المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 305 - بتاريخ: 08 - 05 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٠٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 305

- بتاريخ: 08 - 05 - 1939

ص: -1

‌في وزارة المعارف

تدريس اللغة العربية

في الغرفات الكبرى من وزارة المعارف ضجة منذ أسبوعين ما بين رجال الإدارة ورجال التعليم في البحث عن أمثل الطرق لتدريس اللغة العربية في المدارس المصرية. والموضوع لخطره وقوة أثره يستحق هذه الضجة في الوزارة، ويستوجب هذه العناية من الوزير، ويسمح لغير الرسميين من رجال القلم أن يصدعوا فيه بكلمة الحق التي لا توحيها رغبة رئيس ولا مجاملة مؤلف. فإن من القضايا المسلَّمة أن خيبة الوزارة في تعليم الأدب العربي وقواعده كانت خيبة للنهضة الثقافية في مصر الحديثة، لأن الذين يبتغون العلم من العامة لا يملكون أن يقرءوا، والذين يريدون التعليم من الخاصة لا يستطيعون أن يكتبوا؛ فبقيت الأمة أمية في عصر فرغت فيه الأمم من البحث في الألف والباء، والأفعال والأسماء، لسبر أغوار المجهول من النفس والطبيعة

صحيح أن خيبة الوزارة عامةٌ في فروع الثقافة المختلفة، ودرجاتها المتعددة، لأنها إلى اليوم لم تستطع أن تخرج الإنسان المثقف الذي يعرف كيف يعيش، ولا الرجل الموظف الذي يدري كيف يعمل؛ ولكنها لو كانت نجحت في تعليم العربية لخلقت من تلامذتها قراء يكملون نقصهم بالدرس، ويقوّون ضعفهم بالاطلاع، ويتصلون من طريق القراءة بالفكر البشري العام في مناحي تصوره وتطوره وإنتاجه. فإني أومن بأن تعليم الشعب لغته هي أصل الأصول في ثقافته العامة؛ فإذا صلح محا الأمية، وخلق القومية، وكون الأخلاق، ووحد الميول، وقوى المواهب، ونشر المعرفة، وروّج الأدب، ووسع النهضة؛ وإذا فسد أصحاب الأمة بنمط عجيب من الأمية المغرورة والجهالة السفيهة، فيكثر العلماء ويقل العلم، وينتشر الأدباء ويموت الأدب

منذ أن ذهبت ثورة الاستقلال بدنلوب وسياسة دنلوب حاول البانون على أثره أن يرفعوا البناء فلم يرتفع، ثم جهدوا أن يدعموه بتقارير الخبراء ومناهج اللجان فلم يندعم. ذلك لأنهم لا يزالون يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم (بروتين) النظام حتى أصبح لهم فطرة. فإذا كان القيم على أمر الوزارة قويًّا انطوت هذه

ص: 1

الفئة انطواء القنافذ، وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم والخبرة، فغّيروا المناهج، وقوّموا الخطط، ورسموا الغاية، وبدّلوا الكتب، وبدءوا التجربة؛ وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة، ورجعيتها على تجديد، فاحتسبت الإيرادات في الرءوس، واستقرت الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء بالتأليف المريب لجواز الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة الجيل الذي يكون له مع العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. ومن أجل ذلك لا نبالغ في تقويم الفوائد المرجوة من هذه اللجان ما دام الأمر لا يخرج عن جلسات تعقد، ومقترحات تناقش، وتقريرات تقدم، وقرارات تصدر، ثم لا تبقى إلا بقاء الوزير في الوزارة

ليس من شأن المدرسة ولا في مقدورها أن تخرج الطالب عالماً يبتكر ويخلق؛ وإنما شأنها وجهدها أن تخرجه متعلماً يقرأ ويبحث؛ فإذا لم تصنع القارئ فأنها لم تصنع شيئاً. والقارئ الطُّلعَة من صنع معلم اللغة، لأن القراءة أداة اكتساب البلاغة، واللغة والأدب قبل كل شيء تقليد ومحاكاة؛ فواجبه أن يشوق الطالب بروائع الفن، ويغريه ببراعة الذهن، ويأخذه بدوافع التكليف حتى ينطبع على القراءة بالمران والعادة. ومتى أخذ الرجل يقرأ فقل إنه أخذ يَعلم. فهل استطاع تدريس اللغة العربية في مدى مائة عام خلت أن يجعل مصر أمة قارئة؟ قد تجيب مصلحة الإحصاء بأنه علم الخط كذا رجلاً في المائة؛ ولكنها لا تحير جواباً إذا أردنا من القراءة التتبع والفهم والتحصيل. والقراءة بهذا المعنى هي الفارق بين شاب تعلم في المدارس في المصرية، وبين آخر درس في المعاهد الأجنبية

قضيت في تعليم العربية وآدابها خمساً وعشرين سنة لا أفتري على الحق إذا قلت إنها كانت مثمرة. ولعلها آتت هذه الثمار لأني على ما كان في نفسي من حب الأدب لم أتقيد بطريقة كتاب ولا نصيحة مفتش ولا نص منهاج. وقد لخصت تجارب هذه الحقبة في مقال نشرته بكتابي (في أصول الأدب) أستطيع أن أجمله في كلمتين: أن تكون طريقة المعلم استنتاج القواعد من الأدب ودرس الأدب في المطالعة، وأن تكون غاية المتعلم قراءة ما يُكتب وكتابة ما يُقرأ. وسبيل ذلك كتاب ومعلم ورابطة. فالكتاب شرطه أن يكون أدباً ليصقل الذوق ويربي الملكة؛ والمعلم شرطه أن يكون أديباً ليملك ما يعطى ويحسن ما

ص: 2

يختار؛ والرابطة بينهما هي الضمير الفني الذي يهدي إلى الحق ويغني عن المفتش. فإذا كان أمل الأستاذ الوزير قد تعلق بإحياء اللغة العربية وإذكاء النهضة الأدبية، فليسئ الظن بالسياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس؛ وليبحث في الديوان وفي خارج الديوان عن الخبير الذي ينهج، والكتاب الذي يشوق، والمفتش الذي يوجه، والمعلم الذي يسلك؛ وليطهر التعليم من المدرس الذي يضع القواعد في أشجار وجداول، والمفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهه الاسم؛ فإنه إن فعل ذلك جاز لنا أن نعتقد أن هذه اللجان هي غير تلك اللجان، وأن حدثاً جديداً يوشك أن يقع في الديوان.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌رسالة الأديب

للأستاذ عباس محمود العقاد

في الرسالة التي صدرت (يوم 17 أبريل) كتب الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي يقول: (إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب)

ثم يقول: (إن انعدام روح النظام بين الأدباء وتفرق شملهم وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعهم من مصالح وما يعنيهم جميعاً من مسائل قد قوّت عليهم النفع المادي والأدبي وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة)

وفي الثقافة التي صدرت (يوم 25 أبريل) كتب الأستاذ توفيق في هذا المعنى يسأل عن أدبائنا المعاصرين هل فهموا حقيقة رسالتهم؟ ويذكر ما يصنعه أدباء أوربا (كلما هبت ريح الخطر على إحدى هذه القيم - وهي الحرية والفكر والعدالة والحق والجمال - وكيف يتجرد كل أديب من رداء جنسيته الزائل ليدخل معبد الفكر الخالد ويتكلم باسم تلك الهيئة الواحدة المتحدة التي تعيش للدفاع عن قيم البشرية العليا)

ثم يقول بعد أن وصف سوء حال الأدب في مصر:

(أمام كل هذا وقف الأدب ذليلاً لا حول له ولا طول، وضاعت هيبة الأدباء في الدولة والمجتمع، وأنكر الناس ورجال الحكم على الأديب استحقاقه للتقدير الرسمي والاحترام العام. فالعمدة البسيط تعترف به الدولة وتدعوه رسمياً إلى الحفلات باعتباره عمدة. أما الأديب فمهما شهره أدبه فهو مجهول في نظر الرجال الرسميين ولن يخاطبوه (قط). . . على أنه أديب)

كلام الأستاذ الحكيم في هذين المقالين هو الذي ابتعثني إلى التعقيب عليه فيما يلي من خواطر شتى عن رسالة الأديب، وشأن الأديب والدولة، ومستقبل الأدب في الديار المصرية أو في الديار الشرقية على الإجمال

فهل من الحق أن الأدب محتاج إلى اعتراف من الدولة بحقوقه؟

أما أنا فإنني لأستعيذ بالله من اليوم الذي يتوقف فيه شأن الأدب على اعتراف الدولة ومقاييس الدولة ورجال الدولة

ص: 4

لأن مقاييس هؤلاء الرجال ومقاييس الأدب نقيضان أو مفترقان لا يلتقيان على قياس واحد

فمقاييس الدولة هي مقاييس القيم الشائعة التي تتكرر وتطرد وتجري على وتيرة واحدة

ومقاييس الأدب هي مقاييس القيم الخاصة التي تختلف وتتحدد وتسبق الأيام

مقاييس الدولة هي عنوان الحاضر المصطلح عليه

ومقاييس الأدب هي عنوان الحرية التي لا تتقيد باصطلاح مرسوم، وقد تنزع إلى اصطلاح جديد ينزل مع الزمن في منزله الاصطلاح القديم

مقاييس الدولة هي مقاييس العرف المطروق، ومقاييس الأدب هي مقاييس الابتكار المخلوق

مقاييس الدولة هي مقاييس الأشياء التي تنشئها الدولة أو تدبرها الدولة أو ترفعها الدولة تارة وتنزل بها تارة أخرى

ومقاييس الأدب هي مقاييس الأشياء التي لا سلطان عليها للدول مجتمعات ولا متفرقات. فلو اتفقت دول الأرض جميعاً لما استطاعت أن ترتفع بالأديب فوق مقامه أو تهبط به دون مقامه، ولا استطاعت أن تغير القيمة في سطر واحد مما يكتب، ولا في خاطرة واحدة من الخواطر التي توحي إليه تلك الكتابة

ومن هنا كان ذلك العداء الخفي بين معظم رجال الدولة ومعظم رجال الأدب في الزمن الحديث على التخصيص

لأن رجال الدول يحبون أن يشعروا بسلطانهم على الناس ويريدون أن يقبضوا بأيديهم على كل زمان، فإذا بالأدب وله حكم غير حكمهم، ومقياس غير مقياسهم، وميدان غير ميدانهم، وإذا بالعصر الحديث يفتح للأدباء باباً غير أبوابهم، وقبلة غير قبلتهم التي توجه إليها الأدباء فيما غبر من العصور

ولو بلغنا إلى اليوم الذي تعترف فيه الدولة بالأدباء لما اعترف بأفضلهم ولا بأقدرهم ولا بأصحاب المزية منهم، ولكنها تعترف بمن يخضعون لها ويرضون كبرياءها ويهبطون أو يصعدون بغضبها أو رضاها

ولسنا في مصر بدعاً بين دول المغرب والمشرق، فما من دولة في العالم تعترف بأمثال برناردشو وبرتراندرسل ورومان رولان كما تعترف بالحثالة من أواسط الكتاب

هذا عن الأديب وشأنه المعترف به بين رجال الدول، فماذا عن التفرق والتجمع، أو عن

ص: 5

أثر هذا أو ذاك في تقويم أقدار الأدباء؟

أصحيح أن الأدباء في حاجة إلى الاجتماع؟

أنفع من هذا وأقرب إلى تبيين الصواب أن تسأل: هل صحيح أن شاعرين يشتركان في نظم قصيدة واحدة؟ وهل صحيح أن مصورين يشتركان في رسم صورة واحدة؟ وهل صحيح أن الأدب في لبابه عمل من أعمال التعاون والاشتراك؟

الحقيقة أن الأدباء حين يخلقون أعمالهم فرديون منعزلون، فلا حاجة بهم إلى محفل يسهل لهم الخلق والإبداع، ولا فائدة لهم على الإطلاق من اتفاق أو اجتماع

والحقيقة أن التعاون إنما يكون في مسائل الحصص والسهوم والأجزاء، ولا يكون في مسائل الخلق والتكوين والإحياء

لأن الفكرة الفنية كائن حي ووحدة قائمة ليس يشترك فيها ذهنان، كما ليس يشترك في الولد الواحد أبوان

فإذا كان تعاون بين الأدباء، فإنما يكون على مثال التعاون بين الآباء

إنما يكون تعاوناً على رعاية أبنائهم وحماية ذرياتهم، وقلما يحتاج الآباء إلى مثل هذا التعاون إلا في نوادر الأوقات

فإذا اجتمع الأدباء فلن يرجع اجتماعهم إلا إلى حواشي الأدب أو (ظروف) الأدب كما يقولون دون الأدب في صميمه

وإذا اجتمع الأطباء فهناك طب واحد، أو اجتمع المحامون فهناك قانون واحد وقضاء واحد، أو اجتمع المهندسون فهناك هندسة واحدة وبناء واحد، فكيف يجتمع الأدباء كما يجتمع الأطباء والمحامون والمهندسون وكل أديب منهم نموذج لا يتكرر، ونمط لا يقبل المحاكاة، وأدب تقابله آداب متفرقات

وإن محامياً قديراً ليغني عن محام قدير، ولكن هل يغني أديب كبير عن أديب كبير؟ وهل ينوب خالق في الفنون عن خالق آخر في الفنون؟ كلا. . . لن ينوب هذا عن ذاك ولن يختلط هذا بذاك، كما أن الوجه الجميل لا ينوب عند عاشقه عن الوجه الجميل ولو اشتركا معاً في صفة الجمال

كل أديب نمط وحده، وكل أديب في غنى عن سائر الأدباء إلا أن يتعاونوا كما أسلفنا في

ص: 6

الحواشي والظروف دون الجوهر واللباب.

أللأديب رسالة؟

نعم، ليس بالأديب من ليست له في عالم الفكر رسالة، ومن ليس له وحي وهداية

ولكن هل للأدب كله رسالة تتفق في غايتها مع اختلاف رسائل الأدباء وتعدد القرائح والآراء؟

نعم. لهم جميعاً رسالة واحدة هي رسالة الحرية والجمال

عدو الأدب منهم من يخدم الاستبداد، ومن يقيد طلاقة الفكر، ومن يشوه محاسن الأشياء

وخائن للأمانة الأدبية من يدعو إلى عقيدة غير عقيدة الحرية أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - خطب الثقافة الإنسانية الذي يخشاه دوهامل ويشفق منه كتاب أوربا كافة على مصير الذوق والتفكير والفن والشعور المستقيم؟

أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - سر الفتنة الحسية التي غلبت على الطبائع والأذواق وتمثلت في ملاهي المجون أو ملاهي الأدب الرخيص؟

سرها الأكبر هو وباء (الدكتاتورية) الذي فشا بين كثير من الأمم في العصر الأخير

لأن الدكتاتورية كائنة ما كانت ترجع إلى تغلب القوة العضلية على القوة الذهنية والقوة النفسية

ولأنها ترجع بالإنسان إلى حالة الآلة التي تطيع وتعمل بغير مشيئة وبغير تفكير

وأين تذهب المعاني والثقافات، بين القوى العضلية والآلات؟

وأين الأديب الذي يستحق أمانة الأدب وهو يبشر بدين الاستبداد؟

لهذا بقيت عقول تكتب وقرائح تبدع في الشعوب الديمقراطية، ولم يبق عقل ولا قريحة في بلاد الدكتاتورية

فإذا تعطلت الكتابة والإبداع بعض التعطيل في أمة ديمقراطية فإنما تتعطل من حالة فيها تشبه أحوال الاستبداد، وهي انتشار الكثرة العددية بين جمهرة الشعراء، والرجوع بالذوق إلى العدد الكثير دون المزية النادرة، أي الرجوع به إلى (الثورة العضلية) لا إلى الحرية أو المزية الفردية

لكل أديب رسالة

ص: 7

ورسالة الأدباء كافة هي التبشير بدين الحرية والانحناء على صولة المستبدين، فما من عداوة للأدب ولا من خيانة لأمانة الأديب أشد من عداوة (القوة العضلية) وأخون من خيانة الاستبداد

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌أعلام الأدب

نساء يوريبيدز

للأستاذ دريني خشبة

أكثر أبطال يوريبيدز وأقواهم وأزخرهم بالحياة الصاخبة والعواطف المضرمة المتضاربة هم من النساء. . . لقد كان ينظر إلى المرأة كما كان إبسن الأسكندنافي ينظر إليها. . . كان يرى أنها محور الحياة وقطب دائرتها؛ وكان يرى إلى الرجل بجانبها كأنه لعبة، فهي لا تفتأ تلهو به وتتخذ منه ميداناً لنشاطها وفريسة لأهوائها، فإذا أرضاها فهو هالك، وإذا أسخطها فهو هالك، وهو هالك إذا لم يرضها أو لم يسخطها، لأنها تقف منه دائماً موقف السبع الجائع الذي لا يعرف إلا السطو والنهش وإهراق الدماء لا حباً في هذا كله، ولكن لأن هذا كله مركب في طبيعته وجزء من جبلته ولعل السبب في هذا ما لقي يوريبيدز من التعاسة في حياته الزوجية، فلقد كان الشك يمزق قلبه من ناحية زوجته الأولى التي اتهمها التاريخ بأنها خانت زوجها، كما يتهم زوجته الثانية بأنها لم تكن أخلص له ولا أوفى من سابقتها. . . والمؤرخون المحققون على أن التهمتين باطلتان، ولو أن فيهما ظلاً من الحق لما أهمله أرستوفان عدو يوريبيدز اللدود ومعاصره ومتسقط أنبائه ومحصي عثراته. . . إلا أن قسوة يوريبيدز على المرأة ونظرته الصارمة إليها وما دأب على تحليل أخلاقها به في أكثر دراماته، كل ذلك دليل على ما كان يتردد في أعماقه من أصداء حياته الزوجية، تلك الأصداء التي كانت تتجاوب في شدة وفي صرامة وعنف في ثنايا دراماته. . . ولعل أقوى هذه الأصداء جلبة وأشدها ضوضاء ما صور به بطلته البربرية ميديا التي شغفها جاسون حبا فلم تبال أن تخون أباها وتذبح أخاها في سبيل الفرار معه؛ ثم لم تبال بعد ذلك أن تذبح ابنيها لكي تشب سعيراً من الألم في نفس حبيبها الذي هو أبوهما لأنه أبغضها لكثرة ما رأى فيها من الميل إلى الأذى والتوسل إلى مآربها بسفك الدماء خصوصاُ بعد إغرائها بنات بلياس بقتل أبيهن. . . وكان عزائها عن كل ما جنت يداها أن تقف على جاسون وهو يسفك روحه دموعاً بل دماً على ولديه فتشفي حَردَ نفسها ودَخل قلبها لأنه لن يبتسم للحياة بعد، ولن ينعم بلذائذها بعد أن تركته وحيداً فريداً لا أنيس له ولا مواسي فيواسيه

ص: 9

لقد كان يوريبيدز جباراً في ميديا سنة 431 بقدر ما كان جباراً حتى في أرق دراماته وأروع مآسيه (هيبوّليتيس) التي غزا بها ميدان الحب الباكي الحزين، والتي نال بها أولى جوائزه الرسمية سنة 428 أي بعد ميديا بثلاث سنوات. ومأساة هيبوليت هذه هي تلك المأساة الغرامية الأولى التي خلصت كلها للحب بعد إذ كان المسرح اليوناني لا يعرف هذا اللون من ألوان الدرام. . . فكانت مفاجأةً مربكةً من يوريبيدز وثورة، ولكن من النوع اللذيذ المحبب، على تقاليد البيئة الجافية التي عرفت المسز جراندي قبل أن يعرفها العصر الفكتوري بثلاثة وعشرين قرناً. . . فيدرا زوجة ثيذيوس الملك، تحب ابنه هيبوليت الشاب الجميل اليافع، لأنها هي أيضاً شابة جميلة يافعة، ولأن زوجها رجل شيخ وإن كان بطل أبطال اليونان! هذه هي المأساة!! فكيف يجرؤ يوريبيدز على تناول هذا الموضوع الغرامي الشائك في درامة تعرض على الجمهور الأثيني الذي كانت تسيطر عليه المسز جراندي الرجعية المحافظة الشديدة الحفاظ على آداب السلف الصالح؟ وكيف يكون أجرأ من سقراط الذي كان لا يرى أن تشارك المرأة في الحياة العامة، بل أن تظل نسياً منسياً. بل كيف يكون مقاحماً أكثر من بركليس ممثل العصر، وصاحب نهضته الفكرية، ورمز مدينته؛ وبالرغم من هذا كان يوصي أن تظل الفتاة قابعة في عقر دارها، متجملة بسنن السلف وتقاليده. . . لكن يوريبيدز كان سوُفسطائياً قبل كل شيء، والسوفسطائيون كانوا (صناع الحكمة) كما تدل عليه كلمة التي تعني الحكمة أو أي الفضيلة، والتي اشتق منها اسمهم أي الناس الذين يتناولون البحث في الحكمة. وليس صحيحاً أنهم كانوا ثرثارين كما اتهموا بذلك ظلماً، ولكن الصحيح أنه كان منهم العظماء وغير العظماء، وكان منهم الكبار، وكان منهم الأحداث، وكان منهم الأغنياء وغير الأغنياء، وكان منهم كل صنف من صنوف الشعب؛ لكنهم كانوا جميعاً ينشدون الحق، ويهذبون الناس، وينشرون النور، ولا يبالون في سبيل ذلك مصادرة ولا نفياً ولا تقتيلاً. ويقولون إن يوريبيدز كان يتأثر بسقراط ولو لم يختلط به، وكان تأثره بالفيلسوف العظيم ينعكس في دراماته. كما قيل من أن شاكسبير كان يتأثر ببيكون، وإن يكن ما يقال عن هذين يعدو حدود التأثير إلى حدود النّحل. فالمبالغون من مؤرخي الأدب الإنجليزي يدّعون أن أكثر درامات شاكسبير هي من تأليف بيكون، وإنما نحلها شاكسبير نفسه. . . ونحن ننفي أن يكون يوريبيدز قد تأثر بسقراط في كثير أو

ص: 10

قليل من أدبه. بل نرى أن عكس ذلك هو الذي وقع. فقد ذكرنا أن سقراط كان لا يذهب إلى المسرح إلا ليشاهد درامات يوريبيدز، وأنه لم تكن تفوته إحداها قط ولو كلفه ذلك ما ليس يحتمله إلا الأشداء من جهد ومشقة. ثم أين نظرة يوريبيدز إلى المرأة وما كان يجنح إليه في تحليل أخلاقها من عنف وصرامة، من نظر سقراط إليها؟

لقد ألف يويبيدز أكثر من تسعين درامة كانت البطولة في أكثرها للمرأة. وقد ضاع من هذه الدرامات التسعين أكثرها بحيث لم يصلنا إلا تسع عشرة، ومع ذاك فللمرأة البطولة الأولى في معظم هذه الدرامات الباقية. . . ويأتي الرجل في المرتبة الثانية دائما ألاً في عدد قليل منها. . .

لقد كان يوريبيدز يقسو على المرأة في غير هوادة كما قسا عليها في ميديا وكما قسا على فيدرا كما سنرى فيما بعد، فإذا لم يقس عليها عرض لنواحي ضعفها الذي تسميه الأخلاق وفاءً أو حناناً أو حفاظاً وتسمية السيكلوجية ضعفاً أو تلبية لنداء الطبيعة إذا كان هذا الضعف زناً أو مروقاً من ربقة الزوجية.

1 -

ففي ميديا تذبح المرأة أخاها وتنثر أشلاءه من أجل لذتها، ثم تغري بنات بلياس بقتل أبيهن من أجل الملك الضائع من زوجها، ثم تذبح ابنيها اشتفاءً - أو تشفياً - من هذا الزوج بعد أن تقتل زوجته الجديدة بالسم حتى تضع حداً لسعادته بعدها.

2 -

وفي هيبوليت تعشق الزوجة ابن زوجها، فإذا أبي واستعصم ضاقت بها الأرض وذهبت لتنتحر، ولكنها تخشى أن يدافع عن نفسه عند أبيه فيفضحها فتزور خطاباً تتهم فيه هيبوليت بأنه راودها بل هم بها بالفعل، ثم تشنق نفسها بعد ذاك.

3 -

وفي ألستيس (438ق. م) يصور لنا أدميتوس الملك الأناني الذي يعشق الحياة، حتى إذا كان لابد له من الموت تقدمت زوجته لتفديه فيقبل الفداء، وبذا تموت هي عوضاً عنه ويمضي البطل هرقل بعد ذلك ليعود بالزوجة من الدار الآخرة هيدز. فليس وفاؤها هذا وفاء إنما هو ضعف سيكلوجي لأنه حصل من أجل رجل دنئ أثر أناني

4 -

وفي هكيوبا (424ق. م) يعرض لك هذه المرأة العظيمة النبيلة زوجة بريام ملك طروادة بعد إذ حل بها ما حل من هوان وأسر ثم سبي، وكيف تلقي كل ذلك بأجمل الصبر حتى إذا اشتد بها الضيق وذهبت لتعرض شكواها على أجاممنون عظيم الإغريق الذي آثر

ص: 11

نفسه بابنتها كاسندرا، تلك الفتاة النقية التقية التي احتفظت بعذريتها وتسامت بإنسانيتها حتى غدت نبية الطراوديين فيأتي الملك أجاممنون فيؤثر بها نفسه ويرغمها على أن تكون (حظيته!) إشباعاً لشهواته الوضيعة. . . ومع كل ذاك فإن الأم هكيوبا تصبر لهذه المحن، وتتذرع بكل ما في طوقها من تجلد حتى إذا فاضت الكأس وسيقت ابنتها الشجاعة الصابرة بولكسينا إلى حيث يضحي بها فوق قبر أخيل كما طلب رعاع الجيش ثار ثائر هكيوبا ومسختها الآلام فصيرتها كلبةً من وحوش جهنم الخرافية تتضور وتلهث، فهي تسمل عيني بوليسومور وتذبح ابنيه لتثأر لآلامها.

5 -

وفي يون (420ق. م) يعرض لك يوريبيدز مشكلة غرام وزنا بين كريزا بطلة الدرامة وأبوللو إله الشمس والموسيقي فقد أحبها الإله وفسق بها قبل أن تخطب على زوجها إجزوتوس فلما أجاءها المخاض خافت الفضيحة فطمأنها الإله الفاسق وأخذ طفلها يون إلى دلفي حيث خبأته وراء ستائر المذبح في سفط به. شالها وبضعة أشياء أخرى. . . وبعد سبع عشرة سنة عاشها إجزوتوس وكريزا من غير ما ولد تمنى الرجل على أبوللو - في دلفى - أن يرزقه وليا يرثه، فقال له: إن أول من تلقاه حينما تخرج من هنا هو ولدك. . . فلما لقي الرجل الشاب يون احتضنه وفرح به، وعجب الشاب لهذا الرجل الذي يناديه كأنه ابنه؛ ثم تلقاه أمه كريزا فيكون بينهما من التشابه والحنان ما يحير الفتى؛ ثم ترى كريزا السفط فتعرفه وتذكر للفتى أنه سفطها وأنها هي التي أحضرته فيه إلى المعبد فيمتحنها الفتى بسؤالها عن محتويات السفط فتذكرها له جميعاً فيعانقها على أنها أمه، فإذا سألها عن أبيه ألهمها أبوللو الجواب الكاذب فتقول إنها كانت قد اتصلت بأجزوتوس في أحد أعياد دلفي فحملت به. . . وإذ هي تقول ذلك إذا بكاهنة المعبد تبرز فجأة وتقول الحق الصراح عن نشأة الغلام وأنه ابن زنا من أبوللو. . . فتضيق الدنيا بالزوجة وتذهب لتنتحر لولا أن يلقاها أحد العبيد فيشير عليها بأن تقتل الغلام فترضى. . . أما يون فإنه يثور ويجدف تجديفاً مضحكاً ضد أبوللو. . وتنتهي الدرامة بأن تتدخل مينرفا في الأمر فتصلح بين الجميع وتهدأ العاصفة ويرضي الكل بالأمر الواقع!

فانظر كيف سخر يوريبيدز من المرأة وكيف استهزأ بالآلهة وفضح أبوللو ومعشوقته ثم أركس مينرفا رمز الحكمة في بؤرة ذاك الضلال!

ص: 12

6 -

وفي النساء الطرواديات (415ق. م) لم ينشئ مؤامرة ما ولم يحبك عقدة درامية ولكنه صور ضعف الأمهات الطرواديات إذ يذهبن إلى المعسكر الإغريقي يسألن القادة الظافرين أن يأمروا لهن بجثث أبنائهن ليدفنها بدل أن تترك بالعراء تنوشها الذئاب وجوارح الطير ومن غير أن تؤدي لها الفرائض الجنازية. وتنتهي الدرامة بأن يتدخل بعض القادة ممن تأثر بدموع الأمهات فيأمر بالأجساد فتحرق ويعطي التراب المتخلف عنها للأمهات. . . درامة ضعيفة إلا أن يوريبيدز قصد فيها إلى شيئين. . . تصوير ضعف أولئك الأمهات وجبروت الظافرين من جهة، ثم ذم الحرب والدعوة إلى السلام من جهة أخرى، لأنه كان أول مبشر بالسلام عرفه التاريخ إذا استثنينا إخناتون المصري وسنعرض لذلك في الفصول التالية إن شاء الله

7 -

أما في إلكترا (413ق. م) فيتناول يوريبيدز المأساة المشهورة التي رأينا إسخيلوس يتناولها فيفسر الحوادث، ورأينا سوفوكليس يتناولها فيصور كيف كان ينبغي أن تكون الخاتمة لا كما تم من أمرها. . . لكن يوريبيدز يتناولها على طريقته الخاصة. . . إنه يقصد الناحية السيكلوجية، ولذا فهو لا يبالغ فيصيب أورست بالجنون بعد قتل أمه كما فعل إسخيلوس ولا يبالغ في تحميل العاطفة الإنسانية وإرهاقها بما لا تستطيع من ابتهاج بالقتل وفرح به وحض عليه كما فعل سوفوكليس. . . لا. . . إن يوريبيدز صنع ما صنعه بعده دستوئفسكي الروسي في قصته الجريمة والعقاب باثنين وعشرين قرناً من الزمان. . . إنه جعل أورست يقتل أمه ويده ترتجف بحركة آليه لا إرادة فيها كما قتل روسكلنيكوف اليهودية المرابية العجوز. . . حتى إذا تمت الجريمة عادت إلى نفس الفتى والفتاة مرارة عميقة لا هي من الندم ولا هي مما يشبهه، لكنها مرارة التحسر لكل ما حدث. . . ومرارة التحسر مما اضطرهما إليه سياق الحوادث وتسلسلها

8 -

وفي هيلينا (412ق. م) يبني يوريبيدز درامته على أساس فكرة المؤرخ ستاسيخورس الذي يزعم أن هيلين التي تسببت في حرب طروادة لم تذهب قط مع باريس إلى هذه المدينة بل ظلت طوال سني الحرب في مصر تعبث بملكها وتلهو به حينما حاول أن يتزوجها رغماً عنها ويقتل جميع الإغريق الذين ينزلون في أرضه. . . وتنتهي حروب طروادة وتضل سفينة منالوس زوج هيلينا طريقها في البحر حيث ترسو على الشاطئ

ص: 13

المصري ويلتقي الزوجان فيعرف أحدهما الآخر ويفران بمساعدة أخت الملك إلى اليونان. ويعيب المؤرخون هذه الدرامة بخروجها مما عودنا يوريبيدز من أدب الواقع إلى أدب الخيال؛ بيد أن في الدرامة من تحليل أخلاق هيلينا، تلك المخلوقة الخلاسية (لأنها ابنة إله وامرأة) اللعوب التي لا تعرف من مبادئ الأخلاق أو الفضيلة عشر معشار ما تؤثر من الحب ومغامرات الهوى؛ في الدرامة من هذا ومن تحليل أخلاق ألكتر ما يغطي ذلك النقص الذي عابه المؤرخون وكم كان ظريفاً من هيلينا أن تعير ألكترا حينما عيرتها هذه بالعهر والالتواء الأخلاقي بأنها غير جميلة، ولو كانت كذلك وواتتها الفرص لما أمتنعت من إتيان أضعاف ما أتته هيلينا؟!

9 -

أما إفجينا في أوليس فهي درامة عجيبة لأنها من هذا النوع الشاكسبيري الجميل الذي تمتزج فيه المأساة بالملهاة؛ والدموع الحرار بالضحك الكثير. . ويقال إن يوريبيدز ليس مؤلفها بل تركها غير كاملة فأتمها شاعر آخر قد يكون ابنه الذي أشرنا إليه في كلمتنا الأولى. . . والحقيقة أن في هذه الدرامة من الفن الجديد ما لم يعرفه يوريبيدز وما لم يعرفه المسرح إلا في عصر شاكسبير. . . وإفجينا هي تلك الفتاة ابنة الملك أجاممنون قائد الحملة على طروادة والتي تنبأ الكاهن كالخاس بضرورة ذبحها قرباناً لآلهة الريح ليتحرك الأسطول. . . يزوّر أجاممنون رسالة إلى زوجته كليتمنسترا كي ترسل ابنتها للاحتفال بعقد قرانها على البطل أخيل فتذهب الأم مع ابنتها وتلقي أخيلاً بما يليق في مثل هذه الحال من الترحيب وتناديه بخطيب ابنتها فيدهش أخيل لأنه خالي الذهن من كل ما دبر، وينقلب الموقف إلى التضحيك على أخيل فيثور، ثم يعرف الحقيقة ويأتي عبد فيخبر الملكة أن ابنتها ستذبح قرباناً لآلهة الريح فتحزن الأم وتبكي الفتاة ويقسم أخيل أن يحميها من هذه الفعلة. . . ثم يعلم الجنود أن أخيلاً هو الذي يحول بين سفرهم وبين ذبح القربان فيثورون ويهجم رجال (الميرميدون) عليه يحصبونه حتى ليوشكوا أن يقتلوه. . . وهنا تتقدم الفتاة فتحميه وتهب نفسها ضحية كريمة من أجل أخيل الذي تفضل روحه أرواح عشرة آلاف فتاة مثل إفجنيا ولأنه خرج مغازياً في سبيل هيلاس. . . وتودع الفتاة أمها ثم تخرج بسامة راضية. . . وهنا يدخل رسول فجأة حاملاً بشرى طيبة. . . لقد أنقذت ديانا الفتاة إفجنيا وطارت بها إلى بلاد البربر. . .

ص: 14

10 -

أما إفجنيا في توريس (413ق. م) فهي بقية قصة إفجينا؛ وفيها يعرض يوريبيدز لوناً صارماً من ألوان العراك الداخلي الذي يشب في نفس الفتاة بين السخط على قومها الذين أوشكوا يقتلونها لغير ذنب وبغير جريرة، وبين محبتها الطبيعية لوطنها هيلاس فخر الأوطان. لقد ذهبت بها ديانا (أرتميس) إلى ملك التوريين (غير الطورانيين) لتكون كاهنة لمعبدها هناك، وقد أكرم الملك مثواها، وعهد إليها بإعداد الغرباء لتحريقهم بالنار (لأن هذا كان دأب الملك، فكل غريب أو أجنبي يحل بأرضه وخصوصاً إذا كان إغريقياً) أحرقه بالنار. ثم يحدث أن يكون أول غريب يعهد إليها بأعداده للتحريق هو أخوها وشقيقها أورست الذي طارده قومه بعد قتله أمه. . . لقاء هائل بعد سبعة عشر عاماً. . . تتحرك العاطفة، وتترقرق الأحاسيس في الدماء. يعرف كل منهما الآخر فيبكي. . . يا للمشهد المؤثر الذي يرتفع فيه يوريبيدز إلى القمة!!

ثم تطمئن الفتاة أخاها وتدبر له طريق الهرب إلى شاطئ البحر حيث القارب المعد لفرارهما، وحيث البحارة الأمناء!

هذه طائفة من نساء يوريبيدز عرضها في دراماته عرضاً شاقاً يمتزج فيه الشعر بالأخلاق بالسيكلوجية، بطريقة أهاجت عليه البيئة الأثينية عامة، ونسائها خاصة، لأنها بيئة محافظة لم تتعود أن تُشرح أسرار نسائها على المسرح على هذا النحو الذي أنتحاه يوريبيدز فأخجلها وأغراها به.

وكم كان بودنا لو خلصنا لكل من هذه الدرامات بفصل خاص حتى نتفادى تشويهها بهذا العرض السريع لولا ما نتوخاه من عدم الإملال، وما نخشاه من فتور نشاط القراء.

دريني خشبة

ص: 15

‌التفاؤل والتشاؤم أيضاً

للأستاذ عبد الرحمن شكري

إذا كان لقائلٍ قولان: قول ينم عن تفاؤل، وآخر ينم عن تشاؤم، فليس من إخلاص الناقد للأدب أو للإنسانية أو للقائل أن يشير إلى اليأس في بعض قوله وألا يذيع الأمل في بعضه حتى ولو كان الأمل في الأقل من قوليه؛ فإذا كان الأمل في أكثر القولين أو إذا تعادلا كان إخلاص الناقد أقل. ومعاذ الله أن أقول إن الدكتور أدهم غير مخلص للأدب، وإنما يجيء البعد عن الإخلاص من الإسراع في النقد من غير تدبرٍ لهذه الحقائق أو من غير قلة التقصي والبحث التي هي صفة عامة في الناس تظهر في أحكامهم على أكثر الأمور. والناس في ذلك سواسية لا فرق بين عادل وظالم، ورفيق وغير رفيق، وعاقل وغير عاقل. وإني أحمل حكم الأديب الفاضل على هذه الصفة العامة في الإنسان وأقول إنه إذا كان لقائل قولان، وكان أحسن قوليه في التفاؤل فمن الواجب إذاعة هذا القول ولا سيما أنه ليس تفاؤله بالقليل المنزور. ولا نحسب أن منصفا يقول أن ما ذكرنا من الشواهد ليس من أحسن ما قلت؛ وسواء أكان في نفسه حسناً إذا قورن بقول غيري أم غير حسن، فهو إذا قورن بما وصفه الناقد بالتشاؤم في قولي أجود وأحسن وأليق بأن يذاع إذا كانت هناك ضرورة للإذاعة والنشر والنقد، ولم ير الناقد أن من الخير اندثاره كله بما فيه من جيد ورديء، ومن تفاؤل وتشاؤم. وفي قولي من الرديء ما أسفت لنشره.

ولم أذكر جميع الشواهد والقصائد التي تثبت ما فصلته في مقالي السابق، ففي قصيدة (مصارع النجباء) أيضاً أمل وتفاؤل وطموح ومنها:

إنّ الحياة جمالها وبهاءها

هبةٌ من النجباء والشهداء

لولا طماح الحالمين وهمهم

بقي الورى كالتربة الغبراء

الحالمون بكل مجد خالدٍ

سامي المنال كمنزل الجوزاء

الشائدون الهادمون ذوو النهي

والعقل أعظم هادم بناء

الخالقون المهلكون الشاعرو

ن المرسلون بآية غراء

فحياتهم وفعالهم ودماؤهم

مثل الهدى وكواكب الإسراء وأرجوزة (قوة الفكر) وقد نشرت

في المقطع وفي الجزء الخامس تدعو إلى تقديس مظاهر الفكر في الحياة والتفاؤل حتى

ص: 16

بالخطوب التي يسببها الفكر ومنها:

إن الخطوب سنةُ التجدد

فلا ترعْ من سهمها المسدد

وأول الفكر الكبير خطبُ

ثم يظلُّ خيره يُربُّ

وقصيدة (عبث الشكوى) في عنوانها ما يدل عليها. وقصيدة (أبناء الشمال) تدعو إلى السعي والعمل والأمل ومنها:

هُم لداعي السعي والآ

مالُ عمال عجالُ

تعرف البيداء مسعا

هم وتنبيك الجبال

وقصيدة (صوت الله) تدعو إلى الاطمئنان إلى إرادة الله في الحياة وإلى الالتجاء إليه ومنها:

وإنما نفس الفتى معبد

يضيئها الله بنور عميم

وقصيدة (جهاد المصلحين) تصف ما يعترض الناس عامة من ترك آمال الإصلاح ومساعيه وتدعو إلى التشبث بها ومنها:

ترى دنس الأشياء رؤية آلفٍ

يرى أن أحلام النفوس لغوب

يظن جهاد المرء في العيش ضلة

وأن مساعي المصلحين تخيب

يرى أن خير الكون ما هو كائنٌ

ووحي النفوس السامياتُ مريب

ويحسب أن الشر ضربة لا زبٍ

وأن أساليب الحياة ضروب

ويصبح في مجرى الحوادث ريشةً

تجوب به الأيام حيث تجوب

ويطفئ نور النفس حتى كأنما

دواعي النفوس الساميات عيوب

فلا تعجبنْ إن الشرور كثيرةٌ

ولكن يأس العاملين عجيب

وقصيدة (سنة العيش) تصف أمل المصلحين في أن تلطف طباع الحرص والشر في النفس وتصف كيف أن فشل المصلحين ينبغي ألا يعوق عن الأمل ومنها:

طبعٌ قديمٌ سينضو المرء خلعته

مثل الأديم نضته صمه الصممِ

لا بد من فشلٍ من بعده فشلٌ

حتى يفيق سواد الناس من صممِ

لا يسعد الناس سن الحرص سنتهم

حتى يُطهرَ داءُ الحرص بالندمِ

وقصيدة (البطل المنتظر) تصف صلاح أمور الناس وتصف تفاؤلهم وأملهم وعملهم بعد الركود واليأس ومنها:

ص: 17

تُمردُ هورٌ والحياةُ كآجنٍ

أمر وقدما كان وهو طهورُ

إلى أن يحل الغيث حبوه مائه

فيترع منه جدول وغدير

كذلك حال الناس فالناس آجن

مرير وماء النابغين نمير

وبارقة تجلو الظلام وصاعق

يشب لهيباً والأنام قشور

فيضطرم القلب الذي كان خامداً

ويصبح روض النفس وهو نظير

وتعظم نفس المرء حتى كأنها

عوالم فيها الكائنات تدور

وقصيدة (الإيمان والقضاء) تصف أثر الإيمان في بعث القوة والأمل في النفس ومنها:

كنفٌ مانعٌ وظلٌ ظليلٌ

وشرابٌ يشفي أوام الظماء

وهناك مقطوعات كثيرة مثل:

كل ما في الوجود مما يريق ال

دمع أو يستميح شجو الرحيم

كل شرٍ مهما تعاظم لو قد

س بشأن الوجود غير عظيم

فليست للتفاؤل عقيدة أعظم مما في هذين البيتين. وقصيدة: (الحياة والفنون). كلها تفاؤل بجمال الفنون في الحياة ووصف لجمال كل فن من الفنون الجميلة والفنون النافعة وأولها:

جملكِ الله يا حياة كما

جمل وجه السماء بالشهب

والدعوة إلى بلوغ النفس غايتها بالطموح منتشرة في أكثر القصائد كما في قصيدة (غل السرائر). ومنها:

وإن رضاء النفس ما ينبغي لها

وليس رضاء النفس ما هو كائن

وفي قصيدة أخرى:

والندب يحمل بين جنبيه الدنى

روعَ الغريب وراحةَ المألوف

إن الذي درس الزمان وفعله

لأجل من حدث الزمان الموفي

ويشيم أسرار الحياة بحكمة

تُعدى على المجهول والمعروف

وفي قصيدة (العظيم) وصفٌ لاستنباط فضائل النفس من تجارب الحياة حتى تجارب الشر والشقاء. ومنها:

وفضائلٌ ليست لغير مجرب

إن التجارب حجة الرجحان

وأرجلُ خير النفس بعد بلائها

فالعيش حرب فضيلة الغفلان

ص: 18

وفي قصيدة (الشمطاء الفتية) وصف للرجاء الذي هو عبادة وللاعتقاد الذي تزيده الأرزاء:

نصبٌ خالدٌ وأعظم منه

اعتقادٌ تزيده الأرزاءُ

ورجاءٌ هو العبادة والإيم

ان درعٌ يرتد عنه الفناءُ

وقصيدة (العدل والكسب) تصف كيف أن الأمل والصبر أعظم حتى من العدل:

فطوبى لمظلوم رأي العدل معوزاً

قضي أن فوق العدل صبر المحارب

وفي (حقوق الفرائض) تقديم للفروض على الحقوق، وما تستلزمه الفروض من أمل وعمل:

لن يبلغ المرء العُلى بحقوقه

إلا إذا بلغ العلي بحقوقها

وقصيدة (البطل) تصف ما يكون من أثر الأمل والعمل في مجرى الحوادث والأقدار ومنها:

ترمي الحوادث بالظلال أمامها

فترى خُطى الأمر الذي هو آتي

يا راكب الأيام تجري تحته

مأموقة الخطوات والعداوات

إن المقادر تنتحيك لأنها

ريضت لديك بحكمة وحصاة

كالخيل تعرف رائضاً ومذللاً

عند اعتقاد السرج والصهوات

وهذه الشواهد كلها شواهد جديدة لم نشر إليها في المقال السابق. ولو شاء الناقد الفاضل الزيادة زدناه ولكنا نختم هذا المقال بالأبيات الآتية أولاً في وصف أمل النفس في أن تتغلب جهود الشباب على طاغوت الحياة وهذا غاية التفاؤل:

ويُذلُ طاغوت الأمور فتغذي

شرع الحياة شريعةُ الرحمن

وثانياً في وصف تفاؤل النفس واعتقادها فجراً للإنسانية مستقبلاً:

وأملتُ للدنيا صباحاً مؤجلاً

سيكشف عنها ظلمة الضيم والشر

فكل صباح رمزه ومثاله

ووعد به يحدو إلى الزمن النضر

نُسرُ بنعماه وإن لم تكن لنا

وننشده فيما يكون من الدهر

وثالثاً في وصف الاستبشار بقبول الشقاء لتحقيق سعادة الإنسانية المقبلة:

أيفدح أن تقاسوا العيش نحساً

ليسعدً بعدكم صحباً وآلا

وكم من نعمة لولا شقاءٌ

قديماً لم تكنْ إلا وبالا

فكم خبرَ الأوائل من شقاء

فنلنا من شقائهمُ نوالا

ص: 19

ورابعاً في أن السعادة واللذة شعور لا يستقيم إلا إذا شعر المرء بالألم:

لا يطعم السعد الشهي وشهده

من لا تورد فؤاده الآلام

وإذا أراد الأستاذ الفاضل زيادة من شعر التفاؤل فإنه يجده كما في قصيدة (حياة جديدة) ومنها:

تلك قلوبٌ كأنها قبسٌ=يضئ دجنً القضاء والغيب

قد آمنت بالعلاء واعتقدت

كما يقنا الإله في الحجب

وكما في قصيدة الباحث:

عشت دهري بالبحث والأمل الحل

وولولاه لم أرحْ بالنجاء

من سهام المنون إن صروف ال

دهر فينا كثيرة الإصماء

أنشد الحق بالتقلبِ في العي

ش وأبغي سريرة الأشياء

وقد قلنا قديماً إن في النفس البشرية قوة تستطيع أن تحول التشاؤم إلى غرض من أغراض التفاؤل، وإلى قوة من قوى الاستبسال في طلب الأمل (إنما اليأس سبيل للمنى). ونعود فنقول إنه من الإخلاص للأدب أو الأديب أو الإنسانية ترك أحسن ما في قول القائل. وهذا قول لا ننعت به الناقد الفاضل

عبد الرحمن شكري

ص: 20

‌من برجنا العاجي

كلما ارتقى فكر أمة انصرفت إلى إتقان الصناعة وحذق الوسائل الفنية، وشعرت في الحال بافتقارها إلى المواد الأولية. فالصناعة غول فاغر فاه يريد أن يلقف أكبر مقدار من المادة ليحيلها إلى خلق جديد له وزن وثمن. أما الأمم العادية فهي مشغولة في أغلب الأحيان بإنتاج المادة الخام

كذلك الحال في دولة الأدب والفن. فإن الأديب أو الفنان قبل أن يصل إلى مرحلة الانقطاع للفن والصناعة يكون شأن عامة الأفراد يعيش الحياة المفعم بشتى الحوادث الزاخرة بألوان المادة الصالحة، حتى يدعوه الفن إلى سمائه، فإذا هو يرى أن حذق أساليب الفن وإتقان أسباب الصناعة أمر لابد له من تكريس حياة بأكملها. فإذا هو قد أنصرف عن حياة الناس العادية بما فيها من وقائع هامة وتافهة وأحداث هائلة أو حقيرة، وانزل في شبه (معمل) فني أو مصنع فكري يجود فيه وسائله ليملك ناصية ملكاته، إلى أن يحس من نفسه أنه قد قطع في هذا السبيل شوطاً كبيراً وأنه قد غدا صاحب صناعة. فيلتفت فإذا أيامه التي قضاها في مصنع الفن قد فصلته عن مصنع الحياة الرحبة الصاخبة الزاخرة، وإذا حياته الآن فارغة إلا من جواهر الفكر ولباب التأمل وتجاريب الصناعة القلمية أو الفنية. وإذا هو محتاج لاستعمال فنه وصناعته إلى مواد أولية لا يدري من أين يأتي بها. فهو تارة يرجع إلى حوادث الماضي فينسج من ذكرياتها تلك الأثواب الجميلة التي تخرج عن مصنع فكره وفنه. لقد لحظ ذلك مرة شارلز ديكنز فقال وهو في سن الستين:

(إني دائماً أتغذى وأغذي قصصي ومؤلفاتي بذكريات الطفولة والصبا)

ما الأديب ذو الصناعة إذن إلا دولة صناعية في حاجة إلى المواد الأولية.

توفيق الحكيم

ص: 21

‌هتلر

لأستاذ جليل

لو رام اليوم جرماني مشغوف بهتلر أن ينشئ كتاباً كبيراً في تقريظ إمامه وزعيمه جاهداً نفسه متنوقاً محتفلاً في كلامه مستنجداً ببلاغة غوته - ما استطاعَ عندي أن يأتي في كتاب بمثل الذي قاله أبو تمام في بيت. وسأروي بيت حبيب وأبياتاً ثلاثة قبله، والشاهد هو، وتلكم مقدمات نفيسات. قال ابن أوس الغواصي على المعاني:

قد علمنا أن ليس إلا بشق النفس

صار (العظيم) يدعى (عظيما)

طلب المجد يورث المرء خبلا

وهموماً تقضقض الحيزوما

فتراه وهو الخليّ شجيّا

وتراه وهو الصحيح سقيما

تميته العلا فليس يَعُد البؤس

بؤساً ولا النعيم نعيما

وإن امرؤاً ترك في الدنيا هذا الدويّ وبلغ بنفسه الكبيرة ما بلغ (من الرفش إلى العرش) لعظيم حق عظيم، كل العظيم

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثريا قاعداً غير قائم

وإذا تذكر الهر الفوهرر صيور غشمشمين مخاطرين مثل نونابرته - كما يسميه الجبرتي - وغليوم نزيل هولاندة، وتدبر قول المهلب بن أبي صفرة، الجملة الأولى منه:(الإقدام على الهلكة تغرير، والإحجام عن الفرصة جبن شديد) ونال بالتهويل وبالوعيد، بالكلام لا بالمدفع والحسام أمانيه، وفارق الدنيا دون أن يحرقها ويحرق الإنكليز والفرنسيين وصحبه الطليان ويحترق - فإذا تذكر وتدبر وقام اللسان مقام السنان كان فوق الرجل العظيم، كان (والله) عجيبة، كان نبي الجرمان، على أنه اليوم نبي القوم

وإني لأنوه به تنويهاً لبطولته وعظمته وإن شتم الشتامة وقال في أجناس الناس غير الحق. إنه من قادة الأمم العظماء، لا من الباحثين الفاحصين العلماء، وإن جهل ألماني أو غير ألماني أصوله الكريمة وأعراقه الدساسة. . . فليرجع إلى كتاب الأنساب لغير السمعاني، وليقرأ مؤلفات الأستاذ أرنست هيكل العالم الجريء الجرماني، حتى يعرف متغطرس منتفخ من هو، ومن جده وأبوه

إن هتلر من الزعماء لا من العلماء، فقوله في الأصل والفصل والجنس والنوع هراء

ص: 22

بهرج، المحقق لا يقوله

وإنه والله يا أخا العرب، على العلات لعظيم أي عظيم

ولقد ذكرتني خلائق في ابن هتلر: إخلاصهُ وزهده وبطولته، بأبطال كرام عظيمين من العربيين والمسلمين السابقين سادة الدنيا وهداة العالمين

محمد! أبعث لنا واحداً من مثلهم، واحداً من مثلهم!

(الإسكندرية)

(* * *)

ص: 23

‌صلوات فكر

في محاريب الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

3 -

الاستيعاب

أيدري ناظر في الطبيعة ماذا يحدث أمامه كل لحظة؟

الطبيعة تعمل أعمالها العظيمة المتعددة في كل لحظة. . تدير الأجرام، وتبني الأجسام وتسكب الشعاع، وتسوق الريح، وتوزع الدورات، وتملأ جميع القوالب، وتعطي الإذن والمشورة والرأي لكل شيء. . .

لا اصطدام ولا تناقض ولا فطور ولا صدوع. تجيب كل حي بلسانه وتكلمه وتوصيه وتوجهه وتلد وتدفن وتضحك وتعول. لا تنام، ولا تستريح. قلبها لا يقف عن الدوران والنبض. كل بذرة، كل بويضة، كل ورقة، كل حشرة، كل ذرة تحتاج إلى عنايتها وإرشادها، وهي تعطي العناية والمشورة ولا تخطئ!

من يكذبني فليذهب إلى حديقة الحيوان بالقاهرة أو إلى أي حديقة مثلها، حيث تجتمع فيها نماذج حياة الأرض، ليرى ويسمع (الجوق) ويهو يعزف (أوبرا) الحياة جميعها. . .

إن حديقة الحيوان موضع عناية الله البارئ! إنها عندي معبد أذهب إليه كثيراً بالجسم حين أكون في القاهرة، وأذهب إليه الآن وأنا في العراق بالروح والفكر لأقف مع الأحياء جميعها أمام الله!

إنها معرض دائم للمنتوجات الحية المجموعة من كل مكان في الأرض. إنها حسنة من حسنات الإنسان لولا أنه فعلها غير مقصودة، بل للهو والمتاع بدون فكر وروح. . .

إن الملائكة يتفرجون بها أكثر مما يتفرج الناس. . . ليروا فعل ربهم في غير عالمهم. . . في عالم الطين. . . إنهم يعجبون من تصنيف القلوب والشكول والعقول فيها. . . وإن القلوب والطباع هناك أمرها عجيب. الأضداد والأعداء ينظر بعضها إلى بعض من خلال الأقفاص ويتعجب كل منها من هذا الوضع الشاذ في حياته. وترى تناقصاً بين ما في قلوبها وبين حياتها وهي مجموعة ينظر بعضها إلى بعض نظرات متدافعة من خلال القضبان. .

ص: 24

قف هناك طويلاً وانظر هيآت الأجسام والنفوس المتعددة. . . أنظر نظرات العيون المختلفة وفكر: كم للدنيا من أشكال متعددة عند كل نوع من أنواع ساكنيها. . . أنظر نظرات العيون المختلفة واسمع أصوات الحناجر المختلفة واستحضر روح سليمان بن داود مفهم الطير والبهائم والمردة. . .

أمسح على الجلود والريش والشعر والقشر وشق البطون والجلود وانظر الآلات التي تدور بها هذه الأجسام. . .

افقه شجاعة الأسد وجبن الفأر وحقد الثعبان ووداعة الحمل وشراهة الذئب ومكر الثعلب و. . . قد خلق ربك كل هذا من طين يا أخي! كل قلب من قلوبها يختص بصفة واحدة من الصفات التي جمعها في قلب الإنسان: خلاصة الحياة والأحياء والابن البكر للطبيعة. . .

(حديقة الحيوان) تسمية أولى منها أن يقال (حديقة الحياة)

4 -

لمن هذا كله؟

كل يوم تفرش الدنيا بالضياء أمام الإنسان ليسير، وتسدل عليها أستار الظلام لينام. . . وسواء أكان على الأرض قدم تسير أم لم تكن. . . وسواء أكان على المهاد جسم ينام أم لم يكن. . . فإن الآلات الإلهية تدور في دءوب عجيب وعدم اكتراث بالإنسان

فالصباح يشرق على العاهل والباهل والنابه والخامل، والمساء يستر السهران والنائم المكدود، والربيع والخريف والصيف والشتاء تتداوله وجه الأرض؛ يحيا الإنسان ويموت وهي عاملة ناصبة لا تبالي. . .

فالدنيا تدور باطراد ويدور معها كل شيء لا فكر فيه، ولا يتخلف إلا الإنسان فإنه قد يقف في مكانه حقباً تطول، أو قد يدور دورة عكسية إلى الخلف! لأن فيه قوة الاختيار. . .

ويخيل للمتأمل أن الدنيا قد دارت (على الفاضي) كثيراً عندما لم يعمل الإنسان عملاً يقدمه إلى الأمام، وقد ضاعت قوى كثيرة من عمر الزمان سدى. . . ضيعها جهل الإنسان وبطؤه في إدراك وجهة الحياة

فمن المنتفع بالحياة؟ من الذي خلقت له الحياة؟

هو الذي لا يضيع شعاع ضوء من أضواء النهار سدى، ولا قطرة من ماء السماء سدى، ولا بذرة من بذور الأرض سدى، ويحتفل احتفالاً ليرى صنعة الله!

ص: 25

هذا الذي يلقي أمامه الإله العطايا فيلقطها في يقظة لينتفع وينفع. . .

هذا الذي عرف قيمة الحياة هبة الله العظمى! وأحسها إحساساً عميقاً وفكر فيها فكراً، وأقبل عليها في شغف إقبال الأطفال على (السينما). . . فرأى كل شيء، وقرأ كل شيء، ووضع قلبه وفكره على كل شيء. . .

هذا الذي يستعمل مواهبه من الله ليريه أثر صنعته العجيبة في الإنسان. . . وليؤدي دوره كاملاً بين الكائنات كما تؤدي أدوارها بقية جنود الله. . .

هذا الذي يفكر ويأكل ويغني ويندب ويضحك ملء رئتيه ويبكي ملء عينيه، ويلد ويدفن ويعمل بيده ويمشي برجله: أعني لا يعطل شيئاً ولا يتمرد. . . هذا الذي لا يغلق حواسه عن جمال دنياه. . . ولا يترك باباً من أبواب المعرفة إلا قرعه ودخل منه إلى سر من أسرار الله. . .

هذا الذي تتمثل فيه مجموعات الأحياء وينطوي فيه العالم الأكبر. . .

كل شيء يؤدي خواصه خلقته وتكوينه إلا الإنسان. فقد شغل عن خاصته التي له وحده وذهل عنها دهراً طويلاً إلا أفراداً قلائل. . .

فتشوا كم من الناس عاشوا كما يريد رب الحياة في النوع؟

مليون؟ ثلاثة؟ ألف مليون؟

يا ضيعة الإنسان إن كانت نسبة (العارفين) منه في جميع الأزمان كنسبة الذين نراهم الآن في زماننا!

كلمة! سوف لا يدخل إلى الله إلا الذين عرفوه وعرفوا سر صنعته هنا. . . أما غيرهم فيذهبون إلى جحيم الحرمان والنسيان. (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون. . .)

5 -

صور من الأوهام في الغمام

أمامي الآن في السماء دنيا كاملة من الصور والأشكال. . . نسقتها الصدفة وحبكتها الأوهام. . . كلها من وهمي وليس فيها من الحقيقة شيء. . . لو أرادت عبقرية أي مصور أن تخرج مثلها لعجزت. . . إنها دنيا من همسات الظنون وخافيات الأحلام في نفسي. . .

ص: 26

أنظر إليها ولا أمل كما ينظر الطفل إلى فقاقيع الصابون التي تكون وتنفجر في لحظة، وأجد راحة في نفسي لا تنتهي، ولا عمق لها

إني أجد في الأرض آثار النظام والإحكام والتحديات والقوالب القاسية التي لا تسمح للخيال بالانطلاق وتكوين ما يريد. ولكني أجد في فوضى الغمام ومزج الصور فيه انطلاقاً وحرية في تركيب الصور، وفي ذلك ما يرضي ويشبع حاستي باللانهائية ويجعلني غير خاضع لمنطق الصور الأرضية وأصول التجسيم

فعالم الأجسام والأحجام والصور الحقيقية في الأرض هو عندي روايات تمثيلية يمثلها أناس وحيوانات حقيقية، وعالم أشباح الغمام كعالم الصور المتحركة التي يمثلها (ميكي ماوس) وأضرابه، مما يعطي كل جماد وكل حيوان ونبات روح فكر ورمزية وحركة وحياة

ولو كنت مصوراً لأخذت من تهاويل الغمام في ساعة واحدة آلافاً من (رءوس الأفكار) في أوضاع الأجسام وإخراج البدائع. ولا شك أن هذا هو أصل التماثيل الخرافية الأسطورية التي لم يتقيد صانعوها بما هو كائن حقيقي ولا بالقوالب المعروفة للأجسام. بل ركبوا متناقضات وجمعوا مفارقات وأخرجوها ليرضوا بها نزعات الانطلاق في النفس الإنسانية زمان طفولتها

فيا عالم الانطلاق! أنا أنظر إليك سجيناً بأغلالي وأصفادي مربوطاً بالعقل الأرضي والمنطق الإنساني. . . لم يشبع خيالي تنوع الصور الأرضية ولم أقف عند حد. وإنما في نفسي إدراك عميق تام أن الصور التي عند ربي لا تنتهي

فأطلق اللهم خيالي من العالم (المتبلور) إلى العالم المائع الذي لا أجسام فيه ولا أحجام. . . أطلق خيالي ولا تضيعه! أسعدني به على القيود ما دمت قد حبوتني هذا النزوع الحاد الدائم إلى الرحلة في عجائب ما تصنع وما تستطيع أن تصنع؛ ولا حد لاستطاعتك!

أن عالم الجمال الأرضي لم يملأ عيني ونفسي، ولم يزدني إلا تطلعاً إلى ما عندك مما خفي على قدرتي المحدودة. ولست طماعاً. ولكني أدركت السر الذي خلقت من أجله، فلن أنام عنه بعدُ، ولن أصبر، ولن أميت أشواقي وإطرابي إليه. وأقسم لك بجلال وجهك! إني ما قصرت في السعي لإدراك أمرك ولن أقصر. . . وكيف أخلق هكذا بصيراً ثم لا أسعى لأرى؟ كيف أبصر النجم العالي، والقرار الداني، والعقل الإنساني، ثم أقف عند حد وأتقيد

ص: 27

بقيد؟ إن سر أمرك دائماً في أفكاري وفي أحلامي، ولا أملك غيرهما من معنى الحياة. أما نومي العميق الخالي من الأحلام فذلك ما لا أملك من أمري. . .

(بغداد - الرستمية)

عبد المنعم خلاف

ص: 28

‌المدرسة الابتدائية

وتعليم اللغة الأجنبية

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

لاشك عندي في أن كل من تناول بالتفكير بعض المشاكل الاجتماعية، لا بد يعلم أن أساس التفاهم الحق بين أبناء الأمة الواحدة هو التعليم الموحد. فلقد شهدنا ظروفاً لم يفرق فيها اختلاف التعليم، واختلاف طرائقه وأساليبه بين لهجة ابن مصر العليا، وابن مصر السفلى فحسب، بل فرق فيها ذلك بين أبناء القرية الواحدة إن لم يكن بين أبناء الأسرة الواحدة الذين وقعت بهم الظروف في أحضان معاهد مختلفة بين: مصرية أو أجنبية مدنية أو دينية. وما نشأت تلك الفرقة التي كثيراً ما تؤدي إلى الجفاء إلا من اختلاف نوع الثقافة، ذلك الاختلاف الذي يخلق عقلية خاصة يصحبها تفكير خاص ومزاج خاص. ثم إننا نجد على العكس من ذلك أن التعليم في المدرسة الواحدة يؤلف بين المتباغضين، ويقرب بين المتباعدين، ويوحد بين المتنافرين، لأنه يجمع بينهما في أهم وسائل التفاهم: اللغة واللهجة وطرق التفكير ووحدة طرق التنشئة. فترى الآن الصعيدي والبحراوي متجاورين في دواوين الحكومة متفقين متفاهمين كاتبين كانا أو قاضيين، مهندسين أو معلمين، مديرين أو وزيرين؛ حتى لا تكاد تعرف أيهما الصعيدي، وأيهما البحراوي، لأن المدرسة التي نشآ فيها كان لها الأثر الفعال في تنشئتهما تنشئة واحدة مهما كان نوعها. فهل هناك إذن من سبيل إلى التوحيد والتفاهم غير المدرسة الموحدة التي سبق أن أثبتنا أنها السبيل الوحيد أيضاً إلى المساواة في الحقوق بين الجميع أو إلى الديمقراطية الصحيحة؟ إنك لا تجد مطلقاً أن من السهل خلق جو من التفاهم الأكيد بين الأزهري والأفندي كما لا تجد من السهل إيجاد تفاهم تام بين: المعلم الإلزامي وخريج دار العلوم، أو بين هذا وخريج معهد التربية. ولذلك تجد مشاكل وزارة المعارف لا تنتهي للخلافات المستمرة بين تشكيلة رجال التعليم الذين نشأوا في معاهد متعددة مختلفة الثقافة. ثم هل استطاعت وزارة العدل بما يملأ أرجائها من العدل وبما تنشره من المساواة بين الناس جميعاً في الحقوق يحكم القانون أن تنشر جواً من التفاهم الصحيح بين القاضي الأهلي والقاضي الشرعي اللذين نشآ في مدرستين متباعدتي الثقافة! ألم تشغل طويلاً وزارة العدل ولا زالت تشغل بالخلاف القائم بين القاضيين

ص: 29

المتآخيين في الموطن المتباعدين في النشأة؟ وهل انتهى حق اليوم شيء من الخلاف القائم بين خريج الأزهر الشريف وخريج الجامعة المصرية وخريج دار العلوم! وإذا كان وزراؤنا وكبراؤنا لا تثقلهم تلك المشاكل الطائفية التي تواجههم بسبب الاختلاف في الثقافة فإنهم على الأقل يضيعون الكثير من وقتهم ومجهوداتهم التي نحس أننا أحوج ما نكون إليها الآن في أمور تافهة أو ثانوية بالنسبة لما تحتاج إليه مصر من مجهودات في شتى النواحي العمرانية والاجتماعية. وما بال هذه الصيحات المتعددة بدعوة الزعماء والأحزاب والمتحزبين إلى المهادنة وضم الصفوف في الأوقات العصيبة التي تجتازها، فهل وجدت إلا إعراضاً وإهمالاً وإمعاناً في الخصومة؟ وإذا كان بعض المفكرين ينسبون ذلك إلى أخلاقنا فهلا يرى القارئ معي أن بعضه يرجع إلى الاختلاف الواقع في صفوفنا منذ نشأنا النشأة الأولى في معاهد مختلفة الثقافة بعضها فرنسي وبعضها إنجليزي وبعضها مصري مدني والبعض الآخر ديني الخ! ألا إن تماسك الشعب المصري ووحدته المتمثلة في فلاحية الجهلاء لتتناثر وتتفتت إلى قوى متنافرة متخاذلة في قادته وزعمائه المتعلمين الذين رضعوا لبان ثقافات مختلفة في معاهد مختلفة فتفاوتت عقلياتهم وتضاربت آراؤهم وأصبحوا أميل دائماً إلى الخصومة منهم إلى التعاون والألفة!

لقد أصبحنا في أشد الحاجة إلى وضع حد لكل ذلك. ووضع هذا الحد لا يكون بالكلام والصياح ولكنه يكون بالعمل، والعمل على التوفيق بين مختلف الطوائف والأحزاب أمر يصعب تحقيقه للأسباب السالفة الذكر في جيلنا الحاضر. فلنضع الحجر الأساسي لبناء جيل جديد دعامته التعاون والاتحاد. وتنشئة هذا الجيل الجديد لا تكون إلا بإيجاد المدرسة الموحدة، ولن تكون لنا مدرسة موحدة ما دامت اللغة الأجنبية تفرق بين أبناء المدرسة الابتدائية وأبناء المدرسة الإلزامية والأولية والدينية.

ورد في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) تحت عنوان (خلق الطبقات) ص195 ما يأتي:

(فهذه المدارس الشعبية الأولى المتعددة التي تتنازع أطفالنا (ويقصد بها الأولية والإلزامية والابتدائية والدينية الخ) تخلق أول تصدع في بناء الأمة الواحدة لأنها تخلق نظام الطبقات المختلفة في جسم هذه الأمة ذات الدين الواحد والعادات المتحدة واللغة الواحدة. وخلق

ص: 30

الطبقات بين أمة هذا حالها لا يقره دين ونظام؛ فالديمقراطية تنفر منه كل النفور لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى الاشتراك في الميول والرغبات، ولا يمكن أن يؤدي إلى الاتحاد في الفهم العام الذي هو أساس التفاهم بين الأفراد، فهو إذن ينزع إلى التفرقة الشاملة بين أفراد الأمة الواحدة. ولعل قيامه بهذا الشكل هو السر الأول في هذه الفرقة التي نحسها في ديارنا في كل شيء. وطالما هو قائم في هذه المدارس المتباينة التي نرى في كل منها اختلافاً في الطرائق والأساليب والمذاهب فلن تكون لنا وحدة متماسكة ولن نستطيع أن نخلق من أبناء النيل أمة متحدة في الفهم والقصد ترمى إلى غرض واحد وتتعاون في طريق واحد). هذا ولقد دفعتنا العناية الكبيرة التي اضطررنا إلى توجيهها إلى التعليم الابتدائي فالثانوي تبعاً - إلى إهمال شأن التعليمين الإلزامي والأولي إهمالاً كبيراً تدل عليه تلك الإحصائية الواردة بصفحة 176 من مؤلفي السابق الذكر حيث ورد فيها أن تلميذ التعليم الابتدائي ينفق عليه 24 جنيهاً في العام وتلميذ روضة الأطفال ينفق عليه 22 جنيهاً في العام، بينما تلميذ الإلزامي والأولى ينفق عليه جنيه واحد في العام. وهذه تفرقة كبيرة جداً بل هي مؤلمة وليس لها من مبرر غير ذلك الهدف القديم الذي كنا نرمي إليه في التعليمين الابتدائي والثانوي من حيث إعداد خريجيهما للوظائف والتوظف، وهو هدف بدأ يزول من أدمغة القادة ولكنه مع الأسف لا زال راسخاً في أدمغة الطلبة وسواد الشعب، ويجب أن نعمل على نزعه من تلك الأدمغة سريعاً بإزالة الميزات التي تمتاز بها المدرسة الابتدائية عن باقي مدارس الأطفال وإدماج الجميع في مدرسة شعبية موحدة تخرج لنا الوطني المستنير ذا التفكير الموحد، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بإزالة اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية. ولا ضير في ذلك على اللغة الأجنبية لأنها ستعلم بعناية واهتمام وإتقان في المدارس التي أبناؤها في حاجة إليها وهي المدارس الثانوية ومدارس التجارة المتوسطة. أما طلاب المدارس الصناعية والزراعية المتوسطة ففي غير حاجة إليها ولا يصح إثقالهم بتعليمها، وهم فوق ذلك في حاجة إلى صرف وقتها فيما هم أحوج إلى تعلمه من ضروب المسائل العلمية المختلفة

وإذا كان هذا البحث وما سبقه قد اقتضيا من الوجهتين القومية والاجتماعية زوال اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية، بل زوال المدرسة الابتدائية نفسها وإدماجها مع أترابها من

ص: 31

المدارس الشعبية المخصصة للأطفال فإني أعتقد أن بحث هذا الموضوع نفسه من وجهاته التعليمية والبيداجوجية البحتة فيما بعد في الأعداد التالية سيؤيد هذا الرأي كل التأييد

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 32

‌من أدب الغرب

للأستاذ فليكس فارس

كنت أقلب رزماً من أوراقي القديمة فعثرت على صفحتين

خطهما قلمي منذ عشرين سنة حين كانت الحرب العامة ترمي

على الدنيا آخر رجومها وتطرح بالأوشحة السوداء على

هامات الأرامل والأيتام

وهاأنذا أنقل للرسالة ما ورد في هاتين الصفحتين، ولعل السريرة الخفية قادت يدي إليهما لنشرهما في هذه الأيام. . .

(هذه قصة كلها شعور وجمال قرأتها في إحدى الصحف التي ترد إلى غرفة الاستخبارات من المقاطعات الفرنسية المحتلة فوقفت عندها أتنصت منها إلى قلب الإنسانية خافقاً على جبهات النار تحت وابل القنابل وهواطل الشرر

هذه صفحة كتبها إنسان برئ حساس تقوده العاصفة إلى المجزرة ليمسى قاتلا أو قتيلاً

هذه قصة جندي على سيفه جريمة الحرب وعلى قلمه صرخة الإنسانية أترجمها واطرحها بين دفينات أوراقي)

حلب في غرة يناير 1918

ف. ف

وكان يوم عصيب في تاهور!

بذلنا كل ما في وسعنا من جهد في المعركة ونحن الآن نتوقع صدور الأوامر للعودة إلى النار

لم نتمتع بالراحة إلا يوماً واحداً فكفانا هذا التوقف عن العراك لنشعر بانحطاط قوانا وارتخاء أعصابنا

وصلنا إلى المعسكر فأشعلنا النار وقعدنا حولها لننشد بعض الأغاني العالقة بالذكر منذ الطفولة فخيل إلينا أننا نعود إلى أوطاننا على نغمات هذه الأناشيد

ص: 33

وكان أحدنا يعزف على الأرمونيكا فيسود أنينها ما حولنا من أجواء عافية نحشد عليها تذكاراتنا وآمالنا

وشعرت بيد ناعمة الملمس تمر على جبيني وسمعت صوتاً مرتجفاً حسبته في غمرات تذكاري صوت أمي الشيخة العليلة تناديني من بعيد قائلة:

- مسكين، الولد الصغير

والتفت فرأيت ولداً لا يتجاوز الخامسة من عمره يلبس جلباباً واسعاً وقبعة صغيرة وكان يحدق بالنار وعيناه السوداوان تلتمعان وهو يكرر قوله:

- مسكين، الولد الصغير!

فهتف الرفاق: آه! هذا فرنسي صغير.

وتقدم جندي شيخ إلى الطفل فرفعه وأجلسه على ركبتيه، وبدأ يلاطفه ويلاعبه فزالت سحابة الخوف عن سحنة الطفل فإذا هو يضحك ويلعب.

وجاء وقت تناول الطعام فقدم الجنود له شيئاً من البطاطس، وجرعوه قليلاً من القهوة وكنت الفائز باكتساب ثقته إذ قدمت له قطعة من الحلوى وكلمته بلغته فقال لي: إن أباه ذهب إلى الحرب، وإن أمه ماتت منذ شهور. وكنت أترجم للرفاق حديثه، وهو يورده بلغته، ويدس في كلامه بعض ألفاظ ألمانية علقت بذاكرته منذ احتل الألمان مقاطعته؛ وقال إن اسمه أميل بوفيه فأسميناه كوكو الصغير.

ولما حان وقت انصرافنا إلى مضاجعنا تمسك الطفل بي طالباً أن ينام معنا فحملته وذهبت به إلى بيته.

وعندما اجتمع الجنود في اليوم التالي رأيت الطفل يدخل في حلقتنا مفتشاً عني وهو يقول: كوكو الصغير.

وما كان وجود القائد بيننا ليمنع كوكو من القيام بحركاته، وألعابه وعندما ذهبنا إلى ضاحية القرية لإجراء التمرينات العسكرية لحق بنا حتى آخر حدودها.

وكان كوكو يباكرنا كل يوم فيقف مسلماً برفع قبعته ثم يبادر إلىّ ويمسك بيدي ليتبعني، وأنا أمشي مع الفرقة. وبعد العودة من التمرين كان الطفل يدخل معي إلى مرقد الجنود ويلتف بطرف دثاري مستسلماً للكرى. وهكذا أصبح هذا الطفل يلازمني ملازمة خيالي؟ وما منعه

ص: 34

تودد الجنود إليه من الاحتفاظ بتفضيله لي، فكان يصافح رفاقي فرداً فرداً إلى ان ينتهي إليّ فيطوقني بذراعيه الصغيرتين ويقبلني تكراراً، أنا الغريب. . . أنا العدو! ويطرح جسمه الناحل على صدري.

وجاء يوم السفر. انتهت أيام الراحة وحان وقت العودة إلى الجهاد، فقلت للطفل وكان جالساً أمامي في الباحة الواسعة عند المساء: غداً سأسافر قلت هذا متكلفاً السكون وفي قلبي ثورة وغصص، فهب الطفل من مقعده مضطرباً هاتفاً:

- ولكنك ستعود

- لعلني أعود

- متى؟ بعد غد؟

- قد لا أعود أبداً

فصرخ الولد مذعوراً: أبداً. . . لا. لا أريد، فسوف تبقى وطوقني بذراعيه كأنه يريد تقييدي

وامتنع كوكو ذلك المساء عن الذهاب إلى بيته فرجوت مربيته الشيخة أن تسمح له بالبقاء عندي فرضيت وقالت:

- إن أمه قد انتحرت شنقاً هنا وراء هذا الباب بعد سفر أبيه إلى الحرب إذ لم يقو دماغها الضعيف على مقاومة هذه الصدمة وأمضى كوكو ليلته مضطرباً فكان يتقلَّب ويهذي مردداً الاسم الذي لقبته به

وعند بزوغ الفجر نهضنا من الرقاد وبدأنا بإعداد لوازم السفر على نور الشموع المرتجف، وكان كوكو جالساً يتبع حركاتي وسكناتي بلفتاته الواجفة

ولما هممنا بالخروج هرع الطفل إلىّ قائلاً:

- ستعود

فأجبته متمالكاً روعي: أرجو أن أعود

وسحب يده الصغيرة من يدي وتولى. وبينما كنت سائراً مع رفاقي في الساحة كان الولد يتقدم نحو مسكنه يتوقف أحياناً دون أن يلتفت إلينا

وقطعنا القرية بخطواتنا العسكرية فكانت تفتح النوافذ وتلوح منها أوجه المتفرجين عليها

ص: 35

مسحة الوسن وفي الأعين جمود وبرود وشعرت بغتة بوصول قادم لقربي وهو يلهث تعباً ويقول:

- كو. . .

وما تمكن الطفل المسكين من التلفظ بالقطع الأخير من اسمه ومددت يدي إليه فخنقته العبرات واندفع مرتمياً على منحدر التله وغلبه الأسى فأخذ يفرك عينيه براحتيه

وناديته: أي كوكو الصغير

ولكن صوتي لم يصل إلى مسمعه إذ ضاعت نبراته في صرخة القائد:

- هيا إلى الأمام!

واندفعت الفرقة إلى المجهول

الوداع أيها الصديق الصغير، أيتها البسمة الأخيرة من ثغر الحياة. . .

وبينما كان وقع خطواتنا يرن في أذنيَّ كنت أشعر بيد من حديد تربط على قلبي، تلك يد الإشفاق على الطفل اليتيم وعلى الإنسانية وعلى نفسي!

هنريك أولكه

جندي من لاندشروم

من يعلم ما حل بهنرك أولكة منذ عشرين عاماً؟ لعله قضى قتيلاً يوم كتب هذا المقال. ولعله لم يزل حياً في العقد الخامس من عمره، وقد يكون ابنه جندياً في هذه الفيالق الجوية فيأمر غداً بإسقاط القنابل والغازات على المدن الآمنة

والحق إن الإشفاق قد بلغ حداً بعيداً في آفاق الروح الإنسانية

لقد كان الرجال ينازلون الرجال حتى اليوم فتبقى النساء والأطفال في مهامه الترمل واليتم. فعلى المدنية الراقية أن تحول دون هذه الجناية. عليها أن تخنق المرأة قبل أن تترمل والطفل قبل أن يتيتم. . .!

فليكس فارس

ص: 36

‌الدعاية الإسلامية

للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد

ترجمة الأساتذة عبد الفتاح السرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد

العزيز عبد المجيد

انتشار الإسلام في الأمم المسيحية في غرب أسيا

بعد وفاة محمد (ص)، وجه أبو بكر الحملة التي قصد الرسول إرسالها قبل وفاته، إلى بلاد الشام، بالرغم من الاعتراض الذي أعلنه بعض المسلمين لأن أحوال الجزيرة كانت في اضطراب. ولقد أسكت أبو بكر كل معترض على ذلك بقوله:(لن أبطل أي أمر قرره الرسول. ولو كانت المدينة فريسة للوحوش الضارية فلابد أن تنفِّذ الحملة رغبات محمد). تلك كانت أولى الحملات المتتابعة العجيبة التي اكتسح بها المسلمون الشام، وفارس، وشمال أفريقيا، محطمين أركان دولة الفرس القديمة، ومكتسبين من إمبراطورية الروم بعض أقطارها الخصبة الغنية. وليس الغرض من هذا الكتاب أن نتتبع تاريخ هذه الحملات والوقائع المختلفة، ولكن لما كانت غايتنا أن نشرح كيف انتشر الإسلام عقب الفتوحات العربية كان من المهم أن نميط اللثام عن الظروف والعوامل التي مكنت الإسلام من الانتشار.

ولقد ضمن أحد ثقاة المؤرخين المسألة التي نحن بصددها الآن العبارة الآتية: (أكان ذلك الحماس الديني الحقيقي نتيجة لتلك العقيدة القوية الطاهرة المترعرة في بكورتها، والتي جعلت جنود العرب ينتصرون في كل موقعة، ويؤسسون في مدة قصيرة أكبر إمبراطورية شهدها العالم؟ إننا في حاجة إلى برهان لإثبات ذلك: لقد كان قليلاً جداً عدد أولئك الذين اتبعوا الرسول وتعاليمه طواعية، وبإخلاص من أعماق قلوبهم. أما العدد الأكبر فهم أولئك الذين أدخلوا في صفوف المسلمين كرهاً أو رغبة في متاع الدنيا. وهاهو ذا خالد - سيف سيوف الله - أوضح مثال لطريقة القوة الممتزجة بالإقناع التي أتبعت معه ومع كثيرين من القرشيين لكي يعتنقوا الإسلام. ولقد قال هو فيهم حينئذ: إن الله قد قبض عليهم من أفئدتهم وشعورهم وساقهم لإتباع الرسول. ولقد كان أيضاً لروح الافتخار بالقومية العربية المشتركة

ص: 37

أثر قوى تلك الروح التي كانت أقوى عند العرب في ذلك الوقت منها في الغالب عند أية أمة أخرى؛ وتلك الروح وحدها هي التي حدت بالآلاف منهم أن يؤثروا واحداً من بني جلدتهم ودينه على أي مصلح أجنبي عنهم. وأقوى من هذا وذاك ما رغبهم فيه الرسول (ص) من غنى مؤكد باكتسابهم الغنائم الوافرة في الجهاد للدين الجديد، ومن استبدال الأقاليم الخصبة المثرية: كفارس والشام ومصر بصحرائهم المجدبة العارية التي تجود عليهم بالكفاف فقط.

وفي الحقيقة لم تكن تلك الفتوحات الرائعة التي وضعت حجر الأساس للإمبراطورية العربية نتيجة للجهاد والحروب الدينية التي أوقدت نيرانها لنشر الإسلام. ولكن تبع هذه الفتوحات ضعف عظيم في العقيدة الدينية المسيحية، ذلك الضعف الذي ظن أنه الغاية المقصودة من هذه الفتوح. وهكذا اعتبر المؤرخون المسيحيون السيف الآلة التي اتخذها المسلمون للدعاية لدينهم. وغطى ذلك النجاح المعزو إلى السيف على الأدلة التي تشير إلى نشاط التبشير الإسلامي الصحيح بطريق سليمة. ولم تكن الروح التي خلقت الحماس في الجنود من العرب الذين اكتسحوا أطراف الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية الإيرانية، روح تبشير لإدخال الجاحدين في الإسلام. بل الأمر على عكس ذلك، إذ يظهر أن المصلحة الدينية لم تتمثل إلا قليلاً في تفكير القادة للجيوش العربية

إن انتشار الجنس العربي ليتضح بحق في هجرة تلك القبائل القوية النشطة، ساقها الجوع والعوز إلى ترك الصحراء الكزة، والانتشار في أقاليم أكثر خصوبة، في تلك الأقاليم التي يقطنها السعداء.

وبعد، فلقد كان تأسيس الحكومة الدينية في المدينة العامل الذي خلق الوحدة في تلك الحركة (حركة الفتح والتبشير) وكذلك كان عاملاً على الوحدة نظامُ الأمة الحديثة الذي بدأه أصحاب الرسول المخلصون، والحجج الثقاة الذين اضطلعوا بتعاليمه أولئك الذين حفظت متانةُ خلقهم وحماُسهم الإسلامَ حياً، ودينا رسميا، وذلك بالرغم من عدم اكتراث أولئك العرب الذين انتسبوا إلى الدين ولما يدخل الإيمان في قلوبهم

وإذاً فلا يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي دعت إلى انتشار الدين الإسلامي بتلك السرعة، في حوادث الجنود الفاتحة، ولكن الأولى أن نبحث عن هذه الأسباب في الأحوال

ص: 38

التي كانت عليها الشعوب المغلوبة

إن ما امتازت به حركة الهجرة من كونها ذات جنسية عربية واحدة قد اجتذب إلى جيوش العرب الغزاة، ممثلي القبائل العربية ورؤساءها، تلك القبائل التي كانت تعيش في أطراف الجزيرة، والتي تمر بها طرق الجيوش الفاتحة. ولذلك فليس غريباً أن نجد كثيراً من أهل البدو المسيحيين قد اكتسحهم مد تلك الحركة القوية، ونجد تلك القبائل العربية التي دانت بالمسيحية عدة قرون تهجرها حينذاك وتعتنق الدين الإسلامي. ومن هؤلاء قبيلة الغساسنة الذين كان لهم السلطان في الصحراء الواقعة شرقي فلسطين وجنوبي الشام، والذين قيل عنهم إنهم (سادة في الجاهلية ونجوم في الإسلام) وبعد موقعة القادسية سنة 14 هـ التي هزم فيها جيش الفرس بقيادة رستم اشد هزيمة جاء كثير من المسيحيين من قبائل العرب البدوية المقيمة على شاطئ الفرات، إلى القائد العربي وقالوا له:(لقد كانت القبائل التي اعتنقت الإسلام في باكورته أعقل منا، أما الآن وقد قتل رستم فسندخل في الدين الجديد)

وشبيه بهذا أيضاً ما حدث بعد فتح شمالي الشام فإن معظم أهل القبائل البدوية انظموا بعد تردد قليل، إلى أتباع الرسول (ص)

إنه لمن الممكن أن نحكم أن القوة لم تكن العامل القاطع في حوادث اعتناق الإسلام، من العلاقات الطيبة التي كانت بين المسيحيين والمسلمين العرب. فقد عقد محمد (ص) نفسه تحالفاً مع بعض قبائل مسيحية، واعداً أن يحميهم، وكافلاً لهم الحرية الدينية، ولرجال دينهم أن يتمتعوا بحقوقهم القديمة وسلطانهم من غير أي تدخل. وقد ألفت مثل هذه العلاقات أيضاً بين أتباع الرسول وبين أفراد عشيرتهم من أصحاب الدين القديم (يعني المسيحية) وقد تقدم كثير منهم طوعاً ليساعد المسلمين في بعثاتهم الحربية، مدفوعين بروح الطاعة للحكومة الجديدة. وتلك الروح نفسها قد أبقتهم منعزلين عن حركة الردة العظيمة التي رفع أصحابها راية العصيان في جميع أنحاء الجزيرة العربية عقب موت الرسول (ص) مباشرة

ويرى بعض المؤرخين أن العرب المسيحيين الذين كانوا يحمون حدود الإمبراطورية البيزنطية من ناحية الصحراء قد غامروا بنصيب مع جيش المسلمين الفاتحين حينما رفض هرقل أن يدفع إليهم ما كان يجري عليهم من العطايا، مقابل خدماتهم الحربية كحراس لأطراف الإمبراطورية

ص: 39

وفي موقعة الجسر سنة 13هـ لما بدت طلائع هزيمة قاضية، وأنحصر العرب - وقلوبهم خاوية - بين الفرات والجيش الفارسي، تقدم رئيس مسيحي من قبيلة طي (كما تقدم من قبل سبوريوس لأريوس لمساعدة هوريشس) إلى صنف العرب لمساعدة المثنى قائد جيوش المسلمين ليحمي الجسر الذي كان عبارة عن مجموعة من الزوارق الصغيرة، وكانت حينئذ الطريق الوحيد للتراجع المنتظم، ولما أخذ المسلمون في جمع الجنود ليستردوا مكانتهم، وليمحوا ما لحقهم من عار كان من بين المدد الحربي الذي انصب عليهم من كل جانب وناحية قبيلة مسيحية تدعى بني نمير، وكانت تقطن داخل الحدود البيزنطية. وفي واقعة بويب التي حدثت سنة 13هـ، والتي كانت قبل الهجوم الأخير للعرب الذي كان الهجوم الفاصل الذي نالوا فيه الفوز. في تلك الموقعة ركب المثنى إلى الرئيس المسيحي وقال له:(إنك من أبناء جلدتنا فتعال إذا وحارب معي كما أحارب) وقد تراجع الفرس وتقهقروا أمام ما لاقوه من هجوم عنيف. وبذا أضاف المسلمون نصراً جديداً في صفحة المجد إلى انتصاراتهم. وكان من أكثر مغامرات ذلك اليوم شجاعة ما قام به شاب من قبيلة مسيحية أخرى في الصحراء وكان هذا الشاب قد قدم في جماعة من أصحابه - وهم طائفة من البدو تجار الخيل - حينما كان الجيش العربي قد أخذ ينسجم في صفوف المعركة. اندفع هؤلاء التجار البدو إلى ميدان القتال في صف مواطنيهم، وبينما كان القتال في أشد عنفوانه إذ هجم ذلك الشاب إلى قلب الجيش الفارسي. وقتل قائده، ثم قفز على جواده الموشى، وقفل راجعاً بين حماس المسلمين وإعجابهم به وثنائهم عليه وكان يصيح في عودته منتصراً ويقول:(أنا من تغلب. أنا الذي قتلت قائدهم)

(يتبع)

ص: 40

‌العالم يتطلع إلى حدودنا الغربية

أربعون يوماً في الصحراء الغربية

للأستاذ عبد الله حبيب

- 2 -

الحكام

كان من حسن حظ الصحراء الغربية أن قيض الله لها محافظاً هماماً من رجال الجيش البارزين هو صاحب العزة الأميرلاي عبد السميع بك عجرمة الذي تولى هذا المنصب خلفاً لسلفه الإنجليزي فكان أول محافظ مصري يتولى منصب الحاكم لهذه البقاع النائية. وقد شعر سكان الصحراء الغربية منذ ذلك الحين بمصريتهم، واعتزوا بها أكثر من ذي قبل، وكان حاكمهم الجديد خير مصري يشعر بآلام مواطنيه وحاجتهم إلى النهوض والإصلاح. وخير عون لهذا المصري الكفء في هذه الأنحاء هم رجاله الضباط المصريون. وفي طليعة هؤلاء القائمقام محمد بك كامل، والصاغ رفعت الجوهري. وهذا الأخير يعتبر بحق وجدارة أكفأ ضابط مصري ملم بأحوال الصحراء، وطباع أهلها وطرقها. وقد نشر له نادي السيارات الملكي كتاباً قيماً عن صحراء سيناء، ثم وضع في هذه الأيام كتاباً آخر عن الصحراء الغربية لا تزال بين يديه مهيأ للطبع. وقد طالعت أكثر فصوله واستعنت بكثير مما يحوي من المعلومات الطريفة على ما دونت في رحلتي فلا بد من الاعتراف بفضل مؤلفه وشكره.

معلومات عامة

في عهد (الفاروق) ملك مصر الصالح أسبغ الله على صحاري مصر نعمة الأمن والرخاء، وأعاد إليها عهدها الأول في الحضارة والعمران. وكان عصر الفاروق من أزهى العصور التي مرت بهذه الصحاري والقفار، وأغدق نعمه وعطاياه فهطلت الأمطار يوم تبوأ عرشه، وجادت هذه الأمطار بأطيب الثمرات بعد سبعة أعوام مرت بها قاحلة جرداء عجاف.

وقد أقبلت حكومة جلالته تنفق عن سعة على جميع ما يقوي الروابط بين الأهليين ويعزز وسائل الإصلاح والتعمير فارتبطت أجزاؤها بالسكك الحديدية والطرق الممهدة

ص: 41

وإنه ليثير الدهشة حقاً أن يرى المسافر ذلك التباين العجيب بين هذه المروج الناظرة المحيطة بوادي النيل وبين هذه الصحارى المقفرة القاحلة التي تجده من الجانبين. نعم إن هناك صحارى مجهولة في مختلف بقاع العالم كآسيا وأستراليا وغرب أمريكا. إلا أن هذه البقاع لا تعد شيئاً إذا قورنت بصحراء مصر الغربية ووحشتها وخلوها من الحيوان والنبات. ذلك لأن حالة الجدب فيها تثير الدهشة حقاً ولست في حاجة لأن تتوغل في مفاوزها وشعابها لكي تتبين مقدار ما بها من الجدب، فإن مسير مسافة قصيرة يكفي لينقلك من مروج ناضرة وأرض خضراء يانعة غنية بطمى النيل السعيد إلى هضاب متسعة مقفرة تكتنفها الصخور والرمال إلى أبعد مدى يصل إليه النظر.

الصحراء الغربية

يسمى القسم الشمالي (البحري) من صحراء لوبيا بالصحراء الغربية أو محافظة الصحراء الغربية، وهي تشمل الجهات الواقعة غربي النيل من الإسكندرية ومديريات البحيرة والجيزة وبني سويف والمنيا إلى السلوم وحدود طرابلس غرباً. ثم من البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى حدود الصحراء الجنوبية جنوباً وتتبعها واحات سيوة والبحرية والفرافرة

والجزء الأكبر من هذا الإقليم أرض قاحلة، عدا المنطقة الغربية من ساحل البحر الأبيض التي تزرع على الأمطار وبعض الآبار القليلة الممتدة على الساحل أو القريبة منه أو التي توجد في الواحات المشار إليها

وتبلغ مساحة هذه الصحراء نحو 240 ألفاً من الكيلومترات المربعة. وتنقسم إلى أربعة أقسام رئيسية:

1 -

القسم الشرقي: ومركزه مدينة العامرية، وهو يشمل العامرية والحمام والواحات البحرية والفرافرة.

2 -

وقسم مطروح: ومركزه مدينة مرسى مطروح، وهو يشمل مطروح والضبعة

3 -

وقسم براني: ومركزه مدينة براني، ويشمل سيدي براني والسلوم

4 -

وقسم سيوة: ومركزه سيوة، ويشمل سيوة والواحات الغربية وواحة الجارة

ويبلغ سكان هذه الصحراء نحو 55 ألف نسمة معظمهم من البدو الرحل من قبائل أولاد

ص: 42

علي الأبيض وعلي الأحمر

الحالة العامة

ويمكن القول إجمالاً عن الصحراء الغربية - إذا استثنينا الشريط الأخضر الرفيع الذي يطوق شاطئ البحر الأبيض المتوسط - إنها عبارة عن إقليم لا مطر فيه ولا حياة. ويكاد يكون هبوب العواصف الرملية عليها من الأمور العادية التي لا تخلو منها في سنة من السنين

أما على الساحل فإن حالة السكان تتوقف دائماً على الزراعة ومقدار الحاصلات وما يتوفر من المراعي للإبل والغنم من هطول الأمطار. ومما يذكر أن السكان في هذا العام والذي قبله أسعد حالاً منهم في الأعوام الماضية التي توالى عليهم فيها الضيق من جراء جدب أراضيهم بسبب قلة الإمطار

ولكن الحاصلات الناجحة لا تكفي لسد الديون التي تراكمت على العربان في سبيل حصولهم على حاجيات المعيشة في السنوات الخمس العجاف الماضية

ولقد كان لزيادة المنشئات الجديدة واشتغال العربان في أعمال السكك الحديدية ومد الطرق وهطول الأمطار ومساعدة الحكومة بتوزيع البذور وهبة جلالة الملك لمناسبة قرانه السعيد وهبة صاحب السمو الأمير محمد علي لمناسبة شفائه؛ كان لكل ذلك أثر واضح في تعميم الرخاء واليسر بين العربان، فشعروا بنعمة الحياة، وعاد أكثرهم إلى بلدانهم بعد أن كانوا هاجروا منها، وبدؤوا يزرعون أراضيهم ويقومون بتربية مواشيهم

واحات الصحراء الغربية

وقد منّ الله على الجزء الجنوبي وعوضه خيراً من الأمطار بعدد من الواحات الخصبة الغزيرة المياه. وهذه الواحات يسكنها قوم من العرب وشعب آخر ليس من سلالة الأعراب وهم جميعاً يأخذون المياه من ينابيعها المتفجرة من عيون دائمة التدفق

ويقال إن لفظة (واحة) كلمة مصرية قديمة معناها (مكان الراحة) وهي بقعة من الأرض الخصبة في وسط الصحراء، وكل واحة تعرف غالباً باسم العين أو البئر التي تمدها بالماء

وفي الصحراء الغربية عدة واحات:

ص: 43

(سيوة) وهي تشمل سيوة والزيتون وفوريشت والأرغومي وخميسة وأبو الشروق والليج والمراغي

وفي شرقيها مجموعة الواحات البحرية وتشمل البحرية والفرافرة

كثبان من الرمل تنتقل

تمتد على طول الجزء الجنوبي الغربي من الصحراء كثبان عظيمة من الرمل تنتقل إلى مساحات واسعة وهذه الرمال تطغي على الأرض وتدفن تحت رمالها الناعمة الغزيرة مساحات شاسعة من الأرض قد تزيد على مئات الأميال، وتتجمع هذه الرمال فتحدث كثباناً أو (تلالاً) من الرمال الناعمة تسير متوازية بارتفاع كبير ممتدة من الشمال أو الشمال الغربي إلى الجنوب أو الجنوب الشرقي في نفس اتجاه سير الرياح التي تهب على الصحراء

وهذا التكوين يجعل اجتياز هذه المناطق في اتجاهات عرضية من الغرب إلى الشرق أو بالعكس صعباً عسيراً إلا عند فتحات أو ممرات ضيقة معينة معروفة، كما أن هذا التكوين جعل الكثبان تعد حاجزاً منيعاً للحدود المصرية. ويقال إن طغيان هذه الرمال أخذ في الاتجاه نحو الجنوب بدليل أنها طغت على طريق للقوافل كانت ممتدة بين الواحات الداخلة وواحة الكفرة فاختفت هذه الطريق تماماً كما اختفى تحتها من قبل جيش قمبيز ملك الفرس سنة 525 ق. م. وكان عدده 50. 000 من الغزاة، وذلك عندما أراد غزو واحة سيوة. ولم ينج من هذا العدد أحد، على أن الواحات نفسها لم تسلم من هبوب عواصف الرمال فهي تطغي على الزرع وتحدث به أضراراً جسيمة.

وقد شهدنا بعض هذا الهبوب حين توغلنا في جوف الصحراء إلى واحة سيوة في رحلة بالسيارات قطعناها في نحو تسع ساعات وبسرعة لا تقل عن 60 كيلومتر في الساعة وشهدنا في منتصف هذا الطريق (الاستراحة) التي أقيمت به في عهد الخديو السابق فأقمنا بها بعض الوقت وتناولنا فيها قليلاً من الزاد كنا حملناه معنا وهي غرف شيدت من الخشب أشبه بـ (فيلا) قائمة وسط الصحراء القاحلة يستريح فيها المحافظ والضباط خلال تجوالهم في أنحائها.

(يتبع)

ص: 44

عبد الله

ملحوظة: مصدر هذه المعلومات المشاهدة أثناء الرحلة وما

دونه صديقنا الصاغ رفعت الجوهري مأمور مرسى مطروح

عن الصحراء الغربية.

ص: 45

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانة بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

واتفق الضباط وحلفاؤهم أن يسير عرابي على رأس الجيش إلى عابدين في اليوم التالي ليطالبوا الخديو بوضع حد لتلك الحال التي ضجت منها البلاد؛ وأرسل عرابي خطاباً إلى الخديو في صباح ذلك اليوم المشهود في قصر الإسماعيلية، وكان الخديو قد حضر في شهر سبتمبر إلى القاهرة، ينبئه فيه بما اعتزم أن يقوم به عصر ذلك اليوم!

يقول عرابي في مذكراته: (ولما كثرت دسائس الحكومة وبان ختلها وعزمها على اغتيالنا، أخذنا حذرنا منها، وسهرنا على إحباط تلك الدسائس المنكرة، وكان السير مالت مالت قنصل إنجلترا بمصر كثير التردد على الخديو ليلاً ونهاراً دون غيره من وكلاء الدول الأوربية، فأوجسنا من ذلك خيفة على مصير بلادنا، وخشينا من مطامع إنجلترا التي كانت ترمي إلى التهام وادي النيل أسوة بما فعلته فرنسا بتونس حتى يتم التوازن التي تدعيه أوربا؛ فعرضنا مخاوفنا على جلالة أمير المؤمنين ليحيط علماً بما كان جارياً في مصر ولكيلا يتورط في تصديق ما قد يصل إليه من دسائس أعداء البلاد. وذيلنا العريضة المذكورة بإمضائي وإمضاءات إخواني علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي وأحمد بك عبد الغفار بالنيابة عن الجيش، وأحمد بك أبو مصطفى وأحمد بك الصباحي وعثمان باشا فوزي وغيرهم من وجوه الأمة بالنيابة عن جميع المصريين. . .)

وفي عصر ذلك اليوم 9 سبتمبر سنة 1881 تحرك الجيش يقصد عابدين؛ فحطت الثورة الوليدة أجرأ خطواتها وأبعد أثراً في تطور حوادث ذلك العهد.

وكان الخديو في قصر الإسماعيلية. فأرسل يستدعي السير أوكلند كلفن. ولما حضر سأله ماذا عسى أن يفعل في هذا الموقف. قال كلفن: (فنصحت إليه أن يقاوم؛ فقد أخبرني رياض باشا أن في القاهرة فرقتين مواليتين، لذلك أشرت على الخديو أن يدعوهما إلى

ص: 46

عابدين مع ما يمكن الاعتماد عليه من الحرس الحربي، وأن يضع نفسه على رأسهما. فإذا ما وصل عرابي قبض عليه بشخصه. فأجابني أن لدى عرابي بك المدفعية والفرسان، وربما أطلقوا النار فأجبت أنهم لن يجرءوا على ذلك؛ ومتى توفرت له الشجاعة للمقاومة، وعرض نفسه شخصياً، فأنه يتسنى له أن يقضي على المتمردين، وإلا فأنه ضائع)

هذا ما أشار به كلفن، وما نراه في ذلك يدفع بالتي هي أحسن، وما نراه يحمل - كما يقول كرومر - إلى الخديو:(قسطاً من تلك الروح التي تحيي جنسه الإمبراطوري) وإنما نراه يلقي الزيت والحطب على النار حتى لا تبقى ولا تذر، وبعدها تقتنص الفريسة بدعوى إنقاذ البلاد من نار الفتنة. وما أظن ذلك القول محتاجاً إلى دليل. فهذا الذي يدعو إليه كلفن لو وقع لن يكون إلا حرباً أهلية شرها مستطير، وأمرها خطير:

وتوجه الخديو إلى عابدين قبل حضور الفرق، ومعه كلفن ورياض وستون باشا. فاستدعى علي بك فهمي رئيس الحرس، وأشار عليه بالدخول إلى القصر بفرقته والتحصن بالنوافذ العليا وقد نصح للجند بقوله:(أنتم أولادي وحرسي الخصوصي، فلا تتبعوا التعصب الذميم، ولا تقتدوا بأعمال الآلات الأخرى) فأطاع الجند وأخذوا يتأهبون.

وسار الخديو بعد ذلك إلى القلعة، ولكنه لم يجد من فرقتها مثل ما ظهر له من ولاء الفرقة السالف ذكرها. فسار إلى العباسية حيث كانت فرقة عرابي، ولكنه علم هناك أن عرابياً سار منذ ساعة على رأس جنده، ومعهم المدافع بطريق الحسينية إلى عابدين فقفل أدراجه إليها. . .

وتلاقى عرابي في ميدان عابدين بالفرق الأخرى بقيادة أحمد بك عبد الغفار وعبد العال بك حلمي وإبراهيم بك فوزي وفوده أفندي حسن وغيرهم من أنصاره، وأرسل عرابي يستدعي علي بك فهمي فحضر من داخل القصر فعاتبه فرد بقوله:(إن السياسة خداع) ثم ذهب فعاد بفرقته، وانضم إلى الجيش فأصبح القصر خلوا من كل عناصر المقاومة.

وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة الذين أخذتهم الدهشة لا ريب لهذا المنظر؛ واشرأبت أعناق الشعب التي طالما ألفت الذل، وتطلع من فوق أكتاف الجند، ومن خلال صفوف الفرسان لينظر ماذا يكون في هذا الوقف الرهيب؛ وأسم عرابي يجري على الألسن في حين تدور الأبصار باحثة عن موضعه، وهو على ظهر جواده أمام جنده يتأهب

ص: 47

لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي ألبس جده العظيم بالأمس الكرك والقفطان دون رجوع إلى السلطان. وما أعظم هذه الكلمة ينطق بها فلاح من أعماق الوادي نبت ونما على ثراه!

ووصل الخديو إلى عابدين بعد أن فشلت سياسة طوافه على الآليات، تلك السياسة التي تدل في ذاتها على منتهى الضعف، والتي لا يشفع له في اتباعها سوى أنها كانت آخر سهم في جعبته إن كان هذا شفيع. والحق أن الخديو قد لاقى في ذلك الطواف ما تنخلع له أفئدة أقوى من فؤاده. وحسبك أن فرقة القلعة قد ثارت في وجهه حينما أمسك بتلابيب قائدها مهدداً حتى لقد وضع العساكر الأسنة في بنادقهم بأمر من هذا القائد وتجمهروا حول الخديو حتى صاح بالقائد (أفسح لنا الطريق يا بكباشي).

ودخل الخديو السراي من باب خلفي. ويقول مستر كلفن إنه قفز من عربته وأشار على الخديو أن يسير توا إلى الميدان ففعل توفيق ذلك، وسار إلى حيث اجتمع الجند، ووراءه ستون باشا وأربعة أو خمسة من الضباط الوطنيين، وواحد أو اثنان من الضباط الأوربيين؛ ويذكر عرابي أنه كان معه المستر كوكش قنصل انجلترة بالإسكندرية والجنرال جولد سمث مراقب الدائرة السنية

وتقدم الخديو ثابت الخطى، فأشار عليه كلفن أن يأمر عرابياً بتسليم سيفه إذا ما دنا منه وأن يأمره بالانصراف ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر

وسار عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو صاح به الخديو: (ترجل وأغمد سيفك). ففعل عرابي دون إبطاء، ومشى نحو الخديو ومن خلفه نحو ثلاثين ضابطاً فأدى التحية العسكرية

الموقف رهيب بالغ الرهبة! ففي هذا الجانب إذا نظرنا إلى حقائق الأمور نرى مصر التي أيقضتها الإحن والفواجع تتمثل في هذا الجندي الفلاح تحرى على لسانه كلمتها في غير التواء أو تلعثم؛ وفي الجانب الآخر صاحب السلطان والجاه الموروث، تغضبه هذه اليقضة وتذهله، مع أنه رآها منذ بدايتها ورأى أباه على جلالة قدره يوسع لها صدره ويخفض لها جناحه فيزداد بذلك رفعة. . . هنا الحرية الوليدة، والديمقراطية الجديدة؛ وهناك التقاليد العتيدة، والأوتوقراطية العنيدة؛ ومن وراء ذلك كله الثعالب وبنات آوى تتمسكن لتتمكن،

ص: 48

وتتربص لتنقض!

والتاريخ شاهد يثبت للقومية المصرية موقفاً من أروع مواقفها، ومظهراً من أجل مظاهرها، ويضيف بذلك إلى صفحات الحرية في سجله صفحة جديدة لن تبلى الأيام جدتها، أو تبخس أغراض المبطلين قيمتها

همس كلفن في أذن الخديو: (هذه هي ساعتك) فأجاب الخديو: (نحن بين أربع نيران) فقال كلفن: (كن شجاعاً) فتهامس الخديو وأحد الضباط الوطنيين ثم التفت إلى كلفن قائلاً: (ماذا عسى أن أصنع؟ نحن بين أربع نيران، إنهم يقتلوننا)

ويحسن أن نورد ما حدث بعد ذلك على لسان عرابي كما جاء في مذكراته قال: (ثم صاح بمن خلفي من الضباط: أن اغمدوا سيوفكم وعودوا إلى مكانكم. فلم يفعلوا وظلوا وقوفاً خلفي ودم الوطنية يغلي في مراجل قلوبهم والغضب ملء جوارحهم. ولما وقفت بين يديه مشيراً بالسلام خاطبني بقوله: (ما هي أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟) فأجبته بقولي:

(جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة وكلها طلبات عادلة). فقال: (وما هي هذه الطلبات؟) فقلت: (هي إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوربي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها). فقال: (كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا). فقلت: (لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم)

فتلفت الخديو إلى كلفن قائلاً: أسمعت ما يقول؟) فأشار عليه هذا بالعودة إلى القصر إذ لا يجمل أن يزيد الأمر بينه وبين عرابي عن هذا الحد. فانصرف الخديو وبقى الجيش في مكانه لا يتزحزح

وأقبل مستر كوكش يناقش عرابياً في غلظة. ويخيل إلي أن هذا الرجل كان ممكن يحسنون دس أنوفهم في كل شيء وكان ذلك منه لغاية كان يخفيها! ومما وجهه إلى عرابي قوله: ألا حق له أن يطالب بالمجلس النيابي وإسقاط الوزارة فذلك من شأن الأمة، أما عن زيادة الجيش فمالية البلاد لا تساعد على ذلك

ص: 49

ورد عرابي بقوله إن الأمة أنابت الجيش عنها. ثم وجه نظر محدته إلى الجموع المتراصة خلف الجند قائلاً هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها

فراح ذلك الإنجليزي يتهدد ويتوعد في فضول مخجل، ورد عرابي على ذلك بأنه لن يسمح لأحد بالتدخل في شؤون مصر الداخلية. وهنا سأل كوكش محدثه سؤالاً يتجلى فيه خبثه وقد ظن أنه به أحكم الرمية فقال:(وماذا تفعل إذا لم تجب إلى ما تطلب؟) فانظر إلى رد هذا الجندي في هذا الموقف الذي تخف فيه أحلام الرجال والذي تزدهي القوة فيه القلوب فتسلب ذوي العقول اتزان عقولهم! أنظر إلى عرابي في موقف الثورة يقول له: إنها كلمة لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط)

وأخذ كوكش يروح ويغدو بين عرابي والخديو حتى جاءه آخر مرة ينبئه بقبول الخديو إسقاط الوزارة القائمة وأن سموه سينظر في بقية الطلبات فلا بد في بعضها من مشاورة السلطان؛ وقبل عرابي ذلك. فعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرياسة الوزارة القادمة ولكنهم رفضوه؛ وجرى على الألسن أسم شريف، فعاد كوكش بعد حين يعلن إلى عرابي الخديو تعيين شريف باشا فقوبل ذلك بالهتاف بحياة الخديو. والتمس عرابي الإذن على الخديو، فلما وقف بين يديه أخذ يعبر له عن ولائه وولاء الجيش. وذكر له الخديو أنه وافق (على تلك الطلبات بنية صافية)؛ ثم انصرف الجيش بعد ذلك في هدوء كل فرقة إلى مركزها

هذا هو يوم عابدين الذي اعتبره خصوم عرابي من أكبر سيئاته، والذي نعتبره في غير مغالاة أكبر حسناته. وليت شعري كيف يغفل هؤلاء عما ينطوي عليه هذا الموقف من معان؟ إلا إنهم ليتغافلون ليطعنوا الرجل في أجمل مواقفه وأعظم خطواته، وهم إنما ينالون بذلك من أنفسهم دون أن ينالوا منه

طالب عرابي بالدستور فكان في طلبه هذا زعيم ثورة تقوم على أجل المبادئ التي شاعت في القرن التاسع عشر والتي اعتبرها المؤرخون والناس من أعظم خطوات البشرية وأجلها نحو الرقي والكمال فكيف يكون مع ذلك داعية فوضى واضطراب؟ ولقد كثرت في أوربا المواقف الشبيهة في معناها بهذا الموقف فسجلتها الشعوب في ثبت مفاخرها واعتبرتها من أيامها المشهودة التي سوف تمجد إلى الأبد ذكراها

ص: 50

(يتبع)

الخفيف

ص: 51

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

405 -

أشيب

ابن سيسنبر الزوزني (علي بن أبي علي):

كفى الشيب عيباً أن صاحبه إذا

أردت له وصفا به قلت: أشيب

وكان قياس الأصل (إن قست) شائباً

ولكنه في جملة العيب يحسب

406 -

لقد طال وجدي بعدها وحنيني

حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت له نسخة كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضي أبو القاسم علي بن الطاهر بستين ديناراً وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن القالي وهي:

أنست بها عشرين حولاً وبعتها

لقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظني أنني سأبيعها

ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية

صغار، عليهم تستهل شؤوني

فقلت - ولم أملك سوابق عبرة

مقالة مكوي الفؤاد حزين:

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك

كرائم من رب بهن ضنين)

407 -

وأخرى تداويت منها بها

في (العقد): قال هرون بن داود: شرب رجل عند خمار نصراني فأصبح ميتاً، فاجتمع عليه الناس وقالوا للخمار: أنت قتلته

قال: لا والله، ولكن قتله استعماله قوله:

وأخرى تداويتُ منها بها

408 -

أنا خير البرية

في (الصلة) لابن بشكوال: كان (القاضي) أبو عمران الفاسي بالقيروان، فقال رجل: أنا خير البرية! فلُبب، وهمت به العامة. فحمل إلى الشيخ أبي عمران، فسكن العامة ثم قال:

ص: 52

كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال. فقال له: أأنت مؤمن؟

قال: نعم.

قال: تصوم وتصلي، وتفعل الخير؟

قال: نعم.

قال: اذهب بسلام. قال الله (تعالى):

(إن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، أولئك هم خير البرية) فانفض الناس عنه.

409 -

حور الجنان على مثالك

أبو العتاهية:

إن المليك رآك أحسن (م)

خلقه ورأى جمالكْ

فخذا بقدرة نفسه

حور الجنان على مثالكْ

410 -

الشيخ بلا شك إبليس

قال مخارق بن يحيى: رأيتُ وأنا حدث كأن شيخاً جالساً على سرير في روضة حسنة فدعاني فقال لي: غنني يا مخارق، فقلت: أصوتاً تقترحه أم ما حضر؟ فقال: ما حضر، فغنيته:

دعي القلب لا يزدد خبالاً مع الذي

به منك أو داوي جواه المكتما

وليس بتزويق اللسان وصوغه

ولكنه قد خالط اللحم والدما

فقال لي: أحسنت يا مخارق! ثم أخذ وتراً من أوتار العود فلفه على المضراب ودفعه إليّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ، والوتر ينتشر ويعرُض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة عليه، وصار في يدي علماً، ثم انتبهت فحدث برؤياي إبراهيم الموصلي فقال لي: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لك لواء صنعتك، فأنت ما حييت رئيس أهلها

411 -

ما فهمت غير مفرداته

في (الغيث المنسجم): قال العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم ابن ساعد الأنصاري: حضر يوماً الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبكي شيخ خانقاه (سعيد السعداء) عند الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله وأخذ يتكلم في طريقهم وأحوالهم، ويتحدث على

ص: 53

العرفان زماناً والشيخ تقي الدين ساكت لا يفوه بكلمة. فلما قام من عندهم قال الشيخ تقي الدين للحاضرين: هل فيكم من فهم تراكيب كلامه؟ فإني ما فهمت غير مفرداته. . .

ص: 54

‌قالوا: سكت؟

للأستاذ أمجد الطرابلسي

قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا

في مسمع الأكوان رَجْعُ غنائي

غنَّيتُ في أُذُن النهار سعادتي

وهمستُ في قلب الظّلام شقائي

وَوَعتْ أناشيد الطيورُ وردّدتْ

همسي الخفَّي كواكبُ الظّلماء

فسلوا الجداولَ عن غِناء مياهها

هل غير ألحاني غناء الماءِ

وسلوا الخمائلَ عن ندى أزهارها

هل غير دمعي لؤلؤ الأنداء

والورد والشّفَق المُخَضّب واللّظى

هل هُنَّ إلا من وَميضِ دِماء

والبحر هذا الهادي الصَّخّاب هل

أمواجُه إلا صَدى أهوائي

والريح هل هبَّاتها بعد الونى

إلا انبعاثي بعد موت رجائي

اللّيلُ والأرماسُ بعضُ كآبتي

والفجرُ والأعراسُ بعض هنائي

والعِيدُ صورةُ فَرْحتي ومبَاهِجي

والبِيدُ صورة وَحْشتي وفَنائي

والرعد يحكي ثورتي في قَصفه

وزفيفُ أجنحة الطّيور رضائي

ولقد مَلأتُ الفُتون جَوانحي

وطويت فوق فنونه أحنائي

وكرعتُ أكوابَ الجمال ولم أزل

أشكو له نَهَمي وحرَّ ظِمائي

أحببتُ ما شاء الهُيام وشاء لي

قلبٌ غمرت بحبِّهِ أعدائي

قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا

ما في يد الينبوع حبسُ الماء

خُلِقَ الرّبيع مُصَوِّراً في كفّهِ

قَلَمُ الأديب وريشة الوشاء

ما دغدغ الأغصانَ أو لَمَسَ الرُّبى

إلا ضحكنَ تَضاحكَ العذراء

وَرَفَلْنَ في أفوافِ وَشْىِ بَنانِهِ

متبرّجاتٍ أو ذواتِ حياء

فسلوه: هل يستطيعُ إبداعَ الأسى

فعلَ الشّتاء الواجم البَكّاء؟

والزهر، هل يستطيع في أَلَق الصِّبا

ضَنُّا بنفحٍ عاطرٍ وذكاء؟

والشمس هل تستطيع في رَاْدِ الضُّحى

أَلاّ تجودَ بباهر الأضواء؟

لكنْ هَزَارُ الرّوض ليس يهيجه

للشّدْو صُمت دُجُنَّةٍ نكراءِ

ما حيلةُ الشّادي الرفيقِ غناؤه

بمسامع تَلْتَذ بالضّوضاء؟!

ص: 55

يشدو فيعصر في اللحون فؤادَه

كيما يؤوبَ ببسمة استهزاء!. . .

قالوا: سكتّ عن الغناء؟ فقلت: بل

عن أّن أُريقَ على الجحودِ وفائي!

أمّا الغنِاءُ فقد جرت نَغَماتُهُ

مَجرى دمي الدَفّاق في أعضائي

حَسبي من الألحان قلبٌ لم يذقْ

بين الأضالع هَدْأَةَ الإِغفاء

غَرِدٌ كما هَبّ النّسيم وتارةً

كالزّعْزَعِ المجنونةِ الهَوْجاء

رَحْبٌ تَموجُ به اللُّحون كأنها

من كلّ أرضٍ جُمَّعتْ وسماء

أبداً ترفُّ به ملائكةُ الهوى

هذا بمزمار وذاك بناءُ

ومواكبُ الجِنّانِ تعصف وسْطه

وتضجُّ تحتَ الرّايةِ الحمراء

ما ضرّني إن كنتُ عِنْدِي شاعراً

ألاّ يَعدّوني من الشّعراء

لا كان قلبي إن طلبتُ بذوبِهِِ

من كفّ هذا الدهر بعضَ جَزاء!

لا كان شعري إن رفعتُ لواءه

بين الأنامِ على رُفات إبائي!

يستعبدونيَ ويحهم! وأنا الذي

حَطَمَ القيودَ تَمَّردي ومضائي

حلَّقتُ أرمقُ من بعيدٍ ساخراً

ذلَّ العبيدِ الراسفينَ ورائي

هم يصنعون قيودَهم بأكّفهم

وأنا أمدُّ لجانحيَّ جوائي

عشقوا القيودَ كأنما هي حليةٌ

ذهبيةٌ في معْصَم الحسناءِ

واستعذبوا سوطَ القويّ يؤزُّهم

في كلّ صبحِ ناعمٍ ومساءِ

فتمرَّغوا شَغَفاً على أقدامهِ

كي لا يَضنَّ بهذه النَّعماء

لولا غرامُ القيد لم تكن الدُّنا

هذه الُّسجونَ تضيقُ بالسجناء

لولا التَّلَذُّذُ بالأذى ما ألهبتْ

تلك السياطُ نواصِيَ الضَّعفاء

يا من يريدُ تحرّراً من قِدِّه

هلاً بدأتَ بنفسك الشّوهاء

هي بالقيودِ مؤودةٌ لكّنها

ما إن تحسُّ لحرَّها بعَناء

إني نظرتُ إلى العَبيدِ فلم أجد

رقّا كرقّ النّفس والآراءِ

فأشمخْ بأنفكَ رفعةً وتمرُّداً

وذرِ النفاقَ ولا تَدِن بِرياء

وأتركْ لصيحاتِ الطبول فراغَها

واسخر من العظَماء والكُبَرياء

فإذا قيودُكَ قد هوت من نفسها

عن ساعِدَيْك هشيمةَ الأشلاءِ

ص: 56

قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا

في مسمع الأكوان رَجْعُ غنائي

قلبي لقد وسعَ الحياةَ جميعَها

من شقوةٍ وسعادةٍ وهناءِ

والكونُ لحني كله رَتَّلتُهُ

في نشوةِ الإصباح والإمساء

ألفْتُهُ من آهتي وتَبَسُّمي

فاستنشدوه يُعِدْ لكم أصدائي

(باريس)

أمجد الطرابلسي

ص: 57

‌نجوى موسيقية (سيرانادة)

(تحت نافذة المرأة التي لم تخلق بعد)

للأستاذ صالح جودت

ما أنتِ إلا امرأة في الخيالْ

رأيتُها بالقلب رُؤيا المثالْ

لو قَدرتْ ليلةُ قَدْرٍ على

تأويلها، لم أَرْضَ هذا المحالْ

مُنَايَ أن تحيا بفكري ولا

تخطر في الدنيا لغيري ببال

وما أَنانيٌّ أنا، لكنما

أخشى عليها من قلوب الرجال

وهي التي صَوَّرها شاعرٌ

مبتكرٌ أَبدع فيها المقالْ

من عُنصر الوهم اجتلى رسمها

والوهمُ في الدنيا أَعزُّ اللآلْ

آمنت بالله، وما شِمْتُهُ

إلا بعين الوهم خلف الظلال

ونُؤْتُ بالحب وعانيتُهُ

في امرأةٍ من غانيات الخيالْ

كنتُ أنا الباري الذي صاغها

فكيف أُمسي أنا عبد الجمالْ؟

كناحِتِ (العَزَّى) إذا ما رمى

مِعْوَلَهُ، ذلَّ لذات الجلالْ

فهل رأى العالَمُ مخلوقةً

دَلًّت على الخالق هذا الدلال؟

وهو الذي بَارَى بها ربَّهُ

واسترخص الهَدْىَ وأَغْلَى الضلال

وسار في الناس بأوصافها

حتى أحبوها بغير اعتدال

وفتشوا في الأرض عن وكرها

وفي السموات العَوَالي العَوَلْ

تسوَّلَ الناسُ أحاديثها

والناس لا تسأم ذل السؤال

وقيل إني الغيبُ قد لَفَّها

وإِن حُجْبَ الغيب ليستْ تُذَالْ

وقيل في يمناي مفتاحها

وقيل يَطْوِي قَلْبَها في الشَّمال

يا طيبَ ما لاقيتُ في حبها

وطيب قيلٍ في هواها وقَالْ

صالح جودت

ص: 58

‌رسالة العلم

أقصى ما بلغه العلم التجريبي

يستدل العلماء على مرور إلكترونات الأشعة الكونية بسماعها

ويحصلون على صور مسارات هذه الإلكترونات

للدكتور محمد محمود غالي

لو أن الساسة اليوم وجهوا عنايتهم إلى العلماء والعاملين على التجديد العلمي لما كان ثمة شك في الخطوات العجيبة التي يخطوها العلم إلى الأمام، ذلك أن الميراث العلمي بلغ حداً يمكن الإفادة منه أكثر من أي عهد مضى

ولو أن الأموال التي تنفقها الحكومات المتعددة على الاستعداد للحرب وعلى الإكثار من آلات التهلكة والدمار، أخذت طريقاً آخر للخير العام، فأنفقوا جانباً منها على المعامل العلمية؛ ولو أن الساسة أحسنوا استعمال النتائج العلمية التي يتوصل إليها العلماء واستفادوا للخير لا للشر من انتصارات العلم الباهرة لاقتربنا من جيل يختلف كثيراً عن العهد الذي نعيش فيه، ولشهد الإنسان حضارة أرقى كثيراً من الحضارة التي يستمتع بها الآن، ذلك أن العلم التجريبي بلغ حداً تعجب له عندما تقف على بعض تفاصيله الأخيرة

وإني استعرض مع القارئ بطريقة مبسوطة مثالاً في البحث التجريبي وما أصبح له اليوم من قوة، فأدله في هذا المثال على طريقة قياس الأشعة الكونية وتعيين مسارات جسيماتها السريعة التي لا يمكن للعين أن تراها

لو أني ذكرت للقارئ أن وزن الإلكترون هو (10 27)

1060 من الجرام وأن العلماء يستطيعون اليوم رسم صورة

لمساره ويسمعون مروره لما تملكه العجب، ذلك أن النظر إلى

الأرقام لا يدل بطريقة واضحة وسريعة على ضآلة الشيء أو

جسامته، على صعوبته أو سهولته، بقدر ما تدل على ذلك

ص: 59

الأمثلة وما تنطوي عليه من مقارنة

ولو أني ذكرت للقارئ أن الإلكترون هو من الضآلة والصغر بحيث أن النسبة بين كتلته وبين كتلة أحد أزرار البدلة التي يرتديها، كالنسبة بين كتلة هذا الزر وكتلة الكرة الأرضية بأسرها، لعجب القارئ كيف أمكن معرفة شخصية هذا الجسيم المتناهي في الصغر ورسم مساره على الورق الحساس، وكيف يمكن أن نسمع بمروره بيننا، هذه أمور يحار لها العقل

هذا الإلكترون (الوحدة السالبة للكهرباء) وشقيقه البروتون (الوحدة الموجبة) يصل كل منهما بسرعة كبيرة وتتركب جسيمات الأشعة الكونية منهما. ولكل من هذه الجسيمات طاقة تفوق حد الوصف، ومع ذلك فبرغم صغرها وسرعتها يتمكن العلماء اليوم من تسجيل مرور كل منها على حدة ومن رسم مساراتها وسماعها عند مرورها، وهم يضعون لذلك وفي طريق هذه الجسيمات من شباك الصيد والأجهزة الدقيقة ما يساعدنا على سماع إنذار عند مرورها، ومن رؤية آثارها في المادة، وتسجيل الطريق التي مرت فيها

ولعل هذا يدعو القارئ إلى شيء من الدهشة يزيد على دهشته عند استماعه من الراديو حفلة غناء تدور حوادثها بعيدة عنه وهو واقف بسيارته في قلب الصحراء

هذا الإلكترون، الزائر العجيب، كان هدف العلماء؛ هذا الطائر السريع الآتي من عوالم بعيدة ما زلنا لا ندرك مصدرها، كان ولا زال محل اهتمام العلماء لتحقيق شخصيته، وقدرته على اختراق المادة وإحداث التفتت الذري فيها - هذا الجسيم الذي ربما بدأ رحلته حول الكون قبل بدء العصر الكمبري، وهو العصر الذي لم يترك لنا أي أثر من الكائنات الحية على الأرض، لا زال محل بحث المعامل قاطبة لمعرفة كنهه وأثره وطبيعته

ومن يدري! فقد يكون الوقت الذي استغرقته عملية نشوء الكائنات الحية وتطورها من انفيبيا إلى أسماك، ثم إلى زواحف وطيور وثديات وإنسان، لا يُعد إلا فترة بسيطة بالقياس إلى الزمن الذي قطع فيه هذا الجسيم رحلته الطويلة حول الكون المقفل على نفسه ومع ذلك فقد وصل إلى مكان وجد فيه إنسان مُفكر، يستطيع أن يقف على شيء من دخائل هذا الجسيم الصغير، أن يكشفه، أن يرى مساره، أن يستمع مروره؛ بل يضع له شباكاً من ألواح الرصاص السميكة ويرى رأى العين كيف يخترقها طوراً ويتعثر فيها تارة، بل يرى

ص: 60

آثار التهدم الذي يحدثه هذا الزائر السريع في ذرات المادة، ويرى الانفجارات العديدة التي تقع بسبب مروره وبفعله وفعل طاقته العظيمة. وفي الشكل (ا) يرى القارئ صورة لجسيمات الأشعة الكونية وحزمة من الجسيمات الأخرى ويرى هذه الجسيمات الكونية تخترق لوحاً من الرصاص محدداً بالخطين الأفقيين، كما يرى شيئاً من التهدم الذي حدث في هذه المادة. وفي الشكل (2) يرى حزمة أخرى من هذه الجسيمات المتناهية في الصغر، وبالأحرى يرى مواضعها تظهر دفعة واحدة داخل جهاز ولسون الذي سنتكلم عنه في مقال قادم؛ وهذه الحزمات وهي جسيمات من المادة حدثت بسبب الأشعة الكونية التي لها هذه القوة العجيبة من اختراق ما يقابلها من مادة

ولتعرف شخصية جسيمات الأشعة الكونية، إلكترونات كانت أم برويتونات، وتسجيل مرورها، طريقتان:

الطريقة الأولى تنحصر في استعمال جهاز خاص لعد هذه الإلكترونات ويسمونه (عداد الإلكترونات) وفي هذه الطريقة لا يرسم مسار الإلكترون وإنما يستطيع الجهاز أن يَعدّ الجسيمات التي تمر فيه.

والطريقة الثانية تسمى طريقة (غرفة ولسون) ويمكن بها رسم مسارات هذه الإلكترونات أو البرويتونات، وتعيين أثرها على المادة التي تقابلها وسنشرح الطريقة الثانية في المقال القادم.

أما عدد الإلكترونات فهو اليوم أبسط جهاز معروف في العلوم الطبيعية رغم صغر الظاهرة المراد قياسها، ويتكون (شكل3) من أنبوبة معدنية داخلها سلك من النحاس المتأكسد وبطرف الأنبوبة سدادتان حيث لا يجاوز ضغط الغاز داخل الأنبوبة بضعة سنتيمترات من الزئبق، وحيث يتفاوت المجال الكهربائي بين السلك والأنبوبة من 1000 إلى 2000 فولت.

ويتصل السلك الداخلي إما بالإلكترومتر، وإما بمكبر ذي صمام، فعندما يمر في الغاز داخل الأنبوبة أحد الإلكترونات المكونة للأشعة الكونية يحدث عدد من اليونات، وهذه تُحدث زيادة في الظاهرة الكهربائية، وهذه الزيادة البسيطة يمكن بعد أثر المكبِّر للتيار أن تُحدث حركة آلية من السهل أن تؤثر على جهاز آخر تسمع منه ضربة تدل على مرور أحد

ص: 61

الجسيمات الكونية التي مرت في هذا الوقت داخل الأنبوبة.

ومن تتح له زيارة معهد الراديوم في باريز في شارع (بيير كيري) ويصعد برج هذا المعهد يجد جهازاً لعد الجسيمات الكونية حيث تتملكه الدهشة عند سماعها

على أن مرور أي إلكترون سواء من الأشعة الكونية أو من أي أشعة راديومية، يكون مصدرها المواد المستعملة في الجهاز نفسه أو المباني المجاورة، يحدث هذه اليونات داخل الغاز التي يتبعها هذه الضربات

ولكي نميز بين الضربات الحادثة بسبب الأشعة الكونية من الضربات الحادثة بإشعاع آخر محلي، فكر العلماء في وضع ثلاثة عدادات بينها ستائر تمنع مرور الجسيمات الأخرى التي تقل طاقتها عن طاقة الأشعة الكونية

وقد تم توصيل ثلاثة العدادات بحيث لا تسجل إلا مرور الجسيم الذي يستطيع اختراقها معاً، وبعبارة أخرى، لا تسجل إلا جسيمات الأشعة الكونية

وهذه الطريقة كان لروسي الفضل الأكبر في نجاحها وسنأتي شرح طريقة ولسون في المقال القادم.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون.

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 62

‌رسالة الفن

التذوق الفني في الشرق والغرب

للأستاذ محمد السيد المويلحي

أحسب أننا مهما تغالينا في التجني على الغرب باتهامه بالإباحية، وبالاندفاع وراء شهواته اندفاعاً لا يعرف حياء، ولا يقيم وزناً لما اصطلحت عليه الأخلاق من قيود وحدود، فلن نستطيع أن نقول إن هذا هو الواقع، وإننا نصور حالة صادقة لما هو عليه من عادات، ولما هو فيه من حرية فضفاضة سعى إليها سعياً متواصلاً حتى نالها. . .

صحيح أن عاداته تختلف عن عاداتنا، ونظرته إلى الحياة وإلى الأخلاق تتغير عن نظرتنا إليها، ولكن ليس بصحيح أنه أكثر منا اندفاعاً وحباً لشهواته ونزواته. لأنه - على الأقل - يمتاز عنا بأنه ينظم وقته تنظيماً دقيقاً: فيعطي لوطنه، ولبيته، ولعمله ما لا يعطيه لقلبه وملاهيه. ثم هو لا يعرف أبداً التسكع والخمول الذي يحملنا حملاً على أن يجلس الواحد منا طول يومه أو طول ليله على قهوة لا لعمل شيء يعود عليه بفائدة، بل للنظر إلى المجهول أو للعب النرد أو للتفرج على حركة المرور. . .!

بل هو يمتاز عنا بأكثر من هذا: يمتاز بتذوق فني رفيع لا دخل للشهوة فيه أبداً فهو حينما يسمع يسمع بإذنه فقط لا بقلبه ولا بحبه ولا (بجسمه) كما هو الواقع عندنا!

لا يحكم على مطربة من مطرباته بأنها حلوة العينين، دقيقة الشفتين مستقيمة الساقين، ممتلئة الجسم، رقيقة الاسم. . . الخ. بل يحكم عليها بأنها. . قوية الصوت. لامعة النبرة. متمكنة من فنها، واسعة في ثقافتها، مجتهدة في عملها، لا تعتمد في معيشتها وحياتها إلا على صوتها، لا تمنعها دمامتها من احتلال المكانة التي يؤهلها لها صوتها، ولو كانت في الذروة!

نعم لا تستطيع مطربة هناك أن تثبت إلا (بفنها) فحسب مهما بلغ جمالها وحسنها، ومهما نضج جسمها واكتمل سحرها، ومهما سالمت واستسلمت، وصادقت عظماء وطنها وحكامه فلن تكون أكثر من جميلة ساحرة ذات جسم! أما أن تُفرض على شعبها كمطربة، فهذا هو المستحيل الذي لن يكون ولن يعترف به الشعب ولو تبدلت الأرض غير الأرض

ثم إن بناته ونساءه لا يحكمن على مطرب من مطربيهن بأنه صغير السن، جميل الشكل،

ص: 63

أنيق، رشيق، بل يحكمن عليه بقدر ما يتمتع به من قوة الصوت وسلامته، وجمال الإلقاء، والقدرة على التوزيع والتنويع، والتوفيق في إلباس الكلمات والمعاني (الموسيقى) التي تلائمها وتترجمها وتبرزها في إطارها المضبوط الذي تجري السلامة في أعطافه، ويشيع السحر منه!

ثم إن العواطف الشخصية والإعجاب بالكتفين العريضتين، وبالذراعين المفتولين، وبالقوام السمهري، وبالوجه الصبوح؛ كل هذا لا يجعل من الرجل عندهن مطرباً، فإذا تمتع بعد هذا بمال أو بتقدير، فإن هذا لا يكون إلا بشكل فردي شخصي لا يغرم فيه الشعب مليماً واحداً. . .!

لقد كان (بيتهوفن) رجلاً أصم، و (فجنر) شخصاً دميماً. و (موزارت) مهملاً في زيه. فهل منع هذا عنهم التقدير والخلود؟ وهل وقفت عاهاتهم أمام فنهم القوي لتسد عليهم إعجاب الشعب بعملهم. . .؟؟

(وآل جولسون) الأصلع، (ومستنجيت) العجوز الشمطاء، و (بول روبصون) الزنجي، هل ظُلموا في هذا العصر، ولم يُقدروا لأنهم حرموا ما يبعث الحمية في الأجسام عند الغربيين؟ أي شرقي أو مصري بنوع خاص يشجع فناناً شرقياً أو مصرياً ذا عاهة؟؟ وأي مصري الآن يقبل على سماع مطربة (كفيفة) بقدر ما يقبل على سماع المبصرة، ولو كانت الأولى أقوى صوتاً، وأتقن صنعة، وأعظم أداء؟

قد يقال إن المصريين قبل نصف قرن كانوا يبزون الغربيين في هذا فكانوا لا يهتمون إلا بالفن وبالصوت بدليل أنهم رفعوا (عبدة الحامولي) وزوجه (الماس) إلى ذروة التقدير والشهرة مع أنهما كانا من أشد الناس دمامة وقبحاً. . . وقد يقال إن العرب أنفسهم كانوا من أشد الناس تقديراً للفن وحده بدليل أنهم أفسحوا مكاناً محسوداً (لأبن سريج) الذي بلغ من قبحه ودمامته أنه كان يطرح على رأسه ووجهه غطاء حين الغناء. . . حتى لا يفسده بشكله. . .

وهذا صحيح لا مرية فيه، وهذا ما امتاز به العربي عن الغربي من قرون إبان أن كان الموسيقار العربي يعيش معززاً مكرماً والموسيقار الغربي ممتهناً يعيش كما يعيش المنبوذ المحروم من أبسط مظاهر الحياة وهي نعمة التمتع بالإنسانية وبالوجود. إبان أن كان يقتل

ص: 64

كما يقتل الكلب فلا يكون جزاء قاتله إلا ضرب (ظله) بالسيف. . .!

قد يقال هذا وأكثر منه ولكن بحث اليوم ومقارنة الساعة لا تنسحب على الماضي وإلا كان هذا أدعى إلى تعنيفنا إذ كيف يستسيغ الإنسان هذا التطور الأخلاقي السريع الذي لا يسير إلا منحدراً. . .؟؟

لقد كان آباؤنا وأجدادنا من خمسين سنة أسلم منا حكماً وأعدل تقديراً، وأضبط عاطفة، وأسمى غرضاً

كانوا لا يعيشون لشهواتهم وجسومهم كما نعيش نحن الآن مع أنهم لو فعلوا ما استطاع اللوم أن يصل إليهم فقد كانوا أوفر منا مالاً وأقل انشغالاً بتهيئة وسائل المعيشة. وكانوا أقرب إلى (الفطرة) منا إليها، وكانت جميع المحرمات والممنوعات التي تستلب الإحساس وتمنع التقدير السليم موفورة لديهم، ومع ذلك كله استطاعوا أن يقدروا الفن ويتساووا مع الغرب الآن. . . أي أنهم كانوا يعيشون من نصف قرن كما يعيش الغرب الآن من حيث تفكيره وتقديره الموسيقي. . .!

قد يكون للاحتلال نصيب، وقد يكون للانحلال الأخلاقي الذي يتغلغل في عظمنا ونفوسنا نصيب، وقد يكون لتلك النفوس التي طبعت بطابع الزلة بعد الحرب وبعد الثورة المصرية نصيب

تلك النفوس التي استساغت هذا اللون المسترخي وهذا التخنث الذي يطفح من كل أغنية، ثم تدرجت بعد هذا إلى السيطرة على بقية النفوس حتى أصبحنا ونحن على هذا الحال البغيض

فالجمهور لا يشجع إلا الجميلة من المطربات أو الظريفة منهن أو كثيرة الأصدقاء. . .

هبط معيار التقدير حتى أصبح منحصراً في الجسم وفي كل ما يرضي الجسم. أما الروح. أما الفن بصرف النظر عن كل شيء فلا. . .!

ولهذا أصبح جونا الموسيقي جو جسم بحت، وأصبحت تربته لا تنبت ولا تصور إلا الشهوة. أما الصوت، أما الفن، فهذه أشياء تافهة في عرف الذوق الشرقي عامة والذوق المصري خاصة!

محمد السيد المويلحي

ص: 65

‌رسالة المرأة

آداب إنجليزية

مأدبة العشاء الرسمي

للآنسة زينب الحكيم

ترتيب المائدة وما يترتب عليها

ولائم العشاء من أهم أشكال العزائم عند الإنجليز. وإنه لمن الفخر في العرف الإنجليزي أن يدعى الإنسان لوليمة عشاء أكثر من أن يدعى لوليمة غداء، أو لشاي بعد الظهر، أو لسهرة بسيطة في المساء، فإن وليمة العشاء غالية الثمن، لا يدعى إليها إلا علية القوم، ولذلك فهي إكرام له قيمته وأهميته. وعلى ذلك لا ينتظر من الأفراد صغيري الموارد ومتوسطي الحال أن يقوموا بولائم كهذه. وليس معنى هذا أنهم لا يستطيعون عمل ذلك في محيطهم الخاص وإنما نقصد إلى أن المفروض في ولائم العشاء الرسمية أن تكون مستكملة اللوازم والمسرات والإكرام

الدعوة لوليمة العشاء

كيف ترسل الدعوى؟

إما تكتب على شكل مذكرة، أو تطبع على بطاقة، وعادة ترسل قبل الميعاد بعشرة أيام إلى ثلاثة أسابيع حسب أهميتها بالنسبة للغرض الذي تقام من أجله، وبالنسبة للفصل من السنة

فتكون مهلة الدعوة أطول إذا كان الفصل فصل عمل، فتراعى ظروف الأفراد، ويقدر أن كل واحد عنده مشاغل كثيرة

وتكون المهلة أقصر في الأوقات الأقل مشغولية (وبالطبع لكل قاعدة شواذ)

فإذا كان يتراوح عدد المدعوين بين 12و18 فمهلة أسبوعين أو ثلاثة كافية لأن تكون الدعوة بين أيدي المدعوين لكي يوجدوا لها وقتاً من بين أوقاتهم

وعشرة أيام إلى ثمانية عشر يوماً تكفي إذا كان عدد المدعوين 8 - 12 شخصاً، وأسبوع أو ثمانية أيام كافية جداً لوليمة تقام لأصحاب قريبين من الجيران حيث الولائم قليلة. والأسرة التي ليس لها معارف يحسن بها أن تترك مهلة أطول لمدعويها خلاف الذين لهم

ص: 67

معارف كثيرون وفي استطاعتهم اختيار مدعويهم من بينهم

وإذا كانت الوليمة صغيرة كأن كانت لستة أو ثمانية أشخاص فيمكن دعوتهم بالتلفون، على أنه يحسن تأكيد دعوتهم ببطاقات أو خطابات

ويستطيع المدعو أن يحكم على نوع الوليمة كبراً وصغراً وأهمية من الزمن المتروك بين تاريخ إرسال الدعوة وميعاد الوليمة

الضيف الذي لا يبالي

الضيف الذي لا يبالي بعواقب الأمور هو الذي يهمل الرد على الدعوة الموجهة إليه؛ فإن كانت بالإيجاب فليرسل رده تواً، فليس من الحزم ولا من المروءة أن تترك المضيفة حائرة غير متأكدة من العدد الذي سيلبي دعوتها ممن دعتهم

وليكن معلوماً ومقدراً أنه لن يزيد من مقدار الشخص الذي توجه إليه دعوة لوليمة عشاء أن يرفضها برفق. فإن هذه الدعوات يجب أن تلبى إلا إذا وجدت ظروف قهرية حقاً تمنع من قبولها، وهنا يصح أن يعتذر عنها بكل أدب وأناقة ممكنين

أما الأفراد الذين يتركون اعتذارهم أو قبولهم الدعوة للوليمة لآخر الوقت، يقل توجيه الدعوات إليهم تدريجياً، وبذلك ينسحبون من المجتمع على الرغم منهم

السيدات والرجال في الوليمة

يلاحظ في الولائم المدعو لها سيدات ورجال، أن يكون عدد الفريقين متساوياً بقدر الإمكان، لأن من نظام ولائم العشاء الإنجليزية أن تحادث كل سيدة الرجل الذي صحبها إلى حجرة المائدة ويجلس عادة إلى يسارها، وكذلك تتحادث إلى الرجل الذي عن يمينها - وبما أن هذا تقليدٌ من التقاليد التي يجب أن تنفذ أثناء الجلوس حول المائدة فيتحتم أن يراعي الجميع آداب المحادثة، وأن يكونوا جميعاً طيبي السمر والحديث. لهذا كان من أول واجبات صاحبة الدعوة أن تراعي تناسب أماكن الأفراد بعضهم إلى جانب بعض حول المائدة. وإذا لوحظ أن البعض لا يستحسن صحبة من جلس إلى جانبه فلينقل إلى محيط آخر بلباقة حتى يمضي وقتاً سعيداً. غير أن التوفيق بين الشخصيات ليس سهلاً وبذلك يتعقد الموقف قليلاً أحياناً.

ص: 68

بقيت مسألة هامة، تلك هي أن يراعي دعوة الزوج مع زوجه إلا إذا حالت ظروف طارئة دون ذلك. والمضيفة اللبقة هي التي تستطيع توجيه زوارها وزائراتها إلى الوجهة التي تؤدي إلى إنجاح وليمتها دون أن يشعر أحد بما ترمي إليه، كأن تسوق الحديث إلى موضوعات نقاش وسمر تسر الجميع، ولا تتعرض للشخصيات ولا للأحاديث غير المرغوب فيها، كالتي تعطي فرصاً للبعض لإظهار دخائل نفوسهم بالمناسبات

والفرد الذي يقبل الدعوة لوليمة عشاء، يجب عليه أن يقدر مسئوليته بالنسبة لمضيفته، ولهذا يجب أن يضبط نفسه ويؤدي واجباتهِ نحو من كلف رعايتهن ولو لم يكن ممن كان لا يفضلهن لو ترك له الخيار في مجالستهن

مواعيد ولائم العشاء

تختلف من الساعة 7. 45 إلى الساعة 8. 15 ويقدم العشاء في الثامنة والنصف في الحالة الثانية. أما الحالة الأولى 7. 45 فهي المحببة لدى (الفئة المحافظة)

وهذه المواعيد تتبع بدقة، لهذا يتحتم على المدعوين أن يحافظوا عليها بدقة أيضاً. والتأخر عن ميعاد العشاء يعتبر من قلة الذوق، كما لو وصل الزائر إلى بيت داعية متقدماً أكثر من خمس أو ست دقائق قبل الميعاد المحدد.

استقبال الزوار والتعارف

يجب أن يكون المضيف والمضيفة على استعداد تام في حجرة الاستقبال قبل الموعد المحدد بعشر دقائق على الأقل. ويلزمهما التسليم باليد على ضيوفهما، وعند وصول المدعو إلى المنزل المقصود لا يجب عليه أن يسأل إذا كانت ربة البيت موجودة فإن هذه مسألة لا شك فيها. وعند دخول الزائرة بهو المنزل، تخلع معطفها وتسلمه للخادمة الموجودة به إلا إذا دعيت للذهاب إلى الحجرة الخاصة بوضع أمتعة الزوار، فيمكنها ترك معطفها أو أي شيء آخر.

وفي الولائم الكبيرة يقف رئيس الخدم بالمنزل على الدرج الصاعد إلى حجرة الاستقبال إذا كانت بالطابق العلوي، أما إذا كانت بالطابق الأول فيقف بالصالة أو المدخل، ويفتح الباب خادم آخر، ويأخذ خادم ثالث أغطية الرأس والمعاطف من الرجال.

ص: 69

أما في حالة السيدات فالخادم في خدمتهن كما تقدم.

وعمل رئيس الخدم هو أن يسأل الزوار عن أسمائهم، ويجب أن تعطى له واضحة صحيحة، وعليه أن يفتح باب (الصالون) ويذكر اسم الزائر عند دخوله إليه.

وعادة يدخل الزوج والزوجة أحدهما إلى جانب الآخر، أو متأبطي الذراعين، وسواء دخلا متفرقين أو مجتمعين فإن الخادم يعلن اسميهما مقترنين فيقول مثلاً: السيد فلان والسيدة فلانة أو الآنسة فلانة.

وبعد أن يحي أصحاب الدار زوارهم تجلس السيدات؛ أما الرجال فيبقون وقوفاً يحادث بعضهم بعضاً، أو يحادثون من يعرفونهم من السيدات. فإذا وجدت إحدى الزائرات أن لها من الحضور عدداً موفوراً تعرفه، فلا يحسن بها أن تدور في الحجرة لتسلم عليهم جميعاً. بل تسلم على القريبات والقريبين منها، وتكتفي بتحية الأخريات البعيدات بانحناء الرأس أو الابتسام، وإذا كان لها معارف من الرجال فتحيهم بالانحناء، وإذا لم يكن يتحدث إلى أحد، فعليه أن يذهب إليها ويحادثها.

التعريف

وإذا كانت الوليمة صغيرة فعلى المضيفة أن تقوم بتعريف الزوار بعضهم ببعض إذا لم يكن قد سبق لهم المقابلة، أما في الولائم الكبيرة فهذا العمل غير ممكن، ولو أن ربة المنزل تقدم بعض زوارها لبعض قدر ما يسمح لها وقتها بالمناسبات وملاءمة الفرص.

ترتيب جلوس المدعوين حول المائدة

تجلس السيدة أكبر الحاضرات مقاماً إلى يمين رب الدار، ويجلس الرجل الذي في مستواها إلى يسار ربة الدار

ويبقى المضيف واقفاً في مكانه على المائدة حتى يأخذ جميع المدعوين مقاعدهم، وعليه أن يكون عالماً بالمكان الذي يجلس فيه كل شخص وأن يكون مكانه متناسباً وحالته، وعلى رئيس الخدم أن يعلم ذلك أيضاً. أما في الولائم الكبيرة فتوضع بطاقة باسم المدعو في المكان المعد على المائدة

ويراعى في جميع الولائم صغيرها وكبيرها أن تجلس السيدة إلى يمين الرجل الذي

ص: 70

يصحبها إلى حجرة المائدة. وفي ولائم العشاء لا يقصر المدعو حديثه على من صحبها فقط ولا هي أيضاً وإنما يكون التحادث لكليهما مع من يجلسون بجوارهما من الجانبين

متى يرحل الزائر

ينصرف الزائر نحو الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة إذا كان ميعاد الوليمة مبكراً إلا إذا أقيمت سهرة موسيقية أو تسلية أخرى مما يجري في العادات الإنجليزية (كالرقص أو اللعب بالورق) فيمكن إطالة المكث بحيث لا يتعدى الساعة الحادية عشرة والنصف إلى الثانية عشرة.

عند الانصراف

في حالة تناول زوجين عشائهما في غير منزلهما، على السيدة أن تلاحظ الانصراف في الوقت المناسب فتملي إرادتها بلطف ودقة على زوجها فينصرفان دون قطع محادثة طريفة، أو حديث في موضوع هام. وعلى كل زائر وزائرة أن يحيي المضيفة تحية الوداع، ويسلم على باقي المدعوين إذا كانوا قريبين منها. ويكون السلام على أصحاب المنزل باليد، ويمكن عمل ذلك مع المعارف إذا لم يترتب عليه إقلاق المجتمع وإلا فالتحية بالانحناء تكفي. ولا بأس من أن يذكر لربة الدار بعض جمل الشكر والاستحسان على الوقت الجميل الذي أمضوه عندها، ويراعي الأفراد ألا يشغلوا ربة الدار أكثر مما يجب، فإن عليها أن تجامل كل مدعويها ومن واجب كل أن يساعدها على ذلك

وعلى رب الدار أن يودع الزوار حتى باب الصالون أو إلى الصالة إذا استطاع ترك باقي الزوار منفردين.

تحية الانصراف

من العادات الإنجليزية تقديم تحية الانصراف، فتوضع منضدة صغيرة خارج حجرة الاستقبال أو في مكان قريب منها، ويكون عليها مشروبات باردة، وسجاير تقدم وقت الانصراف

خلع القفازات

على كل سيدة تجلس إلى مائدة العشاء وهي لابسة قفازيها أن تخلعهما تواً. فإذا كان خلع

ص: 71

القفازين من يديها يستدعي بعض الوقت، فعليها أن تضع فوطتها على حجرها حتى لا يقدم إليها الحساء وهي غير مستعدة

استخدام فوطة المائدة وآنية غسل الأصابع

على الزائر أن يبسط الفوطة ويضعها على حجره، ولا تستعمل فوطة المائدة كمناشف للأيدي فالغرض منها حماية الملابس أثناء تناول الطعام، وتلمس بها الشفتان عند الضرورة القصوى فقط. وقد تجفف بها الأصابع برفق بعد وضعها في آنية غسل الأصابع بعد الفاكهة ولا تطبق الفوطة بعد تناول الطعام بل تترك على طرف المائدة

ص: 72

‌من هنا ومن هناك

النازية فكرة مؤلف إنجليزي - نقلا عن مجلة تيت بيتس

يقول الفريد روزنبرج وهو من اخصاء الفوهرر، أن أول من مهد الطريق أمام مؤسس ألمانيا الحديثة هو رجل إنجليزي

والحقيقة أن أول من أوحى فكرة النازية هو رجل من هامفشير وليس جندياً من أوستريا كما يزعمون. لقد كان لهذا الرجل نفوذ عظيم في ألمانيا ما زال يزداد وينمو سنة بعد أخرى وقد كتب ثلاث تراجم، ونشر عنه منذ توفي عام 1927 ما لا يحصى من المقالات على صفحات الجرائد الألمانية بأقلام زعماء النازي المعروفين

من هو ذلك الإنجليزي العجيب؟ ذلك هو هوستن ستورد تشمبرلن. وهو من الأسر الإنجليزية العريقة المعروفة في إنجلترا كما يتبين من أسمه. ومن المأثور عنه أنه كان يقول أول ما سكن ألمانيا (إن أبي إنجليزي وأمي من اسكتلندة وجدتي من ويلز فيحق لي أن أقول إنني ابن حق لبريطانيا العظمى) وقد درس علم النبات والطب في جامعة جنت وسمع أوبرا واجنر في بيروت وقرأ جيتي وكانت في ورسدن. وقد استولى عليه شغف جنوني بكل ما هو ألماني، من أدب إلى موسيقى إلى علم إلى فلسفة إلى صناعات وآلات حربية تدهش العقول

وأتيح له أن يتقن اللغة الألمانية أيما إتقان، حتى أصبح يفضل الكتابة بها على الكتابة بلغة بلاده؛ ومن ثم كان يكتب بها كل مؤلفاته

وقد هداه البحث إلى كتابة تاريخ للعالم أسماه أصول القرن التاسع عشر برهن فيه على أن خير الطرق لفهم شعب من الشعوب هي أن تفهمه في ظل تاريخ المدينة وأطوارها

ودلل على أن كل رقي أو نجاح في أوربا الغربية، كان منشأه الجنس الآري الذي نزح إليها في الأصل من شمال الهند، وانحدرت منه السلالة التوتونية الموجودة الآن. وزاد على ذلك، أن المدينة الغربية لا يمكن الأخذ بناصرها إلا إذا سادها قبيل شديد من الجنس الألماني العريق

وقد نال هذا الكتاب رواجاً عظيماً في ألمانيا بصفة خاصة. واشترى منه القيصر ولهلم الثاني ألفي نسخة ليجعلها هدايا لمن يريد وصار منذ ذلك الوقت صديقاً شخصياً لهوستن

ص: 73

تشمبرلن

وفي سنة 1908 أو سنة 1912 وقع هذا الكتاب في يد شاب نكد، لا عمل له في فينا

وهنا ظهر الإنجيل الذي يبحث عنه أودلف هتلر الشاب! فقد أوحت إليه نظرية هوستن تشمبرلن، سر كل ما يحيط به من العار والشرور

متاعب إيطاليا في الحبشة - ملخصه عن لورب نوفيل

نشرت صحيفة (كريتكا فاشستا) التي تصدر في روما نبذة عن مركز القوة الإيطالية في الحبشة نقلاً عن مراسلها الخاص جاء فيها: (لقد أصبحنا الآن في حالة نستطيع فيها أن نصرح بأن مركز إيطاليا في إمبراطوريتها آخذ في الانحدار. ويظهر هذا بجلاء في أديس أبابا أكثر من غيرها يوماً بعد يوم. ويستطيع الإنسان أن يشعر بذلك في أحاديث الناس وفيما تكتبه الصحافة نقلاً عن مراسليها وفيما ينقله إلينا أصدقاؤنا وزملاؤنا الذين يهتمون بشئون الحبشة)

ونحن لم يغب عن ذهننا بعد تلك الحملات التي وجهتها الحكومة الإيطالية إلى بريطانيا وفرنسا أثناء الحرب الحبشية، ولا تلك المزاعم الخرافية التي كانت تدعيها عن الكنوز والخيرات التي تنتظرها في تلك البلاد، مما جعلها تنجح في تهيئة الرأي العام في إيطاليا إلى استعمارها

فماذا وراء هذا التغير الملحوظ الذي طرأ بعد ثلاث سنوات من فتح الحبشة؟

إن هناك تقارير لا تحصى عن المصاعب الحربية والاقتصادية التي تلاقيها إيطاليا في بلاد النجاشي، ونحن وإن كنا لا نستطيع أن ننكر رسوخ أقدامها في تلك البلاد، إلا أن التقارير التي ترد عن المصادر الإيطالية نفسها تدل على أن الحرس الحربي ضروري لإجراء أي عمل فيها، وأن الحالة في إيطالية بعيدة عن المألوف.

ويظهر أن الناحية الاقتصادية في هذه المسألة أشد بكثير مما يتصوره العقل. وقد كتب الجنرال تروزي السكرتير الثاني للإدارة الإفريقية في إيطاليا تقريراً على جانب كبير من الصراحة في هذا الموضوع، وقد ظهرت مقالات شتى بهذا الصدد في الصحف الإيطالية على اختلافها.

ويلاقي الإيطاليون مصاعب لا حد لها في مجاراة الحالة الاقتصادية المألوفة لدى السكان.

ص: 74

ومن الغريب أنهم لم ينجحوا بعد في إحلال الليرة الورقية محل العملة الفضية القديمة التي كان يصدرها النجاشي باسم ماريا تريزا، حتى اضطروا إلى إصدار قطع فضية جديدة من هذا النوع كان لها تأثير كبير في هبوط أسعار الليرة الإيطالية.

ولقد وضعت إيطاليا يدها على الشئون التجارية في الحبشة، كما وضعت يدها على مصادرها الطبيعية، ولكن تروزي يقول في تقريره: إن الأحباش لا يقبلون على شراء المصنوعات القطنية التي ترد من إيطاليا، لأن القطن الذي تصنع منه ممزوج بأنسجة قصيرة تجعله أقل صلاحية من غيره، ولقد سقطت هذه التجارة في الحبشة إلى درجة شديدة.

أما ما كانت تنتظره إيطاليا من الأرباح في تصدير البن، فقد ظهر أن الأجر والتكاليف التي تدفع فيه تقضي على كل أمل في ذلك، وهكذا الشأن في باقي المحصولات.

وقد يكون من المستطاع التغلب على مثل هذه الأحوال، ولكن إيطاليا التي استنزفت في الحرب الأسبانية، وأنفقت الأموال الطائلة في التسليح، قد أعوزها المال والرجال لاستثمار تلك البلاد.

ومما يستحق الذكر أن العمال الإيطاليين الذين لم ينقص عددهم سنة 937 عن 115 ألفاً قد نقصوا إلى 38 ألفاً في مارس سنة 938 و21 ألفاً في شهر يوليه من العام المنصرم.

الحقيقة في المشكلة الفلسطينية ملخصة عن (ذي ساين)

بدأت أسباب الثورة تظهر في فلسطين منذ بدأت التجربة الصهيونية فيها، ولكن تلك الأسباب قد أخذت في الازدياد تحت تأثير الظروف الحاضرة، وقد تزعزع النفوذ لبريطاني نوعاً ما في تلك البلاد، بعد أن أظهرت إيطاليا عدم احترامها لقواعد عصبة الأمم، وفهم العرب الذين لا يقدرون المثل العليا التي تعلن في جنيف أن تلك السياسة السلمية تستند إلى القوى الحربية دائماً

ولقد أخذت علاقة العرب باليهود في فلسطين تضعف باستمرار هجرتهم إليها، وأعلنوا الثورة على القانون ليضطروا الحكومة البريطانية إلى تغيير سياستها نحوهم

إن المرء ليتساءل عن الأسباب التي تدعوا إنجلترا إلى ذلك النظام الذي أنشئ لمصلحة اليهود، مع ما في عملها هذا من إضعاف مركزها في تلك البلاد التي نالت فيها مزايا

ص: 75

عظيمة بعد ذلك الانتصار الذي أحرزه لورد اللنبي لها؟ إن حكم هذه البلاد كان من أهم نتائج الحرب العظمى، فلماذا تضع إنجلترا مركزها في تلك البلاد في ذلك الموقف الشائك الذي سبب لها كثيراً من الارتباك؟ مع أن هذا النظام لم يطلبه الرأي العام في انجلترا، ولم تناد به هيئة قوية في مجلس الجيش!

إن الرأي الحقيقي في هيئة الجيش لم يعلن بعد، ولكن هذه الفكرة قد نبتت في وقت عصيب كانت فيه جيوش الحلفاء في أشد الحاجة إلى المساعدة المالية التي قدمها إليهم اليهود إذ كانت جيوشهم تحت ضغط عظيم. تلك الروح الطيبة التي ظهروا بها أمام العالم كان لها أبلغ الأثر في تصريح بلفور الذي جاء في نوفمبر سنة 1917

لقد كان بلفور سكرتيراً أجنبياً للحكومة الإنجليزية في ذلك العهد، ولكنه كان أكثر اهتماماً بالحركة الصهيونية من كل شخص فيها. وعلى الرغم من أن هذه الحركة قد طبعت بطابعه وظهرت تحت اسمه، فقد أعلن أنها عملت برضا حكومة الحلفاء. وظاهر أن الحركة الصهيونية تشمل ألمانيا والنمسا وغيرها من بلاد العالم

ولقد تضمن هذا التصريح إشارة من الحكومة الإنجليزية بأنها تنظر بعين الاعتبار إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وأنها تبذل كل ما في وسعها في ألا يمس هذا الحقوق المدنية والدينية للمقيمين فيها من غير اليهود

ولا نذيع سراً إذا قلنا إن أكثر الأعضاء الذين وافقوا على ذلك لم يكن لهم رغبة ملحة في تلك التجربة، ولكن بعض رجال الجيش رأوا أن الشعب اليهودي على ما هو معروف عنه من الذكاء والرقي مشتت في بلاد العالم، دون وطن يلجأ إليه، فتحمسوا للفكرة على سبيل العطف في ذلك الحين

إن للمسألة الفلسطينية أهمية أكبر مما يتراءى. وليس الأمر فيها على إثبات حسن نية اليهود أو سوء نيتهم، أو انتشار التجارة البريطانية أو كسادها؛ ولكن الأمر أهم من ذلك بكثير إذ أنه يتعلق بمركز بريطانيا في البحر الأبيض المتوسط

إن الانتصار الذي أحرزته إيطاليا في الحبشة قد أصبح يهدد المواصلات البريطانية بلا شك، فإذا لم تعمل معها اتفاقات متينة واسعة النطاق في هذه الظروف فمن الواجب تقوية الأسطول الإنجليزي عدة سنين

ص: 76

فإذا كان الأمر كذلك فإن الأنظار لتتجه نحو فلسطين كقاعدة ذات أهمية لا يستهان بها للجيوش الإنجليزية

إن مركز بريطانيا في الشرق الأوسط قد أصبح مهدداً بعد انتصار موسوليني في بلاد الحبشة

فإذا كانت بريطانيا لا تستطيع أن تحكم فلسطين فإنها عند ذلك تكون أقل مقدرة من إيطاليا، إذ تكون قد عجزت عن حكم بلاد أخذتها باعتراف عصبة الأمم

ص: 77

‌البريد الأدبي

بين مصر وفرنسا

أصدرت جريدة (الطان) عدداً خاصاً عن مصر، وهو عدد نفيس يقع في عشرات الصفحات، وفيه أبحاث طريفة عن وجوه النشاط الأدبي والاقتصادي، وهو تحية يراد بها توكيد ما بين مصر وفرنسا من صلات

وهذا العدد مفتتح بكلمتين كريمتين:

أما الكلمة الأولى فهي رسالة وجهها حضرة صاحب الجلالة ملك مصر إلى فرنسا. وأما الكلمة الثانية فهي رسالة وجهها حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية إلى مصر.

وافتتاح العدد بهاتين الرسالتين يمثل الاحتفاء بتجسيم عواطف المودة بين الشعب المصري والشعب الفرنسي

وفي الرسالة الأولى يقول حضرة صاحب الجلالة ملك مصر: (أريد أن أقول لفرنسا: إني أعرفها وإني أحبها

(أعرفها في ثنايا تاريخها الطويل الشائق، وفي مناحي آدابها وفنونها. . .

(أحب علمائها وفلاحيها وصناعها. أحب أناقتها، وأحب أيضاً بساطتها العائلية، وأحب وطنيتها وكرمها

(أحبها في أحيائها وفي أمواتها: أمثال شامبوليون ومريت ودي لسبس وسليمان باشا)

وفي الرسالة الثانية يوجه فخامة رئيس الجمهورية الفرنسية تحية طيبة إلى مصر ويرجو أن تواصل جهودها في طريق التقدم الخلقي والاقتصادي والسياسي برعاية مليكها الشاب الذي تحفظ له فرنسا أطيب الذكريات

ونجد بعد ذلك تحية ثانية موجهة إلى مصر من وزير الخارجية الفرنسية، وتحية ثالثة من وزير فرنسا في مصر، ثم تحية موجهة إلى فرنسا من وزير مصر في باريس

وبعد هذه التحيات الرسمية التي تبلغ النهاية في الكياسة واللطف نجد كلمة المسيو دي كومنين عن حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق؛ وهي كلمة في غاية من العذوبة صور بها شمائل الملك المحبوب أجمل تصوير، وفيها تجلت عبقرية الوصف في الأدب الفرنسي

ص: 78

إذ يقول:

(نبيلٌ عظيم، أشقر بعيون زرق، له ابتسامة الفتاة وضحكة العملاق. . .).

ثم نجد كلمة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا عن مصر الحديثة؛ وكلمة صاحب الدولة عبد الفتاح يحيى باشا عن مركز مصر الدولي؛ وكلمة صاحب المعالي الدكتور أحمد ماهر عن مركز مصر المالي؛ وكلمة صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا عن التربية والمدينة؛ وكلمة صاحب المعالي الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك عن الاتجاهات الدينية في مصر الحديثة؛ إلى آخر ما في هذا العدد من شائق البحوث.

وقد وقفنا طويلاً عند الكلمة الشائقة التي كتبها سعادة صديق بك عن: (مصر وطن الإنسانية). وقد كتبها بروح شعري جذاب، ودعا إلى زياتها عشاق المعاني من أصحاب الأذواق

قلت: إن هذا العدد نفيس، وإنه يؤكد ما بين مصر وفرنسا من صلات

فلم يبق إلا أن أنظر إليه نظرة نقدية: فما الذي فات من اهتموا بتنظيم هذا العدد من الطان؟

كنت أحب ألا تغلب عليه هذه الصبغة الرسمية التي جعلت أكثر كتابه من الوزراء وأصحاب الشأن في الميادين الاقتصادية والسياسية.

كنت أحب أن يكون في هذا العدد مكان ظاهر للحياة العلمية والأدبية والاجتماعية. كنت أحب أن يكون فيه فصل عن الصحافة والتأليف، وفصل عن تطور الحياة التعليمية في المعاهد العالية، وفصل عن تأثير مصر في توجيه الحياة الأدبية والعلمية بالشرق. . .

وذلك كان يوجب على مراسل (الطان) في مصر أن يستعين بجهود المشتغلين بالصحافة والتأليف والتعليم. ولو أنه فكر في ذلك لوصل هذا العدد إلى الكمال المنشود.

وهذه النظرة النقدية لا تمنع من تكرير الاعتراف بأن هذا العدد قدم مصر إلى قراء (الطان) بروح مشبع بالحب والجاذبية، فإلى تلك الجريدة العظيمة نوجه أصدق الثناء.

زكي مبارك

أبو تمام - والأستاذ عبد الرحمن شكري

لا أظن أن أديباً عربياً عُني بأبي تمام كما عنيت به، فقد بالغت في مطالعة ديوانه أيما

ص: 79

مبالغة، وجمعت أمثاله وشرحتها شرحاً طويلاً، نشرت منه أكثر من ستين صفحة في إحدى المجلات، واخترت طائفة من شعره سميتها (جوهرة الجوهر من شعر الطائي الأكبر) نشرت في مجلة، وربما كان (البيت الميمي) مما جمعتُ واخترت. ولما رجعت إلى الصفحة (409) من طبعة الديوان التي أشار إليها الأديب الكبير (الأستاذ عبد الرحمن شكري) - أدام الله نفع العربية بطول بقائه - وجدتني قد خططت عند ذلك البيت خطًّا علامة اختيار

وإذا ما شاء الله أن يضل العالم أو الأديب في الأحايين فمن أين نظفر بهذه الثروة الأدبية اللغوية الضخمة الفخمة في النقد؟ وكيف تتجلى الحقائق التجلي الباهر التام؟ وهل أغلاط نوادر أبي زياد الكلابي، وأغلاط نوادر أبي عمرو الشيباني، وأغلاط النبات لأبي حنيفة الدينوري، وأغلاط الغريب المصنف، وأغلاط إصلاح المنطق، وأغلاط الجمهرة، وأغلاط المجاز لأبي عبيد، وأغلاط كامل المبرد، وكتاب التصحيف للحسن العسكري، وأغلاط الجوهري للصلاح الصفدي، والتنبيه على أوهام أبي علي في أماليه، والفلك الدائر على المثل الثائر. والجاسوس على القاموس لأحمد فارس الشدياق، وأغلاط أكبر لغوي وأكبر أديب في هذا العصر التي لم تظهر بعد. فهل كل ذلك إلا من فضل ضلال العلماء؟

وإن (وهماً) أفادنا تلك الفائدة، وأدى إلى ذلك التحقيق (الشكري) الكريم المشكور - لخليق بما هو به خليق. . .

جاء في كلمة الأستاذ شكري: (وأرجو أن يسامحني الأستاذ الجليل في هذا البيان). أما بيان الأستاذ الكبير فهو مما يشكره مثلي كل الشكر عليه، وأما سؤال (المسامحة) في الجملة فإني أسامح الأستاذ فيه هذه النوبة لإحسانه إلى العلم وإلى بيانه

(القارئ)

في ذكرى الهراوي

في أواخر الأسبوع المنصرم - والرسالة تحت الطبع - أقام أصدقاء (الهراوي) وإخوانه حفلاً لتأبينه بمسرح حديقة الأزبكية؛ فخطب الدكتور منصور فهمي بك، وأنطوان بك الجميل، وعبد الله بك عفيفي، والأستاذ عبد الوهاب خلاف؛ وأنشد الأساتذة الأفاضل: أحمد

ص: 80

الزين، وحسين شفيق المصري، وأحمد محرم، والأسمر، والماحي، وناجي قصائد من الشعر

هذا خبر قد أذاعته الصحف اليومية، ونشرت كل ما قيل في الحفل من نثر وشعر. ولكنا نريد أن نشير هنا إلى معنى قد لحظناه من ذلك الحفل؛ ذلك أن قيام مثل هذا التأبين إنما هو في الواقع مظهر من مظاهر الوفاء والخلق الطيب عند الأحياء. ونحن إذ نسأل عن مدى هذا المظهر في تأبين الهراوي وذكراه نجد الجواب لا يسر، فإن الذين قاموا بتأبين الهراوي من إخوانه وأصدقائه الأوفياء قد توجهوا بالدعوة إلى رجال القلم والأدب في مصر على اختلاف مذاهبهم وألوانهم، ولكن دعوتهم مع الأسف لم تقع موقع القبول إلا عند الرجل النبيل معالي وزير الأوقاف، ومعالي وزير الحقانية، والسيد الببلاوي، وصاحب الرسالة، ونخبة من رجال الصحافة، وطلاب الأزهر والجامعة ودار العلوم إلى جانب أسرة الشاعر وإخوانه الذين حفلوا بتأبينه!

أما وزير المعارف الأديب، وأما الأستاذ لطفي السيد الذي عمل معه الفقيد فترة من الزمن، وأما رجال لجنة التأليف والترجمة والنشر وقد كان الهراوي عضواً بارزاً في جماعتهم، وأما الدكتور زكي مبارك صديق الهراوي على مر السنين، وأما رجال الأدب الذين يتولون زعامته، ويزعمون رعايته، فكل هؤلاء كان تأبين الهراوي، بل قل كان الأدب أهون عندهم من أن يلبوا نداءه ويؤدوا واجبه!

(م. ف. ع)

كتاب حياة الرافعي

أخي الأستاذ سعيد العريان

أشكر لك تفضلك بإهدائي كتابك (حياة الرافعي)، وأهنئك مخلصاً على ما أصبت من توفيق يكاد يكون منقطع النظير.

لقد قرأت الكتاب في ثلاثة أيام، وما أعرف أني استمتعت بكتاب ككتابك - وفي موضوعه - منذ أمد بعيد. نعم، أذكر كتاب (أناتول فرانس في مباذله) وأنه من خير ما قرأت في هذا الموضوع، ولكن كتاب فرانس مبعثر الفصول، مقطع الأبواب ولكتابك مزايا كثيرة ليست

ص: 81

في ذلك.

إنك لم تجلُ حياة الرافعي فحسب، بل جلوت الاتجاهات الأدبية، والعوامل النفسية - الخفية - في أدب جيل كامل من الأدباء.

لقد عشتُ في مصر مدة من الزمن تبلغ قرابة سبع سنوات، وكنت أقرأ ما أقرأ حول الرافعي رحمه الله وخصومه - عفا الله عنهم -، وله ولهم، ولكني كنت كمن يعشو في ظلماء موحشة، لا أكاد أتبين سر ما أنا بسبيله من نقد وتأليف، وخصومات، إلى أن جاء كتابك فأنار السبل وأوضح المقاصد، وردّ علي ماضي ما قرأت في صورة نيرة مبينة.

لا أريد أن أطيل عليك، ولكن في نفسي إعجاباً ذا شعب ما أستطيع أن أحبسه في نفسي.

لقد وفقت في الأسلوب بقدر ما وفقت في استقصاء المؤثرات النفسية واستكشاف العوامل الخفية في أدب الرافعي. وبذلك أصبح كتابك جزءاً من كتب الرافعي لا بد لمن يقرأها من أن يقرأه. بل هو من أدبه كالفصل الرئيسي من الرواية لا يمكن أن تتم وتستبين بدونه

وما أكتمك أني كنت ممن لا يستهويه أسلوب الرافعي، ولكن كتابك أوضح أن الرافعي كان نسيج وحده في أسلوبه وتفكيره وميوله. وبهذا دفعت عنه ما اتهم به، وأغريت الناس بقراءته بعد أن مزجتهم بنفسه؛ وكسبت له الإعجاب منتزعاً من أعماق القلوب

الحق يا أخي أنك وفقت، فلك التهنئة الخالصة، والشكر الجزيل والود الصادق من أخيك.

(القدس)

اسحق موسى الحسيني

ذكرى الرافعي في محطة الإذاعة المصرية

يذيع الأستاذ محمد سعيد العريان حديثاً عن المرحوم الرافعي في الساعة الثامنة والدقيقة العاشرة من مساء يوم الأربعاء 10 مايو من محطة القاهرة، لمناسبة الذكرى الثانية لوفاة فقيد العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي.

وموضوع الحديث: شخصية الرافعي في أدبه.

ص: 82

‌الكتبُ

كتابان

1 -

آرائي ومشاعري: للآنسة فلك طرزي

2 -

أشعة ملونة: للشاعر أحمد الصافي النجفي

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

- 1 -

منذ عام أو أكثر التقيت بالآنسة فلك طرزي في دار الرسالة فتعارفنا، وجلسنا نتحدث على طبيعة المجلس في تلك الدار الحافلة فأخذنا في كلام يتصل بالأدب والسياسة وبرجال الأدب والسياسة، وامتد بنا الحديث إلى الأخلاق والتقاليد والقومية وما يتفشى في شباب الشرق من داء العصر. وكانت الآنسة تتحدث وكنت أنا أستمع وأتأمل، فظهر لي وراء ذلك الشخص الناحل ثورةٌ جامحة، ونفس طامحة، وإحساس كبير مرهف، واعتزاز بالقومية العربية، والكرامة الوطنية، تبديه الآنسة الفاضلة في صرامة وعنف حتى لقد فارقتها وأنا أشفق عليها مما هي فيه!

ومنذ أيام جاءني كتاب الآنسة - آرائي ومشاعري - عن طريق الرسالة لأقدمه إلى القراء، فما كدت أجيل النظر بين صفحاته حتى رأيت فيه روح الفتاة كما رأيته بالعيان، وتبينت لي شخصيتها بين السطور كما تبينتها بالنظر من قبل، شخصية صريحة واضحة، وروح - كما قلت لك - ثائرة متمردة على الناس وعلى نفسها، فهي لا تهدأ ولا تقر، وهي تكشف لك عن هذا الجانب من شخصيتها فتقول: إن نفسي لا تكاد تريح ذاتها من بعض ما تنوء به من أعباء الفكر، حتى تشعر أن ما خرج منها ليس إلا جزءاً من العبء الذي يزخر فيها فيعاودها القلق والاضطراب، وكلما حاولت التخلص منهما رجعا إليها بصورة أشد وأقوى، لهذا قلما تنعم نفسي بالراحة وتسعد بالاستقرار، وإن هي بلغتهما فسعادتها بهما لا تتجاوز اللحظات. . .

وماذا تكون آراء ومشاعر هذه النفس الثائرة وهذه الروح الشرود؟

ص: 83

هي آراء صارمة تتخطى القيود والحواجز، آراء تستمد الحجة من منطق القلب أكثر مما تستمده من منطق العقل، وإنها لتشتد صرامة وعنفاً إذا ما انطلقت في جانب الوطن والقومية العربية، فأنت إذ تسمعها في (يوم الإسكندرونة) وفي (موقف لبنان من الأقطار العربية) وفي تحيتها (إلى شباب النادي العربي) وفي حديثها عن (أثر المرأة في النهضة القومية) نعم أنت إذ تسمعها في هذه المواقف وأشباه هذه المواقف فإنما تسمع زئير الأسد الهائج لا بغام الظبية الشادية!

وهي مشاعر مرهفة تفيض بكثير من حر الجوانح والألم الممض، فأنت إذ تنصت إليها وهي تتحدث عن (النفس الحيرى) و (الوفاء المفقود) و (الضحكة التي تخرج من أعماق النفس) وفي رسالتها (إلى مي) خلبك منها الشعور الدقيق الرقيق، والأناقة الفنية، والنعومة الرافهة، كما يقول الأستاذ خليل مردم

وهذه الآراء وتلك المشاعر هي زفرات متقطعة صعدتها الآنسة المهذبة في فترات مختلفة على صفحات الصحف المصرية والسورية فجاءت قطعة من نفسها وروحها تجري في أسلوب له رنين صوتها وجرسه، وإن كان لا يخلو من هفوات في اللغة والنحو. وإذا كان للآنسة من الآراء والمشاعر ما لا يوافقها عليه القارئ فأحسبها قد تحللت من هذه المؤاخذة إذ سمت كتابها (آرائي ومشاعري)، ولكل إنسان رأيه في الحياة، وليس من الإنصاف أن يتحكم إنسان في شعور إنسان!

- 2 -

قد يكون من الصعب على الباحث وخصوصاً في الأدب العربي أن يتبين شخصية الشاعر واضحة صريحة في قصائده ومطولاته التي يحفل لها بقوة الأسلوب، ومتانة القافية، ونباهة الموضوع. فكثيراً ما يضطر الشاعر في مثل هذه المواقف إلى تملق العواطف في الناس، أو مراعاة الرغبة عند حاكم مسلط، ولكنك قد تتبين شخصية هذا الشاعر على أجلى ما تكون في مقطوعة يرسلها على هواه، أو أبيات صغيرة يقولها فيما بينه وبين نفسه!

وهذه الأشعة الملونة للشاعر أحمد الصافي النجفي هي نبرات متقطعة، وألحان قصيرة أرسلها في لحظات متباينة؛ ونظمها في ظروف مختلفة، وفي نواح متعددة من نواحي الحياة، وفي مكنونات النفس البشرية، ورسوم الأخلاق، وشواذ الكون، وغرائب البشر،

ص: 84

وبالجملة فهي شعور الشاعر تجاه ما يحس وما يرى، وناهيك بإحساس الشاعر المرهف، ونظره الفاحص المستوعب، وكأن هذا هو الذي أطمع الشاعر في أن يقول:

كل بشعري واجد نفسه

ففيه أسرار الورى المودعة

وقد يكون في هذا إسراف من الشاعر في جانب قرائه، ولكنه لا شك ليس بإسراف في جانب شخصيته هو، فأنا لا أعتقد أن كل إنسان سيجد نفسه في شعر الشاعر الصافي، وإن كنت أعتقد أنك ستجد نفس الصافي في هذا الشعر شفافة مترقرقة، وحسب الشاعر الخالد هذا، وحسب الصافي أن يقول في الكشف عن نفسه:

عندي عيوب بنفسي سوف أظهرها

لأن إخفاءها مكر وتدجيل

والعيب يجدر أن يبدو ليعرفه

كل الأنام فلا يعروه تضليل

إني وإن كنت في جهل له صغرت

نفسي فأجهل مني العصر والجيل

بعوضة أنا في الدنيا وحين أرى

بعض الورى فكأني بينهم فيل

وأن يقول:

أنا طائر لا يرتضي الأرض مسكناً

كأني بين الجو أبحث عن عرش

ولكن دهري قص جنحي وأرجلي

فما حال طير لا يطير ولا يمشي؟

ويعجبني من الصافي روح متمردة على التقليد بين قومه فيقول:

تقلد يا شرقي غيرك دائباً

فتحسب موجوداً وما أنت موجود

لقد سلبك التقليد عقلك كله

فشخصك موجود ورشدك مفقود

تقلد في أكل وشرب وملبس

ويعروك للتقليد في الليل تسهيد

تقلد حتى في انتحار وميتة

فعيشك تقليد وموتك تقليد

وإنه لينكر ذلك التقليد على نفسه فيقول:

كم سرت متبعاً غيري لتهلكة

وكم ندمت لدن أحسست بالألم

ندمت دهراً ولكن لم يفد ندمي

وهاأنا نادم دهراً على ندمي

وأحب أن أنبه الشاعر الصافي إلى العناية بالأسلوب، فإن قوة الأداء وروعته ضرورة لازمة للشاعر حتى يستطيع أن يؤثر، ولا شك أن اللفظ قوة تشد أزر المعنى وترفع من قيمته، ولكن الأستاذ يتهاون في هذه الناحية حتى ليهمل حق اللغة في بعض الأحيان، وحتى

ص: 85

ليبدو أسلوبه مهلهلاً كالثوب الخلق. هذا وإنه ليحرص على أبيات تافهة فجاء ضوءها في الأشعة الملونة ضئيلاً باهتاً كما يقولون

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 86

‌المسرح والسينما

قبل وداع الفرقة القومية

المال والبنون

حديثنا اليوم عن رواية (المال والبنون) وهي واحدة من الروايات التي فاز مؤلفها بجائزة في المباراة التي أقامتها الفرقة، وعن حظ هذا المؤلف، وقد مثلت له الفرقة في هذا الموسم أيضاً رواية أخرى اسمها طبيب المعجزات

الكلام عن الروايتين لازم واجب، أما الحديث عن الحظ فقد يجرنا إلى التساؤل، وإلى الحدس والتخمين، وإلى نقل ما يقوله الأدباء في مجالسهم عن الحظ والمحظوظين، وعن الوسائل التي توصل الأديب المغمور إلى الحصول على كلمة السر التي تجعل منكود الطالع سعيداً وإن كان جبل في الأصل من طينة فيها جميع خصائص الشقاء وعناصر التعاسة. ولذلك سنضرب صفحاً عنه لأن غايتنا من نقد الفرقة كما قلنا هي تقويم اعوجاجها وذلك أمر مستطاع لا شك فيه. وإن رجال الفرقة في زعمنا مهما تصاموا عن سماع كلامنا، وتغاضوا عن نقدنا، وأسرفوا في تأويل البواعث على متابعة الكتابة في إظهار العيوب التي أوصلت الفرقة إلى المنحدر الخطر، ومهما حاولوا المكابرة في احتمال سهام الحقيقة الجارحة فإنهم ولا بد راجعون إلى أقوالنا وإلى نصائحنا، وإن الغفوة التي تثقل أجفانهم سيعقبها ولا شك يقظة وانتباه. ورب دغدغة أو وخزه تنجي من خطر محقق، وسيان أكان المدغدغ أو الواخز حبيباً أو عدواً، فضلاً عن الناقد الذي لا يعرف الحب والبغض في الأدب والفن

لن نتكلم إذن عن حظ المؤلف بل نقصر كلامنا على الروايتين، فالرواية الأولى (طبيب المعجزات) لم تتحدث الصحف عنها بخير ولا شر، والإهمال أقصى عقوبة يجازي بها المؤلف الفاشل. وقد انفردنا بتلخيصها للقراء ولم نشأ أن نعلق عليها مخافة أن نرمي بحب الهدم الذي يضعضع الناشئين أمثال مؤلفها الشاب، ولكيلا يقال إننا نتخذ أمثلة عليا من أدب المسرح الغربي نقيس بها أعمالنا وما برحنا في دور التكوين بعد. وسألخص رواية المال والبنون) أيضاً فأضعها نصب عين القارئ، وليسأل هو عن الباعث على تمثيل روايتين هزيلتين في موسم واحد لمؤلف واحد؟

ص: 87

والرواية حكاية شاب طبيب يدعو الناس بحرارة إلى اعتناق مبادئه التي يؤمن بها، وهي تتلخص في أن البنين آفة الزواج، وأن كثرة الأولاد مسغبة وفقر، وأن منع الحمل يساعد على الزواج المبكر، وأن تربية النسل متعة يجب أن تقتصر على الأغنياء، وأن تكرار الولادة خطر على صحة الأم، وأن لابد من تنظيم الحمل، ومن إيجاد مركز لرعاية الطفل، ومن فرض ضريبة على العزاب

وهذا الطبيب صاحب هذه (التشكيلة) من المبادئ له أنصار من الفتيات اللواتي يستمعن إلى القائل لا إلى ما يقول، وله معارضون ممن تعلموا في مدرسة الزمن أن مثل أقواله هراء في هراء، والطبيب هذا يحب ابنة عمه ويرغب في الزواج منها؛ غير أن والدها يمانع في هذا الزواج ويصرح باستحالته للطبيب، وقد حضر ليطلب يدها من والدها، لأنه قد اتفق مع عمه على تزويجه بابنته، والفتاة تصغي إلى نصيحة أبيها ولا تلتفت إلى عواطف الشباب ونزواته وتقبل أن تتزوج من عم الدكتور وترفض الدكتور نفسه وتجابهه بهذا الرفض

وإذ يسمع الطبيب بانصياع الفتاة لأقوال أبيها ورضاها بالزواج من عمه الهرم يهرب من المدينة ويذهب إلى إنجلترا في بعثة يعود منها بعد خمس سنوات فيجد أن عمه قد مات وأن زوجة عمه رزقت غلاماً منه قد ورث كل ما تركه

استيقظ الحب الهائج في نفسه فعاد يطلب الزواج من أرملة عمه على الرغم أن لها ولداً، ولما تزوج منها أحب ولدها وصار يتمنى أن يكون له ولد من صلبه

كاشف زوجته بالأمر فناقشته في آرائه ومبادئه فأعلن تنازله عنها، واقتادها إلى طبيب أخصائي قال إن زوجته عقيم لا تلد قامت قيامة الطبيب يسائل من أين جاءت زوجته بابن عمه وهي عقيم، وثارت ثورته عليها فيلعنها ويصارحها بأنها امرأة عقيم مرذولة وأنها رضيت بالزواج من عمه لتستولي على ماله وتحرمه إياه. ويظهر أخيراً أن الولد الذي يقال إنه ابن عمه إنما هو ابنه قد استولده من فتاة خادمة أغواها وقد جاءت به جدته إلى هذه العائلة لترعاه، أما أمه فقد ماتت بعد الولادة

لقد أسميت مبادئ الدكتور بطل الرواية (تشكيلة) وقد افتن المؤلف حقاً في جعل وقائع الرواية تشكيلة تشبه (ألبوم) طوابع البريد فيه مجاميع مرتبة، هذه للدولة الفلانية، وتلك

ص: 88

للجمهورية العلانية؛ أما قيمة الألبوم فلا يقدرها إلا المهووسون العاطلون الذين ليس للوقت عندهم قيمة

أنا لا أقول إن تقدير رجال الفرقة القومية لهذه الرواية ولأختها التي صنفها المؤلف ومثلتهما الفرقة في موسم واحد هو من نوع تقدير الهاوين لمجاميع طوابع البريد؛ ولكني أسأل هل الإفلاس حفزهم إلى تمثيل روايتين ضعيفتين عرضاً وموضوعاً، أنهم قدروا في مؤلفهما نبوغاً قصرت مداركنا المتواضعة عن فهمه؟

تدل المسارح القومية الناس في فرنسا وفي غيرها على تطوير الروح القومي، وعلى معيار فهمه للحياة، فهل مسرحنا القومي بمديره اللوذعي، ورجال لجنة القراءة، وأبطال التأليف، وما مثلته الفرقة خلال أربع سنوات يدل من قريب أو بعيد على تطور الروح القومي المصري، وعلى معيار فهمه للحياة؟

اللهم كلا!

من المفهوم (أن حياة الأب إن لم تتصل بنفس الأديب وروحه، وإن لم يظهر وحيها في آثار حياته كان الأدب فاتراً ضعيفاً. وهذا عين ما لمسناه من فتور وضعف في روايتي المال والبنون وطبيب المعجزات اللتين طاب للفرقة القومية أن تتحف الناس بهما في موسم واحد

ومن المعروف أيضاً عند الأدباء أن خير ما يكفل وضوح ذاتية الأديب في أدبه أن يتصل ما يكتب بقلبه وعقله وكل حياته، وليس ذلك بمستطاع إلا حينما نصف حياتنا وحياة آبائنا والبيئة التي أنبتتنا، والوراثة الكامنة فينا، فنصل بذلك حاضرنا بماضينا، ونصور حياتنا، وحياة قومنا ووطننا، وكل ما توحي هذه الحياة للعقل، والقلب، والحس، والشعور. فهل في هاتين الروايتين الموضوعتين ما يلمس هذه القواعد المعروفة عند كتاب الرواية؟

المفروض أن الرواية إنما تصور الحياة تصويراً صادقاً تمليه العاطفة، ويحلله العلم، ولكن مؤلف رواية المال والبنون إنما ترك الحوادث للمصادفات، ولم يلتفت ألبته إلى تحليل هذه الحوادث ومراقبتها، وتقدير احتمالاتها، واستشعار المستهجن فيها والنابي عن الذوق، والمتنافر مع الواقع، والبعيد عن الحياة المصرية وبيئتها

لم يبق مما تمثله الفرقة في موسمها الحالي سوى رواية واحدة. وأرى لزاماً علي، خدمة

ص: 89

للفرقة التي يحرص على بقائها كل أديب يتمنى الخير لأمته ويفاخر بنهضة هذه الأمة الفتية، أن أواصل النصح في إظهار العيوب التي رآها الناس رأى العين وشعروا بها بارزة في أعمال هذه الفرقة التي أسموها قومية، فإن أفلحت في إيقاظ ما هجع من هم رجالنا فذلك حسبي، وإن لم أفلح فسأدأب حتى تفوز الفرقة القومية بالنجاح والظفر والمجد

ابن عساكر

ص: 90