الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 304
- بتاريخ: 01 - 05 - 1939
على ذكر خطبة هتلر في يوم الجمعة الماضي
هذا رجل!. . .
نعم هذا رجل! ولا يستطيع أن ينكر عليه هذه الصفةَ في الدنيا صديق ولا عدو ولا محايد. هذا رجل كما نعتقد، لا رسول كما يدعي؛ لأن الرجل لأمته والرسول للناس. وحسب الفوهرر أن يكون رجلاً، فإن الله تعالت حكمته لا يخلق الرجل إلا كل قرن. والأمم تنتظر في انحلالها الرجل، كما تنتظر الخليقة في ضلالها الرسول.
منذ أسبوعين انتظر العالم كله ماذا يقول هتلر ليبنى على قوله ما يفعل، ويرتب على حكمه ما يرى. وفي خلال هذه الفترة القصيرة الطويلة أوشك نبض الحياة العادية أن يقف انتظاراً لما عسى أن يكون هذا الكوكب. فلما وقف المستشار على منصة الريخشتاغ أصاخ لأمواج الأثير كل سمع في الوجود العاقل. وأعلن الدكتاتور رأيه الصريح بالمنطق الموهوب والبلاغة القوية، فملأ صوته الدنيا، وشغل قوله الناس. وقديماً قيلت هذه الكلمة في المتنبي؛ ولكن دنيا أبي الطيب كانت مملكة الإسلام، وناسه كانوا أمة العرب. أما هتلر فهو أول رجل في تاريخ الخليقة سمع خطابه أو ترجمته في يوم واحد كل دولة في الأرض، وكل مدينة في دولة، وكل بيت في مدينة، وكل راشد في بيت. ذلك لأن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلوا تبددت أعضاؤه في كل وجه؛ فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدول الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو الحرب. كل ذلك فعله كما قال من غير ثورة ولا حرب، فكان حرياً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي بقوله:(ألست بعد هذا حقيقيا بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟)
في كل أمة ما شئت من القوى الحسية والمعنوية؛ ولكنها تتفرق في أفرادها فتضعف، ويغشاها الكسل في نفوسها فتخمد. فإذا ما قيض الله لها رجلا منها يجمع قواها في قوته، ويوحِّد إرادتها في إرادته، استطاع أن ينيلها نصيبها الكامل من الحياة، وينهج لها طريقها القاصد إلى الغاية. ولكنك لا تجد هذا الرجل دائماً في كل أمة؛ فإن خصائص رجولته تكون
أشبه بخصائص النبوة. والدنيا أبخل على الناس بمعدن هذه الخصائص لندرته. وهل في الدنيا أندر من عناصر الإيمان والبطولة والصدق والإيثار والنزاهة؟ هل يدور بخلدك أن هتلر الذي تمثلت فيه دولة، ونهض به جيل، وقام عليه تاريخ، تتعلق نفسه في لحظة من اللحظات برغبة حقيرة كمظاهرة في حفل، أو ثروة في بنك، أو أبهة في ديوان، أو قريب في وظيفة، أو مدحه في صحيفة؟ إن القادة الذين يهيئهم القدر لمداولة الأيام وخلق الشعوب يطهر الله من وساوس الهوى ودسائس الطمع، فلا ينظرون في الأرض، ولا يصغون إلى الفتنة، ولا يستجيبون إلا للصوت السماوي البعيد الذي لا يفتأ داعياً إلى السمو أو التقدم
هذه مصر مثلاً، فيها الثروة الموفرة، والقوى المذخورة، والعدد العديد، والموقع الملائم، والتاريخ الحي، والمجد التالد، والهوى المتحد، والحس المشترك؛ فتستطيع بهذه المزايا النادرة أن تكون دولة مطاعة لها في الثقافة لسان وفي الحضارة يد وفي السياسة رأي؛ ولكن مزاياها لا تزال كامنة أو موزعة أو مشاعة؛ فلم يتح لها الله إلى اليوم ذلك الرجل العمَري الذي يجمع من نسماتها اللينة إعصاراً يدوِّي، ومن رغباتها الشخصية طموحاً يحلِّق، ومن قواها المفرقة جيشاً يرعب، ومن قصائدها الفردية ملحمة قومية ينشدها الليل والنهار ويرويها سجل الأبد
عندنا رجال من صاغة الكلام، وحفظة القانون، ومحترفي السياسة، أفلحوا في إثارة الصخب، وتمزيق العلائق، وتفريق القوى، وإغراء المطامع بكراسي الحكم وأبهة الألقاب وأموال الدولة، ولكنهم لم يفلحوا مجتمعين أن يعملوا في عشرين سنة ما عمله هتلر وحده في ست سنوات وستة أشهر.
لا تقل إنه الجهل أو العلم فلسنا أجهل من تركيا، ولا ألمانيا أعلم من فرنسا؛ ولكنها القوى الشعبية الطبيعية تتجمع وتتحد بالإرادة الصادقة والتوجيه النزيه فتفعل قِلتها المجمَّعة في تركية وبولندا، مالا تفعل كثرتها الموزعة في الهند والصين
معاذ الله أن يقع في ظنك يا قارئي العزيز أني أحب فردية الحكم لأني أحب أن يتولى قيادتنا رجل. فإن الرجل الزعيم الذي نرجوه، نرجوه للقيادة لا للسيادة، وللإِشارة لا للإِمارة، وللجهاد والتضحية لا للاستعباد والأثرة. وإن الرجل الذي نرجوه لنا ولكل أمة حبيبة في الشرق لا يمكن أن يطغي لأنه مؤمن، والإيمان من طبيعته كف السلطان وقتل
الشهوة؛ ولا يمكن أن يستبد لأنه مسلم، والإسلام من شريعته حرية الإنسان وشُورى الحكم.
أحمد حسن الزيات
المرأة في حياة الأديب
(على ذكر مقال للأستاذ توفيق الحكيم)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كتب الأستاذ توفيق الحكيم مقالاً في مجلة الثقافة عن المرأة في حياة الأدباء، أو لا أدري ماذا كان العنوان على وجه الدقة فقد غاب عني عدد الثقافة تحت أكداس من الورق والكتب والمجلات. وفي هذا المقال يذكر (أو يقرر) أن كل أديب أو كل عظيم لا بد أن تكون في حياته امرأة؛ وهو يعنى بالمرأة (على ما يؤخذ من ظاهر المقال إلا إذا كان له معنى أعمق خفي علي) امرأة معشوقة، أي امرأة تكون علاقة الرجل بها جنسية، شرعية كانت أو غير شرعية. وقد ذكر من أبناء الشرق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام، ثم طوى كل هذه القرون التي مضت ووثب إلى الدكتور طه حسين ثم إلى الأستاذ أحمد أمين ثم إلى الأستاذ العقاد، وعين المرأة التي يراها في حياة كل منهم؛ ثم قال عني إن (الكذب) هبتي (يعني الخيال والاختراع وإن كان التعبير (بالكذب) غير موفق) وقال إن الخيال يختلط بالحقيقة في كتابتي حتى ليتعذر الاهتداء إلى المرأة التي كان لها تأثير في حياتي، ولكنه أعرب عن يقينه أن في حياتي امرأة (ما في هذا ريب عنده). وقد اغتنمت فرصة كتاب جديد له (راقصة المعبد) تفضل فأهدى إلى نسخة منه فكتبت إليه كلمة وجيزة في الموضوع على سبيل التصحيح؛ ولكني أرى هنا أن أتناول الموضوع من ناحية أعم
وأنا أولاً لا أرتاح إلى هذا التناول لحيوات الناس الخاصة. وليس كونهم أدباء أو مشهورين لسبب ما، بمجيز في رأيي أن نجعل من حياتهم الخاصة وأحوالهم الشخصية (معرضاً)؛ وهذا عندي فضول أكرهه وأقل ما فيه أنه يُفقد المرء حريته واستقلاله. وإذا كنت أروى كثيراً مما أكتب على لساني وأورده بضمير المتكلم فليس معنى هذا أن ما أرويه وقع لي وإنما معناه أني أرتاح إلى هذا الأسلوب في القصة وأراه أعون لي على تمثّل ما أحاول وصفه وتصويره. فليس فيما أروي شيء شخصي، وكثيراً ما نبهت إلى هذا، ولكني أهمله أحيانا اعتماداً على فطنة القارئ
ثم إني ثانياً لا أرى الأستاذ توفيق الحكيم موفقاً في رأيه، فليس ضروري أن يكون للرجل امرأة في حياته أو للمرأة رجل في حياتها، أي أن تكون هذه المرأة المعينة هي التي وجهت
حياته وجهتها وأثرت فيها تأثيراً جعلها كما هي. والقول بذلك لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون مظهر تقليد لبعض ما يكتبه الغربيون. وقد ذكر الأستاذ توفيق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام على سبيل التمثيل، واراه في هذا المثال مبالغاً فما تزوج النبي السيدة خديجة لأنه عشقها، بل الذي حدث هو أنه عمل لها في مالها وتجارتها فأعجبت بأمانته وسرها حسن سيرته واستقامته فرغبت هي أن يكون زوجها. وجاءه رسول يدعوه إلى ذلك أو يقترحه عليه وكان هو يعرف لها فضائلها فقبل. وكانت له نعم الزوجة الحكيمة الوفية الرزينة المخلصة. ولكنه ليس هناك عشق بالمعنى المعهود، ولا يمكن أن يقال إنها وجهته أو أثرت في حياته التأثير الذي يقصده الأستاذ توفيق حين يذكر المرأة في حياة الرجل، وإن كان غير منكور أنها كانت إلى حد عامل استقرارٍ وأمن وراحة في حياة النبي. وقد سألت الأستاذ توفيق في كتابي الخاص إليه عن المرأة المعينة في الحياة المتنبي أو أبي العلاء أو الشريف الرضي؛ ولا بأس من سؤاله أيضا عن هذه المرأة المعينة في حياة أبي نواس وبشار ومن إليهما. كلا. ليس من الضروري أن تكون في حياة الأديب امرأة معينة بالمعنى الجنسي وإن كانت حياة الرجل لا يمكن أن تخلو من المرأة على العموم. وفرق بين الأمرين. على أن كل شيء في الحياة ليس عند الأديب أكثر من (مادة) وإن كان الأمر في بعض الأحيان يبدو غير ذلك عند النظر السطحي أو السريع
وقد جعل الأستاذ توفيق مزيتي أو هبتي (الكذب) وأنا أشكر له أن رأى لي مزية أو هبة، ولو كانت (الكذب)؛ وإذا كنت أخلط الخيال بالحقيقة فإني أحسب أن هذا لا مفر منه، ولا أدب إلا به. وما أظن الأستاذ توفيق نفسه يفعل غير ذلك أو يشذ عنا معشر الأدباء (الكذابين) فما كان الأديب قط ولن يكون عدسة آلة تصوير. وإذا كان الأستاذ توفيق يظن أن الأستاذ العقاد لم يفعل في رواية (سارة) أكثر من أن يروي حادثة كما وقعت فإنه يكون قد ركب من الوهم شرَّ الحُمُر؛ فإن مزية (سارة) الغوص في لجة النفس لا الحكاية بمجردها، والكشف عن أخفى خفاياها، والتحليل الدقيق للخواطر والخوالج الخ. ولا قيمة لكون القصة حقيقية أو غير حقيقية وإلا هبطنا بالأدب إلى الإعلانات التي يقول فيها أصحابها إن القصص التي ينشرونها في مجلاتهم وقعت فعلاً
وليس ما يمنع أن تكون في حياة الأديب أو سواه (امرأة) معينة، ولكنه ليس من الحتم أن
تكون هذه المرأة المعينة زوجة أو خليلة، أي معشوقة على العموم، ولا أن تكون العلاقة بها علاقة جنسية فقد تكون أمًّا أو أختاً أو صديقة أو بنتاً. وقد كانت في حياتي امرأة دللتُ الأستاذ توفيق عليها في رسالتي إليه وهي أمي، فقد كانت أمي وأبي وصديقتي، وليس هذا لأنه لم يكن لي أب، فقد كان لي أب كغيري من الناس، ولكنه آثر أن يموت في حداثتي، فصارت أمي هي الأب والأم، ثم صارت على الأيام الصديق والروح الملهم. وقد استنفدت أمي عاطفتَيْ الحب والإحلال، فلم تُبق لي حباً أستطيع أن أفيضه على إنسان آخر، أو إجلالاً لسواها. ومثلي في ذلك كمثل من يمص عوداً من القصب ويعتصر كل مائه، فلا يبقى من العود بعد ذلك إلا الحطب الذي لا يصلح إلا للوقود. ومن هنا عجزي عن الحب بالمعنى الشائع. نعم أستطيع أن أصادق واصفوا بالود، ولكن العشق على مثال مجنون ليلى أو كما يصفه لنا الشعراء حال لا قبل لي بها ولا طاقة لي عليها لأن ذخيرتي من هذه العاطفة نفدت وليس في وسع نفسي أن تبذل هذا المجهود مرة أخرى
ومع ذلك أقول إني أرى في عاطفتي لأمي غير قليل من جهد الخيال وإرادة النفس، وهي في الأصل ولا شك عاطفة صادقة قوية ولكنه يخيل إليَّ أني غذيتها وقويتها بالإيحاء المستمر إلى النفس، لأني كالخروف دائم الاجترار لما في جوفي. واحسب أن العاطفة قد راقتني وفتنتني إلى حد ما، أو أني وجدت فيها ريًّا لنفسي أنشده فأخطئه، فتعلقت بها وضخمت أمرها، وقويتها بالدؤوب في الإيحاء كما تقوى النار بالحطب حتى استغرقت نفسي كلها وعمرت صدري أجمعه وما أظن إلا أن هذا سبيل كل إنسان فإنه لا يفتأ يقوي عواطفه المختلفة من حب وبغض الخ بالإيحاء وإن كان هو لا يشعر بذلك ولا يفطن إليه
فإذا كان لابد من امرأة في حياة الأديب فهذه امرأة، أفلا تكفي الأستاذ الحكيم؟. ولست بعد هذا (عدواً للمرأة) كالأستاذ توفيق إذا صح هذا عنه، ولم يكن أكثر من إعلان على الطريقة الأمريكية - معذرة يا صاحبي - وأنا أنشدها أبداً ولا أرى الحياة تطيب، أو يكون لها معنى إلا بها، ولكني لا أطمعها في الحب المستغرق الآخذ بالكلْيَتين، لأنه لا قدرة لي على ذلك، ولأني أشد اعتزازاً بحريتي وحرصاً على استقلال شخصيتي من أن أسمح بأن تتسرب نفسي في نفس أخرى أو تفنى فيها أو تجعلها محور وجودها. ولكل امرئ منا طباعه وفطرته، وأنا في طباعي هذا التمرد الساكن الذي ليس فيه ضجة، وتغليق الأبواب التي
تجيء منها الريح لأستريح. ثم أنه لا يعنيني أن تكون في حياتي امرأة أو سواها لأكون أديباً على ما يحب الأستاذ توفيق، وأنا قانع بنفسي، جداً. ولست بعد ذلك بأديب وإنما أنا رجل صناعته القلم، وقد قلت مرات - وأكرر الآن - إني كالنجار الذي فتح دكانا وعرض فيه بضاعة له مما صنع فذاك رزقه يكسبه بهذه الوسيلة، وكهذا النجار تجد عندي الخشب الجيد المتين، والصنعة الدقيقة والخشب الأبيض والقشرة والصقل المغني عن النفاسة حسب الطلب وتبعاً لحالة السوق ومبلغ استعداد الزباين للبذل. فضعني بالله حيث أضع نفسي واكفني شر الفلسفات، وإليك التحية وعليك السلام.
إبراهيم عبد القادر المازني
من برجنا العاجي
قرأت لك في مقال أنك تساعد ناشئة الأدب. واشترطت لذلك شروطاً. وإني راض بها واليك ما يزيدك معرفة بي: أني قراض تذاكر. أجري ضئيل يبلغ 120مليماً في اليوم. وإطلاعي محدود. وذلك ناتج عن فقري. لا أقرأ غير الرسالة والرواية والثقافة. ولم أقرأ من الكتب غير بعض مؤلفات المنفلوطي وكتب أخرى. وكانت كتاباتي جيدة في الموضوعات الخيالية فقط. ولكني منذ بدأت أتأثر بكم تغلبت طريقتكم علي. وأنا قوي الذاكرة وأميل إلى التفكير. وأستطيع أن انفق في شراء الكتب الأدبية ما يقرب من نصف الجنيه شهرياً كما أني أستطيع أن أختلس للأدب خمس ساعات يومياً. لعل في هذه الإيضاحات ما يهون عليكم أمر مساعدتي على السير في طريق الأدب الذي تصفونه بأنه وعر شائك. ولقد زاد إغرائي به ما نشرتموه في (الرسالة) من تحذير للشبان من الاشتغال به في هذا العصر. . .!
نشرت هذه الرسالة التي جاءتني ضمن عشرات الرسائل في هذا الموضوع لسبب واحد: هو عجبي وإعجابي بقارىء تلك حاله. يبذل عن طيب خاطر سدس مرتبه الشهري وقسطا وافراً من وقته في سبيل الأدب. إنه ذكرني بقراء أوربا. أولئك الذين يخصصون جزءاً ثابتاً في ميزانياتهم للكتب ووقتاً منتظماً معلوماً للقراءة. مثل هؤلاء القراء هم الذين قامت على أكتافهم نهضات أوربا الأدبية. وهم الذين ظهر من بينهم أدباء أوربا العظام. فأن الأديب لا يتخرج في مدرسة. إنما ينبت في حقل الكتب والمطالعات الشخصية. وفي الأدب الفرنسي الحديث مثل صارخ لأديب من أصل بلقاني هو: (باناييت استراتي) لم يكن يعرف الفرنسية ولكنه غرق سنوات في المطالعة وضنّ بماله القليل على الطعام وأنفقه في شراء كتب جعل يلتهم صفحاتها التهاماً. وإذا هو في يوم من الأيام قد استطاع الكتابة بالفرنسية وإذا هو كاتب معروف يربح من كتبه الألوف. أعطوني إذن ألفين من طراز هذا القارئ وأنا أضمن لمصر نهضة أدبية رائعة وأدباء جددا يسيرون في طريق المجد.
توفيق الحكيم
التفاؤل والتشاؤم في الشعر
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إذا درس الإنسان في التاريخ اندثار الحضارات والأمم وتمكنت تلك الدراسة من نفسه لا يروعه زوال عمل عمره كما كان يروعه لو لم تتمكن ذكرى مشاهد ذلك الاندثار من نفسه، ومن أجل ذلك كنت قد طبت نفساً عما بذلت من جهد وعمل في الأدب وفي غير الأدب. لكن بعض الأفاضل لا يكتفون مني بذلك بل يريدون أن يغالوا في انتقاص ما قدَّمت من عمل، وبعضهم لا يكتفي بانتقاص عملي ويأبى إلا أن يتخطاه إليَّ. وليسوا كلهم من هذا القبيل، فبعضهم أو أكثرهم يستهويه غيره فيتكلم أو يبدأ في منطقه وتفكيره من العام إلى الخاص فيضع رأياً نظرياً أولاً ثم يلتمس الشواهد ويفسر الأمور على أن تكون أدلة لرأيه، وكان الأليق به أن يتقصى معرفة الأمور أولاً ويستخلص من شواهدها الشاملة الكاملة رأياً. لكن حضرات الأفاضل النقاد كثيراً ما يخادعون أنفسهم ويظهرون الغيرة على الرأي لا حباً للحق وللصواب.
والذي يريد أن يضع رأياً ثابتاً عاماً، إن كان في هذا الوجود أمر ثابت لا يتغير، ينبغي له أن يُفْنِي جزءاً كبيراً من عمره للتقصي والبحث والإلمام بكل ناحية من نواحي الموضوع حتى لا يكون حكمه مخطئاً. والأساتذة الأفاضل الشبان يحسبون أنهم قد قتلوا الموضوع بحثاً وأن إدراكهم له أكثر من إدراك الشيوخ؛ فهم إذا تكلموا عن التفاؤل والتشاؤم في قول - ناثر أو شاعر لم يميزوابين أثر الحالات العارضة الزائلة، وبين نظره إلى مستقبل الإنسانية؛ ولم يفرقوا بين التشاؤم الذي هو تثبيط وبين التشاؤم الذي هو استحثاث للهمم؛ ويحسبون أن كل وصف للشقاء تشاؤم كأنهم لا يعرفون أن الغفلة عنه والتفاؤل بها هو تشاؤم أحَرُّ من التشاؤم، ويخلطون بين ما تظهره الدراسات النفسية السيكولوجية من حقائق مُرة وبين التشاؤم. كأنهم يريدون أن يبقى الناس على جهلهم بنفوسهم، وهذا هو التشاؤم حقاً؛ وإنما يكون التفاؤل أن تعرف النفس نفسها، وأن يكون لهذه الدراسة والمعرفة أثر في صلاحها ورقيها؛ وهم أيضاً لا يميزون بين ما قد يدعو إليه شعر العاطفة والدراسات النفسية من وصف حالات النفوس على اختلاف تلك الحالات من حسنة وكريهة، لا دعوة للتثبيط بل دعوة إلى أن يكون الشعر شعراً حيًّا لا أدباً ميتاً متكلفاً للتفاؤل ومكفناً به. ولا يميز هؤلاء الأفاضل بين يأس العجز والقنوط والتراخي، ولا بين يأس الاستبسال الذي هو قوة تفوق أمل أحلام المخدرات وأماني ذوات الخمار. والذي يدعو إلى التشاؤم حقاً هو أن
تنُشر في الرسالة قصيدة (العصر الذهبي) التي نظمت لتمجيد جهود الإنسانية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومحاولتها تحقيق ذلك العصر الذهبي الذي نحلم به؛ وقصيدة (نحو الفجر) التي جُعل الفجر في آخرها رمزاً لفجر مستقبل للإنسانية؛ وقصيدة:(شهداء الإنسانية) التي تدعو إلى نصرة من ضحوا بحياتهم وسعادتهم في خدمتها، وإنما يكون الانتصار لهم بالانتصار للمُثل العليا التي ضحوا بحياتهم وسعادتهم لتحقيقها؛ وقصيدة (الشباب) التي تعبر عن أمل الإنسانية في جهود الشباب وآماله وأحلامه؛ وقصيدة (الباحث) الذي خلده البحث والأمل، والذي ينشر للإنسانية الحق والرقي؛ وقصيدة (إلى المجهول) التي تدعو إلى تقصِّي أسرار الحياة والخليقة؛ أقول مما يدعو إلى التشاؤم حقاً أن يأتي إلى قراء الرسالة كاتب يقول: إني أدعو إلى التشاؤم بعد ما نشرت فيها. وليست هذه كل قصائد الأمل؛ فقد نُشر فيها أيضا قصيدة: (الأمل) الطويلة في وصف آثار الأمل في الحياة. وقصيدة: (النجاح) و (فن الحياة) تقديساً لمسرات الفنون والحياة وجعلها فناً في جميع مظاهرها، وقصيدة (سر الحياة) وفي آخرها إظهار عبث الشكوى منها، وأن الشكوى ليست مؤسسة على حقيقة ثابتة، بل على حالة نفسية. ونُشر لي في الرسالة في وصف محاسن مشاهد الكون والحياة:(ليلة حوراء) وبين الجمال والجلال) و (الفصول) و (سحر الطبيعة) و (على بحر مويس) و (الصحراء). . . الخ. ومما يدعو إلى التشاؤم حقاً أن يكتب الأديب الفاضل في المقتطف لقراء المقتطف: أني أدعو إلى التشاؤم وقد نُشر لي فيها: (بين الحق والحسن) وهي وصف للصراع النفسي بين نشدان الجمال وطلب الحقيقة؛ وفي آخرها ذكر أن طلب الحقيقة في الحياة والحياة نفسها لا يدومان إلا مع نشدان الجمال فيها. ونشر لي فيها أيضاً قصيدة (قيد الماضي) وهي دعوة للإنسانية أن تأخذ من الماضي عظاته، وألا تتقيد بطباع الأثرة والأحقاد التي خلفتها الدهور الطويلة. ونشر لي فيها قصيدة:(النشوء والارتقاء) وهي دعوة لمساعدة هذه السُّنة في الأمور النفسية والخلقية كما سرت وتسري في الأمور العقلية. ونشر لي فيها أيضاً قصيدة (أمنيتان للنفس) وفي الأمنية الثانية أي طلب القوة كل أمل ولذة في الحياة. ونُشر في المقطم قصيدة (الأبد في ساعة) وهي دعوة إلى استرسال النفس في مطالبها غير المحدودة. لقد كنت أفهم قول الدكتور أدهم لو نقد ما نُشر لي قائلاً إنه دعوة إلى التفاؤل بولغ فيها وغولِيَ بها؛ وقديماً قد ميزت بين
أمل وأمل ويأس ويأس، فقلت في الجزء الثاني: إن أمل الغفلة والأثرة وقلة الاهتمام بشؤون الإنسانية هو أمل مخضب بالدم:
هل يَنْفعنِّي ذلك ال
…
أملُ المُخَضّبُ بالدم
يدحو شقاء الأبريا
…
ء وينثني لم يُكْلَمِ
وميزت بين يأس الكسل والعجز والخمول ويأس السخط والمساورة:
وفي اليأس يأس يبعث المرء بعثة
…
إلى الغاية القصوى من السعي والجد
وقلت إن الخير أغلب على الإنسان:
صَرَّحَ الخير والأذى
…
فيه والخير أغلبُ
فإلى العُجْمِ نسبة
…
والى الله يُنْسَبُ
وقلت إن الأمل والعمل من صفات العظمة:
أعاظم الناس في اللأواء كم صبروا
…
إن العظيم عظيم السعي والأمل
وقلت إن الأمل هو حسن الحياة:
كأن حياة المرء حسناء أرمل
…
إذا قيل ساءت حالها طاب حالها
لها شافع يدعو إلى الحزن حكمه
…
وآخر يخشى أن يزول جمالها
وقلت إن ألم النفس قد يكون حلية لها:
ألم تَرَ أنَّ القُرْطَ ليس بحلية
…
على الأذْنِ حتى تؤلم الأذن بالثقب
وإن الآمال النبيلة هي دواء الشر والشقاء ومبعث إلى الرقي:
آمال تنْسى الفتى شقاوته
…
وتُعْدِم الشر أي إعدام
تسمو بنفس المحب عن دَنَس
…
فيها ولؤم جَمٍّ وأوغام
وفي قصيدة أخرى:
يرقى الوجود بعيش الصالحين له
…
من ليس يدركهم عجز ولا كلَلُ
إن الحياة جهاد لا خفاء به
…
فليس يُفلح إلا الأغلب البطل
وفي أخرى:
وعِشْ مع هذا الكون كَوْناً مُعَظَّما
…
وكُنْ في قواه بين ناهٍ وآمر
وفي أخرى:
فإني رأيت النفس كالأفْق بَهْوُها
…
تسير بها الآمال سير الكواكب
وفي قصيدة (المجاهد الجريح):
ولا أشتكي أني جرعت مريرها
…
فيا ليت عمراً في الحياة يعادُ
فأجرع منه الحلو والمر إنما
…
مشارب من يهوى الحياة بِرادُ
جهلنا فما ندري على العيش ما الذي
…
يراد بعيش نحن فيه نُقَادُ
سوى أن عيش المرء بالشك فاسد
…
وأن يقيناً في الحياة رشادُ
وعلى ذكر (المجاهد الجريح) أقول إن أكثر عنوانات قصائدي يدل على الدعوة إلى الأمل كما يتضح من ذكر ما ذكرت من القصائد وما لم أذكر كالإيمان والقضاء والحياة والعمل والعظيم والبطل وقوة الفكر والكونان وعلالة العيش والمثل الأعلى وخلود التجارب والملأ الأعلى وزورة الملائكة
ففي قصيدة (الحياة والحق):
لولا فروض العيش لم أعبأ له
…
جيشاً من الآراء والعزمات
إن التجارب كالأزاهر جمة
…
أو ما اغتفرت الشوك للزهرات
يا قلب لا يُغْنيك ذعرك للأسى
…
فالخوف أول مهبط المهواة
وفي (العيش والرجاء):
لو أدرك الإنسان آماله
…
وصابه منها كقطر المطر
ولم يَعُدْ يعرف ما يبتغي
…
ولم يجد في العيش ما يُنتَظَر
لكان أشقى الناس في عيشِهِ
…
حتى تقول النفس أين المفر
لا عيش إلا بِطِلاب المنى
…
لولا المُنَى في عيشه لانتحر
وفي قصيدة (مرحباً بالأقدار):
أدِرْ علىَّ كؤوس العيش قاطبة
…
سعد ونحسٌ وإهوان وإكرام
إلى:
هذي مرارة كأس لذ شاربها
…
خمارها فهو عَبَّاسٌ وبَسَّامُ
وفي خلود التجارب:
وما العيش إلا حكمة وتهادن
…
فتخلط مجهولاً لديه بمعلوم
وتخلط حلواً في الحياة بحنظل
…
وتأخذ من عيشٍ حميدٍ ومذموم
وقد صحَّ أن الجد يُلهى عن الأسى
…
وإنْ كان جداً لا يجيء بمغنوم
وفي قصيدة المثل الأعلى:
والعيش إنْ لم تَبْغِهِ لعظيمة
…
فالعيش حُلْمُ طوارق الأعوام
والنفس إمَّا شئتَ كانت عالماً
…
يسع الدنى في طوله المترامي
وفي قصيدة الملأ الأعلى:
مرحباً بالملأ الأعلى الذي
…
شرفت داريَ منه والفِناء
أَسعدوني أقتبس من نوركم
…
بُلغة النفس ورِياً للظماء
طهرت نفسيَ في أضوائكم
…
مثلما تطهر أجسام بماء
وشممتُ الخلد من أنفاسكم
…
نفس يشفى من الداء العياء
وأرى في النفس رسماً منكُم
…
مثل رسم النجم في متن النِّهاء
وعبيراً كشذى الأزهار إنْ
…
خَلَّفَتْ في الأنف ذِكْرَى كالذِّماء
وفي الملك الثائر:
والشر والخير لا يُرْجَى افتراقهما
…
فارفض إذا اسْطَعْتَ نعمائي ولذاتي
حتى العقول وحتى الفضل أجمعه
…
ولذة النفس في بذل المروءات
وحتى قصيدة الموت جُعِل الموت باعثاً للأمل:
وهيهات أن يسلو عن العيش جازع
…
من العيش حتى يصبح العيش ماضيا
وحتى يموت الحب والذِّكْرُ والمُنى
…
وتتلو نواعي الشائقات المناعيا
وحتى يموت الموت لولاه ما بكى
…
حريصٌ على دنياه يخشى المرازيا
وفي قصيدة (طيرة الفرخ):
فَسَلْ قلب الشهيد عن البلايا
…
يُخَبِّرْكَ الشهيد عن الحبور
وفي قصيدة (الشجر والغراب):
إذا أنت ما ذقتَ مِنْ ضُرِّها
…
أتعرف ما الخير مِنْ شَرَِها
وفي الصبر صبرٌ يُريكَ الدنى
…
كأنك رُفِّعتَ عن أمرها
وفي قصيدة (أصبر):
اصبر لعل النحس في لونه
…
إذا دجا ظِلٌ لدانى النعيم
لعل دمعا منك لم تَحْتَسِبْ
…
يُنْبِتُ زهرا في اليباب العقيم
لعل دمع النحس در له
…
يُسْلَكُ في عقد الرخاء النظيم
كم خيبة تعقد عزم الفتى
…
للنهر لولا الصخر خطو السقيم
وفي (علاله العيش):
وإن ضياء العيش يزهو رواؤه
…
لأنْ حاطه بين الأنام ظلام
وأما وصف محاسن الكون والطبيعة، ففيه قصائد كثيرة مثل (سحر الربيع) و (خميلة الحب) و (الفصول) و (ليلة حوراء) الخ.
ولو أن الأستاذ الفاضل تقصى كل ما كتبت من نثر وشعر لعلم أن ثقافتي غير مقصورة على مذهب واحد، ولا أحتذي احتذاء أعمى، وإنه حتى القصائد التي بها وصف الشقاء أو مقابح النفس أو الموت أكثرها به أيضاً وصف محاسن الحياة. وإذا كنت قد أخطأت الذوق الفني الصحيح في دراسةٍ نفسيةٍ فهذا من خطأ المبتدئ المغالي الذي أراد أن يقلب الأدب من صناعة فحسب إلى دراسات سيكولوجية ربما لا يعجب بها الأستاذ؛ وربما كان من الخطأ عملها والأستاذ أوسع ثقافة من ألا يرى تعدد مذاهب الثقافة في قولي حتى يقصره على مذهب واحد شأن الذي لم يطلع عليه. وإذا لم يكتف الناقد الفاضل بهذه الشواهد والقصائد العديدة ذكرنا له غيرها، وليس أربنا تخليد قولنا، فقد رضينا باندثاره لو رضى أمثال الناقد الفاضل. وقد كنا هجرنا الكتابة والنشر من سنة 1918 إلى سنة 1935 وما عدنا إلا بسبب التحرش من ناحية، والتأنيب من ناحية أخرى.
عبد الرحمن شكري
أعلام الأدب
بين أرستوفان ويوريبيدز
وبين يوريبيدز والمرآة
للأستاذ دريني خشبة
كان يوريبيدز شذوذاً كبيراً في العصر الذي كان يعيش فيه. . . لقد كان ثورة جامحة هدامة لا تدع شيئاً إلا أتت عليه، ولا ترى شيئاً يقدسه الناس إلا سخرت منه واستهزأت به وتهكمت عليه. . . وكانت سخريته مع ذاك لاذعة ضارية لا يهمها أن تكون وحدها في جانب وكل أعدائها وهم جمهور الأثينيين أو كثرتهم الساحقة في جانب أخر
وكان الناس حزبين في يوريبيدز: كثرة محافظة من الرعاع ورجال السياسة والتجار يسوؤها أن تهان آلهتها وتستباح تقاليدها فهي ضده وهي تكرهه وهي تنقم عليه وتهزأ به وتسخر منه كما يسخر منها، ولكن على طريقتها البورجوازية في السخرية والاستهزاء. . . وكانت مع ذاك تتخذه هُزُواً وتجري وراء أرستوفان كيما يضحكها عليه، ويؤلف لها المهازل في ثلبه والطعن عليه والتشهير به وتسفيهه ونهش عرضه وإرسال لسانه في أبيه وفي أمه على السواء. . . وقلة مستنيرة مثقفة كانت تعرف ليوريبيدز حقه، وكانت تؤمن بأنه صاحب رسالة عالية ستعود بالخير الجزيل على الإنسانية في كل زمان ومكان، وستظل مَعيناً نَميراً سائغاً يقبل عليه الظماء فيروون منه ويعالجون آلامهم ويلتذون فيه الأدب والفن والفكر والجمال والعبقرية
لكن هذه القلة كانت تخشى الرعاع الناقمين على يوريبيدز، وحق لها أن تخشاهم لأنهم ليسوا رعاعاً جَهَلة مثل رعاعنا، بل كانوا رعاعاً متعلمين، لأنه لم يكن في أثينا في عصر يوريبيدز رجل واحد غير متعلم!
كانت هذه القلة إذن لا تستطيع أن تنفع يوريبيدز العظيم، لأن الرعاع الذين يؤلفون كثرة الجمهور الأثيني وجدوا لهم شاعراً آخر لا يقل عبقرية عن يوريبيدز، لكنه شاعر جامد مغلق التفكير محافظ أشد المحافظة على تراث السلف، فكان يؤلف كوميدياته في الطعن على شاعر القلة المهذبة المستنيرة والنيل منه والإزراء بأدبه وتفكيره، وكان يجد جمهوراً
كثيراً ضخماً يصفق له ويقبل عليه، ويستزيده من ذلك التضحيك المؤلم المرير الذي كان يعصف بنفس يوريبيدز؛ وكان ذلك الجمهور يدفع مع كل هذا ثمن التضحيك والسخرية أموالاً جمة ضخمة، فإذا شهد التمثيل خرج نشوان بما سمع، ثملاً بما رأى، وراح يجادل في مُثُل يوريبيدز من غير هدى ولا برهان مبين. . . إلا هذه النكات التي صنعها فيه أرستوفان، وصنعها شائكة نافذة حامية، وإلا هذه المشاهد التي تظهر فيها الحمير على المسرح ويظهر فيها أقرباء يوريبيدز من الرجال المحترمين متنكرين في زي النساء الساقطات اللائى لا أخلاق لهن، حتى إذا عرف الجمهور حقيقتهن أغرق في ضحك طويل مرير وانطلق يصفق ويصفر وهو يقبض على الكبود والقلوب من كثرة الضحك وشدته
وكانت النساء في أثينا من حزب أرستوفان على يوريبيدز، لما كن ينقمن منه تناوله حياتهن الخاصة في دراما ته تناولاً لم يكن سائغاً في ذلك العصر، بل كان تمزيقاً للحجب الكثيفة التي كن يعشن وراءها قابعات في الخدور أو مقصورات في الخيام، مما عددنه منه قلة أدب وقلة وحياء وقلة ذوق، بل قلة في كل مظهر من مظاهر الفضيلة والحفاظ، وسنة السلف الصالح.
لقد كانت مِسِزْ جراندي التي هيمنت طوال العصر الفكتوري على المنزل الإنجليزي وعلى الفتاة الإنجليزية تهيمن بشدة وعنف على المنزل الأثيني والفتاة الأثينية. . . والمسز جراندي هي تلك العجوز الشمطاء المتزمتة التي كانت تكره للفتاة الإنجليزية كل تقدم وكل رقي، وكل ثورة على العرف، وخروج على التقاليد، وكانت تفرض سلطانها على البيئة الإنجليزية فتحترم وتطاع احتراماً كلياً وطاعة عمياء. وكان الوسط الإنجليزي يقدس أوامر مسز جراندي ويأخذ بها نفسه، ومسز جراندي مع ذلك شخص خرافي لا وجود له، لكنها كانت تمثل التقاليد الإنجليزية الموروثة بحيث لا تسمح لأحد بالثورة عليها. فإذا ظهر أديب مثل يوريبيدز لا يبالي سنة السلف صاحت برعاياها أن حذار، ثم سلطت عليه السفهاء الجامدين من أمثال أرستوفان يشعبذون عليه، ويسخرون به، لكنها شعبذة لم تكن قط تبلغ عشر معشار ما بلغت شعبذة مسز جراندي في البيئة الأثينية. . . وكان يثير مسز جراندي الأثينية على يوريبيدز ما كان يبديه هو من ثورة على التقاليد التي كانت تفرضها مسز جراندي على قومه. . . فلقد كان يتناول في دراماته العلاقات الشائكة بين المرأة والمرأة،
والعذراء والعذراء والمرأة والرجل، بل غالى مغالاةً مخيفة فتناول موضوع الميل الجنسي الشاذ عند الذكور في درامته المفقودة (خريسبُّوس)، وموضوع الصبوة الزوجية في مثل مأساة امرأة عزيز مصر مع النبي يوسف في مأساته هيبُّوليتوس - التي سنلخصها للقراء - والتي عالج فيها مشكلة الطلاق، ومأساته المفقودة (ستينبويا) التي عالج فيها المشكلتين معاً.
وكان يوريبيدز لا يستحي في معالجته هذه المشكلات أن يستشهد بتجاريبه هو، وأن يطبقها تطبيقاً صريحاً، ولكنه تطبيق علمي سيكولوجي. كان له الفضل في ابتداعه ومحاربة الخجل الذي يخفي بسلاحه، ولذلك أطلقوا على يوريبيدز (إبسن القديم) إشارة إلى المسرحي العظيم هنريك إبسن الذي نقل الرواية التمثيلية من عالمها الرومانتيكي إلى عالم الحقيقة والواقع في عصرنا الحديث. . .
لقد كان يوريبيدز شذوذاً كبيراً في العصر الذي كان يعيش فيه، ولقد كان كما قدمنا ثورة جامحة على تقاليد عصره، ولن ينسى التاريخ يوم جال أرستوفان وصال، وراح يستصرخ نساء أثينا عليه، ويغري بينه وبينهن العداوة والبغضاء، ويهتف بهن أن يثأرن من يوريبيدز لشرفهن وحفاظهن وتقاليدهن استباحها جميعاً في مأساته (ميديا) تلك المأساة التي كانت نجاحاً رائعاً ليوريبيدز؛ بل كانت تكفي وحدها لتخليد الاسم الذي يتشرف بأنه اسم مؤلفها. ومع ذاك فقد انتصر الجمود عليها، وظفرت الرجعية الذميمة بها، فسقطت سقوطاً شنيعاً بعد العرض الأول
قال جيته: (لا أدري إذا كان أي مسرحي في أية أمة خليقاً أن يحمل نَعليْ يوريبيدز فيقدمهما إليه!!)
كلمة ساخرة من جيته!! وقد أرسلها في أعداء يوريبيدز، وناقدي دراماته وخص بها قبل كل شيء عدوه الأكبر أرستوفان لكن أرستوفان، وإن يكن أديباً رجعياً شديد المحافظة على تراث السلف الصالح، إلا أنه كان موضع إعزاز أفلاطون. وأفلاطون لا يجعل أحداً موضع إعزازه عبثاً. فقد كان يشهد لأرستوفان أنه وحده الذي عرف قيمة الحياة. فضحك ثم ضحك ثم ضحك. وجذب إليه الناس ليضحكهم عليها وعلى الحقيقة وعلى يوريبيدز!
والآن، ما هي ميديا هذه التي أحفظت نساء أثينا على يوريبيدز والتي استغلها أرستوفان في
إعلان الحرب على الرجل الذي ألهمه فنه إذ هو طفل أو غلام في السادسة عشرة حينما كان يذهب إلى المسرح في حرقة وتشوق للتمتع بدرامات يوريبيدز؟ إنها مأساة دامية تذيب نياط القلوب بما حشده فيها يوريبيدز من العواطف المتضادة المتنافرة، وألوان القسوة التي لا تتورع المرأة من ارتكابها في سبيل لذتها وحبها. إنها مأساة مشتقة من خرافة جاسون التي لخصناها للقراء منذ عامين. ثم هي حلقة مكملة لمأساة أخرى نظمها يوريبيدز في التاسعة والعشرين وسماها: بنات بلياس
وجاسون ابن ملك تساليا هو بطل الدرامتين، وقد كان له عم يدعى بلياس طمع في الملك واستعان على أخيه بجيش أجنبي فخلعه وتولى هو مكانه. ثم قبض على الملك وزوجه وأقام عليهما رقابة شديدة صارمة. وأرسل الملك المخلوع ولده الطفل جاسون إلى السنتور الخرافي شيرون ليعلمه الفروسية. حتى إذا شب ذكر له ما كان من عمه مع والديه، وأهاب به أن يثأر لهما ولنفسه وأن يخلع ويتربع هو على العرش لأنه به أحق. وعاد جاسون بعد إذ استوى عوده وزوده أستاذه بالنصائح الغالية، وأوصاه بمكارم الأخلاق، وأن يحترم كلمته ويبر بوعده. وقد فوجئ بلياس الظالم بحضور ابن أخيه، وكانت نبوءة قد حذّرته منه لأنه سيكون سبب قتله، فلما طلب إليه جاسون أن يخلي له مكانه من الملك عمد بلياس إلى الحيلة، فانتهز فرصة غناء المطربين، وإنشاد المنشدين في حَفل كان قد أقامه لعقر القرابين للآلهة، ولفت انتباه جاسون إلى قصة الفروة الذهبية التي يحتفظ بها الملك إيتيس - ملك البربر ووالد ميديا - وحرضه على الحصول عليها. واستثار فيه نخوة الشباب وخيلاءه، فوعده جاسون بها. وبعد مجازفات وصعاب ومحن وصل جاسون إلى الملك إيتيس حيث لقيته ميديا فمالت إليه؛ بل جنت به، حتى إذا عرفت ما جاء له وعدته بالمساعدة، وكانت تعرف من فنون السحر ما تتغلب به على كل محال. فأعدت له مخدّراً أدناه من التنين الهائل الذي كان يحرس الفروة الذهبية فاٍستغرق في سبات عميق. وذبحه جاسون وحمل الفروة الذهبية وفر بها مصطحباً ميديا وأخاها الصغير أبستروس حتى إذا كانوا عند البحر ركبوا في السفينة التي أعدها جاسون لهذا الغرض - وكان اسمها الآرجو - فأقلعت بهم تحت جنح الظلام
وفي الصباح اكتشف الملك إيتيس الأمر فجن جنونه لفرار ابنته، ثم لأنها صحبت معها
ولي عهده وولده الأوحد أبستروس، ثم لضياع كنزه الثمين الذي لا يقدر بملء الأرض ذهباً. . . فيعد سفينة عظيمة ويبحر في نفر من صفوة بحارته وأجناده في إثر الآرجو. . . وتمضي بضعة أيام، وتدنو سفينة الملك من الآرجو حتى تكاد تلحق بها، فيشتد ذعر ميديا، ولا تصغي إلى توسلات أبيها الذي تعتقد أنه معذبها أشد العذاب إذا وقعت في يديه أو استسلمت إليه. . . وهنا تذبح أخاها ولي العهد وتقطعه إرباً ثم تلقى في اليم وراء الآرجو بالقطعة منه وراء القطعة، فيضطر الملك البائس إلى انتشال أشلاء ولده باكياً متفجعاً، فتبطيء سفينته وتغيب الآرجو وتفلت ميديا وجاسون
لقد وعد جاسون ميديا أن يتزوجها إذا هي ساعدته في الحصول على الفروة الذهبية، وقد فعلت، فلما آب إلى وطنه بنى بها وعاشا في رغد وبُلهْنية، ورزقا غلامين جميلين
هنا تبدأ الدرامة الأولى (بنات بلياس). . يظل جاسون زماناً لا يستطيع الحصول على العرش، ويضم إليه أبويه المحطمين الهرمين، فترثي لهما ميديا؛ وبصنعة جميلة من سحرها ترد عليهما شبابهما فيرتدان أجمل مما كانا في شرخ صباهما؛ ويتسامع الناس بما كان من ذلك، وتعلم بنات بلياس اللائى كن قد أبدين السخرية بميديا وأشعرنها احتقارهن، بما تم لعمهن وزوجته من ارتدادهما إلى الشباب بسحر ميديا، فيأخذن في ملاطفتها، ثم يسألنها أن تعيد إلى أبيهن شبابه حتى تطول أيامه في الملك، وهنا تشير عليهن أن يذبحن الملك بعد أن ينام ثم يقطعنه إرباً حتى تحضر هي فترده إلى الحياة كما ترد إليه شبابه وتخلع عليه بُرْد صباه. . . ويطيعها بات بلياس فيقتلن أباهن. . وبذلك يتخلص منه جاسون. ويصبح البنات مجرمات في نظر الشرع والقانون؛ لكن جاسون يستطار من شناعة ما تصنع ميديا، فلقد ذبحت أخاها دون أن تأخذها فيه رأفة ودون أن يتحرك قلبها لتوسلاته وعبراته، ثم راحت تمزق بدنه وتلقي بأشلائه في اليم. . . وهي اليوم تصنع مثل الذي صنعت بالأمس فتحرض بنات عمه على تلك الفعلة الشنعاء. . .
لقد تبدلت نظرة جاسون، ورفع عن بصره غطاؤه. . . لقد كره ميديا!
ثم تبدأ الدرامة الثانية، التي هي مفخرة يوريبيدز، والتي سماها (ميديا)، والتي أقامت نساء أثينا وأقعدتهن، والتي ألف من أجلها أرستوفان ملهاته (محاكمة يوريبيدز) أو -
يفر جاسون مع زوجته وولديه إلى كورنثة حيث يحل ضيفاً على ملكها كريون العجوز
الشيخ الذي لا نَسل له إلا فتاة بارعة الجمال. . . ويكرم الملك مثوى ضيفه الذي طبقت شهرة شجاعته الآفاق ثم يسر إليه أنه يرغب في أن يتخذه ولداً ويزوجه ابنته على شرط أن يقطع ما بينه وبين زوجته ميديا الساحرة ابنة ملك البربر. . . ويتردد جاسون ثم يقبل عرض الملك، لكنه يبقى الأمر سرّاً بينهما حتى يدخل بزوجته الجديدة، ثم يرسل الملك بعض جنوده للقبض على ميديا التي تكون قد عرفت كل شيء، وقهرها على مغادرة كورنه هي وولداها. . وتحتال ميديا فيمهلها الملك يوماً واحداً حتى تأخذ أهبتها للسفر، ثم تحتال فيلقاها جاسون حيث يفرغ كل ما في سريرته للآخر، ويكلمها جاسون في برود وتكلف، وتخاطبه ميديا في ازدراء وخشونة وأسلوب كله بَرَم ومَن. . . ثم يلقاها مرة أخرى فتبدو كأنها غفرت له كل شيء أو كأنها نسيت كل شيء، ثم تسأله أن يذهب هو وولداها إلى زوجته الجديدة بهديتها التي يسعدها جدّاً أن تتقبلها من امرأة محطمة كسيرة القلب مهيضة الجناح، فيهش جاسون ويذهب بالهدية وهي ثوب من دمقس وحرير مفتل فيقدمها لزوجته التي تفرح بها. . . لكنها ما تكاد تلبس الثوب حتى تحس بإبر الموت تخزها وتنفذ بالآلام المبرحة إلى نخاعها. . أوه!. . إنه ثوب مسموم احتفظت به ميديا لمثل هذا اليوم!! لقد ثأرت ميديا لنفسها كما ثأرت لكبريائها. . لقد ماتت الزوجة التاعسة من برحاء الألم!. . . لكن ميديا لا تكتفي بهذا الثأر يقع على فتاة بريئة أو قد تكون بريئة. . . إنها تذهب في ثأرها إلى أبعد حدود القسوة البشرية وأشقها. . . لقد قتلت أخاها أبستروس ومزقته إرباً ورمت بأشلائه في البحر لتعرقل أباها من أجل جاسون وفي سبيل حبه. . . فلماذا لا تقتل ولديها نكاية في أبيها، ومبالغة في تمزيق قلبه؟!. . . يا للثأر؟!
ويعلم جاسون بما انتوته فيسارع لإنقاذ الطفلين. . . ولكن! واأسفاه! لقد ذبحتهما الشقية! وهاهو ذا جاسون يقف على جثيتيهما باكياً محطوم القلب مشبوب الجوانح بالحزن الذي ليس مثله كمد ولا حزن
وفي هذه الثورة تبتسم ميديا. . . وتزدري جاسون. . . ثم تركب تنّينها السحري فيطير بها في الفضاء تاركة وراءها الزوج الشقي والجثتين الحبيبتين!
ثارت الأثينيات على يوريبيدز بعد هذه المأساة ثورة جامحة لأنه صرح فيها بأن ميديا صورة من بنات حواء جميعاً، وأنه ليس فيهن من يفضلها قط، وأن كل امرأة تصنع من
أجل لذاتها أسوأ مما صنعت ميديا التي خانت أباها في كنزه، وذبحت أخاها وولى عهده، وفرت مع عدوه، ثم مكرت ببنات بلياس فهيأت لهن قتل أبيهن، ثم لم تتورع من أن تقتل طفليها غير آبهة ببكائهما الذي يفتت الصخر لا الكبود وذلك لتتم لها اللذة المجرمة الفتاكة، لذة الانتقام، كما تمت لها الآلام والنكبات لذة الحب. . .
وكان يوريبيدز بارعاً في جميع دراماته التي شنّ بها حربه السيكولوجية على المرأة والتي سنعرضها في الفصول التالية، فأنت لا تقرأ له درامة من تلك الدرامات إلا وتنتهي منها إلى الرثاء للمرأة مهما تكن شريرة عاتية، بل ربما أعجبت بهذه المرأة الشريرة العاتية وشعرت بالعطف عليها، وتمنيت لو كانت خاتمتها خيراً لولا ذلك الأسلوب البارع الذي يسلسل فيه يوريبيدز حوادث مآسيه، والذي يقتضي تلك الخواتيم التي لا يكون محيص منها ما دامت الحوادث تتسلسل هكذا!
لقد جعل أرستوفان من يوريبيدز موضوعاً لكثير من مهازله. وقد حفظ لنا الأثر ثلاثاً من هذه المهازل كلها عن يوريبيدز، وقل أن تجد لأرستوفان مهزلة غير هذه الثلاث لم يتعرض فيها ليوريبيدز بنكتة أو غمزة أو سخرية. . . وكان يوريبيدز يتألم أشد الألم وأبلغه لسخرية الشعب به، وتهكمه على أفكاره، حتى إذا طفح الكيل، لم ير بداً من الهجرة إلى مقدونيا كما سيمر بك
دريني خشبه
العالم
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
يسير الخير على هينته، ويمشي على رود لطيته
ويغذ الشر في سيره الحثيث على أوفاز، ويهتلك في عدوه، كميش الإيزار، فتتزلزل الأرض من وقع فيالقه الشهباء، ونسمع الجلبة والقعقعة فيقال:
إن العالم يزداد انغماساً في المعاصي والسيئات، ويوغل في ارتكاب كل محظور ومحرم. . .
ولكن هذا ليس بصحيح، لأن الفضيلة تتريث في مسيرها وتتئد في خَطْوها وتنثر بذرها بيد التمهل والترزن
في حين ينفض الإثم أجواز الأمصار معلناً أوزاره التي تستفيض هيعتها المنكرة في الأقطار، ويطير ذكر سوءتها الفاضحة في الآفاق، فتنصت لها الأصداء، وترّجعها الأنحاء. . .
وكما أنه ليس ثمة ريب في أن الأرض تتحرك وتدور حول الشمس المضيئة
كذلك نعلم أنه لا بدّ أن يتمّ الله تعالى أمر الذي يقضي: بأن يُصلح شأن جميع الجنس البشريّ
وعلى الرغم من جيشان أمواه الشرّ، وارتفاع هديرها، وغزارة طموّها، فإن حصيد الحقّ الذهبي ينضج بسرعة، وتسطع أنوارُ حافره الباهرة، وتكسف بسناها شموس الماضي فترتفع بأفكار الناس إلى كبد العلاء وتصيرها أرقى مما كانت. . .
إن الذي يسير موغلاً قد يقرأ هذه الحقيقة التي أرددها قائلة: اعلم أن الإثم يتجوّل راكبا عربة ترتفع لعلعة عجلاتها الصاخبة في الحزون والسهول
في حين يذرع الصلاح فراسخ السماء، ويعلو رونقه حين يطلّ من محرابه النقيّ على أرض الشقاء، متألقاً تألق النجمة الزهراء
فيتوقل العالم كل يوم في معارج السمو والارتقاء.
خواطر
للأستاذ فليكس فارس
لا أعلم ماذا عني واضع تعبير الشعر المنثور، ويخيل إليّ أن هذا الترتيب المستحدث في اللغة العربية إنما ترجم حرفيًّا عن (فير ليبر) بالفرنسية؛ غير أن المترجم التوى عليه المعنى لظنه أن كلمة (فير) تترجم بكلمة (شعر) في حين أنها لا تعني إلا المنظوم من الكلام بوزن وقافية. ولا أرى في العربية ما ينطبق على هذا التعبير الفرنسي إلا (النظم المنفرط) أو حل الشعر وإطلاقه من وزنه وقافيته لإرساله نثراً، وذلك ما يكلفه التلامذة لتسهيل فهم الشعر عليهم ولتعويدهم سبك المعنى الواحد على صور متعددة.
أما (الفير ليبر) في الأدب الأوربي فليس إلا بدعة جاء بها المتأخرون كما جاءوا بأنواع الرسم المكعب والشعر المستغرق في الرمزية، وما هي على ما اعتقد إلا ظاهرة لتقلص الأعصاب في المدنية المتعبة
وإنني لأعجب للأدباء في الغرب يضعون كلمة (فير ليبر) ولا يفطنون لما في مبناها من التناقض، فإن النظم مقيد إلزاماً، فإذا أطلق من أوزانه خرج عن صفته وأصبح نثراً
إن البيان من الفكر كلام، ومن العواطف نغمات؛ والنظم معلق بين الكلام والنغمات، يتناول من الأول نتاج الفكر، ومن الثاني خطرات الهوى؛ غير أنه أقرب إلى القلب منه إلى الدماغ، لأنه لا يقوم على حجة ودليل، بل يخاطب ما انطوى في السرائر وما يطمح الناظم إلى وضع مقدمات لاستخراج ما يريد استهواءك إليه، إذ حسبُه من بيانه أن ينفذ إلى ما استقر فيك من مقدمات إن خلت سريرتك منها انزلق عليك بيانه فإذا أنت ضاحك من بكائه، مستهزئ بشجوه وتحنانه
ما النظم المنثور الذي يسمونه شعراً منثوراً إلا بيان حائر، بل هو جنين تمخض به الخيال وضعف عن مدّه بالتكامل فلفظه مسخاً لا يصلح للحياة
إن للنثر أوزانه الخفية وبحوره التي لا ساحل لها، وللنثر الناضج موسيقاه المطلقة كأمواج البحر تتالى ولكل موجة شكلها وتعاريجها؛ ذلك لأن خطرات الفكر نبضان لا يتكرر على وتيرة واحدة في الدماغ، في حين أن النظم وهو صورة نبضان القلب لا يطلق موسيقاه إلا على نظام الوحدة في تكرار ضرباته
ولعلك إذا نظرت إلى هذه الأشرطة التي تطبع عليها كهرباء القلب صورة خفقانه يدهشك منها ما تمثله لديك من أبحر الشعر في أنواعها، فمن القلوب ما تبسط على الرسم البحر (الطويل) في هدأتها، ومنها ما تصور البحر (المتدارك) في ثورتها، ومنها ما حلا لها كبعض أدباء هذا الزمان أن تمسخ نظمها نثراً فتراها تأتيك بالطويل والقصير والرجز والمتدارك متداخلة متركبة، ومثل هذه القلوب قد استنفدت كهرباءها وآذن اختلالها بقرب انصداعها
من غرائب التقليد في هذا الزمان أن يترجم لنا بعض أدبائنا قصائد أو مقطوعات من منظوم الفرنجة فيأتوا به صورة طبق الأصل في ترتيب السطور؛ فهم يصلون الجملة حيث يجب قطعها، ويقطعونها حيث يجب وصلها، جرياً مع الناظم الذي حكم الوزن والقافية على ترتيبه، وهم لا يفطنون إلى أنهم مطلقون في ترجمتهم من كل وزن وقافية
ما وقع نظري مرة على هذه المنظومات المترجمة وقد كتبت بشكل قصيدة وليس فيها من إلزامات القصائد شيء إلا وحسبتني أرى سابحاً يخرج من البحر ويستمر على دفع الهواء بيديه كأنه لا يزال يسبح على اليابسة ويخشى الغرق ورجلاه ثابتتان عليها. . .
وأغرب من هذا، بل وأنكى، أن تقرأ لبعض المجددين. . . شعراً منثوراً. . . تتوالى سطوره وفي كل سطر أربع إلى سبع كلمات نضدت على سلك لا وجود له إلا مخيلة الكاتب؛ فهو مضطر ولا أدري لماذا، أن يقطع جملته إذا بلغت الخمس أو السبع ليستطرد الكتابة في السطر الثاني، وليس بوسعه أيضاً أن يقف بجملته حتى يتم معناها إذا كان لم يزل لديه متسع من المقياس الذي انطبع في ذهنه من تلاوته قصيدة ترجمت على هذا الشكل عن أحد كبار الشعراء
وقى الله الأدب العربي من آفات التقليد والمقلدين!
(الإسكندرية)
فليكس فارس
حياة محمد
باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة
عبد الفتاح السمرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد العزيز عبد
المجيد
بهذا الحماس وذلك الجد تقدمت الدعوة الإسلامية حتى لم تمض على الإسلام سنة هناك (في المدينة) إلا وكانت كل أسرة عربية قد ساهمت بدخول بعض أفرادها في حوزته، ما عدا شعبة واحدة من بني الأوس وهي التي استمرت منعزلة بعيدة عن الإسلام وذلك بتأثير أبي قيس بن الأسلت الشاعر
وفي السنة التالية حينما جاء موسم الحج وفدت إلى مكة طائفة من معتنقي الإسلام حديثاً، وعددها ثلاثة وسبعون رجلاً، وبصحبتهم جماعة من مواطنيهم كفار يثرب، وقد عهد إلى هذه الطائفة أن تدعو محمداً (ص) إلى أن يلجأ إلى يثرب تجنباً من غضب أعدائه، وأن يبايعوه على أنه رسولهم وقائدهم، وفد إلى مكة لهذه المناسبة العظيمة كل معتنقي الإسلام الأولين الذين كانوا قد لاقوا الرسول من قبل في الموسمين السابقين، ومعهم مصعب ابن عمير معلمهم، فأسرع على أثر وصوله إلى الرسول، وأخبره بالنجاح الذي لاقته بعثته. ويقال إن أمه لما سمعت بقدومه بعثت إليه رسولاً فقال له:(أيها الابن العاق، أتدخل مدينة فيها أمك من غير أن تبدأ بزيارتها؟) فكان جوابه: (كلا، إنني لا أزور منزل أحد قبل رسول الله). ثم ذهب إلى أمه بعد أن فرغ من تحية الرسول (ص) والتحدث إليه؛ فقالت له أمه زاجرة: (أخالك إذاً لا تزال خارجاً منشقاً). فقال: (أتبع رسول الله ودين الإسلام الصحيح). فردت عليه قائلة: (أقانع أنت بطريق الشقاء الذي انتهجته في الحبشة وفي يثرب؟). أدرك حينئذ أن أمه تفكر في سجنه فخاطبها متعجباً: (ما خطبك؟ أتكرهين إنساناً على أن يغادر دينه؟ إن كنت تدبرين أمر سجني فإنني سأقتل أول من يضع يده على). فقالت له: (أخرج إذاً من عندي) وأخذت تبكي. فتأثر مصعب لذلك وقال: (أماه. خذي مني
نصيحة المخلص! أشهدي أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله). ولكنها أجابته بقوله:(والنجوم اللامعة، لن أكون قط حمقاء بدخول دينك. إنني أنفض يدي منك ومما أنت فيه، وأعتصم بعقيدتي)
وكان قد ضرب موعد ليجتمع سراً بالعقبة من أسلموا في العام الماضي وذلك لكيلا يثيروا حولهم شبهات القرشيين أو عداوتهم؛ وجاء محمد ومعه عمه العباس الذي كان لا يزال وثنياً حينئذ ولكن سمح له أن يحضر هذا الاجتماع السري. أفتتح العباس هذا الاجتماع الجليل موصياً بابن أخيه، ومشيراً إلى أنه ينتمي إلى أسرة من أشرف أسرات قبيلته التي وإن كانت لم تقبل تعاليمه إلا أنها ما زالت تحميه؛ أما وقد أبى إلا الانحياز إلى أهل يثرب واللحاق بهم فإن عليهم أن يتدبروا الأمر بحكمة قبل أن يأخذوا العهد على أنفسهم، وأن يصمموا ألا ينكثوا عهدهم متى قبلوا تحمل هذا الأمر الخطير، فاحتج البراء بن معرور الخزرجي قائلاً: إنهم واثقون من عزمهم على حماية رسول الله، وتوسل إلى العباس أن يذكر ما يريدهم أن يعاهدوا الرسول عليه
بدأ محمد يقرأ بعضاً من القرآن، ويحثهم على أن يصدقوا في دينهم الذي اعتنقوه من وحدانية الله ونبوة محمد رسوله، ثم سألهم بعد ذلك أن يمنعوه وأصحابه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال:(نعم! والذي بعثك بالحق لنمنعك كما نمنع أنفسنا، ونعاهدك على طاعتك، وأن تكون لنا هادياً. فنحن أبناء الحروب، وأهل الحلْقة، ورثنا كابراً عن كابر). وهكذا أخذ الجميع يد الرسول واحداً بعد آخر، وبايعوه على الطاعة.
ولما علمت قريش بهذا الاتفاق السري عادت إلى اضطهاد المسلمين مرة أخرى، فنصحهم الرسول أن يهاجروا من مكة، وقال لهم:(اخرجوا إلى يثرب فإن الله قد جعل لكم إخواناً في تلك المدينة، ودارا تأمنون بها) فخرجوا إلى يثرب إرسالا، حيث لاقوا إكراماً عظيماً، وكان إخوانهم في الدين من أهل يثرب يتنافسون فيما بينهم كل يريد أن يحظى بشرف الإكرام، وليقدموا لهم ما يحتاجون. ولم يمض شهران حتى هاجر من مكة تقريباً كل المسلمين - وقد بلغ عددهم مائة وخمسين - اللهم إلا أولئك الذين قبض عليهم أو سجنوا، وأولئك الذين لم يستطيعوا الخلاص من الأسر. وتحدثنا الأخبار عن أحد أولئك المسلمين - صهيب - الذي
لقبه الرسول (بأول ثمرات اليونان)(ولقد كان عبداً إغريقياً أعتقه سيده فجمع ثروة عظيمة بطريق تجارته الرابحة). وذلك أنه لما عزم صهيب على الهجرة من مكة استوقفه أهلها وقالوا له: (أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك) فقال لهم صهيب: (أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟) قالوا: (نعم)، وهاجر هو تاركاً كل ثروته. ولما بلغ محمداً صلى الله عليه وسلم الخبر قال:(ربح صهيب، ربح صهيب)
أخر محمد صلى الله عليه وسلم هجرته من مكة - قاصداً بذلك ولا ريب أن يصرف أنظار أعدائه عن أعوانه المخلصين - حتى تنبه إلى مؤامرة مدبرة ضده، وأدرك أنه إن أبطأ في الهجرة ربما قضي عليه، فعمل على الهجرة بحيلة
وكان أول ما فعل بعد أن وصل إلى يثرب أو المدينة كما سميت بذلك منذ تلك الحادثة (مدينة الرسول) أن بنى مسجداً ليكون مكاناً للعبادة، وموضعاً لاجتماع أتباعه، وكان المصلون أولا يولون وجوههم شطر بيت المقدس، وربما كانت هذه سياسة اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم لاكتساب اليهود. وقد حاول محمد (ص) بطرق أخرى مختلفة أن يجتذب إليه اليهود، فقد أمر باحترام كتابهم المقدس، ومنحهم حرية العبادة، والمساواة في المعاملة، وحاول أن يصافيهم ولكنهم قابلوا كل ذلك بالتحقير والتسفيه. ولما أصبح الأمل في إدماجهم في الإسلام عقيما واتضح أن اليهود لن يعترفوا بمحمد (ص) رسولاً لهم، أمر محمد أتباعه أن يولوا وجوههم في صلواتهم شطر الكعبة بمكة (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وما الله بغافل عما يعملون، ولئن أتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)
ولقد كان لتغيير القبلة في الصلاة مغزى أسمى مما يظهر لأول وهلة، فقد كان ولا شك مبدأ حياة جديدة في الإسلام. إذا أصبحت الكعبة في مكة المركز الديني لكل المسلمين كما كانت منذ الأبد مكان الحج لكل قبائل جزيرة العرب. وهناك مغزى آخر شبيه بالسابق في أهميته، وذلك هو إدماج عادة العرب القديمة - الحج إلى مكة - ضمن ما افترضه الإسلام وذلك لأن الحج فرض على كل مسلم مرة واحدة على الأقل في العمر
وفي القرآن آيات كثيرة تثير روح الشعور بالتكوين القومي وتحث العرب على أن يقدروا الميزة التي منحوها بإنزال الرسالة الإلهية بلغتهم وعلى لسان واحد منهم
(إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(وكذلك أوحينا إليكم قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة، وفريق في السعير)، (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أَأعجمي وعربي؟ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، أولئك ينادون من مكان بعيد، ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون، وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدًّا)
(يتبع)
لما رأيته رأيت القدر
(مهداة إلى (علاء) الصغير)
للآنسة جميلة العلايلي
عندما يبتسم يتكلم القدر من بين شفتيه، وعندما ينظر ليتأمل تشيع الفلسفة من عينيه، وعندما يتحرك تعلن الحياة معانيها في أسلوب رمزي فاتن
هكذا كان طفلي الحبيب (علاء) عندما شاهد فلم (آلام فرتر)، وقد رأيته على غير ميعاد وعرفته دون سابق معرفة. . .
إنما فهمته كأنني جالسته الأعوام الطوال، وعاشرت روحي روحه الأجيال. . . جذبت روح الطفل بسماحتها وحلاوتها روحي التي تشرئب دائماً إلى الصفاء الصرف والنقاء الأكيد. . .
وهل يمكن أن يأخذ الصفاء مكانه إلا في معين ذلك الطفل النضير؟ كنت أحاول أن أطالع فلسفة الحياة من عينيه، فكان يولي وجهه ويسبل أجفانه. فهل كان يدري أن الحقائق الأكيدة المسجلة في أم الكتاب مرقومة واضحة في مقلتيه؟ هل كان يدري أن معاني الخلود مرسومة على شفتيه؟ هل كان يدري أن أسرار الوجود منقوشة كظلال من النور على جبينه؟
هل كان يدري ذلك الطفل النضير؟
كان يسأل والده الذي احتضنه بجوانحه، وحباه بعواطفه، كلما تراءت له عواطف الإنسانية في شبه صور متحركة: ما هذا؟ ولم هذا؟
وكان يجيبه الوالد في إيجاز عن الاسم والسبب
ويا للفارق بين فلسفة الصغير وفلسفة الكبير!
الصغير يعرف ويجهل، والكبير يجهل ويعرف!. . .
يا حبيبي البريء، يضلك الوالد عندما يقول لك: الحياة أمامك. مع أن الحياة فيك. . .
لا تتكلم يا حبيبي ودعه يفهمك لتعرف أن الحياة تشوه العقل الفطري بأضاليلها. . .
أنت الفيلسوف الحكيم، وأنت العاطفة المثالية العليا. . .
إنك تفهم أمك، وتفهم والدك، وتحسب أنهما مثلك لهما براءتك وفلسفتك فتخاطبهما بأسلوبك
الرمزي في إيجاز. . .
يا حبيبي البريء. . .
ما زلت تعيش في سماء الإنسانية وترقب الحياة على ضوء ذهنك الخلاب راجيا أن تسير عجلة الحياة بأمضى سرعتها لتكون رجلاً مثل من سعد بحظ أبوتك، فهل تعرف يا صغيري ما يحمله عقل ذلك الرجل الذي دعوته في لطف وحلاوة باسم (الجدع)؟ هل تعرف يا صغيري أنك بطفولتك النقية الملائكية أعظم منه برجولته المعقدة الآدمية؟
هل تعرف أنك كلما زدت في أعوام عمرك عاماً نقصت من إدراك حقائق الوجود أعواماً مهما قالوا إنك غنمت؟. . .
هل نعرف أنك بقلبك الصغير المليء بالحب العف الطهور،
أجل منك بقلبك الكبير المليء بالحب المادي الزاخر بأباطيل الوجود؟
هل تعرف أنك أحب إلى قلب أمك وأبيك من كل حبيب؟
وغداً عندما تكبر يحاسبك الوالد بميزان العقل، ويراك ندًّا له، فيحبك إذا أوليته من نفسك قدر ما تطمع إليه عاطفته، ويمقتك كأي شخص غريب إذا خالفته وخرجت عن تقاليده وأوضاعه؛ والصلة الروحية الوثيقة التي يقبض على زمامها ملاك الأبوة في الصغر يتهاون في شدّها رويداً رويداً لتشعر بأنك فرد لك حريتك وسلطتك وقلبك وعقلك ولا شأن لك بأمك أو أبيك. . .
هذه هي مرحلة السعادة الأكيدة التي يقضيها الإنسان في حياته. . .
سعادة الطفل بحب أبويه كاملاً
وسعادة الأهل باستسلام الصغير. . .
اليوم لا يحب الطفل غير أبويه، وغداً يحب ويحب ويحب، وقد يكون الأهل أول ضحية تقدم على قربان الحب الذاتي
واليوم يحب الوالد طفله، وغداً يتلاشى الفارق بينهما وتؤدي المساواة رسالتها، وقد يكون الابن أول من يحاربه الوالدان تحت تأثير مخدرات أباطيل الحياة ليقيم لنفسه وزناً في عالم لا وزن له. . .
يا طفلي الحبيب. . . تمنيت لو أحفظ لك طفولتك وأدفع الثمن من دمي، لأحفظ للإِنسانية
روح الصدق والحب والطمأنينة والسلام. . .
اليوم لن تفهم ذلك الأسلوب الذي تعارف عليه الناس وأسموه أدباً لأنك لا تؤمن بغير أسلوب روحك الرمزي النقي. . . وغداً عندما تضلك الحياة وتغريك أضواء الوجود. . . تفهم وتدرك
وسوف تقول: ليتني ظللت طفلاً لأتمتع بحب أبوي الشامل وأحرك المشاعر بأنفاسي العطرة، وأسِّير الأقلام بإلهامي. . . ليتني. . . ليتني. . .
ولكن هيهات. . .
فبعد أعوام. . . أسمع عنك وقد أراك، فأجد الحياة المادية تسيرك، وألمح روح الحياة العلوي ينسحب في بطأ وحسرة ليتقمص كيان وليد جديد. . .
أدام الله لك قلبك بعاطفته البريئة النقية. . . ولتتصرف الحياة في كل ما تملك. . . عدا قلبك. . . عدا قلبك. . . لتكون كأبيك تحب لتخلد.
لما سألت والدك: لم مات فرتر؟ أجابك: لأنه أحب وأخفق.
فابتسمت ابتسامة عميقة أعمق من فلسفة الوجود لو ارتسمت
في شبه بسمة وقلت: (يعني لما الواحد يحب واحدة ولا تكونش مراته يموت)، فضحك وقال: أجل
فهل علم الوالد أنك تفهم أكثر منه وأنك تضلله بسؤالك
آه. . . لو قال لك: إنه مات لأنه جعل الحب غاية، وكان يريد أن ينتصر في المعركة، فلما انخزل وجد الموت مع الكرامة أشرف من الحياة مع المهانة، لو قال ذلك. . . لارتسمت تلك الحروف في ذهنك مدى الأعوام ولصرت بطل جيلك. . .
يا صغيري الحبيب!
إنني أتوسم فيك سمات البطولة
وألمح في عينيك شعاع المجد المرتقب
وأرى حركاتك بشير الصراع الحيوي الشريف. . .
فعش لأبيك ذكرى خالدة، ولوطنك شعلة الحب والحق والحرية. . .
جميلة العلايلي
من تاريخنا النسوي
أستاذة الصحابة
للأستاذ سعيد الأفغاني
سلخت سنين في دراسة السدة عائشة كنت فيها حيال معجزة لا القلم إلى وصفها سبيلاً. وأخص ما يبهر فيها: علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج، وسعة آفاق، واختلاف ألوان. فما شئت إذ ذاك من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير أو علم بشريعة أو آداب أو شعر أو أخبار أو أنساب أو مفاخر أو طب أو تاريخ. . . فإنك واجد منه ما يروعك عند هذه السيدة، ولن تقضي عجباً من اضطلاعها بكل أولئك وهي لا تتجاوز الثامنة عشرة
ولست بسبيل بيان ذلك الآن، وإنما أخبرك أني وقعت وأنا أنقب في كنوز المكتبة الظاهرية بدمشق على مجموعة خطية في آخرها رسالة نفيسة للإِمام بدر الدين الزركشي الشافعي المصري قصرها على موضوع واحد هو: استدراكات السيدة عائشة على الصحابة
من خصائص المرء ذي الطبيعة العلمية أن يكون طُلَعة كثير السؤال، لا يهدأ له بال حتى يرضى طمأنينته ويجلو لنفسه كل خفي مما يحيط به. وكانت السيدة عائشة بهذه الصفة، ساعدها على بلوغ ما بلغت من المعرفة أنها ربيت في حجر أبي بكر الصديق أعلم الناس بأنساب العرب وأخبار قبائلها وميزات بطونها، فحازت من ذلك علماً كثيراً. ثم انتقلت إلى بيت الرسول ومهبط الوحي فكانت أقرب الناس من معين العلم، فغرفت منه ما لم يتيسر لأحد غيرها لمكانها منه كزوجة، ولما تفردت به من ذكاء نادر وفكر واسع. وكلما عظم حظ الإنسان من المعرفة كثر تطلعه إلى ما فوقه. أما الجاهل فليس بمعنىّ أن يبحث أو أن يسأل، فإذا أصاب من المعرفة حظاً بطريق العرض كان أبعد الناس عن أن تطلب نفسه مزيداً أو تثير له شكوكاً تحدثه بسؤال يسأله وقد أوردت السيدة على الرسول من الأسئلة في كل ما مّر بها من موضوعات: في الفقه والقرآن والأخبار والمغيبات وأمور الآخرة، وفيما يعرض له من أحداث وخطوب، وما يفد عليه من وفود
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، كان علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه. . .
ومع حمل الأصحاب إلى الأمصار طائفة صالحة من الأحاديث والأحكام حتى كانوا ثمة
مرجع طلاب العلم ورواة الحديث، بقيت المدينة - لأسباب أهمها وجود عائشة - دار الحديث ومنبع العلم. فحين يشكل على أهل الأمصار أمر من الأمور، يكتبون إلى أصحاب رسول الله في الحجاز يسألونهم عن حكم الله فيه، فكان هؤلاء إذا فاتهم علم شيء رجعوا إلى علماء بينهم اشتهروا بحمل العلم وفقهه كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعروة وابن الزبير. . . تروى عنهم الأحاديث وتنشر الأحكام حتى صاروا مقصد الرواد. ومقام السيدة بينهم مقام الأستاذ من تلاميذه، فكان عمر بن الخطاب يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء أو بأحوال النبي البيتية، لا يضارعها في هذا الاختصاص أحد من الرجال ولا النساء
ويصل إلى مسمع السيدة عن أولئك العلماء روايات وأحكام على غير وجهها، فتصحح لهم ما أخطئوا فيه أو خفي عليهم، حتى عرف ذلك عنها، فصار من شك في رواية أتى عائشة سائلاً، وإن كان بعيداً كتب إليها يسألها. ومن هنا طار لها ذلك الصيت في التمكن من العلم، ورجع إلى قولها كبار الصحابة كأبيها أبي بكر وعمر وأبنه وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير. . . وصار معاوية في خلافته يكتب إليها سائلاً عن حكم أو حديث أو شيء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطمئن إلى يقين مما يسمع من غيرها حتى يرد عليه جوابها فيبرد صدره
وستجد أن خطأ الصحابة كثيراً ما يرجع إلى أنهم حضروا آخر الحديث وفاتهم أوله، وسترى في كل ما تستدرك: صحة النظر وصواب النقد وحضور الذهن وجودة النقاش. وأغلب الأسباب في تخبط الروايات أن الرواة يستنبطون الحكم من الجملة التي حضروها. وكثيراً ما يكون الرسول ذكرها في معرض حكاية أو إنكار، وترى ذلك في مرويات أبي هريرة خاصة.
وكما استدركت على أبي هريرة ضياع أول الكلام عليه أو آخره، استدركت على كثيرين فهمهم لحديث، أو خطأ استنباط حكم من آية، أو ضلالا في معرفة أسباب النزول، أو اجتهاداً فيه مشقة على الناس، وكان الناس يقعون منها في كل ذلك على علم غزير وفهم حصيف ورأي صائب، ولا غرو فقد كانت السيدة عائشة الملجأ الأخير الذي ترفع إليه مسائل الخلاف والروايات وأحكام الشريعة لتمحيصها والقضاء فيها القضاء الفصل
ومن هنا توقن أن حياة السيدة قد بنت مجداً باذخاً لتاريخ المرأة العلمي في الإسلام، بل إن عبقريتها وحدها كفيلة بملء تاريخ كامل، فلست أعلم في عبقريات الرجال والنساء ما يداني مكانة السيدة. وما أجدر سيداتنا - ونحن في مطلع بعث ونهضة - أن يصلن حلقات هذا التاريخ الذي بدأته امرأة منهن في صدر الإسلام، فتتلمذ عليها مشيخة المهاجرين والأنصار من كل حبر وعالم وفقيه وقارئ وراوية، وعنها وحدها نقل ربع الشريعة كما قال الحاكم في المستدرك، وليس هذا بكثير على من غبرت نحواً من خمسين عاماً بعد وفاة الرسول تنشر سنته وتفنى وتحدث وتستدرك، حتى كونت لنفسها مدرسة من أقوى مدارس الحديث والفقه والتفسير وأوسعها
(دمشق)
سعيد الأفغاني
العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 1 -
في هذه الأيام يتجاوب البرق في أنحاء العالم بذكر حدود مصر الغربية وتتطلع الدول إلى ما يجري في هذه الحدود من التحصين والاستعداد وتحرك الجيوش من الجانبين: المصري والإيطالي. وقد ارتحل المحرر إلى هذه الأنحاء النائية فقضى بها أربعين يوما، وهو في المقالات يصف الطريقة ويتحدث إلى القراء بأنفع المعلومات في أسلوب سهل موجز
سحر الصحراء
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كان الربيع قد أطل على الوجود بوجهه المزدهر الباسم - وفي الربيع تتجاوب الذكريات - فذكرت فيما ذكرت رحلتي الأولى إلى الصحراء الشرقية، وتمثل في خاطري سحر الصحراء وما يلقى المرتحل إليها من عناء هو أحب إلى النفس من الراحة والدعة والاطمئنان
ذكرت رحلتي تلك إلى صحراء سيناء فتطلعت نفسي إلى رحلة ثانية أرتحلها إلى الصحراء الغربية
ومحافظ الصحراء الغربية صديق قديم، وهو من رجال السيف والقلم يمجد الأدب ويحب الأدباء. . . فلتكن رحلتي الثانية إليه. وفي رحابه ومعونته سأجوب الصحراء وأرتاد نجوعها وأنزل على قبائلها، واشرف على هضابها، وأهبط إلى وديانها، وأقطع شعابها ومفاوزها
هتف بي سحر الصحراء ودعاني فلبيت. . .
ولقد كان للعرب من قبل - كالمقريزي والمسعودي واليعقوبي وأبي الفداء وغيرهم - شرف السبق في ارتياد الصحارى واجتياز مجاهلها مستهدفين لأخطارها في وقت لم يعرف عنها غيرهم إلا النذر اليسير؛ وكانت هذه الصحارى - ولا تزال - سراً مجهولاً مهما قال عنها العارفون.
وفي رمال الصحراء المنبسطة، وهدوئها الشامل، وعظمة جبالها الشامخة، وفي صفاء سمائها، وجلال نورها، وفي لياليها الساحرة؛ في هذا، وفي أروع من هذا ما يخلب لب روادها، ويجذبهم إلى ارتيادها، وفيه ما يغري النفس بالتغلب على وعورة طبيعتها ليشعر بعد ذلك بلذة الانتصار والغلبة.
أما ساكنو هذه الصحارى من البدو، وما فطروا عليه من بساطة العيش فإنك حين تخالطهم سر عظمتهم وبعد نظرهم وبساطة حكمهم، وسلامة شرائعهم ومعرفتهم للنجوم، واتجاهاتهم وهبوب الرياح وعلاماتهم وأوقاتها، وتدرك على الجملة سر سيادتهم على هذه الصحارى وجملهم أدلتها.
وفي هذا المقال سأتحدث إلى القراء في كلمات وجيزة عن المعلومات التي على كل مصري معرفتها في وقت يهتم العالم فيه بهذه البقاع التي تقع في داخل حدودنا المصرية
لغة البدو وديانتهم ومعارفهم
يتكلم البدو بلهجة عربية تختلف عن اللهجة الفصيحة اختلافا بسيطاً، ومن السهل أن يتفهمها سكان المدن. وهم يكثرون في كلامهم من ضرب الأمثال. أما ديانتهم فهي الإسلام. لكن القليل منهم من يعرف قواعده. وأكثرهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، ولكنهم يعبرون عن العدد بأصابع اليد، ويعرفون فصول السنة والجهات الأربع، ويجعلون مواعيدهم طلعة الهلال أو طلعة القمر.
لهم رشاقة القد، وخفة الحركة، وجمال العيون، وذكاء النظرة، وسمرة اللون، وقلة شعر العارضين، ودقة الأنف، ولنسائهم ولع شديد بوشم الشفاه، وهو عندهن آية الجمال
تقوم زراعتهم على الأمطار إلا في بعض الواحات وحول الينابيع والآبار، وهم يزرعون الشعير والاذرة والبطيخ والقمح أحياناً، ويصنعون البيوت من شعر الإبل والغنم وكذلك يصنعون منها ملابسهم وخيامهم، ويعتنون بتربية الإبل والخيل والغنم ويستدلونها ويتجرون بها كما يتجرون بالبلح والعجوة وهو محصول النخيل
يسكن البدو خياماً من الشعر يحيكها نساؤهم ويقيمونها على شكل ظهر الثور جاعلين أبوابها نحو الشرق. ويلبس البدوي قميصاً قصيراً فوقه آخر أطول ثم يلبسون فوق ذلك عباءة، وذلك لباس متوسطي الحال منهم، أما الطعام فالشعير والأذرة والقمح والأرز والبلح
وما يمزج من الحليب والسمن والدقيق، وهم يحبون أكل اللحم حباً مفرطاً، وقلما يأكلون الأسماك
اشتهر البدو بحب الفضيلة والضيافة والكرم والغزو والنجدة والأخذ بالثأر والشجاعة وعزة النفس والشورى، لكن فقرهم يفقدهم كثيراً من هذه الأخلاق، ويحمل أكثرهم السيوف وهي محدبة وتتحلى أغمادها بالفضة، ويحمل بعضهم البنادق من الطراز القديم، ويحمل رعاة الإبل (الدبوس) وهو عصا قصيرة في رأسها كتلة، أما حليهم فهي العقود من الخرز والفضة ويلبسون خواتم ضخمة من الفضة والقصدير
أما خرافاتهم فكثيرة، وهم يعتقدون في الإصابة بالعين ويعلقون الخرز في رقابهم ورقاب حيواناتهم منعاً للحسد. وليس عندهم من آلات الموسيقى غير الربابة والصفارة والمقرون (الزمارة)؛ وهم يغنون الشعر، وغناء الرقص عندهم يقال له (الدحية) والسامر، أما الدحية فهي أن يقف المغنون صفاً واحداً وبينهم شاعر يرتجل الغناء وأمامهم غادة ترقص بالسيف وهم يرقصون ويرددون ويهزون رؤوسهم يميناً وشمالاً بشكل منتظم. وأما السامر فهو تقريباً مثل الدحية فلا يختلف إلا في أن يقف الرجال على صفين متقابلين وأما كل صف حسناء ومعها سيف للرقص به.
أما القضاء عندهم فموكول إلى قضاة من خواص رجالهم يحكمون بينهم بالعرف والعادة على أوضاع عديدة، وأما محاكمهم فعلى درجات ثلاث، وأحكامهم وشرائعهم لا يمكن حصرها في هذه السطور، فلكل جريمة شريعة خاصة، وتسمى هذه الشرائع بروابط القبائل ومنها شريعة القتل وشريعة الجروح وشريعة النساء وشريعة الإبل
(يتبع)
عبد الله
استطلاع صحفي
الأندية الأدبية في مصر
كازينو باب الخلق
لمندوب الرسالة
باب الخلق أو باب الخُرْق كما يسمى في الخطط القديمة، ميدان يقع من القاهرة في الصميم، وكأن الحكومة رأت فيه هذا المعنى. فأقامت به دار المحافظة لتكون في الوسط لكل مواقع المدينة يخترق شارع محمد علي، وهو مجاز المواكب الرسمية والعسكرية بين القلعة والعتبة، والقلعة والعباسية، والقلعة وعابدين. ويمر به الطريق الواصل بين الحسين والسيدة والإمام، فما تكاد تنقطع منه جموع القرويين الذين جاءوا إلى مصر يوفون بالنذر لأهل البيت، ويستعطفون الأسياد بالنظرة. وفيه تقوم دار الكتب المصرية وهي كعبة يحج إليها طلاب الثقافة والمعرفة من أبناء الأزهر، وشباب الجامعة، وتلاميذ المدارس، ومن في نفسهم الرغبة في الأدب والعلم من مختلف الهيئات وشتى الجهات. . .
وكأن وجود دار الكتب في هذا الحي هو الذي صبغه من قديم بالصبغة الأدبية، وجعله مهوى كثير من الشعراء والأدباء والصحافيين، وكم لهم في هذا الحي من سهرات عامرة، ومجالس حافلة، وذكريات كلها البهاء والرواء، والأدب والشعر، والمضاحيك الحلوة الخالدة، وناهيك بمضاحيك حافظ ونسيم وإمام العبد وصاحب (الصاعقة) ومنشئ (الحمارة) وإخوانهم من الذين ذهبوا في الذاهبين، أو تخلفوا إلى حين!
في هذا الميدان الأدبي العامر، وفي المثلث الحادث من تقاطع شارع محمد على بدرب الجماميز وأمام جامع الحين الذي لا أعرف إلا اسمه، يقع كازينو باب الخلق. ولهذا الكازينو تأريخ قديم، وذكرى غابرة، فكل ما فيه من مظاهر الأبهة، فهو طريف مستحدث، قضى به العصر، وتطور به الزمن، عن أصل كان هو المظهر السائد في مصر القديمة!
كان هذا الكازينو من قبل يسمى (قهوة باب الخلق) وكانت هذه القهوة بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، ندياً من أندية الأدب في مصر، على ما يحكي الصحافي العجوز، فكان يجلس فيها الشيخ أحمد الفتاح، والشيخ محمد المهدي، والشيخ الحملاوي،
ومحمود بك أبو النصر، وحفني بك ناصف، والشيخ محمد الخضري، تحيط بهم نخبة من طلاب الأزهر ومدرسة المعلمين الناصرية - أي دار العلوم - فيأخذون في أمشاج من أحاديث الأدب واللغة والدين والسياسة في بعض الأحايين.
ثم فعلت الأيام ما فعلت وقامت دولة مكان دولة واحتل القهوة الشيخ محمود حسن زناتي، والشيخ طه حسين، والشيخ أحمد حسن الزيات، والشيخ إبراهيم مصطفى، ومن على شاكلتهم من تلاميذ المرصفي والمهدي والشنقيطي ممن تمردوا على حوشي الأزهر ومتونه وهوامشه، فلما شب عمرو عن الطوق انصرف كل إلى شأنه في الحياة وقد بقي في نفسه شيء من تلك الحياة. أما الدكتور طه فسخر بماضيه وتمرد على إخوانه وراح ينعتهم (بأدباء باب الخلق) زراية عليهم وغضاً من شأنهم. وأما صديقنا الشيخ محمود زناتي فما زال يذكر تلك الأيام بالخير، وما زال يتشهى شطير الجبن والعجوة الذي طالما تناوله من يد عم أحمد - هو وصاحبه طه - في ذلك المكان. وأما أستاذنا الزيات فإذا ما سألته الخبر في ذلك نظر إليك ساهما وهو يقول: تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. صحيح صحيح! لقد كان ما كان!
ثم كان بين الغابر والحاضر فترة من الزمن للتمول والتمور، فقد وفد على مصر وافد الرقي والحضارة، وقامت في رؤوس القوم النية في تنسيق القاهرة وتجميلها، وكان لا بد لباب الخلق من أن يتسع فناؤه ويعلو شراعه وأن يصير إلى نظام أنيق يلائم روح العصر، وكان لابد أيضاً لقهوة باب الخلق أن تتطور وتتحور وأن تلبس لباس الجديد، فأصبح اسمها الكازينو بدل القهوة، وصار بناؤها من الزجاج الشفاف وقد كان قبل من حجر المقطم، وغدت وهي في عصمة شاب مصري ناهض من صميم الريف وقد كان يقوم عليها من الذين ابتلى الله بهم مصر حيناً من الدهر
واليوم يقوم الكازينو في باب الخلق نادياً أدبياً يقصده كثير من الأدباء والشعراء ورجال الصحافة والفن، فتجد السيد حسن القاياتي يهبط عليه في الفينة بعد الفينة؛ وإذ يجلس السيد القاياتي فإنما يحفل مجلسه بالأدب والشعر والرواية والتاريخ والمواليا والزجل، وما ينفض المجلس إلا وقد تحمل الشيخ لحسابه ما ينوء به جيب الأديب. ولكن الله قد بارك في جيب الشيخ
وبين الحين والحين يعرج على الكازينو صديقنا الأستاذ الشاعر أحمد الزين وهو عائد من عمله في دار الكتب، فإذا وجد موضعاً للحديث تحدث كعادته حديثاً شاملاً يتناول كل الأدباء والشعراء في مصر، وإلا أخذ فنجاناً من القهوة وانصرف في صمت رهيب!
وفي ركن من الكازينو يجلس الأستاذ إسماعيل صبري الشاعر ومؤلف الأغاني لشركتي أوديون وبيضافون، فيظل في مجلسه طول النهار وبعضاً من الليل منفرداً كأنه يستوحي شيطانه ويستلهم وجدانه. وفي ركن مقابل يجلس صديقنا الشيخ رفعت فتح الله في جمع من إخوانه يحقق رأياً لسيبويه، أو يحدثهم فيما كان بينه وبين الرافعي من مناظرة، على كركرة النارجيلة ولعب الشطرنج
ولما مات الهراوي رحمه الله، انفضّ سامره في الحلمية، ولم يتحمل إخوانه الجلوس حيث كان يجلس، فجاء بعضهم إلى الكازينو، فتجد الأستاذ مرتضى الخطاط يجلس ساهماً شارداً كأنه في غمرة من ذكر صاحبه
ويستبد بصدر الكازينو طائفة من شباب الأدب وفتيان العصر الذين أصيبوا بدائه وانطبعوا على غراره، وما داؤهم إلا كما وصف ألفرد ده موسيه في اعترافاته، فهم ينطلقون على سجيتهم، ويستقبلون الحياة بروح يقظة طليقة متمردة على كل القوانين والحواجز، وبهذه الروح الحرة يشدون الأدب، وينظمون الشعر، ويأخذون في النقد، وإنهم لفي ثورة دائمة على الأدباء في مصر وفي الأقطار العربية، ولقد ينقلبون بالثورة على أنفسهم، كالنار تأكل نفسها إذا لم تجد ما تأكله، ولكنهم يخلصون من هذا كله بالمرح والضحك والمزاح الصريح
تجد في هذه الحلقة من الشباب، شاعر الفنون والإذاعة أحمد فتحي، وشاعر البؤس والشقاء المهدي مصطفى، والشاعر البوهيمي طاهر أبو فاشا، والشاعر النحوي الفقيه حسن جاد وشاعر البيت الأباظي أحمد عبد المجيد الغزالي، والشاعر المقل أحمد مخيمر والأستاذ أحمد حمدي المحرر بالبلاغ والشيخ طه أفندي حراز محرر مجلتي الراديو والبعكوكه، والرفيقان عبد العليم عيسى والسعيد علوش؛ يجلس هؤلاء في حشد من إخوانهم وإضرابهم من طلاب كلية اللغة العربية والجامعة ودار العلوم، فينفض كل منهم ما في جعبته، ويتقدم بآخر ما أحدث في الأدب والشعر، وما من يوم يمضي إلا ولهم حدث في الأدب والشعر. . .
يعجبني في هؤلاء الفتيان ذوق دقيق، وتقدير صحيح، ونظر صائب في الحكم على الآثار الأدبية، ووضع الأشخاص في مراتبهم اللائقة بهم، فلا يجوز عليهم الزيف، ولا تخدعهم الألقاب، ولا تغرهم الأسماء، بل إنهم لينظرون، ويتدبرون، فكثير من أعلام الأدب في مصر ليسوا في رأيهم بشيء، ولكل فيما يحاول مذهب!
لهم شغف بالاطلاع، فما يخرج كتاب من المطبعة حتى يكون في أيديهم، يقرءونه ويقدرون له قيمته، وما أعرف بحثاً أو قصيداً نشر في صحيفة أو مجلة قد فاتهم الاطلاع عليه، والنظر فيه، فإذا لم يعجبهم كان بينهم مادة للهزء والضحك والمعارضة بالمثل!
ولهم غرام بترتيب القالب، ولكنها المقالب الأدبية، كأن ينحلوا واحداً منهم قصيدة على صفحات الجرائد، أو يسرقوا أشعار بعضهم المطوية ثم ينشرونها بأسماء غير معروفة، أو يوقعوا بين أديب وأديب فينشروا لأحدهما نقداً صارماً للآخر، ولهم في أبريل كثير من الأكاذيب، ولكنها من الكذب الأدبي المقبول. ولقد كان كذبهم في هذا العام من النوع الطريف العجيب، علموا بأن فلانا الأديب قد أهدى إليه الشاعر إلياس أبو شبكة نسخة من ديوانه، وما رأى أحدهما الآخر قط، فراح هذا الأديب يفضل أبا شبكة على سائر الشعراء، فتخيروا واحداً منهم يجيد حكاية اللغة السورية، واتصلوا بذلك الأديب في بيته، وأخبروه بأن أبا شبكة قد حضر إلى مصر، وأنه يرغب في زيارته فحدد لهم الموعد على لهفة، وذهبوا إليه وكان ما كان من الإجلال والإكبار والاحترام، وخرج القوم على موعد بالغداء في يوم آخر. . . ولكنهم وقفوا في المسخرة عند هذا الحد
حتى أساليبهم في الدعابة إنما هي أساليب أدبية، كأن يقيموا لواحد منهم حفلة هجاء، أو حفلة رثاء. وآخر ما حضرت لهم من ذلك (حفلة تكريم من غير مناسبة) للشاعر المهدي مصطفى. وقد اشترك فيها جميع إخوانه وأصدقائه، وقام بتقديم الخطباء والشعراء الأديب الشاعر سيد قطب، وقد استطاعوا أن يوفوا صاحبهم حقه من التكريم، أقل من التهليس. وقام هو أيضاً يرد صنيعهم بمطولة يقول فيها على طريقتهم:
يا قلب كالقبقاب حيرك الجما
…
ل فتارة تدعى وأخرى تزجر
صبحاً برجل فهيمة، وعشية
…
في رجل سلمى والزمان تجرجر
إلى أن يقول لأصحابه:
أو مكرميَّ؟ فشرتموا! الله يك
…
رمني ويعرف قيمتي ويقدر
ليست قصائدكم بمغنية الأدي
…
ب عن الفلوس إذا الجيوب تصفر
فتعلموا صوغ القروش فإنها
…
تذر الكفيف مفتحا فتصوروا
لقد كان ابن أبي ربيعة قائماً بالحجر يصلي بعد أن نسك، فمر به فتيان جميلان، فلما فرغ من صلاته أدركهما ثم قال لهما: يا ابني أخي، لقد كنت موكلاً بالجمال أتبعه؛ وقد رأيتكما فراقني جمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه.
فيا إخواني في باب الخلق: إن البقاء في هذه الدنيا قليل، والدهر يعدل تارة ويميل. فخذوا طريقكم، وامضوا في سبيلكم، واستمتعوا بشبابكم قبل أن تندموا علية.
(م. ف. ع)
خلود الأمومة
(مهداة إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات)
للكاتبة الفاضلة (وفيقة)
لست أدري لماذا أثرت في نفسي أيما تأثير هذه الصورة التي في أعلى هذه الصفحة! منذ رأيتها وأنا أحاول التغاضي عن هذا التأثر الشديد بها؛ ولكني لم أفلح. وكلما هممت بقراءة كتاب أو كتابة مقال، شتت انتباهي ذلك المنظر، وأخيراً لم أر بُداً من الكتابة عن الصورة ذاتها.
إن كل أمر مهما كان طفيفاً يؤثر تأثيراً عظيماً في حياة البشر وأخلاقهم.
قال وست المصور: (إن قبلة واحدة من أمي جعلتني مصوراً).
وكتب فول بكستن إلى أمه بعد أن نال منصباً عالياً يقول: (إنني أشعر على الدوام بنتاج المبادئ التي غرستها في عقلي).
ووقفة جلالة الملكة نازلي في هذه الصورة بين كبرى بناتها وصغراهن: صاحبة السمو الإمبراطوري الأميرة فوزية، وسمو الأميرة فتحية، وقفة الأم الرءوم العطوف.
أنظر إلى سمات الحنو الأموي على محياها، وإلى التأثر البادي على قسماتها!!
لعمري أيتها الأم الكريمة، ماذا يكون جواب سمو الأميرة فوزية لو سئلت عن أثر هذا الحنو الدافق من كفك إلى كفها في أرهب لحظة تفارقان فيها أرض الوطن العزيز، وعن مبلغ أمومتك الكريمة في حياتها وتكوينها؟!
سيكون جوابها دون تردد كما قال لورد لنديل، عندما فطن إلى قدوة أمه الصالحة:(إذا وضع العالم بأسره في كفة ميزان وأمي في الكفة الأخرى رجحت عليه رجحاناً عظيماً).
إنها تستمد من جلالتك القوة والشجاعة التي تستعين بهما على حياتها المستقبلة. . . ولست بهذين ضنينة ولا متكلفة. فاغتبطي يا سمو الأميرة، واهنئي بأمك الجليلة.
إن كل أم قوية كالطود، صابرة كالزمن، وادعه كالزهر. . . إلا فيما يمس أولادها من قريب أو بعيد، فهي إذن الرعد المدوي، والفزع الثائر، والقدر الذي لا يرحم. فالأولاد ثمرتها في الحياة، وبهم خلود الحياة؛ وهم رأس مال آمالها، ومعين سعادتها، ومعقد رجائها على الدوام.
يا لله! إني لا أحتمل النظر إلى يمناها التي تحوط الأميرة الصغيرة؛ ولا أستطيع أن أنظر إلى عينيها المسبلتين فراراً من مجابهة الواقع. . . مبارحة وطن إلى حين، ثم فراق ابنة عزيزة بعد حين، تسلمها طائعة نزولاً على سنة الله ورسوله، وانصياعاً لما هيأته الأقدار!
يا أيتها الأم العظيمة والملكة الكريمة، إن صبر الملوك ملك الصبر، وإن حنوّك حنوّ غامر في رقة سجايا ودماثة خلق؛ وإذن فرحمة قلبك تفيض على عالم بأسره فيطمئن
أيتها الأمهات. . . أمام أعينكن نموذج الأم الصالحة المدبرة الشجاعة فاقتدين بجلالتها، فإن مصر والشرق في حاجة قصوى إلى الأمهات اليقظات الحكيمات.
والأم الصالحة المهذبة قوام الأسرة الكريمة الناجحة، وما الوطن إلا مجموع أسرات، ونعم وطنا تكون هذه حال أسراته
(وفيقة)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وذهب الضباط على رأس من أخرجوهم إلى الخديو يسمعونه شكواهم، وكان بعض أعوان الخديو يشيرون عليه بأخذهم بالشدة ومعاملتهم معاملة الثائرين ولو أدى الأمر إلى إطلاق النار عليهم، وقال البعض إن من العبث أن تلجأ الحكومة إلى البطش وليس لديها وسائله، فالفرق جميعاً تؤيد عرابياً ومن معه، والرأي أن يسلك الخديو معهم جانب اللين فيطفئ بذلك نار الفتنة
وتغلبت الحكمة على الطيش ووضع اللين في موضع البطش، فأوفد الخديو إلى الضباط الثلاثة ومن ظاهرهم من الجند تحت نوافذ قصره يخبرهم بإجابة مطلبهم الأول فقد عزل رفقي، وطلب إليهم أن يختاروا من يحل محله حتى لا يعووا إلى الشكوى، فوقع اختيارهم على محمود باشا البارودي؛ ووعد الخديو بالنظر في بقية مطالبهم والعمل على إنصافهم. وطلب الضباط الإذن على الخديو فمثلوا بين يديه وأعربوا له عن امتنانهم وولائهم لشخصه وإخلاصهم لعرشه، ثم انصرفوا وانصرف الجند فرحين مستبشرين
وكان على الخديو أن يتدبر الأمر منذ بدايته وينظر ما إذا كان لديه قوة يقمع بها الحركة إن كان لا بد من وضع العنف موضع العدل؛ فإن عدم القوة كان أمامه أن يلجأ إلى اللين غير مكره ولا مغلوب على أمره. . . ولكنه تصرف في الأمر على نحو ما رأينا فأفضى إلى نتائج خطيرة سوف تؤثر أثرها في مجرى الحوادث، فظفرُ الجند بمطالبهم في عنف وعجز الحكومة عن مقاومتهم قد وضع الخديو وحكومته في موضع الضعف وأحل عرابياً وحزبه محل التوثب والتطلع وجعلهم مناط الرجاء والأمل هذا إلى ما تركه هذا الحادث من سخيمة في نفس الخديو يصعب بعدها كل تفاهم ويلبس فيها كل حق بالباطل؛ ثم من حذر وريبة في نفوس الجند يلقيان على كل حركة من حركات الحكومة شبح الغدر ويلبسان كل عمل
من أعمالها ثوب الرياء
على أن ما يعنينا فيما نحن بصدده أن هذا الحادث قد أدى إلى ذيوع صيت عرابي على نحو لم يسبق لفلاح غيره في مصر، فسرعان ما دار اسم ذلك الفلاح على كل لسان في القاهرة وسمع بذلك الاسم الأجانب ومن لم يكن يعرفه من المصريين؛ ولم يقف الأمر عند القاهرة بل لقد رن هذا الاسم في القرى فأفاق على رنينه الساحر أولئك الأعيان والمشايخ الذين تعودوا منذ القدم أن يخضعوا خضوعاً مطلقاً للترك والجركس، الذين كانوا ينظرون إلى الفلاحين نظرتهم إلى دوابهم
وعجب أولئك الفلاحون أن يجرؤ رجل منهم على تحدي الخديوي والرؤساء الجراكسة، فتعلقوا بهذا الرجل ولم يروه، ورغب كثير منهم في رؤيته، فقدموا إلى القاهرة يحملون إليه الهدايا ويعربون له عن محبتهم وإخلاصهم وإعجابهم بمبادئه التي تدور حول إنصاف الفلاحين في الجيش، وراح هو يخطب فيهم شاكراً مطمئناً
وليت شعري ماذا تكون الزعامة إذا لم تكن هذه زعامة؟ ألسنا نرى الآن في عرابي شخصيتين: شخصية الضابط الذي يسير في مطالب الجيش على رأس الجند، ثم شخصية الفلاح الزعيم الذي بدأ الفلاحون به يرفعون رؤوسهم وقد خفضوها من قبل أجيالاً طويلة؟ إني لألمس في تلك الصحوة فجر عصر جديد للقومية المصرية، كان عرابي أول مؤذن أذن به، ألمس ذلك الفجر الذي سوف يسفر صباحه عما قريب على صيحة فلاح آخر سوف يبرز من القرى كما برز عرابي، هو سعد بن مصر العظيم مفخرة أجيالها ورأس رجالها
ولئن كان جمال قد أيقظ الغافين في المدن، لقد بعث عرابي بإقدامه أهل القرى من مراقدهم، فإن عمله هذا أوحى إليهم أن من الممكن أن يخرج من بينهم من يشمخ برأسه على أولئك الجركس الذين طالما استذلوا في مصر الرقاب!
ويعنينا كذلك من حادث قصر النيل أمر آخر لا يقل عن ذلك أهمية، ألا وهو التفات الوطنيين إلى عرابي، فعند هذه النقطة التقت الحركتان الوطنية والعسكرية فتولدت من التقائهما الثورة العرابية في أصح مظاهرها وأصدقها
رأى الوطنيون ما أصاب رجال الجند من ظفر سريع، بينما قد لحقهم هَم الفشل، واستطاع
توفيق أو بالأحرى استطاع رياض أن يأخذ عليهم مسالك القول والعمل، فسرعان ما اهتدوا إلى الطريق الذي يوصلهم إلى أغراضهم فتقربوا إلى عرابي، فأخذ شريف يراسله ويعقد بينه وبينه أواصر المودة
وحذا حذو شريف زعماء حركة الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا ذلك الذي كان يمثل الأعيان كذلك بحكم أنه منهم، واتضح لهؤلاء أنه يجب عليهم أن يستعينوا بهذه القوة الجديدة لإقصاء رياض عن مركزه، وبعث الدستور الموءود وتحقيق الإصلاح المنشود.
وأصبح منزل عرابي مقصد الكثيرين من الأحرار كما كان موئل رجال الجيش؛ ولم يكن موقف عرابي في الحركة الوطنية موقف الأداة كما زين البغي لبعض المؤرخين أن يقولوا، فلقد كان هو من جانبه من المتمسكين بمبدأ الشورى منذ نشأته، وإنه ليؤكد في كل ما كتب أنه قد طالب في عريضته، فوق ما طلب، بإعادة مجلس شورى النواب، ليكون فيه موئل للمظلومين من الوطنيين في الجيش وغير الجيش.
وكان البارودي وزير الجهادية الجديد، من دعاة الدستور، ومن حزب شريف، ولذلك كان حلقة الصلة بين الجند وبين الوطنيين، وكان كثير الاتصال سراً بعرابي بواسطة علي الروبي حتى لا تدعو كثرة الصلة به جهراً إلى ريبة رياض وحزب رياض، وبهذه الوسيلة كان الجند على علم بكل ما تريده الحكومة بهم.
وهكذا أصبح عرابي ملتقى الآمال، يحرص على الصلة به الوطنيون والجند والفلاحون؛ ولقد بلغ من ذيوع صيته أن أصبح توفيق يغار منه حتى ما يستطيع أن يخفي تلك الغيرة.
ولو أن توفيقا عرف يومئذ كيف يتخذ سبيله وسط هاتيك الأنواء لجنب البلاد ما كانت مقبلة عليه ولتغير تاريخ مصر الذي كان لا يزال مطوياً في حجب الغيب، وما كان للخديو من سبيل يومئذ إلا أن ينضم إلى الحركة الوطنية فتكون البلاد كلها تحت لوائه نوابها وجيشها، ووجوه البلاد وأهلوها؛ وفي ذلك دون غيره سلامتها وأمنها
كانت سياسة توفيق إن كان ثمة له من سياسة عقب حادث قصر النيل أهم العوامل في تطور الحوادث بعده على النحو الذي سوف نراه؛ فلقد وقف موقفاً أشبه ما يكون بوقف لويس السادس عشر من مجلس طبقات الأمة حين أجاب نواب العامة فيه إلى ما طلبوا في
مسألة التصويت على القوانين وفي نيته أن يغدر بهم متى حانت الفرصة
أدرك الضباط لا ريب أنه أجابهم إلى ما طلبوا إذ لم يكن له من ذلك بد، ولذلك أحسوا أنه لا بد متربص بهم فتربصوا هم كذلك به
وكان توفيق من ناحية أخرى يكره رياضاً ويعمل على التخلص منه؛ لذلك وضع نفسه في موضع عجيب حقاً، فبينما هو يكره الضباط ويمقت حركتهم وينتوي المكر بهم إذا به يتخذ منهم أداة للكيد لوزيره بغية إقصائه عن منصبه
وهكذا تشاء الظروف أن يكون رجل كتوفيق هو الذي يحرك دفة الأمور في مثل ذلك الزمن العاصف؛ ولم يكن أمامه كما أسلفنا إلا أن يتخذ سبيله إلى الوطنيين فيتخذ من نواب الأمة سنداً له كما فعل أبوه في أواخر أيامه
ولو أنه فعل ذلك لضعف شأن الحزب العسكري إذ كان يحس الوطنيون أن لا حاجة بهم إلى معونة الضباط، ثم كان الضباط أنفسهم يجدون في وزارة وطنية تحقق رغائبهم ما يطمئن نفوسهم ويكبح في الوقت نفسه جماحهم بطريقة غير
مباشرة
ولكن توفيقاً لم يلجأ إلى ذلك الحل، وما نشك أنه كان يفطن إليه، ولكنه كان يقتضيه أن ينزل عن سلطانه إلى نواب الأمة وهو ما نشك كل الشك في أنه كان يستطيع أن يحمل نفسه عليه، ومن هنا أحدقت به وبمصر الأخطار، هذا فضلاً عن دسائس الأجانب الذين أحكموا شباكهم من مدة لاقتناص الفريسة الغالية في هذه الأيام الكدرة!
وقع حادث قصر النيل في فبراير عام 1881 م؛ وفي أعقاب الحادث مرت على مصر بضعة أشهر ما نظن أنه مر على البلاد فترة مثلها في كثرة ما حيك فيها من الدسائس على قصر أمدها
سمع الضباط أن أعوان الخديو يغرون بالمال والمناصب بعض رجال الآليات ليكونوا في الوقت الموعود إلى جانب الخديو، ونمى إليهم أن رياضاً يفكر في طرق إجرامية للفتك بهم، ومن ذلك ما علموه من أنه كان يدبر مشاجرة في أحد الشوارع يندس فيها من يقتل عرابياً أو من يحضر من زميليه.
ومما يذكره عرابي في مذكراته أن أحد الغلمان الجركس في منزل عبد العال بك حلمي،
وهو ابن زوج حرمه المتوفى، قد وضع له السم في اللبن بإيعاز غلام جركسي آخر من غلمان الخديو، ولولا أن تنبهت الخادمة لراح عبد العال ضحية هذا الغدر الأثيم
وكذلك سمع الضباط أن الحكومة تنوي أن ترسل الآلاي السوداني بقيادة عبد العال بك إلى السودان، بحجة أن القوة الموجودة فيه غير كافية لحفظ النظام. فأحس الضباط من ذلك أن النية متجهة إلى تشتيتهم للقضاء عليهم متفرقين
واتهم تسعة عشر ضابطاً أحد رؤسائهم بأمور نسبوها إليه أثبت التحقيق بطلانها، فأبعدتهم الوزارة عن مناصبهم. فبادر الخديو بإعادتهم، الأمر الذي حنق له زعماء الجيش. إذ رأوا فيه أن الخديو إنما يعضد حركة التمرد في صفوف صغار الضباط ويستميلهم إليه ضد رؤسائهم.
وترامى إليهم أن الخديو يمرن حرسه في الإسكندرية على إطلاق النار، وأنه يشهد ذلك بنفسه وينثر الذهب على الجند متظاهراً بمكافأة المجيدين في إصابة المرمى؛ ولن يفسر مثل هذا العمل في ظروف كهذه إلا بأنه استعداد من جانب الخديو لما هو مقبل عليه من قمع وبطش.
هذا بينما أرادت الوزارة أن تسخر الجند في الآليات الأخرى في حفر الرياح التوفيقي، وكان عليهم أن يسلموا أسلحتهم إلى مخازن الجهادية قبل ذهابهم إلى ذلك العمل؛ ولقد رفض عرابي الموافقة على ذلك، وأيده البارودي وزير الجهادية
وأرسل الخديو من الإسكندرية كما يقول عرابي في مذكراته على فهمي رئيس الحرس إلى زميليه في القاهرة ليقول لهما إن الخديو يرغب في عزل البارودي لما رأى من ذبذبته وسوء سياسته، وإن الخديو يعطف على مطالبهم (فهم ثلاثة وهو رابعهم) وإن سموه يطلب ألا يعلم أحد بإيفاد علي بك.
وعزل البارودي فعلاً، وكان رياض قد أمره أن يبعد عرابياً وعبد العال بفرقتيهما من القاهرة، فأبى عليه ذلك
وجاء إلى البارودي، وكان بالقاهرة، أمر أن يسافر فوراً إلى عزبته.
ولقد كان البارودي على صلة برجال الجيش ينبئهم كما أسلفنا بكل ما تريد الحكومة بهم، واتفق معهم أن يكون خروجه من الوزارة علامة اقتراب الخطر.
وحل محل البارودي داود يكن باشا صهر الخديو فلما لبث إن لجأ إلى الصرامة في معاملة رجال الجيش، فحظر عليهم الاجتماع بالمنازل أو ترك مراكزهم ليلاً أو نهارا وأنذرهم بأشد العقاب إن خالفوا أوامره؛ ومع أن عرابيا وأنصاره قد هنأه بمنصبه، وطلبوا إليه أن يعمل على إجابة مطالب الجيش التي كان البارودي يسعى في إجابتها، فإنه اكتفى بالوعود ولم يفعل شيئاً.
وأحيط بيت عرابي وعبد العال بالجواسيس، وجرت الشائعات بالنذر فملأ القاهرة نبأ عجيب وهو أن الخديو قد استصدر فتوى سرية من شيخ الإسلام بقتل عرابي، وكانت الظروف يومئذ تساعد على تصديق هذا النبأ الكاذب أكبر المساعدة.
وطلب رجل مجهول الإذن على عرابي في منزله فلم يأذن له وشوهد أنه عاد إلى أحد مخافر البوليس؛ وذهب عرابي إلى منزل زميله فعلم أنه حدث لهما مثل ما حدث له فأيقنوا أن حياتهم قد باتت في خطر، وكان ذلك في 8 سبتمبر سنة 1881 م. لذلك كله عول الضباط على أن يخطوا خطوة حاسمة، وكانوا على صلة دائمة في تلك الشهور التي أعقبت حادث قصر النيل برجال الحركة الوطنية
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
398 -
كأنا له زغب الفراخ يقوتها
ابن فيروز البصير:
وروضةْ لَهو قد جنيت ثمارها
…
بدير العذارى بين روض وأنهار
تخال به وجه المدير وكأسه
…
هلالاً وشمساً بين أنجم نُوَّار
يطوف بإبريق مفدّى، كرامة
…
علينا، بأسماع كرام وأبصار
كأنَّا زُغْبُ الفراخ يقوتها
…
بمثل مُذاب التبر من شطر منقار
399 -
لا يسمع ذم صديقه
في (مرآة المروءات) للثعالبي: جلس أبو نواس إلى نفر من قريش، فذكروا صديقاً له فعابوه، فقام أبو نواس فاستجلسوه فقال: ليس من المروءة أن أجالس قوماً يذمون صديقاً لي، وأنشأ يقول:
لا أعير الدهر سمعي
…
ليعيبوا لي حبيباً
احفَظِ الإخوان كيما
…
يحفظوا منك المغيبا
400 -
شريكك
قال صلاح الدين الصفدي: رأيت الشيخ الإمام الفاضل ركن الدين محمد بن القريع غير مرة ينكر على من يضرب كلباً أو بهيمة ويقول له بحنق: لأي شيء تفعل به هذا وهو شريكك في الحيوانية؟!
401 -
ولا تصحب الأردا فتردى مع الردى
وُجد على ظهر نسخة من (المفصل) بخط عتيق: سئل ابن ابن الأخضر بمحضر ابن الأبرش: علامَ انتصب قوله: (مقالة إن قد قلت سوف أناله؟). فقال: (ولا تصحب الأردأ فتردى مع الردى). فقال السائل: سألتك عن إعراب كلمة فأجبتني بشطر بيت. فقال ابن الأبرش: قد أجابك لو كنت تفهم. وهذا الشطر من قول النابغة:
أتاني - أبيت اللعن - أنك لمتني
…
وتلك التي تستك منها المسامع
مقالة إن قد قلت سوف أناله
…
وذلك من تلقاء مثلك رائع
يروى (مقالة) بالرفع على أنه بدل من أنك لمتني الفاعل وبالفتح على ذلك إلا أنه بناه لما أضافه لي مبني
402 -
فتوة
في (مفيد العلوم ومبيد الهموم) لجمال الدين الخوارزمي: كان رجل نيسابوري يدّعي الفتوة، فاجتاز يوماً بمفرق الطرق، فرأى شاباً مريضاً يتأوه ويستغيث، فتقدم إليه وقال: وما تشتهي؟ قال: أشتهي رؤية أمي والرجوع إلى وطني. قال: أين منزلك؟ قال: ببلخ. فأخذ الرجل بمجامع لحيته ولطم نفسه (وكان اسمه أبا الحسن)، فقال: يا أبا الحسن، كنت أظن أنه يشتهي فُقاعاً، أو قصعة هريسة. ادعيت الفتوة فهات المعنى. فرجع إلى بيته وباع داره، واكترى راوية وحمولة وآلات وحمل الرجل، وأوصله إلى منزله.
303 -
الفتوة
في (الذخائر) للأشبيلي: سمع بعض السلف بعض الفتيان يقول: الفتوة إنما هي الظرف والانهماك والمجون. فقال له: ويحك! يا بني، حدت (والله) عن طريق الحق، وجرت عن القصد. والله ما الفتوة إلا مال مبذول، وبشر مقبول، وطعام موضوع، وأذى مرفوع.
404 -
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم
في (الكشاف): (ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم): ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمونه من المقاصد الركيكة، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضاً، وفشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم
تقهقر نابليون عن روسيا
لفكتور هوجو
(مهداة إلى الدتشي بعد وضع الرمل مكان الثلج)
كانت السماء تُساقِطُ الثلج؛ وكان الفاتح قد قهره فتحه، والنسر لأول مرة تَطامن رأسه
يا للأيام العوابس! لقد تقهقر الإمبراطور وئيد الخطى تاركاً وراءه (موسكو) داخنة تحترق!
كانت السماء تساقط الثلج؛ والشتاء القاسي يتدهدى قطعة فقطعة، والبقاع البيض تتعاقب بقعة فبقعة، والجيش قد وقع في غمَّاء فلا يُعرف له قائد ولا عَلَم؛ وكان بالأمس أعظم الجيوش فأصبح اليوم قطيعاَ من الغنم؛ واضطرب الأمر وتشعث النظام فلا يتبين له جناحان ولا قلب
كانت السماء تساقط الثلج، والجرحى يلوذون ببطون الخيل المبقورة؛ ونافخو الأبواق على مداخل المعسكرات الليلية المحطمة قد جَّمدهم الصقيع، وغشَّاهم البَرَدُ، فظلوا في أماكنهم واقفين على العتبات، أو صامتين على السُّرُج، وأفواههم الحجرية قد التصقت بأبواقهم النحاسية؛ والسماء تندف بالرصاص والقنابل مختلطة بكبب الثلج؛ وجنود الحرس الإمبراطوري يفجأهم الروع فيمشون مفكرين وقد انعقد رُضابُ الجليد على شواربهم الغُبر
كانت السماء تساقط الثلج، والريح الصرصر تهب، والجنود يمشون حفاة على الطوى في مجاهل الأرض، فلم يعودوا تلك القلوب التي كانت تنبض، ولا تلك النفوس التي كانت تحارب، وإنما أضحوا حلماً يهيم في الضباب، وسراً يجول في الظلام، وموكباً من الأشباح يضرب في الأجواء القاتمة؛ وكانت الوحدة الشاملة المروعة تبدو في كل مكان صامتة منتقمة، والسماء الساكنة تجعل من طباقها ومن ركام الثلج كفناً عظيماً لهذا الجيش العظيم. وكان كل جندي يحس في نفسه دبيب الموت في وحدة ووحشة
هل يتيح لهم القدر أن يخرجوا من هذه الأرض المشئومة؟ لقد كانوا أمام عدوين: القيصر وريح الشمال، والشَّمال كانت عليهم أشد. كانوا يلقون المدافع ويشعلون النار في خشبها ليستدفئوا؛ وكان كل من رقد منهم لا يصحو من رقاده؛ وكانوا يفرون شراذم في وجوه الضلال والهم فتتخطفهم المنايا وتبتلعهم الصحراء، فلو نظرت من صدعات الجليد لرأيت كتائبهم تحت أطباقه راقدة
يا لسقطة هنيبال وعُقبى أتيلا! لقد كان المهزومون والجرحى والموتى وصناديق الذخيرة وناقلات المرضى يتساحقون على الجسور ليعبروا الأنهر؛ وكان الجند ينامون عشرة آلاف فيستيقظون مائة؛ و (ني) الذي كان يتبعه جيش من قبل، فر الآن بعد أن نازع ثلاثة من القوزاق ساعته
كانت الهتفات لا تنفك طول الليل تشق الآذان: من هذا! هيا! هجمة! حملة! فيتناول هؤلاء الأشباح بنادقهم فيرون أن قد هجمت عليهم كتائب من الخيالة الفظاع، وزوابع من الرَّجَّالة الشقر، لهم صور كصور الهُوَل المفزعة، وأصوات كأصوات البُزاة الصُّلع! وهكذا باد في غياهب الليل جيش بأسره!
وكان الإمبراطور واقفاً هناك ينظر! كان كالسنديانة العملاق تفرعت ذراها المصونة نكبةُ الدهر، وهي الحطاب المشئوم، ثم أخذ يهين عظمتها بفأسه، والسنديانة الحية ترتجف أمام شبح الثأر الفاجع وتنظر إلى فروعها تتساقط من حولها فرعاً بعد فرع. كان الجيش يموت قادته وجنده. لكل امرئ حِينه وَحينه. وكانت بقية السيوف من رجال الإمبراطور يحفون من حول خيمته في إجلال وحب، ويرون ظله على الأستار يذهب ويجيء، فيتهمون القدر بالغيب في ذاته، ولا يخامرهم الشك في يمن طالعه. ولكنه هو أدرك فداحة الخطب؛ واتجه رجل المجد إلى الله وهو من الهول الهائل في دهشة ورعشة وحيرة. وعلم نابليون أن ما أصابه إنما هو تكفير عن شيء. فقال ووجهه الساهم ينم عن القلق، وكتائبه على الثلج منثورة أمامه:
- أهذا هو العقاب يا رب الجيوش؟. فسمع من وراء الغيب منادياً يناديه باسمه ويقول له: (كلا)
(ابن عبد الملك)
من دخان المجتمع!
(في ذكرى قاسم أمين)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
جَفَّ الخَمْيلُ. . . فَلَا ظِلٌّ وَلَا ثَمَرٌ
…
وَلا نَشِيدٌ إِلَيْهِ يَظْمَأُ الوَتَرُ
إِلا بَقايا أَغانٍ هَاهُنَا وَهُنَا
…
مُصَرَّعَاتٌ عَلَيْهَا الصَّمْتُ يُحْتَضَرُ
وقُبْلَةٌ مِنْ شِفاهِ الطَّيْرِ ثاكِلَةٌ
…
عَلَى الغُصُونِ، تَهَاوَتْ حَوْلَها الذِّكَرُ
وَشاعِرٌ في يَدَيْهِ أَدْمُعُ وَدَمٌ
…
وَجَذْوِةٌ مِنْ أَسىً تَغْلي وَتَسْتَعِرُ
وَيَشْتَكي فَيَقُولُ النَّاسُ هَزَّ صَدًي
…
وقال شعرا. ضلَلْتُمْ! إِنَّهُ ضَجِرُ
طَوَى الرَّبيعَ عَلَى أَقْدَاحِهِ مَزِقاً
…
مِنْ قَلْبِهِ، في هَجِيرِ العُمْرِ تَنْفَطُرِ
ونَغْمَةًَ في صَحارَى النَّفْسِ حَائِرَةً
…
ما في فَمي نَبْأَةٌ عَنْهَا وَلَا خَبَرُ
دُفِنْتُ فِيها، وَذَرَّاني بِحيرتِها
…
إِعْصَارُ يَأْس كَلَيل الجِنِّ مُعْتَكُرُ
ما يَبْتَغي عاشِقُ التَّغْريِد منْ نَغَمي
…
وَالكَوْنُ حَولَيِ زَندٌ خَانهُ الشَّرَرُ
والأرْضُ بَرْ كانُ آجَالٍ يَكادُ بِها
…
لَولَا العْنَايَةُ في الآفَاقِ يَنفَجرُ
وَالنَّاسُ مِثْلُ الضَّوَاري لا خَيالَ لُهْم
…
إِلا المْخالِبُ والأنْيابُ والظَّفرُ
وما بِهِم جائِعٌ عَزَّتْه لقمَتُهُ
…
ولا شَرِيدٌ تَجَافى جَنْبهُ المَدرُ
فما لُهم جَيَّشوا الأَرْزاَء واحْتِشَدُوا
…
للمْوتِ فانين لا هَابوُا ولا حَذِرُوا
وَجَنَّدوا الغَازَ. . . وارْتجَّوا له فزَعاً
…
وتَحْتهُم فَغَرَتْ أَشْدَاقَها الحُفَرُ
في كُلَّ يومٍ سَريرٌ ذَابَ صَولَجُهُ
…
وَدَولَةٌ في رِياءِ السِّلْمِ تندَثِرُ
فإِن تَبَرَّجَ فتَّاكٌ. . . وَطُلَّ دَمٌ
…
فالنَّسْرُ جَوعانُ في الآجامِ ينْتَظرُ
وَلْيذّهَبِ العَصرُ مطعوناً بِخنجَرِهِ
…
تُبْلي حَضَارتَهُ الأطْماعُ والأشَرُ!
قُنَّعتمُ. . . وعشاشُ الطَّيْر عَاريَةٌ
…
والأفرخُ البيضُ والأطفالُ والزّهرُ
حَتَّى الربيعُ. وما ذَنْبُ الصَّباحِ به
…
والنَّهْر يَحلمُ والأنْسامُ والشَّجَرُ؟
مهَازِلٌ أَبْدعَ الطّاعونِ فِتنتها
…
ما هَزَّني هاجِسٌ منها ولا أَثَرُ. . .
أنا ابْنُ من أَعيتِ الدُّنيا حَضَارتُهُم
…
ونوَّرُوا وَظلامُ الأرضِ مُعتَكرُ
وأنْطقُوا مُعِجزَاتِ الفَنَِ قاهِرَةً
…
والدَّهرُ لَجلَجَهُ الإعْياءُ والحَصْرُ
قُمْ غَنَّني منْ دَمِ الأبْطَالِ أُغْنِيةً
…
يَحْلُو لشادِي العُلَا في ظِلِّهَا السَّمَرُ
وهَاتِ عنْ سيِرةِ الأَحْرَار في وَطَنٍ
…
ما أَيْقظتْ قَلْبَهُ الأحداثُ والغِيرُ
واهتِفْ (بِقاسِمَ): قُمْ فانظُرْ صحائِفَهُ
…
تَضيقُ عنْ وصفها الأخْبارُ والسِّيرُ
شهدْتَ في الدُّورِ قَيدَ الذُّلَّ محتدماً
…
قلبُ الخُدُورِ على بَلواهُ يَنْفطِرُ
أَزاهرُ النِّيلِ أَفنى السِّجنُ بهجَتها
…
وَمَسَّ أَكمامَها مِنْ هَولهِ خَدَرُ
فرُحتَ تزأَرُ حَوَلَ القَيدِ عاصفَةً
…
ما شلَّ فورتها جُبْنٌ ولا حَذَرُ
وَحَولَكَ الرَّأْيُ تحكيِ نارُ غَضَبتهِ
…
أَسنَّةً في قتامِ الحَرْبِ تَشْتجِرُ
فقائِلٌ: مُصلحٌ أَوفى بمشعِلِهِ
…
على الضِّفاف. كما يُستَشرَفُ القَمُرُ
أَلقى الْمَبَادِئَ ما في رُوحِها ضَرَرٌ
…
مَسَّ الحجابَ، ولا في شَرْعِها خَطَرُ!
وَقائلٌ: شِرعَةٌ قَبْلَ الأَوانِ أَتتْ
…
والعَصْرُ في وهدَةِ الأخلاقِ مُنْحَدِرُ!
وَقَائلٌ: زَنبَقُ الوادي بِربوتِهِ
…
تَحْتَ الخَمائِلُ عُذْريُّ الشَّذى نضرُ!
فإن تَنقلَ مَاتَ العِطرُ. . . وانْتَثَرَتْ
…
كمِامُهُ، وَطَواهُ التُرْبُ والوضَرُ!
وَبيْنَ هَذا وهَذا. . . أقبَلَتْ زُمرٌ
…
ضَلَّتْ سبيلَكَ. تَتْلُو رَكبَها زُمَرُ
هَوَى على كَفِّهم نَجْمُ العفافِ. . . فما
…
هَزُّوا لمِصرعِهِ جَفناً ولا شَعُرُوا
باسْمُ السُّفُور أَقاموا كُلَّ مجْزَرَةٍ
…
يَكادُ يَلطمُ منْ أَهوالها القَدَرُ
عَاثُوا فَضَجَّ الحِمى منْ رِجس خُطْوتهِمْ
…
وفُزِّعَتْ منهُمُ الأَخلَاقُ والأُسَرُ
نَعشُ الفضِيلَةَ يمشي في مَواكبهمْ
…
فما يحِسُّ بِهِ سمعٌ ولا بَصَرُ
قالوا: شأَى الغربُ! قلتُ: الشّرقُ سابقُهُ
…
وَإِن تبدَّلَتِ الأَشكالُ والصُّوَرُ
وما بِعاداتِهِ نُعْلي دعائِمنا
…
لكِنْ بما تُلهِمُ الأحداثُ والعِبَرُ
وَكَيْفَ يَعَلو جبينُ الدَّهرِ قي بَلَدٍ
…
بكَفِّ شُبَّانهِ الأخلاق تنتحرُ؟!
فقُمْ لهُ (قاسمٌ) واهتِفْ بساحَتِهِ
…
يا عَلّما بعدْ هذا الغَيِّ يزدَجِرُ!
أَوْ لا فَنَم هَانئاً في الخُلدِ، لا صَخَبٌ
…
يُضنيْ الحَياةَ ولَاهمٌّ ولا ضجَرُ. . .
مَجَّدتُ ذِكراكَ علَّ اليَومَ خافقَةً
…
منْ أَرْغُني بِصَدَاها النَّفْسُ تَعْتَبرُ
أَنا الذّي يُسمِعُ الأبطالَ ذِكرهُمُ
…
وإن تَزوي بِهِم تَحت الثّرى حَجَرُ!
عَزِيفُ جِنَىَ فَوقَ الشَّمسِ دارتُهُ
…
وتَحتِيَ اللغوُ والتَّهريجُ والهَذَرُ. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل
رسالة الفن
دراسات في الفن:
التمثيل تلخيص الحياة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ينحو التمثيل في مصر نحوين:
أما النحو الأول فهو صناعة التمثيل، وزعيم مدرستها في مصر الأستاذ جورج أبيض. والواحد من أبناء هذه المدرسة يتلقف الدور الذي يعهد إليه بتمثيله، فينكفئ على جمله وعباراته يدرسها جملة جملة وعبارة عبارة، ويرى أي شيء يقصد إليه المؤلف من كتابة هذه الجملة أو هذه العبارة. فإذا كان المراد بها استفهاماً عرف الممثل الصناع هذا الغرض، وأدرك أن هذه الجملة أو هذه العبارة يجب أن تلقى كما يلقي الإنسان سؤالاً يُشعر بإلقائه سامعه بأنه ينتظر منه الجواب. فإذا كان المراد بالجملة أو العبارة إظهار الشكوى والتوجع أَنَّ وهو يلقيها وأرسل صوته متهدجاً متقطعاً. وإذا كان المراد بالجملة أو بالعبارة إعلان الثورة والغضب استلزم تمثيلها عند هذا الممثل أن يصرخ فيها وأن يزعق، وأن يشير بيديه - إذا أحب - إشارات تتفق في معناها ومعنى الغضب والثورة الذي يعلنه بعبارته أو جملته
وهذا أسلوب في التمثيل كان الفرنسيون يصطنعونه حتى السنوات الأولى من هذا القرن وهي السنوات التي أدرك فيها الأستاذ جورج أبيض أستاذه (سيلفان) الذي تعلم التمثيل على يديه في البعثة التي أوفده فيها الخديو عباس، وهذا الأسلوب فيه عيب هو أخطر العيوب التي ينكب بها فن من الفنون وهو التكلف، ذلك أنك لا تستطيع أن تشاهد ممثلاً يمثل بهذه الطريقة وتستطيع أن تنسى أنك تشاهد تمثيلاً، فأنت تلحظ - مهما تناوم حسك - أن كل كلمة مما يلقى أمامك قد درست حروفها حرفاً حرفاً، فلا حرف من حروفها يخرج من بين شفتي ملقيها إلا بعناية مبذولة، ولا جملة ترسل من فيه إلا بتنغيم وتلحين يصرخ في أذنيك بأنه لم يرد عبثاً وبأنه يراد به أن يحوز إعجابك، إعجابك أنت أيها المتفرج! وهذا شيء تزورُّ عنه الطبيعة ولا ترضاه. فليس في الدنيا ناس يكلم بعضهم بعضاً مثلما يكلم أفراد هذا
الفريق من الممثلين بعضهم بعضاً وهم واقفون على خشبة المسرح. فهو تمثيل أجدر به أن يقضي الإنسان أمامه الساعات يشاهده و (يتفرج عليه) ولكنه لا يساهم فيه بعواطفه وشعوره، ولا يشارك فيه ممثليه بوجدانه ولإحساسه. . وكيف يصدقهم وهو يذكرونه في كل كلمة من كلماتهم بأنهم ممثلون، وبأن هذا الكلام الذي يسمعه رواية تخيلها كاتب من الكتاب، وأن هذا المقعد الذي يجلس عليه فوتيل ممتاز أجره في السواريه عشرون قرشاً يضاف إليها قرشان ضريبة على لهوه وعبثه!
وهذا هو ما حدا بي أن أسمي هذا النوع من التمثيل صناعة التمثيل، وهو ضرب من التمثيل يستطيعه الموهوب كما يستطيعه غير الموهوب لأنه لا يحتاج في إتقانه إلا إلى تدريب صوتي تتم بتمامه الصنعة، ويقعد بعد تمامها الفن الصادق محزوناً محسوراً
أما النحو الآخر الذي نحصيه للتمثيل فهو هذا الضرب الذي لا يعبأ بالصنعة، والذي لا يعبأ بالصوت، والذي لا يهتم كثيراً بمخارج الحروف، والذي لا هم له في هذه الناحية الصناعية إلا أن يكون الصوت واضحاً مسموعاً مفهوماً؛ ولكنه يتطلب قبل هذا من الممثل أن يكون قد وهب نفسه وروحه وبصره وسمعه وإحساسه وكل قوة من قواه للتمثيل، لا مختاراً، فلا سبيل للاختيار في المواهب، بل مفطوراً مطبوعاً. فإذا لم يكن الله قد خلق الممثل ممثلا فإنه لن يستطيع أن يبلغ من المجد الفني إلا مثلما بلغه الأستاذ الكبير جورج أبيض: دراسة وإلقاء
فالممثل الصحيح هو هذا الذي يشب وهو يراقب الناس فرداً فرداً ويدرس أشخاصهم كاملة لا ممزقة؛ فهو لا يعني بأصواتهم واهتزازتها المختلفة في أصواتهم النفسية المختلفة من تساؤل وغضب وفرح وحزن، وإنما هو يتوغل في نفوسهم إلى ما هو أعمق من هذا؛ فهو ينفذ بروحه إلى حيث مكامن العواطف والانفعالات في نفوسهم، فيتعرف الأسلوب الذي تجرى عليه نفوسهم في تفهم الأشياء وفي الإحساس بالمؤثرات المتباينة. ويجب أن يكون هو نفسه إلى جانب هذه الدراسة التي لا تتاح لكل إنسان صافي الروح سهل الوجه صريح الملامح والقسمات بحيث ينضج وجهه وصوته عفواً بما ينتاب نفسه من المؤثرات. فإذا اكتمل له هذان العاملان أمكن في غير تحرج أن نقول إنه ممثل كامل. ويقف نجيب الريحاني في الصف الأول من هذا النوع من الممثلين المصريين الذين نذكر منهم مختار
عثمان وبشارة يواكيم
والواحد من هؤلاء الممثلين الموهوبين يتلقف دوره فيبدأ أولاً في تقليب ذاكرته والبحث فيها عمن مروا به في حياته من الناس الذين يشبهون صاحب هذا الدور الذي عهد إليه بتمثيله. فإذا عثر في ذاكرته على هذا الشبيه المطلوب فقد عثر على كنز. لأنه لن يحتاج في إخراج الدور الجديد إلا أن يتقمص روح هذا الشبيه، وأن يلاشي نفسه أثناء تمثيل الدور، وأن يُحل محلها نفس ذلك الذي بحث عنه ذاكرته واهتدى إليه. فإذا تم له هذا التقمص، فإنه سيكون على المسرح - أو أمام الكامرا - صورة هي أقرب الصور إلى هذه الصورة الأصلية الطبيعية. فإذا كان المؤلف قد أسعده بالتطابق التام بين الصورة المرسومة في الرواية والدور، وبين الصورة الأصلية الطبيعية، فإن الممثل الموهوب لن يبذل من الجهد أكثر من هذا التقمص الذي ذكرناه، وهو بعد ذلك يستولي عليه منذ أن يصطنعه إحساس يشابه تمام المشابهة الإحساس الذي ترتكز عليه الصورة الطبيعية الأصلية في كيانها. فهو يتكلم كما تتكلم ويشير كما تشير، ويمشي كما تمشي، ويجلس كما تجلس، ويغضب كما تغضب، ويسأل كما تسأل، ويحب كما تحب، ويعلن حبه كما تعلن حبها، ويكره كما تكره، ويعلن كراهيته كما تعلن كراهيتها. . . فهو أولاً وأخيراً قد فَنِيَّ في هذه الصورة التي يمثلها، وهو لا يفيق منها إلا إذا غادر المسرح. بل إن من الممثلين الموهوبين مَن يتلاشون في أدوارهم تلاشياً فلا يستطيعون أن يستعيدوا طبيعتهم إلا بعد أن يفرغوا من تمثيل الدور الذي يستغرقون في تمثيله هذا الاستغراق. ولعل الهواة يلحظون أن علي الكسار قد استحال بربرياً من كثرة تمثيله لدور البربري. ولعل منهم من سمع (عزيز عيد) وهو يقول إنه عاش مدة طويلة من الزمن خليفة للمسلمين أيام كان يمثل دور السلطان عبد الحميد
وهذه الصورة الطبيعية، أو هذه النماذج الإنسانية الأصلية الصحيحة هي مراجع الممثل الفنان، وبها تحصى ثروته الفنية. فما دام قد شاهد منها صوراً كثيرة، وما دام قد تمكن من دراسة هذه الصور، وما دام قد درب نفسه على التبطل التام ليحل محلها صوراً من نفوسها بالتقمص والانصهار والتحول، فهو إذن ممثل غني قادر متمكن
وهذه الصور تستلزم وقتاً طويلاً من الحياة يبذله في معاشرة الناس وفي دراستهم، ولا يمكن
لهذه الدراسة أن تتم إلا بهذه المعاشرة التي لا منطق فيها ولا إعداد لها. لذلك كان مما يشبه العبث أن يتعلم الشبان التمثيل في المعاهد التي لا تستطيع أن تعرض عليهم النماذج المتعددة من الصور النفسية الإنسانية، والتي تقعد عند تمرين الطلاب على الإلقاء وإحسان إخراج الحروف. أما التمثيل الصحيح فمعهده الدنيا كما أنها معهد لكل فن صحيح
وقد يسألنا هنا سائل: ما الذي يستطيع الممثل أن يصنعه إذا عهد إليه بتمثيل دور تاريخي قد مات صاحبه وانطفأت شعلة روحه، فلا يستطيع الممثل أن يراقبه ول أن يدرسه عن كثب ليتمكن بعد ذلك من أن يصهر نفسه ليصوغها بعد ذلك في القالب النفسي الذي كانت عليه نفس هذا الشخص التاريخي الذي يراد تمثيله!؟
ونحن نقول رداً على هذا السؤال: إن القراءة والدرس في مثل هذه الحالة يجبان وجوباً، وأنهما يعوضان جانباً كبيراً من الخسارة الفنية التي يخسرها الممثل بحرمانه الاتصال المباشر بالصورة الإنسانية التي يريد أن يمثلها. فبالقراءة والدراسة يستطيع المثل أن يقف على أسلوب هذا (الأصل) في الحياة، وبهما يستطيع أن يتعرف أخلاقه وعاداته، وما كان يفضل من ألوان اللهو. . . وألوان اللهو مهمة جداً في نظر الفنان، فهي الأعمال التي يمارسها الإنسان برغبته الخالصة والتي يستطيع الممثل أن يعرف بها ميول هذا الذي يريد أن يمثل دوره. ومتى استطاع أن يعرف هذه الميول وما ينبتها من المزاج الخاص استطاع بعد ذلك أن يرسم بالتمثيل صورة تطابق إلى أبعد الحدود الصورة الأصلية الطبيعية التي يريد أن يمثلها
وقد يحدث أن يمثل ممثلان نابغان ذاتاً واحدة - أو أصلاً واحداً - ولكنهما يختلفان في التمثيل فلا تتطابق الصورتان اللتان يظهر أن كلا منهما هي الأخرى كما حدث ذلك قريباً إذ خرج كل من الممثلين العالميين هاري بور وجون باريمور دور (راسبوتين) فقد خرج الذين شاهدوا جون باريمور في دوره بصورة عن راسبوتين تطابق هذه الصورة الشائعة التي صورته لنا بها المقالات التي كتبت عنه في الصحف، والروايات التي ألفت عنه وروجتها دور الطبع والنشر، والروايات الأخرى التي مثلتها عنه المسارح. . وقد كانت هذه جميعاً تمقت راسبوتين وتراه شراً أخبث من الشر، وتبخل عليه حتى باخس صفة من الصفات الإنسانية تنسبها إليه؛ فهو عندها الجاهل الذي يدعى العلم ويلزم الناس إلزاماً بأن
يروه عالماً؛ وهو القرد الذي ما يكاد يرى أنثى حتى يسيل لعابه وتهيج فيه أحط الغرائز فيرسلها ثائرة ويطلقها جامحة لا يكبحها ولا يلوى عنانها؛ وهو السكير الذي لا تكف أمعاؤه عن الصراخ في طلب الخمر والذي لا يستقر رأسه بين كتفيه على حال من أثر الشرب، وهو الدجال في مسوح القديس؛ وهو آخر الأمر الخائن الذي يبيع وطنه وأهله وذويه بالثمن البخس، فهو إذن الرجل أو الكوم من اللحم الذي لا إنسانية له ولا كرامة ولا عفة ولا شرف ولا قومية ولا دين!. . .
هذا بينما هاري بور في تصوير راسبوتين إلى اتجاه آخر، فقد أخذ على عاتقه ألا يسترسل في نقد راسبوتين هذه الاسترسال الذي يهدم إنسانيته هدماً، فاستبقى هاري بور لصاحبه من شره ما لم يستطيع أن ينكره لإجماع المصادر التاريخية عليه فأظهره سكيراً محباً للنساء، ولكنه عدل بعد ذلك عن تلوينه بألوان الدجل والخيانة فأظهره صريحاً صادقاً يقول للناس إنه يعالج مريضاته المختبلات من الإناث بعلاج طبيعي هو عند الرجال جميعاً ولكن الناس لا يرضون أن يصدقوا هذا ويأبون إلا أن يسبلوا عليه مسوح القديس صاحب المعجزات فلا يملك إلا أن يسخر منهم وأن يتأنق في المسوح، كما أظهره أيضاً مخلصاً لقيصره ووطنه إذ يلح بالنصيحة على القيصر ألا يزج بالروسيا في الحرب لعلمه بعجزها عن المضي فيها
وهكذا اختلفت صورتا (راسبوتين) اللتان عرضهما جون باريمور وهاري بور، وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف دراسة كل منهما لراسبوتين، والى مطاوعة كل منهما لمؤلفه. . .
وأخيراً، فقد يعهد إلى الممثل بتمثيل دور عادي طبيعي لا شذوذ فيه ولا أصل له متميزاً في الطبيعة. عندئذ يستطيع الممثل أن يسترجع نفسه هو، ولا بد له إذن أن يكون قد راقب روحه ورأى كيف تستقبل الحوادث والمفاجآت والمؤثرات وعليه في مثل هذه الأدوار أن يمثل نفسه في رداء الدور
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
كيف كشفت الأشعة النافذة
للدكتور محمد محمود غالي
لمحة تاريخية - أعمال جوكل وهيس وكولهورستر - المناطيد
المسجلة - صعود الأستاذ بيكار في طبقة (الستراتوسفير)
إذا أردنا أن نسميها الأشعة الكونية، أو أردنا أن نسميها الأشعة النافذة، فإن الأسماء لا تغير الوقائع في شيء، فهي كونية لأننا لا نعرف مصدرها، وهي نافذة لأنها تخترق ما يقابلها. ونعيد القول أنه بينما تحجب ورقة رفيعة أشعة الشمس على قوتها، فإن كتلة من مادة الرصاص يبلغ سمكها متراً لا تحجب إلا نصف عدد الجسيمات المكونة للأشعة الكونية
لم يختلف الفضاء منذ آلاف السنين عن الفضاء الذي نعيش فيه، ولم تختلف الظواهر الطبيعية والقوانين المرتبطة بها منذ عشرات آلاف الأعوام؛ ومع ذلك فقد مضت المدنيتان المصرية والإغريقية كما مر عهد العرب دون أن يستمتع أحد منهم بالراديو كما نستمتع به اليوم، ذلك لأنه كان لزاماً أن يتقدم العالم للحد الذي أمكن لمكسويل الإنجليزي أن يضع الأسس الرياضية لنظرياته الكهرومغناطيسية للموجة، ولهرتز ليدلنا على أن سرعة الكهرباء هي سرعة الضوء، ولماركوني الإيطالي وبرانلي الفرنسي ليضعا مع غيرهما الأسس التجريبية التي تيسر لنا اليوم أن نحصل من التاجر على جهاز نسمع منه، ونحن في وسط الصحراء أو فوق جبل عتاقة، بعيداً عن كل أثر للمدن أو الحياة، موسيقيا من القاهرة أو خطيباً من باريس
كذلك الأشعة الكونية، لم يختلف الفضاء الحامل لقذائفها منذ عهد بعيد، بل لم تختلف درجة وصولها إلينا منذ أمد طويل. وفي ظني أهرام الجيزة تصاب في هذا العصر بالعدد الكبير الذي كانت تصاب به في أقدم العهود، هذا العدد أقدره بأكثر من مليون مليون قذيفة في اليوم الواحد تقع كلها على أحجار الأهرام وتتغلغل فيها لمسافات بعيدة تبلغ العشرات من الأمتار
وإذا كان الألمانيان توصلا منذ بضعة أسابيع فقط إلى إيجاد عنصر التوريوم بينما كانا
يقذفان عنصر الإيرانيوم بإشعاع تقل درجة اخترقه عن الأشعة الكونية، فماذا جرى في الأهرام منذ بنائها؟ وماذا تكوَّن فيها من ذرات جديدة لم تكن في عداد ذرات أحجارها الأولى؟
كانت الأشعة الكونية موجودة بلا شك منذ القدم، وهي ما تزال تحدث أثرها في كل زمان ومكان، تحدث هذه الآثار في الأهرام كما تحدثها على قمم الجبال أو على سطح البحيرات بعيداً في أعالي النيل، ومع ذلك لم تكن معروفة للإنسان إلا منذ عهد قريب، وقد تمضي سنون عديدة قبل أن نعرف شيئاً وافياً عن أثرها في المادة التي تقابلها، أو عن أثرها في حياتنا. ولا شك أنه عندما نخطو هذه الخطوات تتغير معارفنا، بل تتغير إلى حد أساليب استعمالنا الأشياء، ويرى اللاحقون بنا جيلاً يختلف عن الجيل الذي نعيش فيه
تبدأ معارفنا الأولى عن الأشعة الكونية في سنة 1900، فمنذ ذلك الحين كانت الظاهرة المسماة (التَّأيُّن المتبقي) معروفة لدى الطبيعيين، وتبدأ الأعمال الخاصة بهذه الظاهرة بالعالمين الستر وجيتل اللذين بينا بطريقة دقيقة كما بين العالم الكبير س. ت. ر. ولسون منزلاً في البحث عنهما، أن الهواء الجاف المحصور في وعاء مقفل ليس عازلاً كهربائياً تاماً، بل إنه موصل كهربائي، مهما كان ضعيفاً، فإنه لا شك في حالته الكهربائية، ومعنى هذا أن لكل حجم معين من غاز مصون من جميع الأشعة كالأشعة السينية (أشعة قدرة على التَّأيُّن أي على التوصيل الكهربائي، وبعبارة أخرى تظهر في الغاز شحنات كهربائية تمثل أو تدل على ظاهرة غير مفهومة. هذه المعلومات الأولى جعلت العالم س. ت. ر. ولسون يظن أن إيجاد اليونات ? في الهواء الخالي من جميع المواد المعلقة (كالأتربة الرفيعة) قد يُعزى لإشعاع خارج عن الغلاف الهوائي المحيط بكرتنا الأرضية، إشعاع شبيه بأشعة رتنجن أو الأشعة الكاثورية ولكن له قوة اختراق عجيبة
وقد شاءت الظروف أن ننتظر سنين طويلة، ليكون هذا الإلهام أو الوحي الذي أوحى به هذا العالم حقيقة لا تقبل الجدل، بل شاءت الظروف أن يمضي عشرة أعوام قبل أن تتحقق التجارب الأولى التي تفسر بمقتضاها هذه الظاهرة التي تحدث من تلقاء نفسها وبدون عوامل تتعلق بالأرض أو ما يحيط بها
وتنحصر التجارب الأولى في قياس الوقت الذي يمر لتفريغ
(الكتروسكوب) ذي ورقتين من أوراق الذهب، في حالة نضمن
فيها بكل الوسائل عدم إمكان مرور الكهرباء خلال كل
الأجسام العزلة المتصلة به. ومع معرفة أن وقت التفريغ
يتناسب مع حجم وضغط الغاز، وجد الباحثون أن عدد
الأيونات الحادثة في 3الس م في الثانية في درجة الحرارة
والضغط العادي يساوي من 10 إلى 20 أيونا عند سطح
البحر لألكتروسكوب معرض للجو في حالته الطبيعية.
وقد أصبح معروفاً أننا لو حجبنا الألكتروسكوب من جميع
الجهات بعنصر ثقيل مثل الرصاص، فإن الرقم السالف
ينخفض إلى أيون لكل 3س م في الثانية، ويعللون هذا
الانخفاض بامتصاص الرصاص لأشعة (جما) الراديومية
الصادرة من المواد الأرضية وغيرها من المواد المحيطة
بالألكتروسكوب كالمباني القريبة منه مثلاً
ولكي نثق أن لعملية التأيُّن مصدراً غير المواد الراديومية الموجودة في الأرض، حمل العلماء الألكتروسكوب على سطح بحيرات عميقة جداً، كذلك في مناطيد أرسلوها لارتفاعات كبيرة، وكانت النتيجة أنهم أثبتوا أن عملية التأين موجودة دائماً، وأنها تزداد كلما ارتفعنا في طبقات الجو
ولقد كان لجوكل وهيس وكولهورستر بين سنة1911 وسنة 1913، الفضل في القيام بتجارب في الهواء بإرسال مناطيد إلى ارتفاعات مختلفة تحمل معها غرفة للتأيُّن مصونة
من أي إشعاع، وقد بحث هؤلاء في التغير الحادث في عملية التأين في الحيز الواقع بين سطح البحر، وبين منسوب 9000 متر. وقد دلت التجارب كما قدمنا أن التأين يتزايد في الطبقات المرتفعة من الجو. وهذا ما جعل الأفكار تتجه إلى أن سبب التأين أشعة متجهة من أعلى إلى أسفل في طبقات جو الكرة الأرضية، وليس أشعة تتجه من الأرض إلى الطبقات العليا
كذلك قام فريق من العلماء بتجارب عديدة تحت سطح الماء بأن حملوا الأوعية التي تحدث فيها عملية التأين ويسمونها: غرفة التأين ? في أعماق البحيرات، ووجدوا أن عملية التأين تقل كثيراً تحت سطح الماء. ولقد كان لكولهورستير وميليكان وكامرون فضل كبير في هذه المباحث بتجاربهم التي قاموا بها في البحيرات الجبلية المختلفة الارتفاع، وأهم ما توصلوا إليه من نتائج، هو أن درجة التأين. أو قوة الأشعة الكونية تختلف مع كمية المادة الموجودة فوق غرفة التأين سواء كانت المادة ماء أو هواء
هذه الدراسات بلغت درجة كبرى من الدقة في أعمال ريجنيه الذي أدلى غرفة مسجلة للتأين في مياه بحيرة كونستانس إلى عمق 230 متراً. كذلك أرسل بغرفة أخرى في منطاد بلغ في صعوده 25 كيلومتراً حيث يبلغ الضغط الجوي عند هذا الارتفاع 22 مليمترا وحيث يتبقى من كتلة الهواء3 % من كتلته الأصلية وترى نتائج (ريجنيه في الشكل1) حيث ترى كيف يتغير عدد الأيونات المزدوجة في كل س م3 من الهواء في الثانية مع العمق، وكيف يرتفع هذا العدد في طبقات الجو العليا؛ وكيف ينخفض جداً تحت سطح البحيرات. وقد دلت التجارب الأخرى أن الأشعة الكونية تصل مخترقة الماء لمسافات تزيد على500 متر
هذه المناطيد التي استعملها ريجنيه وغيره من النوع الذي يطلقونها بعد أن يضعوا فيها أجهزة طبيعية تسجل الأرصاد المختلفة التي تتبين للعلماء بعد العثور على هذه المناطيد التي ترد في العادة من الأماكن البعيدة التي تقع فيها، وتسمى هذه المناطيد بالمناطيد الجاسة
وقد بلغت هذه المناطيد شأواً كبيراً من التقدم منذ استطاع أيدراك وبيروه في سنة 1927 أن يحصلا بطريقة لاسلكية على كل المعلومات التي تسجل داخل البالون، وترسل
باللاسلكي إليهما دون أن يكون داخل البالون الصغير شخص للقيام بهذه المهمة. وقد قدمت في أعداد مضت من الرسالة أنني استطعت مع العالم بيروه المتقدم الذكر أن أضع طريقة لتسجيل منسوب النيل أو كمية ما تحمله المياه من طمى دون أسلاك ومعرفة ذلك مهما بعدت المسافة
كل هذا لم يصرف بعض العلماء عن أن يقوموا بتنفيذ فكرة جريئة خطرت لهم وهي الصعود إلى الطبقات العليا من الجو التي يطلقون عليها (ستراتوسفير)
ولقد كان الأستاذ من فكر في القيام بنفسه بهذا العمل الجريء، الذي كان يجوز أن يودي بحياته وحياة تلميذه كوزين عندما صعد لأول مرة من 18 أغسطس سنة 1933 ومعهم كيبير إلى طبقة الأستراتوسفير للقيام بدراسات طبيعية عديدة كانت الأشعة الكونية أهم الأغراض فيها، وقد تبين لبيكار وزميليه كيف تتغير الأشعة الكونية مع الارتفاع، والشكل (2) يعطي النتائج العملية الهامة التي توصل إليها بيكار فهو يبين كيف يتغير عدد الأيونات في ال س م3 في الثانية مع الضغط الجوي أي مع الارتفاع
كل هذا يدا على أننا مغمورون بأشعة تصلنا من أعلى إلى أسفل ولها قوة اختراق عجيبة تزيد على الخمسة أمتار من الرصاص أو ال500 مترا من الماء، وهي إما أن يكون مصدرها الطبقات العليا من الجو، أو أن يكون مصدرها خارجاً عن الغلاف الهوائي المحيط بالأرض.
على أننا سنرى أن تغير شدة هذه الأشعة مع خطوط العرض يحتم الرأي الثاني. وسنبين في مقال قادم أن الشمس بدورها لا يمكن أن تكون مصدراً لها كما سنبين أثرها على المادة التي تخترقها ونتكلم عن الوسائل الدقيقة لقياسها، وتسجيل مسارات جسيماتها وسماعها عند مرورها، وهي وسائل تختلف عن غرفة التأين السابقة وتعد اليوم أقصى ما بلغه العلم التجريبي من القوة والتقدم.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
من هنا ومن هناك
كتاب جديد لهتلر - ملخصة عن (باريس ميدي)
يقال إن أحد رجال السياسة المعدودين أراد مقابلة هتلر في الساعة الرابعة بعد ظهر أحد الأيام، فأجيب بأن الفوهرر لا يمكن مقابلته ما بين الثالثة والخامسة لاشتغاله بوضع كتاب.
فإن دكتاتور ألمانيا يشتغل إلى جانب أعماله السياسية بالأعمال الأدبية والفنية ويوليها جزءاً كبيراً من وقته.
وقد اتفقت وزارة الدعاية الألمانية أخيراً مع دار للنشر في أمريكا على طبع كتاب لهتلر. ويقال إن صاحب هذه الدار بعد أن قدمت إليه رسالة عن تاريخ حياة الدكتاتور استفسر عن اسم الكتاب، فأعلن بأنه كتاب ثان لكتاب (كفاحي) من المحتمل أن يصدر تحت عنوان:(كفاح ألمانيا). ويليه كتاب ثالث باسم: (كفاح أوربا).
وتقول بعض المصادر العلمية إن لهتلر كتاباً رابعاً سيصدر بعنوان: (بين الإدارة والطاعة)، وهو كتاب يجمع آراءه الفلسفية والدينية.
إن هتلر بلا شك قد أخرج أروج كتاب ظهر في القرن العشرين، فكتاب كفاحي بيع منه 20 مليون نسخة في ألمانيا وحدها.
كيف يقوم هتلر بتأليف هذه الكتب؟ إن كتاب كفاحي كتب في السجن ومن المعروف أنه قبل أن يكتب آراءه في هذا الكتاب، عمد إلى بحثها مع كارل هانشوفر، ورودلف جميس، والفريد رونزتبرج. ولكنه في كتابه الجديد لم يسترشد بأحد، ولم يذكر لأحد.
ويملي هتلر آراءه على كاتبه فيلتقطها على الآلة الكاتبة في سرعة عجيبة، ويشتغل على الدوام من الساعة الثالثة إلى الخامسة بعد الظهر. وإنما يفعل ذلك لأن مشاغله المتعددة لا تترك لديه مجالاً للاختيار. فإذا تعذر العمل في ذلك الوقت لظرف من الظروف أجل الإملاء إلى ما بعد ظهر اليوم التالي، على ألا يكون ذلك قبل الساعة الثالثة، ولا بعد الساعة الخامسة بعد الظهر. وهو يلتزم هذه القاعدة لأنه يحب أن يقيد نشاطه الأدبي بوقت معين
ويشاع أن نظرية الكتاب الجديد الذي يشتغل به هتلر، مبنية على فكرة جديدة لحل مشاكل العالم جميعاً بالطرق السلمية.
فهل تحقق الأيام القريبة نظرية هذا الكتاب؟ إنه الآن في مركز يجعله أكثر من غيره فطنة
إلى ذلك.
المرأة في ظل الدكتاتورية - ملخصة عن (ذي هبرت
جورنال)
الفاشية بطبيعتها لا تتفق وحرية الرأي. فهي في الحقيقة تقوم على حكم القوة. ومن ثم كان مركز المرأة فيها مركزاً ثانوياً، تحت نفوذ الرجل الذي أعد للحرب والقتال
وعلى ما هو معروف عن الفاشية من المبادئ المنفرة، نجدها قد وضعت المرأة في مركز لا يبيح لها أن تكون أكثر من آلة صماء لخلق الرجل وخدمته في إبان الحروب
ويقول موسوليني في حديث له مع إميل لودفج: المرأة يجب أن تطيع. إنني لو صرحت للمرأة بالدخول في ميدان الانتخاب لأضحكت مني العالم، إن النساء في حالة كحالتنا من الواجب ألا يحسب لهن حساب. وقد أضاف إلى ذلك أنه قد أعجب بشخص من أسلافه قتل زوجته لأنها لم تحتفظ بشرفه. هذا ما يفعله أهالي روما الذين انحدرت من أصلابهم. وقد أصدرت الحكومة الفاشية منذ نشأتها قانوناً يقضي بمنع المرأة من تعليم الطفل إذا بلغ الحادية عشرة أمراً ما قد يكون له تأثير في تكوينه الخلقي، وما زال هذا المبدأ يعمل به إلى الآن.
إن الذين يعرفون ما تقاسيه المرأة في ظل النظام الفاشي - خارج إيطاليا - قليلون.
لقد كانت السن الدنيا للزواج في إيطاليا للبنات خمس عشرة سنة، وللرجال ثماني عشرة، فنقص ذلك إلى أربع للبنات وست عشرة للذكور - في ظل النظام الفاشي -
وقد سن في قانون العقوبات الجديد في إيطاليا مبدأ لا يجعل الرجل مدانا في حالة الاعتداء على أسرته، إلا إذا كان اعتداؤه هذا يترتب عليه عاهة يصعب علاجها، وفي هذه الحالة يحكم عليه بالسجن ستة أشهر بدلاً من خمس سنوات في القانون القديم، فإذا ماتت الفريسة ترتفع العقوبة إلى ثماني سنوات بدلاً من الإعدام. وعلى ذلك فللإيطالي أن يضرب زوجته وأولاده كيف يشاء، ما دام هذا الضرب لا يسبب لهم كسراً في العظم، أو فقداً لحاسة من الحواس. وكثيراً ما يشمله العفو في مثل هذه الظروف، على أن الفريسة يندر أن ترفع أمره إلى القضاء.
فإذا هربت إحدى الفتيات من سوء المعاملة، وقد تكون من هؤلاء اللائى لا يتجاوزن الرابعة عشرة، فإن البوليس يطاردها ويقدمها للمحاكم حيث يحكم عليها بالسجن سنة كاملة، أما الرجل فلا يسأل عن سوء معاملته لها.
أما نظام النازي فقل أن يختلف عن هذا النظام من حيث الاستهتار بحقوق المرأة، فالمرأة الألمانية تستوي مع أختها الإيطالية في المعاملة التي تعامل بها في ظل الحكم الاستبدادي، ولا تزال الشكوى ترتفع إلى العالم مما تلاقيه. وقد أشارت الفيننشيال تايمز الألمانية إلى أن المرأة لا تضايق الرجل بمشاركتها إياه في الحياة فقط، بل بمنافستها له في كسب الخبز أيضاً.
وقد أرغمت المرأة الألمانية على التخلي عن حقوقها الانتخابية وحرمت الحق في التوظف في مصالح الحكومة والمجالس البلدية والمستشفيات، وكذلك بعض المدارس إلا إذا كانت سنها تزيد على خمس وثلاثين سنة. على أنها تفصل من وظيفتها إذا تزوجت من رجل له وظيفة يكتسب منها أو كان من غير العنصر الآري. ويقضي قانون 1933 بفصل المرأة من عملها إذا تزوجت وثبت للسلطات أن إيراد زوجها كاف للقيام بنفقاتها. وكذلك إذا كان لها والد أو أخوة يستطيعون القيام بأمرها فإنها تفصل من عملها ولو لم تكن متزوجة
وقد أخرج النازي آلافاً من النساء اللائى كن يقمن بأعمالهن دون أن تسمع لهن شكوى
ولا يصرح بدخول الجامعات في ألمانيا الآن إلا لعشر في المائة من الفتيات اللائى يحصلن على شهادة البكالوريا
وقد سيق آلاف من النساء العاطلات إلى معسكرات للاشتغال بأعمال الغسل والنظافة والطهي
لقد أنقذت المدنية المرأة منذ أجيال من الاشتغال بالأعمال الزراعية المرهقة؛ ولكن النازية قد ساقت إلى الحقول الكثيرات من نساء ألمانيا الذكيات حيث قضى عليهن بأن يقمن بأشق الأعمال
البَريد الأدبي
حماية نفائس دار الآثار العربية
قد سبق لهذا القلم أن عاتب وزارة المعارف في هذا الباب من الرسالة، ولا سيما يوم عرض لدار الأوبرا الملكية ولمعهد الموسيقى العربية. ويحلو له اليوم أن يذيع أن وزارة المعارف حمت نفائس دار الآثار العربية إذ منعت خروجها من مصر. وهكذا تذكر الحسنات إلى جانب غيرها
والقصة أن جمعية (مصر - فرنسا) - القائمة في باريس رغبت إلى المستشرق المسيو فييت مدير دار الآثار العربية في مصر (وذلك بعقد يجدد كل سنتين) أن يظفر بموافقة الحكومة المصرية على الإرسال بأجمل القطع المحفوظة بالدار إلى باريس حتى تُمدّ معرض الفن الإسلامي المزمع إقامته هنالك. فاختار المسيو فييت نحو ثمانمائة تحفة وأوعز إلى معاونيه بجمعها وإعدادها للرحيل؛ وإذا وزارة المعارف تقف في وجه الأستاذ فييت وترفض أن تقره على عمله
ولا شك أن في عمل المسيو فييت بعض الشطط. ذلك أن قانون دار الآثار العربية - فيما أعلم - يحظر خروج محفوظاتها منها وإن قال قائل إن الدار سبق لها أن ترسل بتحف إلى معرض الفن الفارسي سنة 1931 وأُخرَ إلى معرض بروكسل سنة 1937، فالذي في الواقع أن تلك التحف كانت معدودة. وأما هذه الدفعة فقد حاول الأستاذ فييت أن يخرج من الدار ثمانمائة تحفة كلها من النفائس التي لا مثيل لها في سائر البلدان والتي بها تفخر دار الآثار العربية وتعتز مصر. ولو اتفق لهذه التحف أن تنفذ إلى باريس فما يكون مصيرها لو وقعت حرب أو تحطمت أو تثلمت أو أثر فيها الجو؟ من أين نجلب أشباهها؟
والوجه أن الآثار لا تخرج من بلد إذا كانت فريدة لا أخوات لها، ثم إنه يحسن أن تخرج نماذج لها بدلاً منها. وعلى هذا أقيم معرض النحت الفرنسي لهذه السنة في الجزيرة في مصر، وعلى هذا أكثر المعارض الرفيعة
وبعد، فالمأمول أن تعد وزارة المعارف نفسها معرضاً للفن الإسلامي تكل أمره إلى دار الآثار العربية، لأن مصر أحق البلدان في إقامة مثل ذلك المعرض، فنفائس دار الآثار لا تجاريها محفوظات المتاحف الأخرى؛ فضلاً عن أن عددها يبلغ هذا الرقم الجليل: 14350
بحسب الإحصاء الذي دونه الأستاذ فييت نفسه باللغة الفرنسية لشهر مضى في (الدليل الموجز لمعروضات دار الآثار العربية) على حين أن آثار الفن الإسلامي المحفوظة في باريس لا تكاد تتطلع إلى ذلك الرقم
بشر فارس
المبتدأ الذي لا خبر له
قرأت ما كتبه الأستاذ (أبو حجاج) في رد ما ذهبت إليه في إعراب المبتدأ الذي لا خبر له، فوجدته أولاً لم يحاول رد إعرابي بشيء، وهذا كسب عظيم لذلك الإعراب الجديد، وكنت أحب للأستاذ أبي حجاج أن يبطل إعرابي هذا قبل أن يحاول تسويغ إعرابهم، وإذا لم يكن إعرابي باطلاً - وهذا ما أرجوه إن شاء الله - فإني كنت أحب أيضاً أن يوازن بين الإعرابي ليرى كيف يستقيم أمر المبتدأ على إعرابي، فيكون مسنداً إليه باطراد، كما يستقيم ذلك في الفاعل ونائب الفاعل واسم كان واسم إن، وكيف يضطرب أمره في إعرابهم، فيجعل مسنداً إليه تارة ومسنداً تارة أخرى؛ مع أن الأصل فيه أن يكون مسنداً إليه. وليس هناك ما يدعو إلى جعله مسنداً إلا ذلك الإعراب الذي يغني عنه إعرابي، ولا شيء في أن يوضع هذان الإعرابان في ميزان واحد. وإن كان أحدهما متقدماً والآخر متأخرا، لأن مثل هذا الاعتبار لم يعد له وزن في عصرنا، وكم من متأخر رجح متقدماً
ووجدته ثانياً يحاول تسويغ إعرابهم بما أنكرته عليهم، فهو يسلم ما قلته من أنهم لم يسموا الشيء فاعلاً إذا كان في المعنى فاعلاً، وهكذا، ثم يقول إنهم كذلك لا يسمون الاسم مبتدأ إلا إذا كان مبتدأ في المعنى، أي إلا إذا كان اسما مجرداً عن العوامل اللفظية وهو إما مخبر عنه أو وصف رافع لما يغني عن الخبر. ولا يخفى أن هذا قياس مع الفارق كما يقولون، لأن ما سلمه من ذلك معناه ظاهر، وهو أن الشيء لا يسمى عندهم فاعلاً في الاصطلاح إلا إذا كان فاعلا في الواقع؛ أما الذي ذكره في المبتدأ فمعناه أنه سمى في الاصطلاح لأنه مبتدأ في الاصطلاح، وهذا تهافت ظاهر. ثم هو عين ما أنكرته عليهم، لأنه اصطلاح يلزم عليه إخراج المبتدأ عن أصله، وإدخال ما لا معنى لإدخاله فيه
والحق أن الوصف في مثل ذلك جار مجرى الفعل؛ وكما لا يصلح أن يكون الفعل مبتدأ، لا
يصلح أن يكون ما جرى مجراه مبتدأ، ولهذا لم يصلح اسم الفعل لأن يكون مبتدأ لأنه جار مجرى الفعل، والفعل لا يصلح للابتداء به. فكذلك ما يجرى مجراه، وهذا هو الحق في اسم الفعل ولو قلنا إنه موضوع للدلالة على معنى الفعل، لا على لفظ الفعل، لأن الخلاف في ذلك يشبه أن يكون لفظياً، ولأن الفعل لا يصلح لفظه ولا معناه للابتداء به، وليس هذا الحكم قاصراً على لفظه فقط
وقد قال صاحب التصريح إن اسم الفعل يعرب مبتدأ على القول بأنه موضوع لمعنى الفعل، وهو قول غير مسلم عندي، وما أظن أن أحداً سبقه إليه، لأن الفعل لا يصلح لفظه ولا معناه للابتداء به، فكذلك ما يدل على معناه من اسم الفعل ونحوه، ولأنهم قصروا المبتدأ الذي لا خبر له على الوصف المعنوي، وهو ما دل على ذات ومعنى قائم بها، وقد أخرجوا منه المصدر لأجل هذا، إلا أن يكون مؤولاً بالوصف، ولا شك أن اسم الفعل مثل المصدر في أنه ليس وصفاً بذلك المعنى، فلا يصح أن يكون مبتدأ مثله. وما أحرى الأستاذ أبا حجاج أن يسلم لي مذهبي بعد هذا كله، والسلام عليه ورحمة الله
عبد المتعال الصعيدي
نقابة جديدة للموسيقيين. . .
وأخيراً وبعد هذا الزمن الطويل الذي قطعه الموسيقيون في تنافر وتنابذ وشقاق استطاع بعض المصلحين المثقفين منهم أن يلموا الشمل وأن يمهدوا لفكرة التعاون الصادق والإخاء الذي لا ينفصم فاجتمعت الآنسة أم كلثوم بالأستاذ محمد عبد الوهاب، حتى إذا اتفقا وتصافيا ونسيا كل شيء إلا خير الموسيقى ورفعتها والأخذ بيد أبنائها انتقل هذا الاجتماع من (سان جيمس) إلى دار الاتحاد الموسيقي الذي يرأسه الأستاذ إبراهيم شفيق. وقد حضر الاجتماع الذي انعقد يوم السبت 22 أبريل سنة 1939 بالدار من الموسيقيين والمطربات الأساتذة: الدكتور محمود أحمد الحفني مدير الموسيقى بالمعارف، وصالح عبد الحي، وإبراهيم شفيق، ومحمد بخيت، ومحمد القصبجي، وكامل إبراهيم، والسيدة فتحية أحمد. وقد استمر الاجتماع منعقداً أكثر من ثلاث ساعات ذلل فيها أكثر العقبات ورسم فيها أكثر الخطا. . . وقد انصرفوا على أن يجتمعوا بعد أسبوع لتكملة مشروعهم. ولعل الفرح الذي كانت تفيض به
نفوس إخوانهم المنتظرين في أبهاء المعهد خير حافز لهم على التوفيق والنجاح. ولعل هذه الحركة المباركة هي المسمار الأخير الذي سيدق في نعش تلك الفوضى التي كانت تسود الجو الموسيقي والتي كانت تحرم الموسيقيين من نقابة ترعى حقوقهم وتسهر على مصالحهم. . .
المويلحي
إلى شباب الجامعة والأزهر
عرض الأستاذ الكبير العقاد في مقاله القيم: (يهتمون به فهل يعرفونه) المنشور في عدد الرسالة (الممتاز) لبعض الخلط والتمويه الذي يتطرق له الكثير ممن يتصدون للكتابة عن العرب والإسلام من أبناء الغرب. وبين يدي كتاب عن: (لورنس في جزيرة العرب) لرحالة أمريكي يدعى لوول ثماس رافق الكولونيل لورنس ردحاً من الزمن في جزيرة العرب أثناء الثورة العربية، حشاه بكثير من الأغاليط لا يعدو الباعث عليها أحد الأسباب التي أشار إليها الأستاذ الكبير في مقاله الآنف الذكر.
لو يتسع لي المجال لقدمت لقراء الرسالة طائفة من عجائب ذلك الكتاب، بيد أني سأقتصر على عجيبتين فقط
قال في ص51 أثناء كلامه عن الحجاج: (. . . وبعد أن يقوم الحجاج بتأدية الشعائر الدينية في مكة، يعودون إلى أوطانهم فيخضبون لحاهم ويعرفون بعدها بالحجاج، أو الرجال المقدسين. وقبل مغادرتهم مكة تسلم لهم تذاكر تضمن دخولهم الجنة).
واستطرد في ص223 إلى ذكر الوهابيين فقال: (وهؤلاء المدققون في أمور الدين، يريدون إبطال الحج، وإزالة كافة المزارات: كالكعبة المقدسة، وقبة النبي في المدينة).
وجل ما يكتب في الغرب عن العرب والإسلام على هذه الوتيرة وأثر هذه الكتابات سيئ وخيم العاقبة! فمكتبة شبابنا المتعلمين اليوم هي المكتبة الغربية، أصلية في الغالب، مترجمة في النادر. فحبذا لو تألفت لجنة من شباب جامعة فؤاد الأول، والأزهر، لنقد وتمحيص ما يكتب عنا، لا ليعلم أبناء الغرب حقيقتنا نقية غير مشوبة فقط، ولكن لنقي أبناءنا ما وسع الجهد من هذا الوباء الفتاك أن يسمم عقولهم. وما عهد الحملة التي وجهت في مصر لكتاب:
(حياة محمد) ببعيد.
(البحرين)
(ت)
مخرج حاذق يفقد
من أخبار السينما المصرية أن شركة مصر للتمثيل والسينما رفضت تجديد عقد الأستاذ نيازي مصطفى المخرج المعروف وهذا أمر لا يفرح به من يهمه تقدم صناعة السينما المصرية، ولا سيما بعد ما شهدنا ما بذله من جهد في إخراج روايات ضئيلة الموضوع. وهو ممن تعرف قدرته في ألمانيا، بحسب اعتراف أساتذة فن الإخراج هنالك
حتَّامَ يُستبعد أهل الكفاية في هذا البلد، إذا بدت منهم الدراية؟
ب. ف
العلاقات الثقافية بين مصر والبلاد الشرقية
تعنى وزارة المعارف بالعمل على توثيق روابط الثقافة بين مصر والبلاد الشرقية، وقد ألفت لجنة لهذا الغرض من رجال الخارجية والوزارة برياسة صاحب العزة الأستاذ الوكيل لبحث الموضوع ولكن الرأي اختلف فيه فطلبت وزارة المعارف إلى وزارة الخارجية أن توافيها بما تتضمنه الاتفاقات المعقودة بين الدول الأجنبية في هذا الشأن. فأرسلت إليها نص الاتفاق الذي عقد أخيراً بين فرنسا ورومانيا، وهو يقوم على القواعد الآتية:
تأليف جمعية تعنى بتشجيع حركة التعاون الثقافي بين البلدين وإلقاء المحاضرات وطبع الكتب وتبادل الأساتذة والطلاب بين معاهد البلدين. وإنشاء صناديق ادخار مشتركة لطلبة الشعبين. والأخذ بمبدأ المساواة في الدرجات العلمية والتزاور بين الشخصيات الكبيرة المعروفة في عالم الفن والعلم والأدب. وتشجيع سفر الفرق الفنية والتمثيلية والموسيقية إلى البلدين. وإنشاء جمعيات واتحادات (فرنسية ورومانية) للطلبة في فرنسا ورومانيا، والدعاية لنشر الكتب والمؤلفات الموسيقية والأدبية والأفلام والاسطوانات التي تصدر في أحد البلدين بين سكان البلد الآخر، وكذلك تشجيع السياحة وتنظيم الرحلات وتبادل الإذاعات
اللاسلكية بين البلدين
ومما يذكر أن مثل هذا الاتفاق عقد بين ألمانيا واليابان وبين هذه الأخيرة وإيطاليا، وبلغ من اهتمام الحكومة الأمريكية بهذا الموضوع أنها أنشأت في وزارة الخارجية قسماً خاصاً لتنمية العلاقات الثقافية بينها وبين الدول الأخرى
التسليح الأدبي خير من التسليح المادي
روت المقطم أن 800 محافظ ورئيس بلدية في مدن كندا وبلادها اجتمعوا وقرروا أن تضع حكومة كندا برنامجاً تعرضه على جلالة ملك الإنكليز وملكتها عند زيارتهما لكندا مؤداه أن التسليح الأدبي خير من التسليح المادي في حفظ كيان الأمم وراحتها ورفاهتها
ومن أخبار بلاد أسوج في شمال القارة الأوربية أن200 أستاذ من أساتذة 25 جامعة من جامعات أوربا وغيرها، وعدداً كبيراً من تلامذتها اجتمعوا في جبال تلك البلاد ونظروا ملياً في الطريقة الواجب اتباعها في التعليم والتربية والتثقيف لتكون الجامعات بأساتذتها وتلامذتها في طليعة البانين للهيئة الاجتماعية الإنسانية على أسس العدل والحق وحب الإنسان لأخيه الإنسان وما إلى ذلك من الأسلحة الأدبية التي هي خير من الأسلحة المادية لحفظ كيان الأمم وراحتها رفاهيتها - فنحول إلى ذلك أنظار جامعاتنا الشرقية في مصر وسوريا ولبنان وغيرها
أشباح القرية
تأليف الأستاذ كرم ملحم كرم
للسيدة وداد سكاكيني
الأستاذ كرم ملحم كرم من أكبر أدباء القصة في بلاد العرب ومن أكثرهم إنتاجاً وجهداً موزعا بين فنون الأدب، فهو موهوب في الفن القصصي، نشر رواياته الثلاث:(المصدور) و (صرخة الألم) و (بونا أنطون) فكان لها دوي بعيد، وكتب أقاصيص رائعة في مجلته (ألف ليلة وليلة) أبدعها قلم مرهف مطواع وتلقاها قراؤه بلهفة وإعجاب، لا سيما ما كان منها يعبر عن أحداث رأوها رأى العين أو طرقت مسامعهم، وكان لها مساس بحياتهم. وقد أتخذ الأستاذ كرم الصراحة ديدناً لأسلوبه فما يخشى بأساً إن عرض في قصصه لشخوص بخصائصهم ودخائلهم حتى أنه اكتسب من جراء قلمه الحر عداء وحسداً فوقف تجاههما كالرواسي الشامخات لا تحفل قصيف الرعد ولا تعبأ بهزيم الرياح. وإليه يرجع الفضل في نهضة القصة بلبنان لأنه أول من شق طريقها الجديد منذ أكثر من عشر سنوات فكانت قصصه خير قدوة ودعوة لمن سار على دربه
إذا شئت أن ترى القرية اللبنانية وتتعرف إلى حياتها الصحيحة وأهلها رجالاً ونساء فاقرأ كتاب كرم (أشباح القرية). في هذه القصص ترى الحياة الخالية من كل تبرج وتصنع، وكيف أن القرية على خلوها من كل زيف وزخرفة لا تسلم من مساوئ المدينة التي تنتقل إليها على أيدي بناتها وأبنائها الذين يهجرونها لتغذية مطامعهم الوثابة، فما يتركون قريتهم حتى تتولاهم الحيرة والدهشة في طريق البلد الذي يبتغون، حتى إذا حطوا رحالهم باتوا كالمخمورين، وكلما تغلغلوا في حياتهم الجديدة امتدت آفاق العيش أمامهم دون أن تقف على حد. كل هذا بأوصافه الملونة ودقائقه المصورة تراه مثبتاً في (أشباح القرية) كأنك تتطلع على ألواح بارزة ورسوم ناطقة بكل ما في الجبل اللبناني من ألوان وظلال
ففي (جبور في بيروت) يصور سحر المدينة لابن القرية وإيثاره العمل الشائن فيها على خدمة الأرض التي عاش عليها آباؤه وأجداده بين الزراعة وجمع الحطب ورعاية الماشية فجوزي على جحوده وطمعه بارتكاب المنكر من فسق وميسر ومراهنة في سباق الخيل وقتل نفس حتى وقع في السجن ولحقته الشماتة والندامة فرجع إلى القرية مريضاً بعيداً عن
الساخرين
وفي (رزوق عاد من أميركا) يمثل لك صاحب الأشباح طموح الفلاح والتماسه الرزق وراء البحار وكيف يعود رجلاً آخر يسخر من القرية وأهلها فيضيع ثروته في حياة المدنية ومستواها الذي لم يخلق له
إن في (أشباح القرية) لروعة في الوصف وإبداعاً في التمثيل ونكتة في السياق. غير أنها قد حملت في بعض رسومها ألواناً قاتمة، ولعلها ندت في بعض أطرافها عن تصوير الحقيقة، كأن يصف روائي لبنان عجوزاً بأنها كتعاء عوراء عرجاء، فهذا الغلو في التعبير قد يخرج الصورة عن إطارها الذي يليق بها. ولعل لموهبته المولدة وبصيرته النفاذة وقلمه السيال يداً في هذه ألهناه التي تنجم عن وفرة الإنتاج وجموح الخيال؛ فالأستاذ كرم يخلع على قصصه ألواناً من لإبداعه حتى تتسع أفياؤها ويلتبس على قارئها أهي واقعة من الحياة أم ابتدعتها مخيلته في الرواية، ولكني أعتقد أن مذهبه في الفن القصصي مبني على الحقيقة والواقع، مستمد روعته من مسارح الخيال بدليل أن (أشباح القرية) تمثل لك الأشخاص كأنك عشت بينهم ووعيت حياتهم وعرفت طبائعهم وميولهم. وصفوة القول أن الأستاذ كرم ملحم كرم من بناة النهضة الأدبية الحديثة في لبنان، وكتابه (أشباح القرية) جدير بالمطالعة والإعجاب لأسلوبه الجميل ولهجته السليمة وصبغته الخاصة على ندرة هذه الميزات في كتاب القصة.
وداد سكاكيني
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
عطيل
بين الإخراج والتمثيل
ما أظنك رأيت ناسكا من قطان الصحارى والكهوف الواردة أساطيرهم في الكتب يستيقظ في الفجر يسبح ربه ويقضي نهاره على وتيرة واحدة في الأكل والصلاة ثم يودع الشمس الغاربة بأدعية الحمد والتوسلات إلى الباري العظيم أن يدني اليوم العظيم يوم الخلاص من الحياة الدنيا. فإذا شاقك أن ترى شبيهاً لحياة البلادة والكسل وتزاحم أيام الأسبوع وتدافعها حتى ينقضي اليوم الأخير من الشهر، فانظر إلى الفرقة القومية وراقب أعمالها تر ذلك الناسك بعجزه وبجره، لا فرق بينهما إلا في صيغة الدعاء والابتهال إلى الله العظيم أن يصرف أذهان نواب الأمة عن مناقشة ميزانية وزارة المعارف التي تمنح إعانة لنساك من الممثلين كهوفهم قهوات عماد الدين وكتبهم أوراق البوكر والكونكين
وإذا أردت مثلاً صارخاً لبلادة الناسك ومحافظته على الهدوء كالتمساح يهضم ما ابتلعه من فريسة على مهل فاذهب إلى دار الأوبرا واحضر تمثيل رواية عطيل، فأنت ترى نفس أبطال الممثلين والممثلات الذين لعبوا أدوار هذه الرواية بعينها سنة 1912 فلا فارق فيما كانوا عليه قبل سبع وعشرين سنة إلا ما سوف أذكره بالتفصيل، وفيما يجب عليهم إدخاله على فن التمثيل من محسنات وتصحيحات لمواقفهم السابقة. ولا شك في أنك تسائل نفسك ما معنى استقدام مخرج أوربي ليحل محل مخرجين مصريين أقصاهما مدير الفرقة ليتيسر له دفع راتب المخرج الأوربي الذي لم يستطع أن يغير حرفاً من الناموس القديم؟
المخرج الأوربي على شيء من فهم فنه ولا شك، وقد أقام البينة على ذلك، ولكنه ويا للأسف تأقلم فسرت إليه عدوى الموظف الراكن إلى الراتب الفاتن، المكتفي بإبراز عمل يرضي الرئيس ولا يغضب الممثلات والممثلين فصار يساير هذا ويجاري ذاك كأنه كتلة أصيلة من بيئة المسرح المصري
وعلى هذا القياس تم التجانس والانسجام بين رجل الإدارة ورجل الفن ورجل التمثيل،
بدليل أنه لما طاب للفرقة إخراج آخر رواية ترجمها الأستاذ مطران لم يجد المخرج بداً من مسايرة السيدة دولت أبيض والسيد منسي فهمي، بإسناد دور ديدمونة إلى الأولى ودور ياجو إلى الثاني، وبإبقاء دور عطيل مع الأستاذ جورج أبيض، أي بإبقاء القديم على قدمه. فهل قام هؤلاء بتمثيل أدوارهم قياماً مقبولاً؟ وهل أكسبتهم الأعوام اختبارات فنية أضافوها إلى صناعتهم في التمثيل؟ وهل استطاع المخرج الأوربي تلقيحهم بمعلومات خاصة من عنده؟
أزعم أن المخرج لم يكلف نفسه عناء تصحيح أي موقف لممثل من مواقف هذه الرواية الجبارة، ولو فعل حقاً لكان اختار لدور ديدمونة غير الممثلة دولت أبيض، لا لأنها لم تحسن فهم دورها، ولا لأنها لم تُجد إخراج مقاطع صوتها بحنان وعطف، ولا لأنها لم تجهد نفسها لإظهار الحب البريء البكر بأطهر مظاهره، بل لأن تقاطيع وجهها ونظرات عينيها كانت كأنها من صنع رسام فاشل توحي إلى الناظر أكثر من معنى واحد، وتجعله يراها تبكي بينما هي تضحك، أو تضحك بينما هي تبكي. والمفروض في المخرج البارع ملاحظة هذه الحالة الفسيولوجية التي لا دخل لإرادة الممثل واجتهاده فيها، بل والواجب عليه تفاديها، وليس ثمة من سبيل إلى التفادي إلا باختيار ممثلة أخرى وهن في الفرقة كثيرات
وهناك تقصير من المخرج يستوجب اللوم من أجله، ولا أجد سبباً لوقوعه فيه سوى سبب المسايرة والمجاراة وإرضاء الجميع على حساب (الضمير الفني) فالممثل الذي لعب دور ياجو وسبق له أن لعبه مرات في خلال ربع القرن الماضي، إنما كان فهمه له خطأ، وكان تدريب معلميه له خطأ أيضاً، وبذلك دلل على أنه صدى يردد، وأنه لو كان التفت المخرج إلى هذه الناحية الفوتوغرافية فيه لكان طبعه طبعة صحيحة تظهر نفسية ياجو على حقيقتها وعلى ما هي مفطورة عليه
قد يفهم المخرج الأوربي معاني (الكيد والتحدي والجريمة) وهي عناصر رئيسية في الحيوان الشرير الذي يدعى الإنسان، وأن عوامل التهذيب والتثقيف تصقل هذه الخلائق أو تبرقعها ببراقع في علم السلوك والاجتماع، وهي تغوص أو تطفو وفق الانفعالات والظروف. وقد يفهم أيضاً أن شخصية ياجو التي رسمها شكسبير العظيم إنما هي بعينها هذه الشخصية اللعينة المهذبة، المريضة المثقفة، وأن لا محيص لصاحبها أن يكون كيساً
لبقاً لماحاً مرهف الحس، لا ضحاكا مهرجاً كما فهمه الممثل منسي فهمي، وبعبارة أصح كما تركه المسيو فلاندر يلعب دوره على هذا الأساس الخاطئ. فهذا المخرج يستأهل اللوم، لا لأنه أهمل فقط تدريب الممثل بل لأنه يستهين بثقافتنا وبنهضتنا الأدبية متوهما أن محيطنا الأدبي وبيئتنا الثقافية تجللهما سحابة خانقة مكفهرة كالتي تشوب الجو المسرحي
لم تكن كل المواقف التي وقفها الأستاذ منسي فهمي خاطئة، فإنه مثل ببراعة المرح البسام والسخرية المريرة إذ يجتمعان في النفس ومثل السخرية من المخلوقات التي تعميها حيوانية الغرائز، ومن تحفزهم طبيعة الطمع ولاقتناص المال واستلابه من هؤلاء الذين جاءهم عفو الإرث من الآباء أو الأجداد، ومرح الرجل العارف مبلغ قوته ومقدار معرفته طبائع الحياة وأخلاق الناس
قبيل الذهاب إلى الأوبرا أخذت أسال نفسي: هل نضب الأستاذ أبيض أم ركد أم ما برحت حيويته وثابة تنتهز الفرص الحافزة وتترقب سنوحها بصبر؟ ثم قلت إن رواية عطيل خير مسبار يبرز نوع معدن الرجل على حقيقته
جلست في مكاني أعير تمثيل الرجل كل انتباهي. فعلت ذلك لسببين الأول لأني شاهدت تمثيل هذه الرواية على مسارح فرنسية وإيطالية، والثاني لأقول لبعض الأصدقاء من الناقدين إن النقد فضلاً عن أنه موهبة فهو فهم، وحس، وسعة اطلاع، ولا يطالب الناقد المسرحي بزيارة عواصم العالم ومسارحه كلها ليكون ناقداً مسرحياً فالعبرة إذن ليست بالسياحات بل بما ذكرت من المواهب الطبيعية والاكتسابية
أعرت الأستاذ أبيض انتباهي ويقظة نفسي فألفيته يمثل دوره على نقيض ما مثله فيما مضى. وقد أعجبني منه تحوله عن اللهجة الخطابية وانصرافه عن مظاهر الحماسة إلى تمثيل انشغاله الذهني في شؤون وظيفته العسكرية واضطراب عاطفته المستثارة بلواذع الغيرة، ولما كانت تعضه الآلام بأنيابها السامة كان يصرخ صرخة هي كومضة البرق في ليل ملبد بالسحب القاتمة، ثم يعود إلى نفسه ليسكن لواعجها فيداهمه ياجو بمواد من سمومه القتالة. وهكذا مشى الممثل جورج أبيض يقبض على ناصية المسرح وبعبارة أصح يضم أذهان النظارة وأحاسيسهم في قبضة يده
إني وإن كنت أسجل بفخر للمسرح المصري وقفة الأستاذ أبيض فيجب ألا أنسى الآنسة
فردوس حسن لأنها على قصر الدور الثانوي الذي مثلته أظهرت كفاية جديرة بالإعجاب والتقدير.
وبعد فأرجو أن يحمل نقدي على محمل الإخلاص الصادق لفرقة يعز علي كثيراً أن أقرأ الفاتحة على روح النشاط والمجد والغيرة المفروضة فيها والمعدومة منها
ابن عساكر