الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 303
- بتاريخ: 24 - 04 - 1939
مغزى رسالة الرئيس روزفلت
اقتلوا الجوع تقتلوا الحرب
عالجت الرسالة في بضع عشرة مقالة آلام الجوع وآثام الفقر وما ينجم عنهما من مآسي الحياة؛ وكان في ظننا يومئذ أن الناس متى هذبتهم المعرفة وصقلتهم المدنية يصبحون أعلم بحكمة الله، وأفهم لسياسة الدين، وأجدر أن يحكِّموا العقل والعدل فيما شجر بينهم على قسمة الدنيا وغلة الأرض؛ ولكنا تركنا الموضوع قانطين من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تبعد عن البكاء والاستبكاء، مادام الحكم لأيدي الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء، والغَلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. وقلنا ونحن نمسح عن القلم سواد الحظوظ: لا يزال في قدر الله أن يكابد بنو آدم عقابيل البهيمية الأولى، فيوطأ الواني، ويُسترق العاني، ويؤكل الضعيف، ويكون هنا الطمع والكزازة والأثرة، وهناك الحسد والحزازة والثورة، ثم لا يفصل بين الواجد والفاقد غير الحرب. فالحرب لا تنفك مشتعلة بين الفرد والفرد، وبين الأسرة والأسرة، وبين الأمة والأمة، بالقول أو بالفعل، وفي السر أو بالجهر، حتى يتدارك الله عباده فيهيئ نفوسهم لفض هذه الخصومة، بغير هذه الحكومة
والخصومة بين الناس أولاً وأخيراً هي المادة؛ والنكبة الأزلية على النظام والخُلق هي الفقر؛ وكل ثورة في تاريخ الأمم، أو جريمة في حياة الأفراد، إنما تمت بسبب قريب أو بعيد إلى الجوع. حتى الشهوة: شهوة الغرام أو الانتقام لا تقع في تاريخ الجناية إلا في المحل الثاني بعد الجوع، لأنها لا تكون إلا عرضاً من أعراض الشِّبع. من أجل ذلك جاء دين الله يخفف عن الفقير بالإحسان والعدل، ويدفع عن الضعيف بالمودة والرحمة؛ ولكن عُرام النفوس كان أقوى من أن يرده الثواب المغيِّب والعقاب المؤجل، فنبت على أمر الله، وعللت نفسها بالنجاة من باب التوبة المفتوح، ومن طريق المغفرة الواسع. ثم حاولت فلسفة الناس أن تجد سلام المجتمع في أنظمة متناقضة يدفع بعضها في صدر بعض؛ فوقع العالم من جراء النزاع بين الفردية والاشتراكية، والصراع بين الدكتاتورية والديمقراطية، في حرب عنيفة رعناء لا تأصرها آصرة، ولا تدركها شفقة، حتى أكلت من أمة الأسبان وحدها مليوناً وربعاً من شبابها الآمل العامل؛ ثم أخذت تخمد في هذا الميدان الضيق المحدود لتستعر في ميدان لا حد لعرضه، ولا نهاية لطوله: هو العالم!
أينما يكن الغني يكن السلام، ما في ذلك ريب ولا جدل. ففي أمريكا وإنجلترا، وفي فرنسا وسويسرا، تجد الناس في ظلال الأمن مقبلين على الإنتاج المعمِّر والاستهلاك المرفِّه، لا نكاد نرى بينهم عيناً تحسد ولا قلباً يحقد ولا يداً تجترح
وفي ألمانيا وإيطاليا أصيب الناس بسُعار من الجوع زاده طمع الطاغيتين التهاباً واستكلاباً فانقلب إلى نوع من عبث نيرون أو انتقام شمشون أو مقامرة اليائس الذي يضرب الضربة الحمقاء ليربح الكل أو يخسر الكل!
فلو أن الله أتاح لأبناء برلين ورومه من سعة الدنيا ونفاق التجارة ووفرة المال ما أتاح لأبناء لندن وباريس؛ ولو أن الله لم يبتلي أبناء رومه وبرلين بمن طحنهم بالعمل، وعصرهم بالضرائب، وقهرهم بالحرمان، واتخذ من أجسادهم وأرواحهم وأقواتهم مدافع تقذف بالنار، وطوائر ترمي بالسم، لما رأيتهم يكفرون بالإنسانية ويتنكرون للمدنية، ويفعلون فعل القوي المحتاج: تضطره الحاجة إلى السرقة، وتدفعه القوة إلى القتل، فهم يخرجون اليهود من ديارهم ليأخذوا المال، ويحتلون الأمم بجيوشهم ليملكوا الأرض، ويلقون الدول القوية في بُحْرانٍ من القلق والفزع والذهول، ليضعوا أيديهم الجارفة على أرزاق الدول الضعيفة
رأى خليفة ولسون وهو في دنياه الجديدة السعيدة أن الجوع الذي ولدته الحرب الكبرى في قصر فرساي قد أشتد أسره، وصلب عضله، وفحش طوله، وضخم بدنه، حتى انشق إلى تِنْينين فظيعين لكل منهما مليون رأس، ومليون يد، وفي كل رأس ناب يقطر السم الزعاف، وفي كل يد مخلب ترسل الموت الوحِيَّ. فبعث إليهما برسالة من بقايا النبوة الأولى، فيها الدعوة إلى الحق بالقول اللين كدعوة موسى التي لم تُصِبْ أذناً في مصر، وبالمنطق المؤيد بالقوة كدعوة محمد التي لم تخطيء أذناً في العالم
يطلب الرئيس روزفلت من الجوع المتجسد المتنمر أن يحبس لعابه المتحلب، ويكفكف سعاره المضطرم، ويقبض لسانه اللاهث، ويتخذ هيئة الإنسان ليلتقي بخصومه في مؤتمر عام يجمع والغرب والشرق على المبادئ التي شرعها الله فكفروا بها، والخطط التي نهجها المصلحون فحادوا عنها؛ ثم يضعون لهذه الدنيا المتدابرة المتناحرة سياسة جديدة تجعل أرض الله مضطرباً لكل كادح، وخير الأرض مشاعاً لكل مستغل. ويومئذ يكون الفصل بين
عالم عاش فيه الحيوان بغرائزه الوحشية، يقوى فتنتشر مخالبه بين شعره المنفوش، ويضعف فتنطوي تحت حريره المفوف؛ وبين عالم يعيش فيه الإنسان بطباعه المدنية، يعدل بين جنسه وغير جنسه، ويحب لغيره ما يحب لنفسه، ويطمس في ذهنه حدود البيت والأسرة، ومعالم الوطن والأمة، ليصبح الناس كلهم أسرته، والدنيا بأسرها وطنه.
ويومئذ تستطيع الإنسانية أن تتبجح بميزة العقل والعلم وتقول لقافلتها الضاربة في مجاهل الأبد وهي لا تملك مشاعرها من القلق والفرق: لقد زال الطمع فزالت العداوة، ومات الجوع فماتت الحرب.
احمد حسن الزيات
رقم!.
. .
للأستاذ عباس محمود العقاد
مليون ومائتا ألف!
هذا هو الرقم في الحساب، وهو عدد الذين قتلوا في الحرب الأسبانية الأهلية من رجال ونساء وأطفال، ومن مقاتلين وموادعين. بل كان عدد القتلى من الجنود أقل من عدد القتلى الذين لم يحاربوا ولم يحملوا السلاح؛ لأن هؤلاء قد بلغوا ثلاثة أرباع المليون!
رقم!. . . وماذا في الرقم من دلالة؟ كل ما هنالك أن ألوفاً كثيرة أصبحوا اليوم موتى وكانوا بالأمس أحياء
إلا يعرف الإنسان هذا من قديم الزمان؟ ألا يعرف أن ألوف الألوف وملايين الملايين كانوا في عداد الأحياء فأصبحوا في عداد الأموات؟
فماذا في هذا الرقم الجديد؟ وأي شيء فيه يستوقف نظر القارئ أو يعوقه لحظة عن إتمام بقية السطور؟
لكن كاتباً من الكتاب يعمد إلى واحد من هذه الرمم فيخلق حوله مأساة، أو يبسط المأساة التي خلقتها الحوادث عياناً كأفجع ما يتخيل الخيال
يرينا إياه إنساناً له آمال، وأباً له أطفال، وقريناً له قرينة، ومحباً له محبة، وعدواً له ضغينة
يرينا أطفاله عراة جياعاً مشردين في العراء وقد كان موضعهم من الحياة فوق مهاد وبين أحضان
ويرينا الفتاة اللعوب التي كانت نظرة من عينيها أو لمحة من بين أهدابها أملاً تتعلق به حياة الخاطبين، فإذا هي جيفة يعرض عنها الناظر، أو بغياً يبتذلها الطريق
ويرينا على الجملة قلب إنسان واحد يتمزق بين هذه القلوب، فإذا بصدر القارئ يخفق، وبعينه تدمع، وبرأسه تقيم فيه الخواطر، وبالدنيا تضيق في وجهه، وبالرقم المهمل شيئاً مرعباً تقشعر له الأبدان وتجفل منه الأبدان
ما أبلد خيال الإنسان!
نعمة من النعم في بعض الأحايين أن يمني الإنسان ببلادة الخيال. وإلا فأين هي النفس التي تتخيل ما وراء ذلك الرقم أو ما وراء ذلك المليون والآلاف المائتين من المآسي والفواجع
والآلام والأحزان والأهوال والأثقال ثم تقوى على مس تلك الصدمة إلا كما تقوى على مس التيار الصاعق من الكهرباء؟
لكنها نقمة من النقم أن تبلغ بلاده الخيال ذلك المبلغ الذي لا يرى من وراء الملايين المقتولة إلا رقماً من الحساب
نقمة تجر إلى شتى النقم، لأن الناس لو تخيلوا بعض ما ينبغي أن يتخيلوه من أهوال الحروب وأثقال الفواجع لبطلت منذ عهد طويل
فاللهم لا ذلك الحس الذي يصعق كما تصعق الكهرباء، ولا هذه البلادة الصماء التي تلحق الآدمي بالبهيمة العجماء
اللهم ذلك الحس الذي يبكي لمصرع مليون يتخيلهم مصروعين كما يبكي لمصرع فرد واحد يراه بعينيه ويعلم ما في مصابه من شقاء لذويه ومحبيه
فهل تعلم ما للخيال من شأن في تمثيل المصائب والثورة عليها والتمرد على مقترفيها فلا نضن عليه بالتغذية ولا نستكثر عليه ما نسميه لهو البطالة وإزجاء الفراغ؟
وكأنما (المريخ) مخلوق له طالع من طوالع السعود، وجد لا يصيبه تقلب الجدود
ففي كل عصر له رزق مسوق إليه على حسب ما يكون في ذلك العصر من علم أو صناعة أو تدبير
قيل أن الناس قد لطفت خلائقهم في العصر الحديث حتى لا يطيق أحدهم أن يبقر البطون ويبتر الأوصال ويشهد اختلاج الأرواح المزهقة في الأجساد الممزقة كما كانوا من قبل يصنعون قبل ألوف السنين
قيل هذا ولعله صحيح أو قريب من الصحيح، ثم هممنا أن نرجو بعض الرجاء، وهم المريخ أن يقنط بعض القنوط، فأقبل العلم الحديث برزق جديد لذلك المخلوق المجدود: إله الحرب الذي أنذره أبو العلاء بسوء المصير حين قال:
ولنار المريخ من حدثان الد
…
هر مطف وأن علت في اتقاد
فما أدركه النذير؟
لأن الحرب الحديثة تحول بين القاتل وصرعاه فلا يرى ما هو صانع من فتك وتمزيق وتهشيم
فإذا ركب متن الهواء وألقي بالنار في الفضاء، فلا عليه بعد ذلك أن يلبث في مكانه هنيهة واحدة ليشهد الخراب والشقاء، ويسمع الصياح والبكاء، ويندم على ما أساء، إن ظن أنه أساء
أما الذي يرى الفجيعة بعينيه ويسمع الصيحة بأذنيه فليست الرؤية بمانعة له أن يصنع بأعدائه ما صنع به أعداؤه، بل لعلها حافزة له إلى الشر ومثيرة له إلى القصاص، ومضيفة إلى رزق المريخ الذي خيفت عليه المسغبة في العصر الحديث: عصر الشعور اللطيف والإنسانية المهذبة، والرفق بالحيوان قبل الإنسان!
ولكل سم ترياق!
العلوم الحديثة قد حالت بين القاتل والفريسة، ولكنها لم تحل بينه وبين أشباحها وأطيافها
فإذا احتجبت عنه جرائر صنعه فهنالك الصور المتحركة تعيدها إلى عينه وإلى كل عين ناظرة كأنها ضمير النادم أو لسان التبكيت والتعزير.
فهل في العلوم ترياق لسم العلوم؟ عسى أن ينفع ذلك الترياق إن صح أنه ترياق
فليس أبشع من صورة الحرب المكسوبة إلا صورة الحرب المفقودة، كما قال ولنتون ونحن نعلم من هو ولنتون. . هو كاسب المعركة التي هيهات أن يفرح بالنصر أحد إن لم يكن فيها سرور لقائدها المنصور، لأنه كان نصراً على نابليون سيد المنصورين والمهزومين
فإذا كان قصارى النصر أن يهون البشاعة فأخلق بالناظرين الذين لا ينتصرون فيها ولا ينهزمون أن يلمسوا كل ما فيها من بشاعة مرذولة بغير تهوين، وأن يقاوموا بشعور المقت والنفور ما أبطله الحجاب بين القاتل وصرعاه في حروب هذا الزمان
ولكل ترياق آفة!
نعم لكل ترياق آفة تفسد ما فيه من شفاء، إن لم تعالجه يد تحسن العلاج
فمن أين لنا أن الصور المعروضة على الناظرين تعودهم أن ينظروها ولا تعودهم أن يمقتوها ويغضبوا على آثميها؟
من أين لنا أننا نشحذ الضراوة ولا نشحذ الرحمة بذلك التمثيل والتقريب؟
الأمر كله موقوف على طريقة التناول وطريقة التلقي وطريقة التعويد، وذلك الذي يقف بالترياق الناجح بين الآفة والشفاء
تحدثت الأديبة الرحالة (روزيتا فوريس) إلى طاغية الروس ستالين فوصفت له ما شهدت من صرعى المجاعة والتشريد وحاولت أن تلمس ضميره من قريب أو من بعيد
فالتفت إليها سائلاً: كم قتيلاً مات في الحرب العظمى؟
وأسرع الترجمان فقال: سبعة ملايين!
فعاد ستالين يقول: سبعة ملايين ذهبوا لغير غاية معلومة. أما نحن فنبني حضارة جديدة ونقيم الإنسانية بأسرها على أساس جديد، فماذا يضير أن يموت في سبيل ذلك من يموت بالمجاعة والتشريد؟
لو كان ستالين يتخيل كل واحد من أولئك الهالكين بالعرى والجوع فيأخذهم مأخذ الفنان الراوية لما أجاب ذلك الجواب. ولكنه يأخذهم رقماً في الحساب، وليس للرقم نعيم ولا عذاب. ولن تبطل الحرب مادامت مصاير الأمم بأيدي الحاسبين من أمثال ستالين
عباس محمود العقاد
لعبة التخادع في الحياة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كثيراً ما يخطئ المخادع المحتال إذا حسب أن الناس قد انخدعوا بمكره، وكلما كان نصيب المخادع من الذكاء أقل كان اعتقاده في قدرته على خدع الناس أعظم فلا يتخذ في وسائل خداعه من الأساليب ما يحتاط به لفطنة الناس إلى خداعه
أما المخادع الذكي فإنه يفطن إلى أن الناس كثيراً ما يتظاهرون بالانخداع ويدعونه أما لكي يعرفوا غاية المخادع ومأربه، وأما لأن لهم لذة في أن يخدعوا المخادع وأن يضحكوا منه في سرهم، وأما لأن لهم مأرباً لا ينالونه منه إلا بإظهار الانخداع له. ومن أجل ذلك ترى المخادع الذكي يحاول أن يستفيد من ادعائهم الانخداع قدر ما كان يستفيد لو أنهم انخدعوا حقيقة. والقدرة على الاستفادة من ادعاء الناس الانخداع هي سر النجاح في الحياة، وليست بمستطاعة لكل إنسان. والحياة في كل عمل أو مظهر أو رأي أو مطلب ومكسب وفي كل حاجة من حاجاتها يوجد يجانب ما بها من الصدق شيء من الخداع والانخداع وادعاء الانخداع، وهذه هي أقانيم الحياة الثلاثة أو ثالوثها المقدس
وقد تدرك الحيرة الشاب الذي يزاول الخداع في الحياة في أول عهده بالفطنة لما يتطلبه النجاح من الخداع، فإنه قد يبدأ في خداع إنسان فإذا بذلك الإنسان يحاول أن يخدعه بأن يدعي أنه انخدع به حقيقة. وهذا يكون كالنشال الذي يقابل إنساناً يتوسم فيه السذاجة وهو لا يدري أنه نشال مثله فيسلم عليه بيد ويمد اليد الأخرى بخفة إلى ثياب ذلك الإنسان يبحث بها عن حافظة نقوده، فإذا به يشعر أن يد ذلك الإنسان الأخرى تبحث عن حافظة نقوده هو، فتدركه الحيرة ويكاد لا يعرف أيهما النشال
وهذا يذكرني بما جاء في كتاب الكامل للمبرد عن أخذ البيعة بالخلافة ليزيد بن معاوية، فقد أطنب الناس في مدحه وأسرفوا إسرافاً جعل يزيد، وقد كان ذكياً، يعرف أنهم غير منخدعين بصفات المدح التي وصفوه بها وهي ليست من صفاته، وأدرك أن لهم مأرباً في ادعاء الانخداع بخلقه وصفات نفسه، فالتفت إلى أبيه معاوية وقال: يا أبي هل نخدع الناس أم هم الذين يخدعوننا؟ فقال له معاوية: يا بني، إنك إذا أردت أن تخدع إنساناً فَتَخادَع لك حتى تنال منه ما تريد فقد خدعته. أي أن ادعاء الناس الانخداع وأن كان باطلاً فهو
وانخداعهم سيان مادام المرء ينال منهم ما يريد. وهذه حكمة من معاوية تدل على أنه كان بصيراً بالنفس الإنسانية ومسالكها في الحياة.
وهي حقيقة تُحسُّ في كل مجلس من مجالس الناس، وفي كل بيئة. فهي ليست بالأمر الصعب إدراكه. بل لولا ادعاء كل معاشر أنه انخدع بمعاشره في أمور الحياة ما طابت الحياة. ومن أجل ذلك لا يمقت الناس أحداً قدر مقتهم الرجل الذي يريد أن يرفع غطاء الرياء عن الحياة، ويختلقون له أسباباً يسوِّغون بها مقتهم. وكأن لسان حالهم يقول له: دعنا نخادعك وخادعنا أنت أيضاً كما نخادعك، وادَّع أنك انخدعت بنا، ودعنا ندَّعي أننا انخدعنا بك. فإن من الإنصاف، أو من الذوق، أو من الرحمة أن يدَّعي كل عشير أنه انخدع بعشيره ما دامت النفوس لا تستطيع الحياة إلا على هذه الأخلاق، ولا تستطيع أن تغيرها. وكأنما يقول لسان حالهم أيضاً: إن تبادل ادِّعاء الانخداع مَثلهُ مَثلُ من يعطى هدية، ويأخذ هدية في قدر قيمتها. ومطالب الحياة لا تنال إلا على هذا النمط. أما الذي يريد من الناس أن ينخدعوا له ويغضب إذا اتضح له أنهم لم ينخدعوا، بل يدعون الانخداع، ويعد ادعاءهم الانخداع له عملة زائفة لا يقبلها، ويطلب منهم العملة غير الزائفة، أي انخداعهم الحقيقي؛ ثم هو لا يعطيهم لا انخداعاً ولا ادعاء للانخداع، فمَثلهُ مَثلُ من تقدم له هدية فيغضب إذا لم يُعط أعظم منها، وهو لا يُعطى مثلها.
وينبغي للإنسان إذا ادَّعى الانخداع لعشير أو رئيس أو مرءوس أو عميل أن يلازم الحذر من أن ينقلب ادعاؤه الانخداع انخداعاً حقيقياً؛ فيكون كمن يرى لصّاً في منزله فيدَّعي النوم حتى يجد من اللص غفلة ليتمكن منه، فإذا بادعائه النوم قد صار نوماً، فيغط في النوم حتى يأخذ اللص كل ما يريد من البيت ويتركه، وصاحبه قد ادعى النوم حتى نام.
وهذا أيضاً شبيه بمن يريد أن يحتال على إنسان فيقدم له قطعة من الذهب ويدعي أنه وجد كنزاً كي يخدع ذلك الإنسان، ويسلبه ماله، فيدعي ذلك الإنسان السذاجة وأنه انخدع، ويأخذ القطعة كي يسأل عن قيمتها ثم لا يعود.
وهو أيضاً شبيه بصاحب الورق المقامر على الورق المقلوب من ورق اللعب، يدعي الخسارة ويعطي اللاعب جنيهاً كي يستدرجه ويسلبه ماله فيدعي اللاعب أنه ساذج، ويظهر رغبته في استئناف اللعب، والقمار، ويستأذن في قضاء حاجة ضرورية من حاجات الجسم
ثم يذهب بالجنيه ولا يعود.
وهذه الأعمال لها نظائر وأشباه بالقياس في أعمال الناس الجليلة الكبيرة المشروعة المحترمة. فالحذر عند ادعاء الانخداع ضرورة. أما أن يفتخر المرء بأنه لا يستطيع أحد أن يخدعه فإذا كان يراد به التملق لمن يتظاهر مع ذلك بالانخداع لهم فهو دهاء، ووسيلة كسب بالمكر. أما إذا أريد به مضايقة الناس وتحريك عوامل خوفهم وبغضهم فهو سذاجة أو بلاهة، ولا شيء يدعوا إلى الفشل في الحياة كاعتقاد الناس في إنسان أنه لا ينخدع، ولا يدعي الانخداع؛ وهذا الاعتقاد يؤدي إلى بغض الناس من يعتقدونه فيه حتى وأن كان اعتقادهم باطلاً لا أساس له، وهذا التظاهر بالانخداع هو ما جعله أبو تمام من أسباب السيادة وسماه بالتغابي في قوله:
ليس الغبيُّ بِسَيَّدٍ في قومه
…
لكنَّ سيد قومه المتغابي
وتبعه البحتري فقال:
وقد يتغابى المرء في عَظْمِ مَالِهِ
…
ومِنْ تحت بُرْدَيْهِ المُغيَرُة أو عمرو
عبد الرحمن شكري
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا أرض الرستمية!
عليك السلام من عيني اللتين تدوران فيك دورات زائغة زئبقية مروعة وتلقطان الصور من حياتك ومواتك وآفاقك وذراتك. . .
ومن قلبي الذي قدست أسراره وقدس أسرارك وخلدته وخلدك. . .
ومن فكري الذي صقلتِه وأرهفتِه وجعلتِه يتصل بأصول الحياة ويرتبط بوثيق الأسباب. . .
لقد توسعت نفسي من رحبك وتعددت بتعدد مرائيك، ورقرق خواطري نهرك الوديع اللعوب، في ابتسام الفجر وبكاء الغروب، وأحسست سلامة النبات وهدوءه وصبره وصمته ونموه وإشراقه يدب في جسدي. . .
لقد اختلطت فيك الرؤى بالأحلام، والصحو بالذهول والمنام، فتوسع عالمي ورأيت في دنياي وفي نفسي مخابئ وعجائب ومدخرات وكنونات. . .
لقد خلدت في خيالي صور الأعواد الجافة والخضراء، والربى والوهاد والزهر والمطر حتى لأوشك أن أعد كل أولئك واحداً واحداً من ترديد النظر وانطباع الصور. . .
وهل أنسى كئوس النور والظلام التي أدرتها على عيني مخضبات بأصباغ الشفقين، مشعشعات بالندى والطل، مطيبات بنفح الزهر وأنفاس السحر؟
لقد شربت عيناي فيك من النور والظلام فسكرت سكراً أبدياً أفرغ في كل خلية من خلاياي نشوة وفتوناً
لقد دخلتك كارهاً فراق بغداد. . . فكنت كالذين يقادون إلى الجنة بالسلاسل!
ثم انطلقت في رحابك انطلاق رياحك وأطيارك، أحمل قلبي إلى كل مكان كما تحمل الطير قلوبها على الأغصان، أقف على كل ما فيه حياة ونبض لآخذ لقلبي منه وطاقة يستعيض بهما عما يبذله ويسرف في بذله
فإني حين رأيت عيني عاجزة أن ترى (سر الوجود) جعلت أرمي بنفسي في مواضع يده. وكأنه عندما بدت مني لهفتي الدائمة إليه أوسع لي من عطفه فأخذني إلى قطعة فاتنة من الطبيعة المكشوفة التي لا حجاب بينها وبين حواسي الداخلية والخارجية، لأرى يده دائماً
من وراء ستر شفاف فقادني إلى الرستمية
وقد عشت مختنق الحواس في المدن، لا أرى إلا حجارة ميتة موضوعة بهندسة الإنسان، ولا أرى من الطبيعة إلا قطعة من السماء في سمت شارع أو من نافذة دار. وهيهات كان تيقظي إليها. . .
وكنت لا أتذكر الطبيعة إلا برؤية شجرات في الشوارع تكاد تنكر وجودها في هذه الأماكن الصناعية، وتكاد عيني تحسبها صنعة إنسانية كالأثاث في وجهات الحوانيت، وكنت أزور الطبيعة المكشوفة التي في خارج أرياض المدن كما يزور السائح الأمريكي متحفاً للآثار في الشرق. . .
وحقاً استحالت الطبيعة البكر المكشوفة كمتاحف للآثار التي كان يستعملها أجدادنا وصارت لانقطاعنا عنها غريبة علينا. وصرنا لا نرى مشاهدها إلا من عدسة التصوير أو من ريشة فنان أو ألفاظ قصيدة. . .
ثم قصر الناس صلاتهم على الأنصاب والهياكل والأماكن المظلمة الضيقة التي لا يرون فيها إلا أجسادهم، وتركوا المحاريب التي بناها رب الحياة بيده هو لعبادته بالفكر والقلب. . .
تركوا المعبد المفروش بالأعشاب والرمال، المسقوف بالمصابيح الزهراء، القائم على جدران من سامقات الجبال وأعمدة من بواسق النخيل وفارعات السرو، المغسول بشعاع الشمس والقمر؛ وكأنهم بنوا معابدهم لتحمي أجسادهم من فيضه وفيض طبيعته، وتركوا قلوبهم تختنق فيها بالبخور والعطور والأصوات الفردية التقليدية
أما أنا. . . فورب الحياة لأعبدنه في الطبيعة تحت الهواطل والصواعق، في حرارة الهواجر وبرودة الأسحار، في وضوح النهار وانبهام الليل، في جمرات الظهيرة وفحمات العَتمَة، ولو طارت بي الريح. . . ولو وقع عليّ سقف الدنيا!
ولأُنادينَّ على اسمه: الصلاة جامعة أيتها الأحياء. . . إلى الإحساس بالحياة ورب الحياة. . . قومي مصطفة في أماكنك المحدودة الموزونة. . .
فيسجد كل كائن في مكانه ويسجد قلبي معه. . .
وسأعود إلى أحضان الطبيعة أغني في أذنها كطفل يغني في أذن أمه ويدفعه قلبه العاشق
الراهب إلى التمسح فيها والاحتماء بها. . .
وسأحمل قلبي إلى كل مكان فيها كما تحمل الطير قلوبها إلى كل شجرة. . .
وسأسجل خواطري عنها في كل ساعة تتعرض لي فيها بفتنة من فتونها، وأرصدها وهي يقظة أو نائمة، خَفِرة محتشمة أو عاهرة متبرجة، ضاحكة أو باكية، حبلى مكدودة تعاني آلام الحمل والطلق والوضع أو فارغة خفيفة. . .
لقد احتكرتني لنفسها ولم تدع في قلبي مكاناً لحب غيرها إلا يكون مَرَدُّه إليها وجماله من جمالها
فيا ابن الإنسان! هلم معي إليها. لقد كنت تتخذ الحجارة وكثيراً من الأشياء التافهة آلهة من شدة شعورك بها فتسجد لها. أفلا تصلي معها الآن لربها الذي اهتديت إليه؟
هي لا تزال شاعرة بربها كما كانت وكما تكون. وذهب شعرك أنت بها وبربها. وصرت تسجد لنفسك. فمن يعبدك معك؟ لا شيء. . . أن الحجارة تأبى أن تعبدك كما عبدتها أنت في ضلالك القديم!
1 -
قبيل الربيع
الطبيعة تلد من كل جسمها. . . جاء ابتداء دورة زمنية. . . الأجنة تتحرك للانفصال من العالم الغائب. . . الأنواع من نباتها وحيوانها تزدحم لتسير في المواكب. . . يستعرضها صاحب الوقت القائم على الزمان.
أنا لا أشترك في الموكب لأني عقيم لم أقدم قرباناً ما للحياة بإلقاء بعض الأحطاب إلى شعلتها؛ ولذلك جعلتني من الواقفين على هامش طريقها يهتفون لها بالقصائد اللفظية.
لعلها غاضبة عليّ، لأني عاق لها بالعمل، وأن كنت باراً بها في الشعر. أما أبناؤها البررَة فقصائدهم: شجرة أو ثمرة أو ورقة أو زهرة أو فرخ بيضة، أو كتلة لحم تصرخ في أذنها وتتكلم! يقدمون ذلك لها في كل عرس من أعراسها كبرهان ولاء وطاعة وشعر حقيقي. . .
قد يخاف الفيلسوف من موت الثمرات أو مرضها أو فسادها. . . ولكن الطبيعة تود الثمرات ولو كانت معطوبة. تود حياة الأمل والألم لا حياة العقل الجامد. تود أن تسمع عويل الثكل وصوت النعي، كما تود أن تسمع صوت البشير وضجيج الميلاد.
تريد دائماً أَمَّا أن تصرخ في أذنها إما من الطلق والوضع، وإما من الفقد والثكل. تريد
جنيناً محمولاً في ظلمات البطن، ورضيعاً ملفوفاً في لفائف القماط، أو محمولاً في بطن النعش ملفوفاً بلفائف الكفن. . .
قانونها هذا: أرحام تدفع، وأرض تبلع!! لأنها لا تدور على فراغ، ولا تسمح ببقاء دائم
2 -
الربيع
أنظر بعينيك في كل مكان في السماء والأرض، وأحذر أن يشردا منك ولا يرتدا إليك. . .
أدرهما على كل طفل من أطفال الطبيعة. . . وأحذر الخاتلات الناعسات من عيون الأزهار.
العشب والزهر كأطفال خرجوا في صباح عيد. . . والصبح ممشوق القوام واضح الجبين، والليل فاتن الملامح. . .
أخلع نعليك وسر حافياً على جسم أمك، وتمسح فيها حتى يجددك ملمس الحياة الجديدة.
لاعب اخوتك الصغار الذين تفتحت عنهم الأكمام، وقذفتهم الأرحام، ونسجتهم ظلمات الأرض، ولونتهم أضواء السماء، وخذ لشفتيك قبلات من المواليد الجديدة.
أفتح حواسك جميعاً ليدخل شباب الدنيا إلى نفسك، واختزن في قلبك قوت سنة من الحياة والجمال.
أملأ عينيك بالأضواء والأصباغ، وأذنيك بالأغاريد والموسيقى السائلة الذائبة في الأجواء والأنهار.
ضاعف إحساسك بالحياة وتيقظ، واخلق لنفسك أعصاباً جديدة ثم امنع فكرك عن الدوران في الأرقام والحروف والعفونات القديمة. . . وألق كل قديم من قلبك وتجدد. . . وافتح فؤادك الجائع الذي لا يمتلئ، فإن كل هذا الجمال والحياة له. . .
أنظر إلى الربى والوهاد والتلاع والسهول والأغوار، تجد الزينة والأعلام في كل مكان. . . ما تركت السحب مكاناً بدون أن تفرشه بالسندس والأقحوان، وما تركت النسمات مكاناً بدون أن تمر عليه منبهة ما فيه إلى وجوب الطاعة لحركة الحياة بالتماثيل والحفيف والتصفيق. . . حتى شجرات العوسج والشوك أورقت وأزهرت!
ضع وجهك وجسمك بين الأعشاب والأزهار. . . واستقبل الأنداء والأشعة، وأهدب بأجفانك كالنرجس. . . ودر بعينيك مع الشمس (كعَّبادِها) ودع النحل والفَراش تقبل فاك
وعينيك. . . أرسل نفَسك ندِيّاً خافتاً بسيطاً بدون تعقيد ليحمله النسيم مع العطور. . . ثم لا تفكر! حتى لا تحترق أوراق الورد، وتختنق أنفاس النسيم.
وانظر إلى المطفلات من البهائم، وإلى أطفالها بحنان، وهي ترعى سعيدة تخضم نبتة الربيع ثم تخور وتجتر حالمة. . .
فإذا جاء الليل فاخرج إلى الحدائق المعلقة في السماء، وانظر فيها حالماً ساهماً تحت ضوء القمر الباهت، ودر بعينيك في نفسك وفي أغوار الأزل والأبد. فلعلك أن ترى هناك الربيع الدائم. . .
نعم. فليس قلبك قانعاً بهذه اللحظات الفانية من ربيع الأرض. . . أن قلبك ليس ورقة من ورقات الأشجار تخرج ناظرة ساهمة بلهاء، ثم تفارق الكون مكرهة إلى غير رجعة. بل هو عقدة ثمرة خالدة في الربيع الخالد الذي لا يحرقه صيف ولا يحوله خريف إلى هشيم تذروه الرياح وتلوى به الصبا والدبور إلى الدثور.
ولئن عز عليك أن تفنى بين يديك وأمام عينيك أرواح الأزهار الأرضية، وتتساقط أجسادها جثثاً بالية ناصلة الألوان مسلوبة العطر. . . فأنظر إلى حدائق السماء ذات الزهور الخالدة التي تصل إليك ألوانها وعطورها من بعد. وتَعزَّ بهذا البقاءَ عن ذاك الفناء. وكن على يقين بأن قلبك مخلوق دائم لهذا الربيع الدائم الذي تراه في الحدائق المعلقة. . .
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف
أعلام الأدب
يوريبيدز نشأته وشبابه
للأستاذ دريني خشبة
في غار جميل غير موحش، مشرف على بحر الأرخبيل، فوق تلعة من تلاع جزيرة سلاميس، كان يأوي ألمع رجالات الأدب، وأعظم أعلام المسرح، يوريبيدز بن مِنْسَارْخيدز. . . يقرأ، ويكتب. . . ويتأمل.
وُلد في فِلْيا، في واد يعبق بالورد، وتظله أفنان الدوح وتغني فيه البلابل. . . ثم اختلفوا في العام الذي ولد فيه فقالوا: إنه عام480 ق. م. . . أي عام سلاميس، وأنه توفي سنة 604 أي في العام نفسه الذي توفي فيه سوفوكليس.
ويعتبر تقويم المؤرخ اليوناني (فيلوخورس) المسمى (التقويم الأتيكي)، والذي وضعه في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، عمدة المؤرخين الذين ترجموا ليوريبيدز، ومن أشهرهم المؤرخ اللاتيني سويداس
وتقويم فيلوخورس في اليونانية، يشبه تقويم القلقشندي المسمى (صبح الأعشى) في العربية، وذلك من حيث عنايته بإيراد المعاهدات السياسية والكتب التي كان يتبادلها الملوك اليونانيون. . . ثم هو يشبه تقويم الثويري المسمى (نهاية الأرب) وتقويم ابن فضل الله العمري المسمى (مسالك الأبصار)، وذاك من حيث عنايته بوصف أحوال اليونانيين من مواسم، وأعياد، وعادات ومعتقدات، ومن حيث عنايته بتأريخ رجالاتهم من ساسة وقادة وفلاسفة وأدباء.
وقد ذكر فيلوخورس أن يوريبيدز قد ولد عام سلاميس، أي سنة 408. . . على أن الرخامة التذكارية التي اكتشفت في جزيرة باروس في القرن السابع عشر الميلادي، والتي أقيمت ثمة تخليداً لذكرى يوريبيدز سنة 264ق. م تذكر أنه إنما ولد سنة 484. . . وقد فضل الأستاذ جلبرت موراي - وعليه جل اعتمادنا في هذا البحث - الأخذ بهذا التاريخ، لأنه اعتبر الرخامة دليلاً مادياً لا سبيل لدحضه ولا مُسوّغ لإنكاره.
ولم يذكر المؤرخ اليوناني (ساتيروس)(أواخر القرن الثالث ق. م) شيئاً في كتابه (حياة يوريبيدز) عن هذا التاريخ.
أما الكتاب فهو محادثات جميلة بينه وبين سيدة لم يذكر لنا من هي، وهو مع ذاك مؤلف جليل فيه عرض وفيه تضمينات، وأقاصيص ونقد، وفيه أخبار ساعدت المتأخرين على معرفة الكثير مما تبعثر أوضاع من درامات يوريبيدز.
أما أبوه فقد كان رجلاً ذا مال من رجال الطبقة الوسطى من أهل فليا، وكان رئيساً لسَدَنة هيكل أبوللو
وكانت أمه (كليتو) من أسرة نبيلة عريقة ذات محتد، ولا عبرة لما ذكره عنها أرستوفان من أنها كانت تبيع الفجل والخس والخضرة في شوارع أثينا، فقد كان أرستوفان هجاء مقذعاً، وسنعرض لما كان بينه وبين يوريبيدز من عداء وبغضاء. . . ثم هي كانت أماً وفية مخلصة لأبنها، حدبة عليه، وكان لها أكبر الأثر في تنشئته. وسترى من روائع هذه الأمومة آثاراً طيبة في كثير من دراماته
وكان يوريبيدز سيئ الحظ في حياته الزوجية. ولم يذكر التاريخ لماذا كان ذلك. . . فقد كانت زوجته الأولى (ميليتية) من عنصر كريم وذات خلق طيب، بدليل أن أرستوفان نفسه لم يجد ما يقدح به فيها، وهو العدو اللدود الساخر الذي كان يتسقط ليوريبيدز كل منقصة
وقد تزوج يوريبيدز مرة ثانية فلم يكن أكثر توفيقاً. . . وربما كان هو نفسه أصل الداء. . . فقد كان أديباً عظيماً وشاعراً عبقرياً؛ وكان فيه انقباض عن الناس وبغض شديد للضوضاء والصخب، وكان يقضي أكثر وقته في غاره المقدس المشرف على البحر يقرأ أو يكتب أو يفكر ويتأمل. . . وهذه حال من الزوج لا تطيقها الزوجة ولا تصبر عليها. . . والأدب الذي أكثره فكر وفلسفة يدل على ما في صاحبه من صرامة وشموس. . . لهذا كان الشغب الطويل بينه وبين كل من زوجتيه، وهو شغب جميل أفاد الأدب وأفاد المسرح، لأنه بدا في أكثر ما ألف يوريبيدز. . . ثم هو شغب خلق من يوريبيدز عدوّاً للمرأة شديد النقمة عليها، كما خلق من الأثينيات أعداء أشد عليه نقمة وأكثر لددا
أما أبناؤه الثلاثة فقد كان أحدهم تاجراً، وكان الثاني ممثلاً؛ أما ثالثهم وكان يسمى باسم أبيه، فقد كان شاعراً يحترف التأليف للمسرح، وقد أخرج ثلاث درامات من تأليف أبيه بعد موته نالت إحداهما جائزة
ولعل أكثر ما نعرف من نشأة يوريبيدز أنه كان يساعد أباه في سدانة الهيكل صغيراً، وأنه
كان رياضّياً ماهراً شابّاً وأنه عمل في الجيش فترة لا هي القصيرة ولا هي بالطويلة. . . وقد تكون حقبة قصيرة بعد سنتي الإجبار يقال أنه عمل أثناءها مجدفاً في إحدى جندولات الأسطول، ثم التحق بإحدى الوظائف القنصلية فترة قصيرة بعد ذلك
أما أصدقاؤه فكان أحبهم إليه أبو زوجته، ولذا كان ألصق به من كل شخص آخر إلا من خادمه أو ناموسه سفيسون الذي لم يكن يبرح منزله إلا لماماً
ومع شدة غرام سقراط العظيم بيوريبيدز فلم يؤثر أن شيئاً من وشائج الصداقة انعقد بينهما، مع أن الفيلسوف الفذ لم يكن يذهب إلى المسرح قط إلا ليشهد درامات يوريبيدز، فيروى أنه كان يتجشم في سبيل ذلك ما ليس يحتمله إلا الأشداء الأقوياء، فكان يمشي الأميال والأميال لكي يصل إلى المسرح ويستمتع بما تفيض به قريحة فخر الشعراء الدراميين كما كان يسميه. هذا ولم يعقد أفلاطون في محاوراته الشائقة حديثاً مّا بين الرجلين، على شدة إعجاب كل منهما بالآخر واعتباره إياه أعظم ذهن يعيش في عصره
وعلى شدة كراهية يوريبيدز للاختلاط بالناس فقد كان له أصدقاء قليلون معجبون به من رجال الفن والفلسفة والأدب، وإليه يعود الفضل في نبوغ الموسيقار الخالد تيموتيرس الذي أوشك مرة أن ينتحر لإخفاقه في توقيع إحدى مقطوعاته لولا أن نشر عليه يوريبيدز ظله، وأخذ يشجعه ويبعث فيه روح الأمل، حتى نبغ نبوغه العظيم.
ومن أصدقائه زعيم السفسطائيين بروتاجوراس (أبديرا480 - 410 ق. م) الذي كان يتجول في الأقاليم اليونانية يحاضر الناس ويعلمهم دروسه في السياسة والاجتماع، ويحارب أوثانهم ويسفه معتقداتهم حتى إذا انتهى إلى (فليا) وعرف يوريبيدز، وخلبه بيانه وسحرته دراماته بما تفيض به من ثورة ونقد لزمه وقرأ في بيته كتابه (في الآلهة) الذي ينكر فيه ذوات أرباب الأولمب (لأني لا أستطيع أن أثبت وجودهم أو أن أنفيه للعوائق الجمة التي تحول دون المعرفة الصحيحة، والتي من أهمها غموض الموضوع وقصر عمر الإنسان!)
وقد ثار الناس ببروتاجوراس وأحرقوا كتابه جهرة في أوسع ميادين أثينا، ورمّوه بالإلحاد، وكادوا يفتكون به لولا أن فر في سفينة إلى صقلية غرقت به في الطريق. وعزا الناس غرقها إلى غضب الآلهة وحنقها عليه. . . ويبدو أنه كان متأثراً بسوفوكليس حين جعل محور فلسفته الإنسان مقياس كل شيء.
أما الفيلسوف الكبير أناجزاجوراس فقد كان أستاذ يوريبيدز وصديقه في وقت معاً. وأناجزاجوراس هو أول من حمل الفلسفة من شطئان إيونيا في غرب آسيا الصغرى إلى أتيكا أرقى أقاليم اليونان. وهو أول من ثار على الفلسفة المادية البحتة ولفت الناس إلى القوة العليا التي تدبر كل شيء وتسهر على كل شيء. . . ثم هو الذي أربك الماديين بتفريقه بين المادة المجسدة التي زعموا أنها كل شيء، وبين العقلية المجردة التي زعم هو أنها تسيطر على كل شيء. فوضع بذلك الحدود بين الجسم والعقل وبين الطبيعة والإنسان.
وقد كان أناجزاجوراس صديقاً لبركليس العظيم ومستشاراً له وكان في أثينا حزب يناوئ بركليس، فاستغلت السياسة الذميمة مذهب الرجل الفلسفي فرمته بالإلحاد واتهمته بالتجديف على الآلهة، وكادوا أن يبطشوا به بعد أن لفقوا له التهم وساقوه إلى المحاكمة أمام هيئة قضائية من رعاعهم. . . لكن بركليس لم يتخلى عنه، بل دبر له الهرب من أثينا، فارتحل إلى موطنه في آسيا الصغرى حيث وضع رسالته في فلسفته التي انتفع بها سقراط
بهذين الرجلين، بروتاجوراس وأتاجزاجوراس، تأثر يوريبيدز. . . ولم يكن تأثره بهما هيناً يسيراً، بل كان آثرهما فيه كبيرا بالغاً: فقد عرَّفه الأول ما في أسطورة الآلهة من سَفَه وتخريف، وعرفه الثاني أن ليست المادة في هذه الدنيا كل شيء. . . زيف له الأول أسطورة الآلهة فذهب إلى غاره الجميل الهادئ المشرف على البحر من ربوة في جزيرة سلاميس يفكر ويتأمل ويبتسم. . . يبتسم لأنه يتذكر حاله في شرخ شبابه إذ يكلفه أبوه سادن أبوللو بحمل الكأس الإلهية في الرقصة المقدسة، رئيساً لفريق حاملي الكؤوس من سادة شباب الأثينيين. . . ثم يبتسم أيضاً لأنه يتذكر حاله حينما كان يحمل الشعلة المقدسة في موكب أبوللو عند رأس زوستر، فيظل يتهادى كالظبي من ديلوس إلى أثينا، مشتركاً في زهو وخيلاء في حماقة البشر وخرافة الآلهة
وزيف له الثاني تلك المادة المجردة التي يعكف عليها الناس ويفني فيها الفلاسفة أحلامهم، ثم يُصوّر له القوة العليا المدبرة، والعقل المجرد الجبار، فيلتفت إلى ما ركب في صميم الإنسان من قوى خارقة تستطيع أن تصنع كل شيء وتستطيع أن تتغلب على كل شيء، فيذكر هذه الأيام العبوس القمطرير التي اضطر فيها شيوخ الأثينيين وعجائزهم وأطفالهم - وهو منهم - إلى الهجرة من أثينا إلى جزيرة سلاميس وغير سلاميس، لأن إجزرسيس
عاهل فارس وطاغية البربر قد أقبل بخيله ورجله، وملأ البر والبحر بعساكره، وراح يهلك الحرث والنسل، متقدماً نحو أثينا. . . وهاهو ذا يحرق الدور والمعابد ويخرب كل شيء. . . وهاهي ذي ألسن النيران تلتهم الأكربوليس الشاهق، ويوريبيدز الطفل يشهد المنظر المروع الموحش فيمن كان يشهده من الأطفال والشيوخ والعجائز. . . ويبكي كما كان يبكي هؤلاء لما يصنع الطاغية بوطنهم الجميل الضعيف، ومعابدهم الخالية الخاوية. . . وآلهتهم. . . نعم آلهتهم. . . تلك الأوثان التي لم تغن عنهم ولا عن أنفسها شيئاً. . . ثم يتصايح الناس من كل فج، ويتسامعون فرحين مستبشرين، فيعلمون أن أسطولهم الضعيف البائس قد مزق أساطيل إجزرسيس، وأن أجنادهم الجائعة المنهوكة قد فتكت بأجناد جبار الفرس، وأن أثينا وحدها. . . أثينا الديمقراطية الحرة العالمة الأديبة المتحدة قد بطشت بالجبابرة العتاة الطغاة فخلصت هيلاس من شرورهم. . . ويقبل تيمستوكليس قائد اليونان المجرب المنتصر فيقول للناس:(تالله ما نحن صنعنا كل هذا!) فيحفظ الناس قالته ويحفظها يوريبيدز حين يكبر، ويتذكرها حين يلقى الفيلسوف أتاجزاجوراس ويتأثر بفلسفته فيعرف لماذا غلبت أثينا فارس، وكيف عصفت المعرفة بالجهل، والنظام بالتبربر، والعقل بالمادة. . .
لقد كان محور فلسفة بروتاجوراس كلمته الخالدة (الإنسان مقياس كل شيء)، كما كان محور فلسفة أتاجزاجوراس أن المادة ليست كل شيء في الوجود، بل أن فوق المادة قوة أرفع منها وأسمى لأنها مسلطة عليها تديرها وتوجهها. . . تلك القوة هي العقل في الإنسان والقوة المدبرة في الوجود. . . إذن فليع يوريبيدز كل هذا، وليطبقه على ماضيه المفعم بالعبر، وليهزأ هو أيضاً بالآلهة بعد أن كان يحمل الخمر المقدسة والشعلة المقدسة في مهرجان أبوللو. ولا يكتفي بالسخرية بالآلهة. بل يشتط فيحطم أوثانها ويغضب عُبَّادها، وليخسر الجوائز السنية التي يسيل من اجلها لعاب الأدباء، ولينل من هذه الجوائز أربعاً فقط في حياته العامرة التي جددت الأدب، وثبتت دعائم المسرح. . . وليضحك حين ينال سوفوكليس عشرين جائزة أولى وثلاثين من الثواني لأن سوفوكليس لا يجرح كبرياء الجماهير ويترفق بآلهتهم ولأنه لا يعني إلا بفنه، في حين يعني يوريبيدز بالغاية والمثل الأعلى.
لقد كان يحب الفن ويشغف به مثل سوفوكليس. وكاد يكون فناناً مثله لولا أن ساق إليه القدر هذين الصديقين. يروى أنه كان قد شدا شيئاً من النقش في الصغر؛ ويروى أنه كان يعجب بمشاهد مآسي فرينيخوس، ولم يكن قد شب عن طوقه بعد؛ ويروى أنه كان يقف، إذ هو غلام مسبوهاً أمام روعة المناظر التي صورها بولجنوتوس فوق جدران الأكروبول؛ ويروى أنه شهد درامة الفرس لإسخيلوس ولم يعد الثانية عشرة. ويذكرون أنه أعجب بدرامة (سبعة ضد طيبة)، وتأثر بها كثيراً ولم يعد السابعة عشرة. وهو ولاشك قد شهد كل مآسي زميليه بطلي الدرام العظيمين.
هذا هو شباب يوريبيدز وهذه هي نشأته، وهؤلاء هم بعض أساتذته وأصدقائه، وتلك هي العوامل التي كونته فجعلت منه أديباً وفناناً وشاعراً وفيلسوفاً ومبشراً بالأدب الرومانتيكي، ثم الأدب الواقعي.
دريني خشبه
بمناسبة ذكرى جمال الدين الأفغاني
إنما ينهض بالشرق مستبد عادل
للدكتور محمد قرقر البهي
لكي نتعرف هذا المبدأ أو هذه الحكمة التي قد يخيل إلينا أنها طابع لنزعة لا تتلاءم وأساليب الحكم في المدنية الحديثة، ومع ما يسعى إليه الفرد من حرية، يجب أن نبحث الدوافع التي حملت حكيم الشرق وباعث نهضته السياسية في القرن التاسع عشر على أن ينادي بهذا المبدأ بعد اعتقاد جازم به، ثم نبحث كذلك مدى علاقة الحكم الفردي بالمشورة التي هي أساس الحكم الديمقراطي ومدى علاقته كذلك بالحرية التي يسعى إليها الإنسان
جمال الدين لم يعتقد هذا المبدأ بناءً على شغفه بالبحث النظري، ولم تمله عليه رغبة علمية مجردة عن مراعاة الواقع، وإنما هي التجارب وأحوال الشرق في ذلك الوقت التي قادت تفكيره وأوحت إليه بهذا المبدأ العملي.
جمال الدين رأى تفرق الأمم الشرقية ليس بعضها عن بعض فحسب، وإنما الأمة الواحدة موزعة إلى شيع وأحزاب، رأى المصالح الشخصية هي التي تملي على القائمين بالأمر في ذلك الوقت قواعد السياسة في الحكم وتصريف أمور الشعب. رأى أن الأمة لم تعرف بعد ما يسمى (بالصالح العام) أو كما يقول عنه الفلاسفة (مبدأ حيوية الدولة واعتبارها الكائن الحي الأعلى الذي يندمج فيه كل الأفراد). رأى تدخل الأجانب في سياسة الشرق الإسلامي كله وإذلالهم شعوبه على يد أفراد من بنيها لقاء تلبية بعض رغبات شخصية أو ضمان سعادة مؤقتة لهؤلاء. رأى تفكك أواصر القرابة وتحكم الظلم في الطبقات الفقيرة.
كل هذه العوامل أو هذه المشاهدات لم تترك في نفس جمال الدين أثراً من الشك في وجوب معالجة أحوال الأمم الشرقية والنهوض بها. ولكن على أي أساس؟ بالتربية؟ نادى بذلك منذ فارق بلاده في رحلاته إلى الهند، وتركيا، ومصر، وبالأخص هنا في القاهرة منذ أن عاد من مقر الخلافة العثمانية في 22 مارس سنة1871 فقد مكث يحاضر في الأزهر مرة، وفي تلاميذه الأخصاء مرة أخرى، ويحملهم على الكتابة في الصحف ونشر الدعوة، مدة ثماني سنوات (1871 - 1879) ولكن بعد ما تبين له أن عوامل الانفكاك داخل الشعوب الشرقية تتزايد، والمصلحة الخاصة للأفراد يتفاقم أمرها في الأداة الحكومية صمم على
الدعوة إلى حكومة يديرها فرد عادل يمت إلى الأمة بنسب قوي، بنسب الدم والدين حتى يجمع شتاتها، ويوحد كلمتها، ويوجه أحزابها المختلفة إلى غاية واحدة (الصالح العام) وجهر بها في باريس على منبر (العروة الوثقى) في سنة 1884 وأيد حكومة هذا الفرد العادل في كل تدبير تتخذه للوصول لهذا الغرض حتى استعمال العنف والشدة ولكن بعد التبليغ والإرشاد
جمال الدين لم يشجع استمرار حكم الفرد العادل، وإنما جعل ذلك لأجل معين، وهو الوقت الذي تنضج فيه الأمة وتعتقد بمبدأ (الصالح العام).
وربما يبدو في عصرنا الحاضر - أن رأينا أن هذه الدوافع التي حملت جمال الدين على النداء بهذا المبدأ ما زالت باقية - أن هذا الذي ذهب إليه فيلسوف الشرق من سيطرة حكومة الفرد العادل ردحاً من الزمن لا يتفق ومبادئ الديمقراطية التي سعت إليها الشعوب منذ القدم ووصلت إليها بدم الثورة الفرنسية وأصبحت أساس الحكومة الراقية، أساس الحكومة العادلة
ولكن ما هي تلك المبادئ؟ حكومة برلمانية وضمان حرية الفرد. هاتان الظاهرتان هما عنوان الديمقراطية ولا يتحقق وجودهما في ظل حكومة الفرد العادل. هكذا يزعم من يدعي أن جمال الدين الأفغاني لم يقدر حقوق الإنسان الطبيعية تقديراً دقيقاً يوم نادى بهذا المبدأ
ولكن أحقّاً أن الحكومة البرلمانية تمثل الديمقراطية؟ وأن حرية الفرد مكفولة فقط في ظل النظام البرلماني؟. لنتبين ذلك! إن أساس النظام البرلماني هو المبدأ الحزبي، وعلى الدعاية الحزبية وما تتضمنه من الوعود للطبقة الشعبية يكون نجاح الحزب ودرجة تمثيله داخل البرلمان. ثم صاحب الأغلبية لأنه مظنة العدالة طبقاً لكثرة الأصوات التي أخذها وهو الذي يتولى رياسة القوة التنفيذية. هل لنا أن نتأكد الآن أن صاحب الأغلبية يبني تصريف أمور الدولة على أساس مشورة كل أتباع كل حزبه واحترام رأي كل منهم في تقرير مصير الأمور؟ وهل نضمن أن كل نائب من نواب حزب الأغلبية يصدر في مشورته هذه عن رعاية المصلحة العامة دون تدخل العاطفة الحزبية أو ما يؤمله من قضاء مصالحه الخاصة على أساس طاعته لقيادة الحزب طاعة عمياء؟ وإذا افترضنا ذلك فهل نتأكد أيضاً أن الدعاية الحزبية التي أتت بالأغلبية قد أتت كذلك بصالح عادل، وهو زعيمها، يسير في
حكومته طبق ناموس العدل ولو النسبي ولا يراعي العصبية الحزبية أو ما يسمى (بالمحسوبية؟) وعلى جواب هذا السؤال تتوقف المقارنة بين حكومة الفرد العادل وبين الحكومة البرلمانية في نسبتهما قرباً وبعداً من (الديمقراطية) التي تقوم على رعاية المصالح العامة ممن يحسون بإحساس الشعب ويعترفون بما للطبقة الشعبية من حقوق طبيعية في هذا الوجود على الأقل كغيرهم من الطبقات الأخرى
كذلك يجب علينا أن نعرف: هل حرية الفرد مكفولة في ظل النظام البرلماني فحسب دون حكومة الفرد العادل حتى يكون الحكم على ما رآه جمال الدين واعتقده من مبدأ بأنه يتفق أو لا يتفق مع ما تصبو إليه الشعوب من حكومة راقية عادلة. لهذا يجب أن نحدد أولاً: ما هي الحرية؟ أهي الفوضى واستباحة الحرمات والخروج عن قوانين الجماعة والعرف والنيل من كرامة الآخرين وشرف الذين لا حول لهم ولا قوة؟ أم هي التمتع بالحقوق الفطرية في ظل العرف والقانون، في ظل مراعاة الحرمات وتقدير كرامات الآخرين؟ لا أظن أن أي عاقل يشجع على أن يكون المعنى الأول مفهوماً (للحرية) كما لا أظن أن هذا الذي ذكر ثانياً على أنه مدلول (الحرية) يفنى في ظل حكومة الفرد العادل
إن صلاحية أي أسلوب من أساليب الحكم نسبية، تتوقف على أحوال الأمة وعلى درجة تطورها الاجتماعي والخلقي فكما أن الحكم البرلماني ليس المثل الأعلى على الإطلاق كذلك الحكم الفردي ليس عنوان الظلم دائماً وإهدار الحريات
وقد كان جمال الدين الأفغاني (حكيماً) إذ ربط أسلوب الحكم بأحوال الأمة الخاصة بها وعلق تطوره أو تغييره بتغيير تلك الأحوال
فالتعصب للحكم البرلماني بدون قيد ولا شرط، ورمي حكم الفرد بالجور بدون قيد ولا شرط، غلو في الخيال وإيمان غير محدود بالنظر المجرد عن حقيقة الواقع مادامت العدالة ليست رهينة أحد النظامين على الإطلاق
محمد قرقر البهي
دكتور في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا
من برجنا العاجي
أذاع المتحف المصري حديثاً في أنحاء العالم من خلال بوقين أحدهما من الفضة، والآخر من النحاس، هما من مخلفات توت عنخ آمون. وقد كانت هذه الإذاعة أول صوت يخرج منهما منذ ثلاثة آلاف عام. قرأت هذا الخبر في الصحف كما قرأه الناس. وجاء الليل فتخيلت هذين البوقين قد أعيدا إلى مكانهما في المتحف، وقد سكنت الأصوات، ونامت الكائنات، فإذا هما ينهضان مستويين كأنهما ثعبانان، وجعلا يتحادثان:
البوق الفضي - عجباً! ما هذه اللغة التي خرجت من فمي هذا اليوم؟
البوق النحاسي - أنها لغة غير مفهومة لعلها لغة بعض العبيد أو الأسرى الذين نأتي بهم إلى أرضنا من آن لآن
البوق الفضي - نعم. إنها ليست لغة توت عنخ أمون! لكن كيف سمح الحراس للعبيد والأسرى أن يحملونا ويدنسوا أفواهنا برطاناتهم!
البوق النحاسي - هذا ما يثير دهشتي
البوق الفضي - يا للعار! فمي الفضي يخرج منه مثل هذه الرطانة! هذا لم يحدث لي من قبل الآن!
البوق النحاسي - وأنا لم يقع لي مثل هذا قبل اليوم قط!
البوق الفضي - وبعد. أنذعن لهذه الكارثة؟!
البوق النحاسي - لا. لا ينبغي أن نذعن
البوق الفضي - وماذا نستطيع أن نفعل؟
البوق النحاسي - نستطيع أن نصيح وأن نرفع أصواتنا في أرجاء المكان ساخطين متضرعين، طالبين صيانة حرمتنا وكرامتنا. فلا ينفخ فينا بعد الآن نافخ بغير لغة توت عنخ آمون. فمن أجلها صنعنا ووجدنا فلتخرس أفواهنا إلى أبد الآبدين، إذا نطقت بغير لغة توت عنخ آمون!
البوق الفضي - وإذا أجبرنا على النطق بغيرها؟
البوق النحاسي - حقت اللعنة على من يجبرنا على ذلك!
وذهب من أمام عيني شبح البوقين. وثبت إلى نفسي وأنا أقول (أهي لعنة أخرى كلعنة المومياء، مازال أمرها خافياً على العلماء!).
توفيق الحكيم
من أدب الغرب
للأستاذ فليكس فارس
الشاعر الإيطالي ليونلو فيومي، من أشهر حملة الأقلام في هذا العصر، وقد أوقفه كبار النقاد في أوربا والعالم الجديد إلى جنب جبرائيل دانونزيو في تاريخ آداب القرن العشرين
إن ليونلو فيومي يكتب وينظم باللغتين الإيطالية والفرنسية، وله مؤلفات وترجمات عديدة في التاريخ والعلم والأدب؛ وهو يصدر في باريس منذ تسع سنوات مجلته (دانتي) باللغة الفرنسية، وهي منتشرة بين الطبقات المثقفة ويكتب فيها عدد من أشهر رجال العلم والأدب
وقد أصدر ليونلو أخيراً ديواناً من الشعر المنثور باللغة الفرنسية بعنوان (صدر عن الأرخبيل) كان له دوي في عالم التجديد الأدبي، وترجمت منه قصائد إلى لغات عديدة. وقد رأى أصدقاء الشاعر أن قصيدة (نذر) من الديوان قد اختارها عدد وفير من المترجمين فاستكملوا ترجمتها إلى ست وعشرين لغة منها الصينية واليابانية والأرمنية والتركية. وقد طلب لينا أن ننقل هذه القصيدة إلى اللغة العربية، فنزلنا عند إرادة اللجنة التي تولت نشر هذا الديوان لقصيدة واحدة وقد أرسلته إلينا فرأينا أن نقدم لقراء الرسالة ترجمتنا آملين ألاَّ نكون قصرنا في هذا المضمار الذي تسابقت فيه لغات الدنيا في معرض البيان. ولعلنا أثبتنا أن أم اللغات هي المجلية بما فيها من مرونة وجزالة وبلاغة تقتنص المعاني فتوردها بروعة تفوق روعة أصلها
نذر
ما تجلَّيتِ لي ولن تتجلى إلا كلمح السراب؛ لذلك أتوق إلى أن أقيمك تمثال عذراء، أيتها الزنجية، أسوة بالأقدمين من أبناء إيطاليا الذين كانوا يُبدعون من نساء أحلامهم رسوماً يناجيها المتعبِّدون
أنَّ أُمنيتي هي أن أطبع على رافدة هيكلٍ في (المارتينيك) صورة عينيك المتوهجتين بلمعان الماسة الربداء لأقف أمامهما متوسلاً بغير لغة الكلام، وقد أشجاني الاضطراب، أن تقرّ عيناي لحظة عليهما، فأجيل ناظريَّ على غدائر شعرك الجعد الفاحم المنعطف كالجدول إلى ما وراء أذنيك وأرسم منشى أنفك الخافقين كأنهما جناحا طائر صغير. وكأنهما ينفتحان برعشة الشهوة لاستنشاق عطور جزيرتك المسكرة هابة من منابت الكاكاو والروم والفانيلا
لأبذلنَّ كل ما في الوله من عناية في اختيارِ العنبر لأمدَّه أظلالاً فأداعب إهابك حين أرسمه غضّاً ناعماً كأن عليه زغبَ الثمرةِ الندية فتبدين فتَّانة القوام باسطةً ذراعيك بمعصميهما الضامرين
وعندما أستنفذ ما على لوحة الألوان فلا أجد ما أرسم به لين طفولتك، وهي كأنها تأود القصب النديّ في جزيرتك؛ ويمتنع عليّ رسم ما في صفاء فطرتك وعطفك وذكائك من غوامض الفتنة، لن يسعني وقد خانني الفن إلا أن أعتصر على الرافدة آخر ما احتبس في قلبي اليائس من قطرات شوقه وإلهامه
وإذا ما أتممت هذه الصورة المنذورة أسارع إلى رفعها على هيكل من هذه الهياكل الصغيرة المشرفة على غابات القصب المزهرة وعلى مراوح الموز الوسيعة؛ عندئذ أجد مكافأتي في تعبُّدي لعذرائي الزنجية، فأسجد أمامها صامتاً خاشعاً والغسق يمد أظلاله على الأشجار الباسقة التي لا أسم لها كأن الغسق ليلٌ ثان ينتشر على ظلمات الغاب في بلاد الهجير حين تهتاج الصراصرُ مرسلةً أزيزها في الليل فتجاوبها الحُباحبُ بأشعةٍ لا عِدادَ لها كأنها قطراتُ ندىً تلتمع في ليلة مقمرة
وهذه قصيدة أخرى بعنوان (مولد) للشاعر الكبير جيوفاني باسكوالي استوقفني ما فيها من عاطفة فياضة وروعة فآثرت نقلها إلى العربية أيضاً
مولد
ثلاثون عاماً تتالت منذ ولدتني يا أماه، منذ آلمتك أولى شهقاتي الضعيفة بأكثر من أوجاعك الشديدة الفائرة
وغذيتني من ثدييك المتفجرين حناناً وأنت صبور تساورك المخاوف والأشجان، حتى إذا تكامل لحمي من لحمك ودمي من دمك فاستقرَّ قلبك بأكمله في قلبي، جاء اليوم الذي تواريت فيه منذ عشرين عاماً
وهأنذا أحاول عبثاً أن أجسِّم عينيك وسيمائك لأشاهدك بخيالي. لقد أذبل الزمان ناضر تذكاري فلم أعد أعرفك يا أماه!
أما أنت فلا تزالين حيث يستقر الأموات في مرابع الصقيع تستوقفين أحلامَك لتداعب أناملك غدائر طفلك الصغير
(الإسكندرية)
فليكس فارس
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تابع)
(ج) ومن المؤثرات في الأدب والحرية:
وإنما يترعرع الأدب في ظلال الحرية، فإذا منع البغيُ أمة أو طائفة أن تُبين عن آرائها وعواطفها وتعرب عن آلامها وأمالها، لا يزدهر فيها الأدب
وإذا اشتد الحجر على أمة فانبرى جماعة من أُباتها يجاهدون في حريتها ويجالدون جبابرتها لم يكن لهم بدّ أن يتخذوا الأدب القوي لبث الدعوة وإيقاظ النفوس وتنفيرها من المذلة وحفزها إلى الإقدام ومجادلة الخصم بالحجة البالغة والبرهان الدامغ، فينشأ لهم أدب حيّ قويّ. ولا يزالون في جهادهم حتى يدال لهم فتسع الحريةُ الأمةَ كلّها، وتنشط النفوس للإبانة عن سرائرها والإعراب عن ضمائرها. وأدب المجاهدين في كل عصر من أروع أنواع الأدب لأنه أدب النفس الإنسانية وهي تدفع عن كيانها، وتجادل عن حياتها
فالحرية العامة والجهاد لها من أجدى الأمور على الأدب
وإذا نظرنا إلى الأدب في فرنسا قبل الثورة وأثناءها وبعدها، وإلى الأدب في تركيا قبل مائة سنة والأدب فيها حين الجهاد للحرية كشعر نامق كمال وأمثاله، ثم الأدب في الثلاثين سنة الأخيرة؛ وإذا نظرنا أيضاً إلى الأدب في مصر قبل عشرين سنة وإلى الأدب فيها اليوم عرفنا فرق ما بين الحرية والعبودية، وما يجدي الجهاد للحرية على آداب الأمم
وكم أنتج جدال الأحزاب السياسية من خطب ومقالات لها في الأدب أثر لا ينكر
والحرية الفكرية أوسع من الحرية السياسية فربما تنال الأمة حريتها السياسية ولكن يسيطر عليها أو على فرقة منها مذهب أو عادة قديمة فيمنعها بعض حريتها في التفكير، وانظر إلى المعتزلة والحنابلة في تاريخ المسلمين تدرك كيف أجدت على الأدب حرية الأولين، وجنت عليه عصبية الآخرين، وكذلك التزام موضوع أو أسلوب في الأدب اتباعاً للقدماء يسلب الأمة بعض حريتها الأدبية ويمنعها أن تفتن في موضوعات النظم والنثر وأساليبها
على أن الفوضى في الأدب، وركوب كل إنسان رأسه على غير بينة، وحيد الناشئين عن
سنن الأئمة دون بصيرة - تجني على الأدب، ما يجنيه التضييق والحجر، أو شراً من ذلك
(د) الحروب:
النزاع بين فريقين يهيج كل ما عندهما من قوى نفسية ومادية؛ وكلما كان الخطر أعظم كان الاهتمام والإعداد أكبر. وفي الحروب تتعرض النفوس والأموال والأوطان للتهلكة فتثور أقسى ما في الإنسان من غريزة وأسمى ما فيه من عاطفة. فتدعو كل أمة أحزابها وتحرضهم على قتال العدو؛ وإذا أتيح لها الظفر عظمت أفعالها، وأكبرت مآثر أبطالها، وفي هذا الإعداد للقتال والتحريض عليه والتغني بالظفر والإشادة بالبطولة مجال واسع للأدب
ومن أروع ما أنتجت الآداب القصص الحماسية: فالمهابهارثة والإلياذة والشاهنامة والقصائد الحماسية في الشعر العربي الجاهلي والإسلامي ولاسيما شعر أبي الطيب المتنبي، وقصة عنترة وقصص أبي زيد الهلالي وغيرها كل هذا من آثار الحرب ومآثر الأبطال فيها
(هـ) الدين:
والدين له على الفنون سيطرة عظيمة، فهو يستولي على العقل والعاطفة فيسيرهما كما يشاء، ويصبغ كثيراً من نتائج الأدب بصبغته. ولعل أروع أبنية العالم وأبقاها على العصور المعابد؛ فحيثما سار الإنسان على وجه الأرض وجد علوم الأمم وفنونها وعواطفها ممثلة في المساجد والكنائس والمعابد الأخرى
والأدب الديني من أقدم آثار الأمم الأدبية. فكتاب الموتى عند قدماء المصريين، وأناشيد فيدا عند الهند، وسفر أيوب في التوراة، وأناشيد جاتا في كتاب زرادشت الذي يسمى الأبستا؛ كل أولئك من آثار الدين في الأدب. وإذا نظرنا إلى الدين الإسلامي وتصورنا ما أحدثه القرآن في الأدب العربي والآداب الإسلامية عامة، وما يحدثه اليوم، عرفنا مبلغ تأثير الدين في الأدب، وتصور ما أنتج الإسلام من خطب ومواعظ وقصص في العصور المتطاولة لتعرف جانباً من تأثيره. ثم هذا الشعر الصوفي الرائع في الآداب الإسلامية - ولاسيما الفارسية - نفحة من نفحات الدين
(و) المحاكاة:
ومما يؤثر في الأدب المحاكاة والتقليد - تقليد أمة آداب أمة كما قلد الرومان والأوربيون أدب اليونان، وقلد الفرس والترك وغيرهم الأدب العربي، وقلد الترك والهند الأدب الفارسي، وكما قلد الترك في العصر الحديث الأدب الفرنسي وقلد المصريون الآداب الأوربية
وكذلك تقليد النابغين في الأمة الواحدة؛ فإذا نبغ شاعر أو كاتب حاكاه معاصروه، ثم لم يعدم مقلداً في كل عصر. ويكاد تاريخ الأدب يكون تاريخ النابغين في العصور المختلفة ومن عداهم مقلدون أو كالمقلدين. فالجاحظ، وابن المقفع، وبديع الزمان، وأبو تمام، والمتنبي، لهم تأثير بين في الأدب العربي حتى عصرنا هذا
فإن فتح النابغة للناس فنوناً من الأدب الجيّد والأساليب الحرة كان رائد خير في الأدب، وكان قد سنّ سنة حسنة لا تزال تزيد في إحسانه على كر الأيام كما فعل أبن المقفع والجاحظ وأبو العلاء؛ وأن سلك سبلاً وعرة وخلق أساليب مصنعة متكلفة قد غطّى نبوغُه على عيوبها سار الناس وراءه. وربما ورثوا عيوبه دون مزاياه، وأورثوا الأدب صنوفاً من القيود تضيق الأدب وتميت الابتكار في نفوس المنشئين كما فعل مسلم وأبو تمام في البديع، وأبو العلاء في التزام ما لا يلزم، والحريري في المقامات، وغير هؤلاء في ضروب المحسنات التي شغلت الشعراء والكتاب عن المعاني بصناعة الألفاظ.
وكثيراً ما يخلق التقليد رجلاً في غير عصره. كما تجد اليوم من يقلد أحد النابغين القدماء فيشبه هذا القديم أكثر ما يشبه معاصريه. وكثيراً ما أحيا التقليد الأدب بعد موته. فتقليد القدماء من أدبائنا كان فاتحة نهضتنا الأدبية الحديثة كما كان تقليد اليونان والرومان باعث الأدب الأوربي في عصر النهضة. فقد تخطى البارودي - مثلاً - الأجيال وحاكى الجاهليين والإسلاميين فأتي بنمط من الشعر الجزل هو خير مما كان معروفاً في وقته، وقبل وقته. فكان طليعة الشعراء العصريين.
(ز) والاستطراف
ومما يؤثر في الأدب أيضاً الاستطراف أو حُب التجديد، والنزوع إلى الطريف. ففي الأدب كما في غيره طرائف (مودات). يملّ الأديب موضوعاً مبتذلاً أو طريقاً مسلوكة قد سار
عليها الخاصة والعامة، ويأنف أن يكون واحداً في هذا السواد فيسلك طريقاً آخر في الموضوع أو البيان؛ فإن وفق فقد سنّ للأدباء سنة جديدة، ومهّد في الأدب سبيلاً محدثة. وهكذا حتى يظهر أديب آخر يحل هذه الطريقة فيحيد عنها وهلم جراً. وقد يُستطرف بعد أجيال موضوع أو أسلوب بعد أن ابتذل وهجر وهلم جراً.
فهذا الاستطراف والاستهجان له أيضاً أثره في تحوّل الأدب
(ح) النقد
وأحسن المؤثرات في الأدب وأنفعها النقد الصحيح؛ فإن الناس يسيرون على النهج المألوف لا يرون خطأه ولا يبصرون عيبه حتى يرشدهم النُّقّاد فيبيّنوا لهم الخطأ والصواب، والرشد والغيّ، والحسنُ والقبيح في سيرتهم. وإذا تناول النقد مسألة أدبية كشف عن الحق فيها أو ثار حولها الجدال؛ وما يزال المتجادلون حتى تنجلي الحقيقة من تصادم الحج. فالنقد إيقاظ الأفكار النائمة، وتنبيه الآراء الغافلة، ومثار جدال تتبين فيه الحقائق إذا صحبه الإخلاص وقارنه الصدق
(ط) المكافأة:
وتحريض أصحاب المواهب على الإنتاج بالاعتراف بفضلهم والإشادة بأعمالهم أو منحهم الأموال التي تعينهم على الفراغ للأدب وإتقانه، مما أجدى على الأدب في عصوره، وحفز همم الشعراء والكتاب إلى الإجادة والإبداع؛ ولذلك نرى تاريخ الأدب وكبار الأدباء متصلاً بالملوك والأمراء والكبراء الذين أثابوا القائلين على إحسانهم وحثوهم على الازدياد
وإذا نظرنا إلى تاريخ الخلفاء العباسيين وما أفادوا الأدب بمثوبتهم الشعراء والكتاب ونظرنا إلى تنافس ملوك المسلمين في المشرق والمغرب في الاستكثار من الأدباء حولهم وتزاحم ملوك الطوائف في الأندلس على الاستئثار برجال الأدب - عرفنا كيف يُجدي التحريض والمكافأة على الآداب. وحسبنا أن نتذكر ازدحام الشعراء والأدباء حول سيف الدولة الحمداني حين رأوا فيه أميراً ألمعيا وفتى عربيا يجزل الثواب ويسخو بالمال
هذه من أسباب تغيّر الأدب. والباحث في الأدب العربي يستطيع أن يتبينها في أطوار كثيرة منه؛ فإذا بحثنا في صور الأدب العربي في الجاهلية وما فعل بها الإسلام، ثم نظرنا
إلى شعر الفتوح الإسلامية، وشعر الوقائع العربية، والمذاهب السياسية، وعصبيات العدنانيين والقحطانيين، ثم عصبيات العرب والعجم، ومدائح الخلفاء والأمراء، وتهاجي الشعراء، وما نشأ في الدولة العباسية من ضروب في النثر والشعر وأثر اختلاط الأمم، والترجمة عن اللغات المختلفة، وقرنا شعراء المشرق بشعراء مصر والمغرب والأندلس، واستعرضنا بعض الحادثات السياسية والاجتماعية في هذه المواطن، ودرسنا تاريخ النابغين المجددين. . . الخ. وجدنا في كل هذا تطبيقاً لما ذكر من مؤثرات الأدب
عبد الوهاب عزام
الدعوات المستجابة.
. .
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
استمنحتُ الثروة، فمُدْتْ لي أكنافُ التوفيق، وأسبغت عليّ آلاء النوال الطائلة، وتحوْل كلُّ ما لمسته يداي إلى ذهب إبريز. . . ولكن. . . وا حسرتاه! لقد تضاعفت همومي ومتاعبي، وتناقصتْ راحتي ورفاهيتي، حين فلج سهمُ طلبتي، وزكا منبتُ رجائي، وأخصب زرع ابتهالي. . .
استوكفتُ المجد والعزّ، فسمعت ذكري يشّيع بالحمد، ويذيل بالثناء، من الولدان الروقة الميامين، الذي لحظهم الفلك بعنايته، ووسمهم الكمال بنهايته؛ ومن الشيب السارين في طريق الرشد، بمصباح الكبر، المتحلين بأبهة الحنكة وشيمة الوقار، الجامعين بين قوة الشباب واستحكام التهذيب والتحليم وتناهي الحلال. ولكن. . . أواه! أواه من الآلام والخسار والمضار التي تجيء في مواكب الشهرة. حقاً، إني لم أكن سعيدة إذ ذاك. . .
اجتديتُ الحب، وركبتُ إليه ظهور التوسع والضراعة، ففاز قلبي بمبتغاه، واغتبط بنجج مسعاه، وعاد بمصداق أمانيه، ولكن لهب نيران الحب الآكلة أندلع إلى قلبي المتضور، وجسمي المنهوك. وتلذع أوراها في عقلي المتلظي، بيدَ أنها قد كبتْ، ولم يبقَ منها إلاّ ما غادرت في القلب والجسم والعقل جميعاً، من وسوم لعجها وصفعات حروقها. . .
اتصلتُ ببابه تعالى، ونزعتُ إليه برجائي، أن يمنحني عقلاً راضياً قانعاً. . . وأخيراً! بزغ على قتام روحي المكتئبة نور عظيم، وغمرني أمنٌ تام، واطمئنان كامل. ووردت عليّ قوة جلىّ استأنفتْ نشاطي، وشددت عزمي، وشرحت صدري. فيا ليتني كنت التمست هذه الطلبة الغالية قبل كل طلبة أخرى.
(الزهرة)
يوم وقعت الواقعة.
. .!
للأستاذ علي الطنطاوي
أما رثاء الفقيد، وبيان جلال الرزء فيه، ومبلغ الحزن عليه، فتلك أمور كبرت عن أن يحيط بها (نظم من الشعر أو نثر من الخطب)، وبُعد منالها عن كاتب مثلي قصير القامة واليدين، فليكن همي أن أروي (ما رأيت وما سمعت)، ولقد رأيت عجباً وسمعت أعجب منه، وشاهدت أحوالاً ربما ظنها القراء الذين هم في غير بغداد مبالغة من نسج الخيال، ولكن الله يعلم وأهل بغداد يشهدون أن الذي أقوله حق كله، وأني ما زدت فيه ولكن نقصت منه، وأني لو ذهبت أتزيد فيه ما استطعت ولا بقي للخيال بعد الذي كان مجال
والذي رأيت أني نزلت من (الأعظمية) مبكراً على عادتي، فلم أرى على الطريق ما أنكر إلا حركة عند (البلاط) ما ألقيت إليها بالاً، حتى إذا شارفت المدرسة (ومدرستنا في ظاهر بغداد قريبة من باب المعظم) رأيت طائفة من الطلاب مجتمعين يتهامسون، ولكن الوجوه غير الوجوه، فلما أبصروني أسرعوا إلي يسألونني عن (الحادثة)، فقلت وأنا خالي البال: أي حادثة؟ إني ما سمعت بعد بشيء!
قالوا: لقد شاع في البلد أن الملك. . .
فاضطربت وتوقعت أن أسمع عنه نبأ لا يسر، ولقد أحببت الملك منذ شهور خلت حبّاً شديداً لم أكن أحبه من قبل مثله، وصرت أرى فيه معقد الأمل وباب الرجاء، فلما قال التلميذ ما قال خفق قلبي من توقع المكروه، وحب الاستطلاع، وروعة المفاجأة، وما يصيب المرء في العادة في موقف مثل هذا، وصحت بالولد أسأله: أن ما للملك؟ وبالغتُ في الصياح حتى روّعتُه، وأثرت أحزانه، فقال متعثراً يجرُ الحروف من فيه جرّاً:
- يقولون أنه. . . قد مات!
فقلت: أعوذ بالله، أسكت ويحك، إن هذا كذب، فلا تنطق به. . .
وأسرعت إلى المدرسة، والطلاب معي، وأنا أرجو وهم يرجون أن يكون الخبر كذباً. وتلبث بعض الطلاب قائمين على الطريق ينتظرون مرور الملك كما يمرّ كل يوم. فلما بلغنا المدرسة وجدنا كل من كان فيها من مدرسين وطلاب قد سمعوا الذي سمعنا، وهم بين مصدق ومكذب. ومرت ساعة ونحن على هذه الحال من القلق نسأل كل آت فلا نلقى عنده
جواباً، ونستخبر الهاتف (التلفون) فلا نسمع خبراً. ثم أبصرنا علم الثكنة العسكرية التي أمامنا قد نكس، وجاءنا الأمر بتنكيس العلم، وجمع الطلاب في غداة الغد للتشييع. . .
فعلمنا أن الناعي قد صدق، وأن الأمل قد خاب!!.
وخرج المدير وهو الرجل القويُ المكتمل الرجولة ليعلن الأمر. فما تمالك نفسه أن بكى وهو ينعى لشباب المدرسة (الغربية المتوسطة) سيد شباب العرب. وما أمسك الطلاب أنفسهم أن يصيحوا: (وهم ثمانمائة شاب يعدون مثال النظام) صيحة واحدة، وأن يبكوا بنحيب وعويل، وأن يمزق بعضهم ثيابه، وأن يغمى على بعض. وما أكتم القارئ أني حسبت ذلك رياء وتصنّعاً، وكرهته أول الأمر، واشمأزت منه نفسي، ولكني ما لبثت أن أيقنت أنه حق وصدق، وأنه منشأة هذا الحب العجيب للملك الجندي، وهذا الحزن البالغ على وفاته الفاجعة. . .
وخرج الطلاب بعد ذلك، وخرجت على الأثر. فما دنوت من (باب المعظم) حتى سمعت نواح النساء ونحيبهّن، ورأيت الميدان كله ممتلئاً بالناس، يتدافعون ويستبقون إلى البلاط باكين مفجوعين. مشهد للحزن ما أحسب أن أروع منه يكون؛ فخالفت الجماهير وقصدت شارع الرشيد، فلم أبلغ (الصابونية) حتى رأيت مئات من النساء، تحكي ثيابهّن ومظاهرهن الغنى والحشمة، وهن ينشدن شعراً عامياً، أو شبه شعر، ما فهمته ولكني تبينت فيه ذكر غازي وشبابه الغض، وذكر الموت. . . وكلما قلن بيتاً لطمن وجوههن بشدة، وبكين بحرقة وألم. . . فما رآهن أحد إلا بكى أشد بكاء؛ ورأيت من بعد آلافاً من الناس قد حملوا شاعراً عامياً فهو يقرأ لهم شعراً كله تفجع وألم، وهم يلطمون ويضربون صدورهم أو يشيرون باللطم، فلم أطق المسير ولا الشهود فملت إلى المدرسة (الثانوية) وكانت خالية مقفرة، وعلى بابها علمان متشحان بالسواد، فغادرتها أفتش عن أخي أنور العطار. فما هي حتى جمعني الله به. فقلت له: إن المسير في شارع الرشيد مستحيل، والصبر على رؤية هذه المواكب الباكية أشد استحالة، وحسبنا ما في نفوسنا من الألم، فهلم بنا إلى الدار (في الكرخ) فإنها أهدأ. ورأى ما رأيت، فسرنا نؤم الجسر، وكان اليوم عاصفاً مخيفاً، والنهر مضطرباً مرعباً؛ كأن الطبيعة قد روّعها من النبأ ما روّعنا؛ ففقدت هي أيضاً اتّزانها وهدوءها، فما ظننا والله إلا أن الجسر منقطع بنا، لما كان يضطرب ويرقص، وتلعب
الرياح والمياه بالعوامات التي يقوم عليها، ولكن الله سلّم فبلغنا الكرخ، وإذا بالكرخ قد نشرت الأعلام، أعلام (السباية) السود، ودقت طبول المأتم وخرج أهلوها على بكرة أبيهم، مواكب مواكب: النساء ينحن ويلطمن الوجوه، والرجال ينشدون ويضربون الصدور، وقد تعروا وتكشفوا فعل المتهيئ للصراع، حتى رأيت الصدور وهي من الاحمرار كأنما دامية. والأطفال، يا لله ما فعل الأطفال! لقد تعروا مثلما فعل الرجال، وطفقوا يضربون صدوراً علم الله أنها ما تحمل الضرب ولا تطيقه. . . وكانت المواكب في كل شارع، وفي كل زقاق. فكلما تركنا واحداً منها اصطدمنا بآخر، حتى أزمعنا آخر الأمر أن نعود إلى جانب الرصافة من الجسر الآخر، فما بلغناها حتى رأينا فيها ما أنسانا فعل أهل الكرخ، وكان كل موكب يحمل صورة للملك الشاب مجللة بالسواد، وينشد أشعاراً لم أحفظها ولكن فهمت منها كثيراً، فما فهمت مقالة قوم:
الله أكبر يا عربْ
…
غازي انفقدْ من دارَهْ
واهتزتْ أركانْ السماء
…
من صدمةِ السَّيارةْ
وقول قوم ما معناه: قولوا لفيصل في القبر يستقبل وليده. . . في أشعار كثيرة هذا سبيلها، ولعل القراء لا يدركون قوتها ووزنها، لأني لم أحسن كتابتها ونقلها، ولكنهم لو سمعوها من أفواه أصحابها ورأوا بكاهم، وشاهدوا صدورهم المحمرّة، لعرفوا أي شيء هي، ولعلموا أن بغداد تعرف كيف تفرح وكيف تغضب وكيف تحزن!
ومن أعجب ما شاهدت فتيات المدارس وهن يلطمن وجوهاً يؤذيها المسّ، ويدميها النسيم، لا يشفقن على أنفسهن، ولا يفتأن ما سرن يَبكين ويُبكين، ويا ليتني فهمت ما كنّ يقلن فإنه أشجى وأعجب مما كان الرجال يقولون!
وبقيت المدينة على هذه الحال إلى صباح اليوم التالي، إلى ساعة التشييع التي أعلن العجز عن وصفها. فلما تم الدفن، وأودع الثرى الملك الشاب الذي كان يفيض قوة وحياة، وحوّمت الطيارات الوطنية تحمل شارات الحزن السود الطوال على الملك الطيّار، وانطلقت المدافع تعلن انتهاء الدفن، وأيقن الناس أن المصيبة قد تمت، وأن الرجاء قد أمحى، أفاقوا كمن يفيق من نومة مزعجة رأى فيها الحلم المروّع، فيرى الواقع أشد إزعاجاً وترويعاً، فأسلموا الأمر إلى الله، وصمتت هذه الألسن التي طالما أنشدت ورثت، وتفجعت، وجفت هذه
الدموع التي طالما جرت وذرفت، وانفضت هذه الجموع واجمة ما فيها من يتكلم أو ينبس، وفي القلوب نيران تتأجج، وبين الأضالع لهيب يستعر، ولم تسكت آخر طلقة من طلقات المدافع التسع والتسعين، حتى عمّ المدينة صمت عميق، وغدت كأنها قبر واحد، قبر غازي الملك الحبيب الذي أمّ الناس قصره قبل عشرة أيام مهنئين بالميلاد السعيد، فانصرفوا الساعة من زيارة قبره الجديد، مودعين حبيباً لن يروه إلى يوم القيامة. . .
وهمس رجل، فسار الهمس على كل لسان:
رحمة الله على غازي، ولفيصل أبنه التوفيق والسعادة والحياة!
(بغداد)
علي الطنطاوي
المدرسة الابتدائية
وتعليم اللغة الأجنبية
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
تعليم اللغة الأجنبية في مدارسنا الابتدائية مشكلة من مشاكل التربية والتعليم التي برزت اليوم أمام وزارة المعارف فألفت لدراستها لجنة برياسة حضرة صاحب العزة الوكيل الساعد. وقد رفعت هذه اللجنة تقريرها عنها في الشهر الماضي، ولازال هذا التقرير بين يدي معالي الوزير لبحثه ودراسته قبل البت في أمره. وبالرغم من أن هذا الموضوع كان من بين المشاكل الكثيرة التي عالجتها في مؤلفي الجديد (التعليم والمتعطلون في مصر) فقد رأيت أن أفرد له بحثاً خاصاً يذاع على صفحات الرسالة الغراء لأنه أصبح مشكلة الساعة؛ ولا يصح أن يقطع فيه برأي إلا بعد درسه دراسة مستفيضة، فجدير بكل ذي رأي أن يدلي فيه برأيه، وجدير برجال التعليم جميعاً أن يبحثوه وحداناً وأن يمحصوه زرافات وجماعات حتى يتبن أولو الأمر أوجه الخير والشر فيه، ويتعرفوا أوجه المصلحة العامة في جميع نواحيه.
ولا يسعنا أن ندلل على أهميته وأهمية غيره من مشاكل التربية والتعليم عندنا إلا بتلك الكلمة الخالدة التي قالها المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول طيب الله ثراه، إذ قال:(إن أم المسائل في مصر مسألة التربية والتعليم. فلو أن كل مصري وضع في تشييدها لبنة لأقمنا للوطن صرحاً يبقى ما بقي الزمان). ولا غرو في ذلك لأن مسائل التربية ولتعليم لا تتعلق بأفراد أو بطوائف معينة فحسب، ولكنها تتعلق بكل منزل وكل أسرة وتتعلق بأبناء هذا الوطن جميعه بنين وبنات، فتيان وفتيات؛ ففيها جماع مشاكل الأمة أو هي تشمل مسائل الأمة جمعاء
ولقد أصبح لزاماً علينا بعد أن أخذنا الأمر كله بيدنا ألا نتعصب لأنفسنا ولا أن نتحزب لقديمنا بل يجب علينا أن نفتح عيوننا لكل ما يجري عندنا وعند غيرنا وأن نتعرف سريعاً شذوذنا وأخطاءنا وأن نعمل بحزم وهمة ونشاط على التخلص مما تتعثر فيه معاهدنا من شذوذ وأخطاء. لعلها هي السبب الأساسي في تعثر شبابنا وتنكبهم الطريق السوي وانحطاط مستواهم الخلقي والعلمي عن مستوى غيرهم ممن يتعلمون بين ظهارانينا تعليماً أجنبياً
يصحبه نجاح في الحياة مضمون وحظ موفور. فلقد جاء في محاضرة الأستاذ الغطريقي رئيس مكتب تخديم الشبان بوزارة المالية التي ألقاها قريباً بمدرج دار العلوم أنه لا ينجح من شبابنا المتعلمين بمعاهدنا الحكومية ممن يتقدمون للخدمة في الأعمال الحرة كأعمال الشركات والبنوك إلا واحد من كل ثلاثة عشر مرشحاً بينما يؤخذ الباقون من الشبان الذين تعلموا في معاهد أجنبية. فهلا يحق لكل مفكر أن يتساءل ويبحث عن أسباب كل هذا الإفلاس! لا شك أن ذلك راجع إلى نقص جوهري في تربيتنا وتعليمنا. فلقد ذكر حضرته أيضاً أنه حتى هؤلاء القليلين الذين تأخذهم الشركات للعمل فيها تشكوا تلك الشركات سوء نظام الكثيرين منهم وقلة اكتراثهم بالمسئولية وقلة اهتمامهم بالمواظبة والمحافظة على المواعيد الخ الخ
فبين معاهدنا إذن عيوب أساسية كثيرة تستدعي التفكير والعمل، وتستدعي التغيير والتبديل، وتستدعي وضع سياسة تعليمية قويمة يسير الجميع من رجال التعليم على هديها. ولعل من أبرز العيوب وأقوى الشذوذ في نظم تعليمنا قيام المدرسة الابتدائية إلى اليوم بجوار المدرسة الأولية والمدرسة الإلزامية والمعهد الديني الابتدائي وجمعية تحفيظ القرآن الكريم الخ مما يشتت أبناء البلد الواحد في أنواع مختلفة من المعاهد ذات طرائق مختلفة ومذاهب مختلفة وثقافات مختلفة! فالمدرسة الابتدائية بما فيها من لغة أجنبية هي ذلك السدُ المنيع بين المدرسة الإلزامية والأولية من جهة، وبين المدرسة الثانوية والعالية من جهة أخرى، مما لا مثيل له في ممالك العالم أجمع! ونتيجة ذلك أن الطالب المتفوق بين جدران مدارسنا الإلزامية والأولية إذا تعدت سنه العاشرة (وكثير من التفوق لا يظهر إلا بعد هذه السن) استحال عليه إتمام تعليمه تعليماً مدنياً لأن المدرسة الثانوية لا تقبل أحداً من طلابها إلا عن طريق المدرسة الابتدائية حيث اللغة الأجنبية مادة أساسية في جميع سني الدراسة فيها، وفي إقفال أبواب المدارس الثانوية أمام طلاب المدارس الأخرى عدا الابتدائية مضيعة للتفوق والمتفوقين من أبنائنا الذين بدؤوا لسوء الحظ حياتهم التعليمية في مدارس التعليمين الإلزامي والأولي، وقضاء على ذوي الملكات الطيبة منهم وإهدار الكفايات لو استثمرت لجلبت كثيراً من الخير على مصر والمصريين. فما السر يا ترى في وجود هذا السد المنيع الحاجز للمتفوقين من طلاب التعليمين الإلزامي والأولي عن التعليمين الثانوي والجامعي!
هذا السد قد أوجدته السياسة العتيقة من عهد قديم. حتى لا يقوى على ارتقائه إلا العدد القليل من الذين كانت تعدهم المدرسة الابتدائية للعمل في دواوين الحكومة بدليل ذلك التقرير الذي رفعه سنة 1880 علي باشا إبراهيم ناظر المعارف إلى مجلس النظار (الوزراء) وقد جاء فيه:
(إن التعليم الابتدائي قليل الاتساع لأنه لم ينشر في أية جهة بين الأهالي ما خلا المحروسة. وهذا لا يسمح للمدرسة التجهيزية بانتخاب تلامذة نجباء ومستعدين للتعليم التجهيزي ويترتب على ذلك أنه لا يوجد إلا عدد قليل من التلامذة الضعفاء جداً الخارجين من الدراسة التجهيزية فتجبر المدارس العالية في أكثر الأحوال على قبول تلامذة لم يستوفوا الحالة التجهيزية اللازمة، ويستمر هذا الخلل عند خروج التلامذة بعد انتهاء مدة الدراسة، ودخولهم في الوظائف العمومية الخ.)
لهذا وجدت قديماً المدرسة الابتدائية إذن على غرار المدرسة الأوربية ولبس أبناؤها الملابس الأوربية، وتعلم أبناؤها اللغة الأوربية، وكانت فرنسية في بادئ الأمر، ثم انقلبت بعد الاحتلال إلى إنجليزية واستمرت إلى اليوم! كل ذلك في سبيل إعداد أبنائها لرغد العيش في وظائف الحكومة بين جدران الدواوين! فلم يكن إذن الغرض من وجودها تثقيف أبناء الشعب أو إعدادهم للحياة العامة، لأن المدرسة الشعبية أو الكتاب قديماً والمدرسة الإلزامية أو الأولية حديثاً هي التي تقوم بإعداد أبناء الشعب لحياة الشعب! وإذن فقد وجدت المدرسة الابتدائية بما فيها من ميزة وهي اللغة الأجنبية لتفصل طبقة الموظفين ولترفعهم إلى مكان خاص بل إلى مركز خاص يمتاز بميزات خاصة عن مركز أبناء باقي الشعب، فهي إذن السد المنيع بين أبناء الشعب وغوغائه وبين أبناء سادة الشعب وحكامه! وهي إذن السد المنيع بين الديمقراطية والأرستقراطية! فهل يصح أن يبقى هذا السد إلى اليوم بعد الوضع الذي أصبحنا فيه؟ هل يصح أن يبقى هذا السد بين أبناء أمة حطمت قيودها وقالت بملء فيها إنها أصبحت أمة ديمقراطية ينص دستورها على المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، وعلى أن الأمة مصدر السلطات؟ إلا إن بقاء المدرسة الابتدائية بعد هذا يعد مهزلة بين الديموقراطية والديموقراطيين إن كانوا جادين
(يتبع)
عبد الحميد فهمي مطر
استطلاع صحفي
مدرسة الهندسة التطبيقية
بمناسبة عيدها المئوي
لمندوب الرسالة
(ينتظر أن يتفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بتشريف العيد المئوي لمدرسة الهندسة التطبيقية وافتتاح مبانيها رسمياً في 28 أبريل الجاري. وقد أسسها المغفور له محمد علي باشا الكبير في مارس سنة 1839 وسماها مدرسة العمليات لتعد الطلبة للأعمال الصناعية التي تحتاج إليها البلاد. ولكن الزمن غدر بها إذ أقفل عباس باشا الأول جميع معاهد العلم وهي منها إلى أن أعاد فتحها سعيد باشا باسم مدرسة العمليات أيضاً. ثم تغير اسمها فأصبح مدرسة الفنون والصنايع، وتغير مرة ثالثة فأصبح مدرسة الهندسة التطبيقية)
خرساء تتكلم
في مواجهة المدخل الرئيسي لمدرسة الهندسة التطبيقية نافورة جميلة الصنع من حجر الجرانيت الأسود، وفوق الباب تاج أسود يضم بين ثناياه قطع مستطيلة من النحاس الأصفر يرى الناظر في وسطها أنواطاً يرجع تاريخها إلى سنة 1873 إذ أهديت إلى المدرسة من بعض المعارض الدولية. وعلى جانبي الباب مدفعان ضخمان يبدو عليهما القدم، ويظهر في بنائهما بساطة التركيب، ولونهما أسود أيضاً. فإذا سألت عن تاريخ هذين الأثرين أجابك محدثك:(رأيتهما عندما التحقت بالمدرسة سنة 1904). فإذا حاولت المزيد فلن تصل إلى نتيجة صحيحة. فالمدرسة قديمة العهد استنشقت النسمة الأولى للحياة في شهر مارس سنة 1839 فعمرها الآن مائة عام وإن كان عمر مبانيها بضعة أعوام
تدخلها فإذا هي بنت اليوم. فحجرات الدراسة فيها على أحدث طراز ومعاملها ومصانعها مجهزة بأحدث الآلات. ولكنك بين هذه المظاهر المتعددة تلمس القدم في كثير من حجراتها إذ ترى آثار الماضي في لوحة قضى الزمن على ذكرياتها، أو تجد صورة إسماعيل باشا وهي تحمل اسم صانعها وضريبة الزمن على ألوانها. وأقدم من هذا أن تجد لوحة باسم إبراهيم باشا، وكتب تحت الاسم 1204 - 1265.
فإذا سألت عن تاريخها قابلك محدثك بألفاظ تفهم منها:
(لا أعرف، فإذا رجعت إلى كتب التاريخ، وقابلت بين السنة العربية والإفرنجية وجدت 1204=1789، وسنة 1265 تقابل 1848 والأول هو تاريخ ميلاد إبراهيم باشا، والثاني هو تاريخ وفاته في نوفمبر من تلك السنة. فهل تشك بعد هذا في أنها لوحة تذكارية لتخليد ذكرى ذلك البطل الفاتح؟ وهلا تأسف بعد هذا أن تجد لوحة تذكارية تحتاج إلى ما يذكرنا بها؟ ولكنها ضريبة الزمن وضريبة حياة المكاتب التي يعيشها موظفونا بل ومعلمونا، أنستنا لا لوحاتنا التذكارية فحسب، بل أيضاً تاريخ هذه اللوحات فأصبح سرها في بطون المقابر بدل أن يحيا في أذهان الناس وقلوبهم. فهذه المواد الخرساء عاشت على رغم إهمالها فتكلمت عن ماضينا ونددت بحاضرنا إذ كشفت جهلنا الفاضح.
حياة عملية
والحقيقة أن هيئة التدريس بالمدرسة أجهدت نفسها لكشف تواريخ هذه الآثار، إلا أن كل من قابلناهم من طلبة المدرسة القدماء لا يذكرون من أمرها إلا أنهم التحقوا بالمدرسة فوجدوها. وهم يؤاخذون لأنهم تجاهلوها منذ ذلك التاريخ فلم يهتموا بأمرها ولم يسألوا عن سبب وجودها. ولو اهتم أحدهم بالسؤال عنها وقتئذ لكانت هذه الآثار أكثر أهمية مما هي الآن. فإن قيمة الأثر تزداد كلما زادت معلوماتنا عنه وتقل كلما قلت. وإذا كنت أحب أثراً فإني أحبه لأنه يرجع بي إلى الماضي فيعطيني صورة ذهنية لما كان يحدث في تلك الأيام سواء أكانت قريبة أم بعيدة.
ولعل أساتذة هذه المدرسة كانوا في شغل عن تتبع هذه الذكريات بما عهد إليهم من عمل. فالحياة في هذا المعهد خليط من النظريات العلمية والخبرة العملية. وهي تشغل في عهدها الجديد مساحة ثلاثين فداناً منظمة على أحدث نظام ومعدة بأحدث الآلات. ويمكننا أن نقسمها إلى ثلاث أقسام: الورش والمعامل وحجرات الدراسة. وقد أعدت جميعها على آخر طراز بحيث يتخرج الطالب من المدرسة وهو معد بكلا السلاحين العلمي والعملي.
ففي الورش يجد الطالب المجال متسعاً أمامه ليتقن الصناعة التي ارتضاها لنفسه. وفي حجرات الدراسة يجد النظريات العلمية التي يمكنه أن يستفيد منها في مهنته. وفي المعامل يجد الآلات الكيميائية والطبيعية معدة للبرهنة على النظريات التي لم تطبق بعد في الإنتاج
الصناعي كما يستطيع أن يجرب - إذا شاء - لينشر على الناس ما هو خير من الأساليب المستعملة في الإنتاج الصناعي الآن
مصنع مستقل
وفي تلك الورش يعمل الطلبة بأيديهم. ففي قسم العمارة يمسك الطالب بأدوات البناء ويقيم الحائط تبعاً للرسم المعطى له، فإذا كان تمرينه في عمل نقوش من الجبس أو المصيص قام بتلك العمليات بنفسه. وما يحدث في قسم العمارة يحدث في غيره من الأقسام، إذ يباشر الطلبة بأنفسهم تطبيق العلم على العمل، ولذلك يلبسون أثناء العمل في الورش ملابس خاصة وهي عبارة عن سترة بيضاء لتقي ملابسهم الاتساخ
وهذه الورش في مجموعها مستعدة لصنع أية آلة يطلب عملها ففي (ورشة السباكة) مثلاً يستطيعون تشكيل أية قطعة معدنية كما يريدون، والطريقة المتبعة لذلك أن يصنع للآلة رسمها بأبعاده ومقاطعه على الورق؛ ثم يوكل إلى طلبة اختصوا بصناعة النماذج الخشبية فيصنعون أدوات الآلة من الخشب بطريقة خاصة، فإذا انتهى نجار النماذج ذهبت القطع الخشبية إلى السباك فوضعها في نوع خاص من التراب بحيث يتشكل برسمها ثم ينزع الخشب ويصب في الفراغ المعدن المطلوب صنع الآلة منه
وتنتقل المواد بعد هذا إلى أقسام البرادة والخراطة وغيرها حيث تتولى تلك الأقسام تنظيف الآلات مما علق بها من زوائد معدنية، ثم تعد بما يتفق والرسم المطلوب. وعلى وجه الأجمال فإن جميع أقسام المدرسة تعمل في صناعة هذه الآلة لاختلاف فنونها وتركيبها، فهي تبدأ من المكتب حيث يضع المهندس رسمها الميكانيكي وتمر بأدوار عدة إلى أن تصل إلى وضعها النهائي الذي يعدها للاستعمال
وقد قامت المدرسة بصنع عدة آلات، ففي إحدى السيارات ركب الطلبة بدلاً من المحرك العادي آلة ديزل، وهم يقولون إن ذلك يوفر كثيراً من أثمان استهلاكها للوقود. فإن آلة الديزل تشتغل بالغاز الوسخ وفرق كبير بين ثمنه وبين ثمن البنزين. وهكذا كلما دخلت إحدى الورش شاهدت فيها شيئاً أصلياً من صنع طلبتها وحدهم ولذلك يفخرون به
فيللا ثمنها 800 جنيه
وأراد قسم العمارة أن يتساوى مع غيره من الأقسام من حيث ابتكار الأشياء المفيدة فوضع الطلبة والأساتذة رسماً لفيللا من طابقين يتكلف بناؤها 800 جنيه وتصلح لسكنى عائلة متوسطة، ويشتغل طلبة قسم العمارة في تشييدها في أوقات فراغهم وقد تم منها حتى الآن بناء الطابق الأول وينتظر عند إتمامها أن يتولوا تجهيزها بالأدوات الصحية وغيرها من الأثاث. ففي المدرسة ورشة نجارة كبيرة تصنع كثيراً من الأثاث، وقد شاهدت بعض المكاتب التي صنعها الطلبة لأساتذتهم فأعجبت بما هي عليه من متانة ودقة في الصناعة
وتحتل ورش المدرسة صفاً طويلاً يليه صف المعامل حيث توجد معامل الطبيعة والكيمياء والهيدروليكا وقسم مقاومة المواد وكل هذه المعامل مجهزة بالأدوات التي تيسر للطالب فهم النظريات العلمية المختلفة كما تعطيه صورة واضحة عن أكبر الأعمال الصناعية التي أسست إذ يحتوي على نماذج مصغرة لبعض هذه المشروعات
ويحتاج الطالب دائماً أن يعرف قوة احتمال المواد التي يشتغل بها ولذلك تجد في قسم العمارة آلة يمكن بواسطتها معرفة قوة احتمال مخلوط من الأسمنت. وفي قسم السيارات آلة يقول الاختصاصيون في المدرسة أنها الثالثة من نوعها وبها يمكن معرفة قوة فرامل السيارة ومقدار استهلاكها للبنزين. أضف إلى ذلك معملاً قائماً بذاته اختصاصه اختبار مقاومة المواد من ضغط وشد وانحناء
قاعة للسينما
ومدرسة الهندسة التطبيقية كما قلنا حديثة العهد بالتنظيم على الطرق الحديثة ولذلك تجدها معدة بقاعة للسينما حيث تعرض الأفلام العلمية التي تعطي للشاهد فكرة عن سير العلوم وعن تطورات بعض الصناعات. وتستعمل هذه القاعة للمحاضرات فيجتمع الأساتذة والطلبة لإلقاء بعض المحاضرات. وقد شاهدت في إحدى المرات ناظر المدرسة وهو يعرض على أبنائه الطلبة أن يبدوا آرائهم في كيف يحتفلون بمرور مائة عام على إنشاء مدرستهم فكانت الروح تدل على مدى الحرية الممنوحة لهم
فقد كان عدد الطلبة كثيراً جداً ضاق بهم المدرج على سعته فكان كل منهم يدلي بما لديه من الاقتراحات؛ وأخيراً زاد عدد الاقتراحات وتضاعف عدد المتكلمين، فاقترح عليهم ناظر
المدرسة أن يكتبوا ما يريدون. وبذلك ترك للطلبة أن يعدوا بأنفسهم الاحتفال المئوي لمدرستهم. وقد وكل للطلبة أنفسهم تنفيذ ذلك البرنامج وإظهار براعتهم في فن الصناعة والأعمال الإدارية مع إشراف بسيط من ناظر المدرسة الدكتور أمين سيد ومدرسيها
ويتعود الطلبة حياة الابتكار، فإذا دخلت قاعة الرسم شاهدت مشروعات كثيرة. فهذه لناد يقترح الطلبة إنشاءه وقد راعوا فيه أن يتناسب مع الغاية التي سينشأ من أجلها. ولذلك كان فيه قاعات كثيرة بعضها كبير والبعض الآخر صغير. وقد تجد اقتراحاً لتنظيم ميدان تتوافر فيه الأسباب الصحية مع جمال الذوق وإبراز سحر الطبيعة، فإن الطلبة يعدون الإعداد اللازم لأن يكونوا رجال عمل وأهل تفكير وابتكار وذوق حسن.
فوزي جبر الشتوي
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وفي يناير من السنة التالية صدرت من ثلاثة من الضباط على رأسهم احمد عرابي حركة أخرى كانت هي الجريئة حقاً، حركة جرت في أعقابها حركات فكانت بمثابة الشرارة التي أوقدت النار
نمى إلى عرابي، وهو في منزل أحد أصدقائه أن وزير الجهادية قد اعتزم عزله وزميله عبد العال بك حلمي، وعلم عرابي أن عدداً من الضباط في منزله ينتظرونه، فخف إليهم فوجدهم يعلمون ما يعلم فتشاوروا في الأمر، واختار عبد العال بك وعلي فهمي بك عرابياً رئيساً لهما ولمن يتبعهما من الضباط في حركتهم الوليدة التي دارت حول طلب عزل رفقي باشا من الجهادية ورفع المظالم عن رجال الجندية
ويذكر عرابي في مذكراته أنه بين للضابطين خطورة الحركة ولكنهما أصرا عليها فطلب إليهما أن يقسما له أن يخلصا النية، فأقسما. ولنا أن نتساءل هنا: لم اختير عرابي قائداً لهذه للحركة دون غيره، وقد كان فهمي على رأس حرس السراي وله صلات برجال الحاشية، ولم يكن عبد العال دون عرابي مرتبة وخبرة؟
إن اختيار رجل من الرجال دون غيره لقيادة حركة من الحركات أمر ينطوي لا ريب على معنى. وما ولدت الزعامات في الغالب إلا بهذه الطريقة. ففي ذلك الرجل توجد صفات يتميز بها من سواه فتجتمع عليه القلوب والأهواء في لحظة لا يكون للتنافس الشخصي فيها مجال. وهذا عندي خير مقياس للزعامة، وبخاصة إذا كان هذا الرجل المختار معروفاً من قبل لمن يختارونه فلا يكون إقبالهم عليه إعجاباً وقتياً لا يلبث أن يتبين خطأهم فيه.
ولن يشذ عرابي عن هذه القاعدة فإنما اختاره الضباط لما عرفوا فيه من صفات الجرأة والحماسة والإخلاص، ولما جربوه عليه من الصدق وحسن الطوية. هذا إلى أنه كان يفوقهم
من ناحية لا غنى عنها لزعيم من الزعماء ألا وهي فصاحة اللسان، فلقد كان هذا الرجل الذي جعل الجهل في مقدمة عيوبه أفصح الضباط لساناً. ولقد كانت الخطابة إحدى ملكاته حتى ليعد من أخطب رجال ذلك العهد لا في الجيش فحسب بل وبين المواطنين جميعاً
أعد الضباط عريضة بمطالبهم ووقع عليها عرابي وزميلاه وذهب ثلاثتهم فرفعوها إلى رياض باشا وإنهم ليعلمون ما كان ينطوي عليه مثل هذا العمل من جرأة في ذلك الوقت، وكان عرابي هو الذي يتكلم باسم زميليه وباسم الضباط جميعاً كما كان سعد يتكلم حينما ذهب مع زميلين له في مستهل الثورة الثانية إلى مقر المعتمد البريطاني يرفع مطالب المصريين عقب الهدنة
وكان رياض يكره سياسة تقديم العرائض مهما كان من عدالة المطالب، وكان يلقي في السجن أو يحكم بالنفي على من يخطون هذه الخطوات كما حدث للسيد حسن موسى العقاد فقد نفي إلى السودان لأنه انتقد إلغاء قانون المقابلة على الصورة التي جاءت بها لجنة التصفية وكما حدث لكثير غيره ممن أخرجوا من مصر بسبب آرائهم الحرة
وقابل رياض الضباط مغيظاً محنقاً وخاطبهم في كبرياء وغلظة كما يقول عرابي في مذكراته فقال لهم: (إن أمر هذه العريضة مهلك وهو أشد خطراً من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان)، وكان هذا الفتى قد نفي أيضاً لأنه طلب المساواة في المعاملة مع غيره من موظفي الديوان محتجاً على ما كان يجري من محسوبية، ذلك الداء الوبيل الذي لا نعرف متى تتخلص هذه البلاد منه!
أما عن فحوى العريضة فإن عرابي يذكر أنه قد طالب بعودة مجلس شورى النواب إلى جانب المطالب العسكرية، ومع أن أكثر المؤرخين يذكرون أن هذا الطلب لم يأت ذكره إلا فيما بعد. ولكن عرابياً يصر على دعواه في كل ما كتب من تاريخ حياته
على أن الأمر الذي غضبت منه الحكومة هو المطالبة بعزل عثمان رفقي فقد رأت في هذا الطلب نوعاً من التمرد فما دخل الجيش في سياسة الحكومة ليطالب بعزل وزير. وقد كانت الحكومة لا ريب محقة في هذا الغضب، بيد أنها من جهة أخرى لم تسلك إزاء هذه الحركة ما كانت تقتضيه السياسة الرشيدة، فكان عليها أن تبحث في مطالب الجيش فتجيب ما كان منها في جانب الحق ثم تقنعهم بعد ذلك بأن ليس من حقهم المطالبة بعزل رفقي
سكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط لسحب العريضة وهم يصرون عليها. وغضب توفيق أشد الغضب وأشار عليه المحيطون به باتباع العنف مع الضباط، ثم نمى إلى رياض أن سكوته قد يفسر بأنه ممالأة للجيش وعدم موالاة للخديو. ويقول مستر بلنت في مذكراته إن الخديو أراد أن ينتهز هذا الحادث للانتقام من رياض فيوقع بينه وبين رجال الجيش.
ولما فطن رياض إلى ما قد يفسر به سكوته وافق على محاكمة الضباط، ووقع الخديو على أمر بمحاكمتهم، ودعي وزير الجهادية الضباط الثلاثة إلى ديوان الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات وهناك ألقي القبض عليهم. . . وبذلك تفتتح لعرابي صفحة في سجل تاريخ مصر
وكان الضباط على علم بما دبر لهم. فلم يكن من العسير عليهم في مثل ذلك الموقف أن يدركوا ما عسى أن تبيته الحكومة لهم من كيد. ولقد قيل أن قنصل فرنسا كان على اتصال بهم فأخبرهم بما عقدت الحكومة النية عليه
واتفق ثلاثتهم مع فرقهم أن تذهب إليهم إذا تأخرت عودتهم عن ساعتين؛ ثم ذهبوا إلى حيث طلب إليهم أن يحضروا، فما كادوا يدخلون وزارة الجهادية حتى ألفوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الجركس فألقي القبض عليهم وسيقوا إلى السجن ثم إلى المحاكمة وقد انعقد لهم مجلس يحاكمهم برياسة عثمان رفقي باشا.
ويحسن أن نورد هنا ما وصف به عرابي موقفهم ساعتئذ قال: (ولما أقفل باب الغرفة تأوه رفيقي علي بك فهمي وقال: لا نجاة لنا من الموت وأولادنا صغار. ثم اشتد جزعه حتى كاد يرمي بنفسه في النيل من نافذة الغرفة فشجعته متمثلاً بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
…
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
…
فرجت وكان يظنها لا تفرج
وتمثل عرابي بأبيات أخرى نسبها إلى السيدة زينب رضي الله عنها إلى أن قال: (فلا والله ما كانت إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاى الحرس الخديو وأحدق رجالهما بديوان الجهادية وأسرع بعض الضباط والعساكر فأخرجونا من السجن، ففر ناظر الجهادية ورجال المجلس وغيرهم من المجتمعين وقصدوا جميعاً إلى سراي عابدين)
وإنما نورد ما ذكره عرابي لأنه من جهة يصور لنا جانباً من شخصيته وناحية من ثقافته ويرينا نزعة اتكاله على الله تلك النزعة التي سوف لا تنخلع عنه حتى بعد أن تنخلع عنه عزيمته في مأساة التل الكبير؛ ثم لأنه من جهة أخرى متفق مع ما يقول الرواة فلا ضير أن نورد القصة على لسانه
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
389 -
لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا
قال مالك بن أبي السمح: سألت ابن سريج عن قول الناس:
فلان يصيب وفلان يخطئ، وفلان يحسن وفلان يسيء، فقال:
المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسّن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النبرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات
فعرضت ما قال على معبد فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا
390 -
أحمد الله فقد نقهت
ابن الجوزي: مر غراب الماجن بسائل يقول: أنا عليل وأنا جائع!
فقال: احمد الله فقد نقهت
391 -
يوم الأربعاء
ياقوت: لما ولي الحسن بن زيد المدينة منع عبد الله بن مسلم ابن جندب الهذلي أن يؤم بالناس في (مسجد الأحزاب) فقال له: أصلح الله الأمير، لِمَ منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي قبلي؟
قال: ما منعك منه إلا يوم الأربعاء يريد قوله:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما
…
ينفك يحدث لي بعد النهي طربا
إذ لا يزال غزال فيه يفتنني
…
يأتي إلى (مسجد الأحزاب) منتقبا
يخبر الناس أن الأجر همته
…
وما أتى طالباً أجراً ومحتسبا
لو كان يطلب أجراً ما أتى ظهراً
…
مضمخاً بفتيت المسك مختضبا
392 -
حتى في القبور!!!
يحيى بن حكم البكري الجياني:
أرى أهل الثراء إذا توفوا
…
بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وتيهاً
…
على الفقراء حتى في القبور!
393 -
جهال الأطباء هم الوباء في العالم
في (الآداب الشرعية) لابن مفلح: ينبغي (للمرء) أن يستعين في كل شيء بأعلم أهله كما عليه نظر عقلاء الناس؛ لأن الأعلم أقرب إلى الإصابة. ولمالك في الموطأ: (عن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الجرحُ الدم، وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه، فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أيكما أطبّ؟ فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء). فأما الجاهل فلا يستعين به. قال ابن عقيل في (الفنون): جهال الأطباء هم الوباء في العالم، وتسليم المرضى إلى الطبيعة أحب إليّ من تسليمهم إلى جهال الطب
394 -
الأعميان الخبيثان. . .
ابن الجوزي: أخبرنا علي بن المحسن عن أبيه قال: أخبرني جماعة من شيوخ بغداد أنه كان بها في طرف الجسر سائلان أعميان، أحدهما يتوسل بعليّ والآخر بمعاوية، ويتعصب لهما الناس، ويجمعان القطع، فإذا انصرفا اقتسما القطع، وكان يحتالان بذلك على الناس
395 -
فينظر أيهدى له أم لا؟
في (كتاب الأم) للشافعي: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي إليّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليّ؟ فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيُهدى له أم لا؟
936 -
يا لون شعر الصبا
قال أبو بكر يحيى بن محمد الأنتقيري: كنا مع العجوز الشاعرة المعروفة بـ (ابنة ابن السكان) المالقية فمر علينا غراب طائر فسألناها أن تصفه فقالت على البديهة:
مر غراب بنا
…
يمسح وجه الربى
قلت له: مرحباً
…
يا لون شعر الصِّبى!
397 -
أتتكم شهود الهوى تشهد
دخل أبو القاسم نصر بن احمد الحميري على أبي الحسين بن المثنى في آخر حريق كان في سوق المربد، فقال له أبو الحسين المثنى: يا أبا القاسم، ما قلت في حريق المربد؟ قال: ما قلت شيئاً. فقال له: وهل يحسن بك وأنت شاعر البصرة - والمربد من أجل شوارعها وسوقه من أجل أسواقها - ولا تقول فيه شيئاً؟ فقال ما قلت ولكني أقول وأرتجل هذه الأبيات:
أتتكم شهود الهوى تشهد
…
فما تستطيعون أن تجحدوا
فيا مريديون ناشدتكم
…
على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صُعُداً نحوكم
…
فمن أجله أحترق المربد
وهاجت رياح حنيني لكم
…
وظلت به ناركم توقد
ولولا دموعي جرت لم يكن
…
حريقكم أبداً يخمد
الغرام الجديد
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
تفضلت فسألت مرة أو مرتين أو مرات عن سبب احتجابي عن قراء الرسالة، وكانت حجتي في الاعتذار أن كتاب (ليلى المريضة في العراق) لم يُبق من قواي ما أصلح معه لمقابلة الناس في جِدٍ أو مزاح، وقد تلطفت فقبلت عذر أخيك، وصفحت عن تقصيره إلى حين
فما رأيك إذا حدثتك بأني كنت في نشوة شعرية لم أصح منها إلا اليوم؟
كنت يا صديقي مشغولاً بنظم قصيدة (الغرام الجديد) وهي تقع في مائة بيت، وذلك الغرام هو يا صديقي نفحة من نفحات القاهرة في مطلع الربيع. هو ثورة وجدانية تعتاد من يفيق من غفوة القلب حين يتنسم أرواح الأزاهير على ضفاف النيل
أعاذني الله وإياك من غفوة العواطف، وحماني وإياك من الغفلة عن تنادي القلوب!
يا قلبُ هذا نعيمٌ
…
من الصفاء وليد
يا قلب هذا سعيرٌ
…
من الغرام جديد
لقِيتُه وفؤادي
…
غافٍ قَريرُ السرائر
فعدتُ أحيا بروحٍ
…
مشرّد الأنس حائر
مَن مُخبري عن نصيبي
…
من ظلّ هذا النعيم؟
من مخبري عن مصيري
…
في لفح هذا الجحيم؟
كيف انتهينا؟ أجبني
…
يا قلب كيف انتهينا؟
أللنعيم وصلنا؟
…
أم في الجحيم ثوينا؟
وبالوصال اصطباحُكْ
…
يا قلبُ أم بالصدود؟
وبالسهاد اغتباقك
…
يا قلب أم بالهجود؟
يا قلبُ طالت شكاتُكْ
…
من الخدود الأسيلة
فكيف تُرجَى نجاتُك
…
من العيون الكحيلة؟
أحبُّ نور الضلال
…
في ضافيات الغدائر
ويزدهيني الخبال
…
في غافيات النواظر
رباهُ ماذا تريد
…
من فتنتي بالعيون؟
رباهُ ماذا تريد
…
من محنتي بالشجون؟
أأنت يا ربّ راضٍ
…
عن حيرتي في الهُيام
إن كان هذا فإني
…
إذاً نبيُّ الغرام
عصرت راح غرامي
…
من زاهرات الخدود
وكان نُقل مدامي
…
من ناهدات النهود
يطوف بالحسن روحي
…
في صبحهِ والمساء
فيجتني من شَذاهُ
…
وشوكهِ ما يشاء
عن أكؤسي ودموعي
…
روى رحيقُ الخلود
عن مهجتي وضلوعي
…
رَوَى سعيرُ الوجود
عن شقوتي في هيامي
…
رَوَى ظلامُ الليالي
وعن صفاء زماني
…
رَوَى صفاء اللآلي
أنا الشقيُّ السعيد
…
في لوعتي وشجوني
أنا الغويّ الرشيد
…
في صبوتي وفتوني
من الهوى والأماني
…
ومن زهور الجنان
ومن فنون المعاني
…
رسمتُ وجه الزمان
لولا غنائي وشعري
…
لمات رُوح الوجود
لولا بياني ونثري
…
لضاع سرُّ الخلود
في الثغر والصبح معنىً
…
لمن أُحبُّ شرحتُهْ
في الحِبر والليل سرٌّ
…
أظنني قد فضحتهْ
السحرُ يأخذ عني
…
عِلم اختدِاع النفوس
والخمر تنقل عني
…
عِلم انتهاب الرءوس
ما السيف في يد عاتٍ
…
مضلَّل الرأي جاني
يوماً بأفتك مني
…
إذا امتشقت بياني
الغيُّ لو شئتُ ركنٌ
…
من الرشاد ركينُ
والشكُّ لو شئتُ حصنٌ
…
من اليقين حصينُ
للعقل عندي فنون
…
وللجنون مذاهب
عندي بياض الصباح
…
عندي سواد الغياهب
إن كان في الناس قومٌ
…
رأوا هلال السماء
ففي سرائر قلبي
…
والروح ألف ذُكاء
ما عندكم؟ حدثوني
…
يا أخوتي في الجنون
فبي غرامٌ وشوقٌ
…
إلى حديث الفُتون
من الذي طاف منكم
…
ليلاً بتلك المناسك
ومن هداه هواهُ
…
إلى ضلال الزمالك؟
في ذلك الدوح غصنٌ
…
لولا العفافُ هصرتُهُ
في ذلك الروضُ زهرٌ
…
لولا الحياء قطفْتُه
أباحني في التداني
…
والبعد عزّ الفضيحة
وذاك لو يرتضيهِ
…
في الحبِّ خيرُ مَنِيِحه
لقيتُهُ ذات يومٍ
…
في العصر عند الجزيرة
والنيل سكرانُ صاحٍ
…
مثل العيون الكسيرة
لقيتُ من لو دعاني
…
إلى الفداء فديتُهُ
لقيتُ من لو دعاني
…
بعد الممات أجبتُهُ
لقيتُ فيه وجودي
…
وكان بالصحو زالْ
فعدتُ نشوانَ حيَّا
…
أعيش عيش الضلال
رأيتُ حين رأيتُهُ
…
ما سوف يجني الصفاء
فصاح روحيَ يهذي
…
ما الحبُّ إلاَّ بلاء
أذاك نورٌ جديد
…
يلوح في قلب شاعر
أم ذاكَ روحٌ مَريد
…
يصول في قلب ساحر
كان الفؤاد استراح
…
من فاتكات الشجون
فمن إليهِ أتاح
…
كيد الهوى والفتون
أفي ظلال الجزيرة
…
وفي شِعاب الزمالك
يهيم روحي ويشقى
…
ويلاهُ مما هنالك!
يا ليتني ما رأيتُكْ
…
يا أجمل الحافظين
يا ليتني ما عرفتُكْ
…
يا أقبح الغادرين
ما أنت والزهرات
…
على خدود الملاح
يا لوعتي في المساء
…
وفتنتي في الصباح
أثرتَني للصِّيال
…
يا أُقحُوان الرياض
وهجِتني للقتال
…
يا أُفعُوان الغياض
أأنت ترمي وتمضي
…
إلى رِحاب الخلاص
غرتْك نفسُك فاعلمْ
…
أن الجروحَ قصاص
في لحظ عينيك نبلٌ
…
وفي عيوني نبال
ونظرةُ الليث قيدٌ
…
لألفِ ألفِ غزال
حاول خلاصك واسلُكْ
…
إلى النجاة المذاهب
فلن يفوتك سهمي
…
ولو علوتَ الكواكب
الرأيُ، الرأيُ عندي
…
إذا نشدتَ الأمان
أن تستحيل نسيماً
…
ونفحةً من حَنان
عندي وفي ظل حبي
…
تحسُّ روح الوجود
وفي ضريم غرامي
…
ترى شُعاع الخلود
أنا النجيُّ القريب
…
من القلوب الشوارد
أنا الظلوم الحبيب
…
إلى الصدور النواهد
رباهُ ما الصادحات
…
من ضاحكات الأماني
رباهُ ما النائحات
…
من شاديات المثاني
رباه ما الشارقات
…
من النجوم الثواقب
رباه ما الغاربات
…
من الظنون الكواذب
رباه كيف تراني
…
وكيف حاليّ عندك؟
هل كنت في كل حالٍ
…
إلا فتاك وعبدك؟
الكون، ما الكون؟ قل لي
…
يا مُبدعَ الكائنات
هل كان إلا مَراحاً
…
لأنفُسٍ حائرات؟
أريتَنِي في هواك
…
ما يُوحش الصابرين
فهل أرى من نداك
…
ما يؤنس الشاكرين
رباه أنت الأمين
…
على خفايا الغيوب
فهل تكون المُعين
…
على مآسي القلوب
خاصمتُ فيك أناساً
…
حجبتَهم عن جمالِكْ
فأرجفوا بي وظنوا
…
أني ضللت المسالَك
قلبي وعقْلي وروحي
…
نسائمٌ من شذاك
فهل يكون ضلالي
…
إلا بقايا هداك
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
رسالة العلم
الأشعة الكونية
للدكتور محمد محمود غالي
(تحجب ورقة رقيقة أشعة الشمس عن أعينا ولا تحجب كتلة من الرصاص سمكها بضعة أمتار الأشعة الكونية التي تخترق أسقف منازلنا أينما وجدت وأجسامنا أينما تكون)
تحدثنا عن نملة افترضنا أنها تتأمل خرجت لأمل مرة في حياتها من مكمنها، فوجدت نفسها بطريق المصادفة في سرادق تكسو أرضه أبسطه وتعلوه أنوار ويؤمه كثير من الزائرين. انطفأت الحياة فيها قبل أن تتاح لها الفرصة لتعرف ما عسى أن يكون في الوجود غير ما يجول بداخل السرادق الفسيح، وذكرنا أن الدنيا عند هذه النملة فضاء تضيئه أنوار وتحيط به أقمشة وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل آيات، ونادل يتحرك بين الحاضرين
دخلت السرادق نملة أخرى، ظلت تسير على الأبسطة وتحت الأنوار وتتابع السير في مأمن من النادل والفقيه، وعوضاً عن أن تقضي نحبها اهتدت إلى كومة الرمل التي خرجت منها الأولى وصادفت داخل الكومة إحدى بنات جنسها تتأمل عالمها الذي تراه لأول مرة من ثقب السجاد، هذا العالم الذي لازال ينحصر عندها في سرادق وفقيه ونادل وأنوار وزائرين
تحدثت الزائرة إلى جارتها: لا تظني أن الدنيا هي هذا السرادق المحدود، فقد رأيت رأى العين قبل الدخول فيه قاطرة يتصاعد الدخان منها، ورأيت فريقاً من بني الإنسان يجتمع في مركبات تجرها القاطرة، وعند ظني أنهم اجتمعوا لغاية واحدة، هي أن يصلوا جميعاً إلى مكان معلوم، يغلب على ظني أنه بعيد جد البعد عنا، فقد كانت القاطرة تنهب الأرض بسرعة تختلف كثيراً عن سرعة إخوانهم الراجلين
شد ما تختلف هذه المعلومات الجديدة لدى النملة التي تتأمل، وشد ما تختلف هذه الصورة الجديدة للدنيا عندها، فهذه القاطرة وهذه السرعة طفرة في معارفها، لم تخطر لها على بال
في العلوم وثبات تحدث في فترات بعيدة من الوقت، تُعد للإنسان كهذه المعارف بالنسبة للنملة
عندما اكتشف رنتجن في سنة 1895 الأشعة السينية كانت هذه الأشعة وثبة في العلوم لم
يسبق للناس عهد بها. وعندما وفق (بكارل وكيري لاكتشاف المواد المشعة كالراديوم، ظن فريق من الناس أن طاقة هذه الأشعة الجديدة التي تزيد مئات وألوف المرات على كل ما نعهده من طاقة وإشعاع، ستكون نهاية ما نعرفه من الغرائب، ولكن عندما اكتشف العلماء، وفي مقدمتهم العالم هيس الأشعة الكونية التي تزيد طاقتها آلاف المرات على طاقة إشعاع الراديوم، أيقنا أننا لا زلنا في مهد الطفولة في العلوم بالنسبة لما يخبئه لنا القدر من معارف يتضاءل إزاءها كل ما بلغناه
هذه الأشعة الكونية التي تتصل بصميم العلوم الطبيعية الحديثة تنبئنا بأغرب ما نعرف من المعلومات عن الكون الذي نعيش فيه. وقد شَغَلتُ نفسي بموضوعها في السنين الماضية عندما كانت موضوع رسالتي الثانية، للحصول على دكتوراه الدولة في العلوم من السوربون. وإنه ليسرني أني حاضرت عنها الأسبوع الماضي فريقاً من طلبة كلية الطب في جمعيتهم العلمية كما سأحاضر عنها جمعاً من زملائي في جمعية المهندسين الملكية في يوم الخميس 4 مايو القادم. وهأنذا أحاول أن يقف قراء الرسالة في مصر والبلاد الشرقية على أغرب ما يعرفه العلماء اليوم، فأحدثهم عن موضوع بات يشغل بال الكثيرين منهم، وغايتي أن أعطي القارئ لمحه سريعة عن الحقائق المعروفة بصدد هذا الموضوع، وعن التطورات التي تناولته، فيلم بموضوع تزداد أهميته كل شهر عن سابقه، ويهتم له كثير من الباحثين في كل أنحاء المعمورة، نذكر منهم بلاكت في إنجلترا وكونتون ومليكان بأمريكا، ورُوَّسي وتلميذه بيندتي بإيطاليا، وزميليّ بْيِير أوجبيه ولبرانس رينجيه بفرنسا، وأخيراً العالم الإيطالي فرمى الحائز على جائزة نوبل للطبيعة في ديسمبر الماضي
ربما كان وصف هذه الأشعة بالكونية أقرب للواقع، فسوف نرى أنها لا تمت إلى مجموعتنا الشمسية بشيء، بل ربما لا تمت لعالم المجرة المكون من حوالي مائة ألف مليون نجم، والتي شمسنا إحدى نجومه، بأي صلة. وربما كان وصفها (بالأشعة النافذة) قريباً للواقع أيضاً، لأنها تمتاز بقوة اخترقتها العجيبة للأجسام، فبينما نستطيع عندما نتحول في الخلاء أن نحجب أشعة الشمس بقطعة رقيقة من الورق، فإن أسقف بيوتنا لا تكفي لتمنع هذه الأشعة من اختراق منازلنا فحسب، بل أجسامنا بعدها لا تكفي لذلك. وبينما لا تنفذ الأشعة
السينية (أشعة إلا في بضعة مليمترات من المادة الصلبة، كما لا تخترق أشعة الراديوم سوى بضعة سنتيمترات مثلاً منها، فإن كتلة من الرصاص يبلغ سمكها متراً لا تحجب سوى نصف الأشعة الكونية. وإنه لا تكفي أحياناً كتلة من الرصاص سمكها حوالي عشرة أمتار لكي تحجب كل جسيمات هذه الأشعة. وسنرى كيف يسجل العلماء على الورق الحساس، مسار جسيمات هذه الأشعة العجيبة بعد اختراقها كل هذه المادة، وكيف ابتكروا جهازاً ينذر بسماع كل جسيم يمر من هذه الجسيمات النافذة والسريعة التي تمطرنا بها السماء والتي لا تمت لعالمنا بشيء
في محاضرة للعالم الشاب بيير أوجيه ألقاها في جماعة العقليين في باريز سنة 1934 عن الأشعة الكونية سمعت لانجفان العالم المعروف باكتشاف للأيونات الكبيرة وباكتشافه طريقة لمعرفة أعماق البحار بواسطة الموجات الصوتية، يقول مقدماً (أوجيه):
(إن الأشعة الكونية موضوع الأسرار والعجائب فهي تخترق أجسامنا طُرّا ولا زلنا عاجزين عن أن نعرف مصدرها أو أثرها علينا)
هذا ما يَجْهَرُ به (لانجفان) العالم الكبير؛ وليس ما يجهر به لويس دي بروي (العالم الشاب المعدود اليوم من أكبر أساطين العلماء) في تقدمة كتاب زميلنا (لبرانس رنجيه) متكلما عن الأشعة الكونية بأقل شأناً من ذلك. يقول دي بروي:
(أي ثروة عظيمة امتازت بها العلوم الطبيعية منذ بضعة سنوات، وأي باب هام وجديد في العلوم لا زال يدخر لنا بلا شك مفاجآت أخرى عجيبة ونادرة)
ويكفي، لمعرفة موضوع الأشعة الكونية، أن يذكر القارئ أن المؤتمر الدولي للعلوم الطبيعية الذي انعقد في لوندرة سنة 1933، حصر دراسته في ثلاث مسائل:
الأولى: الحالة الصلبة
الثانية: الاكتشافات الحديثة في تهدُّم المادة وتحول العناصر بعضها إلى بعض
الثالثة: الأشعة الكونية.
تختلف طاقة الأشعة الكونية أو النافذة كما قدمنا عن طاقة الأشعة الراديومية. فبينما لا تتجاوز طاقة أشعة الراديوم عشرة ملايين إلكترون فولت. تبلغ طاقة الأشعة الكونية مئات بل ألوف الملايين الإلكترون فولت، وهذه الطاقة تجعلنا في الواقع إزاء ظواهر تختلف
كثيراً عن الظواهر التي اعتدناها.
على أن ما يجعل الأبحاث الخاصة بهذه الأشعة تختلف عن كل ما عداها من الأبحاث العلمية: هو عدم الجزم بمعظم النظريات الخاصة بها حتى الآن. فمعلوماتنا ما زالت لا تُجيز معرفة خواص إشعاع له مثل هذه الطاقة، حتى أنه لا يجوز لنا أن نُعامل هذه الظواهر بالطرق المعروفة في الضواهر الطبيعية الأخرى، فمثلاً لا يجوز لنا أن نجزم بأن طاقة هذه الأشعة تتناسب مع قوة اختراقها للمواد. ومما يزيد في صعوبة دراسة هذه الأشعة العجيبة افتقارنا إلى نظريات معقولة بصددها؛ وليس الأمر أن لدينا من النظريات ما نُفاضل بينها ونَتخير الأوفق منها، بل إنه ليس لدينا نظريات معقولة إطلاقاً. حتى أن بعض العلماء يميل إلى اعتبار الأشعة الكونية حالة علمية جديدة، تختلف قوانينها عن حالة العالم، أو الكون الذي نعيش فيه اليوم؛ وإنه ليس من المحال أن تكون هذه الأشعة بقايا (أركيولوجية) ترجع إلى تاريخ بعيد جداً في الوجود، يقدر من السنين بالآلاف من الملايين، كانت الدنيا فيه أحدث عمراً، وكانت تختلف الطاقة والقوى والقوانين كل الاختلاف عن عهدنا بها اليوم
على أننا ندع مؤقتاً فكرة العلماء هذه، ونسير بالقارئ أولاً إلى التعرف عن الناحية الشَّيْئِية أو الفعلية عن هذه الأشعة.
ثلاثة أمور أدركها العلماء، وعرفوها في الظروف العادية، خاصة بهذه الأشعة:
الأمر الأول: تصل لنا جسيمات صغيرة مكهربة كأنها قذائف وتخترق أجسامنا بسرعة كبيرة، وقد دلت عليها مسارات مستقيمة هي أثر لعملية التأيين الحادثة من مرور هذه الجسيمات
الأمر الثاني: عندما تلتقي هذه الجسيمات السريعة بالمادة، وبالأحرى بكتلة هامة منها كقطعة سميكة من الرصاص، تظهر في المادة حزمات لجسيمات أخرى مثل نيترونات أو بوزيتونات أو ذرات ثقيلة، تقذف من المادة نفسها بعيدة عن مركزها الأصلي بسبب مرور جسيمات هذه الأشعة فيها.
الأمر الثالث: يحدث كل هذا، أي تصل هذه القذائف، ويقع هذا التخريب في المادة، في أي زمان ومكان على سطح الأرض تقريباً بالنسبة ذاتها، فترانا معرضين لفعل القذف المستمر
بمعدل مقذوف في كل دقيقة على كل سنتيمتر مربع في الوضع الأفقي من سطح الأرض؛ فمثلاً تستقبل راحة اليد (باعتبار مساحتها حوالي 60 س م2) مقذوفاً في كل ثانية، ينفذ منها كما تنفذ الرصاصة من قطعة من الكارتون، وعلى حد تقدير روسي أستاذ بادو، تُضرب الأرض بمعدل مقذوف واحد في كل ثانية لكل ديسمتر مربع من سطحها.
يعترضنا بعد هذا الوصف الموجز مسألتان:
الأولى: ما اثر هذه المقذوفات على المادة التي تقابلها؟
الثانية: ما هي طبيعة وأصل هذه القذائف؟
والمسألة الأولى تخص فيزيقا النواة، والثانية تخص الفيزيقا الأرضية، وكلاهما موضوعان حديثان لهما خَطَرهُما في العلوم الطبيعية ويختلفان عن الموضوعات العادية، وذلك بصغر الظاهرة المراد قياسها ودقة التجارب الخاصة بهما، وخطورة الرحلات المتعلقة بهما، سواء ما كان منها في الجو أو على قَمِم الجِبال أو في أعماق البحار؛ كذلك مهارة التحليل العلمي وعظمة الاستنتاج وقوة الاستقراء. كل هذه تجعل من الموضوع بالنسبة لنا موضوعاً يشبه موضوع القاطرة بالنسبة للنملة التي افترضنا أنها تتأمل: وهو ما أود أن يشعر به القارئ في مقالاتنا القادمة
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
اكتشاف أشعة جديدة
اكتشف الأستاذ ألفريد توما مدير معهد الشرق - أشعة ايثيرية واصله إلى أرضنا من مصدر الكون الأعلى وقد ألقى عنها محاضرة بالحفلة التي أقيمت بالدار الماسونية الكبرى مساء يوم الخميس 30 مارس سنة 1939 حيث تكلم عن حياتنا القادمة في العالم الأيثيري وعن مصدر الأشعة الأيثيرية التي اكتشفها وقد اثبت منافع اكتشافه للطب في مختلف الأمراض كالروماتزم، والشلل الحديث، والتهاب المفاصل، والربو، وكثير من الأمراض الصدرية؛ فعرضت عليه في نفس الجلسة مرضى بحالات مستعصية ومزمنة فأتت في الحال بنتائج حسنة كانت موضع إعجاب ودهشة الحاضرين من الأطباء والخبراء وضباط البوليس وأساتذة المحفل الماسوني وغيرهم، مما حمل الكثيرين للتوجه لإدارة معهده الكائن بشارع الخليج المصري 719 بغمرة لتحقيق بعض التجارب في حالاتهم المستعصية، ومما يؤيد هذا توقيعات بعض الحاضرين من ذوي الحيثيات والشخصيات البارزة:
الدكتور أيفانوف، الدكتور سليم إبراهيم، اللواء علي باشا شوقي، القطب الأعظم، طه أفندي السيد (الضابط)، الأستاذ نسيم فهمي ميخائيل (مدير كلية أكسفورد)، الأستاذ عباس غالب (المدرس)، الأستاذ نصيف ميخائيل (المحامي)، محمد بك سعيد هيبه (مفتش عام مصلحة التلغرافات)، الأستاذ سعيد بخيت (الخبير بالمحاكم الأهلية)
ما هي الحياة وكيف ظهرت على الأرض؟
غريزة الخير والشر
وكيف نشأت في الإنسان والحيوانات الاجتماعية؟
للأستاذ نصيف المنقبادي
تتبعت بإمعان المقالات الممتعة التي يتحف بها العالم الأخلاقي المحقق الأستاذ محمد يوسف موسى قراء الرسالة. ولكني رأيت فيها المفكرين والفلاسفة حيارى لا يدرون كيف يعللون قيام الأخلاق أو الغريزة الأخلاقية في الإنسان تعليلاً صحيحاً، وهم يتخبطون في البحث عن مصدرها الحقيقي، شأن كل تحقيق لا يستند إلى العلم ولا يدخل في حسابه نواميس الطبيعة وفعل العوامل الطبيعية ولا يقوم على المشاهدة والاختبار. وقديماً كانت المذاهب
التي لا تستند إليهما، بل الفلسفة كلها (عدا الفلسفة اليونانية وفلسفة ابن رشد المأخوذة عنها) حجر عثرة في سبيل تقدم العلم، وهو - أي العالم - لم ينهض نهضته العظيمة الحالية إلا حينما تحرر من تلك المذاهب القديمة وأساليبها العقيمة البالية ووقف أمام الطبيعة يستقصي منها رأساً النواميس التي تدير الكون بأسره بما فيه كرتنا الأرضية المتواضعة، وما عليها من ظواهر ومواد متنوعة، منها الكائنات الحية والبشر وخواصها وتفاعلاتها وطبائعها منفردة ومجتمعةً
لهذا رأيت أن أبين هنا رأي علم البيولوجيا في الأخلاق باعتبارها ظاهرة طبيعية قائمة في الإنسان وفي الحيوانات الاجتماعية الأخرى كالنمل وغيره
وفي الوقت نفسه سيأتي هذا البحث مكملاً لما جاء في المقالات الأخيرة التي نشرناها على صفحات الرسالة عن وحدة الكائنات الحية (بما فيها الإنسان) والجمادات واشتقاق الأولى من الثانية وكيف أنه لا يدير الأحياء ولا يعمل فيها إلا النواميس الطبيعية، وأن جميع ظواهر الحياة حتى التفكير والغرائز (ومنها الغريزة الأخلاقية التي سيأتي الكلام عليها) والقوى العقلية على العموم ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء أو بالأحرى الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء كما شرحنا ذلك كله بالتفصيل في مقالاتنا الأخيرة.
الحياة الاجتماعية منشأ الغريزة الأخلاقية
كان أجدادنا البعيدون اللذين تسلسلنا منهم يعيشون فرادى في الغابات يتسلقون أشجارها ليقتاتوا ثمارها، ثم في المغاور والكهوف في العصر الجليدي الذي دام نحو مائة ألف سنة، فكان الواحد منهم عرضة لجميع أنواع المهالك كهجمات الحيوانات المفترسة لا يستطيع أن يردها بمفرده، كما أنه كان يعجز عن القيام بالصعب من الأعمال في سبيل الحصول على غذائه كصيد فريسة كبيرة مثلاً، أو في سبيل تهيئة مأوى صالح له
ولكنهم لحظوا، مع مرور الزمن، أنه كلما سار فريق منهم مجتمعاً سهل عليه التغلب على العدو المهاجم واستطاع القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً
وهكذا دلتهم خبرتهم شيئاً فشيئاً مدة ألوف السنين على أن بقاءهم مجتمعين أجدى عليهم وأصلح. وهذا هو منشأ الحياة الاجتماعية وأول صورة من صورها
غير أن اجتماعاتهم هذه كانت في بادئ الأمر قصيرة الأجل لأن الواحد كان يبطش بالآخر
كلما سنحت له الفرصة ليستولي عنوة أو خلسة على إناثه أو ما يكون قد حصل عليه من فريسة أو غذاء أو مأوى أمين، فلا تطيق الجماعة الحياة المشتركة، ولا يلبث أفرادها حتى يتفرقوا تخلصاً من اعتداء بعضهم على بعض. وحينئذ يشعر كل منهم بضعفه وهو منفرد أمام الأخطار التي تهدد حياته في كل حين وأمام الصعوبات التي يلاقيها في سبيل الحصول على غذائه
وهنا تدعوهم الظروف الطارئة مرة أخرى إلى مقاومة عدو قويّ أو زحزحة صخرة ضخمة، أو مهاجمة فريسة كبيرة، ثم يتشتتون، ثم يجتمعون، وهكذا. وفي كل مرة يزدادون اقتناعاً - أو بعبارة أصح - يزدادون شعوراً بفوائد الحياة الاجتماعية ومزاياها لكل واحد منهم
وأخيراً فطنوا إلى أنه لا بد لبقائهم مجتمعين من اتباع بعض قواعد كانت في أول الأمر على أبسط صورها مثل احترام حياة الغير وإناثه وملكيته. وهذا هو بدء ظهور الأخلاق بين أفراد النوع الإنساني، وهي كما ترى وليدة المنفعة - منفعة الجماعة وبالتالي منفعة كل فرد منهم على حدة - فمنفعة الجماعة أو الهيئة الاجتماعية هي أساس الأخلاق، فهي التي دعت إليها وحملت الناس على اتباعها والتحلي بها، لأن الحياة الاجتماعية التي اقتنع بنو الإنسان بفوائدها وجنوا ثمارها لا بدّ للمحافظة عليها من احترام حياة الغير وملكيته وغير ذلك من القواعد التي سُمَّيت بالأخلاق، وإلا اضطر كل فرد أن يهرب من غيره فتضيع عليهم تلك المزايا، مزايا الحياة جماعة
وعلى هذا النحو تكوّنت الجماعات القليلة العدد ثم العشائر ثم القبائل ثم الشعوب. وكلما زاد ارتباط الأفراد وعاشوا مجتمعين تقدمت الروح الاجتماعية أو روح التضامن وارتقت الأخلاق واتسعت قواعدها ورسخت أصولها في النفوس إلى أن أصبحت غريزية في الإنسان أو كادت. ذلك لأن كل صفة مكتسبة تصبح غريزةً مع الاستعمال والاعتياد ومع انتقالها بالوراثة من جيل إلى جيل ومن نسل إلى نسل. وهذه هي ماهية الغريزة كما عرفها هربرت سبنسر وإدمون برييه وغيرهما من علماء البسيكولوجيا والبيولوجيا. فإذا درّبنا مثلاً الكلاب العادية على الصيد وفعلنا هذا مع ما يتعاقب من نسلها فإن الأمر ينتهي بنا إلى أن نحصل على نسل من الكلاب يعرف بغريزته أساليب الصيد ومقتضياته بلا أي تدريب.
وما كلاب الصيد المعروفة الآن بهذا الوصف إلاّ كلاب عادية تدرّب أجدادها على تلك الصفة إلى أن أصبحت غريزة فيها
ومن أهم العوامل التي قربت بين أفراد النوع الإنساني في بادئ الأمر ظرف طارئ طبيعي محض هو قيام العصر الجليدي الأمر الذي اضطر أفراد الإنسان أن تلجأ إلى المغاور والكهوف لتتقي البرد القارس الذي اشتد في ذلك العصر البعيد. ونظراً لأن عدد تلك الملاجئ كان محصوراً عاشت الناس فيها بطبيعة الحال جماعات جماعات. وإلى ذلك العصر يُعزى تعلم الناس تغطية أجسامهم بجلود الحيوانات الأخرى ليحموا أنفسهم من البرد الشديد. فترتب على ذلك من جهة قيامُ غريزة الحياة فيهم، ومن جهة أخرى زوال معظم الشعر الذي كان يُغطي أجسامهم
وحين وصل النوع الإنساني إلى درجة تذكر من التفكير نشأت الأنظمة السياسية البسيطة والشرائع الأولية فزادت في تقريب الناس بعضهم من بعض، وتوثيق عرى الروابط الاجتماعية بينهم، ونظمت قواعد الأخلاق ورغّبت الناس فيها بما صورته لهم من العقاب لمن خالفها والثواب لمن اتبعها
ومن الأسباب التي ساعدت أيضاً على ربط الناس بعضهم ببعض التجارة والمعاملات وتبادل المحصولات والصناعات بين الأفراد والجماعات
ومن العوامل القوية في تحضير الجماعات البشرية وتمدينها ووضع حد لحالة البداوة والتنقل، الزراعة وما تستوجبه من البقاء في الأرض لرعاية المزروعات وجني محصولاتها. ولا يفوتني أن أنوه هنا بفضل نهر النيل العظيم وفيضاناته السنوية وما يعقب كل فيضان من خصوبة في الأرض لا مثيل لها، وأن بعض علماء الاجتماع يرى أنه هو الذي علم الناس الزراعة، ولذلك كانت مصر منشأ المدنية وأصل الحضارة في العالم
ثم ارتقت الحياة الاجتماعية فنشأت فوق الغريزة الاجتماعية (التي بين مظاهرها القومية أو الوطنية) عاطفة جديدة في الأمم الراقية هي عاطفة الإنسانية أي حب مجموع البشر بلا تمييز بين الأجناس والملل، كما وجدت فوق القواعد الأخلاقية الأصلية التي أصبحت غريزية أو كادت على الوجه المتقدم بيانه، ما يسمونه بآداب السلوك وقواعد التربية وحسن المعاملة
وبالجملة فإن الأساس العلمي الصحيح للغريزة الأخلاقية أو غريزة الخير والشر إنما هو المصلحة - مصلحة المجموع قبل كل شيء - وعلى هذا يكون التعريف الطبيعي للفضيلة أنها كل ما يعود على المجتمع الإنساني بالخير، والرذيلة كل ما يلحق به من الضرر. وفي مصلحة المجموع مصلحة كل فرد على وجهها الصحيح كما تقدم بيانه
على أن الغريزة الأخلاقية قد رسخت الآن في نفوس الأمم المتمدينة وعلى الأخص في شمال أوربا، وتجردت في الظاهر من صفتها المصلحية أو النفعية إلى حد أن أصبحت تلك الشعوب تحب الفضيلة لذاتها وتمقت الرذيلة وتنفر منها لأنها رذيلة ليس إلا
وليس النوع الإنساني هو النوع الاجتماعي الوحيد بين الحيوانات، فإنه توجد أنواع أخرى أعرق منه في الحياة الاجتماعية وأقدم مثل أنواع النمل التي تغلبت فيها الغريزة الاجتماعية وبالتالي الأخلاقية على الفردية أو غريزة حب البقاء. فترى أفراد تلك الأنواع تقوم بأشق الأعمال مثل حفر السرادب تحت الأرض، أو البحث عن الغذاء، ونقله المسافات الطويلة وادخاره لمصلحة المجموع. وهي تفعل هذا في نشاط، وبمحض إرادتها دون أن يأخذها الكلل أو الملل، ودون أن يكون عليها رقباء منها يدفعونها إليه. بل هي الغريزة الاجتماعية، وما يتبعها من الغريزة الأخلاقية، التي تحملها على ذلك. وكثيراً ما تضحي أفراد النمل بنفسها، وتقدم حياتها عن طيب خاطر إذا ما دعت مصلحة الجماعة إلى ذلك، وهي تتحلى بهذه الفضائل الحميدة بفطرتها الغريزية نتيجة حياتها مجتمعةً مدة ملايين السنين منذ أوائل العصر الثاني من الأعصر الجيولوجية.
أما النوع الإنساني فلم تتمكن فيه بعد الغريزة الاجتماعية والأخلاقية إلى هذا الحد، لأنه حديث العهد بالحياة الاجتماعية حيث أنه لم يمض عليه إلا نحو مائتين وخمسين ألف سنة، وهو على هذا الحال لأنه ظهر في أواخر العصر الثالث.
وخلاصة القول أن الأخلاق ليست وليدة تعاليم خاصة، ولا هي وقف على مذهب دون آخر أو طائفة دون غيرها، وإنما هي ظاهرة طبيعية تطرأ على الحيوانات الاجتماعية مثل الإنسان والنمل نتيجة لازمة لحياة أفرادها جماعة، وقد أصبحت غريزة متأصلة في أنواع النمل، وهي غريزة في دور التكوين في النوع الإنساني
على أن الأخلاق سوف تتأصل في الإنسان مع مرور الزمن الطويل، وترتقي بارتقاء حياته
الاجتماعية فيأتي يوم في المستقبل يسود فيه التضامن التام بين الناس وتعم الروح الاجتماعية ويزول الشر من النفوس، وتمتنع الجرائم والحروب وتنتشر الفضيلة، ويصبح الإنسان مطبوعاً على الخير وحب المجموع بغريزته وتقفل المحاكم والسجون أبوابها.
وقد تزول الحكومات على ما يتوقع هربرت سبنسر، وغيره من علماء الاجتماع، ويخلص الناس من نير الأحزاب السياسية ومساوئها وغرور زعمائها وعبثهم بعقول الناس، وتمجيد الجماهير البلهاء لهم؛ ويكون العلم قد قهر الأمراض، وعالج الشيخوخة، وتغلب عليها (وما هي إلا مرض كسائر الأمراض الأخرى، عبارة عن تسمم تدريجي نتيجة التغذية يضاعفه فعل كريات الدم البيضاء المفترسة) فتطول حياة الإنسان، وقد يمتنع الموت وهو ليس بنتيجة لازمة للحياة بدليل الحيوانات والنباتات الخالدة، وهي الأحياء الأولية ذات الخلية الواحدة، مما سنشرحه في مقال قادم. ويكون بنو الإنسان قد حلوا المشكلة الاجتماعية الكبرى الخاصة بتوزيع العمل وخيرات الطبيعة بينهم توزيعاً عادلاً، فيعيش البشر في سلام ونعيم دائمين، ذلك النعيم الذي ظلوا العصور الطويلة يحلمون به ولن يحققه لهم إلا العلم.
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)
من هنا ومن هناك
دكتاتورية هتلر - للكاتب الألماني توماس مان
قد يفاخر فاتح برخستجادن (هتلر) بأنه حمى الشعب الألماني، وأحرز فوزاً وإنتصاراًعظيمين، دون أن يشهر سلاحاً أو يريق قطرة من دماء
فإذا كان هذا مبلغ فخاره، فيحق لي أن أسأل: في أي لحظة عرف أنه قد أمن عواقب عمله، وأنه نجا من حملة لا تخفى عواقبها على أحد؟ فإن الأمر كان يستدعي أن تهب فرنسا لمناصرة الأمة المحالفة لها، وهنا تقع الكارثة
من المحتمل أن يكون قد عرف ذلك، ولكن بعد كل إنسان! فقد ظهر أخيراً أن تحذير جورنج وموسوليني له في الأيام الأخيرة من سبتمبر كان ضرورياً لمنعه من الانزلاق بأمته نحو الهاوية، فيدفعها إلى حرب لا يستطيع أن يصمد لها وهزيمة محققة، رأيا من الشفقة أن يحمياه شرها. ومما يقال على ما فيه من السخرية، إن بعض الفاشست من الإنجليز قد توسلوا إليه أن يتفضل بقبول النجاة التي تعرض عليه!
إن الحكام الإنجليز لا يريدون أن يوقعوا كارثة بالفاشست ولا يودون ذلك على الإطلاق. إنهم لا يريدون الحرب، لأنهم يكرهون أن يحرزوا فوزاً تشاطرهم روسيا فيه؛ ولميلهم إلى السلام قد ظهروا أمام العالم الجزع بمظهر المخلصين المنقذين. وإلا فقد كان من المنتظر أن تحل الكارثة بإيطاليا وألمانيا في أربع وعشرين ساعة، ولكن الإنجليز هم الذين أبوا ذلك. لم يسمح لهتلر أن يحطم الفاشية. ومع ذلك فهو يزعم أنه نال كل شيء بغير عنف، وهو مهدد بالدمار لو استعمل شيئاً من ذلك
أيها المنتصرون المباهون، أنتم لا شيء. إننا لا نعد أنفسنا قد انهزمنا وخرجنا من الميدان. . . إن العقل والروح قد اعتادا الاضطهاد في هذه الأرض منذ آلاف السنين، ولكنها لم يهزما ويقتلا بمثل هذا الانتصار
لا تخف! إن الحق والفكر قد يخمدان لحظة قصيرة، ولكنها قويان في أعماق نفوسنا
ومن قمم الفن الصادق تطارد الروح هذا الانتصار الكاذب. ولا يغرنك أنها في عزلة وانفراد، فهي في تحالف وألفة دائمين مع كل ما يفيد العالم الإنساني
إن الدكتاتورية تناقض نفسها بادعائها محو السيئة وتحرير الضمير الإنساني وتلقين
البطولة، بينما تحط من قيمة الإنسان وتستعبده ولا تعتد بكرامته معتقدة أن هذا حظه في الحياة وليس له حظ سواه، وكل ما عداه لغو وهباء. فأي مخالفة للمنطق هذه؟
إن فهم البطولة يحتاج إلى فكر أعمق وفلسفة أدق من تلك الفلسفة التي تستند إلى القوة والتضليل، تلك الفلسفة التي تسوق وراءها الدهماء
رقص الحياة - عن الأفننج كرونيكل
في الشعر والتصوير والنحت صورة معروفة يرمز إليها برقصة الفناء. يصورن فيها هادم اللذات، وهو يحصد نفوس البشر من كافة الأجناس
فيمثلون الموت يجذب النفوس من كل سنخ وجنس، في قسوة القاهرة المستبد، وهي تدفعه عنها بكل ما رزقت من قوة، وتتشبث بالحياة في جزع ورهبة، والموت يقتادها إلى حيث يريد وهو مكتوب له النصر دائماً، فيرقص منتشياً بالفوز والظفر وهي مسوقة إلى مقرها الأخير، ومن هنا رمزوا إلى تلك الصورة (برقصة الفناء)
ولكن الكاتب المعروف (هافيلوك أليس) يخالف هذه الصورة، فيترك رقصة الفناء ويتكلم عن رقصة الحياة
فهو يقول إن الحياة فن. وكل شيء فيها وكل مخلوق يدب على أرضها فنان يصور حياته كما يصور الرسام لوحته، أو المثال تمثاله. ويدلل على أن التفكير فن والكتابة فن؛ حتى الأديان والأخلاق فنون جميعها، وأن الرقص أساس قوي في تلك الفنون ويعده التعبير الأسمى للحياة
ونظرية (أليس) هذه تفتح أمامنا باباً واسعاً للتأمل والتفكير. فنحن نعرف منها كيف كان الرقص في كيان الإنسان وفي صميم كل مدنية، وكيف يكون معبراً عن الحياة!
إن الحياة تعبر عن لحن جميل في الحقيقة، والألحان ينبوع الرقص. ليست الحياة وحدها هي التي تعبر عن هذا اللحن بل الكون أجمع يشترك في هذا التعبير. وهذا يفسر قول الإنجيل: النجوم ترقص في الصباح. إنها بلا شك تخفق وتهتز على تلك النغمة التي تشمل الحياة
وكما كان الرقص مصوراً لحركاتنا والنفسية، فقد كان كذلك أول معبر عن الأديان، وقد نشأ الرقص مع الإنسان
ويقول لفنجستون الرحالة المشهور إنه شاهد في أنحاء أفريقيا قبائل يحيي بعضهم بعضاً بقوله: أين ترقص. وذلك أن رقص الإنسان يدل على قبيلته ويميط عن أخلاقه الاجتماعية والدينية
ويقول فريزر: إن الإنسان الأول لم يكن يلهج بدينه بل كان يرقصه. ويقول الكثير من علماء الشعوب: إن الأديان فيما مضى من الزمان كانت قائمة على الرقص، وإن الإنسان الأول تعلم الرقص قبل أن يتعلم الدين)
ولعل في هذا البحث ما يبعث على التفكير في أساليب بعض رجال الطرق في مصر، وفي غيرها من البلاد الشرقية
مدارس للاستعمار - عن لافرانسيز دي أوتر مير
في ألمانيا الآن مدرستان للاستعمار، إحداهما في وتزنهوس، ولها قسم للتعليم العملي في بترفيلد، والأخرى في رندسبرج. فالأولى تعد رجالاً ذوي قدرة على الاستعمار والاستغلال، والثانية تعد الزوجات الصالحات لهؤلاء الرجال.
وعلى مسيرة ساعة من المدينة يرى هؤلاء التلاميذ مكبين على أعمالهم في معزل عن العالم، ليألفوا هذا النوع من الحياة، التي لا تختلف عن حياة (روبنسن كروزو). وهم يقومون بتشييد المباني وتجديدها، ويستخدمون في أعمالهم أبسط الآلات.
والمدرسة تقوم على تعليمهم النظريات العالية بطرق عملية بسيطة، فإلى جانب العلوم التي يلقنونها داخل الفصول: في الزراعة والتاريخ والطب والصيدلة ونظام المكتبات، واللغات الشرقية، وإدارة المستعمرات يتدربون على الشئون العملية في الحياة تدريباً عجيباً؛ فمن الصباح الباكر يستيقظون لحلب البقر وحمل لبنها إلى حيث يصنعون الجبن والزبد.
ويقوم تلاميذ هذه المدرسة بزراعة الحبوب، ويتولون شأنها في جميع الأحوال من الحرث إلى الحصد، ويقومون بطحنها، وعجنها. وهم فوق ذلك يتعلمون الهندسة الكهربائية، وهندسة الري والبناء والطرق والجسور، وأعمال النسف والتدمير
والمستعمر الألماني يتدرب على صناعة الطوب الذي يستعمله لبناء المساكن، وعليه أن يتعلم النجارة، وإصلاح الأخشاب وإعدادها، وصناعة السفن وعمل السروج والحدادة على اختلافها. وأخيراً يجب عليه أن يتعلم فنون الحرب ويلم إلماماً تاماً بالتعاليم النازية. أما
البنات فلا يختلف نظام تعليمهن عن هذا النظام من حيث الدقة والإحكام، ويتفق معه من حيث الجمع بين التعليمين النظري والعملي
فهن يتعلمن لغة الزنوج ويتدربن على رعاية المرضى والأطفال، ويتعلمن طهي الطعام على الطرق المعروفة في مختلف المستعمرات، مما يختلف والطهي المعهود في ألمانيا كل الاختلاف
ويجب عليهن أن يتعلمن رتق الملابس، ويتدربن على ركوب الخيل وقيادة السيارات وحمل السلاح
ويراعي في هؤلاء الزوجات أن يكن قادرات على تكوين الخلق المطلوب، بحيث يكون لهم نصيب واف في بناء الدولة
فإذا استعادت ألمانيا مستعمراتها، وجه إليها هذا الجيش من المستعمرين والمستعمرات فيقومون ببناء مساكنهم بأيديهم أو بمساعدة بعض الخدم، ويحرثون الأرض ويحصدون الثمار. فإذا أتوا بنسل درج على هذه الصفات. فلا تمضي سنوات حتى يكون في تلك المستعمرات شعب ألماني قوي متين
البريد الأدبي
تاريخ الآداب العربية لبروكلمن
قد سبق لي أن أخبرت قراء هذا الباب من الرسالة أن المجلد الثالث من (تكملة تاريخ الآداب العربية) للمستشرق الكبير بروكلمن قد أخذ في الظهور؛ فوصفت الجزء الأول منه وقلت إن المجلد كله موقوف على الأدب العربي الحديث. وهذا الجزء الثاني يصلني وفيه مواصلة الحديث في الشعر المصري منذ هبوط الإنجليز هذا القطر (ويقول بروكلمن: منذ احتلال الإنجليز له)، ويجري الحديث على حافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرافعي واحمد محرم والكاشف وأحمد نسيم وحسن القاياتي، وهم ممن نحوا نحو البارودي في النظم على الطريقة الاتباعية. ويجري الحديث بعد هذا على البكري وعبد المطلب وهما من أصحاب تلك الطريقة مع بعض الإفراط. وينتقل الحديث إلى خليل مطران على لأنه صاحب مذهب جديد في الأداء مع بقائه على المبنى القديم. وممن حذا حذوه أحمد زكي أبو شادي؛ وممن يلتف حوله عبد الرحمن شكري. وقد أفاض صاحب الكتاب في تحليل شعر مطران، ومما قاله إنه جاء بالملاحم وألف بين النظم الإفرنجي والأسلوب العربي، وأفاض أيضاً في وصف شعر أبي شادي
ومن المراجع العربية التي عوّل عليها المؤلف أو ذكرها: (حياة حافظ) لمحمد كرد علي، (حافظ وشوقي) لطه حسين، (المختارات) للمنفلوطي، (على السفّود) للرافعي (ثورة الأدب) لمحمد حسين هيكل، (الفصول) للعقاد. ومن المجلات العربية المذكورة في سياق البحث: المقتطف والهلال والرسالة ومجلة المجمع العلمي العربي ومجلة الأزهر
ب. ف
عبث الوليد
أشكر الأستاذ الجليل إبراهيم يسن القطان على مكارمه وفضله وأدبه وسعة اطلاعه. أما عن قول المعري (عبث الوليد) فقد جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في ترجمة المعري ما نصه:
(واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه (ذكرى حبيب). وديوان البحتري وسماه (عبث
الوليد)، وديوان المتنبي وسماه (معجز احمد) وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيهم ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم والتوجيه في أماكن لخطئهم) فهذا التفصيل وهذه الإطالة في شرح محتويات هذه الكتب تدل على الاطلاع أو تفهم القارئ أن الكاتب واثق من قوله. فهو يقول اختصر كل ديوان من الدواوين الثلاثة ولم يقل إنه أخذ محاسن أبي تمام والمتنبي في كتابية عنهما واكتفى بعيوب البحتري في كتابه عنه، بل قال إنه ذكر للثلاثة محاسن ومساوئ، وذكر للثلاثة أخطاء وعيوباً ودل على ما امتاز كلّ به من المعاني الخ، ومع ذلك مَيَّزَ بينهم في عنوان كل كتاب، وهذا التميز هو الذي عنيته بنقدي. على أنه لو صح أن ابن خلكان أخطأ في شرح هذه الكتب وكان كتاب المعري عن البحتري مقصوراً على العيوب والمساوئ ولم يقصر المعري على مساوئ أبي تمام والمتنبي الكتابين الأخريين لكان هذا ظلماً من المعري للبحتري، إذ أن لأبي تمام والمتنبي مثل هذه الأشياء التي ذكرها الأستاذ الجليل القطان فَلَمْ نُرَجَّحْ إذاً أنه قصر الكتاب على عيوب البحتري لهذا السبب وأخذنا بوصف ابن خلكان محتويات الكتاب والتمييز في العنوان بالرغم من ذكر المعري مساوئ شعر أبي تمام والمتنبي في كتابيه عنهما - وإذا لم يكن غير نسخة واحدة في مصر من كتاب عبث الوليد مأخوذة بالتصوير الشمسي فهذا قلة استيفاء بحثها. ومما جعلنا نصدق قول ابن خلكان ومن قال مثل قوله علاوة على الأسباب المتقدمة أننا لم نستكثر على المعري ألا يقدر صنعة البحتري قدره حكمة المتنبي في شعره الذي سماه معجزة احمد. ومما يدل على ذلك أيضاً أنه لم يمدح شيخ البيان أبا تمام كثيراً في عنوان كتابه إذ جعله ذكرى، والذكرى لا تقارن بالمعجزة. وقد سُمِعَ عن المعري انتقاص للشعراء الذين يهتمون كل الاهتمام للصناعة والأسلوب الخطابي، فقد روى أنه قال عن شعر محمد بن هاني الأندلسي:(إن شعره كطاحونة تطحن قروناً لإحداث قعقعة) وابن هاني الأندلسي له شعر يقارب طريقة أبي تمام ومسلم بن الوليد التي احتذاها البحتري أيضاً ولم نستبعد أن يكون صاحب اللزوميات التي ملأها تفكيراً في معضلات الحياة قد صنع ما نسبه إليه ابن خلكان وغيره من مؤلفي السَّير وقدَّم التفكير على الصنعة في الشعر وجعل الصنعة عبثاً إذا قورنت بالحكمة وإن لم تكن عبثاً إذا لم تقارن بها. ومما ينبغي أن نلاحظه أنه كان في نفس المعري كما كان في نفس
تولستوي الأديب الروسي صراع عنيف بين نشدان جمال الصنعة في الآداب والفنون وبين البحث عن الحقيقة الروحانية، وهذا الصراع قد يفسر اختلاف قوله في البحتري. وبعد كل ذلك نرجو الأستاذ القطان أن يرجع مرة ثانية إلى هذه النسخة المأخوذة بالتصوير الشمسي ليرى هل هي كاملة، وهل هي مقصورة على عيوب البحتري، فإذا كانت كاملة (لا ناقصة كما في بعض الكتب النادرة) وإذا كانت مع تمامها مقصورة على عيوب البحتري كان ابن خلكان مخطئاً في وصفه لمحتويات الكتاب، وكان المعري ظالماً إذا اختص البحتري في كتابه عنه بالعيوب ولم يختص أبا تمام والمتنبي، وهذا أمر مستبعد ولكنه لو صح لكان حجة لنا أيضاً
عبد الرحمن شكري
حول مقال المبتدأ الذي لا خبر له
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي جولات في ميادين العلم والأدب خرج في بعضها ظافراً أيما ظفر. . .
وفي العدد الماضي من الرسالة إحدى جولات الأستاذ في علم النحو أساجله فيها والله أعلم أينا يكون له الظفر؟
درس الأستاذ علم النحو في هذا العام ودرج فيه - كما يقول - على عادته من إيثار تمحيص المسائل على ترديدها كما دوَّنها المؤلفون. أي كما يفعل كثير من الناس! ونحن نحمد للأستاذ طريقته هذه لأننا نعتقد أنها الطريقة المثلى التي يعم نفعها وتجنى ثمرتها، ونأمل أن ينتهجها كل من يتصدى لدراسة المسائل العلمية.
وكان مما محَّصه الأستاذ من مسائل النحو وخرج منه بنتيجة مسألة (المبتدأ الذي لا خبر له) وهو الوصف الذي له مرفوع يغني عن الخبر في مثل قول ابن مالك: إسارٍ ذانِ.
ومجمل بحث الأستاذ في هذه المسألة أمران خرج منها إلى نتيجة، ووضع قاعدة جديدة في علم النحو.
الأمر الأول: مؤاخذة النحاة في إعرابهم الوصف في مثل هذا الموضوع مبتدأ (لأن المبتدأ - في الجملة الاسمية - هو المحكوم عليه، والوصف هنا في مقام الفعل فليس محكوماً عليه
وإنما هو محكوم به.) هذا تعليل الشيخ؛ وإن كنت لم أفهم معنى لتقييد المبتدأ بكونه - في الجملة الاسمية -
فهو يرى أن المبتدأ لا يكون إلا محكوماً عليه والذي نعرفه من كلام النجاة في تعريفهم للمبتدأ أنه يكون محكوماً عليه في مثل: العلم نافع، ويكون غير محكوم عليه في مثل ما نحن بصدده. وهذا هو تعريفهم للمبتدأ:
(المبتدأ هو الاسم العاري عن العوامل اللفظية: مخبراً عنه أو وصفاً رافعاً لمكتفى به)
والمعنى الذي أدركه الشيخ في المثال (وهو أن الوصف قائم مقام الفعل فهو مسند لا مسند إليه ومحكوم به لا محكوم عليه) هذا المعنى الذي يبدو أن الشيخ قد انفرد به لم يهمله النحاة فقد قالوا في شرح التعريف المتقدم ما خلاصته:
ليس معنى اكتفاء الوصف بالمرفوع عن الخبر أنه ذو خبر أغنى المرفوع عنه لأن الوصف هنا لا خبر له أصلاً لقيامه مقام الفعل والفعل لا خبر له
الأمر الثاني: قاعدة وضعها الأستاذ وهي أنه كلما كان هناك مبتدأ كان هناك خبر. ومن الواضح أن هذه القاعدة لم تنشأ إلا من حصر المبتدأ في المحكوم عليه كما فعل الشيخ. وبالنظر في التعريف المتقدم يعرف أن الصواب أن تكون القاعدة هكذا: كلما كان هناك مبتدأ كان هناك خبر أو فاعل يغني عن الخبر. ومعنى أنه مبتدأ في هذه الحالة أنه اسم مجرد من العوامل اللفظية. الأمر الذي استبعده الأستاذ بحجة أنه لا نظير له لأن النحاة لم يسموا الشيء فاعلاً إلا إذا كان فاعلاً في المعنى، وهكذا
ونحن نقول له إن هذا مسلم. وهم كذلك لا يسمون الاسم مبتدأ إلا إذا كان مبتدأ في المعنى أي إلا إذا كان اسماً مجرداً من العوامل اللفظية وهو إما مخبر عنه أو وصف رافع لما يغني عن الخبر وإنما يكون معدوم النظير إذا أنحصر معنى المبتدأ فيما قال الشيخ
والنتيجة التي وصل إليها الأستاذ من تمحيصه لهذه المسألة أن مثل هذا الوصف لا يسمى مبتدأ، بل يسميه الشيخ اسم فاعل أو اسم مفعول لتجرده من العوامل اللفظية. كما استثنوا اسم الفعل مع تجرده من هذه العوامل فلم يسموه مبتدأ. والمعروف أن اسم الفعل إنما استثنى مع تجرده من العوامل لأنه ليس واحداً من النوعين اللذين يكون منهما المبتدأ، لأنه قائم مقام لفظ الفعل على الصحيح؛ وأما على الرأي القائل بأنه قائم مقام معنى الفعل فهو
مبتدأ مستغن بمرفوعه عن الخبر كاسم الفاعل في مسألتنا
وبعد. فهذا ما أردت أن أعقب به على كلام الشيخ وأرجو أن أكون قد وفقت فيه كما أرجو أن يتقبله الأستاذ بما يجب أن يكون عليه من يتصدى لتمحيص المسائل العلمية بغية الوصول إلى حقائقها.
والسلام على الأستاذ ورحمة الله
أبو حجاج
مدرس نحو
مشروع جديد لتنظيم مجمع فؤاد الأول للغة العربية
يعتزم صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف في هذه الأيام تنفيذ مشروع جديد لتنظيم أعمال مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وكان معاليه قد سبق أن أدلى بكثير من آرائه في تنظيم مهمة المجمع في مقالات نشرها في جريدة السياسية قبل أن يصبح وزيراً للمعارف. وقد رأى معاليه أن الوقت حان لتحقيق آماله في هذا الإصلاح والتنظيم، فأعاد مراجعة مقالاته السابقة كما ضم إليها كثيراً مما كتبه كبار الكتاب في الصحف والمجلات في هذا المعنى، ووضع بعد دراسته لمختلف هذه الآراء النواة التي يرى أن يبني عليها المشروع الجديد
ولكي نعرف ماهية الإصلاح المراد تهيئة أسبابه لهذه المؤسسة نقول إن عمل المجمع اتجه من إنشائه حتى اليوم إلى وضع معجم عام للغة، ومعجم تاريخي لها، ومصطلحات للعلوم والفنون، ودراسة اللهجات القديمة والحديثة. والمشروع الجديد يتجه بالمجمع إلى ما يأتي:
أولاً: أن يواصل المجمع عمله في وضع معجم اللغة ومعجمها التاريخي.
ثانياً: أن يترك وضع المصطلحات العلمية والفنية وغيرها إلى الهيئات والجماعات المختصة بها، على أن يسجل منها في معاجمه ما يستقر في التداول منها، وما تقره اللغة
ثالثاً: أن تترك دراسة اللهجات الحديثة للجامعة، ويكتفي المجمع بدراسة اللهجات القديمة
رابعاً: أن يقوم المجمع بعمل إيجابي في إحياء اللغة وذلك بتشجيع الإنتاج الفكري الحديث، وإقامة مسابقات أدبية، وتقرير مكافآت للمنتجين، مقتفياً في ذلك أثر (المجمع الفرنسي)
هذا وينتظر أن تصدر وزارة المعارف قريباً قراراً بتأليف لجنة برياسة الوزير لوضع مشروع القانون بإعادة تنظيم المجتمع
ذكرى السير إقبال
حفلت (قبة الغوري) مساء الخميس الماضي بجمهرة من أبناء الأمم الإسلامية اللذين تربط بينهم جماعة (الأخوة الإسلامية) ليحتفلوا بالذكرى السنوية لوفاة الشاعر الهندي الفيلسوف الإسلامي المرحوم السير محمد إقبال
وقد استهل الاحتفال بتلاوة آي من الذكر الحكيم ثم استمع المحتفلون إلى طائفة من الشباب ينشدون (نشيد إقبال) ثم ألقى الأستاذ الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام كلمة ممتعة تناول فيها بالتحليل مذهب الشاعر الهندي في الفلسفة والتصوف ونظرته إلى الإسلام. ثم أعقبه السيد محمد حسن الأعظمي سكرتير الجماعة فألقى كلمة مستفيضة عن منزلة الشاعر إقبال بين شعراء الهند. وأعقبه الأستاذ أبو الحسنات البقالي فتحدث عن الشعر الغزلي الذي أنتجه السير إقبال، ثم ألقى الأستاذ محمود جبر مرثية تناول بعدها الأديب الصيني الأستاذ بدر الدين إيوان الشاعر إقبال فأمتع وأبدع
وقد انصرف المحتفلون وهم يعرفون - من هذه الكلمات الشائقة - كثيراً من روائع الشاعر الهندي وآثاره الخالدات.
أبو تمام - الأستاذ عبد الرحمن شكري
جاءتنا كلمة بهذا العنوان من الأستاذ الجليل (القارئ) بعد طبع هذا العدد فاضطررنا إلى إرجائها إلى العدد القادم
رسالة النقد
4 -
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
في صفحة 86 وردت في كلام الجاحظ حكمة أكثم بن صيفي وهي: المرء يعجز لا محالة. فعلق عليها الشارحان بقولهما: (أي لا تضيق الحيل ومخارج الأمور إلا على العاجز، والمحالة: الحيلة. ويروى المحالة كما في اللسان. أ. هـ)
ولهذه الحكمة كلام طويل عريض تناولناه في مثل هذه الأيام من العام الماضي في صحيفة البلاغ الغراء، وكنا نود أن يرجع الشارحان يوم ذاك إلى كلامنا في تحرير هذه الحكمة حتى لا يقعا فيما وقع فيه غيرهما من الإيمان بكل ما يقول السابقون من غير إجراء حكم العقل عليه.
نرى أن هذا الشرح الذي شرحه الميداني ونقله الشارحان خطأ ظاهر. لأننا إذا نظرنا إلى العبارة من وجهتها التركيبية رأينا أن هذا الشرح يستلزم أن تكون العبارة هكذا: (المرء يعجز لا محالة). ويكون المعنى كما شرح الميداني إن المرء هو الذي يعجز لا الحيلة.
وإذا نظرنا إلى المقام الذي وردت فيه العبارة رأينا أن أكثم كان ينصح لقومه فيقول لهم:
(أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة. يا قوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين. ورب عجلة تهب ريثاً). فالرجل يثبط قومه عن القتال وينهنه من نزعاتهم الجامحة إليه. فهو يقول لهم: إن العجز من شأن الإنسان، وإنه لا حيلة له في توقيه.
فنرى أن الأسلوب من ناحية والمقام الذي وردت فيه الحكمة من ناحية أخرى يوجبان أن يكون المعنى غير ما ورد في الميداني، وردده الشارحان الفاضلان من غير مناقشة للرجل في رأيه مع أنه إنسان يخطئ ويصيب، فكيف بهما إذا علما أنه كان ناقلاً للمعنى عن آخر سبقه بالخطأ.
ذلك أن الميداني من أهل القرن السادس الهجري، وقد سبقه أبو هلال العسكري المتوفى
سنة 395 هـ في كتابه جمهرة أمثال العرب، فروى المثل هكذا:(المرء يعجز لا المحالة)، وقال في شرحه: إن المرء يعجز عن طلب الحاجة فيتركها، ولو استمر على طلبها والاحتيال لها لأدركها. فإن الحيلة واسعة فهي ممكنة غير معجزة. ثم يروي أبياتاً جعلها في مقام الاستشهاد على معناه الذي رآه، وهي قول الشاعر:
حاولت حين هجرتني
…
والمرء يعجز لا المحالهْ
والدهر يلعب بالفتى
…
والدهر أروغ من ثعالهْ
والذي نقوله إن الشعر لا يسعف العسكري بمراده لأن الشاعر يقول: إني حاولت يوم هجرتني أيتها المحبوبة أن أقنعك بالرضا وأن أردك إلى عادة الوفاء لي فلم أفلح، والمرء لا بد عاجز، فهو ضعيف يلعب به الدهر ما شاء، ويغير عليه من إرادته ما شاء. فإذا ما حاول أن يظفر بالدهر ويتغلب عليه راغ منه، وفر كما يروغ الثعلب ويفر من قانصه. فهل يرى القارئ الكريم في الشعر رائحة للتنديد بضعف الإنسان وقعوده عن المحاولة؟ أليس الشعر ناطقاً بأن المحاولة لم تجد صاحبها شيئاً، وأن العجز من شيمة المرء؟ فبان إذاً أن هذا الشعر الذي يستظهر به العسكري على معناه لا يسعفه بمراده. بل إنه يرد عليه زعمه، ويبالغ في تخطئته.
وقد نرى للعسكري مندوحة فيما قال. ذلك أنه لم ينسب الكلمة إلى أكثم، فلعل غيره قالها على هذا الوجه، كما أن شرحه مساوق للفظ الذي أورده (بتعريف المحالة) وكل خطئه إنما كان في دعواه أن الشعر يتمشى مع شرحه الذي رآه. فإذا بالشعر ينطق بغير ما يريد.
وليس في الشعر ما يساعده على رواية المحالة (بالتعريف) لأننا نستطيع حذف أداة التعريف من الكلمة ولا ينكسر الوزن.
والخطأ ظاهر في صنيع الميداني لأنه لفق بين نص وشرح وارد لغير هذا النص.
وهذا الخطأ أظهر في صنيع الشارحين لأنهما نقلا كلام الميداني من غير تمحيص، واستعزا بنقل صاحب اللسان، وصاحب اللسان لم يخطئ في مهمته وهي النقل إذ لم يزد على قوله: ويروى لا المحالة. فهو لم يتعرض لتمحيص الرواية، وليس ذلك من شأنه. ولكنه شأن الشارحين وهما لم يفعلا من ذلك قليلاً ولا كثيراً.
في ص 75: حكى الجاحظ أنه عاد يوماً في وقت القيلولة، والشمس حامية شديدة الوقع
على الرأس. ثم قال: أيقنت بالبرسام فيعلق الشارحان بقولهما نقلاً عن القاموس وشرحه: البرسام علة يهذي فيها. وهو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، وهو يتصل بالدماغ. ثم يقولان: ولكنا نظن أن المراد هنا هو الرعن كما هو ظاهر من سياق الكلام. ففي القاموس رعنته الشمس: آلمت دماغه فاسترخى لذلك وغشي عليه
وأمر الشارحين عجيب جداً في هذا المقام، لأن الذي منعاه ليس بممتنع، إذ البرسام كما نقلا علة تتصل بالدماغ. أليس اتصاله بالدماغ كافياً لافتراض نشوئه عن تعرض الدماغ للشمس؟ ثم كيف يغيران على القائل قوله ويوجبان عليه أن يقول ما يريدان؟ أليس القائل هو الجاحظ الذي يعرف اللغة ومدلولات ألفاظها، ويعرف طب زمانه وحدود علله وأسبابها؟ فكيف استساغا أن يقولا له: كان يجب عليك أن تقول فأيقنت بالرعن في موضع فأيقنت بالبرسام؟!
هذا والله أعجب ما رأينا من شأن الشارحين. فهما لم يكتفيا بأن يفرضا علينا آراءهما ويوجباها على طلاب المدارس ومدرسيها بعد أن دمغاها بالصبغة الرسمية التي حصلا عليها لشرحهما، حتى أرادا أن تمتد سلطتهما على الجاحظ وزمنه.
لو أراد الشارحان أن يغيرا على الجاحظ رأيه في معاني الألفاظ وبينا أنه أخطأ المراد في لفظ البرسام لوجب عليهما أن يعودا إلى كتب الطب القديم ليستشيراها في معناه، فإذا وجداه بعيداً عن المقام الذي يتكلم فيه الجاحظ فعند ذلك يقولان له أخطأت المراد وكان الواجب عليك أن تستعمل كلمة الرعن، ولكنهما لم يفعلا شيئاً من ذلك، وكل ما في الأمر أنهما عرفا معنى الرعن فشاءت لهما سلطتهما اللغوية التي يمدانها على طلاب المدارس ومدرسيها، أن يغيرا على الجاحظ رأيه كأنما هما مفتشان أولان على الجاحظ أيضاً
في ص84 ورد ما يأتي:
(وقال لي هذا الرجل: أكلنا عنده يوماً وأبوه حاضر وُبني له يجيْء ويذهب فاختلف مراراً، كل ذلك يرانا نأكل)
وقد ضبط الشارحان كلمة كل في عبارة (كل ذلك يرانا نأكل) بالضم وعلقا على العبارة بما يأتي: (أي كل ذلك حاصل والصبي يرانا نأكل. ويظهر لنا أن العبارة كانت هكذا: كل ذلك وهو يرانا نأكل. فسقط من النسخ (وهو)) أ. هـ
ونقول إن التعسف في التقدير ظاهر جداً وما جر على الشارحين كل هذا إلا ضبطهما لكلمة (كل) بالضم. ولو أنهما أتيا الأمر من أيسر طرقه لضبطا الكلمة بالفتح فتعرف ظرف زمان لأن لفظ ذلك إشارة إلى الزمن المنقضي في المجيء والذهاب والاختلاف مراراً. والقاعدة التي يعرفها حضرتا المفتشين في كتاب (قواعد اللغة العربية) وغيره أن لفظي كل وبعض إذا أضيفا إلى الزمان أعربا أسمي زمان
في الصفحة عينها يقول الشارحان في السطر الذي قبل الأخير (المذار (بفتحتين)). وما هكذا يفعل أهل اللغة لأن هذا الضبط لا يمنع أن تكون الذال مشددة مع الفتح، فيكون ذلك خطأ في ضبط الكلمة. وإنما الذي يقال هو ما ذكره صاحب القاموس وهو قوله: المذار كسحاب
في ص87 في نصيحة خالد بن يزيد لابنه: (وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكل حيلة ثم إن لم يكن لك معين من نفسك ما انتفعت بشيء من ذلك بل يعود ذلك النهي كله إغراء لك، وذلك المنع تهجيناً لطاعتك)
فيعلق الشارحان على العبارة (وذلك المنع تهجيناً لطاعتك) بقولهما: يعني أنك لو أطعت في حال انصراف نفسك كان ذلك قبيحاً بطاعتك، لأنها تكون إذاً مغتصبة وغير صريحة.
لا، لا أيها الشارحان. إنما المراد: إنك تقف من نهيئ لك موقف الذي لا ينتهي عما نهاه عنه أبوه، وتكون تلك سبة لك بأنك لن تطع والدك، وهذا يشين خلق الطاعة فيك، لأن أولى الطاعة طاعة الآباء
وإن كان من العجب أن يكون هذا رأي الشارحين في عبارة الكتاب، فأعجب منه أن يكونا قد شرحا ما قبلها شرحاً لائقاً بالمقام فجمعا بذلك بين متناقضين في سياق واحد
فقد قالا في شرح العبارة التي قبلها: (يعني أن نفسك إذا لم تقبل على ما وجهتك إليه صار النهي لها بمنزلة الإغراء والحض على ارتكاب النهي عنه)
وهذا منهما حسن يوافق ما أراده القائل للعبارة، فالعجب العاجب أن يعطفا على الجملة وهذا معناها في نفسهما جملة أخرى مناقضة لها على حسب ما شرحا، إذ الأولى أثبتت أنه عصى أباه في نصحه، والثانية أرادا منها أنه أطاعه ولكن بالكره لا بالرضا. فجمعا في كلامهما بين العمل والترك أو بين الضد والضد. فهل شرح كل واحد منهما جملة ثم ضما
عملهما وصفا حروفهما من غير أن يستشير أحدهما الآخر فيما رأى؟ هذا هو الأشبه بعملهما. وفي الصفحة عينها يقول الولد لولده: (وقد بلغت في البر منقطع التراب، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك ألا ترى ذا القرنين)
ويعلق الشارحان على هذه العبارة بقولهما: ويشير بقوله: ألا ترى ذا القرنين، إلى قصة ذي القرنين المذكورة في القرآن الكريم، يعني أنا كاف عنه
ولم أر إدماجاً في شرح مثل الذي أراه في عمل الشارحين. إنهما لم يكلفا أنفسهما الاطلاع على قصة ذي القرنين واستخلاص المراد من الإشارة التي يقولان عنها. ولذلك أورد كلامهما بهذا العموم
والذي أفهمه من كلام الأب لأبنه أنه يقول له: إني مجرب عرفت ما في الدنيا وجبت عامرها براً وبحراً فاستفدت تجارب كثيرة وزودتك بخلاصتها. فإذا عملت بها كنت كأنك شاهدت ما شاهدتُ، وجربت ما جربت، وإني في تطوافي بالأرض وجوبي لأقطارها بمنزلة ذي القرنين الذي بلغ مطلع الشمس، فإذا فاتك أن تكون رأيت ذا القرنين فقد رأيت نظيره وهو أبوك
في ص 88 يأتي:
(دع عنك مذاهب ابن شرية فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر)
وقد علق الشارحان على (ابن شرية) بقولهما: لم نقف لهذا الرجل على خبر في كتبنا، ولم نفهم ما يقصد من مذاهبه؛ وفي نسخة شرية أهـ
وبهذه المناسبة نقول إن الشارحين قد أعلنا عجزهما عن معرفة كثير من الأعلام التي وردت في الكتاب، ونحن نعذرهما في كثير من ذلك لأن الجاحظ يتكلم عن خلطائه، وليس كل هؤلاء قد رزقوا الشهرة حتى تدون أسماؤهم في كتب الطبقات. فهما في بعض ذلك بمنجاة من اللوم؛ ولكن ليس ينبغي أن يسري هذا العجز إلى هذا العلم المشهور وهو (عبيد بن شرية) فهو رجل معاصر لمعاوية بن أبي سفيان وكان عالماً بالأخبار، وكان معاوية يستمع منه قصص الماضين وتدابير الملوك لينتفع بها في ملكه. وقد ورد اسمه في كتب كثيرة نذكر منها الآن من غير استقصاء: معجم الأدباء لياقوت، وفهرست ابن النديم، ومقدمة ابن خلدون وفي الحديث كتاب فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين
فقول الشارحين أنهما لم يقفا له على خبر لا يعفيهما من اللوم. ثم إن عدم وجوده في كتبهما لا يكفي لنفي وجوده في كتب غيرهما؛ فلو أنهما اعتصما بالصبر في البحث لوجدا على حبل الذراع تراجم كثيرة لهذا الأنباري النابه الشأن.
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى
المسرح والسينما
مدير الفرقة القومية وسكرتيره
وحكاية الأب لويس شيخو
لقيني أحد ممثلي الفرقة فقال وهو يبتسم ابتسامة تحمل الكثير من معاني
الفرح والشماته والانتقام، ويشير إلى مجلة مطوية في يده: هاهو ذا
العدد الأخير من (الرسالة) أحمله إلى حضرة المدير. قلت: ما الداعي
إلى اللهفة والمسألة بسيطة عادية؟ فأجاب: حقاً إن المسالة عادية
ولكنها غير بسيطة في نظر المدير وسكرتيره المحجل كما أسميته
أنت. قلت: أوضح، فقال:
اعتاد هذا السكرتير تقطيع مجلة الرسالة إرباً حتى لا يطلع حضرة المدير على ما ينشر فيها
قلت: ألا يطلع مديركم على كل ما تكتبه الصحافة في الفرقة؟
فقال: أحسب أن وفرة مشاغله المتنوعة لا تمكنه من ذلك، ولكن سكرتير الفرقة يطلعه من وقت إلى آخر على خلاصة بعض ما ينشر في الصحف
دعوت لهذا الممثل ولفرقته بالنجاح وانصرفت!
ولمناسبة هذا الحديث البسيط أروي القصة التالية:
ألف المرحوم الأب لويس شيخو الأديب العالم اليسوعي كتاباً اسماه (شعراء النصرانية) وطلب له لسبب من أسباب مهنته حشر طائفة من شعراء جاهليين وغير جاهليين قال إنهم نصارى؛ فانبرى له المرحوم الشيخ محمد الخياط أو خليل الخياط يفند مزاعمه ويعيد الفروع إلى أصولها ويصحح أغلاطاً عروضية ولغوية في الكتاب، ولم يأبه لصحيفة البشير لسان حال الجزويت التي لم تكن تتغاضى عن هنة ولو بسيطة تمسّ النصارى من قريب أو بعيد
ترقب الناس وقوع الواقعة بين البشير النصرانية وبين صحف المسلمين وتوجس عقلاء
الطائفتين من تطورات الحملة الأدبية وانقلابها إلى ضدها
مضى الشيخ الأديب في نقده لا يصده عنه صاد، وهو يعلم أن للآباء اليسوعيين سلطة نافذة وطرائق ذات شعاب أخطبوطية فتاكة ولكنه لم يأبه لها لأنه كان ينافح عن حق لوجه الحق
صدرت جريدة البشير وتلتها مجلة المشرق في الصدور خاليتين من كلمة واحدة في الرد على الشيخ الناقد
شدد الناقد الحملة وزاد العيار. . . وأخيراً ذهب يدفع باب الجزويت يستطلع سر سكوتهم وكنه استلانتهم وهم الجبابرة الأشداء
رحب الآباء اليسوعيون بالزائر الناقد خير ترحاب، وأكرموه الإكرام اللائق بعلمه وأدبه، وأطلعوه على سرهم فقالوا إنهم ألفوا لجنة برياسة الأب لويس معلوف لدراسة نقده وتصحيح أخطاء وقع فيها كبيرهم الأب شيخو، ولم يدعوا الشيخ ينصرف إلا بعد الاتفاق معهم على مواصلة حملته الصارمة عليهم لإظهار الأغلاط التاريخية والعروضية واللغوية في كتابهم
أرجو ألا تنسى أن كتاب شعراء النصرانية محدود الغرض يطالعه الخاصة من الأدباء في حين أن الفرقة القومية أوسع مدى وأفسح أفقاً من الكتاب وأنفذ إلى مشاعر الشعب وأحاسيسه وخلائقه منه، وأن للفرقة القومية رسالة فرضتها وزارة المعارف حين إنشائها قالت:(إن غايتها رفع مستوى التأليف والتعريب المسرحي وترقية الإخراج وترقية الموسيقى المسرحية والغناء المسرحي بحيث تكون صالحة للتمثيل العربي والأجنبي، وإعداد الممثلين والمخرجين إعداداً فنياً صحيحاً) فأين الفرق بين جماعة ألفوا لجنة من خيرة علمائهم لتصحيح أغلاط في كتاب، من سكوت الفرقة القومية عن كل ما يقال فيها؟
دع عنك العمل الصبياني الصادر من سكرتير الفرقة لأنه غير مستغرب وقوعه منه، فجهل النعامة التي تطمر رأسها في الرمال كيلا ترى الصياد يماثل مجلة (الرسالة) لكيلا يقرأها مدير الفرقة
دع عنك أيضاً أن وزير المعارف ووكيله وآلافاً من الناس يقرءون الرسالة، فتقطيع عدد أو مائة عدد لا يصد الناس عن قراءة عيوب الفرقة وعلل إدارتها
حدثني صديقي قال: إن مدير الفرقة يعزو حملة الرسالة على الفرقة بسبب قبض يده عن
إمدادها بالإعلانات، ولكنه دهش وتعجب حين قال له صديقي: إن الأساتذة تيمور، وطليمات، والحكيم، ورمزي، وناجي، ورستم، وفارس، أجمعت أقلامهم على طلب إصلاح الفرقة، وقد عددوا وسائل الإصلاح وأبانوا مواطن الضعف، وقد فعلوا ذلك لا طمعاً في أجر ولا رغبة في انتقام. فأجاب: إنه لم يطلع على ما كتبه هؤلاء الأساتذة!!
نعود إلى موضوع أحاديث الأدباء فنجمل أجوبة الأستاذ بشر فارس، وقد سألناه: هل المسرح في تقدم؟ وهل الروايات المترجمة أنفع لنا أم المؤلفة؟ وهل في المباراة ما يحفز المؤلف على التأليف؟ فأجاب:
(إن المسرح عندنا لا يزال في جانب النشأة، حتى جانب التكوين لم يبلغه، فكيف لنا أن نتكلم عن تقدمه أو تأخره؟ إنه يحق لنا أن نلقي مثل هذا السؤال: هل المسرح عندنا متجه في نشأته اتجاهاً مرضيَّا؟ والجواب قريب ذلك أنه لا بد للمسرح أيام قيامه من عناصر معروفة، منها المسرحيات المؤلفة والممثلون والممثلات والنظارة والمخرجون والناقدون. فإذا نظرنا إلى ما بين أيدينا في مصر وجدنا المسرحيات المؤلفة (ما عدا واحدة أو اثنتين (أهل الكف) لتوفيق الحكيم مثلاً) بعيدة عن طرائف الفن الخالص، بل مجراه على أسلوب طفلي، لأن المقدمين على التأليف المسرحي يجهلون مبادئ هذا الفن ويظنون أن اللغو والخطابة والنواح والتعريض والوعظ غاية الغايات. وإن كان لدينا ممثلون لهم دراية، قلت أو كثرت، بفن التمثيل فإن ممثلاتنا إلا أقلهن إنما يرين أن التمثيل إلقاء وهياج لقلة ثقافتهن وعجزهن عن الاتحاد بالنص. وأما النظارة فقد تعودوا مشاهدة لونين من المسرحيات: المهزلة التهريجية، والمأساة المفرطة، وكلتاها من النوع الأسفل، كما أنهم تعودوا الإخراج الواقعي، فمن المتعذر عليهم أن يميلوا إلى المسرحيات الضاربة إلى التفكير أو الشعر أو الاختلاج الباطني أو إلى الإخراج الإيهامي. ثم إن للفرقة مخرجاً أجنبياً وكان لها فيما قبل مخرج مصري حاذق هو الأستاذ زكي طليمات، ولكن الإخراج مرتبط بالمسرحية نفسها والممثلين والنظارة. وأما النقاد فلا أكاد أرى اثنين يحق لهم أن يعالجوا الكتابة في المسرح)
وقال رداً على السؤال الثاني: (الترجمة أولاً حتى يتهذب النظارة ويظفر المؤلفون بأمثلة يحتذونها بل يلتفتون إليها، والتأليف لمن يصيب من نفسه قدرة على وضع مسرحية تمتاز بالطرافة والقوة والاتساق والفكرة الناهضة)
(أما الترجمة فالذي أراه أن الفرقة القومية ينبغي لها أن ترغب إلى الكتّاب الذين يجيدون اللغات الأجنبية إلى جانب العربية أن ينقلوا المسرحيات النفيسة إلى لغتنا؛ وأما التأليف فلا مباراة ولا رغبة إلى أحد من الناس، وإنما المؤلفون الحقيقيون - أعني المنجذبين إلى التأليف المسرحي من ذات أنفسهم لا الطامعين في جائزة - ينشرون ما يؤلفون، وللفرقة القومية أن تقبل عليه إذا رأت له شأناً)
وللدكتور فارس رأي طريف في النقد والناقد أؤجل نشره لفرصة مواتية لاتصاله برأي طريف أيضاً من نوعه قاله عالم غير سربوني
ابن عساكر