في البريد الأدبي فحمدت له نقده لبعض ما جاء في قصة عياش؛ غير أنه وقف عند رواية أبن هشام في سيرته فحسب

ولو أن الكاتب الأريب ضم أشتات القصة من مظانها - وهي مبثوثة في أضعاف كثير من التاريخ والتفسير - فجمع رواية ابن هشام في سيرته، إلى رواية ابن جرير الطبري في تفسيره، إلى رواية الواحدي في كتابه (أسباب التنزيل)، إلى غيرها. . . لاطمأن إلى ما كتبت، ولأنصف ما جاء في مقالي عن عياش

ولست الآن بسبيل أن أنشر على عيني الأديب الفاضل ما جاء في الروايات المختلفة ليقارن هو بينها، فيستخلص رأياً هو الرأي الذي تحدثت به آنفاً، فالمكان ضيق وأنا في شغل

كامل محمود حبيب

وحي الشاعرية

وقع في هذه القصيدة التي نشرناها للسيد حسن القاياتي تحريف يسير نصححه فيما يأتي:

كم فاتك حرس الجمال مَخافة

أن يستثير من الحسان الأعينا

إن الذي خلق الصباحة زينة

قالوا تغضَّب أن تلوحَ فنُفتَنا

يا موحياً سور الأشادة رقية

أنا شاعرٌ صِفْني، ولكن من أنا

تطبيع

جاء في البيت الثاني من قصيدة الأستاذ أحمد الصافي النجفي (قلعة بعلبك) المنشورة في العدد الماضي من الرسالة كلمة (حرتُ) وصوابها (صرتُ)

عصبة الأمم، غايات العصبة ووسائلها وأعمالها

ص: 88

نشرت سكرتارية العصبة هذه الأيام نسخة عربية لكتابها المعروف باسم (غايات العصبة ووسائلها وأعمالها) ولم ينشر هذا الكتاب من قبل إلا باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وقد أظهرت العصبة بهذا العمل تقديرها العظيم للمنزلة التي تنالها اللغة العربية يوماً بعد يوم في ميدان الثقافة والسياسة

وكان الدافع إلى نشر هذا الكتاب باللغة العربية كثرة الطلبات التي أبداها عدد عظيم من الجماعات الدولية لكتاب عربي يتناول أعمال العصبة ويقبل الناس على قراءته إقبالاً كبيراً

وقد ظهرت الطبعة الأولى باللغة الإفرنجية في سنة 1935 وكانت موضوعة في أسلوب سهل واضح، ولاقي الكتاب نجاحاً عظيماً في أنحاء العالم باللغتين الإنجليزية والفرنسية فكان هذا النجاح حافزاً إلى إعادة طبعة عدة مرات

والكتاب في هذه الطبعة الحديثة المنقحة مقسم إلى أربعة أقسام

القسم الأول: وقد خصص للشؤون التي يهتم بها الرأي العام في العالم مثل النظام الدولي قبل وجود العصبة ومثل نظام العصبة وغاياتها ووسائلها

القسم الثاني: ويصف أعمال العصبة سياسية وفنية

القسم الثالث: ويتناول أعمال محكمة العدل الدولية الدائمة في لاهاي (وهي المحكمة التي أنشأنها العصبة) وأعمال مكتب الممل الدولي

القسم الرابع: ويتضمن النص الكامل لميثاق العصبة

وقد وضع هذا الكتاب خالياً من النزعات الخاصة، ولم يحاول فيه إخفاء الأزمة السياسية التي تجتازها العصبة الآن، على أن الآمال المعقودة على مستقبلها العظيم لم يرد ذكرها بين سطوره. وإن في الطعن والسخرية اللذين يوجههما إلى العصبة أعداؤها المكابرون في كثير من الإلحاف والشدة لدليلاً واضحاً على الاعتراف بالنتائج الجليلة التي ينتظرها العالم على أيدي هذه العصبة

والكتاب يحتوي على 214 صفحة وثمنه شلنان أو 18 فرنكا فرنسياً. ويطلب من قسم النشر بسكرتارية عصبة الأمم بجنيف

ص: 89

‌الكتب

كتابان

1 -

التربية النظامية: تأليف البكباشي علي حلمي

2 -

الجيش المصري في عهد محمد علي:

تأليف اليوزباشي عبد الرحمن زكي

- 1 -

لا شك أن القوة هي الأداة المسيطرة على كيان الأمم وحياة الشعوب، ولا شك أن النظام هو الأداة التي تهيئ للقوة وتعد النفوس والأجسام لاستكمالها، ونحن أمة في مطلع حياة جديدة، حياة الجهاد والنهوض، فأحوج ما نحتاج إليه إنما هو الأخذ بأسباب النظام ومظاهر القوة حتى نستطيع أن نحفظ كياننا ونأخذ مكاننا بين الأمم والشعوب. . .

وهكذا كتاب في (التربية النظامية) وضعه حضرة الفاضل البكباشي علي حلمي أركان حرب مدرسة البوليس والإدارة ومدرس نظام البوليس، والكتاب جملة طيبة من المعلومات الدراسية، والتجارب التي حصلها المؤلف الفاضل بالرحلات العلمية في مصر وخارجها، إذ تم له زيارة مديريات القطر، والمرور بأغلب الشواطئ المصرية، والواحات الخارجية، وبلاد النوبة والسودان، كما تم له زيارة فرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوغسلافيا وتركيا واليونان والحجاز وسوريا ولبنان وفلسطين. . . قال المؤلف: وقد عنيت أثناء هذه الرحلات بالبحث عن كل ما يتصل بالتربية النظامية وأنظمة البوليس والإدارة وأعمالها، والنظم القضائية والاجتماعية المرتبطة بالأمن العام وشؤون السجون والإصلاحيات ومصير المفرج عنهم وكل هذا إلى جانب ما اكتسبه بالخبرة من الخدمة الطويلة التي تبلغ نحو ثمانية وعشرين عاماً بين وحدات الجيش والحرس الملكي والتدريس والإدارة بالمدرسة الحربية، ومن هذا المعين استمد المؤلف مادة كتابه، وهو كما ترى معين فياض حافل بالدراسة والاطلاع والتجربة والمشاهدة والنظر والاقتباس

ص: 90

فالمؤلف الفاضل قد حفِل لكتابه، ووفر له من المادة والمعلومات ما يكافئ خطر الموضوع الذي يعالجه، وهو موضوع مجهول في أكثر نواحيه من قراء العربية على شدة الحاجة إليه والرغبة فيه، ولقد وضع المؤلف كتابه على نسق قويم من النظام المرتب، والتقسيم المبوب، فهو يشتمل على ستة أبواب، وكل باب يشتمل على جملة فصول؛ ففي الباب الأول تكلم عن النظام وأثره في نهضة الأمم، وعلاقته بالفرد والمجتمع ومظاهره في الأمم الراقية في القديم والحديث، ومدى حظنا من ذلك، والوسائل التي تأخذ بأيدينا إليه، ولم ينس في ذلك القرية المصرية وإصلاحها الاجتماعي، ووسائل الثقافة العامة للشعب. وفي الباب الثاني تكلم عن سلامة الدولة، وتعاون الشعب والبوليس على حفظ الأمن والنظام واحترام القانون. ثم تكلم في الباب الثالث عن نصيب الجمهور في مكافحة الأجرام ووقاية الأمن من الجرائم والمعاونة على ضبط الحوادث. وفي الباب الرابع تناول الكلام على نظام المرور في الأمم الأوربية ومدى اهتمامها بشأنه وحاجتنا إلى الأخذ بنظمهم ووسائلهم. وفي الباب الخامس تكلم عن التدريب العسكري والتربية البدنية في المدارس والمعاهد والجامعات والمناهج التي قررتها وزارة المعارف في ذلك. فلما كان الباب السادس وهو آخر أبواب الكتاب تحدث المؤلف عن مفاخر الجيش المصري، فجاء في ذلك بعرض تاريخي شامل من عهد الفراعنة، أيام تحتمس الثالث حتى أيام جلالة الفاروق حرسه الله، إذ جعل للجيش من عنايته ورعايته أكبر نصيب، فسار الجيش في طريق النجاح إن شاء الله

وقد زّين المؤلف كتابه الفاضل بكثير من الصور والرسوم، يوضح بها فكرته، ويشرح غرضه، وعنى على الخصوص بالصور الشمسية لأسلحة الجيش الحديثة في نظامه الجديد، فجاء الكتاب في بابه وافياً يشبع العقل، أنيقاً يمتع الذوق. وإنها ليد كريمة أسداها المؤلف لأمته، وبرنامج شامل وضعه للذين يعنيهم الترقي بالأمة المصرية في مدارج الرقي والنهوض، والأخذ بأسباب النظام والقوة والبناء السليم. وإنا لنرجو أن يكون المؤلف الفاضل قدوة صالحة لإخوانه ومن هم في مثلعمله ممن يحصرون مواهبهم ومعلوماتهم بين جدران الوظيفة، وفي حدود الرسميات، وإنها لحدود ضيقة تقتل المواهب وتودي بالنبوغ، وإن من الخير لأنفسهم ولأمتهم أن يجلوا معلوماتهم وتجاربهم للناس فيفيدوا ويستفيدوا

- 2 -

ص: 91

وهذا الكتاب آخر هو في الواقع حلقة تتصل بنظام الكتاب السابق، وضعه مؤلفه الفاضل اليوزباشي عبد الرحمن زكي أمين المتحف الحربي عن (الجيش المصري في عهد محمد علي باشا الكبير) ولقد كان الجيش في عهد محمد علي - كما يقول المؤلف - هو كل شيء، ومن أجله كان كل شيء. فلخدمته أنشئت مدارس الطب والهندسة والفنون العسكرية، ولنهضته قامت صناعات الأسلحة والذخائر والملابس، ولتموينه كان العمل على تقدم الزراعة والتجارة والعمران، ومن ثم استطاعت البلاد أن تقوم بأعباء الكفاح الحربي ومطالب الإمبراطورية الناشئة، وأن تحقق مطامع العاهل العظيم

وخبرة المؤلف الفاضل تتصل بالعمل، وتتصل بالتاريخ، وعلى هذا المعنى جرى في تأليف كتابه، ففيه رواية التاريخ، وخبرة العامل. فهو من ناحية يتكلم عن تاريخ الجيش في عهد محمد علي ممهداً لذلك بمقدمة عن قوات الدفاع قبل محمد علي، ثم يتحدث عن جهود البطل العظيم في خلق الجيش، ومواقع إبراهيم وانتصاراته برواية التاريخ المستمدة من أوثق المصادر مما كتب الإفرنج والعرب ومما هو محفوظ من السجلات والوثائق التاريخية بقصر عابدين العامر، ومن ناحية أخرى يتكلم المؤلف عن الجيش في ميدان العمل، وهو في هذا يفسر الرواية بالدراية، ويعلل للتاريخ بالعلم والواقع، وهذه الناحية هي لا شك أهم ما في الكتاب، لأن الدراسة العلمية للتاريخ الحربي ليست مما تقتضيه الحاجة العلمية فحسب! بل هي كما يقول الأستاذ شفيق غربال - مما تقتضي به الحياة القومية المستقلة وعمادها الذود عن الوطن. وفي تلك الدراسة يجد أولياء الأمور الإجابة عن الكثير مما يعترضهم من مسائل الدفاع، كما يجد فيها رجال الجيش ما يفيدهم في مسائل الحرب وشئون التعليم العسكري

ولقد حرص المؤلف الفاضل على شرح وقائع التاريخ بالصور والرسوم والمصورات الجغرافية، وجاء في آخر الكتاب بثبت حافل من الأرقام والإحصائيات التي تنطق بعظمة الجيش في عهد محمد علي وضخامته، وحسن نظامه وترتيبه، وكأنه يقول: هذا ما فعل أجدادنا فأين جهادنا؟! والواقع أن كتاب المؤلف خدمة علمية قومية، فهو يسد حاجة المؤرخ الباحث، ويفيد الجندي المجاهد. وإنها لخدمة يشكر عليها ذلك المؤرخ الفاضل، والجندي الباسل. وما أشد حاجتنا إلى مثل هذه المؤلفات النافعة في مطلع حياتنا الجديدة.

ص: 92

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 93

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية

(يجب أن تكون حرة بعيدة عن البيروقراطية الحكومية)

بهذه العبارة استهل حضرة الأستاذ راشد رستم حديثه معي

قلت للأستاذ رستم: الفرقة القومية مؤسسة حكومية، هل قامت برسالتها الثقافية والفنية؟ فأجاب:

- لا شك أن للفرقة القومية رسالة يجب أن تؤديها. . . ولكن المسألة الآن ليست مسألة رسالة أدتها الفرقة أو لم تؤدها. إذ هي بنت سنوات قليلة، كما أنها ولدت في ظروف قاسية ولاقت صعاباً، بل ولا تزال الصعاب قائمة، بل وستلقى صعاباً شداداً عند نظر ميزانية الدولة فيما يخص الفن (ويا ويل الفن من أربابه وغير أربابه! سيلاقيها من أين ومن أين. . .) بل إن الفرقة القومية ولدت في زمان خيف فيه على التمثيل جميعه من طغيان السينما، ذلك الطغيان الذي خافت منه البلاد العريقة في التمثيل على تمثيلها، فما بالك بمصر!

على أنه لا بد من مطالبة الفرقة بأن تؤدي رسالتها نحو الفن وتظهر همتها في ذلك، وأن نرجو لها تحقيق ذلك، ونزيد على هذا الرجاء ألا نعيق طريقها، وأن يفسح الأدباء والغيورون على الفن صدورهم، ويعملون لتسهيل مهمتها دون العمل على تصعيبها

قلت: ألا ترى شذوذاً في تكوين لجنة القراءة وتقصيراً وإهمالاً في الإدارة يدعوان إلى التشاؤم من نجاح هذه الفرقة؟

قال: أول كل شيء لا يصح للعاملين والمصلحين أن يتشاءموا، ولا أعرف للتشاؤم معنى ولا موجباً

أما لجنة القراءة فلست واقفاً على دقيق أسلوبها في القراءة، ولكن يلوح لي أنها غير نظامية وأنها تتشدد مرة وتتساهل أخرى، وهذا لاشك عيب يجب الخلاص منه

كما أنه من الواجب أن يكون تكوين لجنة القراءة للفرق التمثيلية بحيث لا يقتصر همها على اللغة وما يخصها، وإنما فوق ذلك لا بد أن يكون أعضاؤها ملمين بفن الرواية، من وضعها وحوارها وعرضها كما يجب إدراك نفسية الجماهير وتتبع تطوراتها

قلت: ما هي الوسائل الفعالة لإصلاح المسرح؟

ص: 94

-: إنني أستشف من روح هذا السؤال ابتعاد فكرة التشاؤم التي جاءت في السؤال السابق، فالحمد لله!

بعد ذلك يجب أن نكون بنائين محافظين لا هدامين. وإنه لمن العدل ومن حب التمثيل والفن أن ننظر إلى الفرقة القومية الناشئة نظرة من يرى العيب فيعمل لإزالته، وليس كمن يرضى فلا يرى عيباً، ولا كمن يسخط فلا يرى إلا المساوي

الفرقة القومية حديثة العهد، وهي فضلاً عن هذا مؤسسة حكومية، ولا يصح لنا أن ننسى ما للمؤسسات الحكومية من مساوئ البيروقراطية، خصوصاً فيما يتعلق بأعمال فنية رفيعة، فإلى أن يتاح للفرقة الخلاص من هذه البيروقراطية الهادمة والتمتع بصبغتها الفنية الحرة لا بد لنا من:

أولاً: أن نعمل للإصلاح دون الهوى الشخصي

ثانيا: أن يعلم كل عامل - فني وغير فني - في نفس الفرقة أن له رسالة فيها يجب أن يؤديها عن طريق الإخلاص للعمل والاجتهاد فيه.

ثالثاً: أن يزداد عدد الذين يفهمون الفن (عارياً) جنب الذين يفهمونه (اعتبارياً) وذلك في إدارة الفرقة، إذ لا بد من وجود هذين العنصرين في الإدارة

رابعاً: أن تبني للفرقة دار خاصة للتمثيل

خامساً: أن تبعث البعوث للممثلين والمخرجين

سادساً: أن تزيد الحكومة للفرقة مواردها المالية وتسهل عليها مهمتها، وألا تضن عليها بالمعونة من كل نواحيها، وبكل مظاهرها مثلما تفعل مع معهد اللغة العربية، لأن رسالة الفن قوية في حياة الشعوب قوة معاهد اللغة. بل إن الفن هو الذي يجعل اللغة حية متحركة غير جامدة

سابعاً: أن يكون أعظم اهتمام الفرقة موجها لتنشيط التأليف المسرحي المصري فتجود بالمال والمكافآت والجوائز والإقدام على تمثيل الرواية المصرية المؤلفة

- هل يحسن أن نستعين بالروايات الأوربية أم يجب أن نشجع التأليف المصري ونقدمه على سواه

- لا شك في أن من أول الواجبات تشجيع التأليف المصري؛ وإذا كان لا بد أن يقال الحق،

ص: 95

فإن الفرقة بدأت بتشجيع هذا التأليف المصري، بل والذي أعلمه يقيناً أن مديرها خليل بك مطران جعل همه الأول منذ اللحظة الأولى أن يكون افتتاح عمل الفرقة برواية مؤلفه من مؤلف مصري، وقد تم له ذلك

وأظهر به مبدأه الذي يريد إعلانه، وهو تفضيل الروايات المؤلفة من مؤلفين مصريين

على أنه يلوح لي أنها استعانت بالرواية المترجمة أو المقتبسة، كي تجعل لها اسماً بين رواد التمثيل، وقد تعودوا ذلك، لكي تجذب إليها الجمهور، وكذلك لكي تعرض أنواع الروايات المختلفة التي احتوتها عصور التمثيل القديمة والحديثة حتى يتكون عند الجمهور الذوق الروائي فيقبل على هذا التمثيل الراقي. غير أني أرى أن يكون معظم مجهود الفرقة موجهاً إلى تشجيع التأليف، وإلى خلق مؤلفين مصريين، وإلى إيجاد طائفة من هؤلاء المؤلفين

أما الموضوعات فأنها معروضة في حياة العالم فهي كثيرة متوفرة مستمرة، والمهم أن يوجد المؤلف الذي يأخذ منها مادة لروايته.

وليس من مانع أن تمثل الفرقة روايات أجنبية كما تفعل كل الأمم، ولكن الأهم أنها تخلق أولاً مسرحاً مصرياً ممتازاً برواياته وبمؤلفيه.

وقال عن لغة الرواية وصياغتها (إن لكل رواية ما يناسبها، غير أنه يجب أن تتراوح لغة المسرح بين أرقى أنواع الفصحى، (وليس معنى هذا اللغة المعقدة المقعرة) وبين السهلة الكلامية الصحيحة النظيفة (وليس معنى هذا اللغة المبتذلة)

هذا وفي التاريخ المصري القديم والحديث مجال واسع للتأليف؛ فإن مادة التاريخ وحوادثه تجذب الجمهور، كما أنها تربي الروح القومية، والأمة عطشى إلى من يسقيها ذلك وأريد هنا لفت النظر إلى مادة التاريخ لجذب هذا الجمهور النافر

ثم ختم كلامه بشهادة طيبة لمدير الفرقة الواسع الصدر، فلولا تحمله وصبره وجلده في هذه السن، ولولا مكانته الشخصية البارزة لضاعت الفرقة. فهو دعامة ارتكزت عليها الفرقة يعرف فضلها كل واقف على دخائل الأمور ثم حمد تحمس سعادة العشماوي بك لرسالة الفرقة وإنقاذه سفينتها من الغرق.

أبن عساكر

ص: 96