المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 302 - بتاريخ: 17 - 04 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٠٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 302

- بتاريخ: 17 - 04 - 1939

ص: -1

‌هل تقوم القيامة!

نفخة الصور

بعد ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ مصر الخالدة نفخ جندي في بوق فرعونها الشاب توت عنخ آمون، فدوَّى صوته الندىُّ في أرجاء العالم وهو يمور موران البحر، ويفور فوران البركان، وتتدافع شعوبه المكلوبة المكروبة عمياناً وصُماَّ إلى مهاوي الموت! فليت شعري ما الذي أخطر ببال المتحف والإذاعة هذا الخاطر الغريب في هذا الحين وفي هذه الحالة؟ أهو القدَر الإلهي الراصد الذي يقول كلمته في كل حادث، ويعلن مشيئته في كل مشكل؟ أم هو الروح المصري الخالد الذي بدأ حضارة العالم، وأنشأ معرفة الناس، ولا يزال يوحي بكل فكر ويشارك في كل أمر؟

من كان يقع في حسبانه من فراعين النيل ودهاقين الوادي أن بوقهم الذي كان يدعو إلى الطعن والضرب، ويقضي في السلام والحرب، يحتفظ به الدهر الطحون ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام لُيبلغ به اليوم أذن الدنيا جمعاء صوتَ مصر الذي لا يخفت، ومجد مصر الذي لا يبيد؟

ما كان أروع هذا الصوت الفضي القوي وهو ينبعث من جوف الماضي العميق السحيق، وينتشر جهيراً جباراً على أمواج الأثير، فينصت الفلك، ويدهش العالم، ويتذكر التاريخ، ويغوص الخيال الشاعر في خضم القرون ويطفو!

أيها النافخ في صور إسرافيل! أهي الراجفة وانصعاق الأحياء، وانشقاق السماء، وزلزلت الأرضيين، واندكار الجبال، وفناء العالم؟ أم هي الرادفة وانبعاث الأمواج، وميزان الحسنات والسيئات، ثم استئناف الحياة الباقية الصافية التي تموت فيها المطامع، وتفني الأحقاد، ويعيش بنو آدم في ظلال الله إخواناً على سرر الحب، وضيفاناً على موائد الجنة؟

لتكن نفختك يا إسرافيل ما شاء الله أن تكون، فإنها لمصر القاعدة المتخلفة صيحة نشور ونذير أهبة! فقد درجت على هامها القرون وهي مطمئنة إلى الخمول، راضية بالعجز، يستغل خيرها الواغل، ويستقل بحمايتها المغير، حتى خشن على أيدينا السيف، وثقل على ظهورنا العتاد، وجثم على رجولتنا الجبن، وأصبحنا إذا طلبتنا القرعة نهرب، وإذا انتخبتنا الجندية نبكي، وإذا سمعنا بالحرب من بعيد يضطرب البال من الهم، ويطير الفؤاد من

ص: 1

الفزع. ثم كان من أثر هذه الحياة السليمة الوادعة، وهذه التربية المدرسية البليدة، أن فشا بيننا داء العجائز وهو الكلام، وداء الضرائر وهو الحسد؛ فأفواهنا الثرثارة لا تفتر عن قرض الأعراض والعلائق، وعيوننا الطامحة لا تغمض عن الحسد الأرزاق والمواهب، حتى اتسعت الأحداق وطالت الألسن، بمقدار ما ضاقت الأخلاق وقصرت الأذرع. فلو كنا نشأنا على الجندية، وتمرسنا بالحروب، وارتضنا في الشدائد، لكثر فينا رجال القيادة والنظام، وقل بيننا أهل السياسة والكلام، وكان عندنا من الشركات والجمعيات والمصانع والمجامع أضعاف ما عندنا من المؤتمرات والأحزاب والمقاهي والصحف. . .

هذه هي القارعة التي تهتك حجب الأسماع وأغشية الأبصار وغُلف الأفئدة. فاليوم لا كسل ولا جدل ولا اتكال ولا استكانه. لقد سلكنا متن الحياة بعد أن كنا نسير على الهامش، وخضنا عباب الأمر بعد أن كنا نعيش على الشاطئ، وحملنا تكاليف مصر العزيزة بعد أن كنا نلقيها من الخور والهون على الأكتاف الغريبة كتفاً بعد كتف

لشدَّ ما يشرق في تاريخ النيل ذلك اليوم الذي يزحم فيه البحر والبر والجو أسطولُه الماخر وأسطوله الطائر وجيشه الجرار، ثم يستقتل في سبيله بنوه البواسل الميامين في الحصون والخطوط والخنادق، ليكون لثراه الحبيب من دمائهم رِي، ومن أشلاء عدوهم سماد، فيغصب فيه جدب العقول، ويزكو به غِراس البطولة!

مرحباً بالنار إذا كانت تذيب غش الأخلاق وزيف العزائم! وأهلاً بالحديد إذا كان يجذب ميت الأصول وذاوي الأفرع! ونِعِماَّ يبتلينا به الله إذا كان من ورائه جمعة من هذه الفرقة، وحياة من هذا الموت!

لقد استنفرَنا الماضي ببوق فرعون، واستفزنا الحاضر بوعيد بيرون، فلم يبق إلا أن نميط اللثام عن الوجه الحر، وننفض الغبار عن المعدن الكريم، ثم نولي وجوهنا شطر الحدود المقدسة، ونقوم للوطن كما نقوم لله صفَّا صفَّا، طائعين خاشعين، متحدين مستعدين تنتظر نداء العلَم الموموق وأمر القائد الأعظم!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌الطفل وحقيقة الإنسان

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

زارتني، ذات يوم، سيدة، ومعها طفلة تناهز الرابعة، فسقيت السيدة القهوة المرة التي تحبها، وحرت في الطفلة: ماذا أسقيها أو أطعمها، أو بماذا ألاعبها، وليس في مكتبي ما يصلح لها؟ ثم خطر لي أن أبعث بالخادم ليشتري لها (شوكولاته). فقالت السيدة:(إنك تدللها وتفسدها). قلت (دعيها تتدلل وتفسد - على قولك - فلن ترى ارغد من أيامها هذه). قالت: (وستحبك بالشوكولاته!)، وضحكت. قلت:(هل تعلمين أن كل حب لإنسان آخر هو من حب النفس؟). ولم أطل في هذا المعنى فإني أعرفها تكره الفلسفة وإن كانت ذكية لبيبة. وجاءت الشوكولاته فأخذتها الطفلة من الخادم وابتسمت له مسرورة. فقالت لها السيدة - وأشارت إلي -: (إنه أولى بابتسامك، فقومي إليه واشكريه بقبلة). فانحدرت عن مقعدها خفيفة ضاحكة ولثمت خدي. وعادت إلى الشوكولاته، وهمت أن تنزع عن بعضها الورق وتأكل؛ فنهتها السيدة عن ذلك وقالت لي إنها ستدخل طعام على طعام، وليس هذا بمحمود أو مأمون. ولفت لها الشوكولاته في ورقة وناولتها إياها وربتت لها كتفها وقالت:(أبقيها معك إلى ما بعد). فأطاعت الطفلة ووضعت اللفافة في حجرها، وجعلت تقلبها وتعبث بها، وذهبنا نحن نتكلم، وإذا بالسيدة تغمزني بعينها مشيرة إلى طفلتها، فنظرت فألفيتها قد فكت الورقة وأقبلت عل قطع الشوكولاته تحركها بإصبعها، فهززت رأسي مستفسراً. فقالت السيدة:(إنها تعدها). قلت: (لعله يفرحها أن تعرف عددها). قالت: (لا) وهزت رأسها: (ما أظن بها إلا أنها تعدها للمرة الثانية). قلت: (ماذا تعنين؟). قالت: (أعني أن أكبر الظن أنها عدتها حين أخذتها. ثم أخذتها أنا منها ولففتها في هذه الورقة، فهي تعدها مرة ثانية لترى أنقصت أم بقيت كما كانت). قلت: (اتقى الله!). قالت: (لك رأيك، ولكنها بنتي فليس تَخفي عليّ من أمورها خافية)

وصارت الطفلة تعرفني بعد ذلك (يا بابا شوكولاته) وهي خليقة أن تعرف اسمي، وأن تستطيع النطق به، فما هو بأثقل أو أصعب من لفظ الشوكولاته، ولكن الشوكولاته حلواوها الأثيرة، وأنا أتحفها بها كلما لقيتها، فهي تهمل اسمي وتطلق عليّ ما تحب، ولو أهملت أن أقدم لها الشوكولاته، أو قصرت في هذا الواجب، لزهدت في لقائي وانصرفت عن ذكري،

ص: 3

وتركت حث أمها على زيارتي.

وليست هذه الطفلة بالشاذة، فإن كل طفل على غرارها، حتى ولديّ أراهما أحفى بأمهما منهما بي، لأنها لا تنسى أن تزودها بما يحبان، وإن كنت أنا المتعب المكدود والذي لا يزال يسعى ويشقي ليسعدا.

وأحسب أن الإنسان يبدو على حقيقته في طفولته، أي قبل أن يصبح إنساناً مصقولاً منجورا أو مهذباً كما نقول، والطفل أثرة مجسدة، يحب ويكره، ويقبل ويدبر، تبعاً لما يلقي منك. وقد يكون أبوه أحنى عليه، وأعمق حباً له، وأعظم شغلاناً به، ولكنه لا يلاعبه، ولا يعني بأن يحشو له جيوبه باللطائف المشتهاة، ولا يجئه كل بضعة أيام بلعبة، فلا يعبأ به الطفل أو يجعل إليه باله، على حين تراه يتعلق بأهداب صاحب لأبيه لأن لا ينسى حين يجيء في زيارة، أن يحمل لهذا الطفل ما يسره أو لأنه يشغل نفسه معه بضع دقائق بالهذر الفارغ. وكان صديق لي يقول:(إنك سيئ الظن بالإنسان) فكنت أبتسم ولاأجيب، وأنتقل به إلى موضوع آخر استثقالاً لهذا البحث الذي لا يطيب للنفس في كل وقت، حتى لفتتني تلك السيدة الذكية إلى المظهر الحقيقي للإنسان، فدرسته في أبنائي، وانتهيت إلى أن كل ما في الإنسان من خير وفضيلة اكتساب وليس بطباع فيه؛ والطفل - قبل أن نعلمه خلاف ذلك - لا يعرف إلا نفسه، ولا فرق بينه وبين الوحش في الفلاة أو الغابة. وعجيب أن ينسى الإنسان أنه حيوان!؟! فهو يضرب أخاه، ويمزق له ثيابه، ويريق الحبر على أوراقه أو كتبه، ويحطم له لعبه، أو يتلفها، ويغضب أو يستاء إذا رآه يلبس الجديد قبله أو دونه، ويعذب العصافير والقطط، ويذوي الورود والأزهار، ولا يقف في العبث والإتلاف عند حد؛ ولا يدركه عطف على أحد، ولا يشعر برقة لإنسان أو حيوان. ولسنا نحن الكبار خيراً منه، وأنا لأحسن ضبطاً لأنفسنا، وكبحاً لأهوائها ونزعاتها، ولكنا نحتاج إلى الضبط والكبح لأن النزعات موجودة تلج بنا وتدفعنا؛ ولو أمنا العاقبة لأطعنا أهواء نفوسنا وأملينا لها فيها. ولو جمحت بنا لما نفعتنا اللجم والأعنة التي اعتدنا في حالت الاتزان أن نصدها بها عما تهم به. ونحن في كل حال نراقب ما هو أوفق لنا وأصلح، والأمر في الأطفال أوضع وأبين، لأن اللجم الكابحة ليست هناك، أو لأن التدريب عليها ناقص، ونمو العقل مع التجربة يساعد على حسن استخدام اللجام، ورياضة النفس على طاعته

ص: 4

ولست أقول إن الإنسان شرير بطبيعته، فليست المسألة مسألة خير أو شر، وإنما هي طباع فيه وفطرة يبنى عليها، والطباع لأخير ولا شر، وإنما وهي طباع. وقد أحتاج الإنسان إلى مقدار من النظام لما أحتاج أن يعيش في جماعته، والجماعة لا تصلح بالانطلاق مع السجية، وإنما تصلح بإقامة حدود وعلى أن روح الجماعة ليس فيها لأخير ولا رحمة ولا رفق ولا شئ مما يجري هذا المجرى، والشر الذي يذعر الفردَ مجرد التفكير في ارتكابه تقدم عليه الجماعة وهي ترقص وتباهي، وهذا ما يحدث في الثورات. وقد رأيت بعيني جماعة حانقت في أبان الثورة المصرية تمزق رجلاً بأيديها فوليت هارباً من هذا المنظر. وما أظن أن أقسى فرد يستطيع أن يفعل ذلك وهو وحدة. وأحسب إن الذي يرد الجماعة إلى الطبيعة الحيوانية وهو أن الطباع الحيوانية المشتركة - وهي واحدة - تتغلب على المزايا المكتسبة التي تزعمها صفات إنسانية - وهي متفاوتة

وما زالت القاعدة الحسابية هي صحيحة، أعني أن الذي يقبل الجمع هو المتشابه لا المختلف؛ ولست تستطيع أن تقول إن عندك أربع تفاحات وأنت تعني أن عندك تفاحتين وبرتقالتين ومن هنا ذهب ماكس نوردو بحق إلى أن برلماناً من أعظم الرجال مثل جوته وشكسبير ونابليون الخ لا يكون خيراً برلمان من الأوساط العاديين: لأن برلماناً هكذا يكون مؤلفاً من مائة صفه مشتركة تتغلب على كل مزية مفردة لكل واحد من هؤلاء العظماء

ولست أذم أو أمدح، وإنما أصف الواقع، والواقع أيضاً أن المدينة معناها التنظيم، أي الكبح والصقل ودفع الحياة في المجاري التي هي أصلح للجماعة وأجلب لخيرها

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 5

‌من برجنا العاجي

طالما صحت قائلاً: إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد، بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب. وأقول اليوم إن الأدباء أنفسهم لا يريدون أن يحملوا الدولة على الإيمان بحقيقة الأدب. بل إن الآداب وقد أنكرتهم الدولة وأنكرت بضاعتهم لم يفعلوا شيء ولم يبدوا حراكا. بل إن الأمر قد بلغ من السوء حداً رأى فيه الآداب نتائج أذهانهم يسقط في التراب كما تسقط ثمار الشجرة الناضجة، فلا يتحركون ولا يصيحون في الناس: أن اقبلوا واجمعوا هذه الفاكهة وانتفعوا بها واطلبوا المزيد حتى تنشط الشجرة للأثمار ولا يجف ماؤها من الترك والإهمال. من العجب أن يلحظ الأدباء أن ثمار مواهبهم لا تصل إلى أيدي كثيرة فلا يجتمعون ليبحثوا هذه المشكلة. ومن العجب أنهم يرون أن زبده جهودهم تتلقفها أيدي الوسطاء من التجار الذين يتربصون بهم كما تتربص جوارح الطير بصغار العصافير فلا يحاولون المداولة فيما بينهم للخلاص من هذا المصير. إن انعدام روح النظام بين الأدباء وتفرق شملهم وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعاً من مصالح وما يعنيهم جميعاً من مسائل قد فوت عليهم النفع المادي والأدبي، وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة، ولقمة باردة سائغة في فم التجار والوسطاء. تلك حال الناضجين المعروفين من أدبائنا، أولئك الذين يتخذهم الناشئون من الأدباء مطمحاً لأنظارهم، ويرون فيهم حلماً ذهبياً جميلاً، ويتحرقون عجلة وشوقاً لبلوغ مراتبهم، ويتوسلون إليهم أن يأخذوا بأيديهم ويقودوهم في هذا الطريق. . .

واجب الأمانة يدعوني أن أصارح الناشيئن: إياكم أن تعقدوا الآمال الكبار على الأدب في بلادنا اليوم، إذا أستمر الحال على ما ترون. فما أرض الأدب الآن سوى مستنقع مهمل، حرام أن تلقى فيه بذور. وحسبكم تلك الزهرات القليلة الوحشية التي نبتت من تلقاء نفسها على حواشيه فلم يأبه لها أحد ولم يعن بتعهدها وريها إنسان!

توفيق الحكيم

البحتري أمير الصناعة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

ص: 6

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وللبحتري في ثنايا أبواب شعره أبيات كثيرة في الحكم والأمثال، بعضها يدل على فطنة لبعض نواحي الحياة والنفس، وبعضها معان مطروقة كساها ثوباً قشيباً. فمن حكمة وأمثاله قوله:

أُرَاِقبُ صول الوغد حين يهزه اق

تدار وصول الحر حين يضام

وقوله:

هو الحظ ينقص مقداره

لَمِنْ وزن الحظ أو كاَلهُ

وقوله:

لولا التباين في الطبائع لم يقم

بنيان هذا العالم المجبول

وقوله:

ولستَ ترى عود القتادة خائفاً

سموم الرياح الآخذات من الرند

وقوله:

واليأس إحدى الراحتين ولن ترى

تعباً كظن الخائب المكدود

وقوله:

كالكوكب الدُّرِّيِّ أخلص ضوَءهُ

حلكُ الدجى حتى تألق وانجلى

وقوله:

تَنَاس ذنوبَ قومك إن حفظ ال

ذنوب إذا قدمن من الذنوب

وقوله:

خلت جهلاً أن الشباب على طو

ل الليالي ذخيرة ليس تفنى

وقوله:

أدَعُ الصاحب لا أعذله

لاُ يسَمَّى بِعَقُوقٍ فَيعِقّ

وقوله:

وقديماً تداول العسر واليس

ر وكلُّ قَذَّى على الريح يطفو

وقوله:

ص: 7

صعوبة الرزء تُلْفَى في تَوَقِّعهِ

مستقبلاً وانقضاء الرزء أن يقعا

وقوله:

أغشى الخطوبَ فإما جئن مأربتي

فيما أُسَيِّر أو أحكمن تأديبي

إن تَلْتَمِس تَمْرِ أَخْلافَ الأمورِ وإنْ

تلبثْ مع الدهر تسمعْ بالأعاجيب

وقوله:

كأنما شرف الشريف إذا انتمى

جُرْمٌ جناه على الوضيع الأصغر

وقوله:

إذا مَحاِسِنيَ اللاتي أُدِلُّ بها

كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر

وقوله:

ما أضعف الإنسان لولا همة

في نُبْلهِ أو قوة في لُبِّهِ

وقوله:

والشيءُ تُمْنعُهُ تكونِ بفَوته

أجد من الشيء الذي تُعطاهُ

وقوله في التأسي بمصارع الموتى:

إذا شئتَ أن تستصغر الخطب فالتفت

إلى سلف بالقاع أُهْمِلَ نائمة

ومثل هذا كثير من شعره.

وعندي أن غزل البحتري في مجموعه أرق وأحلى وأكثر نصيباً من الوجدان الفني من غزل أبي تمام. فمن قصائد غزله المشهورة قصيدته التي يقول فيها:

تمشى فتحكم في القلوب بِدَ لَّها

وتميس في ظل الشباب وتخطر

وقصيدته التي يقول فيها:

ذو فنون يريك في كل يوم

خلقا من جفائه مستجدا

اغتدى راضياً وقد بتُّ غضبا

ن وأمسى مولى وأصبح عبدا

وقصيدته التي يقول فيها:

أيها العاتب الذي ليس يرضى

نم هنيئاً فلست أطعم غمضا

وهي رقيقة ومشهورة. ومن بديع غزله قصيدته التي يقول فيها:

(ردي على المشتاق بعض رقاده) والقصيدة التي يقول فيها:

ص: 8

دنتْ عند الوداع لو شك بين

دنو الشمس تجنح للأصيل

وفيها يقول:

وذَكَرَنيكِ والذكرى عناءٌ

مَشابِهُ فيكِ بينةُ الشُّكولِ

نسيم الروض في ريح شمال

وصوبُ المزن في راح شمولِ

والتي يقول فيها:

وجدت نفسك من نفسي بمنزلة

هي المصافاةُ بين الماء والراحِ

والتي يقول فيها:

وهجر القرب منها كان أشهى

إلى المشتاق من وصل البعاد

والتي يقول فيها (مِنِّى وصل ومنك هجر) والتي يقول فيها:

بات أحلى لديَّ من سِنَةِ النو

م وأشهى من مفرحات الأماني

والتي يقول فيها:

إذا ما الكرى أهدى إليَّ خياله

شفى قرُبهُ التبريح أو نقع الصدى

والتي يقول فيها:

وفيهنّ مشغولٌ به الطرف هارَب

بعينيه من لحظ المحب اُلمَخالِس

وهي ملاحظة فنية جميلة. والتي يقول فيها:

لم يُرْوَ من ماء الشباب ولا انجلت

ذهبية الصبوات عن أيامه

وفيها يقول:

أُترِيكَ أحلامُ الكرى ذا لوعة

كِلفَ الضلوع يراك في أحلامه

والتي يقول فيها:

أأنتِ ديار الحي أيتها الربى ال

أنيقة أم دار المها والنعائم

وأيامنا فيك اللواتي تَصَرَّمتْ

مع الوصل أم أضغاث أحلام نائم

لعل الليالي يكتسين بشاشة

فيجمعن من شمل النوى المتقادم

والبحتري شاعر وصاف بماله من شهوة تذوق المرئيات بجمال فنه، فإن الفنان يتذوق مناظر الطبيعة والمرئيات عموما ًكما يتذوق الطعام من له ذوق خاص في الطعام والشراب؛ وقد لا يكون شره النظر أو قد يكون، كما أن الذي له ذوق خاص في الطعام

ص: 9

والشراب قد يكون شره البطن وقد لا يكون

ومن أجل شهوة تذوق الأمور بفنه أشك في أن البحتري قد تعمد أخْذَ كل ما أخَذَ من، المعاني فقد تكون شهوة التذوق بالعاطفة الفنية هي التي ساقته إلى هذه المعاني سواء أكان قد اطلع عليها أم لم يطلع وهي على أي حال مفردات. ومن قصائده المشهورة في الوصف قصيدة ووصف آثار الفرس الفنية التي يقول في أولها (صنت نفسي عما يُدنَّس نفسي) وقصيدته في وصف بركة المتوكل التي يقول فيها:

كأنما الفضة البيضاء سائلة

من السبائك تجري في مجاريها

إذا علتها الصَّبا أبدت لها حبكا

مثل الجواشن مصقولاً حواشيها

فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها

ورَيِّقُ الغيث أحياناً يباكيها

إذا النجوم تراءت في جوانبها

ليلاً حسبتَ سماَء ركِّبتْ فيها

ومن أوصافه المعروفة وصفه الشقائق في الأبيات التي يقول فيها: (سقى أكناف الحمى من محلة) وقصيدته التي يصف فيها الربيع وآثاره وفيها يقول:

وقد نَبَّهَ النوروزُ في غلس الدجا

أوائلَ وردكن بالأمس نُوَّما

يُفَتَّقها برد الندى فكأنه

يبثُّ حديثاً كان قبل مُكَتمَّا

وله قصيدته البائية المشهورة في وصف صيد الفتح بن خاقان للأسد، والدالية التي فيها وصف لقائه (أي البحتري) الذئب في البيداء، ويعاود وصف الربيع كما فعل في قصيدته الرائية التي يقول فيها:(ألم تر تغليس الربيع المبكر) والميمية في وصف قصري المتوكل الصبيح والمليح وهي التي يقول فيها:

حلل من منازل المُلكِ كالأنجم

يلمعن في سواد الظلام

وقصيدته في وصف البيان وهي التي يقول فيها:

لتفننتَ في الكتابة حتى

عَطَّل الناس فن عبد الحميد

وهي مشهورة. وله أوصاف أخرى منتشرة في قصائده من وصف للنبات والطبيعة أو للحروب وآثارها مثل القصيدة الفريدة التي يقول فيها:

أسيت لأخوالي ربيعه إذ عفت

مصايفها منها وأقوت ربوعها

ومراثي البحتري مراثي صنعة تكاد تغطي على الصنعة لأن العاطفة الفنية فيها تغنى على

ص: 10

العاطفة الحقيقية أو قد تكون مقرونة بشيء منها، وقد ظفر بنو حميد بمراث بلغت غاية الروعة الفنية من شعر أبي تمام ومن شعر البحتري. ولعل أبدع قصائده فيهم قصيدته التي يقول في مطلعها:

أقصر حميد لا عزاء لمغرم

ولا قَصْرَ عن دمع وإن كان من دم

أفي كل عام لا تزال مُرَوَّعاً

بفَذِّ نَعِيٍ تارة أو بتوأم

إلى أن يقول:

فصرتَ كعُشٍ خلَّفتْه فراخهُ

بعلياء فرع الأثلة الُمتَهَشَّمِ

ثم يقول:

سلام على تلك الخلائق إنها

مُسلَّمَةٌ من كل عار ومأثم

ومن المختار له في الرثاء قصيدته في سليمان بن وهب التي يقول فيها:

أَأُخيَّ نهْنِهْ دمعك المسفوكا

إن الحوادث ينصر من وشيكا

وقصيدته التي يقول فيها (ابني عبيدٍ شد ما احترقَت لكم) والتي يقول فيها (جحدنا سهمة الحدثان فينا). ومن أشهر قصائده في الرثاء رثاء المتوكل وقد قيل إن ابنه المنتصر ولي العهد دس له من اغتاله وإلى ذلك يشير البحتري في قوله: -

أكان وَلُّيِ العهد أضمر غدرة

فمِنْ عَجَبٍ أَنْ وُلَّيَ الأمر غَادِرُهْ

وهو لم يتمتع بالخلافة إلا بضعة أشهر. ويقال إن ضميره أفسد عليه تلك الأشهر من حياته. ويخيل إلي أن البحتري لم يعلن هذه القصيدة إلا بعد وفاة المنتصر إلا يكون قد تنبأ بها وأجاب الله دعوته في قوله:

فلا مُلِّيَ الباقي تراثَ الذي مضى

ولا حملتْ ذاك الدعاء منابرُهْ

وفيها يمدح المعتز بن المتوكل فيقول:

وإني لأرجو أن تُرَدَّ أمورُكم

إلى خلَف من شخصه لا يغادرُه

مُقلَّب آراء تخافُ أناته

إذا الأخرق العجلان خيفت بوادرُهْ وإني أشك في صدق قوله

وأرى أنه من شواهد ما قدمت من اختلاط الخيال بالعاطفة:

أُدَافعُ عنه باليدين ولم يكن

ليثنى الأعادي أعزلُ الليل حاسرُهْ

ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي

درى الفاتك العجلان كيف أساوره

ص: 11

إذا أنه لو فعل كما قال إنه فعل لقتله الفاتكون. ولكن المشهود في القصيدة روعة الصنعة وفخامتها لا عمق العاطفة. والحق أن البحتري إذا ملك صناعته ولم يتكلفها أتى بها وهي في بهجتها وحلاوتها حقيقة بالمدح الذي مدح به البحتري منزلة ممدوحة في قوله:

منيت أحاديث النفوس بذكرها

وأفاق كلُّ منافس وحسود

وأصدق قول يقال في البحتري وأبى تمام هو ما قاله البحتري نفسه إذ قال إن جيد أبي تمام خير من جيدة، ورديء أبي تمام شر من رديئة. ومثل هذا القول يصح أن يقال أيضاً في البحتري وأبن الرومي، ولا نعني بالجودة الصناعة فحسب بل كل ما ينهض به الشعر من ميزات. وللبحتري قصائد في العتاب هي من أجل ما كتب في اللغة العربية في هذا الباب ولا سيما عتابه للفتح بن خاقان في قصيدته البائية التي يقول فيها:

ولو لم تكن ساخطا لم أكن

أذم الزمان وأشكو الخطوبا

والميمية التي يقول فيها:

أعيذك أن أخشاك من غير حادث

تبيّن أو جرم إليك تقدّما

وفي صنعة عتابه كما في صنعة مدحه حلاوة وسهولة المتناول، وليس فيها اللجاجة الفكرية التي بذلها ابن الرومي في قصيدته في العتاب التي يقول فيها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء). على أن هذه القصيدة لابن الرومي لا تمثل إلا ناحية واحدة من نواحي مقدرته في العتاب فله نواح أخرى منها ناحية العتاب الممزوج بالهجاء، ومنها ناحية العتاب الذي فيه خضوع للمعاتب. وابن الرومي أوسع مقدرة من البحتري وأكثر نصيباً من ذخائر اللب وإن كان البحتري أوفر نصيباً من بهجة الصنعة.

وقد جاء في كتاب الأغاني وصف إنشاد البحتري لشعره: فقال المؤلف إنه كان يتشادق في إنشاده، ويتزاور، ويتمايل، ويلوح بكمه، ويتقدم ويتاخر، ومعنى هذا الوصف أنه كان يُمَثَّل كما يصنع الممثل على المسرح، وإني أميل إلى تصديق هذه الرواية إذ أنها تؤيد ما ذهبت إليه من أن البحتري كانت عنده صفة يكثر ظهورها في بعض الممثلين، وهي اختلاط الأحاسيس التي يمثلونها بحقائق الحياة حتى يصعب التمييز بينهما، وقد ضربت من أمثال ذلك مثلاً من غزله ومن رثائه للمتوكل. ولم يكتف البحتري في إلقائه بطريقة الممثلين في الإنشاد، بل كان ينظر إلى الحاضرين ويطلب منهم الاستحسان ويلومهم إذا لم يظهروا

ص: 12

الإعجاب والاستحسان؛ وطلبُ الاستحسان من المشاهدين والحرص عليه والانتشاء به من صفات الممثلين أيضاً. وقد ضجر منه المتوكل يوماً لمغالاته في هذه الأعمال. فأغرى به شاعراً صغيراً عبث به في شعره. ولو جاز أن نتمنى سماع إنشاد البحتري لشعره لتمنينا أن نسمعه ينشد بهذه الطريقة التمثيلية قطعة من شعره تساعد على إظهار مقدرة الممثل قوله في قتاله للذئب:

عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته

فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد

فأوجرته خرقاء تحسب ريشها

على كوكب ينقض والليل مسود

فما ازداد إلا جرأة وصرامة

وأيقنت أن الأمر منه هو الجد

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرعب والحقد

فخرَّ وقد أوردته منهل الردى

على ظمأ لو أنه عذب الوِرد

ونلت خسيساً منه ثم تركته

وأقلعتُ عنه وهو منعفر فرد

ولا غرابة أن يكون عند الشاعر الذي عماده الصناعة اللفظية صفة الممثل الذي ينتشي بما يقول حتى يخلق له القول عاطفة فنية لا تكاد تميز من الأحاسيس الناشئة من حوادث الحياة في نفوس بعض ذوي الفنون. وفي الأخبار التي وردت عن البحتري نرى أنه كان يمدح شاعرين هما: أبو تمام، والعباس بن الأحنف. وفي شعر البحتري أثر محاكاته للأول في الصنعة البيانية ومعانيها وللثاني في بعض الغزل من شعره.

عبد الرحمن شكري

ص: 13

‌أعلام الأدب

درامات سوفوكليس

للأستاذ دريني خشبة

حددّ سوفوكليس الفرق بينه وبين إسخيلوس، ثم بينه وبين يوريبيدز فقال:

أنا أصور البشر كما كان ينبغي أن يكونوا

ويصورهم يوريبيدز كما هم

أما إسخيلوس فقد كان يوحي إليه بالحق فينطق به دون أن يعرف ما هو

وذلك من سوفوكليس تحديد جميل ينتفع به مؤرخو الأدب الكلاسيكي، لأن سوفوكليس كان حقيقةً يلتزم في جميع دراماته هذا التسامي نحو مَثَله الأعلى الذي كان يجهد ألا يضحي به ولو عارض الأوضاع ونافى التقاليد وثار بالشرائع

لقد رأى إسخيلوس يقسو على الفتى أورست الذي قتل أمه لأنها قتلت أباه فأسلمه لطائف من الجنون، وسلط عليه ربات العذاب تُشقيه وتقص آثاره وتسد عليه المسالك. لأن جريمة قتل الوالدين هي أشنع الجرائم فيما تواضع عليه الدين اليوناني الأسطوري من غير نظر إلى ما في ذلك القتل من حق أو غيره. . . ومع أن إسخيلوس كان لا يرى أن يُعد أورست مجرماً بدليل ما ذكره على لسان أبولو أمام محكمة مينرفا إلا أنه أجرى درامته في حدود المعتقدات اليونانية فجعل ربات العذاب تلاحق أورست كما تلاحق المجرمين لتأخذه بما جنت يداه. ثم توسل إسخيلوس بهذه الهيئة القضائية التي كانت مينرفا بمقام الرئيس فيها، كما كان أبوللو بمقام المحامي، وكما كانت ربات العذاب بمقام المدعي في حين كان أورست في مقام المتهم. . . فلما رأت مينرفا أخذ أصوات الحضور بوصف كونهم محلفين، ثم لما تساوت الأصوات ضد أورست ثم له، عمد إسخيلوس إلى مينرفا فجعلها تنحاز إلى جانب أورست، وبالأحرى إلى فكرة إسخيلوس في عدم حسبان الفتى مجرماً لأنه قتل أمه التي قتلت هي أيضاً أباه، لأنه ضَحّى بابنتها إفجنيا كما تقدم ذكر ذلك جميعا

رأى سوفوكليس نده القوي يتناول المأساة على هذا النحو فترك سبيله وسلك سبيلاً أخر. . . أنه لمُ يسلم أورست لطائف من الجنون ولم يُلاحقه بربات العذاب كما فعل إسخيلوس، بل هو قد أهمل الشريعة الأسطورية كلها وأظهر أورست في ثوب البطل الذي يرى أن أمه

ص: 14

قتلت أباه بغير الحق وصَبَت قبل ذلك إلى عشيق مجرم من أعداء أسرته وآذت أبناءه وأهدرت كرامتهم فهي لكل ذلك تستأهل أن تقتل، بل يجب أن تقتل بيد أبنها، فإذا هم أبنها بقتلها وتوسلت إليه بدموعها مرة وثدييها مرة أخرى خشيت (إلكترا) - وهذا هو اسم الدراما - أن يضعف أخوها أو أن يستخذى فحضته على قتل أمه - وأمها - (لأنها لم ترحم أحداً من قبل!)

وهكذا صور سوفوكليس الناس كما ينبغي أن يكونوا، ولم يلف طويلاً كما صنع إسخيلوس. . . أما كيف أتقى ثورة الناس لإهماله شريعتهم الأسطورية فقد كانت حجته أن في الأساطير ما يذكر أن ديانا قد أنقذت الفتاة إفجنيا من الذبح وذلك بفدائها بذبح عظيم على نحو ما نعرف من قصة إبراهيم وولده إسماعيل. . . لذلك كان حنق كليتمنسترا في غير موضعه، وكان باطلاً كل ما كانت تبرر به مسلكها نحو زوجها، وكل ما ترتب على هذا المسلك من نتائج

وليس من عيب في مأساة إلكترا إلا ما أقحمه فيها سوفوكليس على لسان الرسول من وصف الألعاب البيثية وصفاً طويلاً يفضي إلى الإملال.

2 -

أجاكس:

قد تكون مأساة أجاكس أقدم ما وصلنا من درامات سوفوكليس سليما كاملا. . . وهي مثل إلكترا يصادفك فيها المعجب المطرب من الفكر الرائع والفن البارع، كما يصادفك المشهد السمج والحوار الثقيل خصوصاً إذا كان ذاك المشهد أو هذا الحوار فيما يتعلق بتقليد يوناني تطاول عليه العهد فلم يعد سائغاً عندنا اليوم

بعد مقتل أخيل بطل أبطال اليونانيين اتفقت الآراء على ان تُمنح دروعه وعدته الحربية التي صنعها له فلكان الحداد إله النار لأشجع الأحياء من أبطالهم المحاربين، وبالرغم من أن أجاكس كان أشجعهم جميعاً فقد رأى القضاة أن يخلعوها على أودسيوس لأنه كان إلى شجاعته أبرع اليونانيين حيلة وأكثرهم حكمة. . وكان ينبغي أن يخضع أجاكس لهذا الحكم، إلى أنه ثار وتولاه الغضب واعتزم أن يقتل القضاة الظلمة الذين جرحوا كبرياءه بما فضلوا عليه أوديسيوس. . . لكن أثينا (مينرفا) التي كانت تحابي أوديسيوس دائماً، لم تدعه يفعل، بل أسلمته لطائف من المس وفورت من الجنون، فامتشق سيفه وراح يقتل قطعان الشاء

ص: 15

والْنعم وهو يحسب أنه يقتل أعداءه القضاة من قادة الإغريق. . . ثم يفيق أجاكس ويعلم ما كان من أمره، وينظر إلى نفسه فيراه رجلاً لم تعد له كرامة بين عشيرته، ويري الجميع يصدون عنه. . . فيألم ويضيق بحياته، ويزيده ألماً ما ظن من حنق أثينا عليه، وما عرف من تحقيره أَمَتَه الجميلة تكماسا، فينطلق إلى مكان موحش مهجور عند شاطئ البحر، ثم يتكئ بصدره على سنان سيفه، فيسقط على الرمال ويتشحط في دمه. . . ويجتمع القادة حول جثمانه فيختلفون ساعة على دفنه، ولكن أودسيوس ينسى سخيمته، ثم يتولى الدفاع عن عدوه في عبارة كلها تمجيد له واعتراف بفضائله، فلا يسع الباقين وفي مقدمتهم منالوس إلا أن يوافقوا على الدفن وأقام الشعار الدينية على جثته. . . ويقع ثلث المأساة تقريباً بعد انتحار اجاكس، وهذا عيب درامي وقع فيه سوفوكليس حين غلبه الشاعر المستكن فيه على الدرامي الذي هو أروع نواحي شخصيته العجيبة العظيمة. . . وتمتاز هذه الدرامة بالكلمات الجميلة الخلابة التي كان يتبادلها الزعماء فوق جثمان أجاكس، ثم أوديسيوس منه بعد الانتحار. . . ثم هذه النجوى وذاك الوداع الذي فارق بهما أجاكس دنياه وهو يشحذ سيفه وجعلهما آخر أنفاسه. . . على أن أثر إسخيلوس واضح جداً في هذه المأساة التي صور فيها الشاعر صراع الإنسان ضد المقادير وما يلقى في تمرده على القضاء من شقاء. . .

3 -

أنتيجونى (445 ق. م)

تعتبر مأساة أنتيجونى أجمل فرائد سوفوكلس، وقد نظمها سنة 442. وتكاد تكون الحلقة الرابعة في ثلاثية إسخيلوس التي ثالثها (سبعة ضد طيبة). فقد شهدنا كيف تبارز الشقيقان: إتيوكليز، وبولينيسيز، وكيف قتل كل منهما الآخر في مأساة إسخيلوس. هنا ينهض بالملك الطاغية كريون أخو الملك أوديب غير الشقيق، وتكون مهمته شاقة لأنه يلي أمر مملكة منهوكة جائعة حزبتها الحرب التي أثارها بولينيسيز، والتي استعان فيها على وطنه بجيوش الأجانب مما جعل مواطنيه ينقمون عليه ويبغضونه أشد البغض. من أجل هذا احتفل كريون بجناز إتيوكليز وأقام الشعائر الدينية على جثته. ثم أمر في الوقت نفسه أن يترك جثمان بولينيسيز منبوذاً بالعراء تنوشه الجوارح، وتغتذي به بواشق الطير وجياع السباع. لكن الفتاة أنتيجونى تسخر بأوامر الملك وتعرض نفسها للمهالك حيث تذهب إلى

ص: 16

جثة أخيها فتحثو عليها التراب وتدفنها وتؤدي لها شعائر الدين التي لا تستقر أرواح الموتى إلى بعد أدائها. هنا تثور ثائرة الملك، ويأمر بالقبض على الفاعل الذي استهزأ بقوانين الدولة؛ فلما يعلم أن أنتيجونى هي التي أتت هذا الأمر لا يبالي أن يأمر بدفنها حية بالرغم من إنها مخطوبة لولده هايمون الذي يحبها ويهيم بها ويعبدها عبادة. ويحضر الابن فيجادل أباه في محبوبته، بل معبودته لكن الرجل ينسى كل شئ إلا انه ملك. فينصرف هايمون بعد أن ينذر أباه أنه لن يراه بعد اليوم، ويذهب فينتحر عند باب القبو الذي دفنت فيه أنتيجون. ثم تنتحر أمه عندما يأتيها نعيه، تلك الأم الرءوم المعذبة التي فقدت ولدها ميجاريوس من قبل، إذ ضحى أبوه من أجل صوالح الوطن. ويتلفت كريون فيراه وحيداً في هذه الحياة العبوس الجائحة، يبكي قلبه من غير أن ينفعه أن حفظ سلطان القانون فيتمنى، ولن ينفعه التمني، لو أنه سمع لنصيحة الكاهن الذي محضه النصح أن يترفق بولده حتى لا يصب الويلات على رأسه

لقد كان سوفوكليس فناناً عظيماً في هذه المأساة الخالدة. . . لقد صور فيها شخصيات رائعة لم تظفر بمثلها درامة في تاريخ المسرح. . . فهذه هي أنتيجون العنيدة الصارمة التي لا تبالي سلطان الملك وجبروت الدولة، وهذه أختها إسمنيه الضعيفة الساذجة المضطربة التي لا تقر أختها على فعلتها، ولا تنكث بها مع ذاك. . . وذاك الفتى هايمون الذي يجادل أباه بالحق والمنطق، فلما يعييه إقناعه يرتخص الحياة بعد عروسه ويتخلص منها غير باك عليها، وهذا كريون الملك الذي يتغطرس ويغلو في غطرسته، لكنك لا تستطيع مع ذاك إلا أن تعجب به بصفته حاكما، ولا ينبغي أن يكون الحاكم إلا صلباً لا يبالي غير الحق ولا يتهاون في شأن من شئون السلطان. . . ثم أولئك المنشدون (الخورس) الذين يحبذون أنتيجونى حين تصرح أنها لم تأت منكراً حينما دفنت أخاها، ويرثون لها يمون العاشق حين يحاول إقناع الملك بخطل سياسته فلا يقتنع، في حين لا ينتقدون الملك حين يشتط في التمسك بأوامره ووجوب معاقبة الخارجين عليها لأنهم يكونون خوارج على الدولة. . .

هذا إلى فن سوفوكليس وروعة أسلوبه الذي يقول فيه جيته: (إن كل شخصيات سوفوكليس قد أوتوا نعمة الفصاحة، وجمال البيان، فهم أبداً مداره الباء يعرفون كيف يسوقون حججهم ويقيمون براهينهم بحيث يكون السامع إليهم في صف المتكلم الأخير منهم دائماً!)

ص: 17

4 -

أديبوس تيرانوس (أوديب الملك)

عرضنا خلاصة هذه المأساة في إسخيلوس عندما لخصنا (سبعة ضد طيبة). ودرامة فوكليس تتناول حياة أوديب بعد أن رقى أريكة الملك ثم تتسلسل الحوادث حتى يعرف السر الهائل: أنه قتل أباه وأنه تزوج من أمه وأنه أولدها أبناءه جميعاً. . وأروع مشاهد المأساة ذلك المنظر الذي يعترف فيه كل من أوديب وأمه أحدهما للآخر عن الماضي المؤلم المشجي. ثم تلك النهاية التي تقتل الأم فيها نفسها، ويسمل الابن عينيه. وبالرغم من روعة الماسة وسموها الفني قد لاحظ عليها النقاد ضعفاً في الحبكة الدرامية، إذ كيف يسيغ الذوق الدرامي أن يتزوج شاب قوي فتى جميل مثل أوديب امرأة عجوزاً شمطاء تكبره مرتين أو أكثر من مرتين مثل أم هذا الفتى!؟ ليس في تاريخ الجمال اليوناني ما يسيغ هذا الوضع وخصوصاً على المسرح. وقد اعتذر أرسطو عن ذلك بأنه عيب يضيع في روعة حوادث المأساة وجمال تسلسلها وشدة أسرها. . . ثم لماذا تنتحر الأم ولا ينتحر أوديب؟ لماذا يكتفي بأن يسمل عينيه ويعيش بقية حياته أعمى في تيه الغابات؟! يعتذر أرسطو لذلك أيضاً بأن الأسطورة كانت مشهورة قبل سوفوكليس فلم يشأ أن يتناولها بالتبديل والتحوير، ويُرد على ذلك بأن سوفوكليس كان يصور الناس والحوادث بما كان ينبغي أن يكون فِلمَ لم يطبق قاعدته على مأساة اوديبوس؟!

5 -

عذارى تراشينيا

لا ندري لماذا أطلق سوفوكليس ذاك الاسم على مأساته هذه إلا أن تكون قد حدثت هنالك. . . وكان الأحرى أن يسميها ديانيرا أو مقتل هرقل يعترض طريق هرقل في إحدى مغامراته نهر عظيم لا يستطيع أن يعبره وتكون معه زوجة الجميلة المفتان ديانيرا فيبدو لهما سنتور عظيم ويعرض أن يحملهما إلى العدوة الأخرى. . . وتركب ديانيرا على ظهر السنتور ويخوض بها في اليم فيحس نحوها بغرام شديد فيعتزم أن يهرب بها من هرقل، فلما يبلغ العدوة الأخرى ينطلق بها فتصرخ فينتبه هرقل فيرسل أحد سهامه المسومة بدماء هيدرا فيخترم السنتور. . . وقبل أن يموت السنتور يهب ثوبه لديانيرا فتفرح به لأنه كما زعم لها يرد إليها محبة زوجها إذا تحول عنها قلبه بشرط أن يلبسه. . . وتحتفظ ديانيرا بالثوب سنين عدداً ثم يمضي هرقل في أحد مجازفاته فتعلم انه صبا إلى حبيبته شبابه وخليلته

ص: 18

الأولى فتضطرم الغيرة في قلبها وتذكر ثوب السنتور، ثم ترسل أحد خدمها ليلقي هرقل وليقدم له ثوب السنتور فيلبسه (لأنه يعيد إليه ما خار من قواه في مجازفاته الشاقة)، وما يكاد هرقل يلبس الثوب حتى يسري سم السنتور في جسمه فيعذبه ويضنيه حتى يموت. . . وتعلم ديانيرا بموت زوجها فتعرف حقيقته الثوب وأن السنتور وإنما أراد أن ينتقم من هرقل لأن قتله فتحزن ثم تنتحر في

هذه المأساة والمأساتين التاليتين نلحظ تبديلاً في سوفوكليس ونرى أنه تأثر بالشاعر الشاب يوريبيدز. . ثم نلحظ ضعفاً في الحبكة الدرامية سببه الهرم وتقدم السن، فقد نظمها بعد الثمانين وفي عصر تقلقل وصراع بين أثينا وإسبرطة.

6 -

فيلوكتيتس (409 ق. م)

عندما حضرة الوفاة هرقل منح سهامه المسمومة لرصيفه البطل فيلوكتيتس الذي صحب اليونانيين في حملتهم على طروادة. . . لكن أفعى لدغته في رجلة في جزيرة لمنوس، وأحدثت بها جرحاً بليغاً سبب له ألماً شديداً، وخشي المحاربون أن يكون سبب في طاعون يذهب بريحهم فتركوا البطل المسكين وحيداً فوق الشاطئ ثم أبحروا إلى طروادة. . . واستمرت الحرب عشر سنوات سجالاً بين الفريقين، ثم جاءتهم نبوءة أن طروادة لا تسقط إلا إذا حظر الحرب فيلوكتيتس ومعه سهام هرقل. . فذهب البطل أودسيوس ومعه البطل نيوبتوليموس بن أخيل إلى حيث ثرى فيلوكتيتس ليحتالا عليه فيحضر معهم إلى طروادة بسهام هرقل. . . وقد شق على البطل أن يفعل وعز عليه أن يصحب قوماً أهملوه في كربته وغادروه وراءهم وهو في شدة الحاجة إلى معونتهم، وكان جرحه ما يزال يؤلمه ويبرح به. . . ولكن شبح هرقل يبدو له في شبه حلم وينصح له بالذهاب إلى طروادة لنصرة قومه، ولأن هناك الطبيب ماشيون الذي يستطيع مداواة جرحه فيهش فيلوكتيتس وينهض من فوره، ويمضي إلى طروادة. . . وحل عقدة الدرامة على هذا النحو يدلنا على مبلغ تأثر سوفوكلس بيوريبيدز

7 -

أوديبوس في كولونوس

لا ندري لماذا عاد سوفوكليس فجأة وبعد نصف قرن تقريباً إلى مأساة أوديب؟ لعله أراد أن يرد على آرسطو قبل أن يولد (384 - 322)، كما أراد أن يقول لماذا لم ينتحر أوديب

ص: 19

كما انتحرت أمة!

بعد أن سمل أوديب عينيه نفاه كريون باتفاق بينه وبين أبنيه المتنازعين على العرش مما جعل أوديب يرسل لعنته على ولديه. . . وذهب الملك الأعمى ليأوي إلى الأحراج والكهوف فتبعته ابنته أنتيجونى لتعينه وتقوده وتسليه، وكانت ابنته الثانية إسمنيه تختلف إليه في الخفاء لتنهى إليه أسرار طبية. . . وتمضي السنون. . . ثم تقول نبوءة إن أوديبوس إذا مات في أرض أجنبية وأشتملت جثمانه تلك الأرض فإنها لا تلبث أن تغزو طيبة وتنتصر على أهلها. . ويذهب أديبوس على وجهة في الأرض، تقوده أنتيجونى حتى يأتيا أحراج يومينيدز أو ربات اللطف والرحمة فما يكاد الملك يمس بقدمه أرضهن حتى يشيع فيه إحساس الرضى والشعور بالرحمة فيعلم أن الربات قد عفون عنه وغفرن له ذنبيه العظيمين: قتل أبيه وزواجه بأمه. ثم تأتيه بذلك النبوة، وتشمله حماية الربات، ويتلقاه ثيذيوس عظيم كولونوس فيكرم مثواه ويعطيه عهده على أن يحميه ضد ولده وضد كريون على السواء. . . وهكذا تنتهي آلام هذا الرجال التعس، وتعود إليه طمأنينته بعد أن كفر عن ذنبه. . .

والمأساة لا عقدة لها، بل هي سلسلة من الآلام عرضها سوفوكليس عرضاً جميلاً رائعاً، واستجمع لها رصانة الأسلوب ودقة الأداء وفتنة الفن. . . وقد مات سوفوكليس ولم يشهد مأساته تمثل، وقد تولى إخراجها حفيده المسمى باسمه فجمع لها قدسية الأكروبوليس وشدو البلابل وعظمة أثينا التي حطمتها إسبرطة

وبعد، فهذا عرض سريع مقتضب لا يغني عن قراءة الأصول شيئاً.

دريني خشبة

ص: 20

‌يا غازي. . . عليك رحمة الله!

للأستاذ علي الطنطاوي

عليك رحمة الله (يا غازي) الحبيب، يا فخر الشباب، يا من لم يمتع بالشباب! يا سيد العرب، يا من روع فقده العرب. يا بدر العراق الآفل، يا أمل الشام الذاهب يا دنيا من الفتوة والبطولة والنبل طواها كف الموت (يا غازي) عليك رحمة الله!

بالأمس استصرختك وأنت أملنا وملاذنا، وأنت عوننا على الدهر الظالم، والعدو الغاشم، أفأقوم اليوم لأرثيك يا أملنا ويا ملاذنا؟ أأقف على قبرك الطريّ مودعاً وباكياً، وقد كنت أقف على بابك العالي مستغيثاً ومستصرخاً؟ أأخاطبك اليوم من وراء القبر وقد كنت بالأمس ملء الكون حياة وقوة وشباباً؟ ليتني ما عشت حتى أرى هذا اليوم! ليت يدي ما طاوعتني حتى أكتب هذا المقال! ليتني ما بقيت حتى أرثيك يا غازي! (يا غازي) جل المصاب وما لنا فيه يدان! (يا غازي) عظم الخطب وضاقت الحيلة! (يا غازي) لو كان يفتدى ميت لفداك العرب بأنفسهم! (يا غازي) قد فقدناك فعليك رحمة الله!

على شبابك الكامل، على بطولتك النادرة، على أيامك الحلوة، على ذكرياتك الخالدة، على روحك الطاهرة (يا غازي) رحمة الله!

أفي عشرة أيام يدور الفلك، وتتبدل الدنيا، ويستحيل عيد مولد الملك الشاب الحبيب، إلى مأتم الملك الشاب الحبيب؟

أفي عشرة أيام تمر دنيا كاملة، تبدأ بأعظم عيد عرفه هذا الشعب هو عيد ميلاد (غازي) وتختم بأجل مصاب رآه. وهو المصاب (بغازي)؟

من كان يظن وهو يشهد أفراح هذا الشعب في (21 آذار) يوم الربيع الطلق، ويوم (غازي) الذي كان أمرع من الربيع وأبهى، أن الفجيعة الكبرى كامنة في الغد القريب، وان هذا الشعب سيلطم وجهه ويمزق ثوبه حزناً على (غازي)؟ أأحسست بالغد القريب فذهبت تستعجل القدر لتهيأ لأمتك كل شيء قبل أن تمضي، فعرضت جيشك يوم الثلاثاء لتؤكد لها القوة والأيد، وفتحت السدة يوم الأربعاء لتضمن لها الحضارة والخصب، وعطفت على آلام سورية لتنشئ لها الوحدة والعزة، وأجريت الخيل يوم الجمعة لتعلم وليدك الصغير كيف يكون فارساً قبل أوانه، كأنك شعرت أنا سنفجع فيك قبل الأوان؟

ص: 21

لقد كنت قريباً منك يوم (عرض الخيل) فرأيت في عينيك وأنت تراقب أبنك معنى من معاني الغيب ولكنا ما أدركته، ومن أين يخطر على بالي أنك كنت تودعه، وتفكر فيه كيف يفقد أباه ويجد الملك، فلا يدري ما الملك ولا بني ينادى: بابا. . .؟ من كان يظن أن الملك الشاب أبن الخمس والعشرين يموت؟

من كان يظن أن هذه الهبة الكبرى إنما هي استعجال للقدر، وأن هذه الأيام العشرة إنما هي الخاتمة البارعة لتلك الحياة البليغة؟: ولكن هل تم كل شئ حتى تستريح (يا غازي)؟ لقد وعدت (وفد العروة) أن تشرفهم بلقائك وما عهدناك أخلفت قبل اليوم وعداً. لقد كمل الجسر العظيم الذي لم ينشأ مثله في عهد الرشيد والمأمون، فأين أنت لتفتحه بيدك، وتخطو فيه أول خطوة؟ لقد وصل الخط الحديدي إلى الموصل أفلا تفضلت فرعيته وافتتحته؟ لقد أجمعت أمه الشام على نصبك ملك، وتسليمك عرش أبيك على رغم الظالمين، فأين أنت لتسكن قصر أبيك في دمشق وتحتل عرشه فيها؟ لقد تهيأ العرب ليمشوا تحت لوائك إلى قمم المجد وذرى العظمة، فتقدم يا قائد العرب يا مليك؟

وأين قائد العرب؟ أين المليك؟

لقد مشى إلى رحمة الله، فإنا لله وأنا إليه راجعون!

أحين اشتدت المعظلة، واستحكم الأمر، ورجوناك للخطب لا يرجى فيه إلى أنت. .؟

أحين تعلقت بك الآمال، وأقبلت عليك القلوب، وغدوت حبيب الشعب المفدى. .؟

أحين تمت بك الأفراح، وكادت تتحقق بك المنى. . .؟

اللهم لقد حرمت كل شيخ منا ابنه، وكل فتى أخاه، وكل صبي أباه، حين أخذت سيدنا وحبيبنا وملكنا غازي!

اللهم فارزقنا الصبر، وأين منا الصبر؟

(يا غازي) أرفع رأسك ساعة وانظر إلى شعبك. إنه يحار ماذا يصنع، فهو يسكن واجماً ثم يثور نادباً، ثم يستفزه الألم فيقرع الطبول ويرقص رقصة اليأس. إنه يحمل صورتك مجللة بالسواد فلا يراها أحد حتى يبكي. على أنهم حملوا صورتك في الأفئدة ونقشها على صفحات النفوس، فأنت من كل قلب حبته، ومن كل عين سوادها؛ اسمك آهة على كل لسان، ودمعة في كل مقلة، وخفقه في كل فؤاد، ومناحة في كل بيت عربي. . .

ص: 22

فيا غازي، عليك رحمة الله!

لقد لحقني اليوم طفل ما أحسبه بلغ الرابعة، فجعل يطلب مني بإلحاح ويشير بيديه؛ فأعطيته فلسين فألقاهما في وجهي، فزدتهما فرما الأربعه، فتفهمت قصده فإذا هو يطلب شارة سوداء كالتي أضعها في صدري ليعلن بها الحزن عليك، فدفعتها إليه فانصرف وهو يذكر اسمك ويبكي!

لقد رأيت عجوزاً تنظر إلى رسمك المجلل بالسواد وتبكي بحرقه كأنما تبكي فيك ولدها الوحيد، وهي تظن أنه ما يراها من أحد إلا الله!

لقد أغمي على كثير من الطلاب والطالبات لما سقط عليهم الخبر الأسود. لقد احمرت من اللطم صدور وخدود يؤذيها مس النسيم!

يا غازي، يا أيها الفتى القوي، يا أيها الفارس الطيار، ألم تعد تستطيع أن ترفع رأسك مرة أخرى لترى ما صنع شعبك؟

لقد مت من القضاء مرت ولكنا متنا من الحزن ألف مرة، وسنموت من الحزن ألف مرة، ولن ننساك (يا غازي)، مثلك ما ينسى! إن الشام الذي نادى بك مليكاً منذ أيام وكنت أنت أمله لم يبقى له أمل، فهو يبكي فيك اليوم كل شهيد من شهدائه. إنه كان يحبس دمعه من أجلك فلم يحبس الدمع من بعدك؟

إن العجوز التي كانت تتلقى أبنها وهي تهتف باسمك، لم يبقى لها من تهتف باسمه من بعدك!

(يا غازي) من لأطفال الشام، من لنسائه، من لضعافه الذين يسومهم القوي ألوان الخسف؟ (يا غازي) من لهم، وباسم من يهتفون من بعدك؟

(يا غازي) ما تيتم لفقدك فيصل الصغير وحده ولكن فقدك يتم كل عربي. ما يتم فيصل الصغير، أبداً ماتيتم، إن كل عربي له أب وخادم وصديق، إن له في قلب كل عربي مكاناً!

أحقيقة أنهم أودعوك جوف الثرى؟

(يا غازي) إني والله ما أصدق أنك مت!

(يا غازي) لقد سمعت الخبر فكذبته، ولعنت ناقله وانتظرت أن أراك طالعاً علينا، تمر مر النسيم الناعش، مرّ الرجاء الحلو بخيال الآيس الحزين، تحي شعبك، وتسبغ عليه القوة

ص: 23

والحياة بابتسامتك المنيرة وفتوتك الباسلة؛ وطفقت أراقب الساعة أحسب الوقت فلم تمرّ، فشككت ولكني لم أصدق ما قال المرجفون، ورأيت النساء يبكين ويندبن، فبكيت والله ولكني لم أصدق ما قاله المرجفون. . . وشاهدت بغداد وملء شوارعها البكاء والحسرة والندب، ولبثت أشك ولبثت أرجو، حتى سمعت المدافع ووعيت صحيحة، فلم يبقى شك ولم يبقى رجاء. . . لقد تحقق النبأ فواحسرتاه. . . لن نراك (يا غازي) طالعاً علينا، لن نبصر من بعد موكبك ولا ابتسامتك ولا تحيتك، فيا غازي في ذمه الله وأمانه، يا غازي عليك رحمة الله.

يا أهل بغداد!

مات غازي فابكوا واندبوا، فعلى مثل غازي يحلو الندب والبكاء.

يا أهل بغداد!

ما فجعتم فيه وحدكم، ولكنها فجيعة العرب بسيد العرب. لقد كان منار رجائنا (معشر الشاميين) فانطفأ المنار. لقد كان لنا مناط الأمل. لقد كان لنا كل شيء. . . فيا أهل بغداد كلنا في المصيبة سواء ولكننا سنتبع طريق غازي، وسنمشي تحت لواء خليفته. حتى نبلغ الغاية التي سعى إليها ويقول التاريخ: إن العرب يبكون سيدهم الراحل لأن لهم عواطف وقلوباً، ولكنهم يخلصون لسيدهم الجديد لأن لهم مطامح وعقول. فيا غازي أذهب إلى رحمة الله مشيعاً بالحب والإكبار. ويا أبن غازي اعل العرش، وانشر اللواء واحمل التاج، فإنه ليسر روح غازي في سمائها، وعظامه في ثراها أن يخلص شعب غازي لخليفة غازي كما أخلص له.

يا غازي عليك رحمة الله. ويا خليفة غازي ابسط يديك فهذه بيعتنا، وسر بنا إلى الأمام فهذه سواعدنا وهذه أرواحنا. . . إلى الأمام. . . وعلى غازي رحمة الله والسلام.

علي الطنطاوي

ص: 24

‌فتح في عالم الطب

يوفق إليه بحاثة وطني

للأستاذ فليكس فارس

إذا كان رجال العلم في الأقطار الغربية يترصدون كل اكتشاف ويرقبون كل اختراع يوفق إليه التفكير الإنساني أيان كان التماعه ومن أية أمة كان انبثاقه، وإذا كنا نحن في بد نهضتنا لا يتتبع منا إلا النذر اليسير خطوات العلم في مجاهل الجسم البشري ومجالات الطبيعة في مختلف مظاهرها، فقد حق علينا على الأقل أن يستوقفنا ما يوقف إليه الباحثون من أبناء وطننا، وأن يهتم الخاصة والعامة منا بأية ظاهرة من ظاهرات العبقرية التي تتجلى من حين إلى حين في أبنا هذه السلالة العربية الشرقية كأنها تباشير الشفق ودليل انبعاث لعهدنا القديم

لقد أراد البعض ممن يدعوننا إلى اتباع القافلة العلمية الغربية أن يدعوا تفرد السلالات الآرية في الذهنية الاستقرائية قائلين: إن ذهنية الشرقي لا تخصب ألا بالاستحياء والاستلهام من النفس، وإنها تقصر في مجالات التدقيق أما الظاهرات الكونية، وأن ليس لنا نحن أبناء السلالة السامية ألا الاقتباس والعمل بما يكتشف الغرب، فقلنا لهم: إن أجدادنا قد تسلموا تراث العلم مما سبقهم من الشعوب ودفعوا به إلى التكامل وتوسعوا فيه وزادوا عليه، فما أقنعهم دليل الواقع في التاريخ القديم؛ غير أن الزمان يمشي بخطواته والشرق العربي يستعيد أمه في يومه ويتهيأ لوثبته الكبرى في غده، فيعلم دعاة التقليد في مجال التفكير أن الله لم يخلق العقل من مغانيم متعددة متفاوتة الصفات في جماجم الناس؛ وأن الشعوب إذا انفرط شملها على سبل الثقافة في عواطفها وتمتعها في حياتها فأنها لا تجد أمامها إلا صراطاً واحداً في التفكير، وهي متجهة إلى العلم ومعرفة الحقائق الواحدة في جوهرها

هذه كلمة لم أر بداً من إيرادها عطفاً إلى ما سبق لي نشره في مبحث الشرق والغرب لا تدرج إلى قول كلمة في ظاهرة من مظاهر نهضتنا العلمية يحق لنا أن نباهي بها، وقد أقرها من الغرب من لهم ردُّ ما بني على التوهم والاعتراف بما يؤيده العلم الصحيح

من الأمراض التي أضلَّت أسبابها الباحثين قديماً وحديثاً داء الروماتزم أي الالتهاب

ص: 25

المفصلي الحاد بأنواعه. فكان دهاقنة الطب يعرفون عنه انه داء عضال خفيت أسبابه، وعزُّ على الطب التحكم فيه إطلاقاً لأنهم لم يوفقوا إلى اكتشاف العامل الحقيقي الذي يلهب المفاصل بسمومه، ولا عرفوا نوع هذه السموم إلى أن قيض الله لطبيب مصري من هذا الشرق العربي، وهو: الدكتور نجيب فرح المقيم في الإسكندرية ان يكشف هذا العامل الخفي، ويهتك بإظهاره للعلم سلسلة من أسرار المناعة والدفاع لا في داء الروماتزم فحسب بل في غيره أيضاً من الأدواء التي لا يزال العلماء يعالجون خفاياها وحين عقد المؤتمر الطبي العربي أوائل فبراير الماضي في القاهرة تقدم الدكتور فرح إليه بتقرير مستفيض عن أبحاثه التي أعترف له بها دهاقنة أطباء الغرب واستشفوا من ورائها آفاقاً جديدة للطبابة فأورد بالأسلوب العلمي شذرات قد لا يسبر كنهها إلا رجال الطب فرأينا التحدث إلى طبيبنا الوطني استجلاء لحقيقة هذا الاكتشاف. وهكذا تسنى لنا أن نضع هذا المقال، ونحن على جلية مما نعرض

لقد وفق مواطننا سنة 1933، وهو يعالج المصابين بالروماتزم إلى العثور على جرثومة البنموكوك ثائرة في دمهم، فاستوقفته هذه الثورة في داء لم يكن يُعرف من قبل أن له بها علاقة مباشرة إذ كان من المقرر فَّنا أن البنموكوك كما تدل تسميته وهي جرثومة ذات الرئة لا يسبب إلاّ التهاب الرئة عند تهيؤ الأسباب له للخروج من استكانته

وعندما لجأ إلى طريقة (نوفلد) للتفريق ما بين البنموكوك والستربتوكِوك (وهي تقوم بإضافة صفراء مرارة الأرنب أو الأملاح الصفراوية في أنبوبة المعمل على هذه الجراثيم فتحل النوع الأول ولا تؤثر على النوع الثاني) خطر له وهو يعاين هذا التفاعل في الأنابيب أن يقيس معدل هذه المادة المعروفة باسم (بيلسيروبين) في دم المصابين فثبت لديه أنها ترتفع ارتفاعاً متفاوتاً في شدته تبعاً لقوة رد الفعل الشخصي دون أن يكون في مجاري الصفراء أي انسداد وفي الكبد أية علة يسند إليها ارتفاع معدل المادة الملونة للصفراء في الدم بالتحول، فأدرك بهذه الخطوة الموفقة أمرين هما الحلقة المفقودة في علة الروماتيزم وفي علل أخرى كما سيأتي البيان. وأثبت أن الروماتيزم الحقيقي إنما هو نتيجة لثورة البنموكوك عندما تضعف مقاومة الجسم، وأن السم الذي ينبعث عنه إنما هو المسبب لالتهاب المفاصل كما أثبت في الوقت نفسه أن ارتفاع معدل المادة الملونة للصفراء في الدم

ص: 26

في هذه الحال ليس عبارة عن يرقان مَرَضيَّ بل هو رد فعل داخلي قد يبدو تحت سيطرة الغدد الصماء لحشد ما يمكن (لشبكة آشوف) الغارشية أن تمد به الخلايا من مادتها الملونة للصفراء لمقاومة البنموكوك المجتاح بتلبيده في السدم ثم حله ثم هضمه

وما احتفظ الدكتور فرح لنفسه بهذا الاكتشاف بل ذهب يكرر اختباراته وينشر عنها في كبريات المجلات الطبية، وقد سبق أن أدلى عنها ببيان في المؤتمر الثامن للاتحاد المصري للأطباء عام 1936 ونشر مثل هذا البيان في مجلة لا نسيت عام 1937، وفي مجلة أمراض البلدان الحارة في لندن عام 1938، ثم عرضه على مؤتمر أوكسفورد العالمي في جلسة ليمانفتون فدون في محضره. فكان لما جاء به هذا الطبيب الوطني من الملاحظة والاستقرار والتعليل شأن كبير لدى رجال الغرب المقطعين إلى استكشاف مجاهل الجسم واستجلاء أسرار العلل فيه

وعندما عقد المؤتمر الطبي العالي في بات من أعمال إنكلترا في أبريل سنة 1938 ووقف النطاسي (هانش) يعرض مشاهداته السريرية عن تأثير اليرقان في الالتهابات المفصلية والعضلية مكتفياً بسرد الحوادث دون الذهاب إلى تعليلها، وقف مواطننا الدكتور فرح فتناول شرح هذه الظاهرة بما اكتشفه في اختباراته انه طوال السنين من تأثير اليرقان تأثيراً ناجعاً في الروماتيزم مثبتاً أن المادة الملونة للصفراء تلبد البنموكوك وتحله وهو أصل الداء في ثورته. وهكذا جاء مواطننا في مجتمع من أكبر المجتمعات العلمية العالمية بتعليل يعززه الاستقراء والتحقيق لظاهرة كان يقف عندها الأطباء كأنها تصادف بين حلول داء الروماتيزم وظهور اليرقان دون أن يعلموا أن ثورة البنموكوك هي كلمة السر في حركة الهجوم والدفاع

أما الأمراض الأخرى التي اكتشف الدكتور فرح تأثير المادة الملونة الصفراء عليها، فمنها ذات الرئة وبعض أنواع الربو والحمى القرمزية التي تهبط الحمى والنوب فيها ويتماثل العليل بها إلى الشفاء بمجرد ظهور اليرقان وانتشار المادة الملونة للصفراء لحل البنموكوك وإبادته. ومنها داء السل والحمى التيفوئيدية التي تجد جراثيمها مرتعاً ملائماً في المادة الملونة للصفراء فتؤدي إلى استفحال الداء على عكس ما يحدث في ذات الرئة والروماتيزم والحمى القرمزية، لذلك يعمد الجسم في دفاعه إلى إنقاص معدل هذه المادة في الدم حين

ص: 27

يصاب بالعلل الأولى

وهكذا أثبت مواطننا أن هناك دفاعين: دفاعاً إيجابياً ودفاعاً سلبياً تؤمَّنه الشبكة الغارشية لإمداد الجسم بقوى الدفاع عن سلامته بحسب نوع الجراثيم التي تجتاحه

هذا وإنك لتجد في تقرير الدكتور فرح من تجاربه في دم الأرنب ما يدلك على مبلغ دقته واجتهاده في التوصل بالتجارب العملية إلى نتائج لا تترك مجالاً للشك في صحة القاعدة التي يضعها، فقد تحقق أن الأرنب ذو مناعة طبيعية ضد التيفوئيد لأنه لا مادة ملونة للصفراء في دمه، ولكنه تمكن من قتل هذا الحيوان بهذا الداء بمجرد حقنه يومياً بهذه المادة بعد تلقيح دمه بباشلس ابيرت

وفي هذا التقرير عن سير السل وما يؤدي إليه ظهور اليرقان من اشتداد العلة، والاتجاه إلى نزف الدم، وعن الحمى القرمزية، والربو وتأثير المادة الملونة للصفراء فيهما، ما يطول إيراده تفصيلاً في هذه العجالة.

وبعد أن أورد الدكتور بيانه مستشهداً باختباراته وبما جاء مؤيداً لها من اختبارات من أخذوا بنظريته من علماء الغرب يقول:

إننا لا نغالي إذا نحن أكدنا أن أشد أعداء الإنسانية خطراً إنما هي البنموكوك، وباشلس كوخ لأن عليهما تقع تبعة أكثر ما نشاهد من عاهات، وما يقع من وفيات. هذا فضلاً عن أن أعراضهما المرضية تتخذ أشكالاً جد متعددة؛ وإذا ما احتلا مرتعاً من الجسم توافر الاستعداد فيه أو انكشف إحساسه فإن الأول يؤدي إلى الإصابة بالروماتزم الحقيقي، والثاني إلى ما يشبه الحقيقي، وإلى داء المفاصل على اختلاف أنواعه وفقاً للتفاعل الخاص في كل فرد.

وبعد أن يعرض الدكتور البحاثة لأنواع الأمراض التي يلعب البنموكوك دوره فيها كذات الرئة والالتهابات الشعبية والربو والحمى القرمزية والسل يعود فيضع حدوداً للتمييز بين ما تثيره سموم البنموكوك وما تثيره سموم السربتوكوك من علل مختلفة مثبتاً تأثير المادة الملونة للصفراء وأملاح الصفراء على الروماتيزم الحقيقي بعد أن يثبت البنموكوك هو المسبب له عند ثورته

ومما لاحظه مما يؤيد اكتشافه هو أن المرأة المصابة بالروماتيزم تزول أعراض هذا الداء

ص: 28

منها بمجرد حبلها، لأن المادة الملونة للصفراء يرتفع معدلها إطلاقاً في دم الحامل طوال مدة الحمل

وقد حدد الدكتور فرح الأحوال التي تصح فيها معالجة المرضى بالحقن بالمادة الملونة للصفراء والأحوال التي تزيد فيها هذه المعالجة من خطورة الداء؛ وهنا تظهر الدقة البالغة حدها في الاستقراء إذ يتوصل البحاثة إلى تخطئة بعض دهاقنة الغرب في اعتقادهم أن كل روماتيزم يمكن معالجته مطلقاً بالمادة الملونة للصفراء لأن هنالك أنواعاً من الروماتيزم السلي (بونسه) تزيد خطورتها عند المعالجة بالمواد الصفراوية

من الصعب أن يتوصل كاتب إلى تلخيص كل ما أورده الدكتور فرح في تقريره من ملاحظات عززها بالرسوم العديدة المأخوذة عن مجالات المجهر ليبين التفاعل الذي تثيره مقاومة الجسم بين بعض أنواع الجراثيم والمادة الملونة للصفراء؛ فلمن تروق له هذه الأبحاث من غير الأطباء أن يرجع إلى المجلة الطبية حين صدورها ناشرة محاضرات أطباء البلاد العربية ولكل منهم أثر بين في دقة الملاحظة في الموضوع الذي تناوله مما يسجل للنهضة العلمية في الشرق العربي ما يرد قول القائلين بانحصار العبقرية السامية ضمن نطاق الذات المستلهمة وقصورها في الاستقراء والتحليل والاستنتاج في رحاب العلم والتحقيق العملي

إن القصور في نهضتنا لا يتجلى في جهود الأفراد ولا في استعدادهم فكرياً وعملياً، بل القصور كله كائن في هذا التفكك بل التناحر الذي يسود كل فئة من الجامعات في أوطاننا، إذ بينما تجد التضامن سائداً بين تجار البلاد الراقية وزراعها وصناعها وأطبائها وعلمائها وأدبائها لا تعرض لك هذه الفئات عندنا سوى التناحر والمزاحمة مما يؤدي إلى تقلص الهمم وانكماش العبقريات على نفسها. وقلما تجد كاتباً لم تنزل به النوائب من كاتب، أو تاجراً لم يزعزع تجارته تاجر، أو زراعاً لم يقطع أشجاره زارع، أو طبيباً لم يهزأ به طبيب. تلك هي علتنا، وإن نحن سجلناها على أنفسنا فما نقصد مجاراة من قالوا بضعف طبيعة الشرقي ونفور فطرته من كل تعاون، إنما نسجل هذا العيب على أنفسنا، وفي تاريخ أوربا في بدء نهضتها ما يشبه عيبنا بل ما يتعداه بمراحل؛ وليت وقائع كولومبس وغاليله وباستور متوارية وراء غياهب التاريخ. هذا وإننا نرجو آن يأخذ العقلاء بيننا بعبر الأيام

ص: 29

وحوادث الدهر ليعلموا على لمَّ الشمل وتوحيد الجهود وأن ينال علماء البلاد قسطهم من تعضيد الحكومة للنهوض بهذه الأمة المتفجرة ذكاءً وعبقرية ونبلا فتتبوأ المقام الذي حق لها في ماضي الحقب وهو حق لها في آتي الزمان

فليكس فارس

ص: 30

‌دراسات في الأدب

للدكتور عبد الوهاب عزام

الأدب يصور البيئة العامة

قلنا إن الأدب هو البيان المعرب عما يكنه ضمير الإنسان، وما تشعر به عاطفته، وما يصوره خياله من هذا العالم خيره وشره وجماله وقبحه؛ فهو صورة للبيئة التي يعيش فيها، والواقعات التي تنزل به، والآلام واللذات التي يحسها، والآمال والمكاره التي يرتقبها

يرى في إقليمه المروج والرياض في بهجتها ونضرتها، والجبال والبحار في عظمتها وروعتها، والغابات والصحارى في وحشتها ومخاوفها، فيبين عما يرى كما توحي العاطفة ويصور الخيال.

ويرى ألوانا ًمن العيش الرغد أو العيش النكد، وضروباً من السرور واللهو أو فنوناً من الحزن والغم

ويرى دولات من الظفر والغلب، وأخرى من الخيبة والهزيمة، فيتعاون على الإبانة عن هذا وذاك فكره وعاطفته وخياله

ويشهد شقاقاً في أمته، ونزاعاً بين عشيرته، أو يرى المودة والسلام والألفة والوئام، فيطبع في نفسه صورة الشقاق والنزاع والحرب والطعان، أو يتمثل في ضميره صور المودة والسلام والحب والإخاء

ويحيط به سلطان جائر يتحكم في فكره ووجدانه، ويسومه صنوف الذلة والعذاب، فيستنيم ويستكين حتى تموت المعاني في وجدانه، وتجف الألفاظ على لسانه، أو يأبى مجادلاً، ويصيح مغاضباً، ويتخذ البيان حجته وسلاحه، وجداله وكفاحه أو يتاح له سلطان عادل صالح يوسع له في الحرية ما وسعت الحرية الصالحة، فينطلق فكره في العالم، ويترجم عما يدرك وبشعر جهد بيانه، وملء قلمه ولسانه، لا يخشى حسيباً، ولا يخاف رقيباً

ثم البيان في هذا كله على قدر الفكر الساذج والمعارف القليلة، أو العقل الواسع والعلم الغزير، يختلف باختلاف مدارك القائل ومعارفه، ومشاهده وتجاربه

تغير الأدب

ص: 31

فإن يكن الأدب صورة للبيئة والحادثان، وترجماناً لحالات الأمة ومشاعر الإنسان فتغير هذه الأمور يغير الأدب. فإن كان التغير ارتقاء إلى الأحسن والأعلى مثل الأدب هذا الارتقاء، وإن كان ارتكساً في القبيح والأدنى صوّر الأدب هذا الارتكاس. فالأمم تختلف آدابها باختلاف بيئاتها وأحوالها، والأمة الواحدة تتغير آدابها بتغير عصورها وأطوارها، والأفراد في الأمة الواحدة تختلف آدابهم باختلاف فطرهم ومشاهدهم، وافتراق حظوظهم من العيش، وأنصبائهم منن المعرفة. وهلّم جرّا

المؤثرات في الأدب

فالمؤثرات التي تغير الأدب متشابكة، ظاهرة وخفية يعسر إحصاؤها والإحاطة بها، ولكن يمكن تعداد أصولها فيما يأتي:

(أ) البيئة الطبيعية:

إذا تغيرت بيئة الإنسان تغير أدبه ارتقاء أو انحطاطاً، أو رقياً في ناحية ونزولاً في أخرى. والتغير هنا له سببان: الأول اختلاف المرائي والموضوعات بين البيئة الحديثة والبيئة القديمة، والثاني تغير الإنسان نفسه بتأثير البيئة وذلك لا محالة يظهر في أدبه

فالعرب حينما هجروا مواطنهم في الجزيرة إلى العراق وفارس والشام ومصر والمغرب والأندلس تغير أدبهم تغيراً واضحاً: ضعف إحساس البداوة القوي الذي يظهر في وصف الصحراء والإبل والخيل وُحمرُ الوحش والظباء والنعام، وفي وصف السفر والكد والحروب - واستبدلوا به رفاهية الحضارة ورقة شعورها. فنشأ الشعراء الذين عرفوا في الأقطار الإسلامية بعد أن اطمأنت الأجيال العربية إلى البيئات التي طرأت عليها

(ب) واختلاف أحوال الحضارة ومنها:

1 -

الحال العقلية: فشيوع العلم والفلسفة واتساع المعارف يجعل الأدب أعمق. وأشمل لحقائق العالم ودقائق الطبيعة والحياة.

فشعراء الدولة العباسية وشعراء الأندلس (مثلاً) أبعد غورا وأوسع مجالاً في تفكيرهم، وتصويرهم من شعراء الجاهلية، وصدر الإسلام.

وتأثير المعارف في الأدب يظهر في النثر أكثر من الشعر. لأن النثر أولى بمباحث الفكر،

ص: 32

وأقبل للنظر العميق؛ ولذلك نرى سعة المعارف أبين في كتابة ابن المقفع والجاحظ، وبديع الزمان والتوحيدي، وابن العميد، وابن شهيد، منها في شعر أبي نواس والبحتري وأبي فراس. وربما يقارن انتشار العلوم ضعف الأدب لأسباب أخرى كسوء السياسة، وقلة المكافأة، والإسراف في الترف. وليس الضعف من انتشار العلوم، ولكن من هذه الأحوال المقارنة

فإذا رأينا القرن الخامس الهجري أوسع علماً وفلسفة من القرنين الثالث والرابع ولكنه في الجملة أضعف أدباً منهما، فذلك لا يرجع إلى اتساع المعارف بل يرجع إلى أسباب أخرى

وإذا رأينا الأدب قليلاً بين العلماء المنقطعين للعلوم فذلك بما اغفلوا الأدب أو قلت عنايتهم به؛ أو لأن فطرتهم التي وجهتهم إلى درس العلوم لا يلائمها درس الآداب. فأما إذا تساوى اثنان في الفطرة الأدبية والاتجاه إلى الأدب فأوسعهم معرفة أعظمهم أدباً وأقرب إلى نفوس الخاصة من الناس. وربما يفوقهم الآخرون حظوة عند العامة بما شاركوهم في الشعور ولم يرتقوا عنهم بالمعرفة والفكر كثيراً

2 -

الأحوال الاقتصادية:

إذا شغلت الأمة بتحصيل قوتها وأنفقت معظم وقتها في كسب معيشتها لم تزدهر فيها العلوم والآداب والصناعات. وإذا وجدت فراغاً بعد تحصيل القوت انصرفت إلى شئون الحضارة من العلم والأدب وغيرهما

فانتظام ثروة الأمة ورغد عيشها يعين على إزهار الآداب بما تجد النفوس من فراغ وبما يكثر أمامها من ألوان الحضارة وبدائع الصناعة والعمران التي تحرك الشعور للبيان

وانظر الحجاز قبل الإسلام وفي صدر الإسلام ثم بعد قرون تجد خلافاً بيناً في الثروة وفي الشعر. فالعرجيّ وعمر بن أبي ربيعه وكُثّير وابن قيس الرقيات، يبنون عن شعور دقيق وإحساس رقيق لم يكن لشعراء الحجاز قبلاً

وانظر ما فعلت مراثي الحضارة بالبحتري في وصف قصور الخلفاء، وما وصف شعراء الأندلس من مظاهر العمران والنعيم

وإن يكن إلحاح الفقر أحياناً يجوّد الأدب في بعض الناس فذلك يكون في أمة قد مكّنها ثروتها العامة أن تنتج أدباً. وأما الأمة التي يعمها الفقر وتُبرّح بها الفاقة، فلا ينبغ فيها

ص: 33

أديب إلا على الندرة والشذوذ

عبد الوهاب عزام

ص: 34

‌على هامش الفلسفة

طريقة الأخلاق أيضاً

للأستاذ محمد يوسف موسى

إذا كان استنتاج الأخلاق من الدين وربطها به حسب ما كان يراه رجال الدين المسيحيون منقوداً كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار فلاسفة ما وراء الطبيعة.

شغل كثير من الفلاسفة أنفسهم ببحوث ما وراء الطبيعة التي أهمها تعرّف القوة الموجدة لهذا الكون والتي إليها الأمر والنهي وهي مصدر الخير كله، ثم استنتاج الأخلاق منها، سواء منهم من تقدم بهم الزمن أمثال أرسطو وأفلاطون أومن تأخر بهم أمثال: ديِكارْت، لِيبْنز، سْبيِنوزا، مَالبْراَنشْ.

هذه الأخلاق المبنية على مباحث ما وراء الطبيعة لها حظها من السمو والجلالة بجعلها للخلقية الإنسانية معنى كبيراً نبيلاً إذ تربطها بالله العلي الحكيم. على رغم ما بين علماء ما وراء البيعة من اختلافات جوهرية في حل مشكلة العالم، تراهم جميعا متفقين على الاعتقاد بأن للمرء عقلاً نظرياً يصل من نفسه بلا حاجة لتجربة ولا لشيء آخر إلى معرفة الحقيقة الطلقة أي إلى معرفة الله تعالى، ومن هذه المعرفة العالية المباشرة تصدر الأخلاق. فالله هو مصدر كل حقيقة موجودة، والكائن الكامل ومبدأ الحياة الأخلاقية؛ فكرة الكمال هذه هي نقطة التحول مما وراء الطبيعة للأخلاق. كما أن نسب الكثرة هي موضوع الرياضيات، تكون نسبة الكمال موضوع الأخلاق والأساس الذي نبني عليه حكمنا على الأشياء والأعمال. الدابة كما يقول مالْبرانْش أوفر حظاً من التقدير من الحجر لأنها أقرب منه للكمال. والأمر على العكس بين الدابة والإنسان لأن نسبته من الكمال أوفى وأكبر من نسبتها منه؛ فالذي يحترم مثلاً حصان عربة أكثر من سائقها يكون ضالاً في حكمه متنكباً سواء السبيل. كذلك من الواجب أن نلاحظ أنه يوجد في المرء نسب متفاوتة من الكمال بين مختلف أعضائه، وهذه النسب تتباعد تارة وتتقارب أخر إلا أنها تتفاوت على كل حال؛ فالروح مثلاً أكمل من الجسم، والعقل أكمل الحواس

من أجل هذا يجب أن يعيش المرء كإنسان لاكحيوان، وأن يكون في سلوكه حسب النظام

ص: 35

الذي يوحي به إليه أكمل ما وهبه الله وهو العقل، ومعرفة هذا النظام هو أصل الخليقة. يجب على المرء أن يحيا طبقاً لأكمل عضو إنساني فيه وهو العقل الذي يؤلف بين الناس، بينما تفرقهم الشهوات والعواطف والمصالح الخاصة. بسلوك المرء هذا السبيل يصل للسعادة. ليس القصد السعادة الخارجية التي مردها الحظ أو الثروة أو الجاه أو كل ذلك وأمثاله معاً، بل السعادة الداخلية والغبطة النفسية التي هي أسمى ما يطمح إليه إنسان والتي ينالها المرء من التخلق بالفضيلة والوصول للكمال بالقدر المستطاع.

بهذا ونحوه يؤكد فلاسفة ما وراء الطبيعة إمكان استنتاج الأخلاق من تلك الأبحاث. إلا أن هناك صعوبة لا يسعنا تجاهلها تقف دون نزولنا على ما يريدون. أمامنا تاريخ الفلسفة يؤكد لنا بلا ريب أن الآراء في جميع مسائل ما وراء الطبيعة، والحلول التي عرضت لمشاكلها كانت جد مختلفة على نحو لم يعهد في الآراء الأخلاقية التي يرون استنتاجها منها وابتناءها عليها. حقاً من الممكن أن نقرر بلا مغالاة تقارب النظريات الأخلاقية في المثل العليا الأخلاقية؛ هي تأمر بفضائل واحدة، بينما لا تجد مثال هذا التماثل، ولا قريباً منه في حلول مشاكل ما وراء الطبيعة. من السهل أن نأخذ كثيراً من الآراء الأخلاقية عن سقراط، أو أفلاطون أو أرسطو، أو سبينوزا مثلاً دون أن نتقيد بشيء ما من آرائهم فيما وراء الطبيعة. ذلك معناه أن معين الأخلاق ليس فلسفة ما وراء الطبيعة، لهذا نرى أن هؤلاء الفلاسفة في حاجة شديدة لمهارة جدلية فائقة لربط المبادئ الأخلاقية التي جاءتنا عن الضمير الإنساني، والتي أمدتنا بها أمثل التقاليد العالمية الإنسانية بآرائهم في مسائل ما وراء الطبيعة. وإذاً فلنقل بحق إن ربط الأخلاق بما وراء الطبيعة ليس إلا سفسطة في الغالب من الحالات

إذا كان لم يسلم استنتاج الأخلاق من فلسفة ما وراء الطبيعة، كما لم يسلم القول بأخذها من الدين على النحو الذي أسلفنا، فهل من الممكن استنتاجها من بعض العلوم؟ هذا ما رآه (أوُجست كونت) إذ بنى أخلاقه على العلم الذي تنتهي إليه العلوم، وهو علم الاجتماع

علم الاجتماع يقرر أن الفرد ليس إلا أثراً من آثار المجتمع والإنسانية. الإنسانية هي الموجود الأكبر الذي يستمد الفرد منه كل كيان ومقوماته، فهو يتقبل من المجتمع الماضي والحاضر كل ماله وكل ما هو. ما نأكل وما نلبس وما نتمتع به في مختلف مناحي الحياة

ص: 36

ليس إلا نتيجة عمل الإنسانية الخالدة التي لا تفتر عن العمل لحظة من اللحظات لخير المجتمع كله. أليس ما ننعم به اليوم من سيارات وطائرات وراديو ولا سلكي وكهرباء بعض أعمال شركائنا في الإنسانية الذين عانوا في سبيل ابتداعها أو كشفها كثيراً من الآلام وعملوا لأجلها مالا يستهان به من التضحيات؟ ثم من الناحية العقلية والأدبية نجد اللغات والعلوم والآداب إرثا اجتماعيا أمدتنا به الإنسانية على طول الأيام.

لهذه النظريات الاجتماعية يستنتج (كونت) هذه النتيجة الأخلاقية وهي: أن الفرد يجب أن يعيش لأجل العائلة والإنسانية، وبعبارة أخرى يجب أن يكون مبدأه (الحياة لأجل الغير). إذن تكون الأخلاقية أو الخلقية هي أن نمكن للإيثار على حساب الأثرة. بل يقول أحد من يرون هذا الرأي وهو الأستاذ (جوبلو (ليس الإحسان عطية يقطعها المرء من ماله، بل هو تعويض واجب عليه دفعه)

حقاً هذا استنتاج جميل تعلق به الأفئدة ويتفق مع أعلى التجارب الأخلاقية للإنسانية، ولكن نقطة السير في هذه الأخلاق المبنية على هذه النظريات ليست من القوة والتسليم بحيث تفرض نفسها على العقل بطريقة جازمة. كون الفرد ليس إلا أثراً من المجتمع محل نزاع قوى. الضمير النفسي الذي يكشفه الإنسان في نفسه حقيقة من الحقائق، أل (أنا) حقيقة يقينية لا شك فيها، بل ربما كانت الحقيقة الآكد من سواها. لأنه كما يقول (ديكارت):(من الممكن أن أشك في العالم الخارجي ولكن لا يمكن أن أشك في شكي هذا. لا يمكن أن أشك في فكري. ليس من الممكن أن أشك في وجودي ككائن مفكر. إذن أنا أفكر فأنا موجود)

ثم هذا الاستنتاج الكُونتي يصلح حقيقة لإثارة النفوس المتشبعة بالمثل الأعلى الأخلاقي، إلا أنه لا يفرض نفسه منطقياً على كل النفوس والعقول. هذا امرؤ يعتقد الواجب ويؤمن به، فحينما يفهم أنه صنيعة العالم والإنسانية وأنه بدونهما لا يكون شيئاً، يجد من المنطق أن يرد الجميل وان يحيا في سبيل الغير. وذاك الذي ليس عنده أية فكرة سابقة عن الواجب، أية مخالفة للمنطق في قبوله كل مقوماته من المجتمع دون أن يرد له شيئاً، حقيقة ليس من الأخلاق أن ينفق المرء في سبيل لذائذه الأنانية الأموال التي جمعت بطريق الغير، والقوى المركزة فيه من الأسلاف السابقين. لكن هذا إن لم يكن من الأخلاق ليس من السهل وصفه بأنه لا يتفق مع الروح العلمية المنطقية

ص: 37

والنتيجة العامة بعد ما تقدم كله أنه لا يمكن استنتاج أخلاق صالحة مقبولة من الجميع من الدين - على نحو ما كان يفهم رجال الديانة المسيحية - أو من فلسفة ما وراء الطبيعة أو من علم الاجتماع الذي يعتبر نهاية العلوم. إذن فلنترك مؤقتاً الطريقة الاستنتاجية، ولنوجه البحث نحو الطريقة الثانية وهي الرجوع في الأخلاق إلى الحاسة الإلهامية، وإلى اللقاء إن شاء الله

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين

ص: 38

‌ربيع وربيع!

هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة ويا طفلتي الجميلة: صفاء من سلام النفس يفيض بشراً في العين وطلاقة في الوجه، ورُواء من ألَق الشباب يشع نوراً في السماء وسروراً في الأرض، ورخاء من نعيم الطبيعة ينتشر عطوراً في الجو وزهوراً في الروض، وانتشاء من رحيق العيش يشيع لذة في الحس وبهجة في القلب، وهدهدة على أرجوحة الحب تذهب مع الأمل الباسم وترجع مع الرضى السعيد

هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة ويا طفلتي الجميلة: استغراق في أمان الله، وإطلاق لمتاع الحياة، واتساق ربيع العمر مع ربيع العام، واتحاد الجمال البشري بالجمال الإلهي الماثل في وشاء الحقول وأفواف الخمائل وأعطار النسيم وألحان الطير وأنفاس الأحبة. فأين - بالله ربكما - أجد الفرق بينكما وبين ملكين يعتنقان في نشوة الخلد، ويأتلقان في وضاءة الفردوس؟ أفي النظرة الساهمة، أم في البسمة الحالمة، أم في الفتنة النائمة، أم في الخلو الحقيق بالطهر، أم في الحنو الخليق بالأمومة، أم في الذهول الغريق في اللذة، أم في الصبي الذي يضوع بريح الجنة، أم في الحلم الذي يصل باللانهاية؟

هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة ويا طفلتي الجميلة؛ وما كان أحرى الناس أن يكون لكل امرئ ربيع مثله! ولكن النفوس إذا عاث فيها الشر أجدبت فلا تُربْع، واضطربت فلا تطمئن! هذا ربيعنا يا زهرتي النضيرتين يلفح بالسَّموم ويطفح بالهموم ويضطرم بالعداوة! كأنما استخلف الله الشياطين على حكم الأرض؛ ففي كل دولة إبليس، وفي كل أمة جهنم. ومن طباع الأباليس كراهة الفراديس. فهم لا يريدون سلاماً في وطن، ولا يحبون ربيعاً في زمن، ولا يدعون آدم في جنة. هذا مَفيستو فولِس النازي وشمهورش الفاشي أصابهما الله بنمو القرون فجأة، فتأبَّها وًتألها ونازعاه ملكوت الأرض، فأحدهما يريد أن يعبده الغرب، والآخر يريد أن يعبده الشرق؛ وهما لذلك يحشدان كل ما في الجحيم من سُموم ونيران وحُمم ليدمرا في أيام معدودات سكان الدنيا وحضارة الدهر! والعالم كله قد وقف أمام الشيطانين موقف الدفاع لا تنتج معامله غير الخراب، ولا تخرج مصانعه غير الموت، ولا تحرك دوله غير الجيوش، ولا يفكر ناسه إلا في الحصون والخنادق والأسلحة والمخابئ والأقنعة!

فكيف يكون لربيعنا في هذا الجدب ازدهار، ولنفوسنا على هذا الفزع استقرار، ولحضارتنا

ص: 39

مع هذا البلاء استمرار، ولحياتنا على هذا الحال المحزنة جمال ولذة؟!

لعن الله يا ابنتي حوا شياطين الإنس وشياطين الجن، فإنهم لو لم يخلقوا لكانت الأرض كلها جنة، والناس كلهم ملائكة!. . .

ابن عبد الملك

ص: 40

‌من ذكريات شم النسيم

يوم لا أنساه. . .

للأستاذ محمد سعيد العريان

كان ذلك في طنطا منذ ست سنين، وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية قد جمعْتنا على الوداد أواصر لا تنفصم، فما نفترق إلا على ميعاد. وكان لنا من دار صديقنا أمين. . . ندوة نختلف إليها في مواعيد رتيبة، نقرأ ونتزود ونناقش الجديد من مسائل العلم والأدب، لا يكاد يفوتنا شئ مما تخرج المكتبة العربية؛ فإذا التقينا فثمة مذاكرة أو مناظرة أو رأى جديد؛ وإذا افترقنا فلكي يخلو كلُّ منا إلى نفسه وقتاً يتهيأ فيه لموضوع يطرحه على الجماعة في الاجتماع التالي؛ وما كانت الفترة بين الاجتماعين تزيد على يومين اثنين. . .

كنا نعيش عيش الرهابين قد فرغوا من الدنيا واخلصوا أنفسهم لما هم فيه؛ فما لهم من دنياهم إلا التسبيح والعبادة، وما لشيء عليهم من سلطان إلا ما اختاروا لأنفسهم!

وجاء (شم النسيم) فقال قائل منا: (أين تقترحون أن نقضي ذلك اليوم؟)

وما اختلفنا على الرأي، فما كان يعنينا أين نقضي يومنا، إذ كان كل ما يعنينا أن نكون معاً نعمل ما نعمل على النهج الذي فرضناه على أنفسنا منذ تعارفْنا: أي نقرأ ونتذاكر!

واجتمع رأينا على أن نخرج في ذلك اليوم إلى ضاحية قريبة من المدينة لا أسميها، حيث نقضي يومنا هناك في مصلَّى كبير يعرفه بعض أصحابنا على حافة ترعة من تلك الضاحية. . .

والتقينا على موعد قبيل الشروق وما أفطرنا بعد، فاتخذنا طريقنا بين الحقول الناضرة إلى حيث نريد، يحمل كل منا في يده أو تحت إبطه ما يقدر عليه من طعام وفاكهة وحلوى، ومن دفاتر يقدّر أن سيقرأ منها ما يقرأ في ظل شجرة الصفصاف الحانية على ذلك المصلى. . . ولم يغب عنا تدبير الماء الرائق، فحملنا ما يكفينا في زجاجات بأيدينا. ولم يتخلف عن الجماعة في ذلك اليوم إلا صديقنا الذي اختار لنا هذه الرحلة، لأنه آثر أن يساف لزيارة خطيبته في القاهرة، وقد أراد الله لنا وأراد له. . .

سارت الجماعة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، نتجاذب أطراف الحديث في صفاء وانشراح؛ لا يكاد يخطر في بالنا شيء إلا ما يجرى على ألسنتنا من فكاهة أو حديث مرتجل. . .

ص: 41

وخلّفنا المدينة وراءنا، فما تقع عيوننا إلا على زرع وماء، وقطرات الندى تلمع على أوراق البرسيم صافية تترقرق، وأشعة الصبح تداعب عِشاش الطيور في أعالي الشجر، والنسيم الرقراق يهمس في آذاننا بشرى ميلاد يوم جديد من أيام الربيع الضاحك!

واستخفنا الطرب؛ فأخذنا نمزج لاهين عابثين، وتخفَّفْنا من بعض ما كنا نحمل على كواهلنا من وقار، وانبعثت فينا روح جديدة لم يكن لنا بها عهد في أنفسنا قبْل، فإذا نحن ناس كالناس حين تصفو لهم الحياة ويعتدل الجو. . .

ومددت نظري إلى بعيد، فإذا المرحوم الرافعي على مدَّ البصر يمشي على حافة قناة بين زرعين يتنسم نسيم الصباح، شأنه كل يوم. قلت لصحابتي:(وهذا رفيق مؤنس!) ثم أقبلت عليه أسأله أن يرافقنا؛ فقال: (وددت ولكن في غير هذا اليوم. . . أسأل الله لكم العافية!)

ومضينا على وجهنا نمزح ونضحك لا يعنينا من أمر شيء؛ وأغفلْنا ما كنا نلتزم من تزُّمت الشيوخ ووقار المعلمين؛ وكان صديقنا (م) أسرعَنا إلى التخفُّف من وقاره على أنه أكبرنا سنَّا؛ فلما ثقل عليه ما يحمل من طعام وماء وكتاب، خلع المعطف الأبيض عن كتفيه، فبسطه على الأرض، فألقى عليه ما كان يحمل، فَصَرَّه فيه وحمله على كاهله. وراقتْ فكرتُه زميلاً منا، فألقى إليه بما كان يحمل كذلك، وتعاوَنا على حمل المعطف من طرفيه وعليه ما عليه كما يبسط بساط الرحمة في جنائز بعض الموتى. . .

. . . ورأينا باباً جديداً إلى المزاح، فألقى كل منا في المعطف بما كان يحمل، وتركنا لزميلينا أن يحملا وحدهما ما كنا نحمل جميعاً، لنفرغ إلى المزاح والسخرية والضحك!

ودنونا من المكان الذي نريد؛ وبدت لنا القرية على مقربة؛ فمررنا بنسوة يملأن جراتهن من الترعة على مورد قريب من المصلى الذي نهدف إليه؛ فما كدن يريننا حتى استهواهن المنظر، فقذفن إلينا بعض نكات مازحات في مرح، أو عابثات في دلال!

أما طائفةٌ منا فعادَهم وقار المعلمين وتزُّمت الشيوخ، فطأطئوا رؤوسهم يهرولون في خجل إلى حيث يريدون؛ وأما طائفةٌ فأجابت نكتة بنكتة ونادرة بنادرة. . .

وبلغنا المصلى وتركنا النساء حيث كنّ. . . وخلعنا أحذيتنا، وتخفَّفنا من بعض ثيابنا، واتخذنا من أغصان شجرة الصفصاف مشجباً نعلق عليه من طرابيشنا ومن ثيابنا؛ وافترشنا الأرض وبسطنا السفرة نأكل. .

ص: 42

وجلس اثنان يداولان الرأي في مسألة، وانتحى اثنان من المصلى ناحية، وتناول خامس كتاباً بين يديه، وتوسد سادس ذراعه، واشتغل كل بشأن. . .

وخلع (زهران) طربوشه، فبدت صلعته مصقولة لامعة تحت الشمس؛ فما تعرف أين ينتهي جبينه وأين يبدأ رأسه. . . وكانت مادة حديث. . .

ومر بنا طائفة من الفلاحين فنظروا نظرة ثم مضوا يتهامسون ووقف غلامان يشيران إلينا من بعيد، وتجاوزنا طفلان يُلقي أحدهما في إذن صاحبه حديثاً يضحك منه. . .

وتثاءب زهرانُ وتمطَّى وقال لي: هل لك أن تسابقني عَدوْاً على هذا الطريق؟ فأجبته إلى ما دعا. . . ولم أكن أعلم أن ثمة شراً يتربص!

وأخذنا نعدو ليس في أرجلنا نعل تقينا وخزات الحصى، ورأسي عار إلا من الشعر، ورأسه عار من كل شيء وترامت إلينا كلمات ساخرة وعبارات لم تألفها أذناي؛ فنال منى أن يسخر الفلاحون منى ومن صديقي. . . وأتممنا في السباق دورة؛ وهممت أن أجلس لأستريح، ولكن صديقي أباها علي؛ وعدنا إلى السباق، وعادت كلمات الساخرين تسك مسمعي!

وقلت لصديقي: (تعال نَعُد إلى إخواننا!) ولكنه وقد كان رأسه موضوع السخرية ومحور حديث الساخرين، أبى إلا أن يأخذ بحقه!

إن الفلاحين في مصر لأكرم نفساً وأرحب صدراً من ذلك؛ فما كان بهم أن يسخروا منا ولكنهم أرادوها تحرشاً وكيداً. . . ترى ماذا ظنوا بنا فحملونا على ما لم نكن نقصد إليه؟

وكان ثمة غلام في يده منجل يحش به البرسيم، وعلى شفتيه كلام، فقصد إليه صاحبي يعتب عليه معتبة؛ فما كانت إلا كلمة وجوابها ثم رأيت المنجل المسنون يحزّ في يد صاحبي فيسيل دم. . . وتجاوبت في الفضاء صيحتان، ثم سال الوادي فتياناً وكهولة مسلحين بالعصي والهراوات والشر يلمع في عيونهم!

وأحيط بنا فما وجدنا سبيلاً إلى الخلاص، واشتجرت العصي على رؤوسنا وأبداننا فلا نجد ما نحتمي به إلا أن نعقد من أيدينا على رؤوسنا مجِنّةً تقينا ضربةً قاتلة؛ وحاولنا الكلام فما أطقنا، ولو أطقنا لما وجدنا في هذا الجيش الثائر من يسمع؛ وأسلمنا أرجلنا للريح نعدو ونتعثر وما تزال العصي تنال من أبداننا وهم يحصبون أرجلنا بالحصى والحجارة. . .

ص: 43

ورأى أصحابنا على مبعدة ما نالنا فخفَّوا إلينا سراعاً حفاةً عراة الرؤوس؛ فما كان سعيهم إلا لينالوا نصيبهم من هذه المعركة الدامية؛ معركة لم يكن لنا فيها يدٌ ولا لسان وما نعرف لها من سبب! وأسرع من أسرع منا إلى دار العمدة يستعينه على تهدئة هذه الفتنة فأغلق دونه بابه. . .

وما كان لنا من وسيلة للدفاع عن أنفسنا غير الهرب، وهيهات. . .!

وبلغْنا المصلَّى عدْواً فقذفنا بأنفسنا بين متاعنا نلتمس الحماية والأمن في جوار الله فما أجدى ذلك علينا. واشتدتْ هجمة الفلاحين علينا، فإذا نحن محصورون بين نارين: العدوّ من أمامنا والبحر من ورائنا!

وأسرع واحدٌ منا إلى المتاع يجمعه فصاح منهم صائح: هذه هي الزجاجات! وقال آخر: يشربون الخمر في بيت الله! وقال ثالث: ويل لهؤلاء الفجرة!

. . . وفي هذه الُحمَّى الثائرة ثاب إلي عقلي ففهمت، فابتسمت، وإن الدم ليسيل من يدي ومن جبيني! لقد انكشف السر. . .

وما أدري ماذا كان بعد؛ فقد سقطت على أرض المصلّى فاقد الرشد!

وأفقت بعد قليل، وإن الماء الذي كانوا ينضحون به وجهي ليصل إلى كل جزء من جسدي؛ وكان جزء من جسدي؛ وكان شيخ البلد جالساً يحقّق ويدقق وقد أحاط به أصحابي مكلومين ملطخي الثياب بالدم والوحل كأنهم أشلاء معركة!. . .

وعرفت القرية كلها بما كان، فخفّ إلينا شيوخها وأعيانها معتذرين يحاولون أن يزيلوا من أنفسنا ما كان من أثر هذه المعركة المشئومة!

وقال العمدة معتذراً: (أحسب أن أثرها سيزول من أنفسكم بعد إذ عرفتهم ما كان من ظنهم بكم وإن قريتنا لكريمة مضيافة؛ فما استفزّ أشرارها إلى ما كان إلا اللعينُ الذي زوًّر عليهم الخبر بأنكم تشربون الخمر في مُصَلىَّ القرية. . .!)

ومازال بنا العمدة وحاشيته حتى صفحنا وتناسينا؛ ولكننا على ما بنا لم نطق بقاء في القرية بعد، فحملنا متاعنا وفارقْنا القرية قبل ان ينتصف النهار، يشيعنا بالاعتذار من شيّعنا من أهلها وما منا أحدٌ إلا في وجهه أثر باد يشير إلى ما كان!

فلما صرنا على مقربة من المدينة، وقد عاد المشيعون من أهل القرية أحسسنا التعب،

ص: 44

فجلسنا في ظل شجرة على الطريق نستريح، وهممنا أن نبسط ما كان معنا من طعام شهي لنأكل، فما وجدنا في أنفسنا رغبة، فتركناه لجماعة من القرويين لم ننتفع منه بشيء!

وأخذنا نسترجع ما فات، فتعاهدنا على الكتمان حتى لا يعلم أحد بما نالنا، فإن لنا في المدينة لسمعة نحرص عليها أن تنوشها ألسنة السوء بالباطل؛ ثم أصلحنا من ثيابنا ما استطعنا واستأنفنا المسير إلى بيوتنا فبلغنا عند الأصيل. . . وقضيتُ في فراشي بضع عشرة ساعة أتلوّى من الألم لا يحس أحد ما بي. . .

وفي الصباح توكأت على نفسي إلى المدرسة لا تكاد تحملني قدماي، في غيظ مكظوم وألم صامت. ولقيت في المدرسة بعض رفقائي في الرحلة المشئومة؛ فأكَّدنا ما تعاهدنا عليه أمس من كتمان ما كان. . .

وسألني ناظر المدرسة عن بعض ما ينكر من حالي فتعّللتُ بعلة، وسأل زميليّ فما أخطأ الاعتذار!

وتحدثت إلى سائر زملائي في مدارسهم بالمسرة لأطمئن عليهم فأجابوني. وانتصف النهار، وإذا داعِ يدعوني من حجرة الدراسة إلى لقاء جماعة من الُّزوَّار، فذهبت إليهم حيث كانوا فإذا عمدة القرية وجماعة من حاشيته وبينهم زميلاي وناظر المدرسة، وابتسمتُ وابتسموا، وقال العمدة:(لقد جئت لأكرر اعتذاري وأسألكم الصفح!)

ونال مني الغيظ، فقلت:(لقد كنت صفحتُ أمس، أما اليوم فلا، مادمتم أذعتموها بعد كتمان!) ولم أستطع أن أغالب الضحك جواباً على فكاهة رائقة من ناظر المدرسة. وعاد العمدة الغبي يقول: (لقد مررت بإخوانك جميعاً فاعتذرت إليهم في مدارسهم. إنني منذ الصباح أطوف المدينة على قدميّ ألتمس الوسيلة إلى رضاكم؛ ولكنى لم أذهب بعد إلى الأستاذ فلان المدرس بالمعهد الديني، وهاأنذا ذاهب إليه!)

قلت: (فلان المدرس بالمعهد الديني؟ حسبك معذرةً؛ سأنوب عنك في الاعتذار إليه، وقد صفحتُ وصفح إخواني!)

وما جاء المساء، حتى كان الخبر على كل لسان في المدينة؛ فقائل:(أخزاهم الله؛ لقد انكشف مستور هم!) وآخر يعقّب: (يا شيخ؛ حسبهم ما نالهم!)

ولقيت الرافعي بعدها فقال لي شامتاً: (. . . هو ذلك. إن الشر ليتربص بالمسلم الذي

ص: 45

يحتفل لهذا اليوم اكثر مما يحتفل لمطلع المحرّم! هذه وصية أب!)

وما ذقت حلواً ولا مرًا واحدة في يوم شم النسيم من بعد!

محمد سعيد العريان

ص: 46

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وان يحدد له

مكانة بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

مازالت إنجلترا وفرنسا بالسلطان حتى استطاعتا إقناعه بعزل إسماعيل فخلفه على أريكة مصر ابنه توفيق، وفي عهد توفيق قدر لمصر أن تنبعث فيها ثورة وقدر لأحمد عرابي أن يكون زعيم تلك الثورة. . .

وما أشبه توفيقاً في بلويس السادس عشر ذلك الملك المسكين الذي قال عنه بعض المؤرخين إنه ورث عن أسلافه الثورة والعرش معاً؛ فلقد تجمعت عوامل الثورة الفرنسية قبل عهده، وما زالت تنمو وتتزايد، وما زالت تلك الأقلام الجبارة أقلام فلتير وروسو ومنتسكيو وإضرابهم تحدوها وتمهد الطريق لها حتى جاء عهد ذلك الملك فاضطرب البركان ثم انفجر فكانت الرجفة التي زلزلت فرنسا زلزالاً شديداً

وأرى توفيقاً قد ورث عن سلفه كذلك العرش والثورة، فلقد تجمعت عوامل الثورة العربية في عهد ذلك السلطان، ثم راحت تحدوها وتمد لها الطريق أقلام جمال الدين وتلاميذه حتى جاء عهد توفيق فانبعثت الرجفة!

لم تكن الثورة العرابية حركة عسكرية فحسب كما يحلو لكثير من المؤرخين أن يصوروها عن عمد أو عن غفلة، وإن الذين يفعلون ذلك منهم ليأتون من ضروب الخطأ ما نعجب كيف يحملون على قبوله أنفسهم وعقولهم، وإنما كانت الثورة العرابية إذا أردنا وصفها في جملة: التقاء الحركتين الوطنية والعسكرية واندماجهما. فلما ذهب عرابي إلى الخديو على رأس جنده ذهب يحمل إليه مطالب الجيش ومطالب الأمة معاً، ومن ذلك الوقت صار سلاح الثورة السيف وقد كان سلاحها القلم، أو بعبارة أخرى حارت قيادتها بين السيف والقلم!

أخذت إنجلترا وفرنسا تتنافسان ففي بسط نفوذهما في مصر منذ حملة بونابرت؛ ولكنهما

ص: 47

وجدتا في محمد علي رجلاً لا كالرجال يمد سلطانه لا يفقد ذلك السلطان، فاكتف أولاهما بالسعي إلى تحطيمه، وفرحت الثانية بمصاحبته.

وجاء عهد إسماعيل، وفتحت قناة السويس، وازداد مركز مصر بذلك خطراً، فنصبت كل من الدولتين شباكها وعولت كل منهما أن تسيطر على مصر من طريق المال أولاً ثم من طريق التدخل السياسي ثانياً.

وراح إسماعيل يستدين ويسرف في الاستدانة حتى تراكمتِ على مصر الديون. ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلاَّ سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتدخل في شئون مصر وتتربص بها الدوائر.

وما هي إلا سنوات معدودة ثم منيت البلاد بالمراقبة الثنائية، وأصبح أمر داخلها ومنصرفها في أيدي المراقبين الأجنبيين. ثم نظرت مصر فإذا وزير ماليتها إنجليزي، وإذا وزير الأشغال فيها فرنسي، وإذا مصالحها تمتلئ بالموظفين من الأجانب يتمتعون فيها بالمرتبات العالية، وإن أهلها لتثقل كواهلهم الأعباء حتى يضيقوا بالحياة.

واشتدت الضائقة على الأهلين لكثرة ما كانوا يؤدونه من الضرائب؛ وأحس المتعلمون منهم أنهم خرجوا من حكم الخديوي المطلق ليدخلوا في نير الأجانب الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة.

وهبط السيد جمال الدين مصر يبث فيها مبادئه، ويحمل إليها قبسه، وكان جمال ذلك الرجل الذي أطلعه الشرق ليضيفه إلى كواكبه الزهر، يرى أن علة العلل في الشرق المغلوب على أمره أن شعوبه سليبة الإرادة: تحكم على رغمها، وتسخر لحساب الحاكمين؛ ولا مخرج لها إلا أن تعود حرة كما كانت من قبل حرة؛ ولن يكون هذا إلا أن تقوم الشورى مكان الاستبداد وأن ينسخ نور العلم ما تراكم في الشرق من ظلمات بعضها فوق بعض.

وكانت التربة في مصر صالحة لبذوره فنمت نمواً سريعاً يحمل على الدهشة؛ فما أسرع ما ظهرت في البلاد حركة وطنية كأعظم وأجمل ما تكون الحركات القومية؛ وراح تلاميذ جمال يذيعون في البلاد مبادئه. يقول في ذلك الشيخ محمد عبدة أنبغ تلاميذه وأحبهم إليه: (وكان طلبة العلم - طلبة جمال الدين - ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت

ص: 48

عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصاً في القاهرة).

وظهرت في تلك الأيام الصحافة العربية، وراح الناس يقرؤون فيها نفثات الوطنية، وأخذت تهب عليهم من بين سطورها نسمات الحرية، والتمع لهم فيها وميضها، فانتعشت أرواحهم وهفت إلى الانطلاق من الأسر قلوبهم.

وأدى اتصال المصريين بالأجانب إلى تتبع الأنباء العالمية في الحرب والسياسة. فزادت معرفتهم بأحوال العالم وقارنوا بين الشعوب الحرة وبين أنفسهم، وراحوا يستنبطون أسباب ما باتوا فيه من شقاء وذلة.

واهتدى الناس إلى منهجهم فعرفوا أن منجاتهم في أن يتخلصوا من الحكم المطلق ومن نفوذ الأجانب جميعاً، وظهر فيهم الزعماء فراحوا يعقدون الاجتماعات ويتدارسون أمرهم بينهم، وظاهرهم الخديوي آخر الأمر فأصابوا حظّاً كبيراً من النجاح، ورأى المصريون لأول مرة في تاريخهم وزارة وطنية تخضع لمشيئة مجلس يجلس فيه فريق منهم يعبرون عن مشيئتهم

ولكن المصريين ما لبثوا أن فجعوا في آمالهم بتدخل الدولتين تدخلاً جريئاً في شئونهم أدى إلى عزل الخديو وتركهم ذاهلين، تتنازع أفئدتهم عوامل الحنق والخوف والتشاؤم من المستقبل

وأسلمت قيادة السفينة إلى توفيق، فما كادت تسير حتى اكتنفتها الرياح الهوج، وقامت أمامها العقبات من كل جانب؛ فهاهم أولاء المصرين تتأجج نيران الحقد في قلوبهم على الأجانب ولن يطيقوا بعد اليوم أي جنوح إليهم، وهاهي ذي إنجلترا تتحفز وتتربص، ثم هاهي ذي فرنسا تتحين الفرص لتتغلب على منافستها. . وهناك تركيا جاءت آخر الأمر تطلب أن تعيد سلطانها في مصر سيرته الأولى فتردها الدولتان المتنافستان على عقبيها

والربان غير عليم بالسياسة وأنوائها، ولكنه على الرغم من ذلك راح يستغني عن أعلم رجاله بها، فتخلص من شريف وهو أحوج ما يكون إليه! وتنكر للحركة الوطنية وكان حقيقاً أن يعطف عليها عسى أن يحبه الوطنيون وعسى أن يحملهم هذا الحب على تناسي ما لحق بمنصب الخديوية من هوان صغر به في أعينهم؛ ولكن توفيقاً غفل عن هذا أو تغافل عنه لما رآه من إقصاء أبيه عن منصبه على ما كان له فيه من جاه وقوة

ص: 49

وحل رياض محل شريف فآلم ذلك دعاة الحركة الوطنية وأزعجهم أن يروا رياضاً يجارى الخديو في استكثار الدستور على المصريين فيقنع بما لا يقنع وطني مكتفياً بمبدأ مسؤولية الوزارة عن أعمالها مستغنياً عن مجلس شورى النواب الذي يحرص عليه الوطنيون كل الحرص

وجاء قانون التصفية فازداد الوطنيون به آلاماً على آلامهم، ورأوا ما فيه من غبن شديد يتجلى في إلغاء دين المقابلة وقد أخذ من جيوبهم كما رأوا ما فيه ما هو أكثر من الغبن ألا وهو عدم التنازل عن شئ من الدين وهم يعلمون كيف كانت تقترض تلك الأموال ومبلغ ما كان يصل مصر منها؛ وهم يعلمون كذلك مجازفة الأجانب بأموالهم مما يحملهم كثيراً من المسئولية. هذا إلى أنهم رأوا مرتبات الموظفين من الأجانب في الحكومة المصرية تبقى على حالها من الارتفاع فلم يدر يخلد من قاموا بالتصفية أن يراعوا ذلك في قرارهم فينزلوا بها إلى الحد اللائق

تلك هي الحركة الوطنية أو تلك هي نذر الرجفة. أما الحركة العسكرية فأول ما نتحدث به عنها أنها بدأت كذلك في عهد إسماعيل وتجلى أول مظهر من مظاهرها في تلك الحركة التي اعتدى فيها فريق من الضباط على نوبار أمام وزارة المالية عام 1878م. وكان ما دفع الضباط إلى تلك الحركة ما لحقهم بسبب الارتباك من الاستغناء عن عدد منهم ومن تأخر مرتباتهم عنهم بينما كان الجراكسة في الجيش لا يلحق بهم شيء من هذا. . .

ولقد استغنى عن عدد كبير من الجند في أوائل عهد توفيق حتى نزل عدد الجيش المصري عما اتفق عليه أخيراً في بداية هذا العهد. وولى وزارة الجهادية في حكومة رياض عثمان رفقي الجركسي فكأنما جعل أساس سياسته الكيد للمصريين ما وسعه الكيد؛ فلقد راح يذيقهم من نكاله بقدر ما راح يفيض على الجركس من عطف وإحسان. ولم يكن ذلك عجيباً من جانبه ففي دمه ما في دم جنسه من بغض قديم للمصريين الذين كانوا في رأيهم فلاحين لا يصلحون إلا ليكونوا عبيداً

وكان طبيعياً أن تقتصر الترقيات في الجيش على الجركس. وراح عثمان رفقي يعد مشروع قانون يمنع به ترقية الجند من تحت السلاح لكي يبقى العنصر الجركسي في الجيش هو العنصر السائد. أما عن كبار الضباط فقد بدأ يقصيهم عن مراكزهم كما حدث

ص: 50

في أمر احمد بك عبد الغفار قائمقام السواري إذ فصله رفقي وعين مكانة الجراكسة، وكما حدث في نقل عبد العال حلمي إلى عمل في الديوان ووضع جركس آخر طاعن في السن محله

أما عن الجند فقد كانت الحكومة تسخرهم في أعمال لا تمت إلى الجندية كحفر الترع والزراعة في أراضي الخديو وغير ذلك. ومما يذكر عن عرابي هنا أنه عارض معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي؛ وهو موقف من مواقف شجاعته، تلك الشجاعة التي يأبى خصومه أبداً إلا أن يروها تهوراً، والتي نراها في أكثر الأحوال على خير ما تكون شجاعة الرجال ذوى الحمية والإخلاص. . . وأي مأرب في هذا الموقف؟ وفيم تكون معارضته في أن يسخر جنده في مثل تلك الأعمال إن لم يكن مبعثها الإنصاف والغيرة؟ وما يكون إنصافه وغيرته في موقف كهذا إلا بسالة وإقداماً

تلك هي المشاكل العسكرية. ولو أن تلك المشاكل عولجت بما يقتضيه العدل لما قدر للحركتين أن تلتقيا فتكون منهما تلك الثورة التي اقترنت باسم عرابي. ولكن كان دون علاجها عقبات؛ فهناك تعصب رفقي وغطرسته، وجهل رياض بالشؤون الحربية وترفعه عن هؤلاء الفلاحين من الجند لأنه يترفع عن الفلاحين جميعاً. ثم هناك دسائس الجراكسة في الجيش وكيدهم للمصريين ذلك الكيد الذي لا يفتر

وكان عرابي في أوائل عهد توفيق قد أخذ يتصل برجال الحركة الوطنية، أو على الأقل أخذ يتصل بالحركة نفسها؛ وهو من أول نشأته متحمس لبنى وطنه، وشارك عرابي في هذه النزعة الوطنية بعض ضباط الجيش. ولا غرابة في هذا فإن المسألة العسكرية في وضعها هذا كان لابد أن تدب إليها الروح الوطنية فتكون في مظهرها أمراً متعلقاً بالجيش بينما هي في الواقع كانت شعبة من تلك الحركة العامة التي كانت تشغل أذهان المصريين منذ أواخر عهد إسماعيل

وكان طبيعياً أن تبدأ المتاعب من جانب الجيش وقد أخذت رجال الحركة الوطنية حيرة منذ أن استقال شريف. ولقد كانت مسئولية الحكومة عن هذه المتاعب وتعقدها مسئولية جسيمة هي عندي من أكبر سوءات ذلك العهد. . .

على أن عرابياً نفسه قد رقي في أول عهد توفيق إلى مرتبة أميرالاي، ومع ذلك فقد أدت

ص: 51

سياسة الحكومة أو على الأصح سياسة رفقي أن يكون هو على رأس المتذمرين

بدأت حركة التذمر بأن قدم بعض الضباط المصريين شكوى إلى وزارة الجهادية عن مرتبات لهم متأخرة، وكان عرابي ممن وقعوا على هذه الشكوى. ونظرت الوزارة في الأمر، وكان قنصلا إنجلترا وفرنسا قد تدخلا في الأمر، والفت لجنة للتحقيق أقرت مطالب الضباط، وكان ذلك في مايو سنة 1880، ولكن رياضاً ووزيره رفقي رأيا في ذلك العمل القانوني حركة جريئة وخروجاً على النظام!

(يتبع)

الخفيف

ص: 52

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاِشيبي

381 -

لقد أحدثتم بدعة وظلما

في (الاعتصام) للشاطبي: ذُكر لعيد الله بن مسعود أن ناساً بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد. فأتاهم وقد كوّم كل رجل منهم بين يديه كُوماً من الحصى. فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة وظلماً.

382 -

البدعة تعتبر في الشر

في (محاضرات الأدباء) للراغب: قُدّم إلي مالك بن أنس حيث يراه المهدي (العباسي) - الماء ليغسل يده للطعام، فقال: هذا بدعة

فقال المهدي: يا أبا عبد الله، البدعة تعتبر في الشر، فأما أبواب الخيرات فإحداثها سنة

383 -

لا جرم أنكم تأكلوني

الصفدي: قال بعض الرؤساء لشهاب الدين الفوصي: أنت عندنا مثل الأب، وشدّد الباء.

فقال لا جرم إنكم تأكلوني.

قلت: لا يخفى ما في التندير من اللطف لأن الأب مشدد الباء هو المرعى. وقال بعضهم هو للدواب مثل الخبز للأناسي ومن يشدد الباء من الأب لا يكن إلا دابة

384 -

حتى يعذب نفسه هذا التعذيب

ذُكر عند أعرابي رجل بشدة الاجتهاد وكثرة الصوم وطول الصلاة، فقال: هذا رجل سوء، وما يظن هذا أن الله يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب

385 -

فقلت لعلها

كان عروة بن أذينة نازلاً في دار عروة بن عبيد الله بالعقيق فسمعه ينشد:

إن التي زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها

بلباقة فأدقها وأجلّها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي

ما كان أكثرها لنا وأقلها!

ص: 53

فدنا فقال: لعلها معذورة

من أجل رقبتها فقلت: لعلها

وإذا وجدت لها وساوس سلوه

شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها

وقال عروة بن عبد اللهً: فأتاني أبو السائب المخزومي وأنا في داري، فقلت له بعد الترحيب: هل بدت لك حاجة؟ فقال: نعم، أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه. فقلت له: وأي أبيات؟ فقال: وهل يخفى القمر؟! قوله (إن التي زعمت فؤادك ملها) فأنشدته إياها فلما بلغت إلى قوله: (فقلت لعلها) قال: أحسن والله، هذا (والله) الدائم العهد، الصادق الصبابة، لا الذي يقول:

إن كان أهلك يمنعونك رغبة

عني فأهلي بي أضن وأرغب

أذهب لا صحبك الله ولا وسع عليك - يعنى قائل هذا البيت، لقد عدا أعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك (يعني عروة) لحسن ظنه بها، وطلبه العذر لها. قال عروة بن عبد الله: فعرضت عليه الطعام، فقال: لا والله، ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاماً إلى الليل

386 -

من حرقة النار أم من فرقة العسل

أبو اسحق إبراهيم بن عثمان ألغزي:

أشكو إليكم هموماً لا أبينها

ليسلم الناس من عذري ومن عذلي

كالشمع يبكي ولاُ يدرى أدمعته

من حرقة النار أم من فرقة سالعسل

387 -

رسالة. . .!

في (طبقات الشافعية الكبرى): ركب اسحق بن راهَويْه دين فخرج من مرو وجاء نيسابور، فكلم أصحابُ الحديث يحيى بن يحيى في أمر اسحق، فقال: ما تريدون؟ قالوا: تكتب إلى عبد الله بن طاهر رقعة - وكان عبد الله خراسان وكان بنيسابور - فقال يحيى: ما كتبت إليه قط، فألحوا عليه فكتب في رقعة:

(إلى عبد الله بن طاهر. أبو يعقوب اسحق بن إبراهيم رجل من أهل العلم والصلاح)

فحمل اسحق الرقعة إلى عبد الله بن طاهر، فلما جاء إلى الباب قال للحاجب: معي رقعة يحيى بن يحيى إلى الأمير. فدخل الحاجب فقال: رجل بالباب زعم أن معه رقعة يحيى بن يحيى إلى الأمير، فقال: يحيى بن يحيى؟ قال: نعم، قال: أدخله؛ فدخل اسحق وناوله

ص: 54

الرقعة، فأخذها عبد الله وقبلها، وأقعد اسحق بجنبه، وقضى دينه ثلاثين ألف درهم، وصَّيره من ندمائه.

388 -

كأنه من كبدي مقدود

قال على بن عبد الله بن سعد: أنشدت دعبلا قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصراني الحربي:

زنّارُه في خصره معقود

كأنه من كبدي مقدود

فقال: والله ما أعلمني حسدت أحداً على شعركما حسدت بكرا على قوله: (كأنه من كبدي مقدود).

ص: 55

‌أمل العرب الراحل

للأستاذ خليل هنداوي

(قد خططنا للمعالي مضجعا

ودفنا العز والمجد معا)

فيصلُ ما إن نسينا يومه

فاجعلوا يوماً لغازي أروعا

فيصل ما نضبت أدمعنا

فامزجوا بالدم هذى الأَدمعا

لم يكن مصرع غازي واحداً

إنه كان لشعب مصرعا

ليس يدرى من نعاه أنه

قد نعى العرب جميعا إذ نعى

أيها الناعي رويداً إنها

لأماني تهاوت صُرَّعا

إنه بنيان قوم ينحني

إنه مأمل شعب ودعا

كفنوا غازي بأَبراد العلا

واجعلوا مثوًى لغازي إلا ضلعا

مفزع العُرب إذا ما فزعوا

من لهم بعدك يبقى مفزَعا؟

أصبح الشعب يتيماً واجماً

أسفاً، والدار أمست بلقعا

والأماني مضت تبكي فتى

ضم كشحيه عليها أجمعا

فهي تمشى رامقات نعشه

تذرف الدمع وتروي المدمعا

والمروءات على جبهته

يتهاوين حزانى وُقعا

والسموات على مصرعه

مقلة ذارفة لن تقلعا

أبت الأيام إلا حربنا

وأبينا أبداً أن نخضعا

فعلى كل ثرًى يجرى دم

الثرى بالدم أمسى مترعا

وعلى كل سبيل فدية

لم يضيعها الذي قد ضيّعا

وعلىَ كل شهيد بسمة

وهي للحق إذا الحق وعى

وعلى كل حًمى تضحية

حدَّث المربعُ عنها المربعا

والشهادات على أعناقنا

لا ترى صرفاً ولا منقطعا

كل هذا مرحباً! أهلاً به

إن يكن يحمل صبحاً ألمعا

(مرحباً بالخطب يبلونا إذا

كانت العلياء فيه المطلعا)

إن يمت في كل يوم مبدع

من بني العُرب خلقنا مبدعا

ص: 56

لا يفت الدهر من غرمتنا

لا يلاقي اليأس فينا موضعا

قد نذرنا للمعالي نفسنا

واستطبنا الموت فيها مشرعا

لا نرى إلا العوالي مركبا

لا نرى إلا المعالي مطمعا

(دير الزور)

خليل هنداوي

ص: 57

‌رسالة العلم

ترى ما وراء هذا الكون؟

علاقة بين الكون المحدود وأصغر ما فيه

للدكتور محمد محمود غالي

بحث الرجل منذ القدم عن معرفة الكون فكانُ يقسم النجوم التي يراها في السماء إلى مجموعات تشبه على وجه التقريب بعض الحيوان أو الأشياء. وقد وُجدت في السويد أشكال من هذه المجموعات الشبيهة بشكل الحيوان، منقوشة على الحجر منذ العصر البرنزي. واليوم يُقسم الفلكيون في مؤتمراتهم السماء إلى 89 مجموعة تجد أسماءها في الدليل الفلكي. وقد كان (باير) في سنة 1603 أول من أطلق الحروف الإغريقية الأولى على أسماء النجوم، لكي يُفرَّق بين نجوم المجموعات الكوكبية المختلفة. ولم يلبث أن تقدم علم الفلك تقدماً جعل هذه الحروف الإغريقية لا تكفي هذه المسميات لكثرتها؛ فلجأ العلماء إلى الأرقام، وأصبحت النجوم تحمل الرقم الوارد من الدليل الفلكي. وتقدم المنظار الفلكي كما تقدمت الطريقة الفوتوغرافية، فأصبح الدليل يحوي مليوناً من النجوم، وتقترب معارفنا الآن من عشرات الملايين.

جُل بنظرك في الشكل الأول ترَ جزءاً من المجرة في برج الثور يدلك على بقعة صغيرة من عالمنا الذي يحوي مئات ألوف الملايين من النجوم والأجرام. ثم تأمل الشكل الثاني وهو السديم الشبكي في الدجاجة تر واحداً من ملايين ملايين العوالم الأخرى المكونة للكون - ثم تصور جسما صغيراً في الكون مثل إحدى أشواك التين؛ وتصور أصغر ما يعرفه العلماء من الجسيمات المكونة لهذه الشوكة، وهو الإلكترون الذي تحوي الشوكة الصغيرة ملايين منه. إن عدد إلكترونات الكون يتعدى كل خيال، ومع ذلك فقد تمكن العلماء من الوصول إلى علاقات معقولة بين الكون في مجموعه وبين الإلكترون المتناهي في الصغر. وسأحاول في هذه الأسطر أن أحيط القارئ علماً بالطرق التي يتبعها العلماء في هذا السبيل ذكرنا أن العلم التجريبي قد أثبت ابتعاد جميع العوالم عنا، وابتعاد كل واحد منها عن الآخر بسرعة تزيد على 500 كيلو متر في الثانية لكل 26 ، 3 مليون سنة ضوئية، وذكرنا أن

ص: 58

النظريات الأولى للعالم دي ستير كانت تتنبأ بتمدد الكون، وأن النظريات عامة وإن عرفت تمدد الكون لم تعين في المبدأ الدرجة التي يتمدد بها. وأضيف اليوم أن العلم النظري الحديث لا يحتم الفكرة القائلة بابتعاد جميع العوالم بعضها عن بعض فحسب، بل يُعين السرعة التي تبتعد بها هذه العوالم كما يُعينها العلم التجريبي.

على أن النسبية وحدها لا تزودنا بهذه المعلومات الجديدة، ولكن للعلم منابع أخرى وجدت طريقها بعد النسبية لأينشتاين؛ وأهم هذه المنابع اليوم الميكانيكا الموجبة التي أسسها العالم الشاب دي بروي الحائز على جائزة نوبل، أستاذ السربون وعضو المجمع العلمي الفرنسي؛ وباتباع الطريق العلمي الجديد نجد - مع إهمال القوة الجاذبية بين العوالم إذ هناك ما يبرر إهمالها علمياً - إزاء قوة التنافر للكون، أن سرعة ابتعاد العوالم بعضها عن بعض تقع بين 500 و1000 كيلو متر في الثانية لكل 26 ، 3 مليون سنة ضوئية

ومما يلفت النظر أنه للوصول إلى هذه النتيجة الحسابية التي تتفق مع النتائج العملية لم يلجأ الباحثون إلى أي عمل تجريبي أو إلى الأرصاد الفلكية

ويجدر بالذكر أن كل ما يتعلق بحساب الكون أو بحساب الإلكترون يرتبط إلى حد كبير بتعيين سرعة ابتعاد العوالم بعضها عن بعض. على أن هذا النجاح الأخير الذي يظهر في الاتفاق بين العلم النظري والعلم التجريبي لم يقف عند هذا الحد، بل استبنَّا من العلوم النظرية علاقة بين البروتون والإلكترون على وجه خاص بين كتلتيهما. ولكي يفهم القارئ شيئاً عن البروتون نذكر أنه بين مكونات المادة. فذرة غاز الهيدروجين مثلاً مكونة من مركز رئيسي هو بروتون واحد يدور حوله إلكترون واحد كما يدور القمر حول الأرض. ومن ثم أضحى العلماء بفضل تقدم الميكانيكا الموجبة بصدد نظريات تعين أمرين في آن واحد:

الأمر الأول: سرعة تمدد الكون ومنها القوة التنافرية، كذلك الثابت الكوني.

الأمر الثاني: النسبة بين كتلة البروتون والإلكترون

إلى هنا لازال يبعد عن ذهن القارئ العلاقة بين الكون والإلكترون، كما يبعد عن ذهنه أيضا علاقة يرى فيها وزن الكون. ولكي أعطي القارئ فكرة سريعة عن هذا أدله على وجود علاقتين توصل لهما العالم الكبير أينشتاين في سنة 1916. يرى في إحدى هاتين

ص: 59

العلاقتين كتلة الكون.

(الأولى) علاقة تربط نصف قطر الحيز عند مبدأ تكوين الكون بالثابت الكوني (الثانية) علاقة تربط ثابت الجاذبية وكتلة الكون وسرعة الضوء مع نصف قطر الحيز السابق الذكر.

كنت أود أن أطلع القارئ على شيء من هذه العلاقات، ولكن

تدخل معظمها في الواقع حسابات لم يتعودها ومعادلات من

الصعب تبسيط مدلولها. فمثلاً بينما حجم كرة نصف قطرها

نق يعادل 34ط نق3 (ط النسبة التقريبية) فإن حجم حيز

كروي له نفس نصف القطر هو 2ط2 نق3 أي 4. 71 حجم

كرة عادية. والحيز الكروي ليس كرة معتادة بل غلافا لكرة

زائدة ذات أربعة أبعاد، وفي كل هذه الأبحاث يفرقون بين

قطر الحيز الفارغ الذي هو متوسط أنصاف أقطار مختلفة وفق

التوزيع المادي للكون من نصف قطر الكون قبل التمدد، وفي

هذه الأبحاث نرى أن تقوس المناطق الفارغة في الكون أقل

من المناطق الآهلة بالمادة. كل هذه الاعتبارات التي تربط

نصف قطر التقوس الكروي لقطاع ما ذي ثلاثة أبعاد مجال

ذي أربعة أبعاد للحيز والزمن الخيالي، صعب على القارئ

الدخول في تفاصيلها، ولكن يهمني أن يعلم أن العلماء توصلوا

إلى علاقات تجد فيها نصف قطر الكون المتقدم وسرعة ابتعاد

ص: 60

العوالم وسرعة الضوء أو علاقات بين نصف قطر الكون

وعدد الإلكترونات وشحنة الإلكترون وسرعة الضوء. . .

الخ. ولكنى لا أترك هذا الجزء دون أن أذكر أن معادلة من

أهم المعادلات الأساسية في هذه الأبحاث تلك المعادلة الموجبة

الخاصة بذرة الهيدروجين ' ' أي لمجموعة مكونة من

بروتون واحد، وإلكترون واحد مرتبط به كما قدمنا، هذه

المعادلة تعين حجم الذرة وتوزيع شحنتها الكهربائية، ولا

أذكر هنا كيف أدخل العلماء وحدة الطول الجديدة التي هي

نصف قطر الكون في معظم هذه العلاقات، ولكن أرجو أن

يستقر في ذهن القارئ أن كل هذه الموضوعات تكَوَّن في وقتنا

الحاضر وحدة في العلوم، تستمد قوتها من الناحيتين العملية

والنظرية معاً، وأنه بالاستقراء طوراً، والبحث التجريبي تارة،

توصلوا لكثير من العلاقات التي تربط الكون بأصغر ما فيه

والتي سبق ان أعطينا النتائج الخاصة بها في جدول سابق.

كل ما أود أن يعلق بذهن القارئ أن يعرف أن الاستنتاج العلمي لا يقف عند المحسوسات. وسبق أن قدمت أننا لسنا بحاجة لنرى الليل والنهار لنعرف دورة الأرض، كذلك لسنا بحاجة لنحصي أجرام السماء لنعرف وزن الكون، وعدد ما يحويه من الكترونات، وضربت للقارئ مثلاً بعمل فوكوه عندما استدل على دورة الأرض من بندوله الذي علقه من قبة البانتيون.

ص: 61

وأعود فأقول: لو أن المريخ، وهو الذي يحجب الضوء عنه سحب كثيفة، كان مسكوناً بكائنات تفكر مثلنا نسميها المريخيين لما استحال عليهم أن يعرفوا أن سيارهم أيضاً يدور حول نفسه، كما تدور الأرض حول نفسها، ولاستطاعوا أن يؤكدوا ذلك برغم ما يحيط به من سحب كثيفة تحجب عن أهله ضوء الشمس، وهي سحب لم نعهد مثلها حول الأرض، بل لما استحال عليهم أن يحددوا فترة الليل والنهار الخاصة بهم، فما عليهم إذا كانوا ينعمون بدرجة ذكائنا، وكانت لهم طريقتنا في استقراء الأشياء، إلا أن يعقلوا كرة من خيط طويل يدعونها تهتز، فإنهم سيدركون أن الكرة لا تهتز فحسب، بل إن المستوى الذي تهتز فيه يدور حول نفسه، وبحساب بسيط يمكن للمريخيين إذن أن يحددوا فترتي الليل والنهار.

عسى أن يكون قد علق بذهن القارئ بعد هذا الجهد الذي واصلناه مدى أربع مقالات عن (الكون يكبر) ثلاثة أمور: الأول أننا أبناء كون محدود مكون من عوالم كلها على حيز وغلاف كروي. الثاني: أن هذا الغلاف الكروي يتسع ويتمدد على نحو كرة من المطاط، وان ثمة قوة تدعو لهذا التمدد الذي يجعل كل العوالم يبتعد بعضها عن بعض، وأننا الآن في هذه المرحلة من الابتعاد والتمدد التي بدأت منذ بلايين من السنين.

الثالث أن ثمة علاقات ثابتة بين الكون في مجموعه وأصغر ما فيه وهو الإلكترون

وأضيف إلى هذه الأمور الثلاثة انه ليس لنا أن نحاول نعرف شيء خارج عن هذا الكون المحدود.

هذا هو الكون وفق احدث الآراء. وقد يتساءل فريق من القراء عما وراء الكون المحدود. وقد يجيز هذا الفريق لنفسه أن يتصور عوالم خارجة عن نطاقه، ولعل السبب في ذلك هو مطالبتنا له بالاعتراف أن الكون محدود وليس لدينا اليوم جواب على هذا سوى أن نكرر أن الكون الذي نرى ونسمع ونتحرك فيه ونعرف منه قوانيننا الطبيعية الحالية هو كون محدود ليس لنا أن نتساءل عن غيرة مادامت الظواهر الطبيعية التي نعرفها تنتشر في مثل هذا الكون وكل شئ يدل على إنها لا تتعداه. ولكن ماذا بعد الكون؟ سؤال يتردد على الذهن!

إن نمله نّفْتّرُضها متأملة خرجت لأول مرة من كومة صغيرة من الرمل وجدت نفسها بطريقة المصادفة إزاء ثقب في سجاد مفروش في سرادق فسيح مقام في جهة قضى نحبه

ص: 62

فيها رجل له بين أهله مكانة، فمد الأهل الأبسطة والمقاعد، وأضاءوا الأنوار وازدحم المكان بالمعزين

تجولت النملة المتأملة الحديثة العهد بالحياة على هذه الأبسطة المتسعة تائهة لا تهتدي إلى المكمن الذي خرجت منه، ترى أنواراً تعلوها، وأبسطة ممتدة أمامها، وأناس يرحون ويغدون، وتسمع فقيهاً يُرَتَّلُ الآيات بصوت رخيم، وترى نادلا يقدم قهوة للقادمين، وكلما مر الوقت انطبعت هذه الصور في ذهن النملة الحائرة

لنفرض بعد ذلك أنه لسوء حظ النملة التعسة انطفأت الحياة فيها بأن داستها أقدام المعزَّين، فإنه يغلب على الظن أن الدنيا عندها هي فضاء تضيئه أنوار، ويحيط به سرادق، وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل الآيات، ونادل يتحرك جيئة وذهاباً إن وجود القاطرة البخارية وحديقة الحيوان ومعرض نيويورك والاستعداد للحرب، أمر غير معروف لديها، فكل هذه أشياء خارجة عن حدود مداركها

قد تكون ملايين السنين التي يقدر الجيولوجيون والطبيعيون أنها الفترة التي مرت على الإنسان منذ وجوده بالنسبة للخليقة كهذه اللحظات بالنسبة للنملة الحائرة، وقد لا يمثل ميراثنا العلمي الذي لا تتسع له دور كتب العالم قاطبة الوجود في شيء، وقد يشبه معارف النملة عن الكون الذي لم تر المسكينة منه إلا ليلة عزاء محصور كل حوادثها بين قطع محدودة من الأقمشة، ويكون الكون ذو الحيز المتقوس وفق ريمان وأينشتاين، المتمدد وفق دي ستير واديجتون، المحدود وفق سان ولميتر، ذرة واحدة، لا نقول بين ملايين ذرات مماثلة لها، بل بين ملايين أكوان لا يمثل هو فيها شبيهاً، ويكون كوننا مثالا خاطئا لحقيقة الوجود، بل قد يكون كأحد جسيمات الدخان لمصنع لا نعلم عنه سوى إحدى ذرات دخانه المتصاعد، ونكون معشر الناس ككائن نفترضه داخل هذا الجسيم من الدخان، لا يرى إلا ما يكوَّن الجسم الذي هو بداخله. فالقطن الذي يدخل هذا المصنع والوادي الذي زرع فيه هذا القطن، والنهر الذي رواه، والمهندس الذي صمم القناطر على هذا النهر؛ كل هذه أمور غير معروفة بالمرة لهذا الكائن الذي افترضناه داخل الجسيم

كم يغلب على ظني أننا لا نختلف كثيراً عن هذه النملة الحائرة أو عن هذا الكائن السجين!

على أن شيئاً جديداً. اكتشفه العلماء يقع داخل هذا الكون المحدود وينتقل بين أرجاء هذا

ص: 63

السجن الفسيح الذي نعيش في داخله. هذا الشيء يشغل بال العلماء اليوم لقوة اختراقه العجيبة وصفاته النادرة، ويسمونه الأشعة الكونية، وهو ما سأجعله موضوع حديثي في العدد القادم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 64

‌رسالة المرأة

الإسلام والآداب العامة

آداب تتأول الطعام

للآنسة زينب الحكيم

أوضحنا في مقال سابق نشأة (الإتيكيت) وضرورته في الحياة. واليوم نتحدث عن آداب تناول الطعام. وكل ما أرمي إليه هو التذكير بأشياء بسيطة كثيراً ما تغيب عن أذهاننا مراعاتها دون قصد أو لعدم معرفة

وأريد أيضاً أن أوضح عادات بعض البلاد الأجنبية في تناول طعامهم، ولا سيما أن كثيراً من أهل الشرق يزورون تلك البلاد الآن أكثر مما كانوا يفعلون قبلاً. ومن المستحسن أن يعرف الإنسان عادات الناس حتى لا يضايقهم ولا يضايق نفسه، كما لا يصح أن يكون عرضة للنقد وفي استطاعته تلافي ذلك

وإني لا أنكر أنه قد أثرت في نفسي بعض الحوادث التي كثيراً ما تحدث من الرجل أو من السيدة أثناء حضورهما الحفلات أو ولائم الغداء أو العشاء. وإني لا أنسى أبداً ذلك السيد وزوجه وقد كانا عروسين جديدين احتفى بهما بعض أقاربهما بمناسبة زفافهما فدعوهما إلى وليمة غداء. كان من بين ألوان الطعام الأكلة المصرية المشهورة (ملوخية) من النوع السائل لا (البوراني). ولما حان دور أكل الملوخية وضع النادل (السفرجي) ملعقة صغيرة على طرف كل صحن أمام الآكلين لترفع بها الملوخية إلى الفم ثم يؤكل الخبز

لكن السيد العريس لم ينتبه لاستخدام الملعقة، كما لم يلحظ كيف يتناول الباقون الملوخية، فقرصته عروسه في الخفاء ونبهته إلى مراعاة الإتيكيت، ولكنه استمر يصنع من الخبز ملعقة يرفع بها الملوخية من الصحن إلى فمه. ولم تطق الزوجة المسكينة صبراً على أن يُنتْقد زوجها في وليمة شبه رسمية، فنبهته مرة أخرى بينها وبينه، ولكنه ثار في هذه المرة ولم ير أن يستمع إليها وقال في صوت مرتفع غاضب:(سبيني خليني أَغَمّس)

بالضرورة كان الحادث مضحكا للجميع، وقد قابلوه ببساطة حتى مرّ بسلام بين الزوجين. ولكنه كان على كل حال إيلاماً من جانب الزوج لزوجته وإحراجاً لهما معا أمام الحضور

ص: 65

مهما تقبلوه

كذلك لا أنسى الآنسة الشرقية التي كانت مسافرة مرة على إحدى البواخر إلى أوربا، ولما كانت تتناول الشاي حاولت استخدام الشوكة في أكل البسكوت الجاف والخبز المقدد، وكانت في كل مرة تأول ذلك ترسل قذيفة إلى وجه الجالس أو الجالسة أمامها أو إلى جانبها مما دل على النقص الشديد في معرفة إتيكيت تناول الطعام

لهذه الحوادث وأشباهها أردت أن أتحدث لحضراتكم عن الغداء في أمريكا، والعشاء في إنجلترا، وآداب الوجبتين عند العرب.

وليمة الغداء العادي في أمريكا

إذا قارنا الغداء الرسمي في أمريكا بالغداء الرسمي في إنجلترا وجدنا أن الغداء الإنجليزي يشبه العشاء الرسمي كثيراً.

أما في أمريكا فتكاد تكون ولائم الغداء مقصورة على السيدات دون الرجال الذين يكونون مشغولين عادة في أعمالهم بمكاتبهم، ولا يستعملون تلك الولائم لأغراض خاصة، في حين أن رجال الإنجليز كثيراً ما ينّتهزون فرص هذه الولائم لنقاش المسائل المهمة الحاضرة ويتبادلون الآراء في كثير من الأمور

ولهذا تكون ولائم عشائهم خالية من كل ما يجهد العقل، وإنما تكون أوقات مفاكهة ومرح بريء

وولائم الغداء الأمريكية يدعى لها ببطاقات بسيطة قبل ميعادها بعدد قليل من الأيام، وتكتب عادة بضمير المخاطب لا بضمير الغائب كما يتبع في الأحوال المهمة، وتحدد ساعة الغذاء أو لا تتحدد فليست هذه مسألة دقيقه كما في ميعاد وليمة العشاء

طريقة توزيع الطعام على نوعين

إما أن يتناول المدعوات أنفسهن من ألوان الطعام الموضوعة على منضدة جانبية على شكل (بوفيه)، وتكون الألوان عادة واردة (كلحوم جافة باردة، وخضر محمره، وحلوى الخ)

وإما أن يمر النُدل كما في وليمة العشاء بألوان الطعام الساخن

مائدة الغداء العادي

ص: 66

تكون مائدة الغذاء العادي غير مغطاة بغطاء كبير عادة، وإنما تستخدم أغطية صغيرة من الدنتلة أو التيل المخرم (دُيلن كما في هذا الشكل

وتكون قائمة الغذاء ملائمة لفصول السنة (كملاحظة ابن عبد ربه)، ولا يقدم الشاي أو القهوة مطلقاً في حجرة المائدة عقب الغذاء غير الرسمي. وإذا قدم شيء منها فيكون عقب الطعام مباشرة.

والسيدة المدعوة للغذاء العادي لا تبقى بعد تناول الغذاء تنصرف، إلا إذا أعدت المضيفة تسلية خاصة بعده.

إذا استنفد تناول الغداء ساعة مثلاً، فلا بأس من محادثة ربة المنزل بعد ذلك نحو نصف ساعة، ثم يجب أن ينصرف الزوار إذ ربما تكون مشغولة بعد الظهر، ولا يليق أبداً أن يكونوا سبباً في تأخيرها.

وليمة الغداء الرسمي

تشبه العشاء الرسمي كثيراً فيما عدا استعمال المفارش الصغيرة (ديلن) عوض غطاء المائدة الكبير

ويبدأ بتناول بعض الفاكهة - ثم الحساء، فسمك مايونيز أو ما شاكله، وليس السمك ضرورياً، وبعض الأسر تحذفه

يأتي بعد ذلك الصحن الرئيسي: مثل الديك الرومي أو الدجاج أو الفطائر أو اللحوم مع الخضر، فأنواع من السلطة، فالحلوى كالمهلبية أو ما يشبهها كما في وليمة العشاء. ثم المثلجات كالجيلاتي أو الألمزية

وليست العادة أن يستريح المدعون بعد الغداء في الصالون أو أن يتناولوا القهوة فيه، وإنما تشرب على المائدة، فإذا كان الطقس مناسباً ورغب المدعون شربت في الفرندة. ويحسن ألا تقيم ربة البيت وليمة غداء إذا كانت مشغولة بعد الظهر في اليوم نفسه، ولهذا يمكن أن يبقى الزوار وقتاً أطول مما في حالة الغداء العادي

ومن المتبع ترتب تسليات كالموسيقى، وتلقى قطع شعرية، أو تمثل قطع صغيرة

الملابس

ص: 67

تكون ملابس ولائم الغداء على نسق ثياب بعد الظهر الممتازة للسيدات، أما ملابس الرجال فمعروفة

هذا ومن أهم ما يراعيه الأمريكان في ولائمهم الرسمية بوجه عام، أن يكون في كشف المدعوين ستة أو ثمانية من المتصادقين وقد يهبط هذا العدد إلى أربعة فقط، ولكن على أي حال من المهم عندهم مراعاة أنواع المدعوين. كما يراعى عدم زيادة الحضور في الوليمة على ما تطيقه ربة البيت حتى يمكنها العناية بهم جميعاً وملاحظة ما يناسب مزاج كل منهم.

آداب المائدة

أهم الآداب التي يراعيها الأمريكان في ولائمهم آداب المائدة الصحية. فهم مثلاً يعتبرون الحركات الخشنة أو غير المضبوطة منافية للآداب إذا حصلت أثناء تناول الطعام، ويعدونها نقص تربية، ويعتقدون أن من صدرت عنه لم يدرس آداب المائدة بعناية

كذلك يوجهون أهمية كبرى لسلوك الإنسان على المائدة فيشيرون إلى أنه كثيراً ما يلحظ على رجل تظهر عليه سمات الثقافة والرقي وهو جالس حول مادة بعض المطاعم أو الفنادق الراقية، أنه يلعب بأدوات المائدة، أو يضرب الأكواب بعضها ببعض دون وعي.

وقد يتغاضى عن أشباه هذا السلوك في الفنادق أو المطاعم، ولكن حدوث أعمال كهذه على مائدة وليمة رسمية يعتبر من أكبر النقائص الأدبية، فإنه حينما لا يحتاج إلى استخدام الأيدي يحسن وضعها على الحجر في سكون، كما لا يحسن وضع المرفقين على المائدة إذا أسئ السلوك في فعل ذلك، ولا أن يوضع الكرسي قريباً جداً من المائدة، ولا بعيداً جداً عنها. فكلا الأمرين غير مقبول.

زينب الحكيم

ص: 68

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

النحت فن الصمت

على ذكر معرض مختار

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من طين فكان الإنسان تجسيداً لما جرى في علمه تعالى من صوره، وكان الإنسان مجالاً لطائفة من آيات الله أراد لأمر أن يراها حية على مسرح الكون

هذه حقيقة لا أجبر القارئ على أن يؤمن بها معي وفق ما أرضاه، وإنما أدعه يؤمن بها على هواه، فإذا كان من أصحاب الدين فهو معي، وإذا لم يكن منهم فهو معي أيضاً، ولكن بعد فرقة قصيرة لابد إن يلقاني إثرها ليشهد أن الإنسان كان التمثال الذي يرجع إليه المثالون جميعاً مستوحين مستلهمين، ومتعلمين دارسين، وباحثين مدققين، ومعجبين مأخوذين وليشهد أيضاً أن الإنسان ما يزال هو هذا المنبع الذي لم ينضب منذ تعقبه الفن، وليشهد بعد هذا وذاك أن الإنسان لن ينفك أن يكون المورد الذي يقصد إليه كل من يبهره الفن الناضج الكامل

هذه هي البداية التي يجب أن نلتقي عندها لنمشي معاً ولننظر بعدها إلى الإنسان - وهو مرجع الفن - كما ينظر إليه النحات الفنان.

أي شيء في هذا الإنسان؟ وأي شيء في الحيوان معه؟ وأي شئ أغرى المثالين بأن يكثروا من تماثيل الناس إكثاراً ملحوظاً، فلم يحيدوا عنها إلا إلى الحيوان قليلاً، ثم لم يرضوا بعد ذلك أن يعرجوا على النبات والجماد فيستقوا منهما فناً؟

إنها هي الحياة من غير شك - والحركة مع الحياة - فليس شيء يميز الإنسان ومعه الحيوان أمام النحت على النبات والجمال غير الحياة الحركة. فإذا قلنا (الجمال) رأينا في الزهر والجوهر جمالاً؛ وإذا قلنا (الجلال) رأينا في الدوح والجبل جلالاً، وإذا قلنا (الصوت) رأينا النحت يهمله لأنه يقصر عنه. . . فلم يبق - فيما أظن - للإنسان

ص: 69

والحيوان مميزاً على غيرهما في رأي النحت إلا الحياة والحركة كما قدمت. فما هي الحياة؟

أهي في نظر النحات هذا النمو الجسدي الذي يقود الإنسان من طفولته إلى شيخوخته؟ أم هي هذا الاضطراب النفسي الذي لا يهدأ فورانه بين جنبيه مادام حيا والذي ينتاب وجهه وتقاطيعه وقسماته بالتعبير المتواصل الذي تصور كل حالة من حالاته رعدة من رعدات هذا الفوران أو هدأة من هد آته؟ أم هي هذا وذاك؟

بعض المثالين يذهب في فنه - سواء أكان متعمداً أم غير متعمد - إلى المذهب الأول، وبعضهم يذهب المذهب الثاني، وبعضهم لا يذهب مذهباً من هذين وإن كان يجمع في فنه ما يوفق إليه الأوائل، وما يهتدي إليه الأواخر. . . توفيقاً وهديا

أما أصحاب المذهب الأول فقد كثروا في مصر في هذه الأيام، فكل معارض النحت التي تقام في مصر الآن لا تحوي من التماثيل إلا ما تقف أمامه لتقول إن هذا التمثال يمثل رجلاً في السبعين، أو فتاة في العشرين، أو صبياً في العاشرة، أو طفلة في الرابعة. . . أما هذا الفوران الذي نذكره فهو بعيد عنهم، وهم بعيدون عنه. ولعل ذلك يرجع إلى أن النحت فن لا يزال ينتفض تحت أثقال السنين التي تراكمت عليه في مصر فدفنته وكتمت أنفاسه دهوراً

وأما أصحاب المذهب الثاني فهم الذين كنا نتوقع أن نرى لهم أثراً ملحوظاً في معرض المختار الأخير. فقد طلب من المتسابقين في هذا المعرض أن يسجل كل منهم في تمثاله معالم الصلاة ومعانيها أو ما شاء من هذه المعالم والمعاني، فما كان من حضراتهم - أومن أغلبهم - إلا أن سجلوا من حركات الصلاة ما طاب لهم، موجهين كل اهتمامهم إلى إظهار تمكنهم من دراسة التشريح، وإبداء مقدرتهم على محاكاة جثة الإنسان. وعلم الله أني لا أعرف ممن كانت تتألف لجنة التحكيم في هذا المعرض وإن كنت موقناً بأنها ضمت صفوة مختارة من المثقفين الأفاضل؛ غير أنه يخيل إلي أنهم كانوا بعيدين إلى حد كبير عن هذا الذي نسميه (ما وراء المظهر). والدليل على ما أقول انهم منحوا الجائزة الأولى تمثالا أزرق يمثل شيخاً معمما مهندما جالساً على حصيرة آنية جلسة يجلسها المصلون إذا ما فرغوا من صلاتهم وراحوا يسترجعون في أذهانهم ما أنفقوه وما كسبوه في يومهم،

ص: 70

ويستعيدون إلى ذاكرتهم ما قيدوا أنفسهم به من مواعيد أعمالهم أو لهوهم. . . كل هذا والمسابح في أيديهم تجري حباتها بين أصابعهم! حبة تضرب حبة كدقات الساعات في جيوبهم لا هم انشغلوا بها، ولا هي لفتتهم إلى أوقاتهم. هذا التمثال الذي لا يطالع ناظره بأي معنى من معاني الصلاة أعطى الجائزة الأولى لأن مظهره حسن في أعين حضرات المحكمين. والحق أنه أهل لجائزة ولكن على أن يقدم في مسابقة يكون موضوعها:(الجلوس على الحصيرة) لا (الصلاة)!

أما تمثال الصلاة فقد كان له أشباهه في المعرض لست أدري كيف غمضت عنها عيون المحكمين، فقد كان في المعرض تمثال لشيخ فانٍ يقرأ التحيات، ويومئ بسبابته اليمنى شاهداً أن لا إله إلا الله، ويميل بكتف إلى جنب ميلة من ثقلت عليه الحياة فصبر، ولكنه تخاذل فضعف وآن له أن يتحطم، ولكنه استعان على ماضيه وحاضره ومستقبله. . . بالصلاة. وكان في المعرض أيضاً تمثال لرجلين أحدهما كَبَّرَ ووقف يتلو الفاتحة، والآخر لحقه فائتم به ورفع يديه ينوي الصلاة وراءه. . . وقد ألقيت النظرة الأولى على هذا التمثال فلم أملك إلا أن أَتَلوّى، فقد نخسني وجه ذلك الرجل المتلهف على الصلاة نخسة موجعة. ذلك أن صاحبه أفرغ في وجهه روحاً من البله والعته كانت أمر سخرية من صلاة الكثيرين!

كان هذان التمثالان في المعرض وأولهما يكاد يفعم قلب الناظر إليه إجلالاً وخشوعاً إذا كان الناظر قد جرب الصلاة مثقلاً بالذنوب وبالحياة، مؤملاً في رحمة الله ومغفرته، مسلماً له شأنه، مفوضاً له أمره. وثانيهما كما رأيت فيه هذه الفكرة العجيبة الجريئة الشاذة التي ينقد بها صاحبه صلاة الكثيرين من المصلين. . ومع هذا فإن هذين التمثالين قضيا ما قضيا من الأيام والليالي في صالة الكنتننتال، وحظيا ما حظيا بشرف المثول بين يدي معالي وزير المعارف وزملاء معاليه وزميلاته، ولم يلق عليهما واحد من هؤلاء تحية، ولم يسعدهما من أولي الحل والربط في فنون هذا البلد نظرة تقدير أو إعجاب

ولندع الآن الحديث عن معرض مختار لنعود إلى ما كنا فيه من الحديث عن فن النحت نفسه، ولنحدد مكان هذا الفن من الفنون الجميلة. واحسبني الآن في غنى عن تكرار التدليل على أن الحواس الإنسانية هي منافذ النفس، وعلى إن النفس تحصل عن طريق هذه

ص: 71

الحواس على أحاسيس وانفعالات وعواطف مختلفة، فتخلطها وتمزجها وتنتجها بعد ذلك فناً تعبر به عن اتجاه صاحبها في الحياة. فإذا كنت في غنى عن هذا فإن عليَّ أن أقف عند النحت وقفة خاصة أقرا فيها أن النحت هو فن الصمت وأنه بهذا كان أقرب الفنون من التصوف. فالنحات يسجل في تمثاله خفقة واحدة من خفقات الروح لا يفتأ ينتظرها ويتوقعها ويبحث عنها حتى إذا ما سطعت له مرتسمة على الجسم عامة، وعلى الوجه خاصة، تعلق بها وطبعها على روحه أو قل إنه يطبع روحه عليها ويرصدها عنده أرصاداً ويقفها عليها وقفاً. وهو بهذا يختلف عن الأديب الذي يتنقل في موضوعه من خاطر إلى خاطر، والذي يطلق وصفه لهذه الخفقة نفسها من ناحية إلى ناحية، والذي يأخذ قارئه في طوافه بها من جانب إلى جانب، وهو في هذا غير الموسيقى الذي يسلسل اللحن ويوالي التنغيم ليؤدي باللحن بعد تمامه ما يؤديه النحات باللمحة التي خطفها من الطبيعة وثبتها في تمثال فخلدها عليه. وهذا الأداء الذي يؤديه النحات لهو أشق وأعصى ما يرجوه الفن من الفنان، فليس يسيراً أن يلحظ الإنسان كل ما ينتاب الناس من اهتزازات الروح؛ وإذا كان من هذه الاهتزازات ما يبقى مواجهاً للعين والحس لحظة أو لحظات، فإن فيها ما يتلاشى أثناء تكوينه!. . . كلهفة الإعجاب التي تنتاب امرأة متزوجة عندما تلمح تحت بصر زوجها وسمعه شاباً يروقها، فهي لا تكاد تسمح لوميض الإعجاب أن يلمع في عينيها إلا ريثما تهب عليه نسمة من خجلها وريائها أو عفتها تطفئه وتخمده. هذه اللهفة قد يصفها الكاتب، وقد يصفها الشاعر، وقد يصفها الموسيقي موصولة بغيرها؛ وقد تؤديها ممثلة خيراً من أدائهما إذا كان بين النساء ممثلات فيهن من دقة الفهم والحس ما يقف بهن عند هزة خاطفة من هزات الروح كهذه؛ وقد يؤديها أيضاً رسام مستعيناً عليها بالألوان والظلال. . . ولكنن لا أتصور أن فناً من هذه الفنون جميعاً يؤتمن عليها مثلما يؤتمن عليها النحت الهادئ. ذلك أن قلة الأدوات التي يستعملها النحات في فنه تبعثه على الاستعاضة عن التيسير الذي تتيحه الأدوات لأصحاب الفنون الأخرى بطاقة كبرى من روحه يجود بها على فنه، إذ ما قد يستطيع غيره أن يمسك من شعاع النفس لا يملك النحات إلا أن يبذله

والنحات لا يهتدي إلى أمثال هذه اللمحات السريعة التي رأينا أحدها إلا إذا عاش وهو حديد البصر يكاد يلتهم كل ما يراه التهاماً، فإذا ما وقع على شيء مما يطلبه جمدت عنده نفسه.

ص: 72

وما أشق جمود النفس على صاحب الفن، ولكنه عند النحات هو السبيل الوحيد الذي يرصد به فنه لا يغنيه عنه التسجيل على الورق، ولا ترضيه عنه الاستعادة والاستذكار، فهو إذا قنع بهما رأى آخر الأمر أنه فقد شيئاً مما كان يطلبه، وهو لا يريد أن يفقد مما يطلب شيئاً لأنه يطمع دائماً في التوفيق إلى محاكاة صنع الله لأنه يدرك أنه ليس وراء فن الله فن. لهذا كان أكمل المثالين هو هذا الذي يستغرق في موضوعه منذ أن يهتدي إليه إلى أن يؤديه؛ وهذا الاستغراق - كما قد يعلم القارئ - يركز إحساس النحات أو المثال في لمحة من حركة أو سكنه من سكنات وضع. وعلى من يريد أن يتصور مشقة هذا وثقله على النفس والروح والبدن أن يجربه وان يرى كم من الزمن يستطيع أن يستمر فيه. . . فليبتسم ابتسامة رضى وليشعر معها بالرضى وليظل هكذا ولير كم يستطيع أن يظل؟ فليقطب تقطيبه أسى، وليشعر معها بالأسى وليظل هكذا ولير كم يستطيع أن يظل؟!

هذا عمل لا يستطيع غير النحات أن يؤديه، وهو لن يكون نحاتاً متمكناً إلا إذا استطاع أن يؤديه. . . ومن العجيب أن النحات يطلب من أنموذجه أن يكون مرآته، وأن يعينه على تهيئة الجو الذي يريد أن يندمج فيه، وهو في هذا معذور مسكين. . . فهو حين يؤدي بروحه وبجوارحه ما يريد أن يسجله لا يرى نفسه ولا يستطيع أن ينقل عن صورته. . . عندئذ يضطر أن يشرح للأنموذج ما يطلب أن تكون عليه هيأته؛ وقليلاً ما يوفق النحات إلى طلبته، ولعل قلة التوفيق هذه هي التي تلقي في نفوس النحاتين الغرام بنماذجهم المطاوعة، فكم سمعنا بنحات يتزوج من أنموذجه بعد أن يفرغ من صنع تمثالها مهما كانت هذه الأنموذج فقيرة أو جاهلة أو ساقطة. . . فهو لا يرى فيها إلا أنها مرآة تتلقى حسه وتعكسه في وجهها

هذا هو النحات الحساس كما يريده الفن أن يكون

وهناك نحات آخر فيلسوف صاحب فكرة يرمز إليها بتمثال. ولعل مختاراً رحمه الله كان من هذا النوع حين أراد أن يكون من النوع الثاني فلم تسعفه موهبته. ونظرة واحدة إلى نهضة مصر مع نظرة واحدة أخرى إلى تمثال سعد زغلول في القاهرة أو في الإسكندرية تؤيدان هذا الرأي الذي أذهب إليه، فَهمَّة أبى الهول في التمثال الأول ليست إلا رمزاً لفكرة معجزة في سهولتها أدى بها مختار معنى النهضة بما لا يمكن - في إيماني - أن يهتدي

ص: 73

فنان إلى ما هو أسهل وأبلغ إعجازاً منها في الوقت نفسه. فكم من العيون رأت أبا الهول القديم رابضاً ربضته، وكم من القلوب أحست أيام الثورة بنزعة مصر إلى التوثب، وكم من العقول اهتدت إلى التوفيق بين ما تراه العيون وما تحسه القلوب غير عقل مختار

كان مختار إذن صاحب فكرة، فهل كان من الحس في مقام بدائي في مقامه من الفكر؟

قد يحب أنصاره وأصدقاؤه أن يجاملوه - وعلى الأخص بعد وفاته - فيعترفوا له بهذا الذي أريد أن أتريث قبل أن أقول كلمتي فيه؛ بل الذي لا أريد أن أقول كلمتي فيه إلا بعد أن أحيلهم على تمثال سعد زغلول وأرجوهم أن يصدقوا أنفسهم حين يرجعون إليها بما ينتابهم من الشعور بعد النظر إلى التمثالين، فإن لم يكفهم النظر فليخضعوا إليهما زمناً وليروا: هل يقف بهم مختار حين يقف عند واحد من هذين التمثالين أمام زعيم كانت له مميزات سعد زغلول الصارخة التي أقل ما سجلها له أعوانه وخصومه: جبروته، وكبرياؤه، ونفوذه؟ أما أنا فأتحاشى المغالطة حين أقول إني لا أشعر في وقفتي أمام أي من هذين التمثالين بشيء من هذا الشعور. . .

وما دمت قد عرجت على مختار، فإني أرى أنه من الوفاء لذكراه أن أسجل له إخلاصه لأساتذته المثالين الفراعنة، واصطناعه أسلوبهم الذي يميل إلى الجلال مع التبسط، وهو الأسلوب الذي جرى عليه مختار تماثيله جميعاً، والذي عشقه مختار لأنه كان مصريَّا صادقاً في مصريته، ولأنه أراد باصطناعه أن يفاخر به الأساليب الغربية المتأنقة ليشهد معه أصحابها أن مصر أم الفن القديم لا تزال خصبة لم يصبها عقم، ولم يعبث بأسلوبها الفني القدم، ولم يقلل من روعته مر الزمن

ولقد أنشأ مختار بصنيعه هذا مدرسة جديدة في النحت لهما اليوم من طلبة الفنون الجميلة العليا وخريجيها تلاميذ، وفيها من زملائه المدرسين فيها أساتذة، ولكن الفرق بين مختار وبين أبناء مدرسته هؤلاء أنه شغف حباً بالفن المصري من غير أن يرسم لحبه هذا خطة بينما هم قديمو الخطة ولما يتلاشوا إلى اليوم في هذا الفن كما تلاشى فيه مختار. فأنت لا تجد اليوم واحداً من النحاتين المصريين إلا وتراه يحدثك في إسراف عن الفن القومي، فإذا نظرت إلى التماثيل المصرية التي تنصب في المعارض اليوم تعذر عليك أن تؤمن - مهما تعمدت هذا الإيمان - بأن الذين أنتجوا هذه التماثيل مصريون. ولو أن هؤلاء الشبان ربوا

ص: 74

تربية فنية قومية صحيحة لأنتجوا فناً مصرياً صحيحاً. ولعل وزارة المعارف إذا كانت تهتم بأن تنتج فناً قومياً تفكر منذ اليوم في نقل قسم النحت من مدرسة الفنون الجميلة العليا إلى أسيوط

وأخيراً، فإني لا أستطيع أن أدع هذا الموضوع قبل أن أذكر الفن العصري أو الفن الحديث أو الفن (المودرن) كما يسمونه وقد بدأ يزحف إلينا، وراح يروج له أنصار السرعة من النحاتين الذين لا يطيقون دراسة الصناعة اللازمة للفن. فهم يجيزون اضطراب النسب في الأجسام، ونشوز الحركات والأوضاع، معللين هذا التجاوز بأنهم قوم لا يعبئون إلا بالفكرة والروح. . .

هؤلاء لهم دينهم ولغيرهم دين يؤمن أصحابه بالله وبفن الله، ويسبحون به مرحباً وموئلاً، فهو سبحانه وتعالى النحات الأول، وإنه سبحانه وتعالى لهو الفنان الأول، فأي تمثال كإنسانه؟ وأي كلام كقرآن؟ وأي أغنية يمكن أن تكون أبلغ وأصدق من أناشيد زبوره وألحانه

عزيز أحمد فهمي

ص: 75

‌من هنا ومن هناك

عصبة البنادق!!

للكاتب الفرنسي موريس برا

(ملخصة عن البتي باريزيان)

من في العالم يفكر الآن في مجلس عصبة الأمم المسكين وهو معلق من خناقه في جنيف؟

إن عصبة الأمم تضمحل ويتلاشى أثرها إن كان ثمة شيء يحمل هذا الاسم. ولقد تبتسم ونحن نفكر في تلك الشخصيات البارزة التي شغلت ردحاً من الزمن بالعمل المتواصل حول تلك المائدة الخضراء في جنيف!

أجل. يحق للإنسان أن يبتسم، بل يحق له أن يضحك ملء شدقيه لو كان في القلب مكان للضحك!

ما مصيرك بعد نورمبرج يا جنبف؟ إنها لفكاهة مريرة قاسية! ماذا تصنع عصبة الأمم الوديعة أمام أحاديث هتلر المتدفقة بالبلاغة وتصريحاته السياسية الملتهبة التي تدوي في أنحاء العالم؟ إن عصبة الأمم لا تملك غير المداد والكلمات في ميدان جرت فيه أبلغ الأحاديث وظهرت فيه احزم الأفكار وأدق الآراء

إن عصبة الأمم المسكينة قد فقدت اعتبارها - ويا للأسف - بعدِ أن افتقرت إلى الأمم وأعوزتها القوة والنفوذ. ولكننا في هذه الساعة الرهيبة الحالكة الظلام، يصح لنا أن نفكر ونتأمل

ألم يكن الحق مقره جنيف؟ ألم تقم دعامة للسلم في جنيف لمكافحة الحرب، لمكافحة القوة، لمكافحة التسليح الذي يهدد العالم بالخراب؟ أيوجد تدبير أحكم من اتحاد أمم العالم في مجلس قوى منظم لحفظ السلام؟

ألم يكن الخلاص في جنيف؟ ألا يمكن أن يكون الخلاص في جنيف؟!

إنهم يقولون حلم بعيد التحقيق ويضحكون ويقهقهون. ولكن هل من العقل أن نظل كذلك إلى الآن؟

هل من العبث أن نتباحث ومن العقل أن نتحارب؟ هل من العبث أن نبحث عن حلول

ص: 76

سلمية عادلة لشئوننا المختلفة، ومن المنطق أن تحكم القنابل في كل ما نختلف فيه من الأمور؟

أمن العبث أن تقدر الضمير الإنساني، ومن العقل أن نقبل حكم المدافع والقنابل بغير تبصر أو تفكير؟

إنها ليست عصبة الأمم التي أفلست. وإنما هي المدنية التي أفلست. . . إنها الإنسانية قد أصبحت (عصبة بنادق). . . وعلى الدنيا السلام. . .

إيطاليا وقناة السويس

بقلم الكاتب الإيطالي ف. بارتو

يقول هيرودتس أبو التاريخ إن العواهل من الحكام الأقدمين كانوا يحملون بقطع تلك البقعة الصغيرة من الأرض التي تفصل خليج العرب الممتد من البحر الجنوبي (البحر الأحمر) عن الخليج الممتد من البحر الشمالي (البحر الأبيض المتوسط) وإلى الآن لم يختلف اثنان في أهمية وصل هذين البحرين

ولقد كان نابليون بونابرت في العصور الحديثة مأخوذاً بهذه الفكرة. . . ولم يكن نابليون بالرجل الذي يعدل عن فكرة اتجِه نظرة إليها، ولكنه عدل عنها تحت تأثير مهندسه (لابير) الذي أكد له أن بين مستوى الماء في البحرين اختلافا عظيما قدّره بتسعة أمتار، وان هذه الفكرة مستحيلة التنفيذ

وفي سنة 1820 حاول جيتانو جاديني الإيطالي أن يفند تلك الفكرة القائلة بوجود اختلاف بين مستوى سطح الماء. وجاء إيطالي آخر يدعى نجرللي فتقدم بأول اقتراح لشق تلك القناة، وبناء على اقتراحه تألفت جماعة الفرنسيين والإيطاليين للبدء في هذا المشروع الذي يعد اعظم مشروع حيوي في ذلك العهد

ولكن أصغ إلى ما قالته إنجلترا في هذا المشروع حين نمى إليها خبره: أعلن لورد بالمرستون في البرلمان الإنجليزي أن أقل ما يمكن أن يقال عن هذا الشروع البعيد التحقيق أنه خرافة لا مثيل لها وتغرير لا حد له بعقول السذج الذين لا عقول لهم. كان ذلك في أول يونية سنة 1859

ص: 77

وفي 6 من نوفمبر 1869 افتتحت القناة، أو الخرافة العظيمة، في موكب حافل مؤلف من ستين مركباً لمختلف الأمم، مقلعة من بورسعيد إلى السويس وهكذا أصبح الطريق ميسراً من أوربا إلى غرب أفريقية

ولقد تبرعت إنجلترا - على غير انتظار - بمبلغ عظيم من المال لتتقدم ذلك الموكب بسفينة عظيمة من سفنها

وقد كتبت التيمس قبل ذلك ببضع سنين تقول: إن هذا المشروع تعترضه مصاعب جمة، وإن إتمامه أمر لا يستطيع أن يتصوره العقل قبل حدوثه. وإذا افترضنا وتمت هذه المعجزة بحال من الأحوال وأصبح مشروع قناة السويس أمراً واقعاً فإننا لا نستطيع إلا أن نعلن أن هذا المشروع يجب أن يكون إنكليزياً قبل كل شيء.

وإذ كانت هذه نظرة الإنجليز للمشروع، وكان هذا مبلغ شكهم في إمكان تحقيقه فإن موقف الفرنسيين أدهى وأمر! فقد اختلسوا من إيطاليا فخر تنفيذه!

إننا نحن الذين أوجدوا المشروع وأذاعوا نبأه في العالم. ولقد كان لنا نصيب وافر في الأحوال التي بذلت في سبيل تنفيذه. وإننا نحن الذين قدموا العمال والصناع للعمل فيه وقمنا بنشر الدعاية اللازمة في الدوائر الاقتصادية المختلفة لمتابعة السير فيه

وكل ما للفرنسيين من الفضل في هذا المشروع هو تقديم المهندس الذي قام بتأسيس القناة وهو المسيو فرديناد دي لسبس الذي كان لحظه صديقاً لسعيد باشا حاكم مصر في ذلك الزمان.

وتظهر قيمة دي لسبس الحقيقية حين هم بإنشاء قناة في بنها مثل قناة السويس وهنا الفضيحة التي لا يجهلها إنسان!

وذلك أن دي لسبس لم يكن له مرشد حينما أراد أن يسير في ذلك الشروع، فلم يكن له سند ولا دليل من الإيطاليين

فقد كان جاتينو جديني الإيطالي هو الذي قام فأثبت خطأ النظرية القائلة بالتفاوت بين ارتفاع سطح المياه، وتجرللي الإيطالي هو الذي قدم تصميم بناء القناة بينما قام بترمو بلوكابا الإيطالي أيضاً بالعمل، وادوادو جوايا الإيطالي الذي قام بالقسط الأوفر في التأسيس، وتوسللي أخيراً الذي دافع عن الفكرة أمام خصومها وأعد حملة من الكتاب والصحفيين

ص: 78

لنشر الدعاية لها. . .

ماذا يضايق الإنجليز؟

نشرت مجلة تصدر في برلين مقالاً تحت هذا العنوان نلخصه فيما يأتي:

للإنجليزي مقدرة عجيبة على التضجر ينفرد بها عن سائر الناس. فهو يتعمد أن يدوس على الأقدام عامداً متعمداً ليبدو أنه سيد العالم

فما يضجر الإنجليزي أن تأكل أمامه ونفسك مفتوحة للطعام، وحسبك أن تمضغ لقمة لتكون قد خرجت عن حدود اللياقة والعرف

لا بأس لدى الإنجليزي أن يراك ثملاً، مادمت تستطيع أن تسير في الطريق في هدوء واعتدال،

ويتضايق الإنجليزي إذا جلست معه إلى طعام وأدخلت ملعقة الحساء مثلاً في فمك، فإنه يعد ذلك من علائم الانحطاط وسوء التربية

ومما يضايق الإنجليز أن تدخن وأنت في لباس السهرة - وقد فعل ذلك سفير أمريكا - فقوبل عمله بنقد شديد. وعلى أن هذه العادة أخذت تزول منذ ظهر مستر بلدوين يدخن لأول مرة في لباس السهرة ومما لا يقبله العرف الإنجليزي أن تطلب فتاة أو زوجة حديثة السن للرقص قبل أن تقدم إليك إذا جمعكما منزل واحد

ولا يطيق الإنجليزي أن يراك تتكلم في الفلسفة أو الدين إلا إذا دعاك هو للكلام في هذه الشئون، لأن الإنجليزي يعتقد في نفسه العصمة من كل ما يسبب الضجر للآخرين. وهو يميز نفسه دائماً عن الأجنبي، لأن الأجنبي لا يعرف ما يضايق الإنجليز

وهذا المظهر من عادته أن يجعل الأجانب من رجال السياسة الذين يفدون إلى إنجلترا على حذر في كل ما يأتونه هناك إن لم يكن عندهم شيء من الرصانة والثقة بالنفس

فإذا عرف إنسان ما يضايق الإنجليز في بلادهم، فقد أصبح إنجليزيا في عرفهم مهما تكن جنسيته

وقد نقلت هذه النبذة مجلة إنجليزية تحت عنوان (ماذا يقولون عنا) وعلقت عليها بنبذة من كلام أمرسون عن الخلق الإنجليزي جاء فيها:

(إن الإنجليزي لا يقدم على عمل بنصف قواه، ولكنه يقدم عليه بكل قواه. أنه لا يطيق حياة

ص: 79

الرخاوة والكسل بحال من الأحوال. والإنجليز على جانب عظيم من المقدرة في سياستهم وإن شك بعض الحمقى في ذلك

إنني اعتقد أن في الإنجليزي قدرة على تجديد قواه الكامنة في كيانه، وذلك يدل على أن هذه الأمة قادرة على التجديد دائما. وكل شيء يقدر عليه الإنجليزي يفعله بغير تردد)

ونحن نرجو أن تكون هذه المساجلات كل ما يقع بين الأمتين.

ص: 80

‌البريد الأدبي

أبو تمام - خليل مطران

1 -

أرجو أن يثق الأستاذ الجليل (القارئ) أن البيت (من كل بيت يكاد الميت يفهمه) لأبي تمام لا للبستي. ولو أن الأستاذ الجليل أعاد قراءة ديوان أبي تمام وديوان البستي لو جد فيه قوة أداء أبي تمام وهي قوة الأداء التي يفتقد (مثلها) في ديوان البستي. أما قوله إن البيت ليس في ديوان أبي تمام فسهو منه لأنه في ديوان أبي تمام في باب المعاتبات صفحة 409 من الطبعة التي قرظه فيها الأستاذ إسعاف النشاشيبي، وهو في قصيدة مشهورة موجودة في الديوان وفي غير الديوان قالها يعاتب بها محمد بن سعيد كاتب الحسن بن سهل وأولها هكذا:

محمد بن سعيد أَرْعِنِي أُذُناً

فما بِأذْنِك عن أُكرومَة صَمم

لم تُسقَ بعد الهوى ماءً على ظمأ

ما كقافية يَسْقيكهُ فَهِمُ

من كل بيت يكاد المَيْتُ يفهمه

حسناً ويعبد القرطاسُ والقلمُ

مالي ومالك شِبْهٌ أنشده

إلا زُهَيْرٌ وقد أصغى له هرم

الخ. ويروي الشطر الثاني من البيت الثاني في بعض الكتب (كماء قافية) وأظن أن الأستاذ (القارئ) أخطأ فهم قول الثعالبي فإنه أراد أن يمدح قول البستي ببيت أبي تمام على سبيل الاستشهاد والتضمين فقال الثعالبي: يعجبني قوله من كل بيت الخ أي يعجبني قوله من الأبيات التي صفتها كيت وكيت. وأرجو أن يسامحني الأستاذ الجليل (القارئ) في هذا البيان

2 -

قال الدكتور أدهم إني تأثرت بطريقة خليل بك مطران. وهذا يشرفني لو كان حقيقة، ولكنه ليس حقيقة، فإني لم أتأثر بطريقة خليل بك لا في قليل ولا في كثير. وإذا استطاع الدكتور أدهم أن يجئ بشواهد فإنها تكون شائعة بين الشعراء فليجئ بها، وإذا ساعدني اطلاعي الضئيل وذاكرتي الضعيفة أثبتُّ أني احتذيتها إما في شاعر آخر وإما لأنها شائعة بين الشعراء. وقد أرسلتُ لمجلة (المقتطف) المقالة الأولى في الرد على قوله عقب قراءتي مقالته في مجلة المقتطف. وليطمئن الدكتور أدهم فإني سأثبت له بمقالات عديدة وشواهد وأسباب كثيرة أنه واهم في قوله كل الوهم

ص: 81

أولاً: لأني اطلعت على الأدب العربي والأوربي في سن مبكرة بالمدارس الابتدائية والثانوية وذكرت الأدلة وقارنت بين كل قصيدة لي والقصائد التي احتذيتها في مقالة (المقتطف)

ثانياً: إن قوله إن شعري يغلب عليه التشاؤم خطأ، ولا أظن أنه يرفع قدر شعر مطران لو صح، وفي شعري التفاؤل والتشاؤم

ثالثاً: أن ثقافتي الأوربية في أول نشأتها كانت ثقافة إنجليزية، وثقافة مطران في أول نشأتها كانت ثقافة فرنسية. ويتضح ذلك من توجيهي قصيدة في الجزء الأول من ديواني إلى الشاعر بيرون، ومن تعلمي اللغة الإنجليزية واتساع المجال إلى قبل سفري إلى إنجلترا وبعده للاطلاع على الأدب الإنجليزي

رابعاً: إن الأدب الفرنسي الذي اطلعت عليه اطلعت عليه في كتب مترجمة إلى اللغة الإنجليزية لا في شعر مطران، وإذا شرفني الدكتور أطلعته عليها وعلى ما أشرت به في هامشها خامساً: إن كثيراً من شعري ونثري يغلب عليهما التحليل النفسي أو السخر أو التفكير في مذاهب التفكير الأوربية الإنجليزية والفرنسية والألمانية الخ. ولم أر ولا أظن أن أكثر القراء رأوا مثل ذلك في شعر مطران، وسأوضح مراجع هذا التفكير الذي تأثرته في الأدب الأوربي

سادساً: إني لم أطلع على ديوان مطران إلا بعد نشري جزءاً من شعري على الأقل. وقد كنت قرأت شعر البارودي في الصغر ورثيته بقصيدة نشرها خليل بك نفسه في مجموعة مراثي البارودي، وكانت قراءتي لشعر البارودي لنشر أستاذه المرصفي الكبير كثيراً من قصائده وقصائد من عارضهم في كتاب (الوسيلة الأدبية) الذي وجدته في مكتبة أبي وأنا تلميذ بالمدارس الابتدائية

سابعاً: أني لم أقابل الأستاذ مطران غير ثلاث مرات، مرة في قهوة نلسون في الصيف بالإسكندرية على غير قصد، ومرة أخبرني الدكتور أبو شادي أن خليل بك يرحب بأن أزوره، والمرة الثالثة قابلته أخيراً في مكتب العشماوي بك في وزارة المعارف (أو هما مرتان). ولم يحاول في مرة منها أن يجعلني تلميذه أو أن يشجعني، ولم يشر إلى أتى أقاربه في مذهبه؛ بل إني ظننت وبعض الظن إثم، أنه في حديثه عن الأدب في قهوة

ص: 82

نلسون في اللقاء الأول كان ينتقد مذهبي من غير إشارة انتقاداً مراً، وكنت قد نشرت أربعة أجزاء. والذي أعرفه خليل بك في ذلك العهد كان يتنصَّل من أن يكون قد أثر في الشعراء الشبان. وإذا كان قد شجع شباباً غيري فإنه لم يشجعني مطلقاً إلا بنشر رثائي للبارودي قبل ذلك العهد وقد أرسلته بالبريد ولم أكاتبه مرة أخرى. والحقيقة أن كلمة التجديد في ذلك العهد كانت يساء بها الظن كما لا يزال يساء بها الظن، وأن هذا كان من دواعي موقف خليل بك، وقد تحول الآن قليلاً

ثامناً: إنه من سوء حظي أني عندما اطلعت على شعر خليل بك لم أطلع على أحسنه وأروعه وأفخمه، بل اطلعت على القصائد التي نظمها لمداعبة الآنسات السوريات وجعلها على قدر فهمهن فظننت أن كل شعره من هذا القبيل. وزاد هذا الاعتقاد أني قرأت له شعراً يشبه بعض شعر الحفلات والحياة الفرنسية والاجتماعية. وقوى هذا الاعتقاد إكثاره من شعر المناسبات اليومية التي لا أكتب فيها ولا أرى أنها من خير الشعر، وقلة اهتمامه بنشر شعره لاشتغاله بالتجارة مما أخمل شعره الجليل وقلَّل أثرة؛ ومَدْحُ بعض الشعراء المتطرفين في التجديد له جعلني أشك في شعره وأزهد في قراءته ومنعني من تأثره والاستفادة منه كما كان ينبغي

عبد الرحمن شكري

عبث الوليد

قرأت ما كتبه الأستاذ الكبير عبد الرحمن شكري عن أمير الصناعة البحتري فكان عندي موضع إعجاب وإجلال. وإني لمعجب ومقدر لما يكتبه الأستاذ من الأبحاث القيمة والموضوعات الأدبية الطريفة فأقرأه بشغف وأتزود منه وأنتفع به. غير أن لي ملاحظة على قوله إن المعري (شرح ديوان البحتري وسماه عبث الوليد. ولعمري لو كان شعر البحتري عبثاً ما احتفل له أبو العلاء ولما سلخ له زماناً من عمره في شرحه وإلا كان المعري عابثاً لإضاعة وقته في شرح العبث الخ)

فإن المعري لم يشرح ديوان البحتري كله. وحاشا المعري أن يسمي سلاسل الذهب عبثاً. وكيف يصح ذلك منه وهو الذي يقول: (المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري)

ص: 83

وهذه شهادة منه تعتبر أرقى من أهم شهادة في هذا العصر

وإنما اختار أبياتاً ارتكب فيها البحتري ضرورة من الضرورات أو استعمالاً شاذاً أو مذهباً نحوياً غريباً فشرح هذه الأبيات وبين ما فيها وأسماها عبث الوليد

وهذا الكتاب طبع بدمشق ويوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية مأخوذة بالتصوير الشمسي برقم 7957. وهذه بعض أمثلة منه

حرف الهمزة من التي أولها: زعم الغراب منبئ الأنباء:

فلعلني ألقى الردى فيريحني

عما قليل من جوى البرحاء

الأكثر في كلامهم لعلي وبها جاء القرآن وربما جاء لعلني

وهذا البيت ينشد على وجهين:

أريني جواداً مات هزلاً لعلني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

ومنهم من ينشده لأنني وهو بمعنى لعلني الخ

وقال في محل آخر:

لم تقصر علاوة الرمح عنه

قيد رمح ولم تُضِعْهُ خَطآء

خطآء بفتح الخاء رديء إلا انه جائز وقد حكي عن بعض القُراء المتقدمين: (أنه كان خطآ كبيرا) بالفتح والمد. والكسر أجود ليكون مصدراً لخاطأ لأنهم قد قالوا تخاطأته المنية قال الشاعر:

تخاطأت النبلُ أحشاءه

وأُخَّرَ يومي فلم يَعْجَلِ

ويجوز أن يكون خطآ وهو مأخوذ من الخطوة كما يقال خطأه الله السوء أي جعل السوء يخطوه فلا يمر به، وقال:

وما دول الأيام نعمى وأبؤساً

بأجرح في الأقوام منه ولا أسوى

قوله أسوى تسامح من أبي عبادة لما كان الأسو ظاهر الواو وكذلك قولهم أسوته في الفعل فأنا آسوه آنس بالواو، فجاء بها في أفعل الذي يراد به التفضيل وإنما القياس ولا آسى وما علمت أن أحداً استعمل هذه الفظة التي استعملها أبو عبادة وكأنه قال: ولا أوس ثم نقل الواو إلى موضع العين إذا بنى من أسا يأسو مثل أفعل فالأصل أن يجتمع فيه همزتان إلا أن الثانية تجعل ألفاً كما فعل بها في آدم فهذه الألف جاء بها أبو عبادة في أسوى بعد الواو

ص: 84

يجب أن تكون الهمزة المخففة وقد أبدع في استعماله هذه الكلمة ومن التي أولها:

أبا جعفر ليس فضل الفتى

إذا راح في فرط إعجابه

ولكنه في الفعال الكريم

والخلق الأشرف النابه

جاء بالنابه مع إعجابه فجمع بين الهاء الأصلية وهاء الإضمار وذلك قليل إلا أن الفحول قد استعملوه واستحسنه كثير من المحدثين. وقالت امرأة من العرب تهجو ضرتها وتخاطب زوجها:

بطون كلب الحي من جدارها

أعطيت فيها طايعاً أو كارهاً

حديقة علياء من مدارها

وفرساً أنثى وعبداً كارهاً

ومن التي أولها: وكان الشلمغان أباً مولهاً:

بنو الأطروش لو حضروا لكانوا

أخص مودة وأعم رأياً

قوله الأطروش يقول بعض أهل اللغة إنها كلمة لا أصل لها في العربية وقد كثرت في كلام العامة جداً وصرفوا منها الفعل فقالوا طرش يطرش وأفعول بناء عربي كثير. ويجوز أن يكون من أنكر هذه اللفظة من أهل العلم لم تقع إليه لآن اللغات كثيرة ولا يمكن أن يحاط بجميع ما لفظت به القبائل. وكان عبد الله ابن جعفر بن دستوريه يذهب إلى أن كلام العرب لا يمكن أن يدرك جميعه إلا نبي إذ كان غاية ليست بالمدركة. وممن كان ينفي الأطروش عن كلام العرب أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني الخ

هذه طريقة هذا الكتاب هو كتاب جليل على صغر حجمه نافع لا يصح أن يكون مجهولاً غير معروف بين الأدباء والسلام على الأستاذ

إبراهيم يسن القطان

المبتدأ الذي لا خبر له

لا شك في انه يوجد في علومنا ما يحتاج إلى التمحيص، ولقد درست النحو في هذه السنة فدرجت فيه على عادتي في الدرس من إيثار تمحيص المسائل على ترديدها كما دونها المؤلفون. ومن ذلك مسألة المبتدأ الذي لا خبر له، وهو الذي أشار إليه ابن مالك في قوله:

وأول مبتدأ والثاني

فاعلٌ أغنى في أسَار ذَانِ

ص: 85

وهم يقولون في إعراب هذا المثال: الهمزة للاستفهام، وسار مبتدأ، وذان فاعل سد مسد الخبر. وفي هذا الإعراب المشهور مؤاخذة من وجهين: أولهما أن هذا الوصف ليس مبتدأ في المعنى، لأن المبتدأ في الجملة الاسمية هو المحدث عنه أو المسند إليه أو المحكوم عليه، الخبر هو المحدث به أو المسند أو المحكوم به، والوصف في ذلك المثال جار مجرى الفعل، فهو محدث به لا محدث عنه، ومسند لا مسند إليه، ومحكوم به لا محكوم عليه

وثانيهما انه كلما كان هناك مبتدأ وجب أن يكون هناك خبر، فلا يمكن وجود مبتدأ لا خبر له، وهذا كما لا يمكن وجود خبر بدون مبتدأ، ولا وجود فعل أو فاعل بدون الآخر، وذلك لأنه لا يعقل وجود محدث عنه أو مسند إليه أو محكوم عليه بدون وجود محدث به أو مسند أو محكوم به، ولا يمكن أن يسد الفاعل الذي بعد ذلك الوصف مسد الخبر، لأن الفاعل مسند إليه، والوصف إذا كان مبتدأ يقتضي مسنداً لا مسنداً إليه فإذا قيل إنه ليس معنى المبتدأ هو المسند إليه أو نحوه، وإنما هي تسمية اصطلاحية بمعنى الاسم العاري عن العوامل اللفظية، فيكون ذلك الوصف مبتدأً بهذا المعنى، وإن كان مسندا لا مسنداً إليه، فالجواب أن هذه التسمية الاصطلاحية لا نظير لها في علم النحو، فلا يسمي فيه فاعل إلا إذا كان في المعنى فاعلاً، ولا يسمى فيه مفعول إلا إذا كان في المعنى مفعولاً، ولا يسمى فيه حال إلا إذا كان في المعنى حالاً، وهكذا. فيجب أن يكون المبتدأ كذلك، ولا يصح أن تكون تسميته تسمية لفظية صرفه، لأنه لا يوجد في النحو إعراب لا معنى له

والذي أراه أنه لا يجب أن يعرب مبتدأ كلً اسم عربي عن العوامل اللفظية، وقد استثنوا من ذلك اسم الفعل فلم يعربوه مبتدأ. وأنا أستثني منه ذلك الوصف فلا أعربه مبتدأ أيضاً، وإنما يعرب عندي اسم فاعل مرفوعاً لتجرده من العوامل، كما يرفع الفعل المضارع لتجرده منها، فإذا كان اسم مفعول أعرب اسم مفعول، وهكذا. وبذلك يستقيم جعل ذلك الوصف مسنداً، وجعل مرفوعة مسنداً إليه.

عبد المتعال الصعيدي

مباراة موسيقية غنائية تنظمها جماعة الأسايست في القاهرة

نظمت جماعة الأسايست بالقاهرة مباراة علمية في البحوث الموسيقية والغنائية، واعدت

ص: 86

للفائزين فيها أربع جوائز، اثنتين منها للبحوث المقدمة باللغة العربية، والأخريين للبحوث المقدمة باللغتين الفرنسية أو الإنجليزية

أما الموضوعات التي اختيرت لهذه المباراة فهي:

الموسيقى العربية - بحث في أحد أعلامها (أعماله، منبع إلهامه، أثره في الموسيقى العربية، الخ.) وآخر في الأغاني الشعبية المصرية، وثالث في الموسيقى المصرية الحديثة الموسيقى الغربية - بحث في ترجمة حياة أحد الأعلام الثلاثة: باخ - بيتهوفن - دبوسي، وبحث آخر في السوناتا، وثالث في عصر من العصور الموسيقية: العصر القديم (الكلاسيكي)، العصر الإنشائي (الرومانطيقي)، الموسيقى بعد الحرب، الموسيقى المقارنة، بحث في المقابلة بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية والصلة بينهما قديماً وحديثاً والاشتراك في هذه المباراة مباح للمقيمين في مصر، بشرط ألا تزيد سنهم على الثلاثين، وألا تستغرق البحوث أكثر من ثلاثين صفحة من القطع الكبيرة مع عدم النقل الحرفي من المراجع. وتقدم طلبات الاشتراك حتى آخر الشهر الحالي، والبحوث إلى يوم 31 مايو المقبل مع رسم قدره 15 قرشاً باسم سكرتيريه الجماعة بشارع المغربي رقم 9 بالقاهرة

أما لجنة التحكيم فقد ألفت من حضرات الدكتور محمود احمد الحفني رئيساً ومدام بتسي ستروس وكيلة، ومصطفى رضا بك، والأستاذ توفيق الحكيم، والدكتور. ب. شيفر الستر، والأستاذان ج. هوتيل، وا. تيجرمان، والدكتور هانس هيكمان: أعضاء، والمسيو سالتيل سكرتيراً

دار الثقافة في السودان

من بين المهتمين بإيجاد دار تجمع المثقفين من المصريين والبريطانيين والسودانيين لتبادل الرأي وتوثيق التعارف، المستر ولسن مساعد السكرتير الإداري بالخرطوم. وقد ذكر أن ثلاث شخصيات كان لها الفضل في اقتراح هذا المشروع وتأييده هم المستر كوكسن مدير المعارف والمستر نيوبولد والمستر كمنجز. وقال إن بعض الناس يطلقون عليها أسم نادي القلم، وهذا خطأ إذ أن الاسم المراد إطلاقه عليها هو دار الثقافة

وسيباح الاشتراك في هذه الدار لجميع الأجناس. وستزود بالكتب الإنجليزية والعربية، وستلقى فيها محاضرات في شئون تهم الوطنيين والبريطانيين وتهم السودان بصفة عامة

ص: 87

عودة البعثة الألمانية من القطب الشمالي

وصلت البعثة الألمانية العادة من القطب الجنوبي إلى كوكسهافن على الباخرة شوابنلند وقد حصلت على نتائج مهمة. وكان المارشال جورنج قد أمر بتأليفها ضمن استكشاف منطقة تمتد إلى شرقي خط جرينتش وغربية في القارة المتجمدة الجنوبية. وقد بلغت الباخرة شوابنلند تلك الأصقاع في يناير الماضي وبدأَت البعثة أعمالها في الحال

وقامت برحلتين جويتين وضعت بهما الخرائط لإقليم لم يستكشف بعد وتبلغ مساحته 350 ألف كيلو متر مربع، ويبلغ مجموع مساحة الأراضي التي استكشفت من قبل 600 ألف كيلو متر مربع. ويتألف الإقليم الذي استكشف من بقعة واحدة يحدها من الشرق نجد من الجليد يرتفع فجأة ويمتد في اتجاه القطب ويحتوي على سور من الصخور يختلف ارتفاعاً وهبوطاً إلى أن يتصل بالقطب. وقد جاءت الخرائط التي وضعت لكل ذلك فريدة في بابها

ونزلت البعثة في أثناء طيرانها على حواجز من الجليد ورفعت العلم الألماني على كثير من القمم وجعلت تلقي كلما اجتازت 15 كيلو علماً من أعلام الصليب المعقوف. ثم إن البعثة استكشفت الحاجز الجليدي حتى الدرجة 18 ، 30 شرقاً وجابتَ الشاطئ حتى الدرجة 20 شرقاً. وفي 6 فبراير شرعت السفينة في العودة لأن سوء الطقس وحالة الجليد كانت تنطوي على أخطار كبيرة. وأثبتت الطائرات المائية جودتها الفائقة في استخدامها في تلك الأصقاع. وتبلغ أقصى نقطة جنوبية وصلت إليها البعثة الدرجة 72 والدقيقة 44 جنوباً والدرجة الصفر من خط الطول. أما أقصى نقطة غربية فهي الدرجة 71 والدقيقة 33 جنوباً والدرجة 4 والدقيقة 5 غرباً. وبلغت أقصى نقطة شرقية الدرجة 22 والدقيقة 10 جنوباً والدرجة 16 والدقيقة 30 شرقاً. ووضعت الأعلام الألمانية على هذه الدرجات لتعيينها. وقامت البعثة إلى جانب كل ذلك بجس بالراديو في 119 موضعاً، وكان 31 موضعاً منها على علو يزيد على 20 ألف متر. وقام الأستاذ باركلي العالم السيولوجي بأبحاث تتعلق باحتمالات صيد الحيتان أجرى تجارب بالشباك ودرس حياة الحوت

الأدب المصري في نظر المستشرقين

سبق للرسالة أن أشارت إلى أن الأستاذ المستشرق الكبير بروكلمن ينشر الآن الجزء الثالث

ص: 88

والأخير من تكملة كتابه (تاريخ الآداب العربية) والذي فيه يتناول مظاهر الأدب المصري شعراً ونثراً. هذا إلى جانب المحاضرة التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين المنعقد في بروكسل في السنة الماضية والذي عرضت له الرسالة في حينه. وقد لفت الأستاذ بروكملن في محاضرته هذه، أنظار المستشرقين إلى ضرورة نقد كتب الأدب العربي الحديث. وقد ظهرت بوادر ذلك في عدد فبراير سنة 1939 من مجلة المشرقيات وهي أهم مجلة ألمانية موقوفة على النقد في دوائر الاستشراق حيث نشر المستشرق المعروف هاج ببرلين نقداً لمسرحية الدكتور بشر فارس (مفرق الطريق). بدأ المستشرق نقده بذكر مؤلفات الدكتور بشر فارس في الأدب والعلم وأشار إلى مكانتها، ثم تطرق إلى المسرحية فبين الفكرة البعيدة المرمى التي تدور عليها المسرحية من الناحية الفلسفية، ووصف الطريقة الرمزية في التعبير عن العواطف والحركات على المسرح، فقال إن الحوار في المسرحية بين النطق والإشارة مما يتطلب من المخرج مقدرة ويترك له مجال الافتنان. أم لغة المسرحية فيراها الناقد منتقاة. وقد يتفق للقارئ أن يقف أحياناً لتفهم تعبير جديد في الأدب العربي. وهنا يرى المستشرق هاج أن النقاد عندنا أثبتوا قدر هذه المسرحية على اختلاف مناحيهم: فذكر أنها نالت من الناحية الأدبية تقدير الدكتور زكي محمد حسن (أهرامِ 25 أبريل سنة 1938) ومن الناحية الفنية اعتراف الأستاذ زكي طليمات بأنها حدث جديد (الرسالة عدد 250 في 18 أبريل سنة 1938) ثم ذكر رأي الناقد ميخائيل نعيمة بأنها كزي جديد في الأدب العربي (الرسالة عدد 251 في 25 أبريل سنة 1938) ثم عقب المستشرق هاج بأن هذه المسرحية تمهد طريق الاستحداث الأدبي في العالم العربي كما وقع ذلك في الأدب التركي. ثم يختم المستشرق بهذا السؤال: هل يقدر المؤلف أن يصل إلى الغاية التي يقصد إليها؟ فجاء جوابه أن هذه المسرحية إن لم يتفق لها أن تحقق الغاية في المستقبل فإنها قوبلت بارتياح عظيم. وزاد على ذلك أن المؤلف لا يشك في أنه قد حان الزمن الذي فيه أصبح الإيجاز والإيماء في الإنشاء الرفيع أحب إلى القارئ العربي المهذب من التطويل والتذييل

م. ك

ص: 89

‌الكتب

من بواكير الشباب

قصص وشعر

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

في شبابنا يقظة أدبية وثابة، ولهفة على التأليف في الأدب خصوصاً في القصص والشعر، وما من يوم يمضي دون أن يحمل إلي البريد قصة أو ديواناً يطلب مني صاحبه أن أقدمه للقراء! ومهما يقل بعض الناس في شأن هذه اللهفة، فإنها لا شك بشرى طيبة لعلها تصل بأصحابها إلى نهضة أدبية قويمة متى وجدت المدد والبخور والعطف والتشجيع

وهذه باقة من نتاج الشباب في القصص والشعر نضعها بين يدي القراء الكرام، وإن فيها من طيب الشذا ما ينعش النفس ويغمر الإحساس والشعور، وهل الشباب إلا إحساس وشعور!

في سبيل الخلافة

قصة تاريخية مسرحية، وضعها الأديبان: إبراهيم حسن جعفر وعبد الغفار الجنبيهي، وموضوع القصة موضوع تاريخي يتصل بالصدر الأول للإسلام. ذلك العصر العظيم بأبطاله، الزاهي بتراثه، الفخور برجاله، والقصة جميلة في تسلسل حوارها، وانسجام أسلوبها، وتحري الصواب في سرد حوادثها، فغاية الفن فيها التهذيب والتزويق، لا الكذب والتزوير، فأنت إذ تراها قصة أدبية قوامها الحوار والتمثيل، فأنت تجدها في الوقت نفسه قطعة رائعة من التاريخ لها كل مميزات الكتابة التاريخية، وإنها لتبشر بمستقبل لمؤلفيها في الأدب، وتدل على استعداد للقصة

قبل الانتحار

وهذه قصة بقلم الأديب خليل منصور الرحيمي، وقد قدمها إلى القراء الأستاذ الكبير إبراهيم عبد القادر المازني وقال في تقديمها: هذه قصة منتزعة من صميم الحياة، فلا تقليد ولا محاكاة ولا تمصير ولا شيء إلا صورة نفس مصرية على قدر ما وسع صاحبها أن يتقصى جوانبها، ويغوص في أعماقها، ويلم بألوانها، ولقد أجاد بحق، وليس فيه من العيوب

ص: 90

إلا ما لا بد منه ولا معدي عنه في سن الشباب، والزمن والتجربة علاج كاف مضمون!

والقصة في موضوعها هي قصة المؤلف في الحياة، وما لاقاه فيها من حوادث، ومأثر على نفسه من مؤثرات. والناس جميعاً متشابهون فيما يقاسمون من صروف الدهر، وعنت الأيام، ولكن القليل فيهم هو الذي ينتفع بالتجربة، ويتدبر العواقب، ويستخلص النهج الذي يجب أن يسلكه هو وأمثاله. والأديب حينما يقدم لك صورة من نفسه، فإنه في الواقع يقدم لك صورة من الحياة، ولكن بعد أن يقربها لعقلك وإدراكك، ومن ثم تكون اللذة والإفادة. فلعل الذين يطالعون هذه القصة يجدون فيها كما وجدت صورة رائعة تمثلت في حياة نفس مصرية

في غرفة التحقيق

وهذه قصة كسابقتها، هي صورة من حياة مؤلفها الأديب محمود محمد علوان، ولكنها حافلة بتعدد الشخصيات وكثرة المناظر؛ وكأني بها قطعة صادقة من الحياة الواقعية، أراد صاحبها أن يتحرى فيها الصدق والإخلاص فبلغ غايته ووفق إلى ما أراد.

صدر القصة سرد لتاريخ المؤلف وصلته بالحياة وبالناس وهو في كنف والده أيام الدراسة، وهي إلى هذا الحد قصة عادية أشباهها في الحياة كثير. ولكن المؤلف بعد ذلك يقص حياته في العمل بسكرتارية التحقيقات بنيابة دمنهور، وهو في هذه المرحلة لا يحفل بشخصه، ولكنه يهتم بتصوير ما يصادفه من الحوادث العجيبة، والشخصيات الغريبة، والوقائع التي تبكي وتضحك مما يتصل بأعمال النيابة في الضبط والمعاينة والتحقيق، ولا شك أن المؤلف قد تأثر كثيراً بالأستاذ الحكيم في يوميات نأب في الأرياف وإن كان بينهما البون الشاسع في سرد الوقائع، وترتيب الحوادث، والوضع الفني للقصة وأسلوب الكاتب أسلوب سهل قريب إلى النفس، يدل على طبع موهوب وإن كان لا يخلو من هفوات لا يسلم منها الناشئ

القصتان

وهما قصتان من صميم الحياة المصرية، إحداهما بعنوان (ثورة) والأخرى بعنوان (الرضيع) وضعهما مؤلفهما الأديب عبد الحفيظ أبو السعود دعاية للفضيلة، وانتصاراً

ص: 91

للأخلاق الكريمة التي عصفت بها روح العصر، وطغت عليها مدنية زائفة كلها الأذى والشر والتبذل والفساد لنفوس الشباب، وقلب الأوضاع الثابتة، والتقاليد المرعية

والمؤلف الفاضل بارع في السرْد القصصي، وحبك الوقائع حتى ليسير بالقارئ في تسلسل وانسجام، فلا نبو ولا شذوذ ولا اقتضاب، ولكنها طبيعة الحياة، واطراد الحوادث. وأسلوبه قوي سليم، ولكن يكثر فيه الترادف والتعابير الضخمة التي لا تلائم روح القصة. إن من الواجب على الكاتب أن يجيد الربط بين المعنى وبين لبوسه من الألفاظ والتعابير، وأن يكون أسلوبه ملائماً لمواقع الكلام. وتلك ناحية يستطيع المؤلف أن يخلص منها في يسر وسهولة، حتى يتم له الاتصال بنفس القارئ في يسر وسهولة.

نجوى المنى

جملة طيبة من المقطوعات الشعرية، نظمها الأديب الشاعر عبد الله حسين رزق في موضوعات تتصل بنفسه، فهي آلام وآمال وعواطف وأحاسيس اعتلجت في نفس الشاعر فجلاها للناس في أسلوب مشرق صادق، وترجم عنها بالأداء أحسن ترجمه. وإذا كان ما يخرج من القلب يصل إلى القلب كما يقول الجاحظ فلا شك أن الشاعر الأديب قد استطاع ان يصل إلى قلب قارئه.

أما الملكة الشعرية والأداة الشعرية فأنهما كما يقول الأستاذ خليل شيبوب في مقدمة الديوان - قد استقامتا للناظم، وليس عليه إلا أن يتعهدهما حتى يستكملهما، وما كثير من المعاني التي يتلمسها، ويمر بها دون أن يستوفيها إلا ومضات ذهنية لا تزال تموج بها ميعه الصبا، ولعلها تنجلي عن شمس الضحى في النهار المشرق.

ألحان الفجر

وتلك مقطوعات أخرى نظم عقدها الشاعر محمد المصري محمود، وهي قطع من عواطف المؤلف في الوطنية، وشعوره نحو الجمال وتقديره للعاملين من أبناء الوطن في السياسة والعلم والأدب.

وألحان الفجر باكورة تدل على استعداد صاحبها للشعر وتنبئ عن ملكة لا بدل لها من المران والتدريب حتى تنمو وتنضج. وإنك لتطالع فيه كثيراً من الأبيات المفردة،

ص: 92

والمقطوعات التي تفيض بالعاطفة القوية والإحساس الشريف.

شرح منهج التعليم الإلزامي

ذلك هو جاد الجندي المجهول يؤديه لأمته ووطنه لا يرجو عليه جزاءاً من أحد إلا أداء مهمته وإشباع رغبته واطمئنان نفسه وضميره

والجندي المجهول في مصر هو ذلك المعلم الإلزامي القابع فيك صميم الريف يهذب النفوس ويهيئ العقول ويشحذ المواهب في النشء ويعدهم لفهم الحياة ومزاولة العيش. والمعلم الإلزامي لا شك يجد كثيراً من الصعوبة والمشقة في تقويم أطفال كسغب القطا حمر الحواصل. ولقد يعنيه اختيار الطريقة الملائمة لإدراكهم في الشرح وربما يتنكب القصد. ولقد فزع الأديب عبد المؤمن محمد النقاش في جماعة من إخوانه الذين يزاولون التعليم في المدارس الإلزامية لتسهيل ذلك العمل لأبناء طائفته فقاموا بشرح منهج التعليم الإلزامي لجميع الفرق في الأخلاق والدين والتربية الوطنية والمحادثة والإنشاء والإملاء والمحفوظات والصحة والتعليم المنزلي والأشياء والتاريخ والجغرافيا على ما هو مقرر في تلك المدارس

وقد زينوا الشرح بالخرائط والرسوم لتبسيط الفكرة وتوضيح الرأي، وزادهم تمكنا في الشرح مزاولتهم التدريس في تلك المدارس، فجاء عملهم كاملاً يقوم على العلم والعمل، نافعاً ينير الطريق لإخوانهم ويسد نقصاً هداهم الله إلى تمامه ووفقهم إلى كماله.

م. ف. ع

ص: 93