الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 306
- بتاريخ: 15 - 05 - 1939
مناسبة الأربعين
حزن المليك الطفل
هذا اليوم هو الأربعون لمصرع الملك الشهيد غازي الأول. واليوم الأربعون هو في عرف الناس أو الناسين آخر الخطوات في تشييع الحي للميت! فهل آن للجوانح الحرار أن تبرد على سلوان ابن فيصل ونسيان أبي فيصل؟! كل حي إلى حين؛ وكل ذكرى إلى نسيان؛ وكل أثر إلى طُموس؛ ولكن أمثال غازي من ملوك الأرض وشباب الملوك وأزيان الشباب هم ملء السمع والبصر والقلب والتاريخ، فلا يملك الدهر أن يمحو ما لهم في صحيفة الخلود من ذكر وأثر. وإذا استحال على الزمن أن ينسى دولة العراق، استحال على العراق أن ينسى أسرة فيصل. لأن أسرة فيصل هي الأساس المكين لبنيان العراق الحديث: قام على جهادها استقلاله، وورفت على رِيّ دمائها ظلاله، وسارت على نور هداها نهضته.
كان الملك فيصل الأول برد الله بالرحمة ثراه، مثال الرجولة العليا التي يتيحها القدر المديل لإحداث ثورة وإنشاء دولة وإقامة عرش. وكان هو وصحبه البهاليل من أبطال الثورة العربية رموز الحيوية الثائرة والخبرة القادرة والإرادة الحكيمة. جاهدوا حتى تحرر الوطن، ونادوا حتى استيقظ المجد، وأسسوا حتى بني الشباب. ثم قضى وقضوا شهداء في سبيل العراق الخالد، ولا تزال أرواحهم الطاهرة تشرق في جوه، ودماؤهم الزكية تعبق في صعيده.
وكان الملك غازي الأول سقى الله بالرضوان ضريحه، قائد الجيل الذي نشأ معه على قوادم الصقر القرشي الجبار؛ فكان من طبعه الموروث - مهما أبطأ نمو الريش أو أرعد عليه الأفق - أن يرتفع بشعبه الطموح الناهض. وكان بشبابه الفتيان الواعد عنوان الأمل المعقود على فتوة العروبة في توثيق العقدة وتحقيق الوحدة، ثم كان بأريحيته العربية وسماحته الهاشمية نموذج الحكم الرضيِّ الرفيق الذي تسود في عهده الشورى، ويخصب في ظله الفكر، وتعز في كنفه الديمقراطية. فلما صرعه القدر هذه الصرعة القاسية ارفضَّ لهولها صبر الشباب والكهول من العرب، لأنه كان في رأي هؤلاء سر الماضي وذكرى يقظته، وكان في نظر أولئك رجاء المستقبل وروح نهضته.
نعم كان فيصل الرجل، وكان غازي الشباب! وما آلم الإخبارَ بالكون الناقص عن الكون
التام! ولقد كان الظن بالأيام أن تُبقي على فرع الحسين النابت على دجلة حتى يستغيل ويتشعب؛ ولكن أعاصير الخطوب كانت أقوى من منى القلوب وأصدق من أحاديث الأنفس؛ فلم يبق من أرومة فيصل الحرة إلا غُصنَةٌ غضَّة النبات تميل حزينة على الجذع المحطم، كما تهوِّم الزهرة الوحيدة على القبر الموحش!
وا رحمتا للوليد المليك! كان له بالأمس صديق لا يخلق الله من نوعه غير واحد لكل. وكان هذا الصديق يقبس نور عينه من نوره، وسرور قلبه من سروره، وغبطة حياته من غبطته؛ ثم لا يرى وجوده كاملاً إلا به، ولا عيشه سعيداً إلا معه. فهما متلازمان كطيفي الجمال والحب، يتجولان يداً في يد بين رياض القصر، أو يتنزهان جنباً إلى جنب في أرباض المدينة، ويوزعان هنا وهناك البسمات الحلوة والتحيات الطيبة على حواشي الطريق أو في مماشي الحديقة، ثم يعودان إلى الأسرة الملكية بالرخاء الطلق والأنس الشامل، فتشرق غرقاتُ القصر السعيد بسناً باهر من جلال الملك، وجمال الطفولة، وعطف الأبوة، وحنان الأمومة، وأمان القدرة، ضمان الغد بالسطوة والثروة والولد!
وا رحمتا للمليك الطفل! أصبح اليوم وحيداً في القصر المظلم والعراق الحزين كأنه بصّة الأمل في القلب اليائس، أو ومضة المنارة في البحر المضطرب؛ ينظر فلا يرى الوجه المتهلل الذي كان يهش له، ويصغي فلا يسمع الصوت الحنون الذي كان يهتف به، ويمشي فلا يجد اليد الرفيقة التي كانت تمسكه، ويسأل فلا يجد اللسان الحلو الذي كان يجيبه، ويجلس على المائدة فلا يرى الفم الباسم الذي كان ينادمه!
أين أبي يا أماه؟ لقد خرج في الصباح من غير أن يسلم على وليده، ولم يعُد في المساء ليقبّل وجنة وحيده!
أين ملكي يا خالاه؟ لقد اختفت السيارة والموكب، وذهب الأمناء والحرس، وغاب الوزراء والقادة! ما لي لا أرى الناس إلا من وراء السواد؟ وما لهم لا ينظرون إليّ إلا من خلال الدموع؟ فهل غيبة أبي هذه الفترة القصيرة تجعل الناس غير الناس، والدنيا غير الدنيا؟
ثم وقف المليك الطفل ساهم الوجه حالم النظر، يسأل فلا يجاب، ويفكر فلا يدرك، ويبحث فلا يجد، وينتظر فلا يلقي، حتى أعياه الأمر فأستسلم لشواغل الطفولة، واستنام لوعود الحاشية، وراح ينشد أُنسه الوقتي في صحبه خاله، ريثما يعود إليه أُنسه الدائم بعودة أبيه!
ولكن أربعين صباحاً وأربعين مساء مضت ثقيلة الأطراف موحشة العشايا مظلمة البُكَر، والصديق لما يعد إلى الصديق، والوالد لما يسأل عن الولد! واستيقظ فيصل الصغير الكبير من نومه القلق وحلمه المزعج، فوجد ظهره يبهظه عبء فادح، وجبينه يعلوه تاج ثقيل؛ وأبصر حواليه فوجد مهده الذي كان ينام فيه قد عظم حتى عاد عرشاً، وقصره الذي كان يلعب به قد أتسع حتى أصبح وطناً، وأباه الذي كان ينتظره قد تعدد حتى صار أمة!
احمد حسين الزيات
ابن الشارع.
. .
للدكتور محمد البهي
بائع الصحف. . .
وبائع (اليانصيب). . .
والذي يقفز إلى (الترام) أو إلى (الأوتوبيس) ليقدم لك بضاعته التي لا تساوي كذا. . مليما. .
والمتسول الملح في سؤاله. . . وحامل صندوق (الورنيش) الذي يزعج المار والجالس بصوت فرجونه وترديد ندائه. . .
وجامع أعقاب السجائر. . . و. . . و. . . أبناء الشارع
الشارع إذاً معرض لكثير من الحرف والمهن، وسوق لعدد وفير من العارضين بضاعتهم التي إذا قومت فلا تقوم إلا بثمن زهيد، ويعرضونها في إلحاح ومذلة، ولكن في صبر وجلد ما الذي حمل هؤلاء على أن يدفعوا بأنفسهم في هذا السبيل؟ سؤال يلقيه على نفسه من يحضر لمصر للتنزه أو لدرس حالتها الاجتماعية، ويلقيه كذلك المصري دقيق الملاحظة. هل حملهم على اعتساف هذه الطريق الربح من غير تعب؟ لا أظن ذلك، إذ أن التعب شديد والربح ضئيل، وبعبارة اقتصادية العمل كثير شاق والإنتاج قليل الأثر، أي شيء إذاً؟ ألميل إلى (حفظ البقاء؟) وهو - كما يقول علماء النفس - أساس كل الميول الفطرية أو أساس لكل التصرفات النفسية غير الإرادية.
ربما يكون لك باعثاً لهم على السعي لجلب القوت فحسب. ولكن لماذا تحتم أن يكون الشارع ميدان الكفاح؟
هذه ظاهرة اجتماعية مزدوجة: تنم أولا عن شدة الحاجة من جانب (ابن الشارع) واستباحته الطرق والميادين العامة ومركبات النقل وإزعاج الراجل والراكب كوسائل لسد هذه الحاجة ودفعها، وثانياً عن مقدار الرعاية من جانب الحكمة لأفراد الأمة، أو عن مقدار اتجاهها نحو المصلحة الشعبية وبعدها أو قربها من المنفعة الشخصية.
كثير من الناس يلوم (ابن الشارع) ويزجره لأنه في نظره قد انتهك حرمات الغير بإزعاجه، وأساء استخدام المنافع العامة التي يجب أن تبقى مضمونة من العبث.
وكثير من الناس كذلك تدفعه العاطفة الإنسانية أو الرابطة الأخوية، رابطة الدم والوطن، إلى إجابة (السائل) أو مساعدة (جامع أعقاب السجائر) أو على الأقل إلى تأثره لحال (ابن الشارع) على العموم غير ناظر إلى ما يأتيه من أعمال لا تتناسب مع مظهر الجماعة المهذبة من البشر، بل بالعكس هو لا يرى فيها جرماً اجتماعياً ولا خلقياً من جانب فاعلها لأنه مرغم على فعلها، ليس من مرغم له - في نظره - غير حكومته.
فليست غاية الحكومة - في رأي هذا الأخير - فرض الضرائب وجمعها، ثم توزيع ما جمع منها على جماعة من أفراد الأمة، وهي طائفة من الموظفين كان المبدأ الحزبي أو العصبية والمحسوبية أساس اختيارها؛ لأن هذا معناه استغلال فئة خاصة لثروة الشعب من طريق هو أميل إلى الخداع منه إلى تعويضه عن ذلك بعمل إيجابي. وإنما غاية كل حكومة رعاية المصلحة العامة وضمانها لكل فرد سبل العيش بتنظيمها ثروة الأمة، وإنتاج الشعب، ولها مقابل ذلك طاعته لما تفرضه عليه من قوانين أو التزامات، وعلى مقدار تهذيبها للفرد وعنايتها به تكون درجة إنتاجه الذي هو جزء من الإنتاج الشعبي العام.
رأيان إذاً في تكييف هذه الظاهرة الاجتماعية وشرحها، وبينهما فرق كبير. فابن الشارع إما مذنب في نظر العرف الاجتماعي أو على حسب مقياس أخلاق الجماعة، وإما بريء لأنه بعمله هذا قد استخدم حقه الطبيعي، وهو رعاية نفسه بنفسه حفظاً لبقائه بعد تحلله من رابطة الجماعة تحللاً نفسياً، لأنه شعر ووقر في نفسه كذلك عدم فائدة تلك الرابطة له. فليس ما يأتيه إذاً من إزعاج الغير وتجاوز الغاية المعروفة من الطرقات والميادين العامة منكراً؛ وإن جاز أن يعده قانون الجماعة منكراً، ولكنه اصبح لا يعترف به.
قد يكون هذا شرحاً لتلك الظاهرة من الوجهة الخلقية. وهو أيضا له أثره في الناحية القانونية. فالذي يرى براءة ابن الشارع هذا لا يعترف نفسياً بعقوبة القانون الذي يحاكمه على مباشرته لعمله (الطبيعي) وإن كان يتقبلها على أنها ظلم حل به.
وعلى ممر الأيام سيعتقد بما آمن به بعض قدماء الإغريق من أن (القانون الوضعي جعل لرعاية المصالح الذاتية، مصالح الولاة والحكام، مصالح الأقلية القوية الحاكمة ضد الرعية التي هي أكثرية ضعيفة). وإذاً فعقاب (ابن الشارع) على ما يأتيه مما ظاهره منكر من جانب واحد وهو جانب العرف الاجتماعي اضطهاد لوجوده أو هو عمل على فنائه.
ولكن هل هذا هو ما يشعر به حقاً ابن الشارع أو المنتصر له الذي يعطف منه أو تصدقه عليه؟ قد يكون؛ ويغلب أن يكون ذلك لأنك لو سألت ابن الشارع لماذا لا تعمل عملاً منتجاً أكثر وأحسن من هذا لأجابك على الفور: أين؟ وأي شيء هو؟
وما دام يسيطر عليه مثل هذا الشعور فقلما يكون منه احترام للقانون العام الذي هو قانون الجماعة، وقلما يعرف حرمة لعلاقته بغيره، وقلما يميز بين (مشروع وغير مشروع) حتى تشعره الحكومة بالرعاية وتعترف بوجوده وتعبد له طرق الحياة الشريفة.
ولعل من يلوم ابن الشارع على عمله يلومه لأنه يرى أن حكومة الدولة لم تذخر وسعاً في تعميم تلك (الرعاية) فأنشأت الملاجئ للمعوزين، والمستعمرات الزراعية للأطفال المتشردين، ثم منعت التسول، ثم نظم صاحب السعادة محافظ العاصمة الشاذلي باشا، بائعي الصحف (واليانصيب) بتميزهم بقمصان زرقاء أو صفراء. . . الخ
والواقع أن التدابير التي تتخذها حكومتنا في معالجة المسائل الاجتماعية ليست مبينة على أساس، لان الذي يحملها على ذلك إما التقليد غير الموفق، أو الثائر الوقتي لأمر ما، وغالباً تكون الدعاية الحزبية.
ولن تأتي (تدابير) رعاية ابن الشارع بثمرة ما دامت الحكومة لا تأخذ بمبدأ التدخل في تنظيم الاستغلال والإشراف على الإنتاج العام.
وسيظل ابن الشارع غير مجزم في نظر نفسه؛ وسيظل تضرر الغير به ما دام يباشر عمله؛ وسيستمر هو في مباشرته حتماً حفظاً لوجوده وتلبية لغريزة حفظ البقاء.
محمد البهي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا
من برجنا العاجي
من المسؤول عن فتور الحركة الأدبية الملحوظ في مصر؟ لا ينبغي أولاً أن نعلل ذلك بالحوادث الدولية، فإن الفتور كان دائماً موجوداً في جونا الأدبي قبل أن تنشأ هذه الظروف. ثم إن المشاكل السياسية وتأثيرها في النفوس والشعوب لم تحل في أوربا دون اهتمام الناس بشؤون الفكر وعناية الجمهور بالكتب والأدب، فما زالت الصحف الأدبية تتحدث هناك عن ظهور الكتب الجديدة والأدباء الجدد بعين الحماسة التي تتحدث بها في كل زمان. وما زالت المسابقات الأدبية والجوائز السنوية تهز الناس وتثير نشاط الكتاب كما تفعل في كل حين فأحداث السياسة مهما عظم خطرها لا يمكن أن تشل في أي بلد متحضر حركة الفكر والفن فيها. فالأمة الراقية شأنها شأن الإنسان الحي مهما عرضت له من الحوادث فإن رأسه دائماً هو الرأس اليقظ الذي لا يني عن التفكير.
إذن ما بال هذا الرأس في بلدنا نائماً؟ وما بال الناس لا يشعرون أن في مصر أدباً يتحرك ويتطور؛ وان فيها أدباء يعملون وينتجون؟ ما يكاد يمضي شهر حتى تخرج المطابع كتباً في الشعر والنثر، وما يكاد يمر يوم حتى يجيئني البريد بكتاب جديد أو بديوان شعر جديد. كم من الأدباء الجدد والكتاب الناشئين يخرجون عندنا في كل عام أعمالاً جديرة بالكلام؛ بل كم من الأدباء الناضجين ينشرون آراء خليقة بالمناقشة؛ ولكن كل شيء يمر في فتور كأنها نسمات في مدينة الأموات. ما العلة؟ العلة بسيطة. ما من أحد في هذا البلد يبدو علي التحمس الملتهب لشؤون الفكر والأدب. إن علة الفتور هي الأدباء أنفسهم. إنهم في ميدان الأدب أقل نشاطاً منهم في ميدان السياسة مثلاً. إنهم يكتبون في الأدب وكأنهم ناعسون. إن أقلامهم لا تثير في جو الفكر حراكا. وهنا الفرق بين أدبائنا وأدباء أوربا. إنهم هناك في يقظ أدبية ومن كان في يقظة استطاع أن يوقظ الآخرين.
توفيق الحكيم
طريق علاج المشكلة
وبعد. . . يا أيها الأغنياء؟!
للأستاذ علي الطنطاوي
ألم يأنِ لكم أن تخشع قلوبكم، وتلين أفئدتكم؟ أفقدت من حجر؟ إن آيات (الزيات) البينات تلين الحجر، فما لقلوبكم ما رقت ولا لانت؟ إلا تكلفون نفوسكم تحريك أجفانكم وفتح عيونكم لتروا صرعى البؤس، وضحايا الفاقة، ماثلين لكم في كل سبيل، فتأخذكم بهم رحمة الإنسان، وتعرو قلوبكم لهم رقة المؤمن؟ أني لأحاول أن أفهم كيف تزينون لأنفسكم حالكم، وتبررون أعمالكم، فلا أستطيع. . . لا أستطيع أن أتخيل كيف يهنأ صاحب القصر بطعامه وشرابه، وكيف يدلل صبيته ويضاحك عياله، وعلى عتبة قصره، وتحت شبابيكه، صبية مثلهم برءاء، ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم جريرة، يبكون من الجوع ويشتهون قطعة من الرغيف الذي يلقيه الغني لكلبه السمين، يتمنون ويتمنى آباؤهم قرشاً من الجنيه الذي يرميه الغني في الهاوية الخضراء التي يسموها (مائدة القمار) أو يذيبه في كاس السم التي يدعونها (الشمبانيا) ثم يخرج جنيهاً غيره بعد لحظة ليتبعه الأول، ويتبع به عشرات. . . يتمنون هذا القرش الواحد ليعيشوا به يوماً، ويملئوا به بطونهم خبزاً، فكيف تضنون على الإنسان المسكين بالقرش، وتنفقون الألوف على الشيطان، وعلى خراب الأبدان والأوطان والأديان؟
إننا نقرأ في الصحف من أنباء أوربا وأمريكا أن لأغنياء لقوم مآثر وعطايا، ولهم في كل مكرمة السهم الراجح والقدح المعلّى، ونسمع أن فيهم من يعطي العطية وهو مستتر مستحٍ لا يحب أن يدعى باسمه، وإنما يتسمى من التواضع والحياء بـ (فاعل الخير). . . فما لأغنيائنا الذين يقلدونهم في عيوبهم ومثالبهم، لا تشبهون بهم في مزاياهم وفعالهم؟ وما لأغنيائنا دون أهل الأرض قد اختصوا (بفضيلة. . .) الترفع عن الفقراء، والتعالي على أبناء هذه الأمة التي انحدروا منها وبفضلها عاشوا، وإنكارها إنكاراً ظنوا معه أنهم من طينة غير طينتها، وأن الله صنعهم من الأسمنت حين صنع البشر من الطين، وأنهم أنباء ماء السماء والناس بنو (ماء الأرض. . .؟).
أكانت علة ذك أنهم شرقيون، وكان لسبب هذا الشرق المظلوم، المتهم بكل نقيصة؟
قد يقول ذلك المفتونون بالغرب من ضعاف الأحلام ومرضى العقول، في حين أن الكرم والإيثار بضاعة شرقية، من الشرق قد صدرت. . . ولقد بلغ بالعرب حب اكرم مبلغ الإفراط، وزاد حتى كاد ينقلب نومة يؤخذون بها، فكيف يستقيم في المنطق (مع هذا) أن
يكون هؤلاء الأغنياء بخلاء لأنهم شرقيون، أو لأنهم عرب؟ وهذه عادات العرب، وهذا دينهم هو القانون الأوحد الذي يحل مشكلة الغني والفقير، والذي يرد عن العالم هذا الوحش الكاسر الذي جاء يحتويه بين فكيه اللذين هما الشيوعية والفردية، ويدعه أثراً من الآثار، فكيف تظهر مشكلة الغني والفقير في البلد الذي يدين أهله بهذا الدين؟
لا. ليست الشرقية علة هذه المشكلة، ولكن العلة كفر هؤلاء القوم بالشرقية ودينها وعاداتها كفراً لا يصلح معه تنبيه ولا بيان، وإنما يصلحه أن ينشأ أبناء هؤلاء الأغنياء الأشحة على الخير، الأسخياء على الشر، نشأة أخرى ينقلبون معها ناساً آخرين، ولا يكون ذلك إلا بالمدارس والأدب، ولقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق فصل (صف) فيه أبناء أفقر الفقراء، وأنباء أغنى الأغنياء، وكانوا في الفصل منفصلين. . . كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم يحملون كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة، ويدخلون الفصل مزهوين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون محسورين ملوعين. فما زالت (والله) بهم أبين لهم أن الفضل بالعلم والخلق والجد لا بالمال والثياب والمظاهر، وأضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبد العزيز ولنكولن والشيخ طاهر، وانزل بالأغنياء لأعلمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزة، حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كليهما تلاميذ نابغون ما كانوا لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلة الفقر وكبرياء الغنى واستبدلوها بعزة الكرامة وعظمة التواضع!
فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيسدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله أجراً، فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسمو عليه ابن الغني. وأنا (قد) أحمل ما أرى من صلف الغنى وأوهم نفسي انه قد كسب ماله بيده وجده فحق له أن يستمتع بثمرته، أما أن أرى الصلف من ابنه فلا. . . فيا أيها الأغنياء لا تحملوا أبناءكم على رقاب الناس، فأنكم لا تدرون كم عدواً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال، وتترفعوا بهم إلى حيث تبلغ أيديكم وأموالكم، حين
تمكنونهم من أولئك الذين ساقهم الفقر إليكم، واضطرهم فكانوا لكم خولاً أو أجراء، فيشمخون عليهم بآنافهم الصغيرة ويذيقونهم ألوان الأذى، والطفل (في الطبع) لا يعرف الرحمة، ولا يدري ما العقل فكيف وهو ابن الغني قد ورث القسوة وتطبع عليها وقلد فيها أباه؟ وإنا لنرى نحن المدرسين من ذلك العجب. . . هذا تلميذ يأخذ كل يوم من أبيه ما يقيم أود أسرة من هذه الأسر الجائعة فلا ينفقه إلا في الشر، والمال يذهب من حيث أتى. . . رأيته يضن على رفيق له فقير بقرش يقرضه إياه قرضاً ليشتري به رغيفاً يتغدى به، ويشتري بسعة عشر قرشاً فرنّية (كاثو) يطعمها على مرأى منه لكلب له صغير مدلل يسوقه معه إلى باب المدرسة ثم يعود به الخادم في السيارة. وأبوه الغني يسمع بهذا فلا ينكره ولا يأباه. كأن الله قد خلق الناس بقلوب، وخلق هؤلاء بجيوب، فأبدلهم بالعواطف المال، فهم لا يحسون ولا يشعرون ولا يدركون أن الله ما نقص من مال الفقير إلا ليتخذ له في الآخرة إن صبر ذخراً، ولا زاد في مال الغني إلا لينظر أأعطى وشكر، أم بخل واستكبر، ثم لا يكون الغني إلا خازناً لهذا المال يحاسب به يوم القيامة فيشدد عليه الحساب. أفرأيت خازناً في مصرف أو شركة يطن أن المال ماله، فيخالف فيه أمر أصحابه، ويمنعه عمن هو حق لهم؟
المال أيها الأغنياء مال الله فإن زاد لم يمكن إنفاقه إلا على الخلق (عيال الله)، فأروني كيف تأكلون الذهب، وتلبسون (البنكنوت)، وتسكنون صناديق الحديد؟ أن هي إلا معدة تمتلئ بما يقذف فيها والجوع لها خير أدام، وجسد يستقر بما يلقى عليه والنظافة له أحسن حلية، وبيت يكِن من الحر والقر، ولذائذ محللة ميسورة، وما وراء هذا إلا أكل يفسد الهضم، أو وزناً يهد الجسم، وخمر تحر الأحشاء، وبلايا معها بلايا أخرى من عذاب الضمير والغفلة وضياع الإيمان، أو مآثر تنفع الناس، وترضى الله، ويجد صاحبها مكافأتها الاطمئنان والمجد في الدينا، والثواب من الله في الآخرة، وهذه حكمة واحدة من حكم الله في الغنى والفقر لو تدبرتموها لفتحت آذانكم فسمعتم كلمة الحق، وكشفت الغشاوة عن عيونكم فقرأتم في خلق الله وفي كتابه آيات الهدى، ولكن اللذاذات قد شغلتكم يا أيها الأغنياء الأغبياء!
على أنه ليس اشد على الفقراء من منع الغنى المترف صاحب الأطيان والمتاجر وبخله وصلفه وتبذيره. . . إلا الموظف الكبير الذي ينال وهو قاعد على كرسيه لا عمل له إلا
تشريف أوراق الدولة بتوقيعه الكريم فينال الثمرة التي يتعب فيها الفلاحون، يجدون ويشتغلون في وقدة الضحى تحت الشمس المسعرة، وفي زمهرير الليل تحت النجوم التي ترتجف أشعتها من البرد، ليقدموا لهذا الموظف الكبير ثمن سيارته التي يسوقها ابنه خلال الحقول تياهاً مستكبراً، وقصره الذي يلوح بين بيوت القرية كالجبار العابس الباسر، وثمن كأسه المحرّمة ولذته المنكرة، ويذهبون فيأكلون خبز الشعير وينامون على الحصير. هذا الموظف الذي لا يكفيه وحده ما يدفعه أربعون من صغار (المكلفين) تباع فرشهم من تحتهم وقدورهم وثيابهم لتؤدي من تحتها الضريبة. هذا الموظف يستعلي ويستكبر ويقبض يده عن الإحسان ويبسطها في سبل السوء، ويتشبه بأولئك الأغنياء الأغبياء وقد يسبقهم في ذلك أشواطاً، ومن كان في شك مما أقول فليذهب إلى القرى والدساكر. . .
ولسنا والله شيوعيين ولا يرانا الله ندعو إلى هذه اللعنة (الحمراء) ولا نؤلب الناس بعضهم على بعض، ولكنا ندعو إلى (الشعور) الذي لا يكون الإنسان إلا به إنساناً، والإحسان هو شعبة من شعب الدين الإسلامي. . . فمن اختار من الأغنياء وأرباب المرتبات الضخام ألا يكون إنساناً ولا مسلماً فليفعل!
على أن ما قلنا ليس إلا صدى لمقالات الأستاذ الزيات التي تتجاوب اليوم أصداؤها في البلاد العربية، وفي الذي يقول الزيات بلاغ وزيادة.
(بغداد - الأعظمية)
علي الطنطاوي
الفلسفة الصغرى للحياة
1 -
كيف ينبغي أن نعمل؟
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
ترجمة الأستاذ صلاح الدين المنجد
هذه أولى خمس محاضرات ألقاها لثلاثة شهور خلت، الكاتب الاجتماعي الكبير (أندريه موروا) عضو المجمع العلمي الفرنسي، جلا فيها على القراء فن العمل، والتفكير والحب، والزعامة؛ وبين في إحدى المحاضرات كيف نسقى سعداء ناعمي البال، إذا خلا الشباب واشتعل الرأس شيبا.
وقد نقلنا هذه المحاضرات إلى العربية لما لافتة من إعجاب، ولما فيها من آراء ذات شأن.
(المنجد)
هل علينا من حرج إن ذكرنا ما يقوله المعجم عن (العمل) فناقشناه وبينا النقص الذي فيه؟. . . فإن حديثنا هذا ربما ملك علينا أمرنا فدفعنا إلى الإفاضة فيه. يقول المعجم: (العمل هو إنفاق جهد متعب لإتمام شيء). ولكن هذا التعريف ناقص غير واف، لم يكون الجهد متعباً؟. . . لندع المعجم إلى أربابه ولنضرب الأمثال: هذا صانع جرار يعمد إلى قطعة من صلصال فيسويها شكلاً يريده ويرضاه. وهذا حارث يشق الأرض ويذللها للزرع، فلا تلبث أن تهتز وتنبت الخيرات. وهذا كاتب قصصي يخلق كائنات يخلع عليها من عبقريته وخياله جمالاً، ثم ينضج فيها من روحه سحراً. . . مستمداً عناصرها من البيئة التي تحيط به فتملأ سمعه وبصره، فيأتي بأثر رائع لا يفنيه الحدثان.
فالعمل - كما اعتقد - هو تسليط قليل من التبديل والتحوير على العناصر التي نأخذها عن الطبيعة؛ مما يجعلها أكثر فائدة وأشد جمالاً. وهو كذلك دراسة القوانين التي يخضع لها ذلك التبديل، وتبيان حدوده ومداه.
ولقد عرف (باكون) العمل عند ما عرف الفن، فهو يقول: الفن هو الطبيعة مضافة إلى الرجل؛ أي هو ما نأخذه من الطبيعة، وما نضيف إليه من أشياء، يظهر فيها أثر تفكيرنا وعبقريتنا. والحق أن كل عمل يجب أن يكون فنا.
وسأذكر بادئ الأمر القوانين التي لها صلة بكل عمل، ثم أفصل أحكام عمل الصانع اليدوي، وعمل المرأة في منزلها، والطالب في مدرسته، والفنان في مصنعه، والكاتب في مكتبه.
وعلى الرغم من وفرة الأعمال وتعددها، فإن هناك قوانين تصلح لها كلها. فاختيار العمل الذي نجد في أنفسنا قدرة عليه وحباً له، هو أول ما يجب أن نفكر فيه. فإن قوة المرء وذكاءه محدودان لا يتسعان إلا إلى مدى. والمرء الذي يريد أن يقوم بكل عمل لا يتقن شيئاً. ألا تنظرون إلى أولئك الذين أوتوا مواهب شتى؟ يقول أحدهم: لو أني عانيت الموسيقى لحذقتها. ولو أني عالجت السياسة لسار ذكري واستفاضت شهرتي. فكل عمل هين لديّ. إنهم يكونون من هواة الموسيقى لا من غواتها. . . ومن المفلسين في التجارة لا الرابحين منها. . . ومن الفاشلين في السياسة لا الناجحين. لقد كان يقول نابليون: إن فن الحرب يوجب أن يكون المرء قوياً كأشد ما تكون القوة، في مضمار واحد. وأنا أقول إن فن العيش يوجب أن يستهدف المرء في هذه الدنيا أمراً، فلا يزال يوجه إليه قواه، ويسخر له مواهبه حتى يظفر به. ولذا كان خطأ أن ندع للأقدار دائماً مصير عملنا في الحياة. فالحياة جهاد ونضال، ومن لم يعدّ نفسه لها فقد باء بفشل عظيم. . . يجب أن يسائل الرجل نفسه فيقول لها: ترى أي عمل أستطيع أن أكون له كفؤاً؟. أنظر إلى ميولك ومواهبك، ثم فكر طويلاً، في نفسك، وفي أبنائك؛ فإذا كان لديك ولد ذو بأس شديد وقوّة، فأرسله إلى الجيش، ودربه على الطيران، لأنه لا يصلح لأن يكون رئيس ديوان.
فإذا اختار المرء مهنة رضى عنها. . . فإنه واجد فيها أموراً لابد من أن ينتخب منها أمراً واحداً، ترضاه نفسه، ويقبله هواه. فالكاتب لا يستطيع أن يبدع الأقاصيص أو الروايات كلها، والسياسي لا يستطيع إدارة الوزارات جميعها. . . والمسافر يعجز عن اجتياز الأرض من شمالها إلى جنوبها. ولابد لنا من أن نكون في بعض الأحايين صماً لما تهمس به أهواؤنا في خاطرنا. . . فتسيطر على إرادتنا وتدفعنا إلى تنفيذ شيء. فكرّ طويلاً، وقدرّ كثيراً، فلديك الوقت المتسع، ولديك التفكير، وكن كقائد الجند الذي يقضي على كل شغب بكلمة واحدة يلفظ بها أمام جنوده. . . فيستمعون إليه وينفذون أمره. نفذ أمر إرادتك كما ينفذ الجند أمر قائدهم، وقل لنفسك: ما عسي أن أصنع في عامي هذا؟. أأصلح للامتحان؟
أأطوف في البلاد. .؟ أأعمل في مصنع؟. . فكر طويلاً، وناقش آراءك نقاشاً هادئاً في زمن محددّ؛ واجعل لنقاشك نتيجة ترجع إليها، وتمضي في سبيلها، فإن التردد قاتل، والهوى مخيف.
فإذا اطمأن الرجل إلى عمله. . . فليتأت له، وليضع حيال ناظريه ما يستهدفه في سيره البعيد وهو واثق بأنه سيبلغ القمة يوماً، وإن عظم الجهد، أو طالت الطريق، لأن أول كل صغير كبير. . .
لقد جاء (ليوتي) إلى مراكش، فوجد بلاداً عاث فيها الساسة، لا رئيس ولا ذخيرة ولا مال. ولو أن من أتي إليها كان غير (ليوتي) لدب الرعب في قلبه، وسيطر اليأس على نفسه. ولكنه كان ليوتي العظيم. لقد بدأ بالمدن فجمع كلمتها، ووحّد صفوفها، وسخرها لما يشاء بما يشاء. ثم انتقل إلى البادية، فما زال يؤلف كلمة كل قبيلة، ويسيطر على كل نزعة، حتى بلغ ما أراد. . . بعد أن جهد طويلاً وتعب كثيراً. إن الحصار لا يحصد سنابل القمح. . . في الحقل. . . بنظرة، ولكن عوداً بعد عود. وإن منظفة الثياب لا تنزع الأوساخ عنها بلحظة، ولكن ثوبا بعد ثوب. . . والعامل الحق لا يهمه شيء، ولا يعرف الخيبة أو الفشل. . ويعلم انه سيبلغ ما يريد إذا اختار عمله، ثم قسمه، ثم مضى فيه. . . وويل للجبان. . .! يخاف كل عمل. . . فلا يعمل. أما الشجاع فهو الذي يستحق الحياة. .!
وأنا لا أعجب لشيء كعجبي لأولئك الذين يرسلون الشكوى من هذه الحياة وطولها. أنا أسألهم: هل يعيشون ثماني ساعات في اليوم؟ هل يعملون فيها عملاً حقاً؟ فإن الكاتب مهما كان هزيل القريحة إذا سوّد كل يوم صفحة واحدة يد في أيام شيخوخته تراثاً عظيما يجعله بين النابغين، كبلزاك وفولتير.
ولكن هل يكفي أن نجلس إلى المنضدة؟ ألا يجب أن نخضع لنظام في عملنا؟ فلا ندع عملاً قبل أن نفرغ منه، لأن اللذة بالعمل تتزايد تزايداً هندسياً إذا لم ننقطع عنه، وهذا الأمر حق عند الكاتب الذي يطلب وقتاً ينسى فيه العالم الخارجي ويتفرغ إلى أفكاره وآرائه، وهو أيضا حق عند الصانع أو الرئيس لكي يتقن العمل وينجو من شر المحيط.
وخليق بالعامل أن يبتعد عن البيئة الخارجية إذ ابدأ العمل، لأن هناك طفيليين لا يفهمون عنه ولا يشفقون عليه، فهم يتكلمون ويثرثرون، ولا يفكرون في أنهم لو تركوا من يتكلمون
معه، لاستطاع القيام بعمل ذي شأن. فهؤلاء لا يزيدون المرء إلا ضراً. إنهم يسخرون منه، ويستهزئون به ثم يدعونه متحسراً على ما فات ضاحكين.
بوركت يا غوته! لقد أدركت الحقيقة من سنين وسنين. لقد قال: (يجب ألا تضيع وقتك مع أناس يأتون إليك دون أن تعلم. إنهم يفيدون منك عاماً ثم يدعونك. إن هذه الزورات لا تفيد شيئاً. إنها تفسد عليك آراءك، وتنقلك إلى عالمك الخارجي الذي هربت منه، بعد أن اصطفيت منه صوراً جئت لتخلع عليها مسحة من عقلك فتجعلها آية للناس. أنا غني عن أفكارهم فعندي ما يكفيني) وليحدد طرائق العمل، فإذا نظر فيما اختطه لنفسه بعد سنوات لقي كل شيء هيناً، فيثق آنئذ بقدرته ويرضى عن سعيه فلا يتقاعس، ولا يخلد إلى الراحة والهدوء. على أنه يجب أن نعلم الأشياء التي تطلب عملاً مباشراً كي نقوم بها ثم نتكل على خطتنا ونسعى وراءها بملء قلوبنا. وليكن قلبك وعقلك متجهين دائما نحو الهدف. فإذا أصبته يوماً استطعت أن ترج على خُطاك.
تتلمس الطريق على هدى وتنظر إلى العقبات التي اعترضتك فتستمد من ذكرى ظفرك بها قو لعملك القادم وأملاً لعيشك الجديد إن النوابغ يدأبون بشغف على العمل. فلا يدعونه حتى يفرغوا منه، ولا ينكبون على عمل آخر قبل أن يتموا الأول، وتكون عقولهم متجهة نحو طريق واحدة كما يقول المثل الأمريكي. وربما كان ذلك باعثاً على الضجر مسبباً للملل، ولكن ما أهناها ساعة يتغلب المرء فيها على العقبات، ويصل إلى هدفه ظافراً!
فإذا اخترت لنفسك عملاً، فانك تختاره حسب ما تستطيع أن تقوم به قواك، وتوصلك إليه مواهبك. ومن الخطل اتباع أمر لا نجح لك فيه. والفشل يشل القوى ويفقد النشاط. كان (غوته) ينصح للشعراء الشباب أن ينظموا قصائد قصاراً عوضاً عن ملحمة واحدة كبرى، لكيلا يفشلوا فيأسوا على ما فآتهم.
وكان صموئيل بوتلر يقول: (إذا أكلتم العنب، فابدءوا بما ينضج من حبّه) وجدير بالمرء في عمل صعب متشابك أن يجزئه إلى أقسام، ثم يعمد إلى كل قسم فيتمه. فإذا كانت أمامك طريق صعب طويلة تود أن تسلكها فقسمها إلى مراحل لأن من الصعب أن تمضي فيها وتصل إلى منتهاها في لحظات، ثم اقطع كل يوم مرحلة. . فلا تلبث إلا قليلاً حتى تجد نفسك في غايتك، دون إن تلغب نفسك أو تجهد جسمك. كن كالمصعد في الجبل الآمل في
بلوغ القمة؛ إنه لا ينظر أليها دائماً لأنه منهمك في الخطوة التي سيخطوها. . . أما القمة فإن بعدها سحيق. . . يخيفه ويشل قواه إذا حدق فيه. . فليمض رويداً. . وعسى بالعامل الدائب أن يصل إلى مبتغاه.
أن تدوين تاريخ لأمة من الأمم منذ أيامها الخاليات إلى أيامها الحاضرات لعمل صعب يخافه الناس. . . لأنه يبدو من أعمال الجبابرة الذين سما مقامهم وعظمت قدرتهم. ولكنك إذا قسمته إلى عصور وبحثت في كل عصر فإذا فرغت منه انتقلت إلى آخر غيره، لم تلبث أن تجد يوماً عملك الضخم بين يديك فتقف متعجباً دهشاً. ثم يثبت القلب بعد التجاريب، وتدب الحماسة في النفس، ويستولي عليها الاطمئنان؛ فإن الكاتب الذي ألف كذا وكذا من الكتب لا يصعب عليه إتمام كتاب بدأه. إنه يجسر كما جسر (مارتان دوكارد) و (دوهامل) و (جول رومان) و (لا كروتيل) على وضع عدد عظيم مما لا أستطيع معه صبراً. . .).
وقال أيضا: (إن الذي يتوق إلى الخلود ويود إخراج آيات فنية رائعة لجدير به ألا يدع هواه يسيطر على نفسه).
يقول الطفيليون لك: أين أنت؟ إننا لا نراك! تعال غداً لنلهو أو لنصيب طعاما معا. . .! فقل لهم ولا تخش شيئاً لست بحاجة إلى لهوكم وغدائكم. . . فدعوني وحيداً. . .
وكان (غوته) لا يجالس أحداً إذا انغمس في الكتابة أو النظم. . . فإذا جاء إليه رجل على الرغم من خادمه العجوز أرسل يديه إلى ظهره ولاذ بالصمت وتكلم بحاجبيه وعينيه، فيمل الزائر منه. . . ويدفعه هذا الصمت القاتل إلى الهرب. أما رسائله فكان ينتزع منها ما فيه فائدة وعلم، ويرمي بالتي يطلب أصحابها منه شيئاً إلى النار ويقول:(ويحكم يا شباب هذا العصر، إنكم لا تعرفون للوقت ثمناً. . .).
يقول نفر من الناس: هذا غرور بالنفس واحتقار للزائرين. فكم رجال عظماء كانوا يجيبون على الرسائل! وكم طفيليين هم جديرون بالرحمة والعطف. ويغالي هذا النفر. . . فيصم غوته بأنه رجل غير إنساني. ولكني أسألهم: هل يستطيع رجل غير إنساني أن يبدع لنا (فوست) الخالدة أو يخلق (وليم مستر) الرائعة؟ إن من يهمل أمره. . . يأكله الناس. . فيمضي دون أن يترك لنا أثراً نفيد منه. . . والرجل الذي يحب العمل، ويجد فيه لذة
ومتعة، ويقبل علي بشوق وحماسة. . . لا يريد إلا رجالا على شاكلته.
هو يساعد الناس. . . ولكنه يفر من الحديث السخيف، والثرثرة المخيفة. ولذا كان (غوته) ينصح أيضا للأديب أن يهمل حوادث يومه العامة، إذا لم يكن فيها ما يغذي خياله أو يهيج نفسه. فلشد ما نكون أغبياء، عندما تقضي ساعة من يومنا في الاستماع إلى أخبار الحرب القادمة، وساعة في نتائجها. . . وأخرى في أسبابها. . . ولم نتقلد بعد كرسي الوازرة، أو نحمل عصا القيادة، أو نمسك بقلم الصحافة. . . إننا نسيء إلى بلادنا. . . لأننا ننفق الأوقات فيما يضرنا ولا ينفعنا، فحياتنا قصيرة. . . وبلادنا ترنو إلينا على أن النظام الذي اتبعه (غوته) في عمله وخضع له، هو نظام الإحساس الرهيف. ونحن لا نستطيع أن ندع أحاسيسنا تسيطر على أنفسنا، فتعجزها عن العمل. انظروا إلى العامل البأس الذي غدا إلى عمله، وترك ابنه في داره، فيعالج الحمى. . . فالفكر التي تملأ رأسه تغشى على سمعه وبصره، فيخلد إلى الأحلام. . . وتحف به الطيوف السود والأشباح المرعبة. وربما أمسك بالقلم ليخط رسالة. . . ولكنه يبقى صامتاً حيران. . . أمام ورقته البيضاء. . . تفر منه الكلمات. . . ويلتاث عليه الكلام
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
أعلام الأدب
يوريبيدز
لغته. فنه. وطنياته
للأستاذ دريني خشبة
أعظم الآثار الفنية في عالم الآداب هي تلك التي لم يستطع أحد إلى اليوم نقلها من لغته إلى لغة. . . فالقرآن مثلاً لا تعرف قيمته الفنية إلا في اللسان الذي نزل به، وقد فشل الكثيرون في ترجمته ترجمة فنية سائغة تحتفظ ولو بالقليل جدا مما اختص به أسلوبه القوى البارع المسبوك المتين من بلاغة واتزان وموسيقى وشدة أسر. . . وكذلك الإلياذة والأوديسة والأنييد وفردوس ملتون. . . إنه لا توجد لهذه الآيات الأدبية الفنية البارعة ترجمات تعادلها فيما امتازت به من خصائص لُغَاها التي ألفت بها، فما تستطيع الترجمة إلا أن تشوه جمل الأصل وتمسخه مسخاً. . . ومثل هذا يقال في درامات يوريبيدز، فإنه لم يستطع أحد ممن نقلوها إلى لغاتهم أن يحافظ على روح الشاعر العظيم وقوة بيانه. وهذا شللي أحد عباقرة الشعراء الإنكليز وأحد المعجبين بيوريبيدز والمتمكنين في اللغة اليونانية القديمة. . . لقد أحصى له النقاد أخطاء كثيرة في ترجمته درامة السيكلوبس. . . ثم عدوا له ضروباً من الشطط ابتعد بها عن الشاعر العظيم. . . ولقد كان شللي معذوراً من غير شك، فلقد بلغ يوريبيدز الذروة بالبيان الأتيكي واللغة الاتيكية. وقد كان مثل أبي الطيب في الشعر العربي، ارتفع ثم ارتفع، فلما مات لم يخلق الله له ندا يحلم بمرتبته في الشعر والحكمة. هذا ولقد أوتي يوريبيدز أضعاف ما أوتيه أبو الطيب من قوة الأسلوب وعمق التفكير، لا في بيت، أو مقطوعة، أو قصيدة، أو مرثية أو مدحة؛ وإنما في درامة طويلة فيها حوار وفيها خطاب وفيها غناء وفيها بكاء وفيها تدبير وفيها تصور لحادثة متشعبة، هي كالكائن الحي، يملأ المسرح، ويملأ الآذان، ويملأ الأبصار، ويملأ القلوب.
أنهت الدرامة بعد يوريبيدز في تاريخ الأدب اليوناني. . . هكذا يقول المؤرخون. . . وهم يقصدون الدرامة العالية ذات الفن الرفيع. . . وقد عاش يوريبيدز يؤلف للمسرح قرابة خمسين سنة، ومع ذلك فقد عاش غريباً في قومه، بغيضاً إلى غالبيتهم المغيظة المحنقة
لشدة ما ثار بتقاليدها وسخر من أفهامها. . . فلما مات. . . أخذ يعيش بأدبه العالي من جديد، وأخذ يخلب القلوب ويسحر الألباب بدراماته التي نيفت على التسعين، والتي ظلت تمثل بعد موته ستمائة سنة أو يزيد، والتي ظلت شغل النحويين واللغويين من علماء الأمم المختلفة في اليونان وفي رومة وفي بيزنطة إلى ما قبل ألف سنة من الزمان. . . فما نجد لغويا من مؤلفي المعاجم إلا وهو يستشهد به في أكثر ما يستشهد على صحة كلمة أو سلامة تعبير على نحو ما يستشهد مؤلفو القواميس عندنا بأشعار الجاهلية والقرآن الكريم.
ومع هذه المرتبة الرفيعة في اللغة فلم يستحدث يوريبيدز شيئاً ذا بال من وجهة الفن المسرحي، بل هو قد أخذ ما استحدثه سوفوكليس دون أن يغير منه شيئاً. ويبدو أن اشتغاله بالفكرة العميقة واستعراض الآراء السيكلوجية التي استحدثها في أكثر دراماته، والتي لم يعرضها تاريخ المسرح قبله، ثم استعراض الآراء الفلسفية التي طبعها فيه أساتذته، وأصدقاؤه السفسطائيون، ثم عنايته الشديدة بالصوغ الشعري، وتجويد أغاني الخورس، كل ذلك حال بينه وبين التجديد المسرحي الفني، أو ما يعنون به (تكتيك) المسرح من وجهة الشكل لا من وجهة الموضوع.
على أن ليوريبيدز مع ذلك خصائص ميزته من أقرانه، ومن أهمها تلك المقدمات الطويلة الطلية الاستهلالية التي يهيئ بها الأذهان لمشكلته الدرامة والتي يقصها بلسان شبح كما في (هيكوبا) أو بلسان إله كما في (هيبوليتس) أو بلسان أحد أشخاص الدراما كما في (هيلينا). . . الخ. . .
وليس يعترض على ذلك بأنه لم يتبع تلك السبل (إفجنيا أوليس) لأنه لم يكمل هذه الدرامة كما أسلفنا بل أكملها غيره، وربما بدله غيره أيضا.
ومن ذلك أنه كان يحل عقدته الدرامية في اللحظة الأخيرة بظهور شبح أو إله أو سرد نبوءة، فيظهر ما كان مطوياً عن الأفهام، وهو ما يسميه نقاد الآداب الكلاسيكية - أو (إله من الآلة) أو تسخير إله لغرض درامي كما تسخر الآلة.
وكان ارسطو يكره ذلك في درامات يوريبيدز، وإن كان سقراط من قبله لا يرى في ذلك ما يعاب به الشاعر - والحقيقة التي اتفق عليها نقاده، وفي مقدمتهم الدكتور فيرال إن هذا أشق عيوب يوريبيدز بالإضافة إلى طول جواره الذي يجعله إلى الخطب الرنانة اقرب منه
إلى الحوار المسرحي، فقد يطول ما يلقيه الممثل الواحد في القالة الواحدة عن صفحتين أو ثلاث، وهذا ما كان يسخط ارسطو، وما يزال يسخط مترجمي يوريبيدز.
هذا، وينبغي ألا ننسى له براعة تنقله بالنظارة من المشهد إلى الآخر وما يثيره فيهم من الشغف والشوق والتشوف لما بعد. . . ثم ينبغي كذلك أن نذكر أن أجمل الأغاني - ولاسيما أغاني الحب - هي ما نظم يوريبيدز.
أما ما يعيبه بعض النقاد على الكورس في دراماته وعدم قيامه بما جعل الخورس له في سائر الدرامات اليونانية من وصل للحوادث وتمهيد لما يجيء بعد ثم شرح لبعض الوقائع الطويلة التي يتيسر تشخيصها على المسرح، فهل قول مردود لأن الذي صنعه يوريبيدز وحصر به مهمة الخورس في الموسيقى والغناء وسمو منه بوظيفة الخورس، واختفاء ظلاله خلابة من لذة الألم في المشاهد المشجية وجمال الاتعاظ في مشاهد العِبر، وتذوق الجمال في المشاهد المنتزعة من صميم الطبيعة. . وعلى هذا فقد قصر يوريبيدز خورسه على إلهاب الشعور وإذكاء الحس بالموسيقى التي تتفق وكل مشهد من المشاهد، والغناء الذي لا يجيء (نشازاً!) كما نشهد في بعض دراماتنا العصرية.
وطنيات يوريبيدز
لم يتأثر شاعر يوناني بروح بركليس كما تأثر به يوريبيدز، ولم يبد هذا الروح واضحاً جلياً في أدب شاعر كما بدا واضحاً جلياً في كثير من دراماته. . لقد سمعه يخطب قبيل حرب البلوبونيز الأولى وهو يشيد بمناقب أثينا وما حملته من قسط عظيم في تأريخ اليونان حينما حررت شعوبها من أربقة الفرس وتعرضت وحدها للدمار والحريق حتى إذا ظفرت بعدها وطهرت منه البر والبحر عادت تنشئ لجميع الشعوب الهيلانية حضارة رفيعة قوامها الديمقراطية والفن والأدب والفلسفة. . . ثم قال بركليس كلمته الخالدة التي أوردها في تلك الخطبة:(لم لا تحدق الشعوب والقبائل اليونانية كعصبة من العشاق المعاميد حول أثينا؟) ثم ذكر ما لأثينا من الفضل في التعريف بالفضيلة ونقلها من حيز النظريات إلى عالم الدولة ومعائش الشعب وسياسته العليا، وقد خاض يوريبيدز معظم حروب البلوبونيز (بين أثينا وإسبرطة) وكان حظ الوطن يعمر فؤاده بالإيمان، وكان يحزن أشد الحزن لهذه المجازر التي تنشب لأسباب تافهة بين شعبين شقيقين وإن تكن الحرب في
الحقيقة بين ديمقراطية أثينا وأتوقراطية إسبارطة. . . وقد كان يوريبيدز من أنصار السلام آخر الأمر وإن يكن قد ظل جندياً من سن الثامنة عشر حين اعتبر رسمياً (إفيبوس) أي شاباً لائقاً للجندية إلى أن بلغ الستين. . . وقد أثار عليه ميله للسلام حفائظ مواطنيه، تلك الحفائظ التي منها ما عرفنا من ثورته على التقاليد السلف وما كان يتناول به النساء في دراماته من تحليل ودفاعه السيكولوجي عن الزناة والقتلة وجنايات المأفوكين، وما سنعرفه عنه في هذا الفصل من سخريته بالآلهة وتجديفه في دين الإغريق ورمي أرباب الأولمب بأقسى التهم وأفتك سهام التجريح. . . لكن يوريبيدز مع ذلك كان يحب أثينا لأنه كان لا ينسى إذ هو طفل والأثينيون ينقلون إلى سلاميس العجائز من الرجال والنساء والأطفال - وهو منهم إذ ذاك - والفرس البرابرة يحرقون القرى والمعابد على الشاطئ فتندلع ألسن النيران لتكتب في صفحة التاريخ وقائع هذه الحرب بحروف من نار. . . لم يكن يوريبيدز ينسى هذا المنظر الفظيع، ولم يكن يربح ذهنه بعد إذ شب أثينا الضعيفة الديمقراطية قد انتصرت على فارس القوية المستبدة، وأن الأثينيين القليلين الجياع قد انتصروا ذلك النصر لأنهم كانوا غير معتدين على أحد ولا طامعين في ملك أحد. . . ولأنهم (أحرار أيها الملك، ولكنهم غير أحرار في عمل أي شيء، لأن لهم سيداً واحداً يخض له الجميع يدعونه القانون!) كما قال أحد الإسبرطيين لعاهل الفرس أجزرسيس وهو يسأله لماذا لا تفر هذه الحفنة القليلة من الناس أمام عسكره اللجب الكثير!
هكذا أحب يوريبيدز وطنه أثينا الذي أشاد به في كثير من دراماته. وهكذا أحب يوريبيدز الديمقراطية، لكنه سخط على الديمقراطية جميعاً حينما ثار وطنه عليه مع أنه من أعظم أسباب رفعته، وحينما رأى الديمقراطية ترفع الأوشاب وتُكوّن منهم زعماء الشعب فيتحكمون في السادة الأخيار من رجال الذهن والخلاصة الصالحة من نجباء الأمة ثم يظل هؤلاء الأوشاب محترفي سياسة، وموضع تقديس الرعاع والدهماء؛ والويل كل الويل لمن يجرؤ أن ينقذهم بكلمة ولو كانت كلمة الحق، أو أن يرسل فيهم لساناً ولو كان لسان الصدق. . .
من وطنياته في ميديا
حينما لقي جاسون زوجته ميديا بعد إذ كشفت سره دار بينهما حديث طويل فيه مرارة وفيه
ثورة وفيه جائحة من السباب والشتائم والتعبير صبتها ميديا على رأس جاسون الذي خدعها وغدر بها ولم يذكر ما صنعت في سبيله يجزها جميلاً بجميل:
جاسون:. . . كيف تزعمين يا امرأة أنني لم أجزك على ما قدمت إلى من جميل؟ لقد أخذت أضعاف أضعاف ما أعطيت! لقد نقلتك من أرض البربرية الخبيثة إلى فراديس اليونان ألفياحة، حيث عرفت لأول مرة جمال العدالة، وبهرك سلطان القانون فأقلعت إلى حين عن وسائلك الوحشية. . . وها قد ذاعت حكتك بين جميع الاغريق، ولو تلبثت بين عشيرتك لما عرفك ولما أحس بوجودك أحد، بل لم يجر ذكرك على لسان!!
ومن هذه القالة نفسها في ذم النساء:
(إنك لا تعذلينني هذا العذل إلا لأن نفسك مقروحة من غريمك؛ ولكن هذا دأبكن جميعاً يا بنات حواء، إذا طابت أهواؤكن في أكناف أزواجكن فقد تمت نعماؤكن، فإن لفح مهاد الزوجية لافح من سوء حظكن فقد تبدلت الحال غير الحال وانقلب كل ما كان خيراً فأصبح شراً مستطيراً. . . كم كان خيراً للإنسان أن يستطيع النسل بطريقة أخرى غير طريقة النساء!! ثم ما كان أجمل ألا يخلق جنسكن؟! إذن ما حاق بنا شر ولا عرف وجه الأرض موبقة من الموبقات!!)
ومن أغاني الخورس في تمجيد أثينا ص97 نقتطف هذه السطور:
(يا أبطال شعب إركتيوس! يا أنسال الآلهة. . يا من يطعمون ثمار الحكمة الناضجة، وينشقون ألطف أنفاس النسيم، وينعمون أبداً بالسماء الصافية، ويضربون في تلك الدروب المأهولة حيث كانت عرائس بييريا ترطب أرواح الآباء بطهر المسرة وتلقن آلهة الألحان كيف تتغنى قصتها الأولى)
والسطران الأخيران من الفقرة الثانية من ذاك الخورس نفسه: يخطر الحب في مهرجان الحكمة في ناديك، وتُدل كل فضيلة وتختال حين تؤثرها آلهة الجمال برعايتها التي تنميها وتشيع فيها المجال!)
أطفال هرقل
عندما مات البطل العظيم هرقل (هركيولز) استبد ملك آرجوس بزوجه وأطفاله، وظل يسقيهم من الهوان ألواناً حتى اضطروا إلى الفرار من راعيهم يولوس. . . وقد رفضت
جميع الممالك اليونانية إيواءهم خوفاً من بطش ملك آرجوس حتى ينتهي بهم المطاف إلى المدينة الحرة أثينا فيعطف عليهم ملكها الشجاع الذي يوبخ قائد الأرجيف الذي جاء يقص أثرهم ويعود بهم إلى آرجوس. . . ويثور القائد ويهدد بإعلان الحرب على أثينا في الحال إن لم يُسلم ملكها (ديموفون) الفارين من الأرجيف. لكن الملك يثبت كالصخر وينتهر القائد، لأنه لا يخاف الحرب من أجل المحافظة على الكبرياء الوطنية، ولأن الذي يلوذ بأثينا فإنه آمن، لأنه يلوذ بالمدينة الحرة.
القائد كربيوس: إذن يهرع الأشرار من كل مكان ليلوذوا بأثينا؟
ديموفون: هذا الهيكل حل لكل لاجئ!
القائد: سيرى أولو الأمر في مسينا غير ما ترى؟
الملك: أولست ملك هذه البلاد إذن؟
القائد: فلا تجر على رؤوسهم الويل بسوء عملك!
الملك: أفأنت تعد ما أرفض من استباحة هياكل الآلهة سوء عمل؟
القائد: لست أحب لك أن تجازف بحرب ضد الأرجيف!
الملك: أنا قرينك في محبتي للسلم وتعلقي به، لكني مع ذلك لن أخيب رجاء هؤلاء المساكين!
القائد: بيد أنني مكلف بالقبض على من هم منا!
الملك: إذن فلا تحسب أنك ستطيع العودة إلى آرجوس بسهولة. . .
القائد: سأجرب لأعلم ما وراء التجربة!
الملك: إذا خيل لك أنك قادر عليهم فستندم على مجرد مسهم!
ويستمر الحوار على تلك الوتيرة ثم يمضي القائد ثائراً مرعداً وتعلن الحرب! والدرامة تكبر من أساليب الديمقراطية في الحكم وتسفه الوسائل الاستبدادية فيه.
وفي درامة (نسوة متضرعات) التي تدور حوادثها على توسل نساء الأرجيف لدى قادة أتيكا في رد جثث أبنائهن قتلى الحرب بين أثينا وآرجوس، منظر وطني رائع بين قائد طيبة وملك أثينا. . .
فإن القائد يدخل متقحماً سائلاً: (من الحاكم بأمره في هذه البلاد؟). فيصبح له الملك خطأه
ويجيبه: (ليس هنا حاكم بأمره يا صاح. . . إن هذه لمدينة حرة. . . وإذا قلت مدينة حرة فإني أعني أن كلاً من أفراد الشعب يأخذ في دوره بنصيب في الملك، وليس للأغنياء عندنا من دون الفقراء امتيازات ما!) وليوريبيدز درامات وطنية مفقودة نظمها قبيل حرب البلوبونيز الأولى أو عقبها يطول بنا البحث إذا تناولناها هنا فنكتفي بالإشارة اليها، وبحسبنا أن نذكر منها درامات إيجيوس، وثيذيوس،، وإيرختيوس.
دريني خشبة
الحاجة
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
أيتها الحاجة التي طالما حسبتها عدوتي الكاشحة، أنت أيتها السيدة الجافية ذات المحيا الشتيم المكفهر لقد أصبحت أعرف جيداً الآن وقد عز اللقاء بيننا، أنك كنت لي صديقة عزيزة، بريئة مما رميتك به من اللائمة منزهة عما عرضته لك بالنكير. . . حقا إن أفضل ما قمت به من الأعمال وأبرع جولات خيالي المجنح، قد كانت من فيض وحيك.
وقد أهاب بي صوتك القوي الحازم، إلى ركوب ظهور العوائق، وتخطي رقاب الموانع، كما أقدم بي تحضيضك، على حسن السعي وشحذ عزيمتي على الجد والكفاح.
وأغراني بأن أضرب للحياة جأشاً، وأثبت للوجود عقداً ولولا ما كنت تنفحينه في من روحك لخمدت تلك الجذوة المحتدمة في طين نفسي.
ولولا مهمازك الحاد الذي لم يدعني ألوي عنان السير عن عقلة، أو أنكل لحظة عن خظة، لما عرضت مدى قوتي وحددت جهد طاقتي ولولا سيادتك القاصرة على حياتي وما ألجأتني إليه مراراً من، حمل الأعباء، والنهوض بالبزلاء، والتسامي عن آفاق اليأس والقنوط لما اهتديت إلى منجم الكنوز الدفين في غيابات نفسي ولئن كانت قد تفرقت سلبنا، وتشعبت طرقنا، واختلفت متجهاتنا، وبعدت نوانا، وانشقت عصانا اليوم.
ولئن لم يتح لي أن ألقاك ثانية، إلى أن يقطع بي السبب ويضحو ظلي وتطوى صحيفتي، فأني أريد أن أضفر لك من هذه الأزاهير الشذية إكليلاً أزين به مفرقك، لكي تتعرف القلوب الأخرى إليك وتجد فيك أبر صديقة.
الزهرة
عود إلى التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قلت إن الشاعر أو الناثر لا يحكم عليه ولا يقال إنه متفائل أو متشائم بما يقوله في حالات نفسه العارضة المتغيرة، لأن كل نفس تفيض بالسرور والأمل تارة، وتنقبض بالحزن تارة، والنفس التي لا تستطيع إلا السرور في موطن الحزن إنما هي كالأبله الذي لا يستطيع إلا الضحك، وحالة هذا ليس فضيلة ولا قوة.
وقد يتاجر بعض تجار الأدب باسم التفاؤل، وإنما تفاؤلهم سلعة مغشوشة وعملة زائفة يريدون أن يربحوا بها الحمد والثناء، وأن يغروا بها الناس؛ وهذا التفاؤل أيضا ليس فضيلة في النفس، بل هو نقيض الفضيلة، وإنما يحكم على القائل بما يقوله في وصف أمله في الحياة، وحثه إلى المُثل العليا، وما يقوله في تمجيد جهود الناس فيها كما في قصيدة:(أبناء الشمال) أو (شهداء الإنسانية) أو (إلى المجهول) أو (الباحث) أو (قو الفكر) أو (العصر الذهبي) أو (الحق والحسن) أو (النشوة والارتقاء).
ويحكم عليه أيضا حكماً صادقاً إذا نظر الناقد فيما قاله القائل في وصف محاسن الحياة والأرض والكون؛ فإذا استطاع أن يُجمل الحياة بقدرة فنه على وصف آيات الكون والطبيعة، لم يستطع الناقد أن يقول إن التشاؤم غالب عليه، ولا أدري كيف يستطيع ناقد أن يقول هذا القول إذا قرأ لي وصف محاسن (الصحراء). . . حتى الصحراء تجد فيها النفس، وفي مظاهرها المختلفة محاسن. . . وقصيدة:(البحر). وقد نشرت في الرسالة أيضا وفيها وصف تلون البحر وتغير مناظره ووصف جزره:
ومن جزر مثل الجنان مضيئة
…
كأن جهلتها الصائلات الدوائر
ووصف (عيون الندى):
فليس عيون الغيد أشعلها الصبي
…
بأحسن في لألائها حين تعطف
ووصف الربيع في قصيدة (الفصول):
أهواكِ يا روح الربيع فهيئي
…
جسماً كجسم الغيد في لألائهِ
ووصف النهر المترقرق في قصيدة (على بحر مويس):
عهدتْهُ في صيفه لؤلؤاً
…
لو أَنَّ للؤلؤ سيلا يسيل
ووصف مناظر الغابة وأصواتها التي تحكي جميع شجون النفس في قصيدة: (الغابة). أما وصف: (شريعة الغابة) من فتك في آخر القصيدة، فهذا ليس من التشاؤم. بل هو تحليل لصفات النفوس يدل عليه تقاتل الآحاد والأمم في العالم، ويعترف بصدقه كل إنسان ما عدا الإنسان الذي لا يستطيع إلا الضحك دائماً، وما عدا الإنسان الذي يتخذ الباطل في وصف النفس تجارة ربح ويسميها التفاؤل. ووصف مظاهر الضوء ومباهجه ومحاسنه في قصيدة:(الضوء) دليل آخر على التفاؤل الصحيح غير المزيف:
أو مثل فجر الآمال إنَّ لها
…
فجراً وليلاً يَضاء بالذكرِ
كأنك أنتَ سُلّمُ لعلا
…
ء النفس تسمو لآية العَمر
تُخالُ من رقة المراسم مع
…
نى لا يراه البصير بالبصر
والساخر الذي يستطيع بالرغم من سخره أن يقول كما قلت في قصيدة (سؤر العيش):
والسخر مرآةَ إبليس التي نصبت
…
إن تبُصر الحق فيها عاد كذَّابا
فيجعل السخر مرآة الباطل ومرآة إبليس في بعض الأحايين لا يكون التشاؤم غالباً عليه، والذي يستطيع أن يصف سحر:(ضحكات الأطفال) كما استطعت في قلبه نور الأمل لأن الأطفال هم أمل الحياة:
ضحكة منك صوتها صوت تغري
…
د العصافير تستلين القلوبا
ضحكة ردت المشيب شبابا
…
وأماتت من الوجوه الشحوبا
ضحكات كأنها كلمات ال
…
له تمحو مآثماً وذنوبا
إلى آخر القصيدة. وقد قلت في وصف أثر مظاهر الجمال في قصيدة (قبس الحسن):
يا شمس حسن حياتنا ثمرٌ
…
ينضج في ضوء حسنك الثمر
على أن الحسن في الأحياء والأشياء ذوق رمز ومعنى واصطلاح تخلقه النفس. ومن أجل ذلك كانت سعادة المرء في نفسه كما قلت في قصيدة (طائر السعادة):
ومن لم يجد في نفسه ذخر عيشه
…
فليس له بين الأنام نصير
وكره الإنسان للعيش هو من حبه للعيش كما في هذه القصيدة أيضاً:
قلى العيش حب العيش قد شط رغده
…
كما يَبغضُ المهجور وهو أسير
كمن يبغض الحسناء يقلى دلالها
…
وفي الصدر منه لوعة وزفير
وقلت في وصف أثر النفس في النفس في قصيدة: (النعمان ويوم بؤسه) وكيف أن الوفاء في أحد الناس جعله يلغي يوم بؤسه ويقول:
ألا علِّلاني يا خليليّ أنمّا
…
على العيش بالإحسان والصدق والندى
وأعترف حتى في قصيدة: (ثورة النفس) بما في النفس البشرية من حسن:
تريدين أن الجسم يغدو كأنما
…
يضيء به منك الضياء المحجّب
وفي جمال فجر النهار وفجر العمر من قصيدة (فجر الشباب):
وكان للفجر قلب خافق أبداً
…
من الحياة ووجه كله لطف
وفي إضاءة الحياة بالجد والعمل والأمل في قصيدة (العظيم في قوله):
رأيت حياة المرء في نفع قومه
…
ولا خير في كنز إذا كان خافياً
وما نُصِيب المصباح إلا لضوئه
…
وإن كان في أحشائه الدهن فانياً
وفي حب الشعراء للحياة من قصيدة (الشاعر وجمال الحياة):
نحن كالنحل لا نحب من الزه
…
ر سوى كل غضة مطلولة
وفي وصف محاسن الأرض والطبيعة:
وكأنما نسج الإله جنانها
…
شرك النهى وحبالة الأهواء
وفي أشد القصائد حزناً كما في قصيدة (بين الحياة والموت) وهي من شعر الحالات العارضة أقول في وصف العيش:
ولكنه كالخمر تحلو لشارب
…
وإن سُلبتْ منه النهى والسرائر
وفي النسيب اعتراف قصيدة بجمال الحياة بالرغم من مرارة تجاربها:
وأنت جميلٌ كالحياة مُحَبَّبٌ
…
وإن كنت مثل العيش مر التجارب
وفي قصيدة (حكمة التجارب) قلت في عزاء التجارب:
خذ بِنصحي فقد حييت كثيراً
…
ولو أني لم أُمض عمراً طويلا
عشتُ في كل ساعة أبد الده
…
ر وعالجت نَضرَةً وذبولا
ورمتني الحياة بالحلو والم
…
ر فطوراً رغداً وطوراً وبيلا
ورفعت الستار عن خدعة العي
…
ش وقهقهت وانتحبت عويلا
وصحبت الحياة في حالتها
…
وَخَبرْتُ القنوط والتأميلا
إلى أن قلت:
ورأينا الحياة من كل وجه
…
وعشقنا كمالها المستحيلا
ورجعنا إلى الحقائق حتى
…
لم نعد نطلب المحال بديلا
فهذا ليس من التشاؤم بل هو ما يناله المرء من حكمة الحياة وهو لم يمنع من وصف آمال الإنسانية كما في القصائد التي ذكرت في أول المقال. وقصيدة (الحسن مرآة الطبيعة) عل ما بها من ذكر الموت في آخرها جمعت مظاهر الحسن ومنها:
أنت مرآة ما يجيء به الكو
…
ن من الحسن بكرةً وأصيلا
فأرى في الصباح منك ضياءً
…
وأرى في المساء منك ذبولا
وأرى منك في الخريف شبيهاً
…
ثمراً يانعاً وزهراً جميلا
وما أذكر الموت في آخرها إلا أنه يدعو إلى محاسن الحياة والتزود منها. وقد وصفت أثر تفاعل الكون والنفس في قصيدة (الشعر والطبيعة) ومنها:
إذا غنت الأطيار في الأيك صُدَّحا
…
تغنت لأشجان الفؤاد طيور
وللريح هبات وللنفس مثلها
…
تُغَنِّي رُخاءٌ فيهما ودَبُور
نرى في سماء النفس ما في سمائنا
…
ونبصر فيها البدر وهو منير
إذا كنتُ في روض فقلبيَ طائر
…
يُغَنِّي على أفنانه ويطير
وإنْ كنتُ فوق البحر فالقلب موجة
…
تَسَرَّبُ في أمواجه وتسير
وإنْ كنتُ فوق الشُّمِّ فالقلب نسرها
…
وللنسر في شم الجبال وكور
وفي قصيدة (الشاعر المحتضر) يتعلل بأنه قبل موته جمل الحياة بفنه:
وجَمَّلْتُ الحياة بنظم شعر
…
شبيه الضوءِ في الأفق الأغَرِّ
وقد جعلنا مثل هذا القول علالة لأن بين الأدباء من يتعلل به وإن كنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه العلالة ولا نأسى لضياع عمل عمر بأكمله.
وفي قصيدة (خواطر الحياة) أثناء التألم أستطيع أن أقول:
والسخطُ غربال جَاهدٍ قصد ال
…
سيل كأن الأَتيَّ مردود
أي أن حوادث الدهر لا تدفع بالسخط والحزن كما أن السيل لا يرد بغربال.
وفي قصيدة (كعبة النفس) جعلت الرجاء من الإيمان والعبادة:
أيا كعبة الآمال ذات المحارم
…
مكانك من قلبي كمحراب صائم
فلا تأخذوني بالرجاء فإنما
…
رجائِيَ إيمانُ النفوس الحوائم
وفي قصيدة (بيت اليأس) جعلت الحزن ترياقاً يقي من الحزن كما أن القليل من السم قد يقي من السم:
كشارب السم كي يُصادِي
…
مَنْ عَلّهُ سمه صريحاً
ورددت هذا المعنى في قصيدة (عدوى الحياة) وذكرت أن مصل الجراثيم وقاية منها:
كما يتداوى بمَصْلٍ عليلٌ
…
وفي المصْلِ من بعض ما تَبّرَه
وفي (عصير الحياة) جعلت لذتها وأنغام فنونها من الآم تجاربها:
أسعى على ساعات عمريَ واطئا
…
كالكرم يعصره الجناة فيخمر
وأحيلها نغماً يروق سماعه
…
وأعيدها شعراً يلذ ويُسكِرُ
وقلت إن دجن السماء مثل حزن النفس قد يكون لذة وذلك في قصيدة (يوم مطير) فانظر كيف تستخرج النفس اللذة والأمل من الحزن والسحاب:
ثقيل على القلب البهيج عبوسه
…
ولكنه قد يسحر القلب كارُبهْ
كذلك بعض الحزن للنفس شائقا
…
تعاقره في نشوةٍ وتقارُبهْ
وهل تفاؤل أعظم من تفاؤلي في البيت الآتي من قصيدة (عجائب الحياة):
وأبغي صلاح الكون والناس مثلما
…
مضى في بناءٍ عاملٌ وأجير
وقد جعلت حتى تعلل المتعلل بذكر الموت مظهراً من مظاهر حب الحياة:
وما عَلَّلْتْ نفس الفتى بمَنِيةٍ
…
ستطوي هموم العيش طي الدساكر
سوى رغبةٍ في العيش يرهب صرفه
…
فيعدو على البؤسي بذكرى الغوابر
والتلذذ بوصف مظاهر الأمل وأحاسيسه في قصيدة (السكون بعد النغم) يدل على التفاؤل ومنها في وصف الإحساس بالسكون بعد النغم:
كسكوت اللهيب فوجئ بالبش
…
رى ويخشى من حسنها أن تخيبا
أو سكوت الشباب في حُلُم الآ
…
مال من قبل أن تعاني المشيبا
أو سكوت الأم الرءوم حنانا
…
وابنها نائم وقته الخطوبا
حلمت حلمها بما سوف يسعى
…
في مساعيه جيئة وذهوبا
من ثمار الحياة تختار أحلا
…
ها له نعمة وسعدا وطيبا
وقد جعلت الأمل بهجة العمران في قصيدة (الأمل):
أيا بهجة العمران لولاك لم يكن
…
فلا شيد الباني ولو كدّ كادحُ
وهي قصيدة طويلة كلها في مباهج الأمل ولذاته ومحاسنه، وأحاسيسه وفي قصيدة (شهداء الإنسانية) جعلت النعمة في الحياة مستخرجة من الشقاء.
وكم من نعمة لولا شقاءٌ
…
قديماً لم تكن إلا وبالا
فكم خبر الأوائل من شقاءٍ
…
فنلنا من شقائهمُ نوالا
وقد ذكرنا في هذه المقالات وغيرها أسماء قصائد عديدة جداً لا هي من شعر التشاؤم، ولا من المذهب الطبيعي الإنكليزي، والشعر العربي ليس في حاجة إلى مذاهب أو مسميات جديدة، وإذا لم يكتف حضرة الناقد الفاضل بهذه القصائد والشواهد ذكرنا له غيرها ونعتقد انه حسن النية في قوله، فعسى أن تكون عقيدتنا فيه صواباً. ونكرر للأستاذ الدكتور أننا طبنا نفساً عما قدمنا من عمل، ولا يهمنا أفنى أم بقى، ولكن الذي يهمنا ألا يتخذ وسيلة للنيل منا حتى ولو كان ذلك عن حسن نية.
عبد الرحمن شكري
من ذكريات لندن
دعاية. . .
للأستاذ عمر الدسوقي
في العراق شباب ملء يومه ملء غده، يتقد حماساً لوطنه وعروبته، ويدأب ليل نهار في الدعاية لنفسه وقوميته؛ عرفته فعرفت الثورة الملتهبة المتأججة، والنفوس الطماحة المتوثبة، نفض عنه غبار القرون، واستيقظ فالتفتت الدنيا ليقظته، ثم زأر فارتاعت الأفلاك من زأرته؛ أينما حل فمعمعة ونضال، أو ضجة وجدال.
وفد على مصر منذ عشرة أعوام أول بعث للفتية العراق، ليطفئوا صدى نفوسهم من كوثر العلم، وينشروا بين أبناء الكنانة فكرة جليلة سامية، تشبعت بها نفوسهم، وامتزجت دماؤهم، وتراءت لهم في الحلم عزة وقوة، وفي اليقظة عظمة وفتوة؛ ولكن راعهم أنا بنهضتهم جاهلون، وعن دعوتهم معرضون.
دعوا للوحدة العربية، فألفوا قلوباً غلفاً وآذناً صماء وعقولاً سيطرت عليها فكرة الفرعونية، وبلبلتها السياسية المصرية؛ فلم ينكصوا على أعقابهم، أو يقنطوا من نجاحهم، بل طفقوا يبدون دياجير هذا الجهل، ويعرفون أبناء النيل ببلاد تعجب بهم، وتعلم عنهم أكثر مما يعلمون عن أنفسهم، ويرسلونها صيحة من فؤاد مؤمن بما يدعوا إليه، موقن بأن هناك من سيستجيب له: أن تعالوا إلى كلمة تجمع شملنا المبدد، وتعيد إلى الحياة مجدنا الغابر، وتحلنا بين الأمم مكاناً عالياً، يبعث في قلوبهم الهيبة والرهبة، ويغدوا شجي في حلوق الطامعين، وقذى في عيون المستعمرين، ويحبط كيدهم ويبطل إفكهم؛ فينشدون ودنا بدلاً من عدائنا، وحلفنا عوضاً عن استعمارنا.
لبى ندائهم من فطن إلى ما انطوت عليه جوانح المستبد الغاصب ورأى في تلك النزاعات الإقليمية هوة سيتردى فيها أبناء العروبة وهم في غفلة ساهون؛ فما البربرية، والفرعونية، والفينيقية، والآشورية، إلا شباك نصبها الطامع الشره ليحول بيننا وبين الوحدة المنشودة التي يخشى أن تزلزل الأرض تحت قدميه، وتضع السيف والنار أمام عينيه، إن عاد إلى ما ألف من عبثه بهذه الديار وذويها أو لم يمزق أوصال الشام، وقد مرت عليها العصُر وهي لا تعرف من دواعي الفرقة شبحاً، وهي تلك الصخرة الشماء من العزة والإباء،
تنحسر عنها أو أذى الكائدين كليلة خائبة؟
عزة عليه وقد خرج من معمعان الحرب نشوان بحميا الظفر أن يرى ديار العروبة تتحفز للوثوب، وتجثم للنهوض، فعالجها بضربة خالها قاضية، وفرقها أباديد، حتى لا تطمع في قوة أو تأمل في عزة، وحتى لا تعيد على مسرح التاريخ تلك الأنفة والحمية والأيد والجلد والاستهتار بالموت، في سبيل الكرامة والشرف والعقيدة، أيام أن حشدت أوربا جموعها وشنتها حرباً شعواء على هذه الديار باسم الدين، فأصبحت العراق في قبضته، ومصر في حوزته، والشام أشلاء ممزقة. فما فلسطين وسوريا، ولبنان، وجبل العلويين، وجبل الدروز، والإسكندرونة، إلا أعضاء جسد واحد كان من قبل رمزاً للجد والنشاط والشهامة؛ وأخذت طرابلس الغرب تسير وئيداً في سبيل الفناء، وأحال تونس والجزائر بلاداً لا هي شرقية ولا غربية، فمسخت مسخاً، وتبلبلت ألسنة بينها برطانة لا هي فرنسية فتفهم، ولا هي عربية فيفخروا بها، وعمد إلى مراكش فكان للإسلام والعروبة كيداً، وحاول أن يهدم هذا الدين بعرف قد عفت عليه القرون ولا يصلح لحضارة ولا يبعث رقياً.
فطن من لبى نداء هؤلاء الفتية الأخيار إلى كل هذا، وإلى أن ذاك التراث المجيد قد كان بالأمس منبعاً للنور والمجد والرحمة والإنسانية، يفيض على الدنيا وقد جللتها سحب الجهل والظلم، وإلى أن هذه البلاد على تباين أسمائها تلهج بلغة واحدة، وتعتز بتاريخ واحد اشتركت فيه البؤساء والضراء، وتشعر بشعور واحد، وتنحدر من اصل واحد.
وإذا لم تكن اللغة أداة التعبير ورمز التفكير ووسيلة تصوير الشعور والوجدان، عاملاً من عوامل الوحدة وتأليف الأفئدة، فما يكون؟
وإذا لم يكن التاريخ والأدب والدم، صلات وثيقة، توحد بين الصفوف، والأهداف والغايات، فماذا يكون؟ أسسوا جمعية صغيرة متواضعة تدعو إلى ذلك الغرض النبيل السامي، وتعمل في إخلاص على توثيق عرى المودة بين أبناء العروبة في مصر، فانضوى تحت لوائها شباب طاهر بريء من نزاعات الأحزاب القديمة وحزازاتها الشخصية.
ولكن ما لبث أن سعي إليها الشيوخ يريدون أن يسخروها لأهوائهم؛ وطفق هؤلاء يستهوونها بالمال، وهؤلاء يمنونها بالتأييد، وهي بين ذلك تلقى من السخرية والتهكم ما يضعضع العزائم الثاقبة، ويثبط الهمم الصارمة.
يا طالما كنت أعتذر لهؤلاء الرفاق عما يبديه بنو جلدتي من جفوة وإعراض، وأقول: إنهم متى فرغوا من صراع العدو الغاصب، ونفضوا أيديهم من نزاله، فيسمدون إليكم الأيدي طواعية، وستنفتح قلوبهم لدعوتكم الرشيدة، إن راموا عزاً ومجداً لهم ولبلادهم؛ فلا تهنوا ولا تحزنوا، وثابروا على جهادكم، فإن جلائل الأمور لا تنجز بين طرفة عين وانتباهتها.
غادرت مصر، ونزلت مدينة (إكستر)، ووفد علينا جماعة من العراقيين يطلبون العلم بجامعتها فقلت: ها. . . إن الميدان قد تحول من ضفاف النيل إلى ربوع إنجلترا، ولكن وا أسفاه!، قد استمرأ هؤلاء الفتية حياة اللهو والدعة، فإذا دعوتهم إلى الجد وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصروا واستكبروا استكباراً.
ثم رحلت إلى لندن، ووجدت فيها نخبة طيبة من أبناء العراق وفلسطين، قد اتخذوا الجد قبلة يولون إليها وجوههم صباح مساء، وحرصوا كل الحرص على أن يملئوا كنائبهم لا بسهام محطمة من الخزعبلات والدنايا، ولكن بالثقافة العالية والدراسة المجدية؛ حتى يكونوا في ساحة الجهاد أولى قوة وبأس شديد، حتى يحطموا عن شرقنا المسكين هذه الأغلال التي كبلته، وعاقته عن النهوض والرقي زمناً طويلاً؛ حتى ينازلوا الجهل بالحكمة، والأفن بالعقل، والميول النابية والأحقاد المزمنة والأغراض الحقيرة، بالصرامة الحازمة والعقيدة الجازمة.
أجمعوا أمرهم على تأليف جمعية عربية في لندن، تبث تلك الدعوة الصالحة بين شباب العرب، وتقرب بين آمالهم وأهدافهم فإذا ما تشربتها قلوبهم، واطمأنت إليها ألبابهم، كانوا رسل الوحدة العربية في ديارهم، وتعرف الإنجليز بنا، وبحضارتنا، ونهضتنا. ثم بدا لهم أن يكونوا كذلك لفلسطين جنوداً على ضفاف التاميز يهبونها من حرارة إيمانهم، وثمار عقولهم، ما شاء لهم حبهم الطاهر لبلادهم، وقصدهم النبيل في إسعادها.
لليهود في إنجلترا سطوة وقوة، وتجارة واسعة عريضة نامية، ودعاية سديدة منظمة، ينفقون عليها الأموال الطائلة؛ ولهم في دار النيابة خطباءهم أمراء البيان، يذودون عنهم بكل ما أوتوا من قوة وفصاحة.
وأنى لنا، ونحن شباب لا تظاهرنا حكومة، أو يشجعنا ثري أو تشد أزرنا سفارة، مباراتهم في الدعاية التي آمن بها الإنجليز عامتهم وخاصتهم لكثرة ترددها على أسماعهم، اللهم إلا
ذاك النفر القليل الذين ساحوا في البلاد العربية، وفقهوا سر شكواها وكنه مصابها. ولقد وجدنا في هؤلاء نصيراً شد عضدنا، وسدد خطانا، وبذل في سبيل قضيتنا الوقت والمال عن سماحة وطيب نفس.
أخذنا ندمج المقالات الضافية، تنطق بالحقائق الناصعة، ونذيعها تارة بالخطابة، وأخرى بالكتابة، على الرغم من إيصاد الصحف أبوابها دوننا. وقد مُهد لنا السبيل لمناقشة فريق من أعضاء المجلس النيابي، فكان منهم من يرى رأينا ويشد أزرنا، ومنهم من يشيح بعطفيه ويزور جانباً.
لم نقصر دعوتنا على طبقة دون أخرى من الناس، بل جلنا جولات صادقات في كل مجتمع وندى، وهتفنا باسم فلسطين العربية ما أتيحت لنا الفرصة.
جاءت وفود العرب تترى لحضور حفلات التتويج، يقدمهم أمراء العرب الأمجاد، فقلنا: لنا لن يجتمع في هذه البقاع من أبناء العروبة جمع مثل هذا يحميه ويؤيده ويزينه سلائل الملوك الصيد من أبناء عدنان وقحطان. . .!
فلنصرخ صرخة مدوية تخترق شغاف هذه الأفئدة التي أغواها الصهيونيون، ولكن زأرة الأسد ربع حماه، لحمتها الشمم، وسدها الإياء، لا عويل الذليل يسترحم القلوب بالنحيب والبكاء. . .
رغب صحبي في أن يقيموا حفلاً نجتمع فيه بأمرائنا الأخيار، فنؤدي واجب التكريم والتبجيل، ونعلن لهم عزم الشباب على الفناء في سبيل العروبة واتحاد القوى؛ ورأوا أن ما بأيديهم من المال قليل، فغضوا الطرف عن دعوة ذوي الرأي والجاه في إنجلترا، وكنت أرى نمد الدعوة إلى رجال الصحافة وكبار القوم، حتى يروا رأي العين جمعنا الباهر، واتحادنا المتين، وحتى تصل كلماتنا إلى قلوبهم لعلها تلين. وهبت زوبعة من الجدال والنقاش كادت تعوقنا عن بلوغ هذا الشرف الرفيع، لولا أن شد أزري صديق كريم وتعهدت وإياه أن نقوم بسداد ما يزيد من النفقات إذا لم تهز الأريحية أفئدة أمرائنا الغر الميامين ذوي السماحة والندى، فيهبوا للحمية من نفحاتهم ما يعز مقامها ويعلي منارتها.
وكان حفلاً لم تشهد لندن نظيره من قبل روعة وبهاء وعظمة ورواء بل كان حفلاً فريداً قل أن يجود التاريخ بمثله. وكيف لا. . . وقد شرفه أمراء العرب، وتلاقوا فيه لأول مرة
جميعاً ملبين نداء الشباب، ومنافحين عن فلسطين الشهيدة.
كبت به من خال أن اتفاق العرب محال، لشدة تنافرهم وتحاسدهم، وتباين أهوائهم ومطامعهم، بيد أن عزمات الشباب تذلل الصعاب وتحقق الرغاب.
وقرعت دعواتنا أسماع من طالما صدفوا عنها، وفتحت الصحف لنا أبوابها بعد أن أطنبت في وصف ذاك المشهد الفخم وهذه المظاهرة العربية الجليلة الوقورة.
وقد حقق أمراؤنا الأبطال آمالنا، فما إن سمعوا نداءنا حتى جاشت في قلوبهم حميا النخوة والكرامة، ففاهوا بكلمات تفصح عن نفوس عامرة، وأفئدة ملؤها النبل والإباء، وقالوا: إن بلاد فلسطين ومحنتها تقص منا المضاجع، وتحز القلوب حزاً، وإن خروجها من المعمعة سليمة مستقلة ظافرة لأمل نضعه نصب أعيننا وصلاة نرتلها صباح مساء، فثقوا بنا وبجهادنا والله يرعانا ويرعاها.
وغمرت عطاياهم جمعيتنا الفتية، فأصبحت في الجهاد أثبت قدماً، وأشد باساً، وأعلى صوتاً، حتى ضاق بها الصهيونيون ذرعاً، فما قام منهم خطيب ينفث في الناس سمومه وتخرصاته، إلا وجدنا أمامه نبطل كيدهم وندحض باطله.
وعدت ذات مساء إلى داري، فرأيت ربة الدار محزونة مكتئبة فسألتها: ما بالها؟ فقالت:
- جاء اليوم فتيان من أبناء صهيون، ينم حديثهما عن خبث طوية ولؤم حاد، وطلبا إلى أن أسدي لك النصيحة بالحسنى عن لسانهما، وأناشدك الله واهلك وغربتك إلا أقلعت وصحبك عن مناوأة جهادهم، وإن أبيت إلا اللجاج والعناد، فلهما معك يوم ما بعده ثم قالت: أني أخشى عليك هؤلاء القوم، إذ لا تؤمن لهم غائلة، ولا يتعففون عن دينة؛ وما كان لي أن أزج بنفسي في خاصة أمورك لولا انك نزيل داري؛ وأنا لهؤلاء الصهيونيين مبغضة وعليهم حانقة.
فقلت: شكرا لكي - سيدتي - هذا العطف الجم، والشعور الكريم، ولا عليك من هؤلاء فلن يضيرني منهم شيء، وسنرى.
عمر الدسوقي
تأملات وتفكرات
شارلي شابلن العبقري
في الخمسين من عمره!
(مهدأة إلى السيدة أ. ش)
للأستاذ زكي طليمات
سرعان ما تجري الأيام وتمر السنون!
يرتقي شارلي شابلن علم الأعلام في دنيا السينما أول درجات العقد السادس بعد أن سلخ من عمره خمسين عاماً.
بلغ شارلي شابلن هذه السن ونال كل ما تتوق إليه النفس من الجاه ونباهة الذكر وقلائد الذهب وأكاليل الغار، إلا انه بقي محروماً من دفء الحنان وراحة العيش في ظل امرأة صالحة، لأن الحظ السعيد الذي وأتاه في كل شيء أبى أن يواتيه في النساء.
والنساء في حياة الفنان المرهف الحس القوي الطبع. عنصر لا غنى عنه في استكمال السعادة المنشودة.
ومع هذا فإن شارلي شابلن قد تزوج ثلاث مرات إلا أن كل زواج منها كان ينتهي دائما بالخيبة!
تدخل المرأة في حياة شارلي شابلن فينطوي عليها وتغدو نصفه الثاني ويتفانى فيه كما تتفانى فيه وقتاً من الزمن، وينفخ العبقري الفنان في النصف الجديد أنفاساً من روحه الخلاق فتغدو شيئاً وينبه لها ذكر، ويعلو لها شأن، وتسود الألفة بينهما بما يستجلب عليها حسد الحاسدين ثم. . .
ثم يأخذ النفور بعد ذلك يدب بينهما فتخمد الجذوة المتقدة في قلب الزوجة المعجبة بزوجها، وتنتهب الزوجة آلام الخيبة والجحود، وينتهي الأمر بينهما بالطلاق!
عجيب هذا الأمر، وأعجب منه وقوعه مع رجل دمث موفور الحظ من اللباقة والظرف، عرك الحياة، وعرف طباع الناس!
اختلفت الآراء في تفسير هذه الظاهرة، وانبرى الكتاب يفسرونها حسب أهوائهم، ولم
يتورع بعضهم عن اتهام العبقري الممثل بشذوذ في الطبع وبخرق في الرأي وإن لم ينكروا عليه لطف المعاشرة ولين الجانب وبسط اليد.
ألا إن المتأمل في حياة شارلي شابلن، الفاحص عن أمر طبعه ومنزعه بما يطالعه له من آثار وحيه عن الشاشة البيضاء، يرى غير ذلك إذا توخى الإنصاف والدقة، وتعمق في استكناه في ما وراء وعي هذا العبقري الممثل.
إن شارلي شابلن عبقري فنان. والفنان الحق خّلاق، والخلاق من طبعه البذل والتضحية والإسراف في الجهاد.
تعود شارلي أن يصدر عن كل هذا في عمله، ومؤلفاً كان أو ممثلاً أو زوجاً.
وما كان هذا شأنه فإنه يتطلب الكثير من الناس، ولا يقنع بالغذاء العادي الذي تقدمه المرأة من عطفها وحنانها. هذا والفنان الصادق أثر يحب نفسه وهو لا يشعر، فهو يميل إلى الاستئثار بكل ما يعمر قلب المرأة التي يهبها قلبه، وينزع إلى سوء الظن بما يلقاه من تقصير أو فتور غير معتمد، ويعده جحوداً ونكران جميل. . .
وهكذا كان شارلي شابلن يتطلب من زوجاته أن يعطينه مثل يعطيهن.
هذه هي العلة، وهذه هي غلطة شارلي شابلن مع النساء أو بالأحرى هي غلطة كل فنان خلاق كبير القلب دافق الروح، شاعراً كان أو ممثلاً، أو مصوراً، بل لعلها هي غلطة كل كريم نفس يشرف هذه بذل حبه وكريم عواطفه لإحدى بنات حواء.
ونخرج من هذه المأساة العاطفية بشيء واحد، وهو أنه وهو واجب على الرجل ألا يأمل كثيراً ما عسى أن تمنحه المرأة إياه وأن تقنع منه بظرف المعاملة، بينما ببسماتها الوردية، وبلمسات شعرها العطر، وبومضات جسدها الشاب المضيء. إن لم يفعل ذلك - وواجب عيه أن يفعل - فإنه لا يجني من حياته العاطفية سوى أشواك الجحود والخيبة.
أما ذوي القلب الكبير والروح الخلاق، الصادي الذي لا تروى علته جرعات من الماء فخير له ألا يبحث عن السعادة في ظل امرأة.
لم يكن غريباً بعد هذا أن نلمح في ابتسامات شارلي شابلن أفواه الجروح، وأن نسمع في صدى ضحكاته أنات العويل. إن المسكين يضحك خشية أن يسترسل في بكاء.
ولا عزاء للمسكين في محنته هذه، وفي عزلته. لقد تجاوز السن التي تجعله مرموق
الحسان. إن ابن الخمسين لا يصلح إلا أن يكون ملجأ لمنكودات الحظ في الحب أو في الزواج أو طالبات العيش الهادئ في كنف الرجل كان ما كانت سنه، أو العوانس اللواتي يكابرن الدهر والدهر يتطاول عليهن، أو الغواني من قانصات المال والجاه العريض، وهذا الصنف من المخادعات إذا قابلن رجلاً في منحدر العمر، همسن في أذنه أنهن لا يحببن الشباب لنزقه وتيهه، ولكن يعشقن الشيوخ لرجاحة عقولهم وفيض حنانهم.
وشارلي العبقري الفنان، ابن الخمسين، لا يجهل ذلك. ولهذا فقد قدر عليه أن يعيش محاطاً بكل لذائذ الحياة، من مال وجاه وفخار إلا لذة الهجوم إلى صدر امرأة يخفق قلبها بحب خالص له. قدر عليه أن يكابد مرارة الحرمان الدائم، وقسوة الوحدة، وحمى الضمأ الذي لا يرويه ماء.
وهذا كله فدية الروح الخلاق والطموح الذي لا يتطامن، وهذا أيضا فدية المجد الذي علقه شاباً ورجلاً وكهلاً.
زكي طليمات
العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 3 -
تحدث المحرر في المقالين السابقين عن بعض مشاهداته في الصحراء الغربية فوصف سحر الصحراء، وأني في كلمات وجيزة على ذكر كثير من عادات العرب وصفاتهم، وتحدث عن حكامها ودون عنها معلومات عامة طريفة. وهو في هذا المقال يتحدث إلى القراء عن ساحل الصحراء الغربية وهطول الأمطار وموارد المياه على الساحل وسكة مريوط الحديدية وسكان الساحل وقبائل الصحراء الغربية حديثاً شائقاً طريفاً.
ساحل الصحراء الغربية
يمتد القسم الساحلي من الصحراء الغربية - وليس له اسم معين معروف - اسم من الشمالالغربي من الإسكندرية شرقاً إلى السلوم غرباً؛ ويبلغ طوله نحو 500 كيلو متر.
وقد أطلق عليه القرطاجنيون اسم (ساحل ليبيا) وورد ذكره في كتابات هيرودوت عند وصف رحلات الفينيقيين والقرطاجنيين إذ وصف سكان هذا القسم بما لا يخرج عن حالتهم في الوقت الحاضر وطرق معيشتهم بعد الفتح الإسلامي. قال: انهم يرتدون ملابس اللوبيين، وتضع النساء خلاخيل في أرجلهن ويرسلن شعورهن تنمو وتطول؛ ومن عاداتهم أن للزواج وقتاً ومعيناً، وهو عندهم عيد عظيم، إذ تحضر القبائل - عند افتتاح موسمه - أجمل الفتيات الراغبات في الزواجفيقفن أمام ملكهم ليختار لنفسه منهن زوجة جديدة قبل أي مخلوق آخر.
ولكن هذا الشعب قد انقرض الآن واندمج في القبائل العربية بعد الفتح الإسلامي، واصبح سكان هذا الإقليم من العرب قبائل أولاد علي.
والقسم الساحلي هو شريط رفيع من الأرض المتعرجة الصالحة للزراعة. ويتراوح عرضه من الساحل جنوبا بين 20 و 50 كيلو متر، وبتسع من جهة الشرق - العامرية - ثم يأخذ في الضيق عند ما يتجه غرباً، وينهي تقريباً عند السلوم حيث تقترب هضبة ليبيا الكبرى
من الشاطئ وتدخل في مياه البحر
أما أسماء التلال ورؤوس الخلجان فلها تاريخ اثري قديم، ولا يزال العربان يعثرون على آثار ذات قيمة وخاصة من العصر الروماني. ونذكر من أسماء هذه التلال بعضها وهي: رأس الكنائس (وكانت تعرف برأس حرموم)؛ ومرسى مطروح وكانت تعرف براننيوم؛ وميناء النجيلة وكانت تعرف بجازيس، وميناء جرجوب وكانت تعرف بأيبس، والسلوم وكانت تعرف ببرانومس، ورأس الملح في طرابلس وكانت تعرف بأردينس، وميناء البردي وكانت تعرف ببترامجنا.
هطول الأمطار
تعد مسألة هطول الأمطار في هذا الإقليم من المسائل العجيبة حقاً، فبينا يهطل المطر بغزارة في مكان ما، إذ تراه ينحبس عن مكان آخر قريب من الأول جداً؛ غير أنه يهطل بحالة دائمة في مناطق معلومة مبعثرة عن الشاطئ يعرفها العرب انفسهم؛ ويستمر من ثلاثة أشهر إلى أربعة في السنة؛ تبدأ من أكتوبر أو نوفمبر وتنتهي في شهر إبريل؛ وفي بعض الأحيان يهطل المطر مرة واحدة وذلك في شهر مايو، ويسميه العرب (مطر البطيخ).
وبعد نزول الأمطار في الواحات كواحة سيوه مثلاً من الأمور النادرة؛ وإذا استمر سقوطها قليلاً سبب هدم منازل الواحة المصنوعة من (الجالوص) وقد حدث ذلك في سنة 1919 م؛ وكذلك في شهر إبريل سنة 1937 م؛ واستمر هطول الأمطار يومين كاملين؛ فأوقع ضرراً بالمنازل وهدمها، وبقى السكان هناك مدة بلا مأوى.
موارد المياه على الساحل
تنتشر في المنطقة الساحلية خزانات المياه الرومانية، وهي محفورة في الصخر بنظام هندسي عجيب يمنع تسرب المياه منها، وتبقى فيها لمدة سنين، وكان الرومان يستعملونها قديماً ولا يزال العربان يستعملونها إلى الآن؛ وبعض هذه الخزانات كبير الحجم يتسع في بعض الأحيان لآلاف من الأطنان تكفي لأعوام طويلة كالخزانات الموجودة في العامرية ومطروح وسلوم؛ وتهتم الحكومة بتنظيف هذه الخزانات وإصلاحها وطلائها بالأسمنت؛ وتوجد المياه كذلك في بعض آبار (جمامات) على الشاطئ ويسميها الغرب (بالثواني) وهي
أكثر ما توجد في المناطق الرملية.
وتوجد الدواوير والزوايا بكثرة حول المناطق الغنية بالمياه وخاصة ما كان منها قريباً إلى الشاطئ. ويزرع السكان حولها الزيتون والتين والعنب وبعض أصناف الخضر.
سكة مريوط الحديدية
هي إحدى منشات الخديو السابق، وكانت تمتد قديماً إلى بلدة فوكة على بعد 120 كيلو من الإسكندرية. ثم نزعت قضبانها في أثناء الحرب العظمى سنة 1916 لأغراض حربية وانتهت عند بلدة الضبعة على بعد 102 ميل من الإسكندرية.
أما الآن فقد تم مدها إلى مرسى مطروح أي إلى مسافة 312 كيلو متراً من الإسكندرية ولهذه السكة تاريخ غريب: فقد كان الخديو السابق يزمع مدها إلى السلوم على حدود مصر - طرابلس، أي نحو 514 كيلو متراً من الإسكندرية. وكان غرضه من ذلك أن تقرب السفر إلى أوربا يومين، وكان يرمي إلى مد فرع آخر منها من مرسى مطروح إلى سيوة أي مسافة 300 كيلو متراً أخرى وذلك لنقل محصول البلح والفواكه واستغلال أملاكه الكثيرة التي يملكها في هذه الواحة. ويتضح لمن ينعم النظر في هذا المشروع أنه لا يأتي بالفائدة المرجوة منه ولا يسد تكاليفه الباهظة. ولقد أدى ذلك إلى تدخل المعتمد البريطاني في أمره وشرائه باسم الحكومة المصرية تفادياً من استخدامه لأغراض حربية.
سكان الساحل
يقطن المنطقة الساحلية قبائل من العربان الرحل تعرف بقبائل أولاد علي. وكلهم من البدو الذين يعيشون عيشة غير مستقرة فيزرعون الشعير والحنطة على الأمطار ويشتغلون في وقت الجفاف بنقل حاصلات بلح الواحات إلى الساحل ويعودون بالحبوب والسكر والشاي وسائر الحاجيات إلى الواحات ثانية.
والبدوي بطبيعته يفضل السير في الدروب المطروقة الظاهرة للوصول إلى مقصده، وهو لا يفكر في اختراق أرض مجهولة. ولكن إذا انفق أن أمطرت السماء وغمرت بعض الأراضي ونبتت فيها المرعى فسرعان ما يتجه إليها البدو من كل الجهات لترعى مواشيهم؛ ورعاية الماشية تتطلب السير في مختلف أراضي المنطقة، وبهذه الوسيلة يسير
البدوي فيها فيتعرف على دقائقها جيداً. وللعربي خاصية حفظ الأشياء والمناظر الطبيعية والعلامات الأرضية فهي تنطبع في ذهنه لأول وهلة. على أن هذه الخاصية لا تتوفر لجميع البدو، بل هي تتوافر عند قليلين منهم يعرفون بالأدلاء. وللدليل البدوي مهارة عجيبة مدهشة في تعرف الطرق وسهولة ارتيادها وتمييز الجبال والتلال والقدرة على السير ليلاً في أشد الليالي حلكة وظلاماً.
قبائل الصحراء الغربية
يسكن صحراء ليبيا من النيل إلى جالو والكفره فريقان من البدو: السعادي والمرابطون، وهم جميعاً من نسل (سعدي). وهم ثلاثة فروع:
سعدي. وقد أنجبت جبريل وبرغوث وعقار. ومن ذرية جبريل: العواقير والعربيات والمغاربة والجوازي. ومن ذرية برغوث: عبيد والعرفة والفوايد. ومن ذرية عقار: علي والحرابي والهنادي وبني عونة والجمعيات، ومن ذرية علي: أولاد علي الأبيض وعلي الأحمر والسننة. وأولاد علي الأبيض هم: أولاد والسنافره والعزايم والأفراد. وأولاد علي الأحمر وهم: القنيشات والعشبيات والكميلات. والسننة هم: العزوة، والقطيفة، والمحافيظ، والعجنة.
ويسكن أولاد علي الصحراء الغربية.
أما (المرابطون) فهم أقدم من السعادي ولكنهم متفرقون وكل قبيلة منهم في حمى قبيلة من السعادي، ولعل ذلك يرجع إلى أن السعادي جاؤا البلاد فاتحين؛ ويعرف المرابطون أحياناً بالصدقان أو الأصدقاء. وأهم قبائلهم: زوي، والمجابرة، والمنفة، والموالك، والشواعر، والجرارة، والقطعان، والحونة والجبابل، والتراكي، والشهيبات والفواخر، وترهونه، والعوامة والصوانقة الخ. . .
وهؤلاء موزعون في الصحراء وفي حمى السعادي. وكل قبيلة منهم مسؤولة عن الدفاع عمن تحميهم من المرابطين.
ويقدر عربان هذه الصحراء بنحو 55 ألفا. وهم جميعاً معروفون بشدة الولاء والإخلاص لجلالة الملك وآل بيته الكريم لما لاقوه من عطف محمد علي باشا الكبير رأس الأسرة العلوية، وما منحه إياهم من امتيازات لا يزالون يذكرونها، ويفخرون بها ويتوارثونها جيلاً
بعد جيل.
عبد الله حبيب
ملحوظة: أكثر ما ورد في هذا المقال والذي قبله من البيانات المفيدة مأخوذ مما دونه صديقنا الصاغ رفعت الجوهري مأمور مرسى مطروح عن الصحراء الغربية.
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
أما عن ذهاب الجيش على تلك الصورة إلى عابدين فالمسئول عنه الخديو ووزراؤه، فلقد كانوا يعلمون ما في صفوف الجيش من تذمر وهياج ثم كانوا يعلمون مع ذلك مبلغ مقدرتهم على المقاومة فبدل أن يطفئوا النار زادوها بأساليبهم اشتعالاً، هذا فضلاً عن ذلك الموقف المزدوج الذي وقفه الخديو تجاه الضباط وتجاه الوزارة ولقد كان القصر أمام الجيش خلواً من أية قوة. فروعيت حرمته أحسن مراعاة؛ وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه ذلك الجندي الثائر عن طوره، بل تمالك نفسه فترجل وأدى التحية لمولاه. ثم ذهب فأعرب له عن ولائه، وشكره حينما أجيب إلى ما طلب باسم الأمة. . . ألا إنا لتعجب بذلك ونفخر به إذ نكتبه، وما نجد من الأدلة التي نسوقها على رجولة عرابي وشهامته وبعده عما رميه به خصومه أقوى من هذا الذي نشير إليه.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كان يدبر في خبث من الدسائس في ذلك الموقف الرهيب، وذكرت كيف أحبطها عرابي بمزيج من البسالة والصبر يدعو إلى الإعجاب، ازددت لا ريب إكباراً لموقفه في ذلك اليوم. ولقد كانت أية كلمة نابية أو أية إشارة يساء فهمها كفيلة بأن تسيل الدماء في تلك الساحة. قال عرابي:(لو حاول الخديو قتلي لأطلقت النار عليه).
ولن يفوتنا أن نذكر أن عرابياً قبل ذلك كله قد اتصل بقناصل الدولة، وأفهمهم قبل أن يتحرك نحو عابدين أنه يقصد بعمله هذا مظاهرة سليمة، وأكد لهم بالغ حرصه على الأمن.
كما أنه كتب إلى الخديو قبل أن يذهب. فكان بذلك كله حكيماً موفقاً لا يدع مسلكه غميزة، أو يهيئ سبباً لملامة. . .
نجحت حركة عرابي إذاً أتم نجاح وأجمله وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهداً يسود فيه الإصلاح والنظام؛ فلقد كان قبول الخديو مطالب عرابي التي أشرنا إليها ينطوي على معنى
عظيم ألا وهو مرافقة حاكم البلاد على التخلص من الحكم الاستبدادي الرجعي، والعودة إلى حكم الحرية الدستورية الذي سبق أن وافق عليه يوم تبوأ عرشه ثم عاد فتنكر له حين اطمأن في مصر إلى كرسيه.
وقد عارض شريف باشا أول الأمر في قبول الوزارة، وكانت حجته في ذلك أنه بقبوله الحكم دون قيد ولا شرط إنما يضع نفسه تحت سلطة الحزب العسكري، الأمر الذي لا يستطيع أن يحمل نفسه على قبوله؛ ولذلك دارت بينه وبين رجال هذا الحزب مفاوضات استمرت بضعة أيام تحرجت الأمور فيها حتى أوشك أن يتنحى شريف عن قبول الوزارة نهائياً.
ولكن لاحت بوارق الأمل عقب ذلك، وكم كان جميلاً أن تلوح من جانب ذاك الذي لا يزال نفر من المصريين حتى وقتنا هذا يرمونه بالفوضى ويعودون بأسباب ما لحق مصر من ويلات إليه، فيقيمون الدليل بذلك على أنفسهم أنهم إما ذووا أغراض أو أولو جهل معيب بحقائق الأمور.
كان جميلاً أن يبرق الأمل من جانب عرابي، فلقد دعا يومئذ أعضاء مجلس شورى النواب المعطل وعرض القضية عليهم وكان على رأسهم سلطان باشا ذلك الذي كان يعتبر في تلك الأيام من أكبر زعماء الحركة الوطنية.
وذهب إلى شريف وفد من هؤلاء يرجون منه قبول الحكم، فعرفوا منه انه يشترط ألا يتدخل الجند في شيء، ويريد أن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكانين يختاران لهما، وأن يترك قبل ذلك حراً في اختيار وزرائه لأن عرابي كان يطلب إليه إعادة البارودي وإدخال مصطفى باشا فهمي في الوزارة، وكان شريف يرفض ذلك لأنهما لم يثبتا على عهدهما فدخلا وزارة رياض عقب إقالة وزارته.
وتعهد هؤلاء الزعماء برياسة سلطان أنهم يضمنون لشريف خضوع الحزب العسكري، وكان بين هؤلاء من ذوي المنزلة في البلاد سليمان أباظة والشريعي والمنشاوي والمويلحي والشمسي والوكيل، وهم أهل جاه وسلطان يعرف شريف قيمة انضمامهم إليه.
وذهب عرابي بنفسه إلى شريف، قال عرابي: (وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1881 قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة فأصر على الرفض فقلت له: (إن لم
تؤلف الوازرة اليوم فسنطلب غيرك ولا تظن أن ليس بالبلاد سواك فيها بعون الله العلماء والحكماء ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز الخطير. . . فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جواباً ثم خرجنا من عنده وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور (وكيل زراعته) وقال إن الباشا قبل ما عرضته عليه).
وألف شريف وزارته الثالثة وكانت هذه أولى ثمار الثورة، وقد قبل الوزيرين اللذين أشار بهما عرابي، كما قبل ما رجا منه قبوله رجال العسكرية وهو النظر في القوانين الخاصة بالجيش وذلك في نظير أن يخضعوا لحكمه ويبتعدوا عن كل تدخل.
وراحت مصر تستقبل في تاريخها فترة من أسعد الفترات فلقد نالت أمانيها دون أن تراق نقطة دم، وخرجت سالمة آمنة من ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب أهم الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية؛ ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب ثورة سنة 168 في إنجلترا وإلى جانب الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية الكبرى؛ ولولا ما كتبه المغرضون المبطلون من الأجانب عنها، وما ضربه الاحتلال على الآذان والقلوب فحال بين المصريين وبين تاريخ قوميتهم الحقيقي لكان لتاريخ هذه الثورة شأن غير هذا الشأن في هذا البلد المسكين.
ولقد كان المستر بلنت في مصر يومئذ فوصف تلك الأيام السعيدة بقوله: (إن ثلاثة الشهور التي أعقبت هذا الحادث لهي من الوجهة السياسية أسعد الأيام التي شهدتها مصر، ولقد أسعدني الحظ بمشاهدة ما جرى فيها بعيني رأسي فلم أتلق معلوماتي عنها بطريق السماع ولو كان ذلك لشككت في حقيقتها. إني لم أر في حياتي ما يشبه هذه الحوادث وأخشى ألا أرى مثلها في المستقبل إن كل الأحزاب الوطنية وكل أهالي القاهرة قد اتفقت كلمتهم هنيهة من الزمن على تحقيق هذه الغاية الوطنية الكبرى، لا فرق في ذلك كما يظهر بين الخديو والأمة، وسرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها على ضفاف النيل منذ قرون فكان الناس في شوارع القاهرة حتى الغرباء منهم يستوقف بعضهم البعض يتعانقون وهم جذلون مستبشرون بعهد الحرية العظيم الذي طلع عليهم على حين غفلة طلوع الفجر إثر ليلة مخيفة حالكة الظلام).
تقدم زعماء والعلماء إلى شريف بالعرائض يطلبون إعادة تشكيل مجلس شورى النواب؛
وما كان شريف في حاجة إلى مثل هذا الطلب إذ كان في مقدمة ما ينتويه تقرير مبدأ الشورى وتثبيت قواعد الدستور وليست هذه أولى محاولاته في هذا السبيل.
ودعا وزير الحربية عرابياً، فأفهمه رغبة الحكومة أن يسافر بفرقته إلى رأس الوادي، وأن يسافر عبد العال إلى دمياط. فقبل عرابي ذلك، ولكنه اشترط أن يصدر أمر الخديو بانتخاب النواب قبل السفر، ولا ريب أن هذا الشرط من جانب عرابي خروج منه على ما أخذه على نفسه من عدم التدخل في شؤون الحكومة؛ وهي نقطة لا يسعنا إلا أن نحسبها عليه. بل ونلومه عليها مهما كان ما ينطوي عليه طلبه من خير للبلاد، ومهما كان في هذا الطلب من معاني حرصه على الدستور والحياة النيابية، وبخاصة إذا كان على رأس الحكومة رجل مثل شريف.
أما عن امتثاله لأمر الحكومة بقبول السفر، فهو أمر في ذاته - على الرغم ما أحيط به من اشتراط - يعد من محامد عرابي. إذ يدل على مرونة وكياسة ورغبة في التفاهم شتان بينها وبين ما يعزوه إليه خصومه وجاهلوه من الحماقة والنزق والعنف في كل ما يطوف بهم من سيرته. كما أنه يقدم بطاعته هذه دليلاً آخر على حسن طويته ونبالة غرضه فيما سعى إليه.
وفي اليوم الراب من أكتوبر سنة 1881 رفع شريف إلى الخديو مذكرة يلتمس فيها موافقته على دعوة مجلس شورى النواب، ولم يكن للخديو من إجابة رئيس وزرائه إلى ما طلب وما كان أغنى توفيقاً عن أن يعطل هذا المجلس لو أنه كان يحسن النظر في عواقب الأمور. إن البلاد اليوم لتحس أنها تصل إلى بغيها نيلا لا سؤالاً، ولسوف يكون لهذا الإحساس أثره فيما هي مقبلة عليه من الحوادث.
وخرج عرابي في اليوم الثامن من ذلك الشهر يقصد السفر بفرقته إلى رأس الوادي، وكان قد سبقه إلى السفر إلى دمياط عبد العال. وسار عرابي بطريق الحسينية حتى وصل إلى مسجد الحسين رضى الله عنه. (فوقف الآلاي مقابلاً للمسجد تعظيماً وإجلالاً لسبط الرسول علي الصلاة والسلام)؛ ودخل عرابي المقام الحسيني مع الضباط:(وأمر بيرق الآلاي على الضريح الشرف). ثم سار بعد ذلك نحو المحيطة. فما كاد يتوسط المدينة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ،
ويلقون في طريقه الزهر والرياحين.
وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري وجمهوراً من الأعيان وذوي الحيثية وعدداً هائلاً من عامة الناس فاحتفوا بمقدمه، وكانت توزع الحلوى وتنثر الزهور في فناء المحطة؛ وكان يتسابق الخطباء والشعراء في تمجيد ذلك جرى اسمه على كل لسان في مصر؛ ووقف عرابي في هذا الجمع خطيباً فقال:(سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد وقطعنا غرس الاستبداد، ولا ننثنى عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادً ولا تدميراً، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستبعاد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة، وقد ساعدتنا العناية الإلهية ومنحنا مولانا وأميرنا الخديو ما طلبناه من سقوط وزارة المستبد علينا السائر بنا في غير طريق الوطنية، وتمتعنا بمجلس الشورى لتنظر الأمة في شؤونها وتعرف حقوقها كباقي الأمم المتمدنة في العالم، ومن قرأ التواريخ يعلم أن الدول الأوربية ما تحصلت على الحرية إلا بالتهور وإراقة الدماء وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم أو نخيف قلباً أو نضيع حقاً أو نخدش شرفاً، وما أوصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا الاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد). وهتف عرابي بحياة الخديو واهب الحرية، وحياة الجيش، وحياة الحرية، ثم امتدح الوازرة ورئيسها ووصف البارودي بقوله:(رئيسنا الوطني الحر القائم بخدمة الوطن وأهله). وحذر إخوانه في الجهادية من الوشاة والحساد، وحثهم على الاتحاد قائلا:(البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه). ولنا في هذه الفقرة الأخيرة في خطبته عودة كما أن لنا عودة إلى فقرة غيرها نكتفي الآن بالإشارة إليها وهي قوله: (وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة ويجانب حدوث ما يكدر صفو الراحة).
واستقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار كما حدث في الزقازيق حيث كان على رأس مستقبليه فيها أمين بك الشمسي ووقف عرابي يخطب الناس هناك فكان مما قاله (أما القوة فنحن رجالها، ولا ننثني عن عزمنا في الجسم نفس، وأما الفكر فهو
منوط بأميرنا الأعظم ووزرائه الكرام. وأما العمل فهو منوط بكم فإن القوة والفكر يعطلان بفقد ثروة تربتنا الطيبة المباركة، وقد طلبنا لكم مجلس الشورى لتكون الأمور منوطة بأهلها، والحقوق محفوظة لذويها).
وقال عرابي في خطبة أخرى بالزقازيق (وأنتم الآن مهيئون للانتخاب فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم ويرفعون المظالم عنكم) ولم يسه في هذه الخطبة عن امتداح الخديو ووزرائه وهتف في ختامها قائلاً (يعيش الجناب الخديو).
وفي الزقازيق دعى لوضع أساس المدرسة الأميرية فذهب ووضع الحجر الأساسي باسم الخديو قال (وتلوت على الحاضرين خطبة ذكرت لهم فيها فوائد التعليم ومنافعه وفضل العالم على الجاهل والبصير على الأعمى، وحرضتهم على الاهتمام بأمر تعليم أولادهم ليكونوا مستعدين لخدمة بلادهم في المستقبل).
ثم سافر عرابي إلى رأس الوادي بعد أن أولمت له عدة ولائم في دور بعض وجوه مديرية الشرقية مسقط رأسه، وليس يخفى ما ينطوي عليه من معان تكريم هذا الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء؛ ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية الوليدة في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زماناً طويلاً لمظاهر السيادة والأرستقراطية
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
412 -
والله لا أدري أنا
أمين الدين الحوباني الصوفي:
مت في عشقي ومعشوقي أنا
…
ففؤادي من فراقي في عنا
غبتُ عني فمتى أجمعنى؟
…
أنا من وجدىَ مني في فنا!
أيها السامع تدري ما الذي
…
قلتُه؟ والله لا أدري أنا. . .
413 -
أراني وإياكم طرائق قددا
في (ثمار القلوب): قال ابن عائشة: كان للحسن بن قيس ابن حصين - ابن شيعي: وابنة حرورية وامرأة معتزلة، وأخت مرجئة، وهو سني جماعي فقال لهم ذات يوم: أراني وإياكم طرائق قددا.
414 -
أول من قال (واي ويه، واي ويه).
في (الأغاني): لما قال ابن مناذر (في رثاه عبد المجيد الثقفي):
ولئن كنت لم أمت من جوى الحزن (م)
…
عليه لأبلغن مجهودي
لأقيمن مأتماً كنجوم الليل (م)
…
زهراً يلطمن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحرى (م)
…
عليه وللفؤاد العميد.
قالت أم عبد المجيد: والله لأبرن قسمه؛ فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواريه مأتماً عليه، وقامت تصيح عليه:(واي ويه! واي ويه!) فيقال: إنها أول من فعل ذلك، وقاله في الإسلام.
415 -
الجد
قال أبو حيان التوحيدي: قال أبو غسان البصري - وقد ذكر جاهلاً مجدوداً - إن الجد ينسخ خال الأخرق ويستر عيب الأحمق، ويذب عن عرض المتلطخ، ويقرب الصواب بمنطقة، الصحة برأيه، والنجاح بسعيه. والجد يستخدم العقلاء لصاحبه، ويستعمل آراءهم وأفكارهم في مطالبه، ولو عرفت خبط العاقل وتعسفه وسوء تأتيه وانقطاعه إذا فارقه الجد،
لعرفت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه.
قال أبو حيان: فقلت له فما الجد؟ وما هذا المعنى الذي علقت عليه هذه الأحكام كلها؟
فقال: ليس لي عنه عبارة معينة، ولكن لي به علم شاف استفدته بالاختبار والتجربة والسماع العريض من الصغير والكبير، ولهذا سمع من امرأة من الأعراب ترقص ابناً لها وتقول: رزقك الله جدُّا يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الجدود.
416 -
البياض لباس حزن
قال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد:
ألا يا أهل أندلس فطنتم
…
بلطفكم إلى أمر عجيب
لبستم في مآتمكم بياضاً
…
فجئتم منه في زي عجيب
صدقتم فالبياض لباس حزن
…
ولا حزن أشد من المشيب
417 -
الفضيلة الجامعة والرذيلة المفرقة
في (الكلم الروحانية): قال أفلاطون: الفضيلة تجمع أهلها على المحبة، والرذيلة تفرق بين أهلها بالتنافر والبغضة: ألا ترى أن الصادق يحب الصادق، ويستنيم إليه، وكذلك الثقة مع الثقة، والحسن الخلق مع الحسن الخلق، وترى الكاذب يبغض الكاذب، والسارق يخاف السارق، وكل واحد منهما حذر من مجاورة صاحبه.
418 -
دعوة مظلوم!
في (تاريخ بغداد) لابن الخطيب: قال جعفر لأبيه ابن خالد ابن برمك - وهم في القيود والحبس -: يا أبت، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟! فقال له أبوه: يا بُني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها. ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدو في نعمة
…
زمنا والعيش ريّانُ غدق
سكت الدهر زمانا عنهم
…
ثم أبكاهم دما حين نطق
419 -
الإرشاد في خرق الأدب المعتاد
في (فتوحات محمد بن عربي):
بتنا ليلة عند أبي حسن بن أبي عمر ابن الطفيل بأشبيلية سنة (592) وكان كثيراً ما يحتشمني ويلتزم الأدب بحضوري، وبات معنا أبو القاسم الخطيب وأبو بكر ابن وسام وأبو الحكم بن السراج وكلهم قد منعهم احترام جانبي الانبساط، ولزموا الأدب والسكون فأردت أعمال الحيلة في مبساطتهم. فسألني صاحب المنزل أن يقف على شيء من كلامنا، فوجدت طريقاً إلى ما كان في نفسي من مبساطتهم فقلت: عليك من تصانيفنا بكتاب سميناه (الإرشاد، في خرق الأدب المعتاد) فإن شئت عرضت عليك فصلاً من فصوله. فقال لي: أشتهي ذلك. فمددت رجلي في حجره، وقلت له: كبسني! ففهم عني ما قصدت، وفهمت الجماعة فانبسطوا، وزال ما كان بهم من الانقباض والوحشة، وبتنا ليلة في مباسطة دينية.
(النيل) نعسان.
. .
نفثة من لياليه الساحرة
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ذهبتُ لهُ. . . والأنجمُ البيضُ حوَّمٌ
…
على خمِره كالطير تحسو وترشُفُ
لها رعشةٌ مسحورةٌ في جَنانه
…
وهمسُ حديثٍ في الحنايا مرفرف
صبتْهُ الرؤى فانساب نعسان مثلما
…
على راحةِ المحبوبِ هوَّم مُدْنفُ. . .
وتمتمَ كالجبَّار ميلَهُ الكرى
…
وفي فمهِ ذكرى البطولاتِ تهتف!
عَتِىٌّ يهابُ الدهرُ حرمةَ ساحِه
…
ويفزَعُ إعصارُ الزمانِ المطَوِّفُ
فكيف تَغشّاه الكرى؟! وسجابِه
…
وسجَّاه في الأحلام سِرٌّ مُغلَّف؟!
خشوعٌ وتسبيحٌ وطهرٌ. . . كأنهُ
…
بِكفِّ الليالي أو بِكفِّيَّ مصحفُ!
وصمتٌ على الشطْآنِ أسمع خلفه
…
صدى الأبد المخنوقِ للرُّوح يعزف
وألمحُ أشباحَ الفراعينِ فوقهُ
…
رهابينَ تتلو اللوحَ والليلُ (أسقف)
ودنيا أغانٍ في الضِّفافِ نشدتها
…
فعدت وأوتاري من اليأس تهرف
فيا (نِيلُ) كاشِفني السريرةَ واسقني
…
منَ الغيبِ سُلواني إذا كنتَ تعرف
أتيْتُك مذبوحَ الخيالِ معذَّباً
…
وكأسِي من سمَّ البّلياتِ تنزف
وفي صدريَ المهدودِ جُرحٌ وخنجرٌ
…
ونارٌ على خدَّيْهِ بالرُّوحِ تعصفُ
وذكرى على شطّيك حن لعهدها
…
وجُنَّ عليها عاشقٌ متلهّفُ
فهلْ فَيك للمحزونِ دَمعةُ راحِمٍ
…
تُراق على ذِكرى الحبيب وتذرفُ؟!. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل
سوانح طائفة!
للأستاذ أحمد فتحي
قضيت بالشعر من دنياي أوطارى
…
طوبَى لدنياي أو طوبى لأشعاري
هذا البيان، وعندي تبْر معْدِنه
…
أدَّى إلى المجدِ معياراً، بمعيارِ
يا للرَّوائع، كم تجلو عوارِفُها
…
ليلَ الحوادثِ عن صُبْح وأنوار
ودِدت أدرك من شعري وحكمته
…
ما غابَ عن فِطنتي في غيب أستار
قَلّبْتُ فيه وجوهَ الرأي أجْمَعها
…
وطالَ في البحثِ تَجوالي وتَسياري
ثم انثنَيت إلى نفسي أسائِلها
…
هل يكسونَّ البيان الهيكل العاري
وما انتفاعُ أخي الأشعار عاليةً
…
بصاغة الحمدِ، من حَشد وسُمَّار
وليس كالهاتِفِ المصغِي، وإن خَلقَتْ
…
ديباجتاهُ، ولا كالكاتِبِ القاري!
ألست بالصائغ الشعر الذي هتفتْ
…
به المواكبُ في ساحٍ ومِضمار
ماذا أفَدْت بأشعاري ورَوعتِها
…
سوى عُلالةِ تخليدٍ لآثاري؟!
وما الخلود بميْسور لعارِيَة. . .
…
غير الخسيسين من ترب وأحجار
ماذا أصابَ امرؤ القيسِ الذي عرفوا
…
من عَبْقَرِيَّتِهِ مأثورَ أخبار؟!
غَنَّت بآياته الأجيال واسْتبقتْ
…
تُزْجى له الحمدَ في مَوروث أسفار
ولاتَ حينَ ثناءٍ ليس يَسَمعُهُ
…
إلا الذي صاغَهُ من جود مَكاّر!
فِيمَ الثناءُ على الموتَى، أتمْنحُهم
…
دُرَّ المدائح، قنطاراً، بقنطار؟
وهل يَردُّ عليهمٍ طيب عيشِهمو
…
طِيبُ الثناءِ، إذا وافَى بمقدار؟
يا ضيعةَ الشعر، إن لم تَمْتلئْ يَدُهُ
…
بدرهمٍ، يكفُلُ الدنيا، ودينار
يا هاتِفَ الوحيِ أقْصِرْ زِدْتَنا شَجَناً
…
وهْجِتَ بَرْحَ الجوَى، من بَرْح تَذْكار
ما حيلةُ الشعر في قوم إذا حشَدوا
…
في أهلِهِ كلَّ طبَّال وزمَّار؟!
حِمَى البيانِ استباحوهُ، وكان له
…
محض التجلة في قُدس وإكبار
قضُوا بذّلته في الأرض وانبعثوا
…
يستأثرون بغاياتٍ وأوطار
إني لأبْصره هَيمان مَّطرَحاً. .
…
يشكو الجنايةَ من إيذاءِ أغرار
مُرَوِّعاً تترامَى الكارثاتُ به. .
…
وتَبْتَلِيهُ بزلزالٍ وإعصار!
بضاعةً تهبطُ الأسواق كاسدةً
…
لا بائعٌ رابحٌ فيها، ولا شارِ
وكان بالأمس أغْلى ما يُعزُّ به
…
مَجدُ القبائلِ، في بيدٍ وأمصار
يُعِلى ويُدِنى، كما شاَءت رغائبُه
…
رفعاً وخَفضاً، لأقدارٍ، وأقدار
يَبني ويهدِم دنيا الخلق من عَجبٍ
…
كأنه قُدْرة في كفِّ جبَّار!
ويرزُقُ الناسَ دنيا من فواضلِهِ
…
فيحاَء، تُزَهى بجنَّات وأنْهار
إذا تَبسَّمَ فالأكوان باسِمةٌ
…
كأنها الروضُ في إشراقِ آذار
وإن تَجَهَّمَ فالأيامُ عابِسةٌ
…
نكراءُ تَرْمِى بأكدارٍ وأوضار
فما لِدولته دالَت، ومال بها
…
إلى الحضيض ملام الشانئ الزاري
كأن قومي رأَوْا فضل الجحود على
…
أصحابه، فأثابونا بإنْكارِ!
والشعرُ أوْلَى بإعلاءٍ وتكرمَة
…
لكن جُزينا على فضلٍ بأصغار!
أم هذه شِرْعةُ الأيام، من سَفهٍ
…
تختالُ ما بينَ إقبالٍ وإدبارِ
وقد تعزَّيت عن يومي بأمس، وفي
…
غدي القريب رجاءٌ غير مُنُهار!
بني العروبةِ هذا صوتُ شاعركم
…
كأنهُ نغمٌ من عزْفِ أوتار
تلمّسوا المثلَ الأعلى لديه، وكم
…
يستلهم الحقُّ من آياتِ أشعار
ولا تضيقوا به إن يَرْم غادِيَكمُ
…
بموجعٍ من شديدِ القولِ هَدَّار
قد يبلغُ الشعبُ بالآداب ساميةً
…
ما ليس يبلغُه بالسيف والنار
دعوكمو من قديم المجدِ، وانتبذوا
…
ذاكَ الفَخارَ، بتاريخ وآثار!
المجدُ يحظَى به الساعِي إليه وفي
…
جنبيه قلبُ جَليدٍ غير خَوَّارا!
(القاهرة)
أحمد فتحي
أمنية
(لما ابتسم الربيع ابتسمت)
للآنسة جميلة العلايلي
يا خالق الحسن هبني الحسن أجمعه
…
عّلى من الحسن أروي روح ظمآن
قد شفنى الحسن ممنوعاً فأرقني
…
صوت ملحٌّ وراء الأفق نوراني
روح تهادت وشاق الروح فتنتها
…
إلى عوالم لَمْ تخطر بحسبان
هبني الكمال وهبني صورة وضعت
…
في الخلد ما بين أضواء وألحان
قلبي من الشوق أوصال ممزقة
…
يرجو لقاء فؤاد حالم حان
روحاً أذوب روحي في مناعمها
…
كأنها لم تكن روحاً لإنسان
جميلة العلايلي
رسالة العلم
غرفة ولسون
اتجاهات حديثة في العلم التجريبي - هذه أنابيب النيون عيون خير من عيوننا - كيف كشف أندرسون االبوزيتون - غرفة ولسون هي أقصى ما بلغه العلم التجريبي من العظمة والدقة.
للدكتور محمد محمود غالي
دعوت ذات مرة العالم الكبير جييه أستاذ السوربون لمشاهدة بعض تجارب كنت أقوم بها خاصة بدراسة ميوعة السوائل، فلبى دعوتي وشرفني بحضوره من السوربون إلى معهد باستير، وظل ردحاً من الوقت يروح جيئة وذهاباً أمام الحوض الزجاجي الذي أعددته لإجراء هذه التجارب.
مضت أيام صعدت بعدها سلم السوربون واستأذنت في زيارة الأستاذ، وعندنا دخلت معمله وجدته يقوم ببعض التجارب العلمية الخاصة بالميوعة أيضا، ولا أدري إن كانت زيارته السالفة هي التي جعلته يهتم بهذه الناحية التجريبية من البحث العلمي، التي أعلم أنها عند الأستاذ أقل شأنا من غيرها، ولا سيما في وقت كنت أعلم درجة اهتمامه بالخطوات التجريبية الخاصة بالمرناة (التلفزيون).
أما موضوع دراسة الميوعة الذي شغل الأستاذ جييه فهو خاص بالطيران، ذلك أنهم يؤملون أن تتمكن الطائرات يوماً ما أن تطير في الطبقات العليا من الجو التي يسمونها (ستراتوسفير) ويزيد ارتفاعها عن 14 كيلو متراً، وقد دلت التجارب على أن الطائرة في هذه الحالة تخترق طبقات من الجو تزيد درجة الحرارة فيها عن 50 درجة، وطبقات أخرى تنقص فيها درجة الحرارة عن الستين، وهو ما حدث للعالم بيكار، عندما صعد في كرته التي صنعها من الألمنيوم.
ويتحتم مع هذا الاختلاف في درجة الحرارة دراسة خواص الزيوت المستعملة في الطائرات: أي دراسة ميوعتها مع درجة الحرارة، والعوامل الطبيعية الأخرى، وإلا صعب استعمال هذه الزيوت في محركات الطائرات.
وجدت الأستاذ أمام بندول بسيط من الخشب من صنعه أو صنع عامل في معمله، وهذا
البندول يوصل تياراً كهربائياً ويقطعه في كل مرة يهتز فيها، ورأيت أمام العالم أنبوبة صغيرة من أنابيب النيون التي شاع استعمالها الآن في الإعلانات ليلاً في الشوارع، وكرة نحاسية معلقة بسلك يحمل في أحد أطرافه مؤشراً يدور دوران السلك فتدور معه الكرة في السائل المراد اختباره، وكلما أكمل البندول هزة اتصل أحد أطرافه بحوض من الزئبق، فيمر التيار الكهربائي وتتوهج الأنبوبة التي لا تلبث أن تنطفئ بمبارحة البندول للزئبق، وهكذا كلما كان السائل مائعاً تأخرت الكرة قليلاً في دورانها عن السلك الحامل لها أي عن المؤشر، وهذا المؤشر لا يظهر للعين إلا في الفترات القصيرة التي تتوهج فيها أنبوبة النيون.
التفت إلى الأستاذ وقال مشيراً إلى أنبوبة النيون: (هذه عيون أحسن بكثير من عيوننا)، وهو بهذا التعبير الصادق يلخص لنا الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، الذي بات لا يعتمد على حواسنا كما كان الحال في زمن قريب بقدر ما يعتمد على الوسائط الطبيعية.
والواقع أن العين وهي أعظم ما نملكه من حواس هي جهاز متوسط لا يعد شيئاً مذكوراً بجانب الوسائط العلمية الأخرى التي تفوقها حساسية وتعظمها دقة، ولو أن الإنسان اعتمد في كل ما يرجوه من تقدم في أعماله التجريبية على حواسه، لما تقدم العلم للحد الذي هو فيه اليوم، ولما اختلف كثيراً العهد الذي نعيش فيه عن أقدم العهود.
إنما ذكرت تجارب جييه واستعماله غاز النيون والظاهرة المعروفة باسم (الستروبوسكوبي) لأبين للقارئ الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، فلا ترجعن المسائل للمحسوسات وحدها، وإلا عدنا لعصر الإغريق عندما كان الدليل الفلكي لا يزيد عن بضع مئات من النجوم، أو عصر العرب عندما كنا نقضي عشرة أيام لكي نسافر من القاهرة للإسكندرية، حيث كنا مجبرين أن نتبع فوق ظهر الإبل حركتها الدورية أكثر من مائة ألف مرة، وهي الحركات الناشئة عن خطوات الجمل الذي يحملنا بتثاقل لقطع مثل هذه المسافة البعيدة جداً في العهد المنصرم والتي أصبحت على طرف الثمام في العهد الذي نعيش فيه.
وهكذا في معظم التجارب الطبيعية اليوم لا تأتي العين إلا في المرحلة الأخيرة منها. ولعل أحسن ما أقدمه من مثال للقارئ هو أن أشرح له (غرفة ولسون)، وهو جهاز يرسم لنا مسارات الأشعة الكونية، وهي الأشعة التي قدمنا أنها آنية من عوالم بعيدة لا نعرف
مصدرها، وتخترق طبقات الجو وما يقابلها من مادة، والتي قدمنا أنها مكونة من إلكترونات وبوزيتونات سريعة، وهي أصغر ما نعرفه من الجسيمات المكونة للذرة.
هذه الغرفة يتضاءل مجهود العين بجانب ما يدور فيها من حوادث جسام، لا تدركها العين إلا بعد أن تصبح لهذه الحوادث آثار تدل عليها، وهو نوع من التحايل التجريبي، وفق إليه العلماء كل التوفيق.
ويتكون الجهاز من وعاء بداخله مكبس يغير ضغط ما بداخله من غاز أو بخار، فعند مرور جسيم من جسيمات الأشعة الكونية يحدث عدد من الأيونات في هذا الغاز وتساعد حركة المكبس في نفس الوقت على تكاثف قطرات الماء الرفيعة على الأيونات الحادثة وذلك من تخفيف الضغط دفعة واحدة - وهذا التكاثف الذي يحدث عند مسار الجسيمات الكونية يمكننا من رسمها على اللوح الفوتوغرافي فنرسم بهذا في الواقع مسارات الجسيمات الكونية وتسمى هذه الطريقة بطريقة ولسون أو طريقة الضباب لولسون. ولا يفوتنا أن نذكر أن سنة 1929 كان أول من قام برسم مسارات لجسيمات تفوق طاقتها طاقة جسيمات المواد الراديومية، فكان أول من استعمل طريقة الضباب المتقدمة في أبحاث خاصة بالأشعة الكونية، وطريقة ولسون هذه تسمح بمعرفة الطبيعة والطاقة التي عليها جسيمات الأشعة الكونية من درجة انحناء مساراتها واتجاه هذه المسارات ودرجة التأين الحادثة من هذه الجسيمات، وذلك بتعريض الغرفة لمجال مغناطيسي قوي.
وكم كان عظيما للعلم ورافعا للعرفان أن تتقدم الأبحاث الخاصة بغرفة ولسون للحد الذي سمحت فيه للعالم الكبير الذرة الموجبة للكهرباء التي نسميها بوزيتون منحه المجمع السويدي من أجل هذا الكشف جائزة نوبل للطبيعة.
لقد استعان أندرسون في بادئ الأمر في تجاربه التي قام بها
في باسادينا، تجاربه التي قام بها في روستوك، بمجال
مغناطيسي قوي يبلغ 18 ألف جوس، فوجدا أن مسارات جميع
الجسيمات المكنة للأشعة تنحني في مثل هذا المجال القوي،
وبفرض أن كتلة هذه الجسيمات هي كتلة الإلكترون فإن
طاقتها تقع بين 108، 106 إلكترون فولت، بل تبلغ طاقة
بعضها 1010 الإلكترون فولت، وقد وجدا بادئ الأمر أنه
بينما ينحني نصف هذه الجسيمات في اتجاه معين داخل غرفة
ولسون، ينحني النصف الثاني في الاتجاه الآخر، مما يدل على
أن شحنة نصف عدد هذه الجسيمات سالبة وشحنة النصف
الآخر موجبة.
على أن استمرار البحوث في دراسة المسارات المنحنية في اتجاه الجسيمات الموجبة الذي قام به أندرسون أدى إلى كشف غريب بعد من أهم اكتشافات العلوم الطبيعية الحديثة، ففي إحدى الفوتوغرافيات العديدة التي قام بها أندرسون ظهر بوضوح مسار لجسيم اخترق لوحة معدنية موضوعة داخل الغرفة ففقد هذا الجسيم باختراقه اللوحة جزءاً من طاقته لدرجة وضح فيها اتجاه الجسيم الذي دل باتجاهه على أن شحنته موجبة. ولقد كان مساره طويلاً للحد الذي لا يمكن اعتباره مع طول هذا المسار (بروتوناً)(نواة الهيدروجين) وكتلة هذا الأخير، أي البروتون، تساوي 1850 مرة قدر كتلة الإلكترون، عندئذ اقترح أندرسون إمكان وجود جسيم موجب الشحنة قائم بذاته يختلف عن البروتون، وهذا الجسيم الذي كشفه تقرب كتلته للإلكترون عن البروتون وقد سمى فيما بعد (بوزيتون).
ولقد ثبت رأى أندرسون هذا بتجارب أخرى عديدة قام بها اللذان توصلا لتحسين طريقة غرفة ولسون كما توصلا لإثبات ما هسر أندرسون عنه الستار.
وينحصر عمل بلاكت وزميله أوشياليني في أن تمكنا من أن يجعلا الجسيمات الكونية هي التي تقوم بنفسها بعمل الفوتوغرافيات لها في الوقت الذي تمر فيه، وذلك بأن تمر أولاً هذه الجسيمات في عدادين من العدادات التي سبق أن شرحناها، فينتج عن التأين الحادث في هذه العدادات زيادة في فرق الضغط الكهربائي وبالتالي حركة ميكانيكية، هي التي تقوم بتحريك المكبس في غرفة ولسون، بحيث أن الغرفة لا تعمل إلا عند مرور جسيم كوني.
عندئذ بات من المؤكد ألا تحصل هذه الفوتوغرافيات إلا عند مرور الجسيمات الكونية، ومما يجدر بالذكر أنه قبل استعمال هذه الطريقة كان يلزم أن يقوم الباحثين بعمل مئات الفوتوغرافيات ليحصل على واحدة أو اثنتين من الصور التي يرى عليها مسارات هذه الجسيمات الكونية، لأنه عندما يقوم الباحث بتحريك المكبس والجهاز الفوتوغرافي لا يعلم إذا كان يمر في نفس الوقت جسيم من الأشعة الكونية، أما الآن فإنه في كل مائة صورة ترى حوالي 75 صورة مرسوماً عليها مسارات هذه الجسيمات المتناهية في الصغر.
ويتلخص الموقف اليوم أنهم توصلوا لعمل أجهزة تسمى عدادات الإلكترونات وتوصيلها بعضها ببعض، بحيث لا تتأثر إلا بمرور جسيم كوني يخترق العدادات معاً، وأنه بتأثر هذه العدادات يتحرك المكبس الموجود في جهاز آخر، يسمى جهاز ولسون، كما يتحرك الجهاز الفوتوغرافي، بحيث أن أصغر مكونات الكون وهو الإلكترون عند مروره أو مرور شقيقه البوزيتون بسبب كل منهما حركة كل هذه الأجهزة، فتسمعه أولاً ثم ترى مساره ثانياً، بل ترى أثر ما أحدثه من تهدم وتفتت في ذرات المادة التي اخترقها.
وفي الشكل (1) ترى غرفة ولسون وترى حزمة من الجسيمات تظهر في الجزء الأعلى من هذه الغرفة كما ترى حزمة من الجسيمات المطرودة من لوحة الرصاص الموضوعة داخل الغرفة. وفي الشكل (2) يرى القارئ زوجين إلكترون، وشقيقه البوزيتون، الجسيم المكتشف حديثاً، يظهران فجأة في غرفة ولسون، وتعد غرفة ولسون، وما يدور فيها من حوادث جسام أعظم ما توصل إليه العلماء في البحث التجريبي.
وإلى اليوم الذي قد يتاح فيه القيام بتجارب أعظم أثراً من التجربة السابقة، عندما يتاح للعلماء أن ينتفعوا مثلاً بالطاقة والنشاط الموجودين في المادة في مرافق حياتنا المختلفة، عندما لا نعتمد فيما نحتاج إليه من طاقة إلى ما هو معروف من الفحم، والوقود والكهرباء، عندما يصبح مصدر ما نحتاج إليه القليل من المادة والتافه من الأشياء؛ فأن التجربة الخاصة بغرفة ولسون ستظل حتى هذا الوقت من أعظم وأدق التجارب العلمية التي تحققت في وقتنا الحاضر.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
رسالة الفن
دراسات في الفن
طابعنا المصري في فننا
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
منذ أحس المصريون حاجتهم إلى أيجاد كيان ذاتي خاص بهم يميزهم من غيرهم، وأهل الفن منهم يجهدون أنفسهم سعياً وراء فن قومي يكون له طابعه المصري الخاص الذي إذا اتضح وتجلى ثبت للعالم كله أن مصر لها ذوق فني قائم بذاته، وأنها بذلك الفن أمة جديرة بالاعتناء حقيقة بأن تمضي بين الشعوب الحية في هذا الزمان؛ فإنه لا شيء يميز أمة من أمة إلا الفن، لأنه النتاج النفسي المعبر عن إحساسهم والذي لا يحسه غيرهم، ولا يمكن أن يحسه غيرهم إلا إذا عاش معهم في ثنايا مجتمعهم وعلى أرضهم وتحت كل المؤثرات المادية والمعنوية التي تؤثر فيهم. وهذا شيء يستلزمه الفن وحده؛ وهو في هذا يختلف عن العلم الذي تستطيع كل العقول البشرية أن تساهم فيه وأن تتشابه. فأنت إذا ذكرت لأي إنسان الرقم (5) لم يبعد أن يطوف بذهنه أن الخمسة مجموعة من الاثنين والثلاثة، أو من الواحد والأربعة، ولكنه لا يمكن أن يخطر على بال أحد من غير المصريين أن الرقم (5) له معنى آخر وهو مقاومته للحسد، ذلك أن هذا التحول بمعنى الرقم الأصلي إلى هذا المعنى العرفي الجديد شيء اصطلح عليه المصريون وحدهم وقد هيأتهم له عوامل ودوافع لم تتخلق في غير البيئة المصرية، وهذا التحول الجديد اسمه عند أصحاب البلاغة كناية أو مجاز أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي تشير إلى أن الكلمة قد خرجت عن معناها الأصلي إلى معنى جديد. . . ولا شيء يصنع هذا الصنيع بالكلمات إلا الفن.
هذا والمصري يتعلم الحساب كما يتعلمه الفرنسي ولكنه لا يعرف للرقم (5) المعنى الذي نعرفه. إن الفرنسي يدرس الهندسة النظرية كما يدرسها الياباني، ولكنه حين يطبقها وحين يخرج بها من العلم النظري إلى الفن المنفوث فيه من ذوقه وروحه كانت عمارته التي يجمع علمه بالهندسة لإنشائها مختلفة اختلافاً تاماً في مظهرها وتكوينها عن عمارة الياباني التي ينفث فيها هو أيضا من ذوقه وروحه ما ربته اليابان في نفسه بمناخها، وطبيعة
أرضها وعادات أهلها، ودينهم وأخلاقهم أيضا.
فإذا اتفقنا على أن الفن وحده هو الذي يميز الشعوب بعضها من بعض - وهذا أمر أظن أنه قد أصبح ميسوراً أن نتفق عليه - رأينا أهل الفن المصريين الذين أحسوا وجوب ابتداع فن مصري حديث محقين منصفين وطنهم المسكين الذي طال شوقه إلى العزة الذاتية التي لم يعد لنا سبيل إلى تحقيقها إلا عن طريق الفن ما دمنا قد أدركنا أن الصناعات والعلوم إذا تشابهت في الأمم لم يكن هذا مما يمس كيانها الذاتي، وما دمنا مؤمنين بأننا متخلفون في هذه الآفاق جميعاً عن غيرنا فلن نلحقهم فيها إلا بعد جهد.
نحن إذن لا نملك إلا أن نعجب بكل فنان مصري يعمل لإنشاء الفن المصري أو ينادي بإنشائه لأن في عمله هذا سعياً إلى تثبيت عزتنا القومية.
ونريد الآن أن نتعرف الطريق الذي يؤدي بنا إلى هذه الغاية النبيلة، وقد يرى القارئ بعد الكشف عن هذا الطريق أن مصر لا تزال عذراء وهي المليحة الحسناء، وأن الفنان المصري الظمآن إلى الجمال لا يزال بعيداً عنها كل البعد يبحث عن عروسه في الفضاء، وفي الهواء، وهي تكاد تتخاذل من الشوق اليه، وتكاد تستخذى من كثرة ما تبرجت وازينت وخطرت أمام بصره وتهادت أمام بصيرته، وهو يأبى إلا أن يغمض دونها عينيه، وأن يغلف دونها نفسه كأنما هو يتقيها اتقاء وكأن بينه وبينها ثأراً. وقد يحسن قبل أن نزف هذه العروس إلى هذا المتعشق الحيران أن نحدثه عنها قليلاً. فما هي مصر؟
هي أولاً هذه الأرض التي تعرفها والتي تتشكل الطبيعة فيها بثلاثة أشكال بارزة قد ترادفها أشكال أخرى، أما هذه الأشكال البارزة فهي هذه البيئات الجغرافية الثلاث: بيئة الصحراء، وبيئة الريف، وبيئة السواحل. وأما البيئات الأخرى فنذكر منها بيئات المدن، والواحات، والبحيرات. ومصر هذه يشقها من الجنوب إلى الشمال نهر النيل، وتتناثر في شمالها وشرقها البحيرات، ويجاورها من الجنوب السودان فيلون أهل جنوبها ببعض لونه الذي يمتصه من بيئته الجغرافية. وتكاد مصر بعد ذلك تنعزل عن أراضي جيرانها.
أما سماء مصر فصافية مكشوفة لا تتلبد إلا عند السواحل فقط، وأما مناخها فمعتدل هادئ أميل إلى الحرارة لا يصطخب ولا يبرد إلا عند السواحل أيضا.
هذه هي بيئة مصر الجغرافية وهي كما ترى بيئة سهلة لا تعقيد فيها، وقد طبعت هذه البيئة
السهلة أهلها بهذه السهولة، فالمصريون فيهم من الطفولة البشرية ما في أرضهم وجوّهم من الطفولة والسلاسة، وهذه الطفولة نفسها هي أخصب مجال للفن إذا اتفقنا على أن الفن الصادق هو ما كان مبعثه الحس لا التفكير. والشعب المصري يشهد بهذه الحقيقة؛ فما من مصري إلا وله اتجاه فني خاص؛ وأغلب المصريين يتجهون إلى الغناء والنكتة، والغناء فن، والنكتة فن. هذا إلى جانب ما يشيع في المصريين على مر الزمن من إدمانهم لفن (التدين) الذي آثروه على بقية الفنون فتيسر لهم من ألوانه ما تتابع عليهم وعلى حياتهم منذ ألهوا فراعينهم إلى هذا الزمن الذي وحدوا فيه الله توحيداً صريحاً، ولكنهم مع هذا التوحيد أبو إلا أن يتزلفوا بالتقديس إلى أرباب القباب من الموتى، وأهل الزعامة من الأحياء.
فالشعب المصري إذن شعب فنان لأن أرضه تبعث الفن بما لها من السهولة والنقاء.
فإذا فرغنا من دراسة مصر جغرافياً وجب علينا أن ندرسها بعد ذلك اجتماعياً. وقد لا يجهدنا هذا الدرس إذا سلكنا إليه أقرب السبل فقلنا: إن المصريين سكان هذه الأرض المتشكلين بأشكالها، هم إما صحراويون طبعتهم الصحراء بطبعها، وإما ريفيون شكلهم الريف بشكله، وإما ساحليون لونهم البحر بلونه. . . ولعلنا نعرف أن كل بيئة من هذه البيئات الجغرافية تؤثر في طباع أهلها تأثيراً خاصاً، فابرز ما يميز أهل الصحراء الشمم لدوام حريتهم وإبائهم الضيم؛ وأبرز ما يميز أهل الريف الصبر لخضوعهم الإجباري لنظام الزراعة ومواقيتها؛ وأبرز ما يميز أهل السواحل روح المغامرة التي يبعثها في نفوسهم التجول في البحر. وإلى جانب هذه الصفات البارزة في أهل كل بيئة من هذه البيئات الجغرافية صفات أخرى لابد أن يحسها الفنان، وقد يستطيع الباحث المتفهم أن يستطلعها.
فرغنا الآن من مصر المعاصرة فألمنا بها أرضاً ومجتمعاً. ولكن مصر المعاصرة هذه ليست مصر كلها، فأن لمصر تاريخاً ماضياً، وإن لها آمالا في المستقبل؛ وإن لها في الحاضر نفسه صلات بغيرها من الشعوب؛ وتاريخ مصر الماضي يتمم كيانها الحاضر، ويساهم في رسم طريق المستقبل وتعبيده، وإن آمالها التي ترجوها في المستقبل تحيا في حاضرها وتوقظ من ماضيها ما تستلزمه وما تريد أن تعتمد عليه، وإن صلاتها الحاضرة بغيرها من الشعوب والأمم تعمل هي أيضا في تبلور كيانها، ولعل هذه الصلات هي أشد العوامل تأثيراً في الذات المصرية الناشئة، ولعلها أشدها خطراً على استقلال هذه الذات،
فهي إذا دبت إلى العلم والصناعة ارتقت بالمصريين، ولكنها إذا تمكنت من الفن المصري مضغت مصر وقذفتها إلى المحتكمين بها لقمة سائغة.
وقد يكون من الخير للإنسانية كلها أن تندمج وأن يتوحد ذوقها وحسها، ولكن يظهر أن هذه أمنية يصعب تحقيقها، ويظهر أيضا أن تحقيقها لن يتم إلا إذا سرى قانون بقاء الأصلح، فإذا كان هذا حقاً فإنه يتعين علينا أن نجاهد كي نكون من الصالحين حتى لا تلتهمنا الإنسانية إذا كانت ماضية إلى التوحد. وأنها لماضية إليه. وكل الدلائل تدل على هذا المضي وإن كنا نظن أن الفن وحده هو الذي سيبقى مميزاً لأصحاب الأوطان المختلفة بعضهم من بعض، وإن كان هذا التمييز سيتقلص كثيراً حتى ينحصر في شكل الفن وأسلوبه وبعض روحه إلى أن يشاء الله غير ما شاء منذ جعل الناس شعوباً وأمماً ليتعارفوا.
وعلى أي حال فنحن لا نزال في حاجة إلى فن مصري قوي. وهانحن أولاء رأينا أن الشعب المصري مفطور على الفن بطبعه: خلقته فيه بيئته وأرضه؛ فهل استطاع المتصدون لإبداع الفن في مصر هذه الأيام أن يشبعوا هذا الشعب فناً مصرياً؟
هل يقرأ المصريون من أهل البيئات المصرية المختلفة ما يكتبه أدباؤنا المصريون؛ وهل يفهمه ويحسه الأميون منهم إذا قرى عليهم؟ وهل يستطيع المصريون أن يستمتعوا بالصور التي يرسمها رساموهم؟
وهل يتغنى المصريون بهذه الأغاني التي يرتلها المغنون اليوم؟ وهل ينشد المصريون هذا الشعر الذي يكتبه شعراؤهم وهل يعطفون عليه ويحبونه؟
هل يقرر الواقع شيئا من هذا؟ كلا؟ فالواقع يقرر أن أهل الفن عندنا في واد وأن الشعب المصري في واد. ويظهر أن ذلك راجع إلى نهضة الفن عندنا صاحبت نهضة الثقافة فخرج الفنانون المصريون من بين المثقفين، والثقافة المصرية الحديثة كما هو واضح ثقافة مترجمة منقولة؛ وليتها كانت مترجمة عن أصل واحد قريب من طبعنا، وإنما هي أمشاج من ثقافات شعوب مختلفة لكل منها ذوق ولكل منها طبع. ولقد كان هذا الاضطراب سبباً في اضطراب العقل المصري المثقف، واضطراب النفس المصرية المثقفة. فالفنان المصري المثقف يخرج فناً قد عبثت به الثقافة المضطربة هذه فهو كالخيط المتباعد
الأخلاط، وليس كالمزيج الذي اندمجت عناصره فأصبح بهذا الاندماج عنصراً جديداً له ذات جديدة وكيان جديد.
لهذا يستوحش المصريون هذه الفنون المثقفة، ولهذا يحب المصريون فنونهم الساذجة البلهاء التي ينتجها فنانون لا يعرفهم المثقفون وقد لا يعرفهم الشعب نفسه وإن كان يتعشق فنونهم لهذا كان علينا إذا أردنا أن ننشئ الفن القومي أن نسلك سبيلاً من سبيلين: فإما أن نصبر على هؤلاء الفانون المصريون من غير المثقفين حتى يروقوا وينضجوا فيحتلوا مكانتهم التي تؤهلهم الطبيعية لاحتلالها ويكون هذا أمراً طبيعياً لا يعترضه معترض، وإما أن نحز نفوس المثقفين من أهل الفن عندنا ليتيقظوا من ثقافتهم وليعودوا إلى الطبع المصري، وأظن أنه ليس من العسير على الإنسان أن يسترد نفسه، وأن يسترجع أصله، وأن يستعيد طبعه وأن يغسل نفسه مما لصق بها من الزيف.
ها هي ذي مصر أمام الرسام، وهاهي ذي بيئاتها المختلفة ماثلة أمام عينيه بما فيها من ناس وحيوان ونبات وجماد، وهاهي ذي أخلاق أهليها وعاداتهم تناوش نفسه ما دام يعايش أهلها ويعاشرهم. أفلا يستطيع الرسام المصري إذن أن يقف وقفات كثيرة عند مظاهر كثيرة ومعان كير من مظاهر الجمال ومعانيه في هذه البيئات المصرية المختلفة؟! إنه يستطيع لو أنه فتح عينيه واستقبل الصور التي تتلقيانها بنفس مصرية. ولا ريب أن هذا القارئ قد لحظ أن عقائد المصريين - مثلاً - لا تزال بعيدة عن التصوير المصري. فمن من المصريين رسم صوراً لقصة السيد البدوي! وللسيد البدوي عند المصريين أقاصيص فيها مواقف تستحق الرسم والتصوير؟ ومن من المصورين المصريين صور الحاوي المصري؟ ومن منهم صور (شيخ الطريقة) ومن منهم صور (بطولة أحمس) ومن منهم صور (غزوة السودان) و (أهل الكهف) و (زفة العروسة) و (رقصة البدو) و (صيد الترسة) و (معركة في الإسكندرية) و (البحث عن أم الحلول) و (صانع القلل) و (عامل المحلة) و (نكتة رشيد) وما إلى ذلك من الموضوعات المصرية البحتة التي لو أخرجت في ألوانها المصرية الطبيعية الصحيحة لأرضت كل إحساس وكل فكر.
وهاهي ذي مصر عند سمع الموسيقى: لماذا لا يغني أهل الصعيد هذه الألحان التي تصاغ في القاهرة؟ ألأن لهم لهجة في الكلام غير لهجة القاهريين؟ كلا، فلهجات الكلام لم تكن يوماً
حجاباً دون النغم. فها هي ذي الأوبرات الإيطالية تستبقي ألحانها وأنغامها كما صاغها ملحنوها ويستبدل بنظمها نظم إنجليزي في إنجلترا وفرنسي في فرنسا وألماني في ألمانيا فلا ينفر الإنجليز ولا الفرنسيون ولا الألمان من الموسيقى الإيطالية في هذه الأوبرات مثلما ينفر أهل الصعيد من الموسيقى القاهرية. . . فهل يدل هذا على شيء أكثر من أن اعوجاجاً أصاب الذوق الفني في القاهرة فخرج به على الطبع المصري إذا أراد التجديد؟ أولا يدل على هذا على أن أصحاب التجديد قد انخدعوا في تجديدهم إذ أرادوا أن يلاحقوا به تجديد سيد درويش وهم لا يذكرون أن موسيقاه كانت رجعة إلى الطبيعة الإنسانية وصحوة ارتجفت بها الروح المصرية. والدليل على ذلك أن الحالة التي صور بها بيئات المصريين كانت تعبيراً صحيحاً صادقاً عن النفس المصرية فراجت بين المصريين رواجاً رائعاً، ومنها ما لا يزال يطن في الأذن إلى اليوم مثل (طلعت يا محله نورها شمس الشموسة) و (مليحة جوى الجلل الجناوي) و (يا ولد عمي يا بوي) و (يا صلاة أم إسماعيل في وسط عيالها). . .
ويحق علينا ما دمنا نرمى إلى إحقاق الحق أن ننصف الموسيقيين المصريين فنقرر أن الأصوات الطبيعية التي يمكن أن تنقل عن البيئة المصرية الطبيعية قليلة، فليس في مصر زوابع ولا أعاصير ولا أمطار ولا رياح ولا غابات تصفر فيها الريح وتزأر فيها الأسود، ولا شيء من هذا الذي تنعم به البيئات الأخرى، ولكن ليس معنى هذا أن بيئتنا المصرية مجدبة مما يوحي الموسيقى، فإن في هدوئها وتخافت أصواتها ورهبتها وجمالها وخفتها وجلالها، وما في مجتمعها وتاريخها وآمالها ما يصلح لتأليف أنصع الموضوعات الموسيقية المنشودة. لا يتوقف ذلك إلا على شعور الموسيقيين المصريين ببيئتهم المصرية وما فيها.
نحن الآن مع الأدباء أمام الحياة المصرية. وللأدب في مصر مشكلتان لا مشكلة واحدة: أولهما مشكلة (الموضوع) التي تعرضنا لها في الرسم والموسيقى، وأخراهما مشكلة (اللغة) فنحن في مصر نتكلم لغة ونكتب أخرى. ولغتنا على تقاربهما الشديد مختلفان لا يمكن أن ينكر اختلافهما إنسان. وعلى أساس ما قررناه كان أقرب الأدب إلى طبع المصري هو أقربه إلى لهجته وكلامه إذا عالج موضوعات من حياته كما يفعل الأديب المصري الصادق محمود بيرم التونسي، فأدبه مستخلص من الحياة المصرية ومؤدى باللسان المصري.
على أننا نستطيع أن نتصور اللغة العربية الفصحى، وقد راجت بين المصريين إذا تعلموا القراءة والكتابة، ومع هذا فإننا لن نستطيع أن نتصور أن هذا سيمحو ضرورة اتصال الأدب المصري بالحياة المصرية. فالتساهل في أمر اللغة لا يؤثر في روح الأدب. وإن للمصريين ذوقاً وطبعاً إذا لم يظهر في الأدب المصري كان أدباً عربياً أو غير عربي، ولكنه على أي حال لن يكون أدباً مصرياً. وقد يحس القراء مع أن في شعر الشاعر الفذ محمود حسن إسماعيل تحقيقاً لهذا الذي نرجوه. فهو وإن كان يكتب باللغة العربية الفصحى فإنه لا يطرق إلا موضوعات مصرية صحيحة، ولا يؤديها إلا أداء مصرياً سليماً يلحظ فيه الذوق المصري وإن لم يتقيد فيه باللفظ المصري.
فإذا تركنا هذه الناحية الناعمة من الذوق المصري وعرجنا على الأدب في جوهره رأينا الأقلية من الكتاب والأدباء هم الذين يعالجون الموضوعات المصرية، ورأينا هؤلاء الذين يبسطون للناس أدباً مصرياً صحيحاً متهمين بأنهم أدباء (شعبيون) بعد تحويل الوصف الشعبي من معنى المدح إلى معنى الدم.
عزيز احمد فهمي
من هنا ومن هناك
الدعاية في ألمانيا
نشرت مجلة ذي انترنشنال نازي التي تصدر في لندن مقالاً طريفاً عن الدعاية الألمانية رأينا أن نلخصه لقراء الرسالة ليلموا بنوع جديد من أنظمة النازي يشمل سائر بلاد العالم.
في ألمانيا نظام للدعاية واسع النطاق كثير الشعب والأنحاء حتى ليعج عن الوصف.
ولا يقف هذا النظام على وكالة واحدة قتوم بهذا الغرض، ولكن الدعاية في ألمانيا لا أقسام وإدارات مختلفة متصلة جميعها بوزارات الحكومة وإداراتها. وقد تمتد مراكزها إلى أقصى جهات المعمورة وتجتمع جميعها في مركز واحد يدبر شئونها ويشرف عليها ووزارة الدعاية في ألمانيا يشرف عليها دكتور جوبلز، ولها جيش من مراسلي الصحف في جميع أنحاء العالم يدخلون في عداد موظفي الحكومة، وهي تشرف على ما لا يقل عن ثلاثمائة جريدة في مختلف الممالك. ولها مخبرون أكفاء يغذون تلك الصحف في بلاد كجنوب أمريكا والشرق الأقصى. وقد أنشئت محطات عديدة للاسلكي لنقل الأخبار إليها من الجهات النائية كجزائر الهند الشرقية. وهي تسخر لأغراضها وكالات السياحة الألمانية وبواخر الريخ وتسيطر على جميع وسائل الدعاية.
ويراقب قسم الدعاية الصحف الأجنبية في مختلف بلاد العالم حتى إذا كتبت صحيفة في أية جهة شيئاً لا يتفق وروح الدعاية الألمانية يصل إليها علمه في الحال. وتزاع التعليمات السرية على الصحف يومياً؛ وكل مخالفة لهذه التعليمات تعد خيانة.
وأهم وكالة للدعاية العامة هي الوكالة الأجنبية للحزب الاشتراكي الوطني وتتصل بالجمعيات الألمانية في جميع أنحاء العالم ولا يقل عددها عن ثلاثين ألفاً ويشرف عليها أرنست بوهل الذي قضى أيام طفولته في جنوب افريقيا، ولم يدخل ألمانيا إلا سنة 1920 وهو في السادسة عشرة من عمره.
والألمان الذين يعيشون في الخارج يجب أن يكونوا تحت تصرف القنصلية الألمانية في البلاد التي يعيشون فيها، ويتصلون بجمعيات النازي المحلية على الدوام، وبذلك يكونون تحت تصرف الحكومة. وكل مخالفة لأوامر النازي قد تعرض الشخص للحرمان من الجنسية الألمانية، وإلغاء تصريح السفر الذي منح له، كما أنها تعرض أسرته للضغط
والاضطهاد داخل ألمانيا.
وهناك نظام خاص لتعليم هؤلاء الذين يقومون بالدعاية في الجهات الأجنبية، ففي ألمانيا مدرسة تحت أشراف دكتور روزنبرج، وأكاديمية في ميونيخ يديرها كارل هوشونز.
وكل أستاذ ألماني أو معلم بقبل الخدمة في الخارج، لابد أن يقضي وقتاً في الدراسة بهذه الأكاديمية، والطلبة الذين يسافرون إلى مناطق بعيدة عن ألمانيا يجب أن يلتحقوا بجماعة (الطلبة الألمان) في تلك الجهات.
وتوضع رقابة شديدة في الموانئ على المؤلفات التي تصدر إلى البلاد الأجنبية أو التي ترد منها، فلا يخرج منها كتاب يخالف مبادئ النازي في شيء من الأشياء، ولا تبيح للأدب المخالف للنازي الدخول إليها. وهذه الرقابة تشمل المسافرين على المراكب الألمانية كيفما كانت جنسيتهم.
ولم تكتف الدعاية الألمانية بمراقبة القراء الألمان واتصالهم بالرأي العام في الخارج، فقد أصرت على سحب النسخة التي طبعت في فرنسا من كتاب (كفاحي) لبعض كلمات علق بها على معاملة هتلر لفرنسا.
وترتكب حوادث القتل والخطف في سبيل الدعاية تحت إشراف الحكومة وبمعاونتها؛ ومن أشهر تلك الحوادث خطف الصحف اليهودي برنولد جاكوب، ومقتل دكتور دولفوس.
هل نحن مسوقون إلى الهمجية؟
تتضارب الأفكار في العصر الحديث، فهو عصر تطورت فيه شؤون العالم، واختلفت فيه المبادئ المقررة إلى درجة لم يعهد لها مثيل! كل ما فيه جديد يدعو إلى إطالة التفكير، فهل نحن مسوقون مع هذا إلى تحقيق آمال الإنسانية في التقدم والرقي، أم نحن مسوقون إلى الهمجية؟
والمقال التالي ملخص عن ذي أنديان ريفيو، التي تصدر في مدارس بقلم أستاذ بجامعة الهند، وهو يبين وجهة من وجهات النظر في هذا الموضوع: (إذا كان معنى المدينة تقدم العالم ورفاهته، وتضحية الفرد في سبيل مصلحة المجموع؛ وإذا كان معنى المدينة ضبط النفس وكبح جماحها، فيجب علينا أن نقول إننا منذ الحرب العظمى نسير بخطى واسعة نحو الهمجية.
ففي مدى القرن التاسع عشر كانت آمالنا تمتد وتتسع، حتى أصبحنا نعتقد أننا لسنا بعيدين عن عصر ذهني عظيم! فالعلوم تسير بخطى كبيرة نحو التقدم، تاركة للإنسان السيطرة على قوى الطبيعة المختلفة؛ والديمقراطية تنشر لواءها على سائر بلاد العالم المتمدن؛ والرأي العام يحترم في كل مكان؛ والمثل العليا تقود الإنسان نحو التقدم في سائر أنحاء الحياة.
ولقد جاءت الحرب العظمى بعد ذلك بقواها المدمرة، فشتتت العائلات، وأزالت عن المرأة قناع العفة والحياء، ولم يكن أحد ليفكر في هذه الحال إذ ذاك، لانصراف الأمم جميعها إلى أمر واحد وهو كسب الحرب.
فبعد أن وضعت الحرب أوزارها أنشئت عصبة الأمم، فطرب لها العالم وظن الناس أن العصر الذهبي المرموق قد ظهرت بشائره تحمل معها الأمن والاخلاص، حيث يحل حكم العقل والعدالة في كل مكان، وينصرف الخوف والجزع عن الأمم الضعيفة، فتصبح في مأمن من اعتداء جاراتها القوية.
ولكن تلك الأماني لم تلبث أن تقشعت، وحل محلها ذلك التفكك في عرى الروابط العائلية والوشائج الوطنية. وحلت الإباحية محل العفة وضبط النفس، وذهب الإخلاص والطهر من الرجل كما ذهبا عن المرأة، وحل محلهما الطمع وإشباع الشهوات واختفت الرغبة في الزواج فراراً من تحمل أعباء الزوجية.
إن هذا الانقياد للشرور وعدم الخضوع لقانون العقل والعرف يدلان على أن الهمجية تهددنا وتقترب منا يوماً عن يوم.
ولقد ظهرت هذه الميول الوحشية في شؤوننا السياسية. لقد كانت الأمة تخجل أن تهاجم أمة أخرى قبل أن تمهد لذلك بأعذار يقبلها العقل، وكان الرأي العام يحسب له حساب.
ولكن القاعدة المتبعة الآن تخالف ذلك كل المخالفة، فيكفي أن تكون الأمة راغبة في التوسع والرقي وتبوئ مكانها تحت الشمس كما يقولون، لتعتدي على استقلال جاراتها.
لقد جاء زمن كان الواجب يقضي فيه على الأمة المحاربة أن تعلن الأمة الأخرى بأن تستعد لمحاربتها، ولكن قد بطل كل ذلك في ضمير الأمم الآن. والرأي أن تأخذ عدوك على غرة وتسلط الهزيمة مباشرة عليه.
ولم يعد في عرف الأمم الحاضرة ضرورة لحماية الأطفال والنساء من خطر الطيارات. وقد بطل العمل بالقوانين التي تمنع الاعتداء على المستشفيات وأماكن التعليم والعبادة، وأملت الوحشية على تلك القلوب المتحجرة أن الخسائر التي تحلها الطيارات بالنفوس البشرية عمل من أعمال الإنسانية حيث تقضي عليها في أمد قصير!
ولا يباح الآن للأمة الصغيرة أن تضع سياستها بنفسها، ولكن الأمم القوية هي التي تضع لها السياسة التي تسير عليها، فإذا رفضت أن تعمل تحت إمرتها كان رفضها كافياً لتدميرها. ولقد فقدت ثقة كل أمة بمقاصد جاراتها فلا ثقة اليوم إلا بالتسليح.
إن ما انتهت إليه حال عصبة الأمم، وما كان يوضع فيها من الآمال والمبادئ السامية التي أصبحت أثراً بعد عين، لما يدعو إلى الأسف الشديد.
ولقد رأينا كيف يقضي على حقوق الفرد ويعتدي على حرية الرأي حتى أصبحت أسماء لا مسمى لها في بلاد كألمانيا وروسيا وإيطاليا، واصبح كل نقد يوجه إلى هذه الحال يقابل بمنتهى الشك وهكذا حيثما وجهنا النظر وجدنا المدينة تتدهور يوماً بعد يوم والعالم المضطرب يسير وسط هذه الزعازع كسفينة بغير سكان، يقودها ملاحون مخبولون نحو الهاوية التي ستدفعها إلى القاع.
البريد الأدبي
1 -
على هامش محاضرة حافظ عفيفي باشا
كلام حق ومنطق سديد؛ وآراء في التربية والتعليم يندر أن نسمعها في هذا البلد، لأن الجرأة فيه متقاعدة والصوت المخالف يرق فجأة حين يجب الصراخ.
سرد حافظ عفيفي باشا محاضراته (الجامعة الأمريكية 28 أبريل سنة 1939) عيوب التعليم في مصر، فأخذ فيما أخذ على الشباب انصرافهم إلى السياسة عن التحصيل، وقعودهم عن مواصلة الدرس والاطلاع بعد نيل الشهادة، وشغفهم بالتوظف وقلة (ثقافتهم المعنوية)، وفي رأي المحاضر أنه لابد من إصلاح نظم التعليم. وفي رأيه أن أساس الإصلاح إنما هو إعداد المدرس الصالح.
وما أظن أحداً من أهل الفطنة والدراية يخالف حافظ عفيفي باشا في تلك الآراء، بل أعرف نفراً من المفكرين المصريين يرونها، إلا أن قصة المدرس الصالح والمربي العارف لا تتم على الوجه المرضي ما دام أمر التدريس والتربية في أيدي (أولئك الموظفين المخضرمين الذين نشأهم المستشار دنلوب على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم بـ (روتين)(أي بجمود) النظام حتى أصبح لهم فطرة. . .) كما قال الأستاذ أحمد حسن الزيات في العدد السابق من الرسالة.
اطلبوا الشباب وانظروا إلى الدول الناشطة: إلى ألمانيا وإيطاليا وأمريكة الشمالية. أما سئمتم الخدر والنعاس؟!
2 -
حماية نفائس دار الآثار العربية
في الرسالة رقم 304 أخبرتك بأن المسيو فييت، وهو مدير دار الآثار العربية في مصر أقبل على الإرسال بثمانمائة قطعة من نفائس الدار إلى باريس لتمد معرض الفن الإسلامي المزمع إقامته هنالك، وزدت أن وزارة المعارف وقفت دون ذلك.
ومما اتصل بي أن المسيو فييت لا يزال يسعى في إخراج تلك النفائس من الدار. وقد بينت في المقال السابق الأسباب التي من أجلها يمتنع خروجها امتناعاً. وحسب وزارة المعارف أن تتمسك بقانون دار الآثار. وحسبها أن تسأل المتحف المصري هل يأذن في خروج محفوظاته كلما قام معرض في بلد من البلدان. ولا أحب أن أعود إلى التبيين والتدليل،
لعلمي أن أصحاب الأمر في وزارة المعارف يغضبون لخروج تلك النفائس غضبي لذلك، وأنهم يغارون عليها وبها يعتزون. أعلم هذا، لذلك أسألهم أن يأمروا بإعادة القطع إلى الحيطان؛ إذ بعضها لا يزال في الصناديق المجهزة للرحيل، وبعضها مطروح على الأرض ينتظر أن يفصل في أمره. رحم الله الفن. . .!
هذا وما فاتني أن أذكره لك في المقال السابق أن طائفة من نفائس دار الآثار العربية ليست مما تملكه الدار. بل هي مودعة لديها من جانب وزارة الأوقاف. وإني أعلم أيضا أن على رأس وزارة الأوقاف من يكره أن يتجوز في مثل هذا.
3 -
الاعتراف بجلال الفلسفة العربية
في المجلة الفرنسية في مرسيلية (عدد فبراير سنة 1939ص185 - 189) أن الأب هكتور أساتذة المعهد الكاثوليكي في باريس ألقى محاضرات في الفلسفة العربية واليهودية للعصور الوسطى؛ ومما قاله:
(إن العرب في ذلك العهد يسبقون اللاتين بمئات من السنين؛ ومذاهبهم تنشأ وتتحول على خلاف المذهب المسيحي. بل لنا أن نتحدث عن غلبات الإسلام المعنوية للفكر اللاتيني. فإن العرب الأرسطوطاليين فتحوا الأذهان فتحاً بالرغم من الحروب الصليبية (يعني ما وراءها من الكراهية والبغض) فانبثت كتبهم فيما يلي ديارهم، فهزوا بذلك من عقولنا الراكدة وفرضوا الفكر اليوناني على اللاتين بعد أن صفوه وذهبوا به حتى الشطط.
وهكذا ترى أرسطو المعرب أو قل العرب الأرسطوطاليين يعينون على تفسير العقيدة المسيحية. . . وأنه ينبغي لنا أن نصحح نظراتنا التاريخية (يعني الاعتراف بتأثير العرب في التفكير المسيحي).
(وما أقرب الفلسفة العربي من الإنساني! والدليل أن أصولها تجاوز مبادئ الإسلام والمسيحية لتصير إلى الفلسفة بمعناها الأعم. وفي هذه الفلسفة من الجلال ما جعل شراح العقيدة المسيحية يقعون تحت سليطانها. . إنما العرب أساتذة المدرسة الكبرى للفلسفة!).
4 -
والمخرج الآخر؟
في الرسالة رقم 305 عجبت كيف رفضت شركة مصر للتمثيل والسينما تجديد عقد الأستاذ
نيازي مصطفى المخرج الحاذق. وقد فطن صاحب الأمر الأعلى لتلك الشركة أن استبعاد الأستاذ نيازي ليس من الحكمة في شيء، فما أبطأ أن أمر بتجديد العقد وإذا الشيء بالشيء ذكر فهل نسأل من بأيديهم أمر الفرقة القومية: متى ييسر للأستاذ زكي طليمات أن يسترد عمله، وهو المخرج المصري، بل المخرج الوافر الخبرة الكثير الفن؟
حتام يستبعد أهل الكفابة في هذا البلد إذا بدت منهم الدراية؟
بشير فارس
إحياء ذكرى عبده الحامولي
عقد معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف اجتماعاً للنظر في وضع برنامج للاحتفال بذكرى الفنان المرحوم (عبده الحامولي). وقد شهد هذا الاجتماع معالي مصطفى عبد الرزاق بك ومعالي جعفر والي باشا وخليل مطران بك ومصطفى بك رضا والأستاذ محمد عبد الوهاب والأستاذ زكريا أحمد وغيرهم من رجال الفن والأدب.
وقد بدأ معالي الوزير الاجتماع بإشارته إلى ما في إحياء ذكرى العظماء من تربية الشعب على الطموح، وتذوق نواحي العظمة في الغابرين من رجاله، فضلاً عما في ذلك من توجيه القلوب إلى تقدير الفن ومحبته.
وقد استقر الرأي على تأليف لجنتين فرعيتين إحداهما من الأدباء، والثانية من الموسيقيين، لدراسة النواحي الأدبية والفنية في حياة (عبده الحامولي) وعصره ثم وضع برنامج للاحتفال بذكراه.
ثم ختم معالي الوزير الاجتماع بقوله: إن وزارة المعارف ستقوم في مناسبات مختلفة بإحياء ذكرى العظماء الذين مروا في تاريخ مصر في مائة السنة الأخيرة.
المكتب الفني في وزارة المعارف
تفكر وزارة المعارف في إنشاء مكتب فني يضم طائفة ممتازة من أدباء المدرسين، ليكون صلة بين وزارة المعارف والأدب الحر، ويكون له الرأي في الكتب العربية التي تختار الوزارة أن تكون في أيدي تلاميذ المدارس. وهي فكرة نافعة تتحقق كثيراً مما دعت إليه الرسالة في مناسبات عدة. على أن النجاح في هذا المشروع مشروط بحسن اختيار الوازرة
لأعضاء هذا المكتب، بحيث لا يضم إلا الممتازين حقاً من المدرسين والأدباء؛ وإنهم لكثيرون في وزارة المعارف، ينقصهم حسن الرعاية ليكونوا من عوامل الإصلاح في الأدب الجديد.
كتاب منتقى الأخبار
جاء في كتاب المفصل في تاريخ الأدب العربي للأساتذة المحترمين: أحمد الإسكندري. أحمد أمين. علي الجارم. عبد العزيز البشري. أحمد ضيف. في الصفحة 258 من الجزء الثاني (ترجمة ابن تيمية هو أحمد بن عبد الحليم ولد بحران سنة 661 هـ وقدم مع والده إلى دمشق وهو صغير. . . إلى أن قال وبلغت مصنفاته ثلاثمائة مجلداً أكثرها في التفسير والفقه والأصول والرد على الفلاسفة والمبتدعة وأشهر هذه الكتب منتقى الأخبار الخ)
وكتاب منتقى الأخبار مشهور متداول معروف بين الناس وهو في أحاديث الأحكام ونسبته لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية المشهور بتقي الدين شيخ الإسلام خطأ عظيم ولا سيما من مثل رجال هم من أعلام العلم والأدب في هذا العصر. وإني مع احترامي لمقامهم لا أرضى لهم هذا؛ ولو أنه صدر عن أناس لا شأن لهم لما نبهت عليه ولما أبهت له، وكتاب المفصل متداول بين الطلبة وغيرهم فلا يصح أن تبقى غلطة هذه شائعة فيه بدون تنبيه.
أما صاحب منتقى الأخبار فهو الشيخ مجد الدين عبد السلام ابن تمية وهو جد أحمد بن تيمية المشهور المترجم له في كتاب المفصل، وقد شرح كتاب منتقى الأخبار الشوكاني وأسماه نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار وطبع عدة مرات وكذلك منتقى الأخبار طبع منفرداً.
ونبه الشوكاني في أول شرحه على الفرق بين مجد الدين عبد السلام بن تيميه صاحب منتقى الأخبار وبين أحمد بن تيمية المشهور بشيخ الإسلام، فقال في أول كتابه: (وسميت هذا الشرح بنيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار. . . إلى أن قال: وقبل الشروع في شرح كلام المصنف نذكر ترجمته على سبيل الاختصار فنقول: هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق أبو البركات مجد الدين عبد السلام المعروف بابن تيمية قال الذهبي في النبلاء ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريباً. . . قال: وقد يلتبس على من لا معرفة له بأحوال الناس صاحب الترجمة بحفيدة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم شيخ ابن
القيم الذي له المقالات التي طال بينه وبين أهل عصره فيها الخصام وأخرج من مصر. وليس الأمر كذلك. . . الخ).
هذا كلام العلامة الشوكاني وهو جلى ظاهر لا يحتاج إلى تعليق وقال صاحب كشف الظنون: (المنتقى في الأحكام لمجد الدين ابن تيمية شرحه السراج عمر بن الملتن الشافعي المتوفى سنة 804 ولم يكمله. . . الخ).
إبراهيم يسن القطان
هل تتكرر ما لنفي النفي؟
ذكر ابن عقيل في شرح ألفية ابن مالك أنه يشترط في عمل ما عمل ليس ألا تكون مكررة. فإن تكررت بطل عملها، نحو - ما يزيد قائم - فالأولى نافية، والثانية نفت النفي، فصار الكلام إثباتاً.
وكان على ابن عقيل قبل أن يشترط ذلك الشرط الذي انفرد به أن ينظر: هل تجيز العربية هذا الأسلوب أو لا تجيزه؟ وإني لا أذكر أنه مر على في كلام العرب منظومه ومنشوره مثل ذلك الاستعمال، وإنما يتكرر حرف النفي فيها للتأكيد، مثل قول الشاعر في تكرار ما:
لا يُنسك الأسى تأسياً فما
…
ما من حمامٍ أحدٌ معتصما
ومثل قول الآخر في تكرار لا:
لا لا أبوح بحب بثينةَ إنها
…
أخذتْ عليّ مواثقاً وعهودا
ولست أدري لم تقول العرب في الإثبات - ما ما زيد قائم - ولا تقول من أول الأمر - زيد قائم - وقد قامت لغتهم على مراعاة الدقة في الأسلوب، بحيث لا يزيدون فيها ولا ينقصون إلا لسبب من الأسباب.
قال بعض طلابي في الدرس: إنه يجوز أن يكون أصل ذلك الأسلوب أن شخصاُ قال (ما زيد قائم) فترد عليه قوله بقولك له (ما ما زيد قائم).
فقلت له: إني إذا رددت عليه بذلك أكون مخطئاً، لأنه حينئذ يكون منكراً لقيام زيد، فيجب أن أرد عليه بكلام مثبت مؤكد، فأقول له (إن زيداً قائم) ولا يصح أن أرد عليه بذلك النفي المتكرر غير المؤكد، وهذا أمر معروف في علم المعاني.
وقال بعض الشيوخ: إن ذلك الأسلوب لم يرد مثله عن العرب، ولكنه يصح لنا أن نقوله، وهذا يكفي في تسويغ كلام ابن عقيل فقلت له: إن مثل هذا قد مضى زمنه، ولا يمكن أن يقبله الآن أحد منا، لأن النحو موضوع لكلام العرب لا لكلامنا.
وقد رد أسلوب نفى النفي في لغة العرب على نحو آخر مقبول يدخل فيه الاستفهام الإنكاري على النفي لأجل نفيه، لأن الاستفهام الإنكاري يفيد النفي، ونفى النفي إثبات، وهذا كما في قوله تعالى:(أليس الله بكاف عبده) فهو بمعنى قولنا: - الله كاف عبده - ولكنه يفيد ذلك على أبلغ وجه وأحسن أسلوب. وقد قام الإنكار فيه مقام التأكيد اللازم في الرد على إنكارهم، بل هو أقوى من التأكيد في اقتلاع الإنكار من أنفسهم. ومن ذلك الأسلوب أيضا قول الشاعر:
ألستم خير من الركب المطَايا
…
وأندى العالمين بطون راحِ
وقد قيل إنه من أجل هذا كان أمدح بيت قالته العرب، ولا شك أن الفرق كبير بينه وبين ذلك الأسلوب الذي أجازه ابن عقيل، ومع هذا نحب أن نشترك قراءة الرسالة في أمره، فلعل بعضهم يحفظ عن العرب شاهداً له.
عبد المتعال الصعيدي
وفاة السيد عبد الرحمن الإمامي
فجع المغرب الأقصى في الأيام الأخيرة بفجيعة كان لها وقع كبير في نفوس الشعب المغربي ألا وهي موت أحد علمائه الكبار السيد عبد الرحمن القرشي الإمامي في العشرين من المحرم؛ فكانت المصيبة التي ذهل الكل لها. وقد كان الفقيد رحمه الله من الساهرين على المصلحة العامة والمناضلين عنها مضحياً في ذلك بكل نفيس.
تقلب الفقيد في وظائف شتى فكان قاضياً مثل العدل والنزاهة ثم كان وزيراً لم يشهد المغرب قط مثله وزيراً صارماً
وقد قنع الفقيد رحمة الله عليه بما في يديه فانقطع لعبادة الله ونشر العلم تاركاً الدنيا ولم يخلف فيها ديناراً ولا درهماً.
وتقديراً لهذه الحياة العامرة بجلائل الأعمال قامت نخبة ممتازة من شباب جامعة القرويين
وأسست لجنة دعت الناس إلى الحفلة تأبين للفقيد في اليوم الأربعين من وفاته، فكان الحفل رائعاً.
ووافق يوم الأربعين يوم الخميس 29 صفر سنة 1358 وكان يوماً مشهوداً تجلت فيه العواطف المغربية حزينة كئيبة. وقد اختارت اللجنة أن يكون محل التأبين الدار التي كان يقطنها الفقيد آخر حياته وقد افتتح الأستاذ احمد الشبيهي الحفلة مرحباً بالحضور، ثم أعقب ذلك آيات من الذكر الحكيم فسكوت مقدار قراءة الفاتحة على روح الفقيد، فمقال الأستاذ الرئيس أتى فيه على حياة القيد بإسهاب، فمقالة لوزير المعارف الأستاذ محمد الحجوي، فقصيدة لقاضي مدينة سكات أحمد سكيرج. فقصيدة لقائد قبائل أولاد جامع محمد بوعشرين، فقصيدة لعيبة سمو الخليفة السلطاني بفاس الأستاذ محمد غريط، فمقال للأستاذ لجامعة القرويين العباس المراني، فمقالة لفتى سلا أبي بكر زنبير، فمقال للكاتب بالبلاط السلطاني العربي ابن سوده، فمقال لعالم مدينة مراكش محمد بن الموقت. فخطب وقصائد كثيرة للنخبة الممتازة من طلبة الجامعة.
(فاس)
اللجنة القروية
حول تشبيه
سأل سائل من كرام العراقيين في الموصل عن وجه الشبه في تشبيه هجرة الأميرة فوزية إلى طهران بهجرة الرسول الكريم إلى المدينة في الصفحة الثالثة من عددنا الهجري الممتاز. وجوابنا أن هجرة الرسول كانت عاقبتها قوة الإسلام وعزة المسلمين ووحدة العرب، وهجرة الأميرة نعتقد أنها قبل كل شئ في سبيل الله وستكون عقابها المؤاخاة بين دولتين من أقوى دول الإسلام فرق بينهما الدار واختلاف اللغة والمذهب؛ وفي هذه المؤاخاة ضمان لحسن الجوارين بين إيران والعراق، وتوفيق لصلات التعاون بين المسلمين والعرب. والتشبيه بعد ذلك كله كما يقول البيانيون إلحاق ناقص لكامل. فلابد أن يكون وجهة الشبه في المشبه به أقوى منه في المشبه ولو ادعاء، وإلا عدل عن التشبيه إلى المشابهة 1. ع.
تصويب
وقع في المقال الأخير للأستاذ الكبير العقاد خطآن مطبعيان نصححهما معتذرين:
في صفحة 889 سطر 22 جمهرة الشعراء والصواب: جمهرة القراء وفي صفحة 897 سطر 26 يقبضون على كل زمان والصواب: على كل زمام.
ذكرى صديق
دار الفلك دورتين منذ أن ضرب القدر بينك وبيننا يا رافعي بحجاب لا نستطيع أن نظهره ولا تستطيع أنت. . . دار الفلك دورتين، والحياة ما تنفك هي الحياة، والناس من حولها فراش يتهافت على بريق من شعاعها يخطف الأبصار، ويصرف القلوب إلا عن نوازع العيش وحب البقاء، وأنا على حيد الطريق أتشوف، وآسى على قلوب رانت عليها ظلماء الحياة فما تبصر، غير قلبي. . غير قلبي وهو قد ضم على هوى لك فيه، هو به ضنين، فلا يكاد ينسى انك أنت يا رافعي. . .
يا عجباً! هذا الدار على قسوتها لذة يهفو نحوها كل قلب؛ وهذه الدنيا على ما فيها من بلاء جميلة تصبو إليها كل نفس؛ وهذه الحياة على ما نجد فيها من عناء جذابة يبسم لها كل إنسان! تلك سنة الخلق.
لو تواريت عنا ليقول فيك التاريخ كلمته، وخلصت إلى نفسك علَّ القلوب تنزع عنها سخائمها؛ ولكن ماذا كان؟
إنه لا يحزنني ألا أجد المنصف البريء، فما الخلد مرتبة تؤخذ عن شفاه الناس؛ وليس يؤلمني أن أرى طائفة من الناس تضطعن عليك وتذهب وتريد أن تنال منك ميتاً بعض ما عجزت عن وأنت حي، فالتاريخ من ورائهم له لسان صدق.
ما الإيمان، وما العقيدة، وما الصبر، وما الدأب، وما النشاط، وما الحزم، وما الجد، وما السمو، وما الكرم، وما الوفاء، وما. . . وما. . .؟ أشياء كنت تعرفها وتدين بها وترى فيه الغاية العظمى والمثل الأعلى. فرحمة الله عليك.
كامل محمود حبيب
الكتب
حياة الرافعي
تقدير ونقد
للأستاذ أبو الفتوح رضوان
كتاب (حياة الرافعي) للأستاذ محمد سعيد العريان من أجدر الكتب الحديثة باحتفاء الأدباء، وأحقها بأن يتناولها القارئ تناول تمعن ودرس، وأن يقول الناقد فيه كلمة تضعه موضعه بين كتب العربية. (فحياة الرافعي) كتاب فريد في المكتبة لأن فن التراجم لم يستقم لأي من كتاب العربية حتى الآن.
نعم إن في العربية كتباً فيها تراجم لشعراء وأدباء طالت أو قصرت لكنها ليست من ذلك في شيء، إن هي إلا ذكر بعض أخبار الشاعر ونوادره أو بعض ما اتفق له مما يكون بين الإنسان وبين معاصريه. وقد تكون غالبية هذه الأخبار ملفقة مزورة صنعها الرواة إثباتاً لأمر يريدون إثباته أو تعالماً على غيرهم بأخبار الشعراء؛ أما ترجمة التي يقصد بها إلى تصوير المؤثرات التي خلقت أدب الأديب ووجهت شعر الشاعر ولونت فلسفة الفيلسوف، فليس وجود في العربية قبل (حياة الرافعي). ومن هنا وجب أن يختفي الأدباء بهذا الكتاب إذ كثيراً ما تموت فنون من الأدب لأنها وجدت فلم يلتفت إليها أحد. فإذا كان أدب الرافعي فصلاً منقطع النضير في الأدب العربي، فكتاب سعيد العريان عن الرافعي كذلك فصل منقطع النضير.
والكتاب حقيق بأن يختفي به أيضا لأنه عن الرافعي الذي أضاف إلى العربية ثروة ضخمة من المعاني والأساليب والبيان والفن، ثم عقه أدباء عصره فما كان أحد منهم ينظر إليه أو إلى أثر من آثاره إلا بعين مطروفة. ذلك في حياته، أما بعد وفاته فرحم الله أهل الوفاة. ولقد كتب أحدهم أخيراً مقالة عن أثر المرأة في أدباء العصر، فذكر من شاء إلا الرافعي، مع أن رسالة حزن أو سحابة حمراء أو ورقة ورد واحدة كافي لأن يضعه الإنصاف المزعوم في مقدمة من ذكر.
وثمة ميزة أخرى لهذا الكتاب، وهي أنه تاريخ حافل صحيح للأدب العربي في أحدث
أطواره. يكشف بجلاء عن كثير من الحوادث التي أثرت فيه ووجهته، ويوضح حوادث أديبة هامة مرت على أعين قراء العربية دون أن يتبينوا حقيقة دواعيها، ولم يأخذوها على وجهها الصحيح. ثم هو تفسير لابد منه لأدب الرافعي عامة ولعيون كتبه خاصة لابد لفهمها من قراءة فصوله.
ولقد قرأت (حياة الرافعي) منجمة على صفحات الرسالة، ثم قرأتها مجموعة في الكتاب، فكان لي فيها بعض الرأي، أحببت أن أبديه في هذه الكلمة وفاء للرافعي، وتقديراً لعمل أحد أولئك الشبان الذين يحسنون ويجيدون ثم يضيع إحسانهم وإجادتهم وسط دوي الأسماء الضخمة في هذا البلد.
لقد بينت فيما سبق قيمة الكتاب من حيث هو كتاب. على أن فيه حسنات أخرى كثيرة لو ذهب القارئ المتمعن يحصيها لاستغرقت مقالة على حدة. ففي الكتاب تمحيص للحوادث دقيق، وفيه اتزان ونزاهة في الحكم، وفيه لطف في العرض، وفيه أسلوب مشرق لا يستغرب من أحد أصحاب الإمام الرافعي، وفيه ما يضطر القارئ الدارس إلى الالتفات والوقوف.
على أن في الكتاب بعض ما كان ينبغي أن يسلم منه، وهذا ما نحب أن تنبه إليه، فإن جودة العمل محسوبة على ميزان النقد، والجمال المفرط يظهر أبسط القبح، وأشد ما تكون الذبابة إيلاماً أن تقف على وجه حسن.
ففي الكتاب بعض هنات في الترتيب والتبويب، أتت من أن المؤلف النابه كتب مادة كتابه مقالات في أول الأمر، ثم لما عن له أن يجمع تاريخه مسلسلاً في كتاب تقيد بترتيبها في المقالات فكان في بعض فصول الكتاب ما هو قلق في موضعه يحتاج إلى تقديم أو تأخير. فما موضع فصل (بين أهله) بين فصلي (شعراء عصره) و (من الشعر إلى الكتابة)؟ أليس موضعه الطبيعي بعد (في الوظيفة) حتى تتساوق فصول الرافعي الأديب؟ والحديث عن الرافعي الشاعر موزع بين فصول عديدة متفرقة ولو جمعت كلها بعضها إلى بعض لكان أجدى على وحدة الكتاب. وفصل (شعراء عصره) وهو أشبه بفصل (في النقد) وقد نبه المؤلف إلى ذلك، فأشار إليه عندما بدأ يتحدث عن الرافعي الناقد، وفصل (في النقد) مجزأ غير متتابع لأنه نشر في الكتاب كما كان في المقالات ولم يدمج بعضه في بعض، وفي
أوائل الفصول كثير من وصل ما انقطع كان ضرورياً في المقالات المتباعدة وهو في الكتاب المتلاحق تعطيل للقارئ ومضايقة له، وأشد ما يظهر ذلك في فصل (في النقد)، وفي الكتاب بعض تعبيرات لا تتفق مع أسلوب كتاب كأن يقال:(وهذا له موضع غير هذا المقال) مع أن الكتاب لا يكون فيه مقالات وإنما يكون فيه فصول، ولو لم يتقيد المؤلف بمقالاته في الرسالة ذلك التقييد الشديد لقال:(وهذا له موضع في غير هذا المقام) أو في (غير هذا الفصل).
وفي الكتاب بعض الآراء والحقائق تستوقف نظر القارئ المتمعن، تشير إليها على حساب ترتيب ورودها في الكتاب
ففي ص 13 إشارة إلى حارة سيدي سالم قال عنها المؤلف إنها (حارة ضيقة أوى إليها السيد البدوي أول ما هبط من طنطا منذ ألف سنة). وقد كان قدوم السيد إلى طنطا في سنة 634 للهجرة أي منذ 724 سنة فقط. وليس هذا من صلب الكتاب ولكنه ما يحسن تصحيحه.
وفي ص 19 يقول المؤلف إن الرافعي (كان بلغته ولهجته كأنه لم يقدم من سوريا إلا منذ قريب) وهو قول لا أظن الأستاذ يعني به ما يفهمه القارئ منه، فان لهجة الرافعي - كما سمعناه يتحدث - لم يكن فيها أي أثر للهجة السورية. وكل ما يستغرب منها هي تلك النغمة الحادة التي تشبه الصراخ، والتي أشار المؤلف إلى أنها من آثار ذلك المرض التي أصابه في شبابه، فيها حبذا لو أعاد الأستاذ تحقيق هذه النقطة بالرجوع إلى تصوره وهو أعلم بها على كل حال.
وأستند المؤلف النابه فكرة الحب عند الرافعي إلى ما قرأ من أشعار العذريين من شباب العرب. فهل لم يقرأ الرافعي غير أشعار العذريين مع كثرة ما تناول من دواوين الشعراء. ولماذا لم يتأثر بشعراء (الأغاني) وقد قرر الأستاذ أنه كان دائم النظر في هذا الكتاب وفيه من الشعر والأخبار ما فيه. أليس الأجدر أن يستند ذلك إلى نشأته الدينية التي أشار إليها المؤلف (ص22) وإلى تقاليد أسرته وإلى أنه نشأ تبعاً لكل ذلك (عفيف النظر والشفة واللسان).
ثم ألا يرى المؤلف معي أن عدم شهرة الرافعي بين عامة القراء ليست راجعة إلى أناته
وشدة تأنقه فيما يكتب وما ترتب على ذلك من عدم إكثاره من النشر في الصحف، بقدر ما ترجع إلى بعده عن تملق الجمهور واحتفاظه بأرستقراطية أدبه، وأنه فضل لقرائه ولنفسه أن يرتفعوا هم إليه على أن ينزل هو إليهم، كما أظن أني قرأت له في بعض أحاديثه منذ زمن بعيد.
(البقية في العدد القادم)
أبو الفتوح الرضوان
1