الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 307
- بتاريخ: 22 - 05 - 1939
مصر العظيمة تستعد!
في يوم وليلة
في يوم وليلة رأينا مصر المبعوثةَ من مرقد الخلد تدخل في عهدها الجديد الجدّي فتنهض بما توجبه الحياة الحرة من تكاليف الاستقلال وتبعات السيادة!
كان ذلك اليومُ يومَ الخميس الماضي، وكانت تلك الليلة ليلة الثلاثاء قبله! ففي هذا اليوم كان عرض القاهرة لجيشها الفتيِّ في آلته الحديثة وعدته الكاملة؛ فخرج من عرائنه الشُّم والصباح الضاحي يتنفس بأريج مايو الجميل، وسار في الشوارع الحاشدة يعرض على الأنظار الدَّهِشة قوى الدفاع وأسلحة الأمن وما لا بد منه لمن يعيش في زمن استذأب وضَرِي حتى أنكر حق الحياة على نوع الحمل.
لم تكن المدافع القصيرة والطويلة، ولا الدبابات الخفيفة والثقيلة، هي التي ملكت الألباب وأثارت الإعجاب وفجرت الحماسة؛ فإن منظر آلات الدمار والموت أصبح لطول ما ألِفه الحس لا غرابة فيه ولا عجب منه؛ وإنما الذي ملك الألباب حتى أذهل، وأثار الإعجاب حتى أدهش، وفجَّر الحماسة حتى أطغى، هو منظر جنود مصر بشبابهم الفاره، وخَلْقهم السِويِّ، وملامحهم الدالة، ومظهرهم الأخاذ، ونظامهم الرائع؛ فكأنما جنود إبراهيم لم يلقوا السلاح منذ ارتد قائدهم عن الآستانة. فأين كان مكمن هذه الروح الحربية القوية مدى حقبةٍ من الرخاوة والكسل لو مرت على الضواري لطمست في وجوهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس؟ لقد كان لنا قبل سبتمبر الماضي جيش من الأرقام متواضع العدد والعدة، يعيش في أكناف الشعب عيش الأمان والغفلة، لا يعرف الحدود إلا على الورق، ولا يشهد الحروب إلا في السينما، ولا يدرك معنى الدفاع عن النفس في وجود إنجلترا إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه. فكيف انقلب هذا الجيش الصغير الغرير في سبعة أشهر جيشاً من المردة العتاة يقيم المعاقل على البحر، وينحت الخنادق في الصخر، ويروض أوعار الأرض لإقدامه، ويذلل أخطار السماء لقوادمه، ويضع الخطة فلا تخطيء، ويسدد الرمية فلا تطيش، ويقف جنباً إلى جنب مع الجيش الذي قهر نابليون وهزم غليوم وغنم الدنيا، فلا يفوقه في نظام، ولا يفوته في سبق، ولا يبذه في مناورة؟ السر في معدن هذه الأرض التي جعلت للزمان تاريخاً وللإنسان
مدنية. والسحر في طبيعة هذا الفلاح الذي طبع آثاره على جباه القرون وسلطانه على قلوب الأمم. وفرخ النسر لا يعلَّم كيف يصيد، وشبل الأسد لا يدرَّب كيف يفترس!
وفي تلك الليلة كانت تجربة الدفاع الجوي عن القاهرة. ففي عتمة الليل والناس لاهون صاحت الأبواق المنذرة بالغارة في كل حيّ، فأطفأت الأنوار وأسدلت الأستار وخشعت الأصوات وسكنت الحركات، وأقفرت الشوارع إلا من رجال الشرطة والمطافئ والإسعاف، وجثم على صدر العاصمة كابوس من الرهبة والقلق، فامتدت العيون خلسة من وراء السجوف ومن خلال النوافذ فلم تر إلا الظلام يموج، والنجوم تضطرب، والرقابة تحت الحنايا الآمنة تتهامس، والمدافع فوق العمائر العالية ترتقب. ثم أقبلت من الحدود الغربية النسور المغيرة فرنَّقت في جو المحروسة على علو لا يُرى ولا يسمع؛ ولكن آلات الرصد نبهت الكشافة فأرسلتْ على أطباق الجو الحالك أفواجاً من الأشعة الخاطفة، تتطاول وتتعارض، وتتعانق وتتشابك، حتى لم تدع طائراً يطير إلا صوَّرته في عدسة مدفع. وفي آخر الهزيع الأول من الليل أعلنت الأبواق بأصواتها المتصلة انقطاع الغارة، فأشرقت المدينة، واستأنف الناس حياة اللهو والأنس وهم يشعرون انهم اصبحوا خلقاً كسائر الخلق لهم قوة لا تُزدرى، وكرامة لا تمتهن، وحمى لا يستباح.
في هذه الليلة وفي ذلك اليوم أدركنا أن مصر الناهضة قد بلغت سن التكليف وجاوزت حد العبث؛ فهي تستعد للحرب والسلام، وتبنى بالفعل لا بالكلام، وتقد إلى ساحة الدفاع المقدس شيوخ دينها وشباب دنياها، وهي راضية بهذا البذل فخورة بهذه التضحية. والفضل كله للأحداث التي تذيب الغش وتفضح الزيف وتمحص الكفاية.
لا جرم إنا كسبنا مغانم الحرب وأن لم تكن حرب. لأننا بما عملنا أوجَدنا شيئاً لا بد من إيجاده، وبما بذلنا سددنا عوزاً لا مناص من سداده. أما الدول الأخرى فدفاعها مكين الأساس مرفوع القواعد منيف الذرى، فكل ما تنفقه عليه يضطرها الخوف إليه لتأمن الفشل وتضمن العاقبة.
ماذا كنا قبل أن ينتشر الجراد الرومي المسلح على حدودنا المهملة؟ كنا قوماً من سادة الماشية وعبيد الأرض تركوا أزمتهم للقدر وثروتهم للغريب وحمايتهم للحليف، ثم أقبل بعضهم على بعض يتنافسون في الهزل من غير غرض، ويتراشقون بالتهم من غير بينة،
ويتسابقون إلى الحكم من غير غاية. فلما أينع الحصاد وأزّ في الأفق الجراد وزأر بالوعيد الطغاة، تيقظت مصر الصادقة الحرة على ضفاف النهر وأحقاف الرمل ورياض الريف، ثم وقفت في شِكتها الكاملة موقف الواثق الحذر وهي تنظر إلى الشفق الدامي في وجه الغرب، وتقول للطامع الساعي لإثارة الحرب: حذار! فإن على عرشيَ الفاروق خليفة الله، لا كليو بطرة صديقة قيصر!
أحمد حسن الزيات
لقاح العقول أو لقاح الأنساب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أسرته الأصيلة من الفلمنك
وانتقل جد من جدوده إلى النمسا فأقام في الأقاليم البوهيمية واتصل هو وأبناؤه من بعده بخدمة آل هابسبرج
وبنى جده لأبيه بيونانية من جزيرة أقريطش، وبنى أبوه بيابانية من أذكى نساء اليابان
ذلك هو مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده، واسمه الكونت (ريتشارد كودينهوف كاليرجي)
أما اسم الكتاب فهو (حكومة الاستبداد حيال الإنسان)
قرأت هذا الكتاب فقرأت عجباً من تآلف الأفكار الغربية، وتقارب الأقطار البعيدة، واختلاط الأساليب التي انغزلت مع الماضي مئات القرون.
هنا شيء من اليابان لا شك فيه، وشيء من اليونان لا شك فيه، وشيء من تعبد الفلمنكيين، وشيء من جماح البوهيميين، وشيء من أدب البلاط، وشيء من مساواة الحرية، ولكنك لا تستطيع أن تفرزها ولا أن تستخرج كل خليط من خيوطها مستقلاً عن سائر شباكها.
وكل ما تستطيعه انك تحس لكل جنس من هذه الأجناس أثراً في مزج الأفكار وصياغة الألفاظ وتنسيق الحلية الكتابية. وقد تجزم الجزم الأكيد أن الياباني وحده لن يصنف الكتاب على هذا الأسلوب، وكذلك اليوناني والبوهيمي والفلمنكي ورجل البلاط وجوَّاب الآفاق، ولكنهم إذا اتصلوا بالأنساب والثقافات كما اتصلوا في ذهن هذا المصنف نتج من تلاقح أذهانهم وثقافتهم مثل هذا الكتاب.
خذ مثلاً هذه الكلمات:
(الإنسان من صنع الله،
والحكومة من صنع الإنسان.
الإنسان غاية وليس بوسيلة،
والحكومة وسيلة وليست بغاية.
قيمة الحكومة هي قيمة ما تؤديه من الخدمة لمن فيها من الخلائق الإنسانية. فكلما خدمت الإنسان وعاونته على التمام والكمال فهي حسنة، وحيثما بدر منها التعطيل لتمامه وكماله
فهنالك الشر والسوء
الحكومة ليست شيئاً حياً ولا جسداً حياً ولا عضواً حياً؛ ولكنها آلة أو أداة مجعولة لخدمة الإنسان في صراعه للفوضى والاختلال
الإنسان مخلوق حي، والحكومة أداته للخير أو للشر، وللنفع أو للإضرار إذ ليست الحكومة كائناً إنسانياً ولكنها مع هذا تريد أن تكون أكثر من إنسان
ليست هي إلهاً فهي إذن تصبح صنماً
يصنعها الإنسان وتطلب منه العبادة
وهذه المصنوعة الإنسانية تعدو طورها فتتخذ لنفسها مكان الوساطة بين الله والإنسان!
هذه الآلة المصطنعة تحسب نفسها مخلوقة عضوية حية. . . وهذه الخادمة التابعة تتخايل أمام بني الإنسان في زهو السيادة!
إننا لنعيش اليوم في أخطر عصور الانقلاب التي مرت بها الدنيا؛ لأنه عصر انقلاب الحكومة على نوع بني الإنسان!
إننا لنعيش في أسوأ ما عهدنا من عصور عبادة الأصنام؛ لأنه عصر تأليه الحكومات)
ومثل آخر من خواطر هذا الكتاب النفيس ما جاء منه في مستهل الكلام على الديمقراطية والنظم النيابية حيث يقول:
(الحرية مثل أعلى وغاية منشودة
الديمقراطية مبدأ وقاعدة
النظام البرلماني هو وسيلة أو طريق
والخلط بين هذه المعاني يؤدي إلى تشويش مريج
فإنجلترا حرة ولها نظام برلماني؛ ولكن دستورها يعتمد على الديمقراطية بعض الاعتماد؛ لأن المجلس الأعلى والتقاليد الوراثية ليست من الديمقراطية بلا خلاف
وروسيا وألمانيا وإيطاليا ليست بحرة وإن كان لكل منها دستور قائم على سيادة الأمة وعلى مبدأ الكثرة في ولاية الحكومة كما تقضي أصول الديمقراطية
والولايات المتحدة وسويسرا حرتان وديمقراطيتان ولكنهما على غير الوضع النيابي مذ كانت الحكومة فيهما لا تسقط إلا بانتزاع الثقة البرلمانية منها
واليابان لها نظام برلماني ولكنها ليست بالديمقراطية، لأن دستورها لم يؤسس على سلطان الأمة بل على سلطان الإمبراطور. وهو - أي الإمبراطور - يقبل باختياره أن يشرك معه الحكومة البرلمانية
ومن المحتمل جداً أن تتصور حكومة حرة تحترم حقوق الأفراد على أيدي قلة متسامحة، كما تتصور حكومة متعسفة تقيد الحريات جميعاً على أيدي كثرة تدين بعقائد الاستبداد
فالروح الموحية أهم وأقوم من نصوص الدساتير. وحيثما بطل اليقين بالإنسان والاعتداد بحقوق الأفراد لم يكن عجيباً أن يفضي بنا الانتخاب العام إلى الاستبداد؛ لأن المستبد والمشعوذ السياسي ليسا بالنقيضين، ولكنهما قرينان متماثلان)
وكل فصل من فصول الكتاب حافل بهذه الدقائق وهذه القضايا وهذه التعريفات
هنا ولا شك أناقة الياباني في التنسيق وخفة الياباني في الحركة
وهنا ولا شك نفاذ اليوناني إلى بواطن المعاني الفلسفية والحدود المنطقية
وهنا ولا شك جنوح الفلمنكي إلى صبغ الحقائق بصبغة العبادة والأسرار
وهنا ولا شك طلاقة البوهيمي، وكياسة الرجل البلاطي، وثقافة الإنسان الحديث
انك لا تشك في خصلة من هذه الخصال كما لا تشك في اختلاف المنهج والأداء لو كان الكاتب يابانياً أو يونانياً أو فلمنكياً أو بوهيمياً غير مختلط بما عدا سلالته وثقافته من السلالات والثقافات
ولكن أين هذا وأين ذاك؟
أين يبتدئ هذا التفكير وأين ينتهي ذلك التفكير؟
وما وسيلتك إلى منع عنصر من تلك العناصر أن يظهر في منهج الكتاب وأدائه أن كانت بك حاجة إلى إمتاعه؟
وما وسيلتك إلى زيادة عنصر من تلك العناصر أن كانت بك حاجة إلى ازدياده؟
لقد شغلني التوجه إلى هذا المعنى أثناء القراءة حتى خيل إليَّ أنني في معمل من معامل الطبيعة أرقب فيه براعتها في الخلط والمزج والجمع والتفريق
أو خيل إلي أنني أمام مسرح التاريخ الكبير يتناول اللاعب القدير على خشباته نسيج الأحقاب والأعقاب منذ ألوف السنين فيداخل بينها ويواشج بين خيوطها على نمط من
السرعة لا تضبطه بعينك في مكان واحد، ولكنك تضبطه كله حين ينتهي إلى النتيجة فإذا هو هناك حيث لا تدري من أين اتصاله ومن أين انفصاله في مجمل النسيج
ورب كلمة من كلمات الكتاب لها اتصال بجزائر اليابان، وكلمة أخرى لها اتصال بشعاب البوهيميين، وكلمة مجاورة لها قد جاءت من أقصى المغرب أو من أقصى الشمال
ان النظر إلى هذا لأمتع من النظر في حقائق الكتاب، وإن كانت حقائقه من المتعة بمكان
ثم يجول في الذهن خاطر آخر هو فضل هذا اللقاح العجيب في تحسين العقول أو في تحسين الطباع.
هل تستفيد (الإنسانية) بامتزاج كهذا الامتزاج يعم جميع الأجناس في المشرق والمغرب، ويعم جميع الثقافات وجميع المذاهب والآراء؟
أو هل هي قيمة واحدة من القيم الكثيرة نحتفظ بها ونحتفظ معها بصفاء الأصول وافتراق السلالات، وما في كل سلالة من مزية ورثتها واستقلت بها بعد تحضير طويل في معمل التاريخ؟
يحضرني في هذا الصدد ما يصنعه مولدو الأزهار من مختلف الأحجام والألوان والأصول
يروقهم أن ينبتوا الوردة السوداء فيستفيد عالم النبات فائدة لا شك فيها إذا أضيف ذلك اللون إلى ألوان الورود
ولكنه يجني على الورد وعلى عالم النبات لا مراء إذا تمادى في تجاريبه حتى يزول الورد الأحمر والورد الأبيض والورد الذي يولد على ألوان مختلفات بغير تخليط وتهجين.
وخير لبني الإنسان أن يتعلموا التآلف وهم مختلفو العناصر متعددو المزايا جامعون بين فضائل العنصر القح والعنصر الهجين من أن يتآلفوا وهم لون واحد فقير المزايا قليل الاختلاف.
على أنني أحمد هذا اللقاح وأتمنى لو يظفر الفكر الإنساني بأنماط شتى من غير هذا القبيل كما ظفرنا بذلك النمط من ذلك القبيل.
عباس محمود العقاد
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
الشعر والنثر
قدمنا أن الأدب ينقسم إلى الأدب الإنشائي والأدب الوصفي. فالان نبين أن الأدب الإنشائي ينقسم قسمين: شعراً ونثراً
فالشعر أو القريض، كلام موزون مقفَّى
الوزن أن يكون للكلام مقادير محدودة من الحركات والسكنات متتابعة على نسق خاص. فينشأ من هذا التتابع نغمة وتختل هذه النغمة إذا زادت الحركات والسكنات أو نقصت، أو اختلف تأليفها.
والتقفية أن تكون أبيات القصيدة الواحدة متشابهة في أواخرها ولا سيما الحرف الأخير. ففي قول المتنبي:
وقفت وما في الموت شك لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
وثغرك وضّاح ووجهك باسم
نجد البيتين على وزن واحد تتوالى الحركات والسكنات فيهما على نسق متفق وينتهيان بكلمتين متشابهتين في الوزن وفي الحرف الأخير. وهما نائم وباسم. وسيأتي تفصيل هذا في باب الشعر
أما النثر فكلام لا يلتزم فيه وزن ولا قافية
وتعريف الشعر والنثر بهذين التعريفين فيه نظر إلى الألفاظ لا إلى المعاني
وأما تعريفهما من جهة المعنى فالشعر كلام تنشئه عاطفة قوية أو خيال والنثر كلام مطلق يكون أحياناً مبنيّاً على الفكر المرتب، وأحياناً ناشئاً من العاطفة والخيال كالشعر. فالنثر من جهة المعنى أعم من الشعر
والتعريف المأثور عن أدباء العرب هو التعريف الأول - التعريف اللفظي
وقد نظر قدماء اليونان إلى معنى الشعر دون لفظه فقالوا أنه الكلام المبنى على الخيال المؤثر في النفس بالترغيب أو التنفير
والحق أن العرب حين نظروا إلى صورة الشعر فعرفوه التعريف السابق لم يهملوا جانب
المعنى فيعدّوا كل منظوم شعراً. بل كان الشعر عندهم من جهة معانيه كالشعر عند اليونان. قال قدامة في نقد النثر: وإنما سُمِّي شاعراً لأنه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره. وإذا كان إنما يستحق اسم الشعر بما ذكرنا فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفى
وإنما نظروا إلى الجانب اللفظي لأنه الجانب المحسوس الواضح الذي لا يشارك الشعر فيه النثر. وربما كان أول من عرّف الشعر العربي رجال العروض الذين ينظرون إلى ألفاظ الشعر دون معانيه.
وكذلك اليونان حين عرفوا الشعر من جهة المعنى لم يكن شعرهم خالياً من الوزن والقافية ولكنهم نظروا إلى ناحية دون أخرى
والشعر والنثر مشتركان في قواعد البلاغة وقوانين الكلام وإن كان الشعر في جملته أميل إلى المجازات والاستعارات من النثر. قال قدامة بن جعفر في كتابه نقد النثر:
(وقد ذكرنا المعاني التي يصير بها الشعر حسناً وبالجودة موصوفاً، والمعاني التي يصير بها قبيحاً مرذولاً. وقلنا أن الشعر كلام مؤلَّف، فما حسن فيه فهو في الكلام حسن، وما قبح فيه فهو في الكلام قبيح. فكل ما ذكرناه هناك من أوصاف حد الشعر فاستعمله في الخطابة والترسل، وكل ما قلناه عن معايبه فتجنَّبه هنا).
ولكن يختلف الفنان فيما يعالجان من الموضوعات وفي طريقة البيان إجمالاً. فالأصل في الشعر أن يتناول الأمور التي هي أدخل في العاطفة والخيال، وإن يتانق في التصوير والتجوّر. والأصل في النثر أن يتناول الموضوعات الطويلة التي تحتاج إلى تفكير وتوضيح وإن يبين إبانة طبيعية، وربما يشارك النثر الشعر في موضوعاته فقد كتب الكتاب منذ القرن الرابع في الفخر والهجاء والمدح والعتاب والغزل الخ. وربما يشاركه في عباراته وأساليبه كذلك. ولكن يبقى بعد هذا أن الشعر والنثر في أصلهما مختلفان في الموضوع وطريقة البيان، ولولا اختلاف الشعر والنثر في الموضوع والتصوير لكان الكاتب المجيد شاعراً مجيداً إذا استطاع أن ينظم، ولكان الشاعر المجيد أجود في كتابته حين يتحلل من قيود النظم، ولكن الإجادة في الاثنين معاً لا تتفق لأكثر الناس. وقد سئل أبو إسحاق الصابي عن الفرق بين الكتابة والشعر فقال:
(ان طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه وأعطاك سماعُه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخم الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة) ثم علل الصابي قوله هذا بفسحة النثر وضيق النظم
وكلام الصابي ليس صحيحاً على هذه الصورة لأن الغموض لا يحسن في النثر ولا في الشعر وكأنه أراد أن يقول: أن الشعر أقرب إلى الإجمال في بيانه. وقيوده تحول دون الإيضاح الذي يملكه الناثر.
فطبيعة النظم تبيح للشاعر شيئاً من الغموض والتقديم والتأخير لا يباح في النثر، ولكن الغموض ليس مستحسناً في منظوم ولا منثور
وقال ابن خلدون في الفرق بين الشعر والنثر:
واعل أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله ولا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد المختص بالخطابة، والدعاء المختص بالخطابات وأمثال ذلك
وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام القافية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن)
عبد الوهاب عزام
من برجنا العاجي
(. . . لم يتيسر لي قراءة كل كتبك. إنما الذي قرأته لك هو مقالات وقصص ومساجلات في الصحف والمجلات ومع أن كل آرائك حرة وجريئة إلا أن رأياً واحداً هو الذي ملك شعوري وكياني: (إن من ملك قلباً حاراً ولساناً حراً فهو الذي يستطيع أن يسود العالم). سيدي: أن قلبي لحار وإن لساني لحر وبهاتين الوسيلتين يعظم أملى في المستقبل. إني أعشق الجمال وأحب الأدب الرفيع ولكنهم يريدونني أن أكون معلماً بإحدى المدارس الإلزامية. أن جو القرية يكاد يخنقني. أريد أن أؤدي رسالتي في الحياة، وهي رسالة الكاتب الموهوب، لا أن أعيش على هامش الحياة! أنه ليسرني أني استطعت إسماعك صوتي. فإن رأيت يا سيدي أن هذه النواة أهل للحياة فتعهدها بالغرس والري. لي من حسن الأمل فيك ما يجعلني أطمئن إلى انك لن ترمي برسالتي في سله المهملات. . .)
قبل كل شيء أحب أن أقول لصاحب هذه الرسالة أن يحسن ظنه بحياته. فلئن كان هنالك إنسان يعيش على هامش الحياة فهو أنا صاحب هذا البرج القصيّ. أن جو القرية لا يمكن أن يكون خانقاً للقلب الشاعر. وإن مهنة التعليم والعمل على تكوين نفوس نبيلة، ونفخ روح الجمال في نشء ساذج، وإيقاظ عيون صغيرة على حسن الطبيعة؛ كل هذا خلق فني في ذاته. ولكننا لا نريد أن نرى الخلق إلا في مقال يكتب، ولا المجد إلا في هراء ينشر. هنالك شعراء عظام ما فارقوا قراهم قط وما تركوا صناعاتهم الصغيرة قط. أن القلب الحار يسبغ الخير والجمال على ما حوله. ولو كان لصاحب هذه الرسالة قلب حار حقيقة لظهر لهذا أثر في قريته ومدرسته أولاً ثم في مادة نفسه ثانياً. فالقلب الحار يحتاج إلى وقود ليشع ولا يخمد وأيسر الوقود الكتب. وصاحب الرسالة لا يقرأ كتباً ولكنه يطالع مطالعات سطحية سريعة ناقصة. كم من الأعوام وكم من أكداس الكتب تلزم للقلب وقوداً حتى يقال أنه (قلب حار)!
توفيق الحكيم
خواطر
للأستاذ فليكس فارس
- 1 -
(لم يكد صاحب الأحذية السيد فيكاني السوري العربي يصنع أحذية عقيلة الرئيس روزفلت حتى اهتمت البلاد كلها باختراعه فأصبح الرجل الفاشل المعدم بالأمس (رجل الساعة في الصناعة) تنهال الطلبات عليه من كل صوب، وتحوّل مصنعه لتصليح الأحذية العتيقة معملاً كبيراً يجتذب ملايين الزبائن. وهكذا حقق (الصغير الفيكاني) في الولايات المتحدة ما حلم به في قريته منذ ثلاث وأربعين سنة في وطنه النائي)
(استبان والاس)
هذه كلمة من إحدى كبريات جرائد الولايات المتحدة موقعة بإمضاء كاتب من أشهر الكتاب في العالمين الجديد والقديم
وقد وقعنا على مقال في مجلة (المناهل) التي تصدر في بونس إيرس عن قصة الفيكاني فاخترنا تلخيصها:
(قدم السيد الفيكاني من سوريا وقد ضاقت بوجهه سبل الارتزاق من حرفته. فنزل في بلدة (كربندال) حيث اتخذ له دكاناً لترقيع أحذية الفقراء فكان دخله يكاد لا يفي لتأمين معيشته. ولكنه لم يستنم للضيم واخذ يفكر ويجرب على نور اختباراته في صنعته حتى وفق أخيراً إلى اختراع قالب لحذاء يتمتع منتعله بالراحة التامة مهما كان شكل قدميه ومهما تجشم من مشقة السير أو الوقوف، وسجل اختراعه. وما عتم حتى أقبل أهل القرية على استعمال أحذيته؛ فابتسم له الحظ، إلا أنه بقى يزاول عمله بيديه لعدم وجود رأس مال كاف يستعين به على بناء مصنع كامل العدة إلى أن وقع نظره يوماً على صورة للسيدة إليونور عقيلة الرئيس روزفلت فتأكد من ملامح وجهها أن حذاءها يؤلم رجليها، فقصد العاصمة. وهناك بدأ من جهة يتسقط المعلومات اللازمة لتهيئة الحذاء الذي سيفتح له باب الشهرة والثروة، ومن جهة أخرى يراجع ذوي الشان للحصول على مقابلة السيدة الأولى حتى بلغ القصد بعد انتظار دام تسعة أشهر. وما مثل لديها وعرض الحذاء المبتكر حتى انتعلته وسارت تتخطر في القاعة جذلة راضية وهي تردد عبارات الثناء؛ ثم أوصته بصنع أزواج عديدة فكان هذا الطلب فاتحة شهرة الرجل وباب ثروته)
ليبتسم من يشاء لهذه القصة من الشبيبة المثقفة الحالمة بتربع دسوت الوزارات والتهافت على باطل الأمجاد وكاذبات الاماني، المحتقرة لكل عمل لا تدور به عناصر التحكم بالناس والترفع عن كل حرفة، فإن من هذه الشبيبة فئة علمتها عثرات الآمال أن تعتمد على نفسها وتنطلق في ميادين الأعمال الحرة من أي نوع كانت، وهذه الفئة تباهي بالإكساف الوضيع الذي عرف أن يجعل السيدة الأولى في أعظم الأمم ثروة وعدداً وجهداً تشهد بفضله وتثني عليه لأنه ابتكر طريقة تريح الناس من عناء تحملوه عبثاً حتى كشف سره وهو لا يحمل شهادة الفلسفة بل لعله أميٌّ لا يعرف من العلم شيئاً
ليس من عمل حقير في العالم إلا العمل الذي تديره يدٌ متواكلة بتفكير حقير. . .
إن من حرفة الكناسة مجالاً للعبقرية، كما أن في مهمة إدارة الأمم مجالاً للحماقة والغرور. ولو أن كل فرد في هذه الأمة اتجه إلى إتقان عمله باذلاً فيه كل جهده لبدت طلائع الرقي بين الطبقات الوضيعة قبل أن تبدو بين الطبقات العليا.
إن حياة الأمم تبدأ بانتباهه الفرد ونشوء فكرة التضامن بين جماعاته الصغرى. فلو عملت الفئة الناهضة المثقفة في هذه البلاد على إثارة هاتين القوتين في المزارع والقرى الصغيرة لقضت على التواكل والخمول ولرأينا بدلاً من الشعب الذي يتوقع من حكومته كل شيء، شعباً واثقاً من نفسه يقيم كل شيء على سواعده
أما يكفي الأمة لتحيا أن يكون حاكموها منها ولها وإن يعدل القضاء بين أفرادها؟
- 2 -
كلمة قد تجيء ثقيلة على بعض الاسماع، وقد يتلقاها من توجه إليه بالصمت والتبرم ولكنها كلمةٌ حقَّ الجهر بها علينا لأننا اعتقدناها حقاً
لقد كثر عدد الكتاب والشعراء الذين يملكون البيان الصحيح ولكن قل بينهم من ينطق بهذا البيان بلهجة العربية الأصلية محررة من كل لكنة دخيلة أو رطانة أجنبية
وان نحن أردنا تصنيف اللهجات التي تصدها فصاحة اللغة وتتململ منها مقاطعها وحروفها وحركاتها وسكناتها أمكننا أن نردها إلى أصلين: اللهجات التي أدخلتها العامية على الفصحى، فمنها ما حولت الجيم إلى جيم إفرنجية تتنافر وسائر الحروف الحلقية، والألف إلى ألف فارسية تخرج مفخمة من الخياشم كان عليها (أكسانسير كونفلكس) مزدوجة، ومنها
ما حسبه بعض المتحذلقين نهاية الإبداع بالاحتفاظ بالحركات النحوية في أواخر الكلمات وبخاصة عند الوقف فتأتي الحركة نافرة كأنها الشجي في حلق المتكلم أو كالقرار الموسيقي الإفرنجي المقطوع على بقية كذَنبْ كلب الراعي
أما الأصل الثاني فرطانة جميع لغات الدنيا نازلة منزلة الضيف غير المحتشم على مخارج حروفنا وموسيقى مقاطعنا
إن الفرنسي عندما يتكلم بلغة أجنبية لا يكاد يتلفظ بجملة واحدة حتى تسمع لغة أمه نافرة بغنتها من فمه مشوِّهة اللغة الأجنبية، وهكذا الإنجليزي والألماني والإيطالي الخ. .
أما نحن أصلح الله عيب التقليد فينا، فإننا نتكلم لغات العالم محتفظين لكل منها بفصاحتها، وبيننا من يبزُّ الإنكليز والفرنسيين بنقاء لهجته، غير أن الكثيرين ممن تلقوا العلم في المدارس الأجنبية أو تسَّنى لهم أن يمضوا ولو مدة صيف واحد في أوربا تُشلُّ عضلات أحناكهم أو تتشنج أعصابها فيأتون السامعين بعجائب الفصاحة وغرائبها حتى ليصعب عليك لأول ما يطلق الخطيب أو الشاعر صوته في الراديو أو على المنبر أن تتميز اللغة العربية فيما يقول، ولكم من عربي ابن عربي بيننا نحسبه أحد الآباء القادمين من فرنسا أو أحد المرسلين من إنجلترا. . .
دخلت امرأة أجنبية إلى مخزن لتشتري قماشاً فطلبت من المستخدم أن يريها بضاعة شرحت أوصافها على قدر ما تسمح لها معرفتها بالعربية فأوردت ضمير المخاطب بدل ضمير الغائب وقلبت المذكر مؤنثاً والمؤنث مذكراً، واستبدلت بالفاء والعين والقاف حروفاً من لغتها فإذا بالمستخدم العربي يتقدم مدلياً ببيان طويل عما لديه من الأصناف باللغة التي خوطب بها دون ارتكاب خطأ واحد فوقفت السيدة تتفرسه قائلة:
- آجيب هو انتي من مملكت بتاع أنا.
وإذ أجاب المستخدم نفياً أطلقت لسانها بالسباب والشتم وخرجت من المخزن معتقدة أن حضرته يهزأ بها ويقلدها ليحتقرها.
مسكين هذا المستخدم، أنه ساير الأجنبية تملقاً بقصد تصريف بضاعته، فأية بضاعة يريد تصريفها بعض المقلدين بيننا حتى من رجال الأدب، وأي معنى لهذه المسايرة السخيفة التي تضحك الأجانب أنفسهم.
بقيت كلمة لن أدعها عالقة بقلمي، وإن كنت أعلم أنها ستغضب كل من سطت العادة على ذوقه سواء أكان سليماً أم غير سليم.
من أية لغة اقتبس حرف (أ) في كلمة (أب)؟ وليس في لغات العالم ما يشبه هذا الصوت الذي تحسبه قرعة دفٍ فلا يمكن كتابته إلا إذا خلقت ألفاً جديدة تتركب من سائل القاف ومسحوق الضاد وشيء من صيحة الاستنفار ثم أتيت بالباء مشددة بأربع شدات، وقد لا نصل بهذا الإملاء إلى تمثيل خشونة هذه الكلمة وثقلها مع أنها من ألطف ألفاظ العربية ومن أروعها تمثيلاً لعطفة الطفل على والده.
وأخيراً أتمنى لو عمل هؤلاء المصابون بداء الرطانة والحذلقة على الاستشفاء بإصغائهم إلى فصحاء هذا الجيل كالأستاذ الأكبر المراغي والأستاذ أمين الخولي مثلاً في النثر، وكالأستاذ الجارم والأستاذ أحمد رامي في الشعر، فإن تصحيح اللغة على الألسن ليس بأقل أهمية من تصحيحها في الجرائد والكتب
(الإسكندرية)
فليكس فارس
أعلام الأدب
هجرة يوريبيدز
للأستاذ دريني خشبة
ساءت حالة أثينا والاثينيين بعد موت بركليس (429 ق. م)، وأخذت المصائب تتري عليها في الداخل والخارج. . . في الداخل على أيدي تلك الطغمة الشقية من زعماء الشعب وقادته الذين نبتوا فجأة فورثوا الزعامة كما ورثها ألسبيادس النزق الطياش عن بركليس العظيم، أو تملقوا الجماهير الغافلة التي لا إرادة لها. فأسلست لهم قيادها فأوردوها المهالك بعد ما ضللوا بها تضليلاً كبيراً متخذين من فساد الديمقراطية بعد موت بركليس سلاحاً يشهرونه في وجوه العقلاء والمفكرين.
أما في الخارج فقد تتابعت الهزائم على جيوش أثينا، وأحرق الإسبرطيون حقول أتيكا وقراها ودسا كرها كما صنع الفرس من قبل، ثم حطموا قوة أثينا البحرية التي كانت تلقى الرعب في قلوب الدويلات الهيلانية.
كان يوريبيدز يرى ما حل ببلده الأثير المحبوب وهو جالس كالقديس في كهفه الجميل الفريد في صخرة سلاميس فيأخذه الوجد، ويخزن أبلغ الحزن على ما آلت إليه الحال في أثينا من انحطاط مستوى الشعب الخلقي، وتضليل الزعماء بالناس، واقتتالهم على جاه الرياسة الزائف في حين قد أصبحت حرمات الوطن حلاً لكل والغ، ففي كل يوم غزو، وفي كل يوم قهر لعزة الوطن، والإسبرطيون في كل فج يذلون العزة القومية، وينشرون الفقر، والأقوات منقوصة في أثينا، والأمراض تفتك بالاهلين، والاهلون لاهون عن كل ذلك بالجدل السياسي العقيم، وبإلقاء التهم جزافاً على رأس كل وطني مخلص. فيوريبيدز كان يدعو للسلم لأنه كان يتمنى الهزيمة لبني وطنه. . . فليُنْبَذ يوريبيدز إذن. . . وليذكر ماضيه الزاخر بعداوته للمرأة وإلحاده بالآلهة، واستهتاره بتقاليد السلف الصالح، والفت بدعوته للسلم في أعضاء الجند. . . ثم هو يسخر بالديمقراطية فهو من شيعة الاستبداد. . . ثم هو تلميذ السوفسطائيين الملاحدة وصديقهم، وأحد المبشرين بآرائهم. . . فليؤخذ أخذاً شديداً لا هوادة فيه ولا مرحمة. . ولتشرك زوجته في خلق المتاعب المنزلية له فتصبح حياته جحيماً في المنزل، وجحيماً في المجتمع، وجحيماً في أثينا كلها. . . ولماذا يبالي
الشعب الضال، والزعماء الأوشاب من طعن يوريبيدز في شرفه؟! أليس قد اشتهر أن زوجته الأولى قد خانته؟ فلماذا يتورعون من إرسال التهمة نفسها عن زوجته الثانية! ثم لماذا لا يدسون إليه من يحدثه بذلك! أليست هي فضيحة والسلام؟ أليس المقصود هو وخز هذه الروح العالية الكريمة المتأبية؟ فماذا ينفع في وخزها إلا صغار هذه الشائعات؟ ألا لا أفلح شعب لا يحرص زعماؤه على الأخلاق، ولا أفلحت أمة يبلغ لها الهوان أن تعبد أمثال أولئك الزعماء!
كان يوريبيدز معتزلاً جميع الناس في كهفه المنفرد، وهذه الضائقة الأخلاقية تفتك بمواطنيه، وكانت أنباء الأزمة تبلغه فيبتسم ساخراً، ثم يعبس عبوسة عميقة مريرة ظهرت آثارها في درامته التي كان ينظمها في ذلك الحين (أورست 408 ق. م) والتي حلل فيها أخلاق رجل ملتاث أو به مس لأنه قتل أمه، وكيف أعدي هذا الرجل جميع من حوله بجنونه وخصوصاً أخته ألكترا وصديقه بَيْليدز، وكيف انتهى أعوانه إلى حرق القصر الملكي في آرجوس ليكون أول مشهد من نوعه يعرفه المسرح اليوناني. . .
وبالرغم من روعة أورست وأنها من أقوى ما نظم الشاعر فقد سقطت لأنها من نظم عدو الشعب، الرجل الغني البخيل الذي طالما بخل بأمواله على بلاده في أشد أوقات محنتها. . . هذه تهمة جديدة حاكها الرعاع حول يوريبيدز، لأنه كان يقتني مكتبة من أحفل مكتبات أثينا بالكتب بل من أحفل المكتبات الشخصية في العالم في ذلك العصر الذي كانت تبلغ فيه قيمة الكتاب الواحد مالا قبل للفقير به
إذن فليهاجر يوريبيدز!
ولْيُلب دعوة أهل مجنيزياله، ليحل عليهم ضيفاً حيناً من الزمان، فإن بينه وبينهم صداقةً قديمة ومحبة كانت تجعل لهم منه في أثينا سفيراً يسهر على صوالحهم وييسر حوائجهم. . . وليتلبث عندهم أياماً ثم فَلْيُلَبّ دعوة ملك مقدونيا العظيم الملك آرخيلوس، الذي كان يجمع حوله بلاطاً زاهياً زاهراً من أعظم رجال الفكر والفن في العالم، والذي كان يعتقد أن انتهاء أثينا على هذا النحو المزري لا يعني انتهاء المجد اليوناني، بل يعني هجرة هذا المجد، وما دام أعظم رجال الفكر والفن اليونانيين قد هاجروا، واختاروا بلاط مقدونيا مُهاجراً لهم، فسترث مقدونيا هذا المجد الأثيني الباهر العظيم، وستنهض مقدونيا في عالمي الفكر
والحرب. وسيكون من ملوكها الملك فيليب وابنه الإسكندر ومن أضيافها العظماء الفيلسوف آرسطو المعلم الأول!
كان آرخيلوس ملك مقدونيا وواضع اللبنة الأولى في بناء نهضتها يطمع من قديم في اجتذاب الشاعر يوريبيدز إلى بلاطه لشدة إعجابه به، وكان يعرف ما يلقى يوريبيدز من قومه من الهون وسوء التقدير، فدعاه مرة وأطمعه في حياة هادئة هانئة لا يعكر عليه فيها صفاءه معكر، لكن يوريبيدز شكر واعتذر، فلما هاجر إلى مجنيزيا وعرف الملك ذلك جدد دعوته وشدّد، فلبى يوريبيدز وأجاب، وشد الرحال إلى البلاط المقدوني المتلألئ حيث وجد من رجال الفن نريكسيز أعظم مصوّري عصره، وحيث وجد الشاعر التراجيدي العظيم أجاثون، والموسيقي الخالد تيموتيوس الذي كان يوريبيدز قد أنقذه من الانتحار كما مر بك. . . ومما يؤثر في قليل من الشك أنه لقي ثمة المؤرخ العظيم تيوسيدز
أقام يوريبيدز في هذا البلاط الزاهر فكافأه الحظ السعيد لأول مرة في حياته مكافأة معنوية عالية لم يكافئ بها الزمان أحداً من الأدباء قط. . . لقد وردت الأنباء من سيرا كوزه حاضرة صقلية بأن أسرى الحملة اليونانية التي أرسلها ألسبيادس لغزو الجزيرة والذين بلغ عددهم سبعة آلاف أسير قد اشترط الصقليون لإطلاق سراحهم أن يلقوا مقطوعات من شعر يوريبيدز، فمن استطاع منهم ترتيل شيء من هذا الشعر واو كان بيتاً واحداً فقد أطلق سراحه وصار حراً، ومن لم يستطع فقد حل للصقليين استرقاته! أي مكافأة هذه يجود بها الزمان على شاعر؟! وأية منزلة بلغها يوريبيدز في الأوساط المثقفة المستنيرة في الزمن الذي كان يعيش فيه! ولكن ماذا كان أثر هذا الجميل في أثينا والأثينيين؟! لقد كان أثراً بالغاً من غير شك، لقد شعروا بالخزي لأن أمماً أخرى غير أثينا قد أخذت تستيقظ وتتنبه، ثم تسمو نحو المجد الأدبي حتى لقد عرفت من أدب يوريبيدز الأثيني ما لم يعرفه الأثينيون!
لم يسكن يوريبيدز إلى الدعة في مقدونيا، ولم يزهه إعجاب البلاط به فيستنيم إلى نشوة الخيلاء، بل لعل الفضل الأكبر يرجع إلى هذه النشوة في نظمه أعظم دراماته جميعاً (الباخوسية) أو سكارى باخوس
وتشبه الباخوسية من حيث الفكرة العميقة وجمال الموضوع برومثيوث المصفّد لأسخيلوس، وقد نسى فيها يوريبيدز أدب الواقع قليلاً. ثم تغلغل في صميم الأساطير القديمة وغرق في
الأدب التقليدي الذي كان هو زعيم الثورة عليه. . . ولا ندري لم لم يعِر المؤرخون هذه الرجعة من يوريبيدز اهتماماً، فلم يعللوها ولم يعرضوا لبحث أسبابها. . . على أن مما لا ريب فيه أن أكبر أسباب هذا التحول هو البلاط المقدوني نفسه والبيئة المقدونية التي كان الشاعر يعيش فيها. . . فأحلام رجال البلاط بالرغم من الأفراد الممتازين الذين جذبهم الملك إليه كانت أحلاماً بدائية مما يزدهيها أدب الملاحم والأساطير ولا يروقها الأدب التحليلي الذي ابتكره يوريبيدز ونظم فيه أروع آثاره. . . أما البيئة فقد ترددت أصداؤها في الباخوسية بهذه القطع الخالدة التي صور فيه الشاعر كثيراً من مناظر الطبيعة في مقدونيا تصويراً حياً رائعاً لا يكاد يدانيه شيء في جميع ما نظم
والعجب أن تكون الباخوسية مع ذاك أروع درامات يوريبيدز بالرغم من أنها نكسة في مذهبه، وربما كان العنصر الإلهي الذي امتازت به هو الذي جعل لها هذه المرتبة بين دراماته. . وهو العنصر نفسه الذي ارتفع بروائع الأدب الأخرى وأكسبها الخلود مثل كوميدية دانتي وفردوس ملتون ورسالة الغفران لأبي العلاء وفاوست لجيته
والباخوسية تفيض بروح لاذعة من السخرية، وفيها مناظر تضحيكية مرة تقف بالإنسان ليتساءل: ترى هل بين هذه المناظر وما جاء مثلها في درامة إفجنيا في أو ليس التي لم يكملها يوريبيدز، صلة؟! هل من الحق أن المناظر التضحيكية التي تفيض بها إفجنيا ليست من صنع يوريبيدز؟ وهل الفن الذي نشهده في إفجنيا هذه هو فن غريب عن يوريبيدز لأنه لم يرد في دراماته أيضاً؟ فلم إذن حشد يوريبيدز هذه المناظر التضحيكية في الباخوسية التي نظمها في مقدونيا كما نظم أختها إفجنيا هناك؟!
وهذه أسئلة ترغم الإنسان على إعادة النظر في كل ما قيل عن فن يوريبيدز!! لقد رأينا كيف تأثر سوفوكليس الشيخ بيوريبيدز الفتى في أخريات حياته، أفلا يكون يوريبيدز هو الآخر قد تأثر بعدوه أرستوفان؟
يقدم إله الخمر باخوس - أوديونيزوس - متنكراً في رهط من نسائه السكارى المتوحشات إلى طيبة فيذوده ملكها بنثيوس عن القصر الملكي، ويغلو هو ونساء الحاشية الملكية في انتهاره والإزراء به، والتهكم عليه. ثم يأمر الملك بتكبيله بالقيود والأصفاد ثم بإلقائه في غيابة السجن ذليلاً محسوراً. . . وهنا تتجلى المقدرة الإلهية العجيبة، فإن ديونيزوس الذي
يصبر لهذا الهوان من أحد رافضي عبادته يرسل طائفاً من الجنون يجتاح سيدات القصر الملكي كله بما فيهن أجاف أم الملك فينطلقن مهرولات مولولات لينخرطن في صفوف ديونيزوس، وليعكفن على عبادته. وينصح أشياخ الشعب الطيبي للملك أن يحد من غلوائه ضد الإله وإن يشرب قلبه محبته عسى أن يغفر له، لكن الملك لا يزداد إلا شموساً، فلا ييأس ناصحوه من النصح له حتى يقبل آخر الأمر أن يستخفي في زي امرأة ثم ينطلق إلى جبل كيثارون حيث يختبئ في بعض الأدغال القريبة ليشهد كيف يقبل نساؤه الملكيات على عبادة الإله وليقف بنفسه على مدى خشوعهن له. . . وما يلبث الملك المستخفي أن يفتضح أمره فيضبطه نساؤه في مخبئه، وتهجم عليه أمه وهي فيما هي فيه من طائف الجنون المقدس فتقتله ثم تمزقه إربْا، وتنثر في الهواء أشلاءه، وتنطلق برأسه نشوانة بخمر النصر وهي تحسب أنها قد قتلت أسداً، وإن الرأس الذي تحمله هو رأس ذلك الأسد!
فإذا انتهت إلى القصر، وراحت تفتخر بفعلتها التي فعلت، لقيها أبوها قدموس الذي آب هو أيضاً من جبل كيثارون حاملاً أشلاء حفيده، فيقول لها وتقول له، وقد فاءت قليلاً من طائف الجنون المقدس:
أجاف - ماذا؟ ما الذي تنكرون؟ فيم أسفكم أيها الأهل؟
قدموس - دوري بعينيك قبل كل شيء في الهواء الذي حولك!
أجاف - أدور بعيني؟ ولماذا أفعل يا أبتاه؟
قدموس - ألم يتبدل الأمر غير الأمر؟ ألم يحدث أي تغير!
أجاف - لله ما أجمل وما أبهى! أبداً ما رأيت مثل هذا أبداً؟!
قدموس - أما تزال خيلاؤك تهيمن على روحك!
أجاف - لست أدري ماذا تقصد! إني أفيق قليلاً. . . أن عقلي المضطرب يصحو. . .
قدموس - ألا تستطيعين أن تنتبهي وتجيبي على ما أسألك؟
أجاف - لقد نسيتُ يا أبتاه كل ما قلت!
قدموس - أتذكرين إلى من زففناك عروساً يا بُنيّة؟
أجاف - إلى إخيون الذي يدعونه ابن التنين!
قدموس - وتذكرين ابنه الذي حملت في أحشائك؟
أجاف - بنثيوس، الوشيجة المقدسة التي تربط قلبينا!
قدموس - إذن رأس من هذا الذي تحملين في كلتا يديك؟
أجاف - رأس أسد! هكذا قال رفاق الصيد!
قدموس - انظري إليه إذن فلن يكلفك النظر إليه عناء!
أجاف - ماذا أرى؟ ما هذا الذي أحمل في يدي؟
قدموس - انظري إليه مرة ثانية. . انك توشكين أن تعرفي!
أجاف - إني أرى الفزع الأكبر الذي ما رأيت مثله أبداً!
قدموس - هل هذا يشبه الأسد؟
أجاف - كلا! وا تعساه! أنه رأس ولدي بنثيوس!
قدموس - ومع ذلك فلم تذرف عليه عيناك عبرة واحدة قبل الآن!
أجاف - من قتله؟ وكيف انتقل رأسه إلى يدي؟!
قدموس - أيتها الحقيقة المرة! لقد أتيت في غير الأوان!
أجاف - تكلم! أن قلبي يخفق حتى ليكاد يثب من بين أضالعي!
قدموس - أنت يا ابنتي التي ذبحته. . . أنت وأخواتك!
أجاف - وأين! هنا؟ أم في أي مكان؟!
قدموس - هناك. . . حيث انقضت عليه كلاب أكتيون فمزقته إربْا!
أجاف - ولم ذهب إلى كيثارون ولدي التَّعس؟
قدموس - ذهب ليستهزئ بالإله! وليسخر بالسَّكارى من عابداته!
أجاف - ولكن كيف وفيم ذهابنا نحن إلى هناك؟
قدموس - لقد أصابك طائف من الجنون، وقد جُنّت المدينة كلها معك!
أجاف - وا أسفاه! لقد أهلكنا ديونيزوس؟ الآن عرفت ذلك!!
قدموس - هذا جزاء ما سخرتم به. . . لقد نسيتم أنه إله!!
أجاف - وأين جسمان ابني يا أبتاه!!
قدموس - هاهو ذاك. . . لقد لقيت العناء في جمعه!
أجاف - وهل كل أشلائه سليمة. . . و. . . هل أصابه ما كان قد أصابني؟
ثم تبكي ألام ولدها ويبكي قدموس حفيده، ويشتد في بكائه إياه لأنه سيظل بلا عقب ولا وارث لملكه ولن تكون له ذرية من الرجال. . . ثم يبدو الإله ديونيزوس فجأة فيصمت الجميع، ويأخذ رب الخمر في إصدار أحكامه وإبرام إرادته فينذر قدموس أنه سيمسخه فيكون تنيناً، وستكون زوجته هولة شائهة الوجه. أما أجاف فستكون هولة أيضاً وستنفى من طيبة إلى أقصى الأرض. . . فإذا تضرعت إليه أن يترفق بها ذكرها بما كان من استهزائها به وتهكمها عليه. . . ثم تودع أباها ووطنها وداعاً مؤثراً وتنطلق من فورها إلى منفاها السحيق
أما الإله فأنه يسمو صَعَداً في الهواء ليلحق بدولة الأولمب!!
فهل رأيت سخرية كهذه السخرية؟! لقد حشد يوريبيدز طائفة كبيرة من الطعن في أهل البربر في الباخوسية، كما لجأ كعادته إلى الإشادة بذكر الهيلانيين. . . وقد أقام في مقدونيا عاماً ونصف عام فيهما صفى الملك وحبيبه وصِدِّيقه. . . ثم مات يوريبيدز متأثراً بجراحه التي يزعمون أن كلاب الملك وكلاب المقدونيين أحدثتها به حينما انطلقت عليه تعقره وتعضه وتمزق جسمه؟!. . . فهل هي رواية صادقة؟! وهل بين هذه الرواية وبين ما طعن به على البربر علاقة ما؟ وهل المقدونيون من البربر؟ أم أن استخلاص الملك له وإيثاره إياه أثار في قلوب رجال الحاشية حسدهم له وموجد تهم عليه فأغروا كلابهم به؟!
لقد زعموا أن الملك وجد على يوريبيدز وجداً شديداً. . . وأنه رفض إرسال جثمانه إلى أثينا ليدفن هناك وقد ألح الأثينيون في طلبه وتوسلوا إلى ملك مقدونيا بشتى الوسائل، لكن الملك آثر أن يدفن صديقه بالقرب منه في (سنة 406).
دريني خشبة
رجعة إلى البحتري
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أبدى لنا بعض الأدباء الأفاضل شكاً في وصفنا للبحتري من حيث غلبة الصناعة على العاطفة في شعره واختلاط الحقيقة بالخيال في تلك الصنعة مما جعل بعض القراء يغترون بها ويحسبونها عاطفة. ولم نكن نريد انتقاص البحتري إذ عددناه ممثلاً في صناعته، يمثل العواطف المختلفة تمثيلاً متقناً؛ ولم نُرَجِّح صحة رواية كتاب الأغاني عن طريقة إنشاده وعن طلبه الاستحسان من الحاضرين وزجرهم إذا لم يُظْهِروا الإعجاب، إلا لأن ذلك يفسر تناقض ما يمثل من العواطف والأحاسيس في شعره، كما سنوضح، ويتفق وطريقة الصناعة اللفظية التي ينتشي فيها الصانع بما يقول، وقد أغفلنا الإشارة إلى ما يروى عن بخله إذ لا دخل لذلك بفنه، وكذلك أغفلنا ما روي عن قلة اكتراثه بثيابه ونظافته. . . الخ.
والحقيقة أننا نعجب بصناعة البحتري إعجاباً كبيراً، لكن الإعجاب لا يمنع من الوصف والدراسة النفسية والسيكولوجية. وربما أخذ علينا بعض حضرات الأفاضل قولنا أن رثاءه للمتوكل كان صنعة وإننا نشك في قوله:(أدافع عنه باليدين. . . الخ). وقد رفضنا ما قرانا في بعض الكتب من رواية لعلها رواية عدو أو رواية مازح أراد أن يداعب قوله: (أدافع عنه باليدين الخ). فقد قيل أنه اختبأ أثناء مقتل المتوكل. ويكفي أن نقول أن الفتح ابن خاقان هو الذي حاول أن يدافع عن المتوكل بيديه وبجسمه فقتله الفاتكون وهو من زعماء الترك مثلهم، فما كانوا يتعففون إذا عن قتل البحتري إذا صح أنه دافع عنه باليدين أن لم يكن لغضب منه فلكي يصلوا إلى المتوكل. ولم نسأ أن نذكر أنه مدح المنتصر بعد أن هجاه في رثاء المتوكل، ومدح زعماء الفاتكين وعرَّض بهجاء المتوكل في مدحه للمنتصر كما سنوضح، ومدح المستعين الذي خلف المنتصر والذي كان منافساً للمعتز بن المتوكل الذي مدحه البحتري في رثائه للمتوكل ورجاه للخلافة، ومدح ابن المستعين ورجاه للملك أيضاً. كل ذلك والمعتز أسير حبيس، ثم بعد أن ثار الجند الترك على المستعين الخليفة واضطروه أن يخلع نفسه وفتكوا به هجاه البحتري بقوله:
وما كانت ثياب الملك تخشى
…
جريرة بائلٍ فيهنَّ. . . ري
وكان الغدر والخيانة والانتقاص أموراً شائعة في ذلك العهد. وفي رثاء المتوكل يهجو
المنتصر فيقول: (إذا الأخرق العجلان خيفت بوادره) ويقول:
ولا وأل (المشكوك فيه) ولا نجا
…
من السيف ناضي السيف غدراً وشاهِرُهْ
وهذا يشمل المتهم بالتحريض غدراً وهو المنتصر ويشمل الذين شهروا السيف وقتلوا المتوكل وهم الذين مدحهم البحتري بعد ذلك. ورب قائل يقول: أن الشاعر لا دخل له بالسياسة فهو يمدح الحكومة القائمة. ولكن البحتري لم يكتف بمدح كل حكومة كانت قائمة بل كان يهجو الحكومة التي قُضِيَ عليها. وقد رأينا هجاه للمنتصر في رثائه للمتوكل فانظر كيف يمدحه ويقول:
سروا موجِفِين لسعي الصفا
…
ورمي الجمار ومسح الحجر
حججنا البنية شكراً لِمَا
…
حبانا به الله في المنتصر
أي أنه حج كي يشكر الله على أن المنتصر تولى الخلافة وهو الذي يصفه في المرثية بالأخرق العجلان ويرجو أن لا ينجو من أن يُقْتَل بالسيف لأنه متهم بالتحريض على قتل أبيه، ولم يكتف بالحج شكراً بل وصف المنتصر بالحلم بعد وصفه بالخرق فقال:
من الحِلْمِ عند انتقاض الحلو
…
م والحزم عند انتقاض المرر
تَطَوَّل بالعدل لما قَضَى
…
وأجمل في العفو لما قدر
ودام على خُلُقٍ واحد
…
عظيم الغناء جليل الخطر
ويقول:
ولكنْ مُصَفىًّ كماء الغما
…
م طابت أوائله والأخَر
تَلافَى البرية من فتنة
…
أَظَلَّهُمُ ليلها المعتكر
رددت المظالم واسترجعت
…
يداك الحقوق لمن قد قُهِر
وآل أبي طالب بعد ما
…
أذيع بسربهم فابْذَعَرْ
وصلتَ شوابك أرحامهم
…
وقد أوشك الحبل أن ينبتر
وهذا المدح طويل جيد، ولا يقل صناعة عن مدحه للمتوكل بل أن فيه تعريضاً بحكومة المتوكل وهجاءً له، إذ أن المتوكل هو الخليفة الذي غالى في اضطهاد آل أبي طالب. وقوله (رددت المظالم) هجاء صريح للحكومة السابقة، وقال:
بقيت إمام الهدى للهدى
…
تُجَدِّدُ من نهجه ما دثر
فإذا كان الهدى قد دثر وجدده المنتصر فمعنى ذلك أن المتوكل هو الذي كان الهدى في عهده مندثراً.
وفي مدح العباس بن المستعين يقول:
تَوَلًّتْهُ القلوب وبايعته
…
بإخلاص النصيحة والوداد
هو الملك الذي جُمِعَتْ عليه
…
على قدر محبات العباد
بعد أن كان لا يرضى بعد المتوكل خليفة إلا بالمعتز ابنه، وقد قال في ذلك (وإني لأرجو أن تُرَدَّ أموركم الخ)
وفي مدح المستعين يقول:
تِلْو رسول الله في هَدْيِهِ
…
وابن النجوم الزهر من آله
وهذا ليس مدحاً شكلياً لكل حكومة قائمة بل هو يُمَثِّل عاطفة الولاء الشديد والاقتناع بالصلاح وإلا ما قال (تلو رسول الله)
وبعد أن جعل المستعين مثل رسول الله عاد بعد تعذيب الجنود له وقتله فقال: (وما كانت ثياب الملك تخشى الخ) وقال أيضاً فيمن شبهه قبل ذلك برسول الله:
ثقيل على جنب الثريد مراقبٌ
…
لشخص الخوان يبتدى فيواثبه
إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل
…
أضاَء شهاب الملك أو كلَّ ثاقبه
تخطَّي إلى الأمر الذي ليس أهله
…
فطوراً ينازيه وطوراً يشاغبه
وبعد قتل المعتز مدح أيضاً الحزب المناوئ له وخليفة ذلك الحزب وكان في مدح كل خليفة يذكر مدحاً يصح أن يحمل على محمل التعريض بالخليفة السابق الذي كان قد رفعه البحتري إلى السماء كما فعل مع المستعين
وهذه الخطة لم تكن خطته نحو الخلفاء والوزراء فَحَسْب، بل أنه أيضاً صنع النسيب والتشبيب في علوة الحلبية حتى ظن بعض النقاد أنه من أصدق النسيب وهو ليس كذلك، فهو في القصيدة الواحدة يصفها بالصيانة والتبذل فقال:
بيضاء رود الشباب قد غُمِستْ
…
في خجل دائمٍ يعصفرها
لا تبعث العُد تستعين به
…
ولا تبيت الأوتار تخفرها
وبعد هذا الوصف بالتصون يقول في القصيدة نفسها:
وليلة الشك وهو ثالثنا
…
كانت هناتٍ والله (يغفرها)
وعلى فرض صحة حدوث ما يستوجب (الغفران) أيليق ذكر ذلك في النسيب الذي يصفها بالتَّصوُّن؟ وأدهى من ذلك أنه عاد وهجاها أفحش هجاء بقول لا يتفق وما وصفها به من التصون وهو قول لا يمكن الاستشهاد به (صفحة 109 من طبعة الجوائب) وفيه أنكر عليها التصون والعفة والجمال والأنوثة. وقصته مع نسيم غلامه معروفة إذ كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يعود فيهدد الذي اشتراه حتى يرده إليه هدية كي يكسب المال. ونسيبه فيه نسيب ظاهره الرقة وباطنه فساد الذوق الذي يكون عندما تنعدم العاطفة وتُدَّعى تمثيلاً قال فيه:
فقل لنسيم الورد عنِّي فإنني
…
أعاديك إجلالاً لوجه (نسيم)
ولو كانت عنده عاطفة لقال:
فقل لنسيم الورد أَقْبلْ فإنني
…
أحبك مِنْ حبيِ لوجه نسيم
أو مِنْ حبي لطيب نسيم، أو ما شابه ذلك إذ لا يُعقَل أنه يكره الرائحة الزكية لأن نسيم الورد اسمه مثل اسم نسيم. ما بقى إلا أن يتغزل في الرائحة الكريهة إجلالاً لوجه نسيم كما يقول. وقال أيضاً فيه:
لم تجِدْ مثل ما وجدتُ وما إن
…
صفْت أن أنت لم تجد مثل وجدي
كيف يكون من الذوق والصدق أن يطلب من ذلك المملوك الصغير أن يعشقه ويحس بوجد مثل وجده به والبحتري شيخ كبير والمملوك غلام صغير؟ أظن أن هذه الشواهد كلها تزكي وصفنا للبحتري وكنا لا نريد الإطالة - وهو وصف على أي حال لا يطعن في علو صنعته.
فقد وصفنا في مقالة (صيانة العقيدة من احتيال النفوس) أن النفس البشرية تستطيع أن تخفى عن نفسها قبح رذائلها وأن تزكيها بأن تلبسها لباس الفضيلة أو الدين
ومن نظراته الصادقة أيضاً قوله:
وما القرب في بعض المواطن للذي
…
يرى الحزم إلا أن يشطّ ويَبْعُدَا
فقد يكون في البعد من الإبقاء على المودة ما لا يكون في القرب. وهذه النظرات الصادقة ليست قليلة في شعره بالرغم من فساد نظرته أحياناً. وأختم قولي عن البحتري بأن أعيد
بيتاً له أعجب به وهو قوله:
ما أضعف الإنسان لولا همة
…
في نُبْلهِ أو قوة في لبه
إذ يعجبني منه اختصاصه النبل بالهمة واللب بالقوة وجعل قوة الإنسان في همة نبله كما جعلها في قوة لبه
والغريب في أمر البحتري أنه قد يخطئ في المعنى إذا كان نسيباً ويصيب فيه إذا كان مدحاً كان الرُّغْبَ في قلبه أشد من الحب. انظر كيف فسد ذوقه في قوله في النسيب وقوله في مملوكه نسيم:
فقل (لنسيم الوَرْدِ) عنى فإنني
…
أُعادِيك إجلالاً لوجه نسيم
ثم إلى قوله في المدح:
إني لأضمر (للربيع) محبة
…
إذ كنتُ أَعْتَدُّ الربيع أخاكا
وأصابته في البيت الثاني كانت خليقة أن تجعله يقول في البيت الأول أنه يحب نسيم الورد لمشابهة الورد للنسيم، كما أحب الربيع لمشابهته للممدوح، ولكن له سقطات في وصف الأحاسيس وما تقتضيه من القول شان القائل بالصنعة لا بالعاطفة وأن كان أميراً لها. وأدهى مما ذكرنا أن عظيماً من بني حميد ماتت ابنته فحزن لموتها فنظم البحتري قصيدة يعزيه فيها فقال أن العاقل ينبغي ألا يحزن لموت أنثى أيَّة كانت لأنها قد تجلب العار:
واستذلّ الشيطان آدم في الج
…
نة لَّما أغرى به حَوَّاء
والفتى مّنْ يرى القبورِ لَما طا
…
ف به من بناته الأكفاء
نعم أنه يُعرِّض بمعنى العار ولا يصرح ولكنه تعريض كتصريح، ففي القصيدة يقول: أن أعاظم العرب ما كانوا يئدون بناتهن فقراً (بل حَمِيّةً وإباء) وذكر احتمال العار كي يعزي به أباً حزيناً على فقد ابنته، والمُعزَّى من أعاظم الناس والفتاة التي ماتت من كريمات النساء. فساد في ذوق الصانع حتى مع احتمال حدوث العار لو عاشت إذ يكون من فجاءات الحياة التي لا تتفق وكرم محتد التي يرثيها. هذا هو خطأ ذكاء الصنعة، أما إذا أسلم نفسه لذكاء الطبع والبصيرة النفسية (السيكولوجية) أتى بنظرات صادقة في النفوس والحياة مثل قوله:
إذا أحرجت ذا كرم تخطَّى
…
إليك ببعض أخلاق اللئيم
واختياره كلمة اللئيم للكريم المُحْرَج ليس فيه مبالغة كما يعرف المفكر في أخلاق الناس، كما أنه ليس من المبالغة قوله في البخل أو اللؤم أو ما شابه ذلك:
وتماحكوا في البخل حتى خلته
…
ديناً يدان به الإله ويُعبَدُ
عبد الرحمن شكري
في الأدب العربي الحديث
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عنى الباحثون في الآداب العربية من الإفرنج في العصور الأخيرة باتجاهات الأدب العربي الحديث من سبل التحقيق العلمي ووسائل الدرس الفنية؛ وسرعان ما ظهرت عناية هؤلاء الباحثين في الدراسات والمباحث التي قاموا بنشرها في السنين الأخيرة في مختلف اللغات الأوربية عن الأدب العربي الحديث. وخير هذه الدراسات الفصول القيمة التي يكتبها المستشرق الألماني الكبير (كَارْلْ بُرُوِكلْمان) في (ملحق تاريخ الآداب العربية) وقد صدر منها أخيراً جزان عن الشعر المصري في العصر الحديث. غير أن ساحة الآداب العربية الحديثة (رغم هذه الدراسات) لا تزال غير مطروقة في جميع نواحيها بالبحث، والنواحي التي طرقت منها لم تتعد دائرة رسم الاتجاهات العامة والخطوط الأساسية. لهذا كانت الحاجة ماسة لدراسات مستفيضة عن الأدب العربي الحديث من طرق التحليل العلمي وسبل التحقيق الذي درج عليه الباحثون في تاريخ الآداب ووسائل الدرس الفنية
وتحت تأثير هذه الحاجة ومعرفتنا للغة العربية التي حصلنا عليها لظروف عائلية بين تركيا ومصر اندفعنا إلى دراسة الأدب العربي الحديث في اتجاهاته وأعلامه في دراسات مفصلة، ظهرت آثارها فيما نشرناه منذ عام 1936 في اللغات الألمانية والروسية والتركية والإنجليزية والعربية. وكان أن رغب إليّ بعض الزملاء من أدباء العربية أن انشر دراساتي في اللغة العربية لفائدة الناطقين بها من جهة، ولإمكان استفادة كل الباحثين من المستعربين الإفرنج في آداب العرب من جهة أخرى، مما لا يتحقق فائدته على نفس الوجه في الكتابة في لغة من اللغات الإفرنجية التي قلمنا بها
وتحت تأثير رغبة هؤلاء الزملاء وتشويقهم، لخصت جانباً من دراستي التحليلية التي كتبتها في الألمانية عن (شاعر العراق الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي) ونشرتها بالعربية كما ترجمت بحثي عن الأستاذ الدكتور (طه حسين) ومضيت أضع دراسة عن الأديب الكبير (توفيق الحكيم) صدرت في الشهر الفائت ثم انثنيت أدرس الأديب الشاعر (خليل مطران) وأضع دراسة مفصلة عنه، تكلفت بنشرها متتابعة مجلة (المقتطف) شيخة المجلات العربية. وحدث أن عرضت في الفصل الثالث من دراستي للطريقة التي
استحدثها خليل مطران في نظم الشعر، وتناولت بالكلام العام الأثر الذي تركه مطران بمحاولته التجديدية في جيل من الأدباء الذين نشأوا في عصره وقلت في معرض الكلام ما نصه:
(على أن الأثر - أعني الأثر الذي استحدثه مطران - توضح واستبان في العقد الثاني من قرننا هذا؛ إذ ظهر في مصر شاعران كبيران هما: أبو شادي وشكري. ثم ظهر في أواخر الحرب خليل شيبوب الذي ينفرد من بين كل المتأثرين باتجاهات مطران بأنه لا يزال إلى يومنا هذا أميناً للعناصر التي يقوم عليها مذهب الخليل في نظم شعره. وهو في ذلك عكس زميليه أبي شادي وشكري اللذين استقلا بمذهب لهما في قول الشعر مع الزمن، وأن كان مذهبهما يتقوَّم على أساس من مذهب الخليل، فعبد الرحمن شكري كان ذهابه لإنجلترا سبباً لوقوعه تحت تأثير المذهب الطبيعي الإنجليزي، وكان أن تغلبت عليه نزعة من التشاؤم نتيجة لعوامل تتصل بنفسه. فاستقل بمذهب في الشعر يقوم على أساس التأمل والتفكير الخصب الذي يماشي الشعور العميق الذي يشوبه مسحة من الكآبة. . .)
غير أن هذه السطور رغم ما تنطق من عظيم التقدير لأدب الشاعر الجليل (عبد الرحمن شكري) فإنها لم ترضه. فكتب في المقتطف وفي الرسالة، وعاود الكتابة فيها يناقش مطالعاتنا مقرراً براءة شعره من أثر مطران مبدياً التذمر من نسبتنا نزعة التشاؤم له، محملاً رأينا أنه وقع تحت تأثير المذهب الطبيعي الإنجليزي أكثر ما يحتمل!
وكان بودي أن أصحح الموقف عقب الكلمات الأولى التي كتبها الأديب الفاضل شكري، ولكني لست أملك من وقتي وصحتي ما يملكه هو حتى أبادر إلى التصحيح في حينه، فليعذرني لهذا وهو خير من يتفهم الأعذار.
وقبل كل شيء يستحسن أن أحدد نقطة الخلاف الأساسية. فأنا أقول أن خليل مطران استحدث في الأدب العربي أسلوباً جديداً في النظم يقوم على أساس قول الشعر باعتبار وحدة الشعور واطراد الخواطر وتسلسل المشاعر واتساق المعنى. وأظن أن الشاعر الفاضل عبد الرحمن شكري لا يختلف معي في هذه القضية. ثم إني أقول أن مطران أثر فيمن جاءوا بعده من الشعراء، وأقرر أن هذا التأثير بدا بصورة قوية عقب ظهور ديوانه عام 1908، وهذا التأثير يعترف به على شعره الدكتور أبو شادي والدكتور إبراهيم ناجي
كما يعترف بذلك الشاعر الفاضل خليل شيبوب. وهناك روايات مستفيضة ترددت نحو ثلاثين سنة في المجلات والصحف الأدبية في مصر وسوريا ولبنان والمهجر ناطقة بأثر مطران التوجيهي فيمن أتوا بعده من الشعراء المجددين فضلاً عن أثره في بعض معاصريه من شعراء العربية الأعلام، وهذه الروايات تحمل في تضاعيفها فكرة تأثر شكري بمطران، وهي حين تتكلم عن هذا الأثر لا تتكلم عن تأثير شكري بأخيلة مطران وعبارته، وإنما تتحدث عن تأثره بطريقة مطران في النظم: وحدة في الشعور واطراد في الخواطر وتسلسل في المشاعر واتساق في المعاني تترسل بضبط وتتمشى بإحكام في مختلف أجزاء القصيدة أو المنظومة
وإذاً يكون كل تفسير من شاعرنا الجليل يخرج الكلام عن حقيقته وإنكار للواقع لا نرضاه من أديب مثله.
هذا وأنا بصفتي مستعرباً - ويلاحظ هذا أديبنا المفضال جيداً - مهتم بدراسة الأدب العربي في اتجاهاته وتطوراته، ومناحيه، وفي أعلامه، أتخذ طريقة من البحث منهجية، أمزج فيه التحقيق بالافتراض، والاستقراء بالتخيل، فأتناول بعض الأشياء تناولاً - أو قل التحقيق في كل نوع غير مستطاع. لهذا اقف في بعض النقط من دراساتي عند مجمل الشيء دون أن انزل إلى تفاصيله تاركاً التفصيل والتحقيق لمواقف أخرى. ومن المعروف في الأساليب المنهجية أن طريقة الحدس في الدرس ترجع إلى مراجعة سريعة للمبادئ والانتقال دفعة واحدة منها إلى النتائج دون وقوف طويل ولا تحقيق مستفيض في الحلقات الوسطى. وأنا لم أخرج في بحثي عن تأثير شكري بمطران عن حكم هذا النهج؛ فكل المراجع تقرر أن شكري من المجددين كأقرانه تأثر بمطران. وليس في استطاعتي مخالفتها إلا بتحقيق، لأن البحث عن مطران والتحقيق غير مستطاع. لهذا أخذت كلام المراجع قضية أولية في مثل هذا الموضوع الفرعي الذي لا يمكنني أن أستقصيه إلا وانزل لدقائقه وتفصيله، والبحث لا يستلزم مني كل هذا، ولكن للتثبت من صحة هذه القضية الأولية اكتفيت أن انتقل إلى نتائجها الأخيرة، أتحقق من وحدة الطريقة عند مطران وشكري؛ ومراجعة سريعة لديوان مطران ودواوين شكري لا تضع مجالاً للشك في هذه الحقيقة. والفروق الممكن رؤيتها ترجع إلى الاختلاف في الشخصية والأصل الثابت في طبيعة كل
منهما كفردين تقوَّم كل منهما بشخصية أصيلة. وعند هذا الحد وقفت على أن أعود إلى الموضوع أحققه في تفاصيله ووقائعه فيما كنت أريد أن أكتبه عن شكري من دراسة.
على هذا الوجه تتضح المقدمات الأولية في بحثنا التي جعلتنا نقدر تأثير شكري بمطران. ويستبين من ذلك أنه ليس هنالك في فكرنا ما يتوهمه الشاعر الفاضل شكري من تقليل من شانه، وأنه لم يدر بخلدنا أن ننتقص من أمره في كلامنا؛ وأن بحثنا مستقيم من مناهج البحث القويمة، لا ضعف في التخرج ولا تهافت في الرأي ولا قصور في النظر إلى جوانب الموضوع كما راح يغمزنا ويغمز دراستنا الأديب الفاضل
بقيت مسألة تتفرع من فكرة تأثير مطران في جيل من الأدباء الذين عاصروه أو جاءوا بعده. وهذه المسألة تقوم على أساس تفهم وجه التأثر؛ فقد يكون التأثر بشعر مطران، وقد يكون بالأثر الذي تركه مطران في المحيط الأدبي. أما عن الوجه الأول فذلك يكون إما باحتذاء مطران في طريقته كما هو الحال عند شيبوب، أو التأثر بالطلاقة الفنية عند مطران كما هو الحال عند أبي شادي، أو التأثر بجو شعر مطران وأخيلته كما هو الحال مع إبراهيم ناجي. وهذه الحالات كلها وأن تباينت فيما بينها، إلا أنه يجمعها شيء واحد هو التأثر المباشر بشعر مطران. أما عن الوجه الثاني فبيان ذلك في مجاراة النسق الجديد الذي أتى به مطران؛ نزولاً على أحكام الجو الأدبي والبيئة الفنية التي تطعمت بمحاولات الخليل التجديدية. ومثل هذا واضح في محاولات أحمد شوقي في إقامة طرز جديد من الشعر في الفترة التي جاءت عقب الحرب العظمى. ولا يعترض علينا بأن الحاجة كانت ماسة لهذه الضروب من الشعر نزولاً على أوضاع الحياة الجديدة التي دلف إليها المجتمع الشرقي. لأن روح التردد والإحجام عن استحداث مثل هذا الحدث كان يسود المجتمع. فضلاً عن أن الشخصية التي تتقوَّم بأوضاع الحياة الجديدة على وجهها الجديد وتماشي حاجة العصر لم تكن وجدت، لأن الجميع كانوا تحت تأثير سريان الشعر القديم. ولا شك أن العصر من حيث أدرك نفسه في شخص مطران الرائد الأول لحركة التجديد في ميدان الشعر في الأدب العربي، حمّل الجو الأدبي لوناً وجعله يتطعم بصورة جديدة: تلك التي تطالعنا من حركة الجديد اليوم
ولا شك عندي في أن حذق الخليل وتحايله على جمود عصره هو الذي مكن أقدام الشعر
الجديد. عناية مطران بأن يكسو شعره ديباجة عربية خالصة، واتخاذه الأغراض الاجتماعية التي تدور عليها الحياة في عصره، هي التي جعلت الناس تتشرب الجديد ولا ترى غضاضة في تذوق أخيلته ومعانيه المستحدثة. والحق يجب أن يقال أنه لولا مطران لما كان لنا أن نرى اليوم تلك المحاولات التي قام بها الشعراء المجددون من شعراء الثقافة الحديثة في مصر
وعلى هذا لنا أن نفهم مناحي تأثير مطران في جيل من الأدباء الذين عاصروه والذين أتوا من بعده ولحقوه. وعلينا لكي ننصف التاريخ الأدبي أن نقدر كل ذلك، وفي ضوئه نصدر أحكامنا وندلي بمطالعاتنا عن الأدب العربي الحديث
وقد حاول الشاعر الفاضل عبد الرحمن شكري في مقاله بالمقتطف أن يخرج بالموضوع عن دائرته الحقيقية إلى بحث في العوامل التي أثرت في نفسه فقومت شخصيته على النمط الذي يظهر في مطالعة شعره. ولست براغب في نقاشه في المسائل التي ذكرها، لأنها من أمس الأشياء بذاته وشخصه، والإخلاص الأدبي يضطرنا إلى تصديقه فيها. ولكن كل الذي أرغب أن أقدره هنا أنه كشف بما كتب عن العوامل التي أثرت في نفسه فجعلته يميل لقرض الشعر؛ إلا أنها لا تبين الأدوار التي مر بها حتى قومته على النمط الجديد الذي يظهر من مطالعة شعره في الدواوين الأخيرة، وفي بعض الأجزاء من روايته الأولى، ولا شك أن شاعرنا لا يعتقد أن شخصيته الأدبية وضحت واستقامت من الأدب القديم بدون أن يكون للجديد أثر عليه. فصحيح أن الأستاذ شكري تأثر بشعراء الصنعة العباسية وبشعر العرب القديم وبشعر البارودي في الطور الأول من حياته الأدبية، وذلك على الوجه الذي أشار إليه في مقاله الأخير بالمقتطف؛ على أن ما استقامت به شخصيته من نمط جديد لا أظنه ينكره، وهذا النمط هو الذي يعنيني ويعني كل باحث في تصرف شاعريته
ونحن نعتقد أن في إمكانه أن يخرج المسألة تخريجاً يوافق دعواه التي يدّعيها، ويقول أن ما ظهر به من نمط جديد إنما يرجع لارتياضه في دواوين الشعر الأوربي، ولكن لكي نصحح هذه القضية يجب على شاعرنا أن يثبت عدم تأثره بمطران في الوجهين المباشر وغير المباشر. وهو يستطيع أن يزعم أنه لم يقرأ مطران وأنه لم يتأثره؛ ولكن لا أظن أن في إمكانه أن ينفي عن نفسه تأثره بالجو الذي استحدثه الخليل في الحياة الأدبية
في إمكان شاعرنا الفاضل أن ينفي بصيغة البات، ولكنه لا يقنع بذلك أحداً من الذين تقومت لهم شخصية في دراسات التاريخ الأدبي
وأظن أنني بهذا المقال أوضحت الموقف وأجليت الفكرة دون نكران للواقع أو انتقاص لمكانة شاعرنا الجليل عبد الرحمن شكري في عالم الأدب الحديث. وليطمئن الأستاذ فإني في طليعة المعجبين بشعره والعناصر الأدبية والفنية الطيبة التي يتميز بها شعره، وعبارتي في المقتطف عنه ناطقة بهذا الإعجاب:(شعر يقوم على أساس التأمل العميق والتفكير الخصب الذي يماشي الشعور العميق). أما حديث التفاؤل والتشاؤم فله مقال آخر.
(أبو قير)
إسماعيل أحمد أدهم
المدرسة الابتدائية وتعليم اللغة الأجنبية
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
ورد في تقرير اللجنة التي شكلت بوزارة المعارف برياسة سعادة الوكيل المساعد لدراسة هذا الموضوع ما يأتي:
(تكاد تجمع نظم التعليم بالبلاد الأجنبية على أن ليس من المصلحة أن يبدأ الطفل تعلم لغة أجنبية قبل أن يلم إلماماً كافياً بلغته القومية وقبل أن تتسع مداركه لاستيعاب تلك اللغة الأجنبية
ويرجع هذا الإجماع إلى أن المسؤولين عن تربية الطفل يرون أن في التبكير بتعليمه لغة أجنبية إرهاقاً له وإضعافاً للغته الأصلية، وأن تعليمه اللغتين في وقت واحد يؤدي إلى عدم تمكنه من إحداهما. وهذا أن وافق دولة ما فالأحرى به أن يكون أكثر موافقة لمصر التي يختلف فيها تعلم اللغة الأصلية عن غيرها من الدول، وذلك لأن لغة الكتابة هنا غير لغة الكلام مما يجعل العبء أثقل على كاهل التلميذ المصري)
وورد في تقرير المستر مان الخبير الفني الذي رفعه إلى وزارة المعارف منذ أكثر من عشر سنوات بصفحة 94 ما يأتي:
(ان العبء الثقيل الذي تضعه هذه المحاولة اللغوية الغريبة على كاهل الصبي المصري تتجلى لنا شدة وطأته بوجه خاص إذا راعينا ما بين نشوء الفكر في الذهن والتعبير عنه بالكلام من الاتصال الوثيق، لأن من الصعب كما لا يخفى إدراك ما إذا كان في الإمكان أن يوجد أحد هذين الأمرين مستقلاً عن الآخر. وعلى أية حال فإن من المؤكد أن توقيف تيار الفكر في الصبي بتكليفه التعبير عنه بوساطة لغة أجنبية لا بد من أن يعوق نمو ملكة التفكير فيه. وهناك ما يجعلني أعتقد أن الوسط الذي تنشر فيه لغتان من شانه أن يؤخر نمو القوى المدركة في الأفراد الذين يعيشون فيها حتى ولو كانت هاتان اللغتان حيتين وشائعتي الاستعمال، وعلى ذلك فإن بيئة الصبي المصري الدراسية التي تتغالب فيها لغتان إحداهما ميتة لا بد من أن يكون أكثر تعويقاً لنمو مداركه من الوسط انف الذكر. فبدلاً من أن تكون المراحل الأولى من تعليمه أطوار نمو طبيعية يكاد لا يشعر بها فأنه يراها شاقة إذ أنه لا يقضيها أحياناً إلا في الكدح في تحصيل قواعد كلامية)
وقال هنري سويت في كتابه: (دراسة اللغات العملية) ما يأتي:
بما أن اللغات ليست عقلية إلا في بعض عناصرها فإن تحصيلها لا بد أن يكون إلى حد كبير بطريقة آلية، والدراسة الآلية لا تحتاج إلى عقل مبتكر ولا إلى ملكة ممحصة ناقدة)
ومنذ سنوات طويلة نبهنا الخبيران الفنيّان: مان وكلاباريد إلى النقص المخيف في تكوين شبابنا وتنمية عقولهم في نواح متعددة أهمها في ملكات الابتكار والنقد والتفكير. وجاء في هذا العام مكتب تخديم الشبان بوزارة المالية فأثبت لنا ذلك النقص عن طريق الشركات التجارية والصناعية التي أقدمت على استخدام بعضهم فظهر لها عجزهم في كثير من الأمور. ولست أشك لحظة في أن سبباً هامّاً من أسباب هذا النقص يرجع إلى دراسة اللغات الآلية التي نركز فيها همنا وهم الطفل منذ أول اتصاله بالمدرسة من غير أن نفسح مجالاً ما لظهور تلك الملكات الضرورية وإنمائها! ويكفي أن ندلل على ذلك بأن الطفل بمجرد التحاقه بالمدرسة الابتدائية يصطدم بتخصيص 21 درساً من 38 درساً أسبوعيّاً لدراسة اللغتين العربية والإنجليزية أي بمعدل 46 في المائة تقريباً من وقته الدراسي، وهذا الوقت موزع بمعدل 9 دروس للغة الإنجليزية و 12 للغة العربية؛ أي بنسبة 24 في المائة للغة الإنجليزية و 32 في المائة للغة العربية. فأين تجد المدرسة وقتاً (بعد صرف هذا الوقت كله) للبحث عن ملكات التلميذ الضرورية وتشجيعها وإنمائها والعمل على تكوينه التكوين الصحيح الملائم؟
فإلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية إذن يرفع عن كاهل الطفل المصري المبتدئ في التعليم عبئاً ثقيلاً ينوء به، شهد بوجوده العلماء والخبراء وأحس بثقله الكثيرون من رجال التربية والتعليم في مصر، وأقرت بقيامه اللجنة الرسمية التي درست هذا الموضوع. وإلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية يمكن المدرسة من إصلاح حالها في مواطن متعددة لأنه يعطيها فرصة واسعة للعمل مع زيادة تثقيف أبنائها في شتى النواحي القومية والخلقية، كما أنه يساعدها على اتباع أصول التربية وقواعدها المهملة إلى اليوم بين جدرانها. إذ المدرسة في جميع بلاد العالم لا تقف عند واجب التعليم فقط كما هو الحال عندنا، ولكنها تتعدى ذلك إلى أمور تتصل بحياة الطفل وبمستقبله اتصالاً وثيقاً وتؤثر في نفسيته وتكوينه تأثيراً عميقاً يجعل المدرسة الحديثة تنكر نفسها إذا هي أهملتها أو أنقصت
من أهميتها. فلقد أصبحت دراسة ميول كل تلميذ على حدة وتوجيهه وتشجيع مختلف الملكات فيه بمجرد ظهورها والعمل الدائم على إنمائها - أموراً لا يمكن للمدرسة الحديثة أن تحيا بغيرها! والمدرسة المصرية الحالية مع الأسف العميق لا تعني بشيء منها! ولا يمكن أن تعنى بشيء منها ما دام 56 في المائة من وقتها ضائعاً في الدراسة النظرية استعداداً للامتحانات!
هذا ولا يذهبن الظن ببعضنا إلى أن إلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية يضعف حالة هذه اللغة في المدارس الثانوية أو يقلل من أهميتها، فالأدلة المحسوسة كثيرة على أن هذا العمل يرفع من قيمة هذه اللغة ويقوي مركزها في التعليم الثانوي والمتوسط التجاري بصفة خاصة ويجعل الاهتمام بها أكبر وأعظم لأن التلميذ الذي انتهى من التعليم الابتدائي حيث تكون تكويناً ملائماً يأتي إلى المرحلة التالية مليئاً بالحيوية والنشاط متجها اتجاهاً جديداً تدفعه جدته إلى الحماس في الأخذ به. ثم أن القوة في دراسة لغة من اللغات لا تتوقف فقط على طول المدة التي يقضيها الطالب في دراستها لأن هذه المدة عامل ثانوي بجانب الطريقة نفسها التي تتبع في تدريسها وبجانب حماس المعلم وقدرته. وهي أمور إذا أحسنت واستكملت أسبابها دفعت بالطالب دفعاً إلى الاطلاع والقراءة وهي الغاية القصوى التي يجب أن يسعى إليها المعلم والمدرسة معاً. ولا نستدل على ذلك بأكثر ما نراه رأى العين في مدارسنا اليوم إذ نرى مستوى طلاب البكالوريا في اللغة الفرنسية لا يقل كثيراً عن مستواهم في اللغة الإنجليزية بل قد يزيد أحياناً مع انهم أنفقوا طوال أربع سنوات بالمدارس الابتدائية في دراسة اللغة الإنجليزية من غير أن يدرسوا كلمة واحدة في اللغة الفرنسية، ثم أخذوا يدرسون اللغة الإنجليزية طوال مدة التعليم الثانوي بمعدل تسعة أو ثمانية دروس في الأسبوع في نفس الوقت الذي لا يدرسون اللغة الفرنسية إلا بمعدل أربعة دروس في الأسبوع فقط في مرحلة التعليم الثانوي وحدها، فماذا يقول أنصار إعطاء مدد طويل لتعليم اللغات بعد هذا الدليل المادي القوي؟ فإذا رجعنا ببصرنا بعد ذلك إلى الماضي وجدنا عجباً، وجدنا أن معظم وزرائنا ومستشارينا وقضاتنا الذين تعلموا على النظم القديم ولم يدرسوا اللغة الفرنسية إلا في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي استطاعوا بعدها أن يدرسوا مواد العلوم المختلفة في مدرسة الحقوق باللغة الفرنسية وأن ينبغ الكثيرون منهم
فيها
فهل يصح بعد كل هذا أن نخشى على اللغة الإنجليزية إذا نحن أخرنا البدء بدراستها إلى ما بعد مرحلة التعليم الابتدائي؟ لا شك في أنه لا خوف عليها مطلقاً إذا ألغيناها من التعليم الابتدائي كم أنه لا خوف على اللغة الفرنسية إذا أجلنا البدء بتعليمها إلى ما بعد سنتين من مرحلة التعليم الثانوي
وفوق هذا وذاك فإنا نعلم أن الطريقة المتبعة في تعليم اللغة الإنجليزية بالمدرسة الابتدائية الآن هي نفس الطريقة المتبعة في تعليمها بالمدرسة الثانوية وهي يقف الأمر عند ذلك بل نجد أن الكتب التي يدرسها التلميذ في المدرسة الابتدائية يعيد دراستها هي نفسها في المراحل الأولى من المدرسة الثانوية، وفي هذا اعتراف رسمي عملي بعدم أهمية دراسة اللغة الإنجليزية بالمرحلة الأولى وبان الطالب إنما يبدأ بتعلمها فعلاً بمرحلة التعليم الثانوي
أما ما نستفيده عملياً من تعليم اللغة الأجنبية في المدرسة الابتدائية فيتبين بصفحة 238، من مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) إذ قد ورد فيه (أما النتيجة العملية التي يستفيدها الطلاب، وتستفيدها البلاد من تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية فتبين من الإحصائية التي تنتقل بناجحي الشهادة الابتدائية إلى البكالوريا حيث ينتظر أن يفيدوا أو يستفيدوا من تعلم اللغة الأجنبية. وهنا أوردنا إحصائية يتبين منها النسبة المئوية لناجحي البكالوريا إلى ناجحي الابتدائية في عدة سنين تقع بين 17 و 26 في المائة. ثم قلنا: (فإذا علمنا أن نحو ثلثي الناجحين في الابتدائية يقفون عند هذا الحد من التعليم وأن ناجحي البكالوريا لا يتمكنون جميعاً من الالتحاق بالجامعة، وأن الكثيرين منهم يرسبون بعد ذلك خلال مرحلة التعليم الجامعي، وإذا علمنا أن الطالب كان يتعلم اللغة الإنجليزية إما للوصول إلى التعليم العالي أو التفاهم بها مع الموظفين الإنجليز العديدين الذين كانوا يملئون دواوين الحكومة عند توظفه. وقد زال هذا السبب الآن واقتصر في تعلم اللغة على الغرض الأول وهو البحث العلمي والاتصال بالآراء الحديثة، عرفنا مقدار التضحيات الجسام التي تضحي بها مصر الآن من مجهودات أبنائها ومن أموالها علاوة على إرهاق الطلبة في سبيل توصيل عدد ضئيل من أولئك الأبناء إلى التعليم الجامعي للانتفاع بتلك اللغة)
بعد هذا كله لا نرى أمامنا غير طريق واحد للسير بالتعليم قدماً نحو الديمقراطية الحقة
ونحو النظم التعليمية والاجتماعية السليمة ونحو مصلحة مصر وشعبها وذلك بإلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية إلغاء تاماً وإدماجها مع غيرها من مدارس الأطفال في مدارس شعبية موحدة
عبد الحميد فهمي مطر
على هامش الفلسفة
طريقة الأخلاق أيضاً
للأستاذ محمد يوسف موسى
رأينا عدم غناء الطريقة الاستنتاجية في الوصول إلى مُثُل عليا مرضية من الجميع؛ وهذا ما دفع فريقاً من الفلاسفة للتوجه وجهة أخرى في تعرف الخير والشر والحسن والقبيح؛ هذه الوجهة هي الحاسة الأخلاقية أو الملهمة، حاسة المعرفة المباشرة التي لا تحتاج لنظر واستدلال، بل يكفي أن نلجأ إليها لتهدينا سواء السبيل
هذه رسالة كل فلاسفة أخلاق العاطفة تقريباً كرجال المدرسة الإنجليزية والايكوسية في القرن الثامن عشر أمثال: شاْفِتسْبِرِى، وهَتْشون، وآدم سْمِيثْ. ثم جان جاك روسو الفيلسوف والكاتب الفرنسي المعروف، وشارل جُوسْتَافْ جَاكُوبِي العالم الرياضي الألماني الذي عاش في القرن التاسع عشر
(هتشون) مثلاً يرى أن هذه الحاسة تميز الخير من الشر كما تميز العين الألوان، وتجعل المرء يحس مسرات وآلاماً معنوية خاصة هي نتيجة ما يعمل من خير وشر. و (روسّو) يرى فيها، وبعبارة أخرى يرى في الضمير لأنهما اسمان لمسمى واحد، القوة التي تلهمنا القانون الأخلاقي. تراه يناجيه مناجاة خالدة يقول فيها:(أيها الضمير، أيتها القوة الفطرية الخالدة، أيها الصوت السماوي، أيها القائد الأمين للإنسان الجاهل المحدود - وأن كان ذكيّاً - حراً في إرادته، أيها القاضي الذي لا يضل في تمييز الخير من الشر. . . أنه أنت أشرف جزء في طبيعته، وأنك الفضيلة في أعماله. بدونك لا أشعر بما يرفعني عن الحيوانات ما عدا الميزة التي تجعلني أضل في ميدان الأخطاء، وهي أداة الفهم التي لا قاعدة لها، والعقل بدون مبادئ يسير عليها). أما (جاكوبي) فيقول: (ما هو الخير؟ كل امرئ يملك في قلبه إلهاماً مباشراً به قوة إلهامية تبينه له)
هذا الفهم؛ هذه الطريقة في تعرف القانون الأخلاقي يستحق ما وجّه له من نقد شديد من كبار المفكرين وخاصة الأستاذ العلامة (ليفي بْرِهْلِ مؤلفه القيم (الأخلاق وعلم العادات) حين يقول: (هذا المذهب يفترض أن الطبيعة الإنسانية هي واحدة في نفسها لا يعتورها التغير في جميع الأزمان والبيئات، وأن محتوى الضمير الأخلاقي يكون مجموعاً منسجماً
منظماً، ولكنا علمنا سابقاً كيف كان اختلاف الأفكار الأخلاقية شديداً حسب العصور المتعاقبة، وكيف اختلف وتختلف أيضاً الآراء الأخلاقية باختلاف الأمم والشعوب. كيف كان من الممكن إذاً - لو أن هذا المذهب صحيح - أن توحي هذه الحاسة التي لا تضل كما يقولون هذه المبادئ المختلفة أشد الاختلاف بل المتناقضة في بعض الحالات! ثم إننا نحس أحياناً كثيرة تنازعاً وخصومة مؤلمة حادة في ضمائرنا حتى ليكون أسهل على المرء أن يعمل واجبه متى تبين له من أن يعرف بوساطة هذه الحاسة
أنه من المستحيل أن يحدّ المرء نفسه بكتابة الأخلاق تحت إملاء الضمير، وإذاً فلننتقل إلى بحث الطريقة الأخيرة لمعرفة المثل الأعلى الأخلاقي، وهي طريقة الاستقراء، علّنا نصل إلى تحديده على نحو مقنع مرض للجميع
يرى فلاسفة مذهب اللذة الشخصية أمثال (أَرِيستيبْ و (أبيقور اللذين عاشا في القرن الرابع قبل الميلاد، أن الناس جميعاً يتطلبون اللذة في كل ما يعملون كما يفرون من الألم دائماً، على اختلاف بينهم فيما يعنون باللذة وفي تطبيق هذه القاعدة التي هداهم إليها استقراء ما فطر عليه الناس من طباع. كذلك ترى بعض فلاسفة الأخلاق المحدثين يصدرون عن هذا المذهب. هاهو ذا (جرمي بنتام) الفيلسوف الإنجليزي المعروف في القرن الثامن عشر يؤكد بعد استقراء طويل أن جميع الناس تبعثهم المنفعة أو السعادة على أعمالهم حتى في الحالة التي يضحون فيها بعض المنافع أو يقبلون شيئاً من الآلام، لأن ذلك معناه تطلب منفعة أكبر وأفضل. إلا أنه يضيف إلى هذا تأكيداً آخر هو أن اللذة تكبر وتتسع حتى تشمل أكبر عدد ممكن من الناس، وأن سعادة كل امرئ لا تنفصل عن سعادة الجميع. من أجل هذا يجب على الإنسان باسم سعادته أو منفعته الخاصة أن يبحث في أعماله عن (أكبر مقدار من السعادة لأكبر عدد ممكن). وفي القرن التاسع عشر نجد (سْتيوارتْ ميل) يبدأ بحثه بأن جميع الناس يبحثون عن السعادة، فيرى لهذا أن تكون الغاية الإنسانية والمثل الأعلى الأخلاقي هي (السعادة النبيلة التي تأتي من اللذائذ العالية، مثل لذة التضحية في سبيل إسعاد الغير والإنسانية).
حقاً هذا كله مقنع مرض في نتائجه إلى حد ما، وحقائق نفسية لا شك فيها. ولكن بأي طريق وصلوا إليها؟ هانحن أولاء نقبل مؤقتاً فكرة أن جميع الناس يبحثون ويجرون وراء
لذاتهم أو منافعهم أو سعاداتهم، غير أننا أن وقفنا عند هذا التحقيق الاستقرائي بقينا دون مستوى الأخلاق التي تبحث فيما يجب أن يكون لا فيما هو كائن بالفعل. وأن أردنا من المرء أن يوازن ويختار بين هذه اللذائذ الخاصة أو العامة أو بين هذه الوسائل والأعمال التي تؤدي اليها، تدخل حقيقة في مملكة الأخلاق ولكن في الحين نفسه تترك مملكة التجارب والاستقراء!
فضلاً عن هذا فأخلاق المنفعة العامة تصطدم بهذا الاعتراض الذي لا محيص منه وهو أننا في عديد من الحالات نجد تعارضاً بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة؛ منفعتي أن يقتتل الناس للدفاع عن حقوقي ووطني وألا أخاطر بنفسي بالدفاع عنهم، وصالحي الخاص أن يكون مال الغير على حبل الذراع حتى انتفع به كما أريد، وأن أقبض يدي وأحفظ مالي فلا أساعد به سواي. وإذاً في مثل هذه المنازعات بين المنفعتين أرى أن أخلاق (مِيلْ) التي تدعو للإيثار تدعوني لجعل منفعتي تابعة للمصلحة العامة ولتضحية تلك في سبيل هذه متى تطلب الأمر التضحية. ولكن كيف يمكن قبول هذه التضحية أي تضحية المنفعة الخاصة في سبيل العامة مع ما سبق أن قرروه من أن جميع الناس يجرون وراء لذاتهم ومنافعهم الخاصة! أليس من التحايل المفضوح أن نضع تحت عنوان أخلاق المنفعة الخاصة أخلاقاً هي الإيثار الصريح؟
ان من التعسف بل من المستحيل أن نأخذ من التأكيد الذي سبق تقريره وهو أن الناس يبحثون وراء لذاتهم أو سعاداتهم انهم يجب أن يختاروا بين مختلف هذه اللذائذ والسعادات وأن يضحوا باللذات الدون التي مرجعها إرضاء عاطفة الأثرة في سبيل الحصول على لذة من نوع أسمى وأعلى يحسها المرء من التضحية في سبيل سعادة الآخرين! ذلك التأكيد الاستقرائي وهذا الاختيار الواجب أخلاقياً طرفان لا يلتقيان على رأي (باسكال).
وأخيراً فكل المذاهب الأخلاقية التي تدخل فيها تجارب الحياة واستقراء ما فيها من البواعث والغايات تتحطم أمام هذه الحقيقة، وهي أن الاستقراء يعرفنا ما كان، بينما تقول لنا الأخلاق ما يجب أن يكون.
هناك بعض الاجتماعيين الأقرب عهداً من سابقيهم عرضوا ضرباً آخر من الأخلاق الاستقرائية، هو أن الأخلاق ترجع أولاً إلى علم العادات الذي مرجعه استقراء التاريخ
وملاحظة الحاضر، يتداخل فيها فن عقلي ينظر في الظواهر الاجتماعية والأخلاقية لتعديل ما يجب تعديله منها. هذا هو المذهب الذي عرضه الأستاذ البحاثة (ليفي برهل) في كتابه الآنف الذكر:(الأخلاق وعلم العادات). الأخلاق أعنى مجموع الواجبات التي تفرض على الضمير، لا تستند إلى مبادئ نظرية قامت عليها. إنها عمل، إنها حقيقة؛ عمل اجتماعي، وحقيقة اجتماعية كذلك؟ (إننا لا نعمل أخلاق شعب أو أخلاق تمدن لأنها عملت سابقاً)
إنه بلا شك قد يحصل أن يعارض المرء الحقيقة الأخلاقية بمثل أخلاقي أعلى وصل إليه بالنظر. ولكن هذا البحاثة يجيب عن هذا بقوله: (في الواقع ليس هذا المثل إلا ظهوراً في غير آنه مع بعض التغيير لحقيقة اجتماعية في ماض بعيد أو مستقبل ليس أقل منه بعداً؛ وهذا يكون بالدقة بعض الشيء من هذه الحقيقة التي يجعلونه معارضاً لها).
هذا ملخص ما يراه هذا العالم. فما الرأي فيه؟ موعدنا في بيان ذلك الكلمة الآتية وهي تمام هذه البحوث إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
(أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟)
للأستاذ محمود الخفيف
ولندع الآن عرابياً في رأس الوادي ولننظر ماذا كان من أمر شريف ووزارة شريف. وهنا أبادر إلى القول إن هذه المرحلة من تاريخ مصر كانت أهم المراحل الماضية جميعاً منذ الحملة الفرنسية وأدقها وأبعدها أثراً فيما هي مقبلة عليه بعدها من مراحل.
ظن الناس أن قد انجلت الغاشية على نحو ما صور المستر بلنت ولكنهم لم يكونوا يعلمون أو لم يكن يعلم إلا الأقلون منهم أن وراء هذا الصفو كدراً، وأن سماء السياسة كانت يومئذ كسماء الطبيعة صفت هنيهة لتتلبد بعدها بالسحب المركومة، ولتتلاقى في جوانبها غرابيب سود من الغربان الناعبة فتكون حلكتها وطيوفها بعد هذا الصفة أقبح ما تكون منظراً وأشد ما تكون إيلاماً للنفوس وإزعاجاً للخواطر.
وكيف كان يرجى دوام الصفاء وقد كانت الشباك منصوبة وقد أخذ الصائدون يدفعون الفريسة إليها دفعاً بعد أن أعياهم الأمر فلم يستطيعوا أن يأخذوها بالحيلة أو أن يعصبوا عينيها كما كانوا من قبل يفعلون؟
كيف كان يرجى الصفاء وقد كان الخديو يضمر عكس ما يظهر كأن لم يكفه ما أصاب البلاد من جراء سياسته وتنكره للحركة الوطنية وإيجاده بما فعل الثغرة التي كان ينفذ منها الدخلاء والمتربصون بمصر إلى صميم حركتها وقلب نهضتها؟
وما أشبه توفيقاً في ذلك الموقف، بل وفي معظم مواقفه كما أسلفنا بلويس السادس عشر، ذلك الملك الطيب القلب الذي كان يدفع الثورة في بلاده بمسلكه دفعاً، والذي يعزى إلى سياسته الملتوية المذبذبة أن تنكبت تلك الثورة منهاجها السلمي العاقل واندفعت في طريق جرت فيها الدماء وتطايرت على جانبيها الأشلاء
ظهر ذلك الملك للنواب أول الأمر في جلد الأسد، ثم استخدى بعد وثبة ميرابو، ولكن
الشائعات طافت بأهل باريس أن الملك أخذ يستعد ويجمع حوله الجند، فما لبثت أن جرت الدماء في باريس ودك الناس الباستيل رمز العبودية والجبروت؛ ثم رأى أهل باريس بين الدهشة من الملك والزراية عليه والتهزئ به أنه يركب في جماعة من النواب كان في مقدمتهم ميرابو فيزور باريس ويطوف بأنحائها ويمر بخرائب الباستيل مظهراً عطفه على الثورة والثوار، ولكنه يعود بعد ذلك فيأتي من معاني التحدي والنزق ما يجعل الشعب يذهب فيقتحم عليه غرف قصره في فرساي ويعود إلى باريس ليكون رهينة فيها، ويتم الدستور فيرفع إليه فيوافق عليه ولكن ريثما يعد العدة للهرب، ثم يضبط المسكين وقد أوشك أن يجتاز الحدود فيقضي هذا العمل عليه وتمضي الثورة في طريقها مجنونة لا تلوي على شيء حتى تأكل آخر الأمر نفسها
ولقد كان توفيق يسلك تجاه الثورة العرابية مسلك لويس تجاه الثورة الفرنسية مع فارق واحد وهو أن الخديو، كان من ورائه الإنجليز فلما لجأ إليهم توفيق كما هرب لويس لم يقض هذا العمل عليه وإنما قضى على البلاد
تخلص توفيق من رياض وقد كان يسعى إلى التخلص منه، فكيف أراد أن يسلك شريف مسلك رياض ولقد كان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الاستبداد والديمقراطية؟
لقد عادت الظروف من جديد تبين للخديو بأجلى وضوح أن الطريق الوحيدة هي الانضمام إلى الحركة الوطنية ومشايعتها في صدق وإخلاص، ففي ذلك منجاته من تطرف هذه الحركة وجموحها، وفي ذلك منجاة البلاد من تدخل الأجانب باسم المحافظة على عرش الخديو، ثم من احتلال البلاد باسم القضاء على الفتن والقلاقل
ولكن الخديو تنكب هذه الطريق فدفع تيار الثورة بمسلكه هذا كما كان لويس يدفع تيار الثورة في بلاده. ولقد رأينا كيف آنس الثوار في أنفسهم القوة منذ انضم العساكر إلى الحركة، وكيف فهم الزعماء انهم حصلوا على ما حصلوا عليه عن طريق الإرهاب والقوة، بعد أن عجزوا عن ذلك عن طريق المسالمة والرجاء
ومن عجيب الأمور انه لما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه حمل زعماؤها كل أوزارها وخرج عرابي المسكين بالنصيب الأوفى من هذه الأوزار؛ مع أن الحوادث تثبت عكس ذلك، وهي لو درست على حقيقتها وردت فيها الأمور إلى أصولها لرد ما يعزى إلى
عرابي أو أكثره إلى الخديو دون أن يكون في ذلك أقل تجن على هذا ولا أدنى تحيز لذاك
سار شريف على نهج حكيم فأرضى الأجانب بقبوله المراقبة الثنائية، وأرضى الوطنيين بتحقيق الآمال الوطنية، ولكنه ما لبث أن أحس أن هؤلاء الأجانب لا يدعون وسيلة لضم الخديو إليهم حتى لقد ترك شريف بعد مدة وجيزة يعمل وحده، وكأنما وضع الخديو نفسه بنفسه في عزلة
ولو أنها كانت عزلة عن الوطنيين دون اتصال بالأجانب وعلى الأخص بالإنجليز لهان أمرها؛ ولكن توفيقاً قد سبب بعزلته أول الأمر ريبة ومخاوف في قلوب العسكريين؛ ثم تطورت الحال إلى كراهة وأدت الكراهة إلى المقاومة من جديد. ولقد كان أمام توفيق في الواقع هيئتان: الوطنيون برياسة شريف، والعسكريون بزعامة عرابي. وكان يستطيع بشيء من الكياسة والمهارة أن يرضي الوطنيين حتى لا يدع مجالاً لتدخل العسكريين من جديد، ولقد رأى بنفسه ما كان من أمر هذا التدخل بالأمس القريب
افتتح مجلس شورى النواب في يوم 26 ديسمبر سنة 1881 وجاء في خطاب توفيق في حفلة الافتتاح ما يأتي: (أبدي لحضرات النواب مسروريتي من اجتماعهم لأجل أن ينوبوا عن الأهالي في الأمور العائدة عليهم بالنفع، وفي علم الجميع أني من وقت ما استلمت زمام الحكومة عزمت بنية خالصة على فتح مجلس النواب ولكن تأخر للان بسبب المشكلات التي كانت محيطة بالحكومة، فأما الآن فنحمد الله تعالى على ما يسر لنا من دفع المشكلات المالية بمساعدة الدول المتحابة ومن تخفيف أحمال الأهالي على قدر الإمكان، فلم يبق مانع من المبادرة إلى ما أنا متشوق لحصوله وهو مجلس النواب الذي أنا فاتحه في هذا اليوم باجتماعكم)
هذا هو كلام الخديو فهل كانت هذه نياته؟ تلك هي المسألة ونرى أن خير ما نجيب به هو أن نعرض الحوادث التي تلت ذلك ومنها يستبين إلى أي حد كان الخديو ينوي ما يقول
دأب الذين كانوا يعملون من وراء ستار على تخويف الخديو من ناحيتين: ناحية الحركة الوطنية وناحية تركيا موحين إليه في الأولى أن حكم الدستور معناه ضياع سلطة الخديو، وفي الثانية أن تركيا لا ترتاح إلى توفيق وأنها تبيت له ما لا يحب. وغرض هؤلاء الذين كانوا يعملون في الظلام واضح وهو أن يركن الخديو إليهم ليخلص من هذا كله
أما عن حكم الدستور فكان ذلك يقتضي حقاً أن يتنازل الخديو عن جانب كبير من السلطان المطلق إلى نواب البلاد وتلك هي المشكلة، وما كانت مشكلة في مصر وحدها، بل لقد كان لها مثيلات في جميع الحركات الدستورية التي شهدها العالم، فما قام الخلاف بين الملكية والشعب في فرنسا إبان ثورتها إلا من هذه الناحية. وما استمرت القلاقل قروناً بين الملكية والشعب في إنجلترا إلا بسبب ذلك. وما استقرت الأمور في الدولتين إلا حينما أثبت الشعبان قوتهما. وإذاً فكان لا بد أن يتفاقم الخلاف بين الشعب والخديو في مصر حتى يثبت الشعب قوته أو يتنازل الخديو عن مبدأ الحكم المطلق، ومن هذا الخلاف كانت تتاح الفرص للأجانب ليسيطروا على الخديو
وأما عن تركيا فقد كان توفيق يستريب ويخاف من سياستها. فكر السلطان أولاً أن يرسل جيش احتلال إلى مصر ليعيد فيها نفوذ الخلافة سيرته الأولى قبل عهد محمد علي؛ ولكن إنجلترا وفرنسا مازالتا به حتى استطاعتا بالسياسة حيناً وبالتهديد من بعد حيناً آخر حتى أقلع عن هذه الفكرة. ولقد أفادتا من ذلك فائدتين: بقاء مركز مصر على ما هو عليه بحيث يسمح لها بالتدخل في شؤونها؛ والتأثير على الخديو بهذا انهما هما الملاذ والسند
ولقد كان الأمير عبد الحليم بن محمد علي في الآستانة يدس الدسائس ويسعى سعياً متواصلاً لخلع توفيق وتولي حكم مصر بدلاً منه، وكانت سيرة ذلك النشاط تزعج توفيقاً وتقلق مضجعه.
وأخيراً أوفد السلطان وفداً إلى مصر برياسة علي نظامي باشا، وقد فعل السلطان ذلك دون علم الدول الاوربية، ولم تعلم بذلك حتى الحكومة المصرية نفسها إلا عندما وصل الوفد
وكان عرابي قد كتب إلى السلطان قبل يوم عابدين كما أشرنا. ولعل السلطان أوجس خيفة من الحركة القائمة في مصر، وظن أنها تنطوي على عناصر استقلالية ترمي إلى خلع سيادة الأتراك. وقد كان عبد الحميد يومئذ يقاوم الحركات الحرة في بلاده ويبطش بالداعين إليها. ولكن الوفد كتب تقريراً عن الحال في مصر جاء فيه على لسان الخديو أن البلاد هادئة ليس فيها ما يخيف. وجاء على لسان رئيس الوفد أن رجال العسكرية والزعماء جميعاً يؤكدون ولاءهم للسلطان، وإنه لذلك يثني عليهم ولا يخالجه شك في حركتهم. ولقد قامت الدولتان بمظاهرة بحرية في مياه الاسكندرية؛ فلما سألتهما الحكومة المصرية عن
سبب ذلك أجابتا أن سفنهما تغادر الإسكندرية في اليوم الذي يسافر فيه الوفد العثماني عائداً إلى الآستانة؛ وقد تم ذلك فعلاً حينما غادر الوفد البلاد، ومعنى ذلك أن الحكومتين لن تسمحا للسلطان صاحب الحق الشرعي في البلاد حتى بمجرد النظر في أحوالها، ومعنى ذلك أيضاً أن يزداد تأثيرهما في قلب الخديو فيلجأ إليهما إذا لزم الحال حتى ضد السلطان نفسه!
ورب قائل يقول إن في مسلك تركيا ودسائس عبد الحليم ما يدع الخديو العذر في الاعتماد على الدولتين، ولكن هذا زعم باطل؛ فرجال مصر جميعاً لم يكونوا في تلك الأيام يفكرون مطلقاً في الخروج عن سيادة تركيا، كما أنهم كانوا لا يسمحون للسلطان أن يزيد حقوقه في مصر عن القدر المقرر في الفرمانات. ولنفرض جدلاً أن للخديو الحق في أن يخاف جانب السلطان أفلا يكون بالتجائه إلى الدولتين كالمستجير من الرمضاء بالنار، كما يقول المثل العربي؟ وهل كانت الدولتان تحميانه إلا لغرض؟ وهل كان هذا الغرض إلا رغبة كل منهما أن تحل في مصر محل السلطان؟
إن الحوادث كلها كانت تشير للخديو إلى الطريق الوحيدة التي كان عليه أن يسلكها، ولكنه كما ذكرنا اختار الانحياز إلى جانب إنجلترا منذ حادث عابدين مع تظاهره دائماً أنه يعطف على أماني البلاد، وفي ذلك الخطر كل الخطر وفيه من أجل ذلك مسؤولية الخديو عن اتجاه الحوادث بعد ذلك إلى تلك السبيل التي أفضت بالبلاد إلى كارثة الاحتلال
ونعود إلى عرابي فنقول: إن الحكومة قد استدعته من مقره في رأس الوادي وأسندت إليه منصب وكيل وزارة الحربية؛ وهو يعزو هذا العمل إلى ما بلغ الحكومة على لسان جواسيسها أنه يجول في بلاد مديرية الشرقية فيتصل بالوجوه ومشايخ العرب محرضاً داعياً إلى نشر مبادئه وأغراضه. ويذكر عرابي أنه أنعم عليه وقتئذ برتبة اللواء (باشا) ولكنه رفضها مخافة أن يتهم أنه يعمل لشخصه. ولئن صح هذا وهو ما لا نستبعده، لكان لنا في مغزاه حسنة نضيفها إلى حسنات هذا الرجل؛ حسنة نعتبرها من كبرى الحسنات فإن التهافت على الرتب والألقاب لم يزل حتى اليوم في بلادنا المسكينة داء عياء يتغلغل في نفوس سادتنا وكبرائنا!
ونقول لئن صح ذلك لأن الخبر من جانب عرابي فهو في مرتبة الدعوى! ونقول إنا لا نستبعده مستندين في ذلك إلى شاهد قوي، فهذا الرجل كان بطل الانقلاب يومئذ وعلى يده
وصلت مصر إلى ما وصلت اليه؛ فلم يفد من وراء ذلك أية فائدة شخصية. ولو كان في نفسه يومئذ أطماع من هذا القبيل لرأيناه يصل على الأقل إلى مرتبة الوزير، ونقول على الأقل لأنه كان في موقف تحكم فيه من الخديو وفرض عليه الشخص الذي يؤلف الوزارة، وهو موقف يوحي إلى الأنفس الغرور، فلو خالج نفس عرابي يومئذ طمع في جاه أو منصب لما وقف دونه إلى ما يبتغي حائل
ولقد اتصل بعرابي في منصبه الجديد المستر بلنت وطلب صداقته فأجاب عرابي في سرور إلى ما طلب وتصافحا. ولسوف تتمكن بينهما الصداقة وتتوثق عرى المودة سنين طويلة بعد ذلك
وجرى بين عرابي وبلنت في هذا اللقاء حديث أثبته كل منهما في مذكراته وفيه أشار عرابي إلى ارتياحه إلى تخلص مصر من مساوئ حكم إسماعيل ومن دسائس الجراكسة، ولكنه أبدى مخاوفه من سياسة إنجلترا وفرنسا نحو مصر، وعبر عن أمله في أن تعطف إنجلترا على حركة الحرية في مصر وهي الدولة التي تقدر الحرية، وكان عرابي يتوقع العطف من إنجلترا أكثر مما يتوقعه من فرنسا ولا سيما من جانب المستر غلادستون الذي اشتهر بعطفه على الحرية في كل مكان
وليت شعري ماذا يطلب الذين يرمون عرابياً بالطمع والجهل والنزق، أكثر من هذه البراهين التي نسوقها على أنه كان بريئاً من هذا كله؟ ألم يأن لهؤلاء أن يقرءوا سيرة هذا الرجل في غير تحامل عليه حتى يعرفوا لهذا المصري المجاهد قدره وأثره في نهضتهم القومية؟ وهل يوجد في المعايب القومية عيب هو أشد قبحاً من جهل قوم برجالهم في الوقت الذي يرون غيرهم يمجدون ذكرى رجالهم فيوحون إلى الأجيال القادمة معاني الرجولة بما يقدمون لهم من الأمثلة؟
لقد أعجب بلنت بعرابي ووقعت عباراته من نفسه موقعاً حسناً. يقول بلنت في ذلك: (وكان لهذا اللقاء الأول من حسن الأثر على رأيي في الضابط الفلاح ما حملني على الذهاب في الحال لصديقي الشيخ محمد عبدة لأفضي إليه بحقيقة هذا التأثير)
ولقد بلغ من تأثر بلنت أن اقترح وضع تقرير عما أخبره عرابي به ليرسله إلى المستر غلادستون، ثم اشترك مع الشيخ محمد عبدة في كتابة برنامج الحزب الوطني وأطلعا
البارودي عليه فوافقهما ثم أطلعا عرابياً عليه أيضاً فأقره وتولى بلنت رفعه إلى غلادستون.
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
420 -
والجروح قصاص
كان فتى يجلس إلى أبي الحسن الحراني، وكان يشرب الخمر فسكر ذات يوم فسقط على زجاجة فشجّ وجهه، فاختفى إلى أن برئ ثم عاد إلى مجالسة الشيخ فلما رآه انشد:
أجريحَ كاسات أرقت نَجيعَها
…
طلبُ التِّراتِ يعزّ منه خلاص
لا تسفكن دم الزجاجة بعدها
…
إن الجروح (كما علمتَ) قصاص
ففهمها الشاب فتاب
421 -
فلا تعلمني وهو لك. . .
في (الحيوان) للجاحظ: قال صاحب الأهواز: ما رأينا قوماً أعجب من العرب. أتيت الأحنف بن قيس فكلمته في حاجة إلى ابن زياد، وكنت قد ظلمت في الخراج، فكلمه فأحسن إليّ وحطّ عني. فأهديت إليه هدايا كثيرة فغضب وقال: إنا لا نأخذ على معونتنا أجراً. فلما كنت في بعض الطريق سقطت من ردائي دجاجة فلحقني رجل منهم فقال: هذه سقطت من ردائك. فأمرت له بدرهم، ثم لحقني بالأُبُلِة فقال: أنا صاحب الدجاجة. ثم لحقني بالأهواز فقال: أنا صاحب الدجاجة. فقلت له: إن رأيت زادي بعد هذا كله قد سقط فلا تعلمني وهو لك. . .
422 -
. . . والريح في فمي فاعزم وتوكل
قال زنام الزامر: قال لي المتوكل: تأهب معي إلى الشام. فقلت: يا أمير المؤمنين، الناي في يدي، والريح في فمي، فاعزم وتوكل
423 -
وقت شرابها نار العذاب
قال الثعابي: بلغني أن ديوان شعر ابن مطران حمل إلى حضرة الصاحب فأعجب به فقال: ما ظننت أن ما وراء النهر يخرج مثله، ومر له في الشراب المطبوخ:
وراحٍ عذبتها النار حتى
…
وقت شُرّابها نارَ العذاب
يذيب الهمَّ قبل الحسو لونٌ
…
لها، في مثل ياقوت مذاب
ويمنحها المزاج لهيب خد
…
تشرّب ماؤه ماء الشباب
فتعجب من حسن البيت الأول وتحفظه، وكان كثيراً ما ينشده كأنه مقلوب قول السريّ في الخمر:
هات التي هي يوم الحشر أوزار
…
كالنار في الحسن عقبى شربها النار
424 -
مغن. . .
الثعالبي في (خاص الخاص) سمعت أبا بكر الخوارزمي غير مرة يقول:
أنا أحفظ في هجاء المغنين ما يقارب ألف بيت، وليس أبلغ وأوجز وأطرب من قول أبي الفتح كشاجم:
ومغن بارد النغمة مختل اليدين
ما رآه أحد في
…
دار قوم مرتين
425 -
في فساد الأحوال لله سر!
صوفي:
في فساد الأحوال لله سِرّ
…
والتباس في غاية الإيضاح!
فتقول الجهال قد فسد الأمر
…
وذاك الفساد عين الصلاح!
426 -
كان ماذا؟
في (طراز المجالس): سمع عن العرب كان ماذا، ووقع في شعر ابن المرجل فأنكره ابن أبي الربيع، فصنف في الرد عليه مصنفاً، وأنشد فيه لنفسه:
عاب قوم (كان ماذا)
…
ليت شعري لم هذا؟
وإذا عابوه جهلاً
…
دون علم كان ماذا؟
427 -
عاشق مفلس. . .
مرت جارية للقاسم بن الرشيد جميلة، وفي كفها نرجس، فجمشها أبو نواس، فلم تكلمه، فقال: ما أقبح الهجر بك يا سيدتي. فقالت: أقبح من هجري إفلاسك. فانشأ يقول:
قلت لها يوماً ومرت بنا
…
رُعبوبة في كفها نرجس:
ما أقبح الهجر! فقالت لنا:
…
أقبح منه عاشق مفلس
شبح الحرب
للأستاذ محمود غنيم
هو الموت أن قامت على ساقها الحرب
…
وإلا فحسب الناس ما يفعل الرعب
يلوح لهم في النوم والصحو طيفها
…
ودون انتظار الخطب أن يقع الخطب
فُزعنا فلا جفن من الخوف مطبِق
…
ولا مستقر في مضاجعه جنب
ولا أنف إلا عالق بكمامة
…
ولا دار إلا شُق في جوفها جب
وما اكتوت الأيدي ولا احترق الحشا
…
بجمر كجمر لا يشب ولا يخبو
فيأيها الليث المكشر للورى
…
حنانيك إما الانصراف أو الوثب
مطامع غر الغرب ومض سرابها
…
فأصبح يصلى نارها الشرق والغرب
كأني بها قامت وشُب أُوارها
…
وقد جفت الأقلام وانطوت الكتْب
سفين بلج البحر يرميه مثله
…
وسر بأعلى الجو يقذفه سرب
وبينهما تمشي المنايا كأنها
…
طيور وأرواح الأنام لها حب
وغى لا الدروع السابغات موانع
…
أذاها ولا مُجدٍ بها الصارم العَضْب
تثلم حد السيف وانقصف القنا
…
وأصبح لا طعن هناك ولا ضرب
كأني بها ترمي مدافعها فلا
…
يطيش لها سهم ولا مضرب ينبو
تدمر ما تأتي عليه لو أنها
…
تصوَّب نحو الألب دُلئبها الألب
هي البرق خطافاً هي الرعد قاصفاً
…
هي الشهب إذ تهوي من الفلك الشهب
فمن كان يصطاد الحمام بنبله
…
فأن لنا نبلاً يصاد بها القطب
كأني بها والطائرات بغازها
…
تجود كما جادت بوابلها السحب
يمد إلى الأرواح كفيه خلسة
…
فلا الرأس مقطوع ولا الدم منصب
رقيق الحواشي لا تكاد تحسه
…
وألين منه الصخر والمعدن الصلب
له قطرات لا يبل بها صدى
…
ولا يابس تبقى عليه ولا رطب
إذا انتشرت في الأفق لم ترع حرمة
…
لأنثى ولا شيخ علا رأسه الشيب
إذا انتشرت في الأفق تصرع كاعباً
…
وتخنق أمَّاً خلفها طفلها يحبو
لقد شِيب بالسم الهواء فهل ترى
…
يشاب من الأنهار رسائلها العذب
أرى الغرب يدنو كالفَراش من اللظى
…
أللقوم من إحراق أنفسهم إرْب؟
ويا رُب حرب منذ عشرين حجة
…
بكل فؤاد من جراحتها ندب
أضرت بحزبيها وإن تم نصرها
…
لحزب وقاسى ذل خذلانها حزب
إذا ما ذكرناها اقشعرت جلودنا
…
إذ الناس كالأنعام قوتهم العشب
وإذ هم بأكناف الخنادق ما لهم
…
مضاجع غير الترب لو نفع الترب
يقاسون حراً ما لضب بحمله
…
يدان وبرداً ليس يحمله دب
وحشو أنوف القوم غاز مسمم
…
وللنار في أجسامهم مرتع خصب
فيا لحروب لا تجف دماؤها
…
ويا لشعوب كلما نهضت تكبو
أجدكمو يا قوم طال بنا السري
…
ولم يسترح حيناً من السفر الركب
لقد سار نحو المجد قوم فأدلجوا
…
ولم يعلموا أين انتهى بهم الدرب
ولو أنفقوا في الخير ما ينفقونه
…
على الحرب عم الخصب وانقطع الجدب
ولم يبق طاو ليس يملك قوته
…
ولم يبق عار ليس يستره ثوب
شعوب بعصر النور يفتك بعضها
…
ببعض كما يعدو على الحمل الذئب
يمثَّل بالإنسان في الغرب بينما
…
يعيش قرير العين في ظله الكلب
إذا قنص الليث الغزالة ساغباً
…
فما ذنب شعب بات يقنصه شعب
ذنوب الضعاف العاجزين كثيرة
…
وما لقويٍّ إذ تحاسبه ذنب
كأنْ ليس بين العالمين شرائع
…
ولا خلفهم حشر ولا فوقهم رب
ولا في قوانين البرية رحمة
…
ولا شيء في الدنيا يقال له الحب
ولم يبق معبوداً سوى القوت وحده
…
فكل فؤاد مستهام به صب
عزاء لنا أن الحضارة أفلست
…
فرونقها زيف ومنطقها كذب
إذا ما تمثلت الحضارة خلتها
…
لباة لها جوف وليس لها قلب
سل العلماء الفاخرين بعلمهم
…
أجاءوا بنور العلم أم ناره شبوا
تقدم فن الموت أي تقدم
…
وسار بطيئاً عاثر القدم الطب
فظائع لم يحلم أوائلنا بها
…
فيا ليت شعري ما الذي يضمر الغيب؟
فسحقاً لعصر النور سحقاً لأهله
…
فكل بني حواء دأبهم السلب
كذلك شأن الناس من عهد آدم
…
تباينت الأشكال واتحد اللب
وحسب بني حواء عيباً حروبهم
…
إذا لم يكن غير الحروب لهم غيب
(مدرسة الأورمان)
محمود غنيم
المليك الطفل فيصل الثاني
للآنسة زينب الحكيم
صورة صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني تدل على شخصية طامحة للعظمة. . . رجل صغير في الثالثة من عمره، يمتاز بسمات النجابة، والنظرة اليقظة، والرجولة البادية آثارها في يديه المعقودتان وراء ظهره، ولباس الضابط الذي يحتوي هذه الشخصية الكبيرة الوثابة على الرغم من حداثة السن ومن الطفولة البريئة، إنما يشير إلى النفع والمساعدة والتضحية. ويكمن في قسماته غموض عميق
لقد كان لي شرف مقابلة جلالة والده المغفور له الملك غازي الأول، وكان ذا شخصية كريمة، وسجايا عربية سمحة، وهمة بدوية نافذة مع تقلب الظروف حوله
انصرفت من حضرته، وقد أثر في نفسي طلاوة حديثه، وإيمانه بالاعتماد على نفسه بعد الله في الأخذ بيد شعبه إلى مراقي السمو والفلاح؛ مستمداً من شعبه الكريم الهمة والشجاعة.
إن في سيرة فيصل الأول وابنه الراحل بسبب الحادث المشئوم، ما يظهر للناس كيفية البلوغ إلى العظمة؛ ولهذا فكانا ملكين من أحكم الملوك وأعظمهم.
إني قوية الأمل شديدة الرجاء في أن يهيئ قادة الرأي في العراق أجمل الفرص للمليك العزيز فيصل الثاني، لأن يتصفح تاريخ أبيه وجده، فهو سفر ذو صفحات زاخرة، فيها إصلاح وتجديد، وفيها حِكم وعبر، وفيها قدوة حسنة
لعمري ماذا تكون رسالتك (يا غازي) رحمة الله عليك وأنت في عالم الأبدية إلى الأحياء؟ لسوف تتكلم من عالم الحقيقة ولسوف تُسمع كلماتك ويطاع أمرك بحماس وينفذ بقوة
إني استمع موسيقى رسالتك بين طبقات الأثير، ولا تلبث الرسالة أن تصل إلى إدراك الأحياء. وأشعر أن أول رسالة منك هي لابنك العزيز وستكون نفسه أسرع لالتقاطها، وكنت الأب العطوف عليه وهو شديد التعلق بك. إن رسالتك إليه رسالة معنوية صامتة، تدركه فترحمه من انزعاجه لفقدك، وتقوي من عزيمته لتكوين مستقبله الذي سيكون زاهراً بإذن الله.
أما الرسالة الثانية: فهي إلى الزوجة الثكلى؛ وهي رسالة من شهيد ينعم برضاء ربه، رسالة زوج تحرر من قيود الملك وعناء الشكليات، ولذلك فهي رسالة عطف غامر طاهر، ترد
عليكِ بعض لهفتك يا والدة فيصل الثاني وتقوي من احتمالك للمصيبة، وتستنهض همتك لإدراك روح غازي في ابن غازي (فيصل طفل اليوم)، وبفضلك وحزم رعايتك يكون رجل الغد المسؤول.
من أهم ما لفت نظري وأنا أتتبع تاريخ حياة الملكة فكتوريا الطريقة التي اتبعتها في تربية أولادها. روي عنها أنها كلما أرادت اختيار مربية لأولادها، كانت تكلف بعض خلصائها أن يبعثوا إليها ببعض من يثقون بهن من المربيات، وكانت لا تقابلهن في بادئ الأمر، وإنما تأمر بأن تقدم المربية إلى الأطفال مباشرة وهي تراقبها معهم من وراء ستار. وكان يتوقف قبولها أو رفضها للمربية على تلك المقابلة الأولى مع أطفالها. سئلت مرة عن السر في قبولها إحدى المربيات وقد أثنت عليها دون تحفظ وودت لو كان جميع المربيات مثلها فقالت: لقد رأيت فيها حنو ألام الطبيعي وتضحيتها الصادقة في معاملة الأطفال مما دعاني إلى الظهور لها من وراء السجف لأشكرها وأشعرها برضائي عنها
وهكذا كان لها رأي خاص بالنسبة لاختيار الرائضين من الرجال، وكانت تختار من تتوسم في معاملاته للأطفال الأمراء في غير وجودها سمات الأبوة الرصينة.
والسيدات العراقيات على ما خبرت من أحوالهن، أمهات صالحات بارات مضحيات، وسيدة البلاد الأولى. . . أم فيصل الثاني. . . تبزهن جميعاً في يقظة الانتباه، وصدق النظرة، وقوة الطموح.
نرجو للعراق وأهل العراق السلامة من كل مكروه، وأن يسلم رجاله العاملون، بفناء الخصومات، واندثار الشرور التي تعكر صفو النفوس وتهد أركان الوطن المفدى.
رحم الله سيد البلاد الراحل وعزى أهله وشعبه أجمل العزاء.
زينب الحكيم
رسالة الفن
دراسات في الفن
الغناء بين الارتجال والربط
بمناسبة ذكرى عبده الحامولي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أشير على وزارة المعارف أن تفكر في إحياء ذكرى عبده الحامولي فحدث أن استجابت للإشارة وفكرت. وجمعت وزارة المعارف - كعادة الوزارات كلها حين تعزم التفكير في جلائل الأمور - حزمة الرؤوس المفكرة كانت درتها المتألقة رأس معالي وزير المعارف الأديب الفنان. وطرحت مسألة الذكرى أمام هذه الرؤوس المفكرة ففكرت فيها وفكرت، ساعة أو ساعتين، فكرت ثم خرجت بتفكيرها أو خرجت من تفكيرها بأن المسألة عقدة معقدة، وإنها ليست من المسائل التي يحلو التفكير فيها للرؤوس المفكرة بحيث تطيق أن تستوعبها وأن تلم بأطرافها أو تعتصرها في جلسة واحدة فأفسحت للتفكير فيها من وقتها خمسة شهور تبدأ في مايو هذا وتنتهي في أكتوبر المقبل تنفرط فيها حزمة الرؤوس المفكرة لتملك كل منها التفكير فيها، وهي على حدة في مسألة ذكرى الحامولي المعقدة ثم تجتمع بعدها ليقول كل رأس منها لاخوته: أي حل يَسَّره، أو أي تيسير قدَّره
وأخشى ما نخشاه هو أن تعود حزمة الرؤوس المفكرة بعد هذا الاجتماع فتنفرط، ثم تعود فتجتمع، ويطول بها الانفراط والاجتماع حتى تصبح ذكرى الحامولي من مشكلات الدولة المستعصية كما استعصت على الدولة قبلها مشكلة الأوقاف الاهلية، ومشكلة مياه الشرب في القرى، ومشكلة تعليم اللغة العربية وغير ذلك من المشاكل الملعونة الجاحدة التي طالما أجهدت - في غير رحمة ولا استحياء - حزماً من الرؤوس المفكرة
على إننا لا نزال مستبشرين خيراً، فإنه لا يبعد على الله، ولا يكثر على الله، أن يسأل رأس من هذه الرؤوس المفكرة نفسه في بحر هذه الشهور الخمسة عن عبده الحامولي: من هو؟ فعندئذ لا بد أن يجيب هذا الرأس نفسه بأن عبده الحامولي كان مغنياً. وقد يحدث بعد أن يطرب هذا الرأس المتسائل لتوفيق الله الذي مكنه من إصابة هذه الحقيقة البعيدة النائية
أن يذكر أن عبده الحامولي كان مغنياً من نوع كاد ينقرض من بين أهل الحرفة اليوم، لا لأن أهل الحرفة قد سمن إحساسهم، وإنما لأن الحياة نفسها استدعت هذا الانقراض، وهي لا تزال تستدعيه.
فقد كان المغنون في الجيل الماضي يغنون في اجتماعات عامة من حيث إقبال الناس عليها، ولكنها كانت خاصة من حيث الأنفاق عليها والدعوة إليها، وكانت الأفراح هي الفرص المتلاحقة التي كان يدعى فيها المغنون إلى الغناء، وكان صاحب (الفرح) هو الذي يختار المغني الذي يدعوه، وكان يرهق نفسه في إكرامه إرهاقاً كانت تستلزمه روح التفاخر التي كانت شائعة في ذلك الحين بين المصريين أغنياء وفقراء، وكان يبذل له العطاء كما كان يتأنق في إعداد المائدة له ولأفراد فرقته؛ فكان يطعمهم طعاماً شهياً خفيفاً حتى يكتفوا، وكان يسقيهم خمراً سائغة مشعشعة حتى ينتشوا؛ وكان يصبر عليهم لا يطالبهم بعزف ولا غناء حتى يستخفهم الطرب، فيعمد منهم صاحب القانون إلى قانونه، وصاحب العود إلى عوده، وصاحب الدف إلى دفه؛ والمغني لا تزال روحه تترنح من الشرب والطرب والبهجة والفرح حتى يطيب له أن ينطلق فينطلق
وكان المغني يصيح وهو يعلم أن بين مستمعيه مغنين ومطربين خفوا إليه ليمتعوا أنفسهم بحلاوة ترتيله وبهاء نشوته. والذين حضروا أمثال هذه الحفلات يروون لنا أن محمد عثمان كان يجري وراء عبده الحامولي ليسمعه، وأن عبده الحامولي كان يلاحق محمد عثمان ليستردّ منه الدين متعة وطرباً، وهم يقولون أيضاً أن محمد عثمان كان يسمع من الحامولي الدور فلا يتحرج من الاستيلاء على نظمه وكلامه فيلحنه تلحيناً جديداً ويغنيه غناء يجبر الحامولي على أن يترك له الدور مسلماً فيه أمره الله ولصناعة محمد عثمان المنظمة المنسقة
وقد كان محمد عثمان يختلف عن الحامولي اختلافاً بيناً. فقد كان الحامولي أقرب إلى الطبيعة من صاحبه، فكان أكثر غنائه ارتجالاً لا يعدُّه ولا يهيئه، وكان صوته الممتاز الحلو النقي، ونفَسه الطويل المشبع، وروحه الصافية المرفرفة. . . كان هذا كله يمكنه من السيطرة على نفوس سامعيه والتحكم فيها والخروج بها من حال إلى حال بما لم يتح بعده إلا لسيد درويش الذي أغناه صدقه وعوضته قوة روحه عن حلاوة الصوت وعذوبته
أما محمد عثمان فكان يربط ألحانه قبل إنشادها، وكان لا ينطلق ولا يتحرر مما ربطه إلا في فترات من ليلته ثم يعود بعد ذلك إلى ما ربطه وقيده. وانقسم المغنون والمطربون في ذلك الحين إلى مدرستين: مدرسة الارتجال التي كان يتزعمها عبده الحامولي وكان من أساطينها محمد سالم العجوز؛ ومدرسة الربط التي كان يتزعمها محمد عثمان وكان من أساطينها يوسف المنيلاوي ثم سيد الصفطي. على أن الربط في ذلك الحين لم يكن مقيداً مكتوفاً كل الكتف وإنما كان - كما تقدم - يفسح للمعنى مجال التصريف والتخليق، متى أتيح له التصرف والتخليق
والذي نريد أن نصل إليه من تقرير هذه الحقائق كلها هو أن مجالات الطرب في الجيل الماضي كانت تعنى بتهيئة جو الغناء للمطرب، فكانت تتملقه بالأجر المغري، وتتزلف إليه بالكأس والطاس، وتحفزه بالتشجيع من جانب المستمعين، والتحدي من جانب المطربين، وهذا كله كان يلهب المغني إلهاباً ويشعل روحه إشعالاً وينقل روحه إلى حال من حالين: فإما نشوة ورضى، وإما ركوداً وغماً. فإذا ما أصابه التوفيق بالنشوة والرضى فقد غنت روحه ورقصت؛ وإذا ما ركد وتخاذل فإنه كثيراً ما كان يعتذر عن الغناء ويتهرب منه. ولا يزال هواة الطرب من المخضرمين يذكرون لنا أن عبده الحامولي كان يفسح في تخته مجالاً لمحمد عثمان ويدعوه إلى الغناء في بعض لياليه، كما انهم يذكرون لنا أن عبد الحي حلمي كان يضرب الغلاظ من مستمعيه أحياناً بطربوشه ويبكي ويصر على إبعادهم عنه وإلا يروغ من (الفرح)
هذا يدل دلالة قاطعة على أن المغنين في الجيل الماضي كانوا يغنون لأنفسهم كما كانوا يغنون للناس، أو إنهم في الحق كانوا يغنون لأنفسهم في مناسبات يهيئها لهم الناس ويدعونهم إليها
ولعله لم يبق في هذا الجيل الذي نعيش فيه من أهل هذا المزاج إلا فئة من المقرئين فهم وحدهم الذين يرتجلون الترتيل، وهم وحدهم الذين (يتفاعلون) مع جمهورهم أثناء إنشادهم وقراءتهم. أما المغنون فكلهم كما نعلم يسترجعون في حفلاتهم ما علمهم إياه الملحنون، وأما الملحنون فكلهم يعدون ألحانهم إعداداً تاماً قبل غنائها أمام الجمهور إذا ما دعوا للغناء أمامه. وليس يشذ عن هذه القاعدة من ملحني اليوم إلا زكريا أحمد ومحمود صبح. فهما وحدهما
اللذان ينطلقان في الغناء بما توحيه إليهما نفساهما. أما زكريا فتنساب نفسه في غنائه بأسلوب مصري رقيق، وأما محمود صبح فتجمع روحه في غنائه بأسلوب تركي متعجرف مكنته منه دراسته التي صرفته عن طبيعته المصرية فأصبح وله لون خاص به في غنائه، ليته كان مصرياً قريباً من نفسه ونفوسنا
ونعود الآن إلى غناء الماضي لنلحظ فيه ملحوظة تعزز ما ذهبنا اليه، ذلك أنه كان غناء شراب وفرح وبهجة؛ وقد نجهد أنفسنا في البحث إجهاداً كبيراً إذا حاولنا أن نعثر فيه على شيء غير الشراب والفرح والبهجة التي كانت تبعثها مناسبات الغناء في نفوس المغنين. وقد كان المغنون في الجيل الماضي يعيشون في أفراح متواصلة متتابعة ولعل القارئ يعجب حين يعلم أن موسراً من الموسرين أراد أن يحيي له ليلة فرحه المطرب الشيخ سيد الصفطي؛ فلما قابله أخبره الشيخ الصفطي بأنه مقيد بتسعين ليلة مقبلة لا يمكنه أن يتحلل من إحداها، فاضطر الموسر أن يؤجل فرحه ثلاثة شهور متتالية. فإذا كان هذا هو حال الشيخ الصفطي الذي لم يكن ملحناً ولم يكن أستاذاً لمدرسة في الغناء فكيف كانت حال عبده الحامولي، ومحمد عثمان؟ إنهما لم يكونا يملكان إلا أن يعيشا في أفراح بعد أفراح. ولقد نضحت أغانيهما بهذه الأفراح حتى ما كان منها يجنح نظمه إلى الشكوى والألم، فقد كانا يغنيان في فرح وفي مرح تستسيغهما المناسبة وإن كان الفن والمعنى يزوَرَّان عنهما
ولكن هذا ليس معناه انهما كانا يغنيان على وتيرة واحدة هي نمط البهجة، وإنما كانت روحاهما تنتفضان أحياناً بالأنين والألم. وقد سجل التاريخ لعبده الحامولي وقفة خالدة من وقفات الفن الرائعة إذ جاءه نعي وحيده في ليلة زفافه وكان عبده هو الذي يحييها بغنائه، فغنى عبده ليلتئذ غناء أسال قلوب سامعيه دموعاً، وعصر نفوسهم دماً، وطبع أرواحهم بطابع أسود خدرهم وهم في مقاعدهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يسائل عن سره أو منشئه، حتى إذا طلعت الشمس شاع بينهم الخبر فلزموا مجالسهم حتى جهزت الجنازة فخرجوا بها مشيعين العروس الذي خفوا ليشاطروه الفرح
هذه هي حال الغناء في الجيل الماضي، وهذه هي حال إمامه عبده الحامولي، وهي كما ترى أقرب الأحوال إلى الغناء الطبيعي الذي يصدر عن النفس الصادقة في لون صادق من ألوان العواطف هو الفرح. فإذا قلنا أن الغناء يكاد ينقرض فإنما نقصد بذلك هذا اللون
الطبيعي أو الأقرب من الطبيعة.
فكيف إذن يمكن أن يُحيا غناء كهذا، أو كيف يمكن أن نحيى بنوع من الغناء ذكرى مغن كعبده الحامولي؟
خطر لحزمة الرؤوس المفكرة التي اجتمعت في وزارة المعارف أن يغني مغن في حفلة الذكرى شيئاً من أغاني عبده الحامولي؛ فأشبه هذا الخاطر خاطر لذيذاً مر برأس صاحب لنا كان صوته يشبه صوت سعد زغلول، فرأى أن يلقي أحد خطب سعد زغلول في حفلة من حفلات ذكراه، ولم يمنعه من تنفيذ فكرته هذه إلا أنه عجز عن الاتصال بأصحاب الأمر والنهي في هذه الحفلات. ولعله لو كان قد وصل إلى أصحاب الأمر والنهي هؤلاء لكان قد استطاع أن يقدم للمحتفلين بذكرى الخطيب العظيم الراحل هذه (النمرة الكوميك). فيدخل على نفوسهم شيئاً من الراحة قد يشعرون بالحاجة إليه خلال ذلك الألم الذي ينتاب نفوسهم حين يذكرون الفقيد.
فهل تريد وزارة المعارف أن تكون لذيذة كصاحبنا هذا حين تريد أن تكرم رجلاً من أساطين الفنانين المصريين؟
أن عبده الحامولي لا يمكن أن يستعاد ولا يمكن أن يسترجع، وليس كل عظيم بمستطاع أن يكرم ذكره بتكريم من نوع موهبته وفنه. فالأمريكان إذا أحبوا أن يذكروا إديسون في حفلة فإنهم لا يستطيعون أن يعرضوا في هذه الحفلة مخترعاً يخترع أمام الجمهور اختراعات إديسون!
إنما هناك وسائل أخرى لتكريم أمثال هؤلاء الذين تتصل كرامتهم بأشخاصهم وذواتهم، فلأمثال هؤلاء يمكن أن تقام التماثيل، وبأسماء هؤلاء يمكن أن تتوج المسارح القومية ومعاهد الفنون. وأما ترجيع فنهم نفسه فمحال إلا إذا كان الفن مربوطاً مقيداً مثل فن سيد درويش فهو الذي تستطيع وزارة المعارف أن تحمل الفرقة القومية على تمثيل رواياته الخالدة.
أما إذا أصرت وزارة المعارف على أن تحيي ذكرى عبده الحامولي بغناء وألحان من المحفوظ عنه فإننا نرجوها أن تتريث كل التريث قبل أن تختار المغنين الذين ستعهد إليهم بإحياء هذه الذكرى الجليلة، وعليها أن تعرف أن عبده الحامولي كان مغنياً صاحب صوت
قوي جميل كامل لا يمكن أن يجود الزمن بمثله إلا بين دهر ودهر، وأنه كان يسلط روحه الصافية على صوته هذا وحده فيتسلط به على سمع الزمن، فهل بين المطربين المصريين اليوم من أتيحت له هذه القوة؟
قد يكون الشيخ علي محمود وحده أشبه الأحياء به. . . فلو أنه راجع مع المخضرمين من المطربين أغاني الحامولي فقد يتاح له أن يوفق إلى صورة من الغناء هي أقرب الصور إلى غناء الفقيد الكريم. أما أصدق الصور وأشدها أمانة فهي لا ريب هذه الصور التي طبعها الفقيد بصوته على (الاسطوانات) القليلة التي عبأها، فأين هي؟. .
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
فروض
للدكتور محمد محمود غالي
تخترقنا جميعاً الأشعة الكونية أو الأشعة النافذة كما يسمونه، أحياء كنا أم أمواتاً، شباباً كنا أم شيوخاً، تنفذ فينا جميعاً بقدر واحد. تُرى هل يًعد هذا التفتت الدائم في أجسامنا الذي يلازمنا من المولد حتى الممات ملائماً لوجودنا ومساعداً على بقائنا؟ أو هو على النقيض من ذلك. أميل إلى الاعتقاد بأنها مُبيدة لنا مهلكة لحياتنا. ومتى كان الهدم من عوامل البقاء، والتفتت مدعاة للحياة لا للفناء؟
إلى المتحف المصري والى الطابق الثالث منه نقلوا حديثاً من المنزل الذي أقام فيه مسيو لاكو المدير السابق لمصلحة الآثار، عشرين مومياء لفراعنة مصر الأقدمين، يمثلون ثلاثين قرناً أو يزيد من أزهى العصور في تاريخ البشر. ويكفي لتعريف هذه الفترة السعيدة التي خلت أن نذكر، أنها الفترة التي كوّن الإنسان فيها معارفه الأولى وعلومه البدائية التي كانت سبباً وأساساً لمعظم ما نملكه اليوم من معارف وعلوم. فالحلقة متصلة إذ كان لهؤلاء الملوك الأولين والمؤتمرين بأوامرهم والآخذين بنظمهم الفضل الأول في كثير مما نعرفه اليوم.
هذه المومياء الهامدة ظلت مستريحة قروناً عديدة، لا يحميها ما حولها من لفافاتٍ عديدة، أو ما يُحيط بها من صناديق محلاة بالذهب والنقوش، من التهدُّم الذرى والتَّفتُّت الداخلي الحادثين حتماً من اختراق جسيمات الأشعة الكونية لها، بقدر ما تحميها طبقات الرمال والصخور التي تعلو الأماكن التي وجدت فيها، فإن هذه الطبقات المفصولة عن سطح الأرض بعشرات الأمتار تمتص هذه الأشعة أو الجزء الأكبر منها.
قليل من التأمل وعود إلى الحساب البسيط يجعلنا ندرك العدد الكبير من هذه الجسيمات التي تخترق هذه المومياء التي لا يحميها الآن من هذا التهدم سوى سقوف المتحف المصري، فهذه القذائف الكونية الدائمة تخترق المومياء الخالدة بمعدل قذيفة على كل سنتيمتر مربع في كل دقيقة، أي أن خمسة آلاف من هذه القذائف الفاتكة تخترق في كل دقيقة كل واحدة من المومياء الممدودة؛ بينما كان لا يخترقها في مثل هذه الفترة وهي في وضعها الأول، مصونة بالرمال والصخور، سوى قذيفتين أو ثلاث؛ وقد لا يخترقها واحدة
من هذه القذائف. وفي ظني أن الذين قاموا بنقلها من مكانها الأولي وأزعجوها من راحتها الابدية، لم يعيروا هذه القذائف الدائمة أية التفاتة، فهم لا يعرفونها. ومن يدري؟ فقد تكون هذه القذائف مدمرة لها على طول الزمن ومتلفة لعناصر وجودها. أو يصح لنا إذن أن نعتقد أنه كان لخوفو منشئ الهرم الأكبر نوع من الغريزة جعلته يشعر بضرورة بناء ضريح في ضخامة الهرم لحماية رفاته من كل عوامل التبديد؟
لا شك أن خوفو وأمثاله كانوا يجهلون الأشعة الكونية؛ وكأنهم عمدوا إلى الاحتياط من تلك الأشعة الكونية التي نلخص في هذا المقال موضوعها، والتي تعد من أعجب ما نعرفه في مراحل العلم الحديث بقوة طاقتها التي تفوق آلاف المرات طاقة أشعة الراديوم وقوة اختراقها للأشياء، فتخترق ما يبلغ سمكه بضعة أمتار من الرصاص. وقد شرحنا كيف يستطيع العلماء تسجيل صور مسارات جسيماتها بعد اختراقها كتلة كبيرة من المادة، وشرحنا كيف يسمعون إنذاراً بمرور قذائفها التي لها أقوى الأثر على المادة التي تخترقها
ونتكلم اليوم عن الفكرة في مصدر أو أصل هذه الأشعة الخارقة لما اعتدناه من إشعاع. ويَجمُل قبل ذلك أن نذكر كلمة أخيرة عن بعض النتائج الهامة في دراسة هذه الأشعة. وهذه النتائج هي مادة لموضوعات مختلفة نكتفي هنا بالإيماء إليها:
الموضوع الأول هو تقسيم العلماء هذه الأشعة إلى نوعين: النوع الأول جسيمات رخوة نتجت عن الأشعة الكونية وليست هي الأشعة ذاتها. والنوع الثاني جسيمات صلبة جزء من الأشعة الكونية نفسها قبل اختراقها طبقات الهواء أو الأرض.
وهذا التقسيم إنما جرى تبعاً لمقدار المادة التي تستطيع الأشعة النفاذ فيها. وللعالم روسي تجارب تدعو للإعجاب في وضع ستائر من الرصاص يعرف بواسطتها أولاً اتجاه الأشعة، وثانياً درجة نفاذها في المادة التي تصادفها وأثرها عليها. وفي ذلك يستعمل روسي عدادات الإلكترونات وغرفة ولسون مجتمعة في تجربة واحدة
الموضوع الثاني هو دراسة تغير هذه الأشعة تبعاً لخطوط العرض؛ ولهذا أثر هام في معرفة ما إذا كان منشأ الأشعة خارجاً عن نطاق المحيط الأرضي. وقد أدت هذه الدراسة إلى أن هذه الأشعة تنقص بمقدار حوالي 14 % عندما تقترب من خط الاستواء. وهذا ناتج من أثر المجال المغناطيسي الأرضي واختلاف شدته من منطقة إلى أخرى. وقد بَيَّن ذلك
كلاي في أبحاثه التي تبَعتها دراسة دولية تولاها العالم كونتون في سنة 1930 إذ قامت 69 محطة مختلفة في المعمورة بدراسة الأشعة. وهذه المحطات منتشرة بين خطي عرض 78 شمالاً و 46 جنوباً. وفي سبتمبر سنة 1933 قام زميلانا بيير رينجيه هامة بين الهافر وبونس إيرس ذهاباً وإياباً حيث سجلا 170 ألف مسار للأشعة الكونية. وفي الـ 170 ألف شعاع التي سجلها هذان الباحثان نرى أن الأشعة الكونية تنقص بمقدار 16 % عند خط الاستواء
الموضوع الثالث دراسة تَغَيُّر شدة الأشعة تبعاً لنظام تعاقب الليل والنهار أي مع الوقت الشمسي. ولهذا أثره في معرفة ما إذا كانت الشمس مصدراً لهذه الأشعة. وقد دلت الدراسة على أن الأشعة لا تتغير مع تغير الليل والنهار. وفي هذا الشكل ترى كيف تتغير شدة الأشعة مع ساعات اليوم.
فالإحداثي الرأسي ويُسمى محور الصادات يبين مقدار شدة الأشعة، والإحداثي الأفقي ويسمى محور السينات يبين الوقت. وفي المنحنى (1) نرى كيف تَتغَيَّر شدة الأشعة مع مرور اليوم دون أن تخترق الأشعة مادة على الإطلاق
وفي المنحنى (2) نرى تَغيُّر شدة الأشعة بعد أن تكون قد
اخترقت 21 س م من الرصاص. وفي الحالتين نرى حوالي
الساعة 12 ازدياداً طفيفاً في الأشعة، وهذه الزيادة نرى أثرها
مرة أخرى في المنحنيين (3) و (4) اللذين يمثلان تَغيُّر
الأشعة بعد اختراقها 1. 5 س م من الرصاص و 3 س م
منه. أما المنحنيان (5) و (6) فيمثلان شدة الأشعة وتغيرها
مع الزمن بعد اختراق 10 س م من الرصاص و 20 س م
منه، ولا نرى فيهما أثراً لأي تَغيُّر في شدة الأشعة بل نرى
ثباتها على مرور الساعات، وهذا يثبت أن الجزء الصلب من
الأشعة الكونية أي الأشعة الكونية الأولى قبل اختراقها الجو
غير مرتبط بالشمس بأي حال من الأحوال
والموضوع الرابع هو دراسة الأشعة مع المجال المغناطيسي الأرضي، وهو دراسة رياضية وطبيعية عويصة قام بها علماء كثيرون نذكر منهم ستورمر ونرى ألا نتعرض له في هذه السطور لصعوبته وعدم فائدته للقارئ
على أن استعراض هذه المسائل ولو على هذا النحو المختصر يفيدنا الآن في مناقشة أصل الأشعة الكونية وسرد كل الفروض التي يعتقدها العلماء في مصدرها.
في نشرات العالم الكبير س. ت. ر. ولسون بين سنتي
1925 و 1929 يفرض أن يكون منشأ الأشعة النافذة هو
المجال الكهربائي الحادث من العواصف الجوية وقد بين أن
الإلكترونات تقذف في هذا المجال بقدر مجموع الطاقة الحادثة
من فرق الضغط الكهربائي بين الغيوم المشبعة بالكهرباء،
وتبلغ هذه الطاقة آلاف الملايين من الفولتات. على أن اختراق
بعض جسيمات الأشعة الكونية أعماقاً من المياه تزيد في
بعض الأحيان عن الـ 500 متر يتطلب طاقة أكبر بكثير من
الطاقة المذكورة. ومن السهل أن نرى أيضاً أنه لا يمكن
بإتباع الرأي المتقدم أن نفسر التغيير الحادث في شدة الأشعة
مع خطوط العرض وهو التغيير الذي سبق أن شرحناه. وعلى
وفق آراء ولسون تقذف الإلكترونات في العواصف لأعلى
السحب المحملة بالكهرباء ثم تنحني مساراتها بوجود المجال
المغناطيسي حتى تصل إلى سطح الأرض. ومع ملاحظة أن
نصف قطر الانحناء لإلكترون له هذه الطاقة المتقدمة لا
يتجاوز 700 كيلو متر وملاحظة أن هذا جزء يسير بالنسبة
إلى نصف قطر الارض، فأنه من السهل أن ندرك أنه لا يمكن
لهذه الإلكترونات أن تكون موزعة بالتساوي حول سطح الكرة
الأرضية، وحيث أن توزيع العواصف نفسها ليس توزيعاً
متساوياً فوق سطح الأرض فانه من الصعب تعليل ثبات
الجزء الرئيسي من الأشعة الكونية ثباتاً لا يزيد التغيير فيه
عن 10001
وما يقال عن الإلكترونات الحادثة عن العواصف يقال عن الإلكترونات الحادثة عن السحب العادية. فهذه وأن كانت أكثر انتظاماً في توزيعها حول الأرض إلا أن الطاقة الحادثة عنها لا يمكن أن تُسبب الطاقة العظيمة الموجودة في إلكترونات الأشعة الكونية. كل هذا لا يمنع أن السحب المصحوبة بعواصف شديدة يمكن أن تكون قسماً من الجزء الرخو في الأشعة الكونية، وقد بين ذلك شونلاند
على أن من الصعب جداً أن نتخيل علة أرضية أخرى تكون منشأ الأشعة الكونية. فمثلاً يستحيل مهما كانت الحالة الكهربائية للطبقات العليا من الجو أن نتصور مجالاً كهربائياً عمودياً على الأرض يكون عظيماً بحيث يكون مستمراً وتكون له مثل هذه الطاقة.
ولو أننا وافقنا على أن يكون منشأ الأشعة الكونية خارجاً عن نطاق الكرة الأرضية فإن ثبات شدتها المتناهي ثباتاً في الزمن يضطرنا إلى أن نفترض أن لها الخواص ذاتها في
الحيز المكون للكون في مجموعه
فالشمس لا يمكن إذن أن تكون مصدراً لهذه الأشعة. كذلك النجوم المكونة للمجرة، لأن هذه النجوم غير موزعة توزيعاً منتظماً حول الأرض. فلو كانت الشمس مصدرها لاختلفت شدتها مع الوقت الشمسي. ولو كانت المجرة منشأها لاختلفت شدتها مع الوقت النجمي. وهذا الاختلاف أو ذاك لا وجود له بالمرة، وبخاصة في الجسيمات الصلبة أو القوية من هذه الأشعة
وما يُقال عن المجرة يُقال عن العوالم الأخرى التي ليست موزعة توزيعاً منتظماً حول الكون المغلق.
على أنه لا يمكن أن يكون مصدر الأشعة المكونات الداخلية للنجوم، لأن طاقة الأشعة في هذه الحالة تصبح ضعيفة لاختراقها كل مادة النجم
ومهما يكن من الأمر فإن مصدر الأشعة الكونية يجب أن يسمح كما قدمنا بتفسير خواص إشعاع طبيعته وقوته واحدة في جميع الجهات حول الأرض. وقد وضع يجيز تولد هذه الأشعة في وقت ابتداء تطور العالم، بحيث أصبحت خواصها الطبيعية مع مرور الزمن واحدة في جميع وذلك بسبب رحلتها المستمرة داخل الكون المغلق
وقد وضح النظرية الاركيولوجية بفكرته في أن الكون في مجموعه لا يكون سوى ذرة كبيرة جداً تشع هذا الإشعاع على طريقة هي فوق طريقة النشاط الراديومي -
أما عند مليكان فأنه يغلب على ظنه أن بعض الحوادث الطبيعية الحادثة باستمرار في المواد الواقعة بين الأجرام السماوية ربما تعطي هذه الدرجة من إشعاع له نفس الخواص حول الأرض.
أما فرض انعدام المادة فهو لا يكفي أيضاً لتفسير إشعاع له مثل هذه الطاقة. ومن المعروف أن الطاقة الحادثة عن انعدام كتلة البروتون تساوي حوالي الألف مليون إلكترون فولت، وهي طاقة أقل من التي نعهدها في الأشعة الكونية.
كذلك ليس من المحتمل أن يكون سبب الأشعة تحول نواة معقدة وثقيلة بانعدامها وانتقال طاقتها إلى الإلكترونات أو الفوتونات، كما أنه ليس من المحتمل أن يكون السبب في الطاقة الحادثة من تكوين نواة معقدة من ذرات أبسط منها، فإن مثل هذه الطاقة تقل أيضاً عما
نعهده في الأشعة الكونية.
ويتساءل أدنجتون لماذا لا تكون هذه الأشعة بقايا تهدم حدث قديماً في المادة وشاءت الأقدار أن تصلنا أخبار هذا التهدم الآن
ويمكن القول أن كل الفروض التي تقدم بها الباحثون حتى الآن لتفسير منشأ وسبب الأشعة الكونية غير ممكنة في ناحية وإن جاز إمكانها في ناحية أخرى.
على أن نظرية العواصف هي النظرية الوحيدة التي ترجع بالأشعة الكونية لسبب مصدره الكرة الأرضية، فإذا لم يكن الدفاع عن هذه النظرية، وهو الأمر الواقع، فإن مسألة أصل الإشعاع الكوني ترتبط رأساً بنشأة الكون
وقد بين لميتر أن الطاقة الكلية للأشعة الكونية مع فرض
توزيعها توزيعاً منتظماً في الحيز تبلغ 10001 من مجموع
الطاقة لكل ما في الكون من نجوم وأجرام ومادة بينها
وعلى كل حال فدراسة منشأ ومصدر هذه الأشعة يبدو حتى يومنا هذا خفياً على الأذهان، وإذا اتضح كما تظهر التجارب الحديثة أن نصف الجسيمات أو أغلبها المكونة لهذه الأشعة العجيبة هي (بوزبتونات)، فإن من المحتمل جداً أن البوزبتون النادر على الأرض هو مكون هام للكون خارجاً عنها.
ومهما يكن من أصل الأشعة الكونية، فأنه عندما نعلم ذلك نكون قد خطونا خطوة كبرى في المعرفة وفي حل موضوع يتصل بمنشأ الكون وسر الخليقة وعظمة التطور.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
الهندسخانة
من هنا ومن هناك
كفاح الدكتاتورين لأجل المعادن - عن ذي سينتفك وركر
تقاس قوة الأمم في هذه الأيام بمقدار ما لديها من الصناعات؛ فالصناعة هي أساس المدنية الحديثة، تستطيع الأمة بها أن تتوفر على المصادر الأساسية التي يتوقف عليها كيانها وهي إحراز الثروة المالية، والمحافظة على الحدود، وزيادة السلاح. . . والصناعة هي السند الوحيد الذي يمكن أن يعول عليه لتحمل أعباء الإدارة الحديثة، وإحراز المال الوفير لتدبير شؤونها. ومما لا شك فيه أن الأمم التي لها شهرة في عالم الصناعة تحرص دائماً على الاحتفاظ بكيانها الصناعي، ولا يتيسر ذلك إلا بوجود الخامات الجيدة التي تتوقف عليها الصناعات.
فإذا أتيح لنا أن تفحص الآلة الميكانيكية لإحدى الطائرات وجدناها تتركب من معادن كثيرة قد لا تقل أنواعها المختلفة عن عشرين نوعاً. ولا يمكن أن يضحي بمادة واحدة من المواد التي تتركب منها دون أن نضحي بشيء من قيمتها.
قد يقال عن تغيير الخامات واستبدال مواد صناعية بها، ولكن هذا إذا صح فإلى حد محدود، إذ أن الخامات المعدنية لها قوى وخصائص لا تغني إحداها عن الأخرى كل الغناء
وتستخرج المعادن من المناجم الخاصة بها، فإذا أعوز وجودها لا يمكن الحصول على ما يقوم مقامها في الصناعة. فإذا لم توفق الدولة إلى الحصول على معدن لصناعة من الصناعات، فإن الخسارة لا تقف عند ضياع هذه الصناعة فيها، ولكنها تقع على نظام المملكة على وجه العموم.
فالأمم التي تريد التوسع والنفوذ، يجب أن تستحوذ على أكبر مقدار من الخامات لصناعاتها. فإذا كان الأمر كذلك، تبينت لنا تلك الصلة التي تربط بين النشاط السياسي والحصول على الخامات.
فإذا دققنا النظر في مركز إيطاليا مثلاً، وجدنا أن هذه الأمة لا تملك مورداً واحداً لنوع من المواد المعدنية. وليس في مقدور موسوليني أن يخلق من إيطاليا أمة قوية إذا اتكل على الزراعة وحدها، فهو يلجأ إلى استصدار الفحم والزيت والحديد والنيكل والمغنيسيوم والصفيح وهي المواد الأولية للصناعات، من بلاد غير بلاده
ولم تكن بلاد الحبشة قد عرفت جيولوجيا قبل الفتح الايطالي، ولكن قد تبين أخيراً أن هذه البلاد تحتوي على أكبر مناجم للبلاتين والذهب والفضة والنحاس والحديد والبوتاس والرصاص والفحم والزيت (وهو أهم ما تصبو إليه إيطاليا) وهذه مواد ذات قيمة لا تقدر، وهي ولا شك تستحق ما بذل لأجلها من المشتقات. فلا يصح أن يقال أن التوسع الإيطالي في تلك البلاد كان يقتضيه ازدياد عدد السكان في إيطاليا مع ما هو معروف من رداءة الجو في تلك البلاد، وعدم ملاءمته للإيطاليين بحال من الأحوال
أما ألمانيا فهي تحصل على ما يكفيها من الفحم، إلا أن ضياع الألزاسي واللورين جعلها تتكل على بلاد أخرى في الحصول على الحديد والذهب. وقد استورد منها في العام الماضي 20 مليون طن. ولا شك أن ألمانيا يهمها أن تطمئن على توريد هذه المواد إبان الحرب، ولا يمكن ذلك إلا إذا وضعت البلاد التي توردها تحت إشرافها (بقصد تشيكوسلوفاكيا)
أما إسبانيا فماذا تقدم للأمم التي تهتم بها سياسياً؟ مما لا شك فيه أن الثروة المعدنية لتلك البلاد لا يستهان بها، فهي تحتوي على موارد عظيمة للحديد الممتاز والصلب والنحاس وغيرها من المعادن التي تستوردها ألمانيا من الخارج. . .
وهكذا حيثما وجهنا النظر وجدنا المواد الصناعية هي المحرك لتلك الأمم والحافز لها على التطاحن والحرب
الحب والخوف - عن مجلة (جون أولندن)
لكي نتخلص من مخاوفنا في الحياة، يجب علينا أن نكون على وفاق معها. قال أحد الحكماء:(إن الحب الخالص يزيل الخوف، إذ أن الخوف يناقض الحب. ولا يوجد قول أصدق من هذا القول). فنحن حين نكون على وفاق مع الحياة، معارفها وتجاربها وكل خليقة فيها فلا شيء نخافه. إذ إننا في هذه الحالة نعيش مع كون صديق. . . وكما يقول إدوارد كاربتتر في شعره المنثور: تسرع كل القوى العلوية إلى تحقيق مسراتنا الأبدية.
فإذا دب الحب إلى قلب الإنسان، واتصلت وشائجه بشأن من الشؤون، أصبح هذا الشان قريباً من نفسه كل القرب، فهو لا يخيفه ولكنه يسره ويؤدي به إلى السعادة.
ليس من العسير أن نوثق عرى الألفة مع الكون حتى ترتبط نفوسنا بكل ذرة فيه. وعند
ذلك نرى أن كل شيء يعما لأجلنا - بدل أن يعمل ضدنا - ويبحث عن سرور دائم يشملنا فلا نخاف شيئاً تبتلينا به الحياة، لأننا نعلم أن الحياة التي توالينا ستوصلنا إلى ما نريد، وتقودنا إلى سعادة أكبر مما كنا نظن. إن كل شيء يعمل لسعادة هؤلاء الذين يعملون مع الله! يجب أن نكون أصدقاء للكون، أصدقاء للحياة وتجاريبها، أصدقاء لكل خير، أصدقاء لكل نظام واتساق لنكون في وحدة تامة مع الحياة.
إن الحياة لحن عظيم يوقعه الحب، فلو عرفنا أن نؤدي دورنا في هذا اللحن، وسرنا على توقيع نغماته الصحيحة، كانت حياتنا جزءاً من لحن الحياة العظيم، فتفارقنا المخاوف جميعها إذ ماذا عسى أن تفعل بنا الحياة سوى أن تزيد من سعادتنا وتمدنا بالسرور الأبدي؟
إن الانسجام الأبدي والنظام يشملان الكون على الدوام، فعلينا أن نضع أنفسنا وفق إرادتهما ونسايرهما. فنظام الحياة لا يمكن أن يتبدل ليسرنا بشيء أو يضرنا به، وليس من الضروري أن يكون كذلك. ولكن الواجب أن نساير نحن الحياة، عند ذلك نجد أن لا شيء يخيفنا فيها، لأننا نكون قد دخلنا في وحدة الكون الذي ارتبطنا وإياه بالحب والوئام.
حول مشكلة العاطلين في أمريكا - عن ذي لسنر الإنجليزية
يظن الكثيرون أن أمريكا أمة غنية لا يعرف الفقر إلى أهلها سبيلاً. ويعتقد الكثيرون أن مستوى المعيشة في هذه البلاد يمتاز عن غيره في سائر بلاد العالم؛ ولكن قل أن يعرق هؤلاء أن في هذه الأمة التي يبلغ عدد سكانها مائة وثلاثين مليوناً من الانفس، عدداً غير قليل من أبنائها يعانون أشد أنواع الفاقة والفقر.
وأستطيع أن أقول إن نسبة هؤلاء البائسين الذين يعيشون في فقر مدقع في بلاد أمريكا أكثر منها في بريطانيا العظمى. إذ أن عدد العمال العاطلين في أمريكا يزيد كثيراً على عددهم في بريطانيا. وإذا كان هؤلاء العمال لا يعرف عددهم بالضبط إلى الآن، فهم لا يقلون على أي حال عن عشرة ملايين من سكان تلك البلاد. ولا شك أن للنظام الإداري والاجتماعي في أمريكا أثراً كبيراً في هذا البؤس الذي يشمل عدداً غير قليل من الأهلين، وعلى الأخص نظام المدن والولايات الثماني والأربعين، فإن هذا النظام المحلي في أمريكا لا يزال على جانب عظيم من الجمود.
وقد كان الرئيس روزفلت أول من فكر جدياً في إصلاح هذه الحال. ولا غرابة فهذا الرجل
معروف بمشروعاته العظيمة وخططه الناجحة في إصلاح تلك البلاد. وقد انتخب رئيساً للولايات المتحدة سنة 1933 في أشد الأوقات وأحرجها بالنسبة لحالة البلاد التجارية. فقلب وجوه النظر لإصلاح هذه الحال، وقد كان أهم المشروعات التي وضعها في هذا الصدد، هو مشروع (مساعدة الضرورة) الذي شمل اتحاد البلاد، وانتفع به ملايين من العمال العاطلين لمدة سنتين.
وقد كلف الحكومة هذا المشروع 150 مليون من الجنيهات، وهو مبلغ ليس بالكثير لإحياء أمة. ولم يكتف روزفلت بهذه التجربة التي استفاد بها عدد كبير من السكان، فأوقف قانون الضرورة وأحل محله نظاماً دائماً للعمال العاطلين. وقد بذل في هذا الشأن أعظم مجهود رآه العالم في مثل هذه الأحوال. . . فأعلن أن حكومة الولايات المتحدة لا تتحمل كل هذه الحاجة، ولا تستطيع أن تقوم بأود كل بائس أو مسكين، ولكنها ستأخذ بيد العمال القادرين الذين لا يجدون لهم عملاً، لا بإمدادهم بالمال ولكن بإيجاد عمل دائم لهم
إن نظام إعانة العمال العاطلين في إنجلترا لم يرق روزفلت، فأعلن أن أمريكا لا توافق على نظام الإعانات المالية بحال من الاحوال، لاعتقاده أن إعطاء المال بدون عمل مفسدة للأخلاق.
وإذا كان لابد من المعونة فهي تعطى في حالات المرض، ويمد بها العجائز والأمهات ذوات الأطفال.
وقد أبدى روزفلت شجاعة عظيمة في تنفيذ هذا الرأي، فاستدعى صديقه مستر هاري هوبكن وهو رجل ذكي قضى حياته في ممارسة الأعمال، وعينه وزيراً وكلفه بإيجاد سلسلة من الأعمال العامة في البلاد، لتشغيل العمال العاطلين من ألسكا إلى بنما، ولم يقيده بقيود كثيرة، ولم يشترط عليه شروطاً ثقيلة، ولكنه حتم عليه أن يجعل سائر الأعمال التي يقوم بها هؤلاء العمال نافعة للدولة.
وقد قام مستر هوبكن بهذا العمل بكفاية وجدارة وأوجد في الحال أعمالاً دائمة لثلاثة ملايين من العمال العاطلين. ونستطيع أن نؤكد أن هذه الأعمال على جانب كبير من الفائدة للبلاد.
ومن أهم هذه الأعمال وأكثرها طرافة تسخير الكتبة الذين لا عمل لهم في عمل مراجع لجميع الأعمال الفنية في أمريكا، وتسخير النساء في عمل ملابس للعمال العاطلين، وإنشاء
مسارح للممثلين والفنانين العاطلين. هذا عدا الأعمال الزراعية والمنشآت والمؤسسات التي تتطلبها البلاد. وقد أنفقت الحكومة الأمريكية مبالغ طائلة في تنفيذ هذا المشروع، وهي وإن كانت لا ترى أن إيجاد أعمال لهؤلاء يكلفها أموالاً أكثر من التي تتكلفها لو اكتفت بإعطاء المعونة المالية لهم إلا أنها تعتقد أن في عملها هذا محافظة على كرامتهم ورعاية لأخلاقهم.
البريد الأدبي
1 -
(مناوأة الخدر والنعاس) - وضع الشيء موضعه
في العدد السابق من الرسالة ختمت التعليق على محاضرة حافظ عفيفي باشا بهذه الجملة: (أما سئمتم الخدر والنعاس؟). وكان غرضي التعريض بقناعة من بأيديهم أمر الثقافة في هذا البلد بـ (الموظفين المخضرمين) مع إهمالهم الشباب القادرين المستنيرين.
وأما (وضع الشيء موضعه) فيدخل تحته كلامي على دار الآثار العربية وعلى استبعاد أهل الكفاية عندنا.
وعلى هذا المحورين سيدور بعض ما أنا كاتب في هذا الباب من الرسالة؛ وذلك بعد استئذان صاحبها وهو ممن يقصد وجه الإصلاح. ولن أطلب فيما أكتب غير الحق فلا أوثر هوىً ولا أخشى غضباً.
2 -
فتور الحركة الأدبية في مصر
من غريب الاتفاق أن يصرح الأستاذ توفيق الحكيم في العدد السبق بنُعاس الأدباء إذ يقول: (كل شيء (يعني الكتب والتأليف) يمر في فتور. . . العلة البسيطة، ما من أحد في هذا البلد يبدو عليه التحمس الملتهب لشؤون الفكر والأدب. إن علة الفتور هي الأدباء أنفسهم. . . إنهم يكتبون في الأدب وكأنهم ناعسون. إن أقلامهم لا تثير في جو الفكر حراكاً. وهنا الفرق بين أدبائنا وأدباء أوربا).
إن يكتب الأدباء (كأنهم ناعسون) ذلك لا يقع موقع العلة، بل ذلك مظهر من مظاهر الفتور أو قل مظهره الأسطع. إنما العلة تذهب إلى ما وراء هذا. العلة في انطواء كل واحد من الأدباء على نفسه وتشبثه بأسلوب واحد وتهاونه بالقارئ.
ترى الأديب المصري لا يعنى بما يجري حوله كأنه المؤلف الفرد. على أن الأديب سجلّ عصره إذ يدون مجرى التأليف، وينبه الأذهان إلى كتاب أو منحى أو مذهب أو ظاهرة اجتماعية أو ضيق معنوي. ولربما فطن أديب إلى ذلك فإذا به في غالب الأمر وأكثر الحال ينوه بصديق أو يقع في عدو أو يهمل كتاباً من الكتب جهلاً بفنه أو إنكاراً لنفاسته أو اتقاء لصاحبه أو تسامياً. أما التسامي فيدل على ذهاب بعضهم بأنفسهم على كل أحد وذلك من باب الغرور، وقصة الغرور معروفة. وأما الاتقاء فيدل على ضيق الصدر بالنقد، ومردّ هذا
إلى الحداثة في إقبال أمّةٍ على صناعة التأليف. وأما إنكار النفاسة فمرجعه إلى خفة الثقة بالنفس وما ينشأ عن ذلك من خشية المنافسين. وأما الجهل بفن الكتاب فلتشبث الأدباء بأسلوب واحد.
وتشبث الأدباء بأسلوب واحد أن ينجذبوا إلى طريقة من التأليف أو يهيموا بأدب من الآداب، فيقفوا عندهما ظناً منهم أن ما يليهما أو يخرج عنهما لا وزن له.
وأما تهاون الأديب بالقارئ فملمسه في تلك الكتب التي تخرج للناس وإن هي إلا طائفة من (المسترسلات) مجموعة من المقالات اللاحقة بفن الإنشاء (بمعناه المدرسي) فلن يزال الأدب عندنا قاعداً حتى يدرك الأديب أن المقالات الإنشائية لا تسوّى كتاباً: المقالات للجمهور الضخم، وفيه الأستاذ والبقال وفراش الوزارة، والكتاب للقراء. ثم إن المقالات تهبط بذوق القراء إذا كانوا من الغافلين وتفتُّ في نشاطهم إذا كانوا من العارفين. . . الكتاب ينشر ليبقى فيما أعلم، والمقالات لتذهب، على الغالب. وكل ما تعده للبقاء يستلزم الروية والاجتهاد والمراجعة بل الخلق، والخلق لا يواتيك كل يوم.
إني أكره أن أوافق غيري على أن القراء المصريين لا يقبلون سوى أدب التسلية والإنشاء التعليمي. فإني - وان عرفت جناية منهج دنلوب وأعوانه على نشاطهم الذهني - لأعتقد أن فيهم من يرغب عن الشعر الذي لا تهب فيه عاصفة، ولا يصفق موج، وعن النقد الآخذ بالظواهر دون البواطن، وعن القصة المسرودة سرداً، وعن المسرحية الباكية أو المهذِّبة، وعن المقالة العابرة كما يُقال اليوم، وإن قلتَ: أتحرمني سائر القراء؟ قلت: لك ما تشاء، ولكن الأدب لا يحيا على أيدي قارئ يفتح الكتاب ليستعين به على ركوب قطار السكة الحديدية أو على إغماض الجفن إذا كان ممن يشكون الأرق.
هذا ومن مساوئ العلة الأولى - وهي انطواء الأديب على نفسه - أن أدباءنا يعوزهم التماسك المعنوي. فهذان حادثان كريهان وقعا هذه السنة لأديبين؛ فلم يعضد الأول إلا واحد، وأما الثاني فمن نصره؟ أين الغضب للفكر الحر؟ ألا عسى أن يذكر أدباؤنا أن الفرد مستضعف.
كل ذلك يعلل فتور الحركة الأدبية. ومجمل القول أن الكتاب لا يحدث حدثاً إلا في الندرة، إما لإغفال حملة الأقلام له أم لدقة شأنه؛ وأن القارئ الجدَّ لا يكاد يصيب أدباً رفيعاً يلهج
به، وأن جمهرة الأدباء لا يضمون أصواتهم بعضها إلى بعض حتى يُحس الناس انهم مستيقظون.
بشر فارس
حفلة تأبين الملك غازي الكبرى في بغداد
كان يوم الأحد 14 مايو من أيام بغداد الغر. وما أكثر الأيام الغرّ في بغداد! وكانت حافلة بوفود العربية من كافة أقطارها. وكان الناس في كل ندىّ وقهوة ومنزل مصغين إلى صناديق الإذاعة التي لم تنقطع منذ الغداة الباكرة إلى ثلث الليل عن بث الخطب والكلمات والقصائد والمقطوعات تتخللها آيات الذكر الحكيم يتلوها المشيخة من قراء بغداد، وعلى رأسهم القارئان الأشهران الحاج محمود عبد الوهاب والمّلا مهدي
أما الحفلة الكبرى التي شدت إليها الرحال، فقد أقيمت في (بهو الأمانة) في منتصف الساعة الرابعة فافتتحها الملا مهدي بتلاوة آيات (وما محمد إلا رسول) وكان موفقاً في اختيارها، ثم أعلن عريف الحفلة الأستاذ السامرائي مدير الدعاية والنشر أن الكلام لفخامة نوري السعيد باشا الذي رحب الضيوف، وتكلم عن العرب في الجاهلية ووصف ما كانوا عليه من تأخر وجهل وما صاروا إليه بعد اتباعهم محمداً من التقدم والعلم، وعرض لوفود العراق على النبي صلى الله عليه وسلم ووصف هذه الوفادة بأنها ابتداء الصلة بين العراق والأسرة الهاشمية. ثم تكلم عن أثر العراق في نشر الإسلام وصلتهم على الأيام بهذه الأسرة الماجدة، وخلص إلى الكلام على الملك حسين وما قام به من أعمال وعلى ابنه وحفيده عليهم رحمة الله. ثم صرح بأن العراق سيواصل العمل في سبيل القضية العربية، وختم كلمته برفع الشكر إلى الأمة العربية الممثلة في وفودها.
ثم قدم العريف دولة لطفي الحفار بك رئيس الوزارة الشامية السابقة الذي ألقى كلمة طيبة بيّن فيها عظم الفاجعة بغازي، وأثر الحسين وأسرته في تاريخ العرب، وذكر بالشكر موقف الملك غازي من الشام شماله وجنوبه؛ وأعلن أن الشام وأهله سيبقون ذاكرين له شاكرين، وصرح بوحدة المشاعر والأماني بين البلدين
ثم قدم سعادة حمد الباسل باشا فألقى كلمة افتتحها بذكر الاتفاق في الموضوع والفكر في
الخطب كلها، وأن ذلك يدل على اتفاق العواطف والشعور، ثم تكلم عن ثورة الحسين وعن أسرته إلى أن انتهى إلى غازي وفيصل الثاني (الصغير بنفسه الكبير بأمته) وأثنى على حسن اختيار الوصي وعزى العراق باسم مصر وَرَجَا لَهُ التقدم والمجد
ثم تكلم جمال بك الحسيني مندوب اللجنة العربية باسم فلسطين فبيّن أن الكوارث تنشئ القوة وأن امتحان العراق بالنكبات لم يكسبه إلا قوة وصبراً. ووصف روعة المصاب بغازي وآلام البلاد العربية ولا سيما فلسطين وعمل غازي في سبيلها، وأعلن أنها لن تنسى عمله ولن تحيد عن مبدأ جده الأعظم الرسول المصطفى
ثم ألقى الأستاذ علي الجارم مندوب وزارة المعارف المصرية قصيدة دالية افتتحها بالبكاء على النضار الحرّ (فما أغنى البكاء ولا أجدى)، وعلى النبات الذي ذوى، وجذوة النار التي انطفأت ووصف (لوعة مكلوم الفؤاد) وذكر أنه الدهر (هو الدهر ما بضت بخير يمينه، يجمعنا سهواً (؟) وينثرنا عمداً) وأنه لا يفرق بين ملك وعبد، ووصف المصاب أوصاباً عامة تنطبق على كل مصاب، وتصلح لكل ميت، فهدّ (على عادته في كل رثاء) هدّ العلياء، وأطفأ نور الشمس، وفرق الأنفس، وأبكى الترك والهندا (ولا تنس أن القافية دالية). أما ما يخص به الراحل الكريم ويصفه به، فهو أنا فقدناه ريان الشباب، وأن شمائله تفيض مسكاً وآثاره نداً، وأنه كان حساماً بيد الله فصارت الأرض له غمداً، وذكر اسمه بعد فقال:
يقودهم الغازي إلى خير غاية
…
فأكرم به ملكاً وأكرم بهم جندا
كأن غبار السيف في لهواتهم
…
سلاف من الفردوس مازجت الشهدا
وجاء في القصيدة أبيات حلوة جيدة، ولكنها على حواشي الموضوع كقوله:
لهم في سجل المجد أول صفحة
…
كفاتحة القرآن قد ملئت حمدا
ومن كتب المجد المبين بسيفه
…
على جبهة الدنيا فقد كتب الخلدا
ثم خاطب (حمامة وادي الرافدين) وسألها الترفق ودعاها إلى الصبر، وتكلم عن دجلة والنيل وجاء بأبيات حلوة ثم أحس بأنه لم يقل إلى الآن شيئاً عن الملك غازي بالذات فعاد يصفه. . .
مضى الهاشمي السمح زين شبابهم
…
وأعرقهم خالاً وأكرمهم جدا
فتى تنبت الآمال من غيث كفه!!
واكتفى بذلك، فانتقل إلى وصف سفره إلى بغداد والقلب واجف، وسلوكه الصحراء، وعده الساعات وسأمه، وأنه جاء يقضي للعروبة حقها. ثم ختم قصيدته بالسلام على غازي وعلى الذي من بعده (كما كان يقول المتقدمون. . .) وقد كان إلقاؤه مؤثراً. وأسلوب القصيدة حلو سلس، وأن كانت في غير الموضوع، وكان في الإمكان رد معانيها إلى مواضعها من الدواوين المطبوعة. . .
ثم قرأ الأستاذ بهجة الأثري المفتش في وزارة المعارف كلمة معالي الدكتور هيكل باشا الذي أعلن أسفه على حرمانه من حضور الحفلة، ووصف أثر الأسى في جمع القلوب، وبين أن العرب كلهم أسرة واحدة كان الفقيد من أقطابها وإن الفاجعة فيه عظيمة، إذ فقده شعبه ملكاً، وفقد ابنه أباً براً. وتكلم عن اتجاه العراق إلى الوحدة العربية، واستشهد بحديث له مع فخامة نوري السعيد باشا، ثم بين رجاء العرب في العراق ومليكه الجديد، ومشاركة مصر إياه في آماله وآلامه
ثم قرأ طالب مشتاق بك طائفة من البرقيات الواردة من رفعة النحاس باشا من مصر، وسعادة الدكتور شهبندر من دمشق، والعشماوي بك، وخليل ثابت بك، والأستاذ خليل مطران من مصر، وعصبة العمل القومي من دمشق، والأستاذ صبري العسلي، ومعالي شكري بك القوتلي.
ثم ألقى الأستاذ الشيخ يوسف الخازن كلمة لبنان، فبيَّن أن روابط الجهاد تؤلف بينه وبين العراق، وذكر فضل البيت الهاشمي على العرب، وأن قد (تحدث به الركبان في الحل والجزم!) ووصف شباب غازي وضمّن كلامه أبياتاً في الشباب، ووصف جماله وذكر أن الله جميل يحب الجمال. . . وبيّن موقفه من الفتنة الاثورية بكلام كله استعارات ومجازات وتضمينات شعرية. . . وشبه غازي بهنري الرابع الذي وصفه شاعر بأنه أخذ الملك بالإرث وبالفتح معاً؛ وشبه فيصل الصغير بلويس الرابع عشر الذي ولى الملك صبياً ورجا لَهُ مثل أيام لويس، وكانت كلمته حافلة بالمعاني، وفيها وصف للفقيد.
ثم ألقى السيد بهاء الدين طوقان قصيدة الشاعر الشيخ فؤاد باشا الخطيب وهي لامية أولها (الذكر باق والعروش تزول) وصف فيها نشأة غازي في أرض الحرم، ونخوته ونفسه
الأبية. ووصف حياته بأنها حلم أعقبه حيرة وذهول، ووصف حزنه على الفقيد، وتمنى أن يكون له مزامير داود ليرثه ولكنه عاجز، ووصف عيه وعجزه وتمدح بأنه الطليق الحر، ولكنه غدا اليوم مقيداً. والقصيدة قصيرة أشبه بمقطوعة من شعر الخطيب منها بقصائده الطوال
ثم ألقى مندوب الأزهر كلمته فافتتحها باسم الله، وانفرد بهذا الافتتاح المبارك دون سائر خطباء الحفلة، وبين أن للحياة مراحل أربعاً كل واحدة أوسع من التي قبلها وأطول مدة، وهن حياة الجنين وحياة الدنيا وحياة البرزخ وحياة الخلد في النعيم أو الجحيم. وتكلم عن الوحدة الإسلامية وأنها في وسائل السلام العام، وبيّن مبلغ الفجيعة بغازي والأمل في فيصل، ودعا إلى القوة ونفي اليأس. وكانت كلمة طيبة ولكنها كانت أشبه في مفتتحها ببحث علمي منها بخطبة تأبينية
ثم ألقى الأستاذ أكرم زعيتر من فلسطين كلمة حماسية قوية وصف فيها جهاد فلسطين، وتكلم عن اهتمام المليك الراحل بقضيتها، وعرض صورة خيالية مؤثرة لليالي المليك التي أحياها مفكراً في فلسطين وتوهم حديثاً بينه وبين أهله، واستنجد العراق باسم فلسطين، وطلب لها انتداب العراق وحمايته؛ وذكر أن الأمل في فيصل الصغير، ومدح حكومة العراق وشعبه.
ثم ألقى الأستاذ سليمان الأحمد (بدوي الجبل) قصيدة دالية بدأها بصور خيالية، وصف فيها مصرع الشمس، وجعل حمرة الفجر مقتبسة من دم غازي. ووصف عرس الجنان، وسدرة المنتهى. ثم وصف كيف ضمت آلام فتاها الشهيد وصور روعتها وحنانها، ووصف بغداد (دنيا الرشيد، تفني الحضارات، وتبقى كالدهر دنيا الرشيد)، وكيف لاحت فهتف الهاتفون فجنت السيوف، وانتخت في الغمود)، وانتقل إلى ذكر غازي:
وتجلى غازي فكبرت الدنيا
…
وقال الجلال هل من مزيد
وبيمناه راية الوحدة الكبرى
…
فميدي يا راية الله ميدي
ووصف عيد المليك، وصوّر المهرجان في دمشق، وما أعدت له من زهر الغوطة وعطورها. ثم ذكر كيف كان ذلك كله حلماً وانطوى، (فمن رأى النسر بادرته المنايا، فهوى وهو ممعن في الصعود). وبين روعة الشام لجلال الحادث:
أشفقوا أيها النعاة على الشام
…
ولا تجهروا بنجوى البريد
فربما كان كذباً، ربما كان اختلاقاً. ثم تحقق الخبر، ولم يبق من شك فسألهم أن (أذيعوه يرجف البر والبحر، واحملوه إلى ابن حمدان، وألموا بخالد وأمية وغسان. . . ثم انتقل إلى ذكر الملك الطفل فجعل له:
تاج بغداد والشام ولبنان
…
وبحر للروم طاغ عنيد
أيها البحر بعض تيهك لست للروم
…
(أنت للملك نضار بتاجه المعقود)
أيها البحر أنت مهما افترقنا
…
ملك آبائنا وملك الجدود
وبين أنه: (هاشمي الهوى أحب فما داري، وعادي على هواهم وعودي) - وكانت القصيدة على الجملة أحسن ما ألقي في الشعر في هذه الحفلة، وإن كانت في أسلوبها دون الجارمية وقد اختتمها بذكر الوحدة:
ليس بين العراق الشام حد
…
هدم الله ما بنوا من حدود
ووصف جيش العراق الذي يغزو قبة الفلك. . . وتسجد له الدنيا. . . وجعل الشام في ذمة الوصي على عرش العراق وذمة العراق. . .
ثم ألقى الدكتور عبد الوهاب عزام كلمة الجامعة المصرية فوصف كيف شجاها الخطب، وبين التعاون بين القطرين على بناء المجد، وذكر روعة الخطب وعظمه، ولكنا أعظم منه لأننا بنو الشدائد، وعرض إلى عبرة الخطوب وثمراتها في جمع الكلمة والوحدة، وأعلن أن هذا المصاب مصاب المسلمين كلهم، وختم كلمته بمقطوعة شعرية جيدة، بين فيها أن الرخاء بعد الشدة، وأن البدر يبزغ من بين الغيوم، وأن ضحك الأرض من بكاء السحب، وبعد غيض الماء فيض دجلة، وأن في كل خطب للفراتين دعوة إلى المجد والقوة والحياة. وكانت كلمة طيبة بإلقاء أطيب.
ثم ألقى الأستاذ الشريقي قصيدته فافتتحها بوصف حزنه، ونضوب دمعه، وأثر الحزن في دجلة:
وما الحزن إلا ما ألم بدجلة
…
ففاضت دموعاً فهي تندب غازيا
وجعل غناء الأطيار مراثياً، والاقمار تبكي مؤملاً: أطلّ على الدنيا هدى وأمانيا. ووصف غازي وصفاً مجملاً:
فلله من أدى الأمانة حقها
…
ووهّج للضوء الذي كان خابيا
وأنه تمرس بالأخطار، وأنه فتى الأمل المزهو، وأنه خير من قاد العتاق المذاكيا، وأنه هو الفجر إشراقاً، وله الهمة القعساء، وطلب لقبره سقيا الغيث:
ويا لشهيد المجد حياه هاطل
…
من الغيث لم يبرح على القبر هاميا
في أوصاف هذا سبيلها، ثم عرض للأمل ببغداد وأنها:
تواثب دهر العرب حتى ترده
…
وقد كشفت عنه الأذى والعواديا
والقصيدة من باب الجارمية وإن كانت لا تحمل مثل أسلوبها وليس لها سلاستها وحلاوة ألفاظها
ثم ألقى الشاعر اللبناني الأستاذ شبلي الملاط قصيدة وصف فيها الفاجعة بغازي أحسن وصف، ولكنه لم يملك ناصية الأسلوب ولم يستطع أن يجعل ألفاظه كمعانيه فهو على الضد من الجارم، وانتقل من وصف الفاجعة التي حدد تاريخها وصور دقائقها إلى الكلام على فيصل:
بدر العروبة وابن عم محمد
…
نسباً وأعرق دوحة ميلادا
وأعاد أيام الرشيد وتاجه
…
واستصرخ المجد القديم فعادا
ثم انتقل إلى غازي ووصف أخلاقه وأنه يلين عند اللين ويشتد عند الشدة:
وتثور ثورة نفسه إن حاولت
…
أيدي الغريب لقومه استعبادا
ثم وصف فلسطين وأطال ثم خلص إلى الكلام على نصرة غازي إياها، وعرض لذكر فيصل الصغير وندائه أباه، وتفتيشه عنه في سريره، وذكر عبد الإله والعراق ولم ينس أن يتحدث عن نفسه وأن يتشبه بـ. . . هوميروس!
ثم ألقى الأستاذ اليعقوبي قصيدة طويلة جداً ليس في مبناها ولا معناها ولا إلقائها ما يذكر بالجودة. يقول فيها:
أبا فيصل أحبب بها لك كنية
…
ورب رجال لا تحب كناها
وجاء فيها (وأسفرن ربات الحجال) على لغة (أكلوه البراغيث)، وجاء فيها (ولا مرحباً في نهضة أو قضية إذا كنتم لا تحملون لواها)، وكان خيراً لو ختمت الحفلة بشبلي الملاط. ثم ختم الحفلة فخامة رئيس الوزارة العراقية بالشكر والدعاء
(بغداد)
(ع. ط)
جمع الباسل
قال فاضل مشهور في قصيدة في هذه الأيام:
طرحنا رداء اليأس عنا بواسلاً
…
وأن هزنا يوم العراق وأن أدّا
فجمع (باسلاً) على (بواسل) والبواسل للباسلة، لا للباسل، ولهذا البُسْل - كالبُزْل - والبسلاء، وفي الصحيح الباسلون. قال (الكتاب): (وإذا لحقت الهاء فاعلاً للتأنيث كسر على فواعل، وكذلك أن كان صفة للمؤنث ولم تكن فيه هاء التأنيث وإن كان فاعل لغير الآدميين كسر على فواعل وإن كان لمذكر أيضاً وقد اضطر فقال في الرجال وهو الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
…
خضع الرقاب نواكس الأبصار)
وقد شذت شاذات ذكرها الصحاح والتاج. قال الأول: (أما مذكر ما يعقل فلم يجمع عليه - أي على فواعل - إلا فوارس وهوالك ونواكس، فأما فوارس فلأنه شيء لا يكون في المؤنث فلم يخف فيه اللبس، وأما هوالك فإنما جاء في المثل فجرى على الأصل لأنه قد يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها، وأما نواكس فقد جاء في ضرورة الشعر) وقال الثاني: (قد جاء أيضاً غائب وغوائب، وشاهد وشواهد، وفارط وفوارط، وخالف وخوالف)
وإن قال أدباء بسلاء: (إن بواسل كفوارس شيء لا يكون في المؤنث فلم يخف فيه اللبس) فجواب هذا القول عند (العربيات المصريات) البواسل. . .
محاضرة هامة في جمعية المهندسين الملكية
ألقى الأستاذ الدكتور محمد محمود غالي من مصلحة الطبيعيات محاضرة عن الأشعة الكونية حضرها كثير من المهندسين والعلماء يتقدمهم صاحب المعالي محمد شفيق باشا وزير الأشغال السابق ورئيس الجمعية الذي أهتم بموضوع الأشعة منذ العام الماضي عندما طرح الدكتور غالي بدار الجمعية أبحاثه القيمة عن طمي النيل، فطلب منه أن يحاضر زملائه المهندسين عن أحدث ما يعرفه في العلم التجريبي
والدكتور غالي محاضر ممتاز بتبسيط المواضيع العويصة وبمهارة التحليل العلمي وقوة الاستنتاج وعظمة الاستقراء.
والرسالة تقدم لأحد أفراد أسرتها التهنئة لما يصادفه في جميع محاضراته من نجاح
رسالة النقد
5 -
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
كان يصح أن أجعل موضوع حديثي اليوم ما أفضى إليّ طالب بالسنة التوجيهية بإحدى مدارس وزارة المعارف بالقاهرة، فقد جلس الطالب إلى جانبي في بعض مراكب (الترام) وجعل يشكو إليّ (على غير علم بأني ناقد كتاب البخلاء) من أنه قد يعرض للطلبة توقف في فهم بعض أغراض الشارحين للكتاب فيبدو لهم أن يناقشوا أستاذهم في ذلك، فيوصد باب التفاهم معهم بقوله: إذا قال الجارم بك وجب الإذعان. وهكذا يميت الأستاذ في نفوس طلابه حب البحث ومعالجة الحقيقة بكلمة لعله يرجو أن تصل إلى صاحبها فتكون شفيعاً له. ولكن ما أدناها من شفاعة إذا كان الأستاذ يعلم صواب ما يريد طلابه مناقشته فيه فيحتجنه عنهم ابتغاء مرضاة رئيسه.
ولكنا نعود إلى عملنا في نقد الكتاب راجين من حضرات المدرسين بالسنة التوجيهية، وهم الذين يدرسون الطلاب هذا الكتاب ويعدونهم للامتحان فيه بمناقشة معانيه وتوجيه مراميه راجين منهم أن يزنوا كلامنا حتى إذا آمنوا بصدقه عادوا إلى طلابهم فصححوا ما كانوا قد مروا به من سقطات الكتاب ليؤدوا بذلك أمانة العلم كاملة إلى طلاب لا لوم عليهم إذا قبلوا حقائق تقول وزارة المعارف إنها محضتها فارتضتها غذاء لعقولهم.
ص 91 يقول خالويه المكدي لابنه:
(ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لاحقاً بالآباء، لأني لم أبالغ في محبتك)
هكذا أورد الشارحان كلمة (محبتك) وعلقا على الجملة بقولهما:
(ولست أرضاك) أي لسري وثقتي. (وإن كنت فوق البنين) أي فوق أبنائي منزلة. (ولاحقا بالآباء) أي لأنك كبير السن. (لأني لم أبالغ في محبتك) لأني لم أجاوز الحد في تقدير محبتي إياك
وهذا التفسير خطأ في ذاته ينقض آخره أوله؛ إذ كيف يجعله أولاً فوق البنين ثم لا يكون مبالغاً في محبته! وهل فوق محبة البنين محبة؟!
كان يكفي هذا التناقض لعدول الشارحين عن شرحهما وبحثهما عن تصحيف أو تحريف لعله يكون قد وقع في الجملة، ولكنهما لم يفعلا وقبلا هذا التناقض في سطرين متوالين من شرحهما.
والذي أراه أن كلمة (محبتك) مصحفة عن كلمة (محنتك)، والمحنة الاختبار. فيكون الذي منع الوالد من أن يجعل ابنه موضع سره ليس نقص محبته ولكن نقص تجربته له
أما كون الأب لم يجرب ابنه فذلك معقول، جائز خصوصاً إذا كان الأب كخالويه هذا قضى حياته موكلاً بفضاء الأرض يذرعه
وفي الصفحة عينها يقول خالويه هذا متحدثاً عن ماله: (ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس)
والمعنى في ذلك واضح، فهو يقول أن بعض هذا المال صار إليّ من غير تعب أو محاولة في جمعه، كان صار إليه من هبة أو ميراث، فلا يكون له فضل في الحصول عليه. ولكن الشارحين يقولان في معنى الجملة الأخيرة:(لأني لم أسلك في جمع بعضه طريق الحكمة والحزم).
وهذه عبارة ناطقة بأنه سلك في جمع هذا البعض طريقاً غير طريق الحكمة والحزم
في ص 106 يصف الجاحظ رجلاً بأنه عضب اللسان عارف بالغامض من الأمور فاهم للدقيق من المحاسن لا يسكت على عيب في الناس إلا ندّد به وشهّر، ثم يقول عنه بعد ذلك:
(وإن ثريدته لبلقاء إلا أن بياضها ناصع، ولونها الآخر أصهب. ما رأيت ذلك مرة ولا مرتين).
فيقول الشارحان بعد أن فسرا البلقة بأنها بياض وسواد أو بياض وحمرة: ويظهر أن هذا التلون في الثريدة يكون من قلة الدسم أو رداءة المرق وقلته، حتى ليكون بعض الثريدة مشبعاً به وبعضها ليس كذلك. اه
والظاهرة العجيبة في هذا الشرح أن الشارحين يذكران فيه شيئاً غير معقول لأحد، حتى
لهما أنفسهما، ذلك أنهما ينسبان هذا التلون في الثريدة إلى قلة الدسم، فكيف يتصوران هذا؟ لاشك أنهما فرضا هذا الدسم صبغاً كصبغ الحيطان أو صبغ البيض في شم النسيم! حين ذاك حقيقة تكون قلة الدسم كافية لأن يظهر بعض الثريدة بلون الخبز الأصلي وهو البياض، وبعضها وهو الذي ناله الصبغ يكون من نصيبه تلك الصهبة، كذلك تعليلهما هذا التلون بقلة المرق أو رداءته. وما ندري كيف جاز هذا في رأيهما ولم يقل به طاه ولا طاهية؟
إنما الذي يصح أن يفهم من اختلاف لون الثريدة أن الرجل كان يقدمها إلى ضيفانه وقد كسي بعضها باللحم وترك جانب منها لا لحم عليه، فظهر هذا أبيض ناصعاً بلون الخبز، وذلك أصهب بلون اللحم. ويكون ذلك عيباً كبيراً ومسبة شنيعة في كرم الرجل لأنه لم يجر على عادة الناس من تغطية جميع الثريدة باللحم. فإذا كان قد زاد على ذلك أنه جعل ما يليه من الثريدة هو المغطى باللحم يكون قد ارتكب إلى جانب البخل رذيلة أخرى هي رذيلة الأثرة على من يجب نحوهم الإيثار
ويؤنسك بهذا المعنى قول الجاحظ تلو هذا الكلام: (وكنت قد هممت قبل ذلك أن أعاتبه على الشيء يستأثر به ويختص به. . . فلما رأيت البلقة هان على التحجيل والغرّة)
يريد أنه كان يرى من هذا الرجل استئثاراً بالشيء دون جلسائه، ولكن ذلك يكون خفي الوضع ليس في شناعة تمييزه لنفسه على الخوان بجعل الثريدة التي يأكل منها على حال غير التي يجعلها أمام الناس من مضار مائدته، فلما رأى منه ذلك لم يروجها لنصحه لأنه لا يقدم على هذا إلا مصرّ غير مبال بذم الناس ونقدهم
ص 109 يقول الجاحظ للحزامي وقد اتهمه بالإسراف وتضييع الحزم حين رآه يلبس من ملابس الشتاء قبل أبانه: (وأي شيء أنكرتَ منا منذ اليوم). فيعلق الشارحان على قوله (أنكرت) بقولهما: أي جحدت واستقبحت من أمرنا.
وقد جمعا في التفسير بين معنيين متضاربين فإن الجحود ادعاء جهل الشيء مع علمه وهو لا يلتقي مع الاستقباح، إذ هو إعلان الرأي بقبح الشيء
والواقع أن الإنكار يفسر بالمعنيين، ولكن ليس يلزم من هذا أن يفسر بهما معاً في مقام واحد. فالمراد هنا هو المعنى الثاني فقط وهو الاستقباح، فأما الجحود فلا محل له كما هو
واضح من مقام الكلام
وقد وقع الشارحان في هذه الغلطة نفسها في ص 129 حين أورد الجاحظ وصف الجارود لطعام عبد الله بن أبي عثمان فقال: (يُعْرَفُ ويُنْكَر). فقال الشارحان في التعليق على ذلك: ينكر من الإنكار وهو الجحود والمراد يُحَبُّ ويُكْرَه. فجمعا في التفسير اللغوي وبيان المراد بين المعنيين وهما الجحود والاستقباح لأن مقصودهما من قولهما (يُكْرَه) إنما هو أنه مستقبح. فبان من ذلك استساغة الشارحين للمعنيين معاً وجمعهما في تفسير كلمة الإنكار حيث وجدت، مع أنها إذا فسرت بأحدهما امتنع تفسيرها بالآخر في نفس المقام. وهذا ظاهر
ص 114 يحكي الجاحظ عن الحزامي:
(كان يقول: أشتهي اللحم قد تهرأ وأشتهي أيضاً الذي فيه بعض الصلابة
وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال أشتهي لحم دجاجتين)
فيعلق الشارحان على قوله: (وقلت له مرة) بقولهما: أي لما قال أشتهي اللحم. . وكان مقتضى الظاهر أن يقول فقلت له. اه
يتعب الشارحان أنفسهما في محاولة ربط الكلام بعضه ببعض ولكنهما في سبيل ذلك يعدلان عن صواب إلى خطأ ويحملان اللفظ ما لا يحتمله من المعاني، ويتقولان على القائل ما لم يقل، أو يستظهران ما لا داعي إلى استضهاره. ومن ذلك قولهما هنا: كان مقتضى الظاهر أن يقول فقلت له (أي بدل وقلت)
ونرى أنه لا داعي لهذا فإن عبارة الحزامي (أشتهي اللحم الذي قد تهرأ) كانت هجيّراً، ومن لوازمه المأثورة عنه فقال له الجاحظ في مرة من المرات التي كان يرددها فيها: ما أشبهك الخ.
والدليل على ذلك قول الجاحظ: (وكان يقول) ولو كان قد قالها مرة واحدة كما ظن الشارحان لقال: (وقال مرة) فتكون ملاحظتهما جائزة
فبان أن الخروج عن مقتضى الظاهر لم يكن من الجاحظ وإنما كان من الشارحين
ص 115 يروي الجاحظ قصته فيقول:
(وكنا عند داود بن أبي داود بواسط أيام ولايته كَسْكر فأتته من البصرة هدايا فيها زقاق
دبس فقسمها بيننا، فكل ما أخذ منها الحزامي أعطي غيره). فيضبط الشارحان كلمته كل بالضم ويعلقان على الجملة بقولهما:(أي فجميع الذي أخذه الحزامي من هذه الزقاق فرقه على أصدقائه. فمفعول أعطى الثاني محذوف)
وهذا الضبط خطأ ويتبعه خطأ الإعراب أيضاً، والواجب ضبط الكلمة بالفتح فتكون مفعولاً ثانياً مقدما لأعطى. والقاعدة أن الفعل إذا كان يطلب مفعولاً فما دام في حيزه ولا مانع من وصوله إليه لم يجز منعه عن العمل فيه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة أعطى الحزامي غيره كل ما أخذ من الزقاق
(ملاحظة): سنراعي جانب الإيجاز البالغ فيما بقى من المآخذ على الكتاب. وربما انتهينا من ذلك في مقال أو اثنين لأننا نعتقد أن على الرسالة حقاً لقرائها في تنويع القول وتلك هي سنتها معهم.
محمود مصطفى
الكتب
حياة الرافعي
تقدير ونقد
للأستاذ أبو الفتوح رضوان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وفي ص 57 نكتة من الأسلوب أظنها تريد أن تلقي في ذهن القارئ أن الرافعي ترك الشعر إلى النثر لأنه عجز عن الصياغة الشعرية. يقول المؤلف: (فما أراه كان يقول ذلك - يعني قيود الشعر - لا تعبيراً عن معنى تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به، وفي رأيي أن الرافعي لم يقصر في مضمار الصياغة الشعرية وإنما كان تركه الشعر نتيجة لما تصدى له من فنون الأدب. فالشعر لا يتسع لأكثر من الخواطر السريعة والخلجات النفسية القصيرة، على حين قصد الرافعي إلى الفلسفة والتطرق إلى بواطن المشاعر والوجدانات، ولو أنه نظم فلسفته في الجمال والحب لما استساغ ذلك إنسان، وفي رسائل الأحزان وأوراق الورد شعر جيد قد لا يتفق لغيره ممن اشتهروا بالشعر دونه. فأداة الرافعي في الشعر لم تكن عاجزة ولا قاصرة. ولكن تدفق عاطفته وغزارة خواطره وعمق فلسفته هي المسؤولة عن هجره الشعر. ثم ألم يكن من الخير للعربية أن يتجه الرافعي إلى النثر؟
ويرد المؤلف (ص 67) تقديم شوقي لنشيده بعد أن طلبه إليه ذلك وإحجام حافظ، إلى إباء في طبع هذا وحرص في طبع ذاك على أن يقال في كل مناسبة قال شوقي. ولو كان الأمر كذلك لقدم شوقي نشيده من أول الأمر. والحق أنه استكبر أن يتقدم في مسابقة مع صغار الشعراء، وأنف من أن يضع شعره موضع الامتحان؛ فلما وعد بأن نشيده هو الفائز تقدم به، أما حافظ فكان عضواً في اللجنة، وعلى ذلك فهو يعرف اتجاهها نحو نشيد شوقي فلم يتقدم حفظاً لكرامته.
وخرج المؤلف من فصل (شيوخه في الأدب) بالنتيجة الصحيحة التي لا يتطرق إليها باطل، من أنه ليس للرافعي في الأدب شيوخ، وإنما هو فريد في فنه وفي أسلوبه، وأنه في ذلك مبتكر لم ينسج على منوال أحد. ولكن مادام الأستاذ قد حاول أن يصل إلى بعض من
أثروا في أسلوبه، ألا يجد شيئاً من ذلك في حبيبته (فلانة). ثم ألا يجد الأستاذ بعض الدليل على ذلك بالموزانة بين أسلوبه وبين أسلوبها في كتابها الذي نشر قبل رسائل الأحزان بقليل؟ ثم ألا يكون لميلها إلى المعاني البكر والديباجة المشرقة بعض ما وجهه في فنه البياني هذا الاتجاه؟
وفي ص 141 يقول المؤلف أنه لما غضب الابراشي باشا من الرافعي نشر قصيدته في مدح جلالة الملك فؤاد جنباً إلى جنب مع قصيدته (الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك). والصواب أن الأستاذ عبد الله عفيفي لم يلحق بمعية جلالة الملك إلا بعد هذا التاريخ، وإنما كان حينئذ يشتغل بالتدريس. وظل يشتغل به إلى ما بعد نشر مقالات على السفود في نقد قصائده
وحاول المؤلف عند الكلام عن نسخة الرافعي الخاصة من كتاب (كليلة ودمنة) أن يعدد ما كتبه الرافعي من هذه الفصول. فعد ثمانية فصول في كتاب (تحت راية القرآن). ثم قال أنه أهمل هذه النسخة الخاصة من كليلة ودمنة إلى سنة 1933 عندما دارت المعركة حول (وحي الأربعين). فنشر الفصل التاسع وهو (الثور والجزار والسكين). والصواب أن الرافعي عاد إلى تلك النسخة قبل ذلك بكثير، فقد نقل عنها فضلين على ما أذكر في (على السفود). وقد كتبت هذه المقالات في سنة 1929. وجاء فيها حكاية (حبة القمح وحجر الطاحون)؛ وحكاية البعوضة والمنطاد (زبلن). وعلى ذلك فهما الفصلان التاسع والعاشر من كليلة ودمنة الرافعي. ثم عاد الرافعي إلى هذه النسخة ثانية عندما كتب (أوراق الورد) الذي تم طبعه في 1931، ففي ص 229 و 230 من هذا الكتاب حكاية (الغزال والأسد) وهي الفصل الحادي عشر من نسخة الرافعي من كليلة ودمنة؛ وهي حكاية طريفة أدارها على بعض ما كان بينه وبين حبيبته فلانة، وأشار في هامش الكتاب إلى أنها فصل من كليلة ودمنة ووعد بإتمام فصول الكتاب. وعلى ذلك تكون حكاية (الثور والجزار والسكين) هي الفصل الثاني عشر لا التاسع من كليلة ودمنة الجديد
هذه ملاحظات عنت لي في أثناء قراءة الكتاب، وهي لا تنقص شيئاً من قيمته التي قدمت من خبرها في صدر المقال. ولا أختم كلمتي قبل أن أهنئ الأستاذ سعيداً على توفيقه في هذا الكتاب الفذ. وقبل أن أنوِّه بتلك الفصول القيمة التي كتبها عن (رسائل الأحزان) و
(السحاب الأحمر) و (أوراق الورد)، وهي فصول لم يكتب على منوالها في التعريف بالكتب. وأظن القارئ في حاجة إلى أن يعيد قراءة هذه الكتب على ضوء تحليل الأستاذ سعيد مهما كان قد أطال فيها النظر والدرس قبل ذلك
أبو الفتوح رضوان