المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 308 - بتاريخ: 29 - 05 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٠٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 308

- بتاريخ: 29 - 05 - 1939

ص: -1

‌البلاغة من لوازم القوة

من سنن الله في الناس أن البلاغة تلازم القوة فلا تنفك عنها إلا في النُّدرة. والمراد بالقوة قوة الروح لا قوة العضل؛ فإن قوة العضل مظهرها قوة الحركة؛ أما قوة الروح فمظهرها قوة الكلمة. فكلما قويت الروحية في المرء قويت الفكرة؛ وكلما بلغت الإنسانية فيه بلغ البيان. وليس من السهل تعليل سطوع النفس وإشعاع الروح بالمنطق البيّن، فإن ذلك لا يزال فوق الفهم ووراء المعرفة. وحسب المدارك المحدودة أن تقف لدى الظواهر والآثار فتحكم بالاستقراء وتبنى على الواقع. والواقع أن قويّ الرجولة بليغ الكلام ما في ذلك شك. كأنما قوة الحيوية في الرجل تستلزم قوة الشاعرية فيه. ومتى أشرق المعنى في الذهن النفاذ، وتمثل الخيال في الخاطر المجلو، أوجبت الطبيعة بروزهما في المعرض الرائع من وثاقة التركيب وأناقة اللفظ وبراعة الإيجاز.

أولئك علي والحجاج وطارق؛ وهؤلاء الاسكندر وقيصر ونابليون؛ وأولاء هتلر وموسوليني ومصطفى كمال! كلهم كانوا مُثُلاً عالية في شجاعة القلب واللسان، ومضاء السيف والقلم، ونفاذ الرأي والعزيمة، وسمو الفكرة والعبارة. أجادوا القول في الخطبة كما أجادوا الفعل في المعركة، وحذقوا السياسة في السلم كما حذقوا القيادة في الحرب، وأحسنوا مناجزة العدو بشدة البأس كما أحسنوا مناغاة الحبيب برقة الغزل؛ فلا تدري أتجعلهم فيمن جرى على أيديهم أدب الموت، أم فيمن جرى على ألسنتهم أدب الحياة. والرجل القوي يغلب عليه من الألقاب والصفات ما تُغَلِّبه طبيعة عمله. فهو قائد أو سياسي أو مصلح أو كاتب أو شاعر على حسب ما تتجه إليه قواه وميوله من الحرب أو الحكم أو الخير أو الجمال. فخالد ونابليون، وبِسمرك، والجاحظ وفلتير، والمتنبي وهوجو، لا يختلفون في عبقرية الرجولة وإن اختلفوا في دلالة اللقب. والنبوغ في هؤلاء جميعاً لا يكاد يتفاوت في قيمته ودرجته؛ وإنما يتفاوت في شهرته ونفوذه تبعاً لاتصاله بالعامة كالزعيم، أو اعتماده على القوة كالقائد.

قد تقول إن النابغ ممتاز في أكثر صفاته لأنه منتخَب الطبيعة ومختار القدرة؛ ولكني أقول لك إن البلاغة تلازم القوة حتى في الاوزاع والهمج. فالرجل العامي القوي الروح الكبير النفس الصارم الإرادة تجده قويم الفكرة، بليغ الجملة، قوي الجدل؛ ومثل هذا في المدينة أو في القرية يكون دائماً موضع المشورة في الازمة، ومقطع الحكم في النزاع.

وازن بين عصر وعصر في الأدب، أو بين أديب وأديب في الاسلوب، تر الفرق بينهما

ص: 1

حللته لا يخرج عن قوة الرجولة في هذا وضعفها في ذاك. فعصر الجاهلية عند العرب واليونان، وعصر الفتوح عند المسلمين والرومان، وعهد الفروسية عند الفرنسيين والطليان، كانت أزهى عصور البلاغة، لأن الرجولة كانت فيها بفضل النزاع والصراع في سبيل الحياة والغلبة والمجد والمرأة أشد ما تكون تماماً واضطراماً وقوة. فلما قتل الترف الرجولة، وأذل العجز النفوس، زهقت روح الفن وذهبت بلاغة الأسلوب، وأصبح أدب الأديب سخفاً وزيفاً وثرثرة.

لماذا يقوى الأدب في الثورات والحروب؟ لأنها أثير ليقظة الشعور، ومظهر لحياة الرجولة!

لماذا قلَّ الأدب في العبيد وضعف في النساء؟ لأن الروح الشاعرة ماتت في إرادة العبد، والنفس المريدة فنيت في شعور المرأة!

أرجو ألا تفهم أني عنيت بقوة الأدب ما كان موضوعه شديداً كالحرب، وبضعفه ما كان موضوعه ليناً كالحب؛ فإن ذلك معنى لا يتجه إليه الذهن الباحث. وأي فرق تراه بين سفر أيوب الباكي، ونشيد الأناشيد الغزِل، وإلياذة هوميروس الحمِسة، في قوة الروح وفحولة الفن؟ إن القوة الروحية الشاعرة التي تخرج الأنشودة للجندي هي نفسها التي تخرج الأغنية للعاشق والمرثية للحزين. ولا يجوز أن تفرق بين هذه المقطوعات الثلاث إلا على الوجه الذي تفرق به بين آية من القرآن في وصف النار وبين آية أخرى في وصف الجنة. إنما عنيت بالأدب القوي ما صدر عن قوة الروح وصدق الشعور وسمو الإلهام وألمعية الذهن فدق معناه وصدق لفظه واتسق أسلوبه؛ وبالأدب الضعيف ما انقطع فيه وحي الذات عن آلة الفن، واحتجبت فيه صُوَر الحياة على مرآة الذهن، فهو تقليد قرد، أو ترديد صدىً، أو شعوذة مهرج!

إن الأدب البليغ كامنٌ في البطل على أي صورة كان. فهو إن أنتجه برّز فيه، وإن لم ينتجه شجع إليه. لذلك ازدهر الأدب في ظلال أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. وما دام كبراؤنا لم يخلقهم الله من الأبطال ولا من عباقرة الرجال فهيهات أن ينتجوا الأدب أو يفهموه أو يحبوه أو يعضدوه أو يقدموا أهله. وسيظل هذا النور الضئيل من الأدب القوي الحر محصوراً في ظلام العمى والجهل حتى تقوى الأمة فينتشر، وينبغ فيها القادة فيزدهر. وسيعيش رجاله القلال المخلصون معتكفين في المكاتب اعتكاف النساك في الصوامع،

ص: 2

يمثلونه على بصر الطبيعة، وينشدونه على سمع الزمن، حتى تقوى دولة الحق والجمال فيجلسوا في الصدر ويمشوا في المقدمة!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌في أربعين الملك الشهيد غازي

بني قومنا!

للدكتور عبد الوهاب عزام

ممثل جامعة فؤاد الأول في حفلة التأبين التي أقيمت ببغداد

أيها السادة!

أقوم بينكم مبلّغاً رسالة الجامعة المصرية مديرها وأساتذتها وطلابها المصريين والعراقيين وغيرهم. هذه الجامعة التي شجاها ما شجا معاهد العلم بالعراق من هذا الخطب الجلَل والرزء العمم.

تشارك جامعة فؤاد الأول معاهد العلم العراقية أحزانها، وتحتمل معها آلامها، وتناشدها أن تعزي معها الأمة العربية كلها وتثبتها في مصابها؛ فإن العلم الذي يهدي الأمم طريقها وينير لها في ظلماتها، حريّ أن يثبتها في خطوبها، ويعصمها في محنها.

يا إخواننا لا أبغي إثارة الشجن فما أيسر إثارة الأشجان والمصيبة فادحة، والقلوب دامية؛ ولا أريد استدرار الدمع فما أهون استدرار الدمع والرزء جليل والنفوس باكية، ولكن أريد أن أعرب لكم باسم الجامعة المصرية أننا معكم في السراء والضراء، شركاؤكم في الشدة والرخاء، وأننا وإياكم متعاونون على العمل للمجد وعلى احتمال النوائب.

إن هذا الخطب لم يخصكم، ولا نزل بساحتكم وحدكم، ولكنه خطب العرب على اختلاف ديارهم ومذاهبهم من شرقيّ دجلة إلى بحر الظلمات، وخطب المسلمين على اختلاف أجناسهم وأقطارهم. إنه رزء العرب، وقد استقاموا على طريقتهم وأقسموا ليبلغن غايتهم، ورفعوا الراية ومضوا إلى الغاية - رزؤهم في أحد قادتهم - في ملك عربي شاب طموح استوى على عرش المنصور مبشراً بعهد الرشيد والمأمون. إنه رزء العرب والمسلمين في ملك هاشمي من أبناء فاطمة لمصرعه القيامة في مكة والمدينة، وفي بغداد دار العباسيين، ودمشق دار الأمويين، والقاهرة دار الفاطميين، وبلاد العرب والمسلمين جميعاً.

إنه لخطب عظيم؛ ولكنه ليس أعظم من عزائم هذه الأمة، ولا أكبر من كبريائها ولا أشد من أخلاقها؛ ونحن بنو الشدائد ألفتنا وألفناها، وعركتنا وعركناها.

ص: 4

يا بني قومنا: إن للأمم في معترك الحياة نعمى وبؤسا وفرحاً وترحاً ورخاء وشدة. والزمان قُلَّب تدور غِيره بالخير والشر. والأمم العظيمة الحازمة تأخذ عدتها من مسراتها وأحزانها، ولا تفيت فرصة من لذة أو ألم وفرح أو غم، ولا تمر بحادثة إلا تدبرت في أمرها وأخذت لحاضرها وتزودت لمستقبلها وتأهبت لأحداث الزمان وتقلب الحدثان. بل الأمم في أحزانها أقرب إلى الوقار والجد وأدنى إلى التآخي والإيثار والتفدية، وأجدر بإدراك الحقائق والاعتبار بالوقائع وجمع الكلمة وإرهاف العزيمة، فإن الأحزان تجلو النفوس وتنبهها من الغفلة، وترهق الأكباد، وتذهب بالأحقاد.

يا بني أبينا وأمنا: كانت وفاة الغازي رحمه الله عليه قدراً لا حيلة فيه ورزءاً لا قدرة عليه، ولو كانت نائبة تجدي فيها النجدة وتُغني الهمة وتنفع الشجاعة والتفدية لوجد أبو فيصل منا جميعاً نفوساً تفدّيه، وقلوباً تستميت دونه، وعزائم تردّ الخطب صاغراً، وجلاداً يرجع الموت خزيان ناظراً، ولكنه قدر من وراء الأسماع والأبصار والجنود والأنصار.

فلتفزع الأمة العربية إلى عقلها وخلقها وإبائها وصبرها وثباتها وجلدها، ولتنظر إلى تاريخها تستمد منه الصبر على المصيبة، والاستكبار على الجزع، والإباء على كل خطب، والثبات لكل هول.

ليكن من اجتماعنا على مصيبة الغازي اجتماع كلمتنا واستحكام أخوتنا. لتكن من هذه المصيبة الجامعة أُخوة جامعة وكلمة جامعة.

أيها الإخوان: مضى فيصل الأول بعد أن أدى أمانته، ولحق به غازي وهو يسير للمجد سيرته، وقد أورث الله فيصلاً الثاني جهاد جده وطموح أبيه؛ وإن لنا فيه لعزاء، وإن لنا فيه لخلفاً. فلتحطه النفوس ولترعه الافئدة، ولتجتمع حوله الأفكار والآمال، والعزائم والأعمال، وكل ما في العراق وما في العرب من ود ووفاء وإخلاص وبر وكرم، حتى يترعرع ملكاً كريماً في رعاية الله وحضانة أمته ووفائها وإخلاصها، ترجو فيه العراق والعرب جميعاً كوكباً تأوي إليه كواكبه، وسيداً فؤولاً فعولاً لما سن السادة الكرام من آبائه.

وإن في حكمة أهل العراق ووفائهم، وإن في هممهم وعزائمهم لضماناً للمستقبل الوضاء والمجد الباسم بعد هذه الخطوب المكفهرة والوقائع العابسة.

بني قومنا تقسو الخطوب وتربدُّ

ويُشرق في أعقابها الصبر والمجد

ص: 5

وإن ظلام الليل يُعقب صبحه

وبعد غروب النجم إشراقه يبدو

وبعد محاق البدر يبدو هلاله

وبعد طلوع النحس يرتقب السعد

وبين ظلام النقع نصر منوّر

لمن صابر الأهوال والبأس محتد

وعند اسوداد الغيم غيث ورحمة

يقهقه في حافاتها البرق والرعد

وبعد بكاء السحب خصب ونضرة

تضاحك من أزهارها الغور والنجد

ومن بعد غيض الماء فيض لدجلة

ومن بعد جزر الشط ينتظر المد

وفي كل خطب للفراتين دعوة

إلى المجد في أعقابها النصر والحمد

فلا تحزنوا وارموا الخطوب بعزمة

يذل لها الخطب العصيّ ويرتد

وسيروا إلى العليا من حول فيصل

وأنتم له حصن وأنتم له جند

عبد الوهاب عزام

ص: 6

‌في سبيل الإصلاح

الأدباء الرسميون

للأستاذ علي الطنطاوي

ما كان لي أن أعرض إلى هذا الموضوع بعد ما تكلم فيه الأستاذان الكبيران العقاد والزيات، لولا أن في النفس منه أشياء. وإن آراء العامة فيه يعمها الضلال البين، ويعوزها التقويم؛ وإن من الناس من يدعي الأدب ثم يزن أهله بميزان الحكومة، فيضع قيمتهم الأدبية في كفة، ويضع في الكفة الأخرى درجتهم في (الوظيفة) ومبلغ ما يقبضون من مرتب. فالشاعر الذي يعلم في مدرسة ابتدائية، لا يساوَى بالشاعر المدرس في الثانوية؛ والأديب الذي يعمل في تفتيش اللغة العربية أكبر من الأديب الذي يشتغل بالتدريس. أما الشاعر الذي جعلته الوزارة أو أصارته الأيام أول المفتشين، فواجب وجوباً أن يكون شاعر الشرق كله، أو شاعر العرب على الأقل الأدنى. . ويدللون على هذا المنطق السقيم بأن الحكومة لو لم تجده أعلم العلماء وأبرع الأدباء ما أحلته هذه المنزلة؛ فالطعن في تقدمه طعن في الحكومة ونفي لحسن التقدير عنها. . . وامتد هذا الجهل إلى الصحف، فصارت تقدم من الأدباء من قدمته الحكومة، وتكتب في رأس المقالة كما يكتب صاحبها في ذنبها، ودرجة الوظيفة الحكومية التي يقوم بها، كأنها هي الشهادة له بتمكنه في الأدب وعلو كعبه فيه، وغدا من المستحيل أن يقدم شاعر مجوّد محسن ولكنه مدرس عادي، على مفتش أو رئيس ديوان ولو كان دونه إحساناً وتجويداً، كأن شعر الوزير في الشعر كشخص الوزير في الناس، يتقدمهم ويعلوهم ولا يوزنون به ولا يتقدمون عليه. ومشى هذا المنطق السقيم وهذا الجهل البيّن في الناس، حتى صار هو القاعدة المقررة والأصل الثابت، وصار غيره هو الفرع الذي يحتاج إلى دليل. . .

وما من أحد يدرك هذه العلة إدراك الأديب الموهوب الذي اضطرته الحاجة إلى (الوظيفة) وأجبره الكدح للعيش على أن يفكر برؤوس رؤسائه الفارغة لا برأسه هو، فلا يكتب إلا ما يشتهون، ولا يقول إلا ما يريدون، وعلى أن يضع أدبه وذكاءه ومواهبه بين يدي مفتش قد يكون جاهلاً أو يكون مخطئاً أو يكون لئيماً ينتقم لغباوته وجهله من الأذكياء العلماء. والمدرس على ذلك كله ملزم باتباع رأيه والصدور عن مشورته. وإذا كتب ينقده في

ص: 7

صحيفة أو يسمّع به في مجلس، قامت عليه القيامة ونفى إلى أقصى الأرض، أو أخرج من الوظيفة إخراجاً، ثم لا ينصره عليه أحد لأن الناس قد استقر في إفهامهم أن المفتش أعلم وأبرع من المدرس، ولا سيما إن كان دكتوراً أو كان أستاذاً في جامعة، فإن مثله لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا من فوقه ولا من تحته. . . والمدرس يركبه الخطأ من جهاته الست لا لشيء إلا لأن مرتبه أقل، ووظيفته أصغر. . . ثم إن عندك الموظفين الجاهلين المتزلفين الذين يتقربون إلى المفتش الشاعر أو الرئيس الأديب بإذاعة فضله، والثناء عليه، ومنحه الألقاب جزافاً، ويستمرون على ذلك ما استمر قاعداً على كرسيه لأنهم عباد صاحب الكرسي. . . فتؤثر هذه (الدعاية) - على بطلانها - في نفوس الاخلياء، وينال هذا المفتش الشاعر شهرة ومنزلة لم تقم على أدبه وإنتاجه، وإنما قامت على أرجل كرسيه الأربع وألسنة أتباعه التي تشبه أرجل الكرسي. . . وربما خدع التاريخ بهذه الشهرة - والتاريخ يخدع أحياناً - فانطمس الحق وعمت البلية. . .

فما هو سبيل الخلاص من هؤلاء (الأدباء الرسميين) الذين يستغلّون هذه الشهرة الزائفة وهذه المنزلة الكاذبة فيقيمون أنفسهم أو تقيمهم الحكومة مقام الأئمة من أهل الأدب، فيرسمون للناشئين خططه ويضعون مناهجه ويملكون تحويله من وجهة إلى وجهة، ويستطيعون أن يؤثروا في مستقبل الأدب بما أوتوا من السلطان، وأن المدارس في أيديهم، وأموال الدولة تحت إمرتهم، تأثيراً لا يقدر على بعضه الأدباء غير الرسميين الذين لا يملكون إلا أقلامهم وعقولهم بل إن الأدباء الرسميين قد يستطيعون والحكومة من ورائهم أن يسخروا بعض الصحف لغاياتهم ومقاصدهم. ولو كان هؤلاء (الأدباء الرسميون) الذين تعتمدهم الحكومة وتثق بهم يُختارون دائماً من ذوي المنزلة الرفيعة في الأدب وممن لهم فيه تمكن ورسوخ لهان الخطب؛ ولكنهم قد يكونون على الضدّ مما قلت؛ بل قد يسيّر الأدب في وزارات المعارف من ليس بينه وبين الأدب رحم ولا قرابة. . . فإلى أين يسير الأدب في حالة مثل هذه؟ وكيف ندفع عن الأدب ذلك المصير المحزن؟

لقد أشار الأستاذ الكبير الزيات في فاتحة الرسالة (305) إلى هذه المشكلة والى دوائها؛ فرأى أن دواءها العدول عن (السياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام

ص: 8

التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس) وتطهير التعليم (من المفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهة الاسم). ثم إنه لابد بعد ذلك من تصحيح مقاييس الناس وإفهامهم أن قيمة الأديب بإنتاجه ومواهبه، لا بوظيفته ومرتبه، وأن الأدب لا يقاس بهذه المقاييس الجامدة، ولا بد من التفريق بين شخصية المفتش والوزير الرسمية، وبين شخصيته الأدبية؛ فأنا أرعى للوزير حق مكانته، وأعطيه كل ما ينص القانون على أنه حق له من الطاعة والاحترام. أما الوزير الاديب، والمفتش الشاعر، فإنهما عاطلان من هذه الحصانة، معرضان للنقد، أستطيع أن أدرس أدبهما وشعرهما كما أدرس أدب أي أديب وشعر أي شاعر، وأستطيع أن أحكم لهما أو عليهما، ولا يدخل في حساب النقد وظيفة عالية ولا مرتب ضخم. وإذا اقترح الوزير اقتراحاً في تعديل خطط التعليم، أو رأى رأياً يتبعه أذى للأدب أو خوف على مستقبله، فإنني أستطيع أن أناقشه وأرد عليه. وبغير ذلك لا تنمو المواهب ولا تثمر ثمرها، ولا يزدهر الأدب ولا يعطى أكله. بقي أمر واحد وهو حماية هذا الموظف الأديب الذي يتقد ويبحث، ويقوم بحق الأدب من غير أن يقعد عن حق الوظيفة، حمايته من انتقام الرئيس، وتشفي المفتش، ولا يكون ذلك إلا بقانون ينظم علاقة الرئيس بالمرءوس، ويوضح لكل منهما ما له (بالضبط) وما عليه، أما إذا بقى أمر المدرس بيد المفتش والرئيس، وترفيعه وتنزيله تابع لرأيهما و (تقريرهما)، فلا حرية في البحث، ولا ازدهار في الأدب، ولا استثمار للمواهب، لأن المدرس لا يستطيع أن يضحي بوظيفة وهي سبيل حياته ومورد رزقه من أجل بحث أو فص أدبي، فيسكت على مضض، ويتوالى سكوته، فتموت قريحته، وتذهب ملكته، ولا يبقى فيه بقية لإنتاج. وإذا ذكرنا أن وضعنا الاجتماعي الشاذ ساق أكثر الشباب طوعاً أو كرهاً إلى وظائف الحكومة قدرنا مبلغ الخسارة الأدبية التي يُمنى بها الأدب، ويبلغ الأذى الذي يصيبه به (الأدباء الرسميون) الذين يعملون عمداً وبغير قصد على تقييد حرية الأدباء، وقتل المواهب، وسد الطريق على الناشئين المتأدبين. . .

هذا وإن الأديب لا ينتج ولا يعمل إلا معتداً بنفسه واثقاً بها، وهذه العزة وهذه الكبرياء الأدبية هما عدة الأديب، فإذا خسرهما لم يصلح بعدهما لشيء. ومن نظر في حياة الموظف الصغير نظر مدقق ناقد، رأى أنه لا يستطيع أن يجمع بين إرضاء رؤسائه وبين الشعور

ص: 9

بهذه العزة الادبية، وما له في نقد أحدهما بدّ، وهو يؤثر (على الغالب) أن يفقد عزته الأدبية على أن يخسر وظيفته. وكم من موظف أديب نابغ معتد بنفسه، رأى ألوان الإيذاء، واتهم بالشذوذ والعناد، وعاداه صحبه ورؤساؤه، لأنه لم يبع كرامة نفسه وعزتها بهذا المرتب القليل؛ وربما كان هذا الموظف المغضوب عليه، المنسي المهمل، من خير الموظفين علماً وكفاية وقياماً بعمله، وحرصاً على الواجب عليه. . . ولكنهم الرؤساء، أولئكم (الأدباء الرسميون). . .

بغداد (الأعظمية)

علي الطنطاوي

ص: 10

‌من برجنا العاجي

الرأي الصريح الحر قوة ينبغي ألا تخلو منها أمة من الأمم الآخذة بأسباب الحضارة. ووجود هذا الرأي ألزم من وجود البرلمانات في ضمان العدالة والحد من طغيان السلطات؛ لأن هذا الرأي لا يتطرق إليه عادة ذلك الفساد الذي يشوب أعمال النظم السياسية والاجتماعية، فهو صادر عن قلب حار نبيل قد ارتفع عن دنيا الأغراض والمجاملات.

على أن المشكلة هي دائماً: كيف نعثر على هذا الرأي؟ قد نستطيع أن نعثر على العنقاء، ولكننا لن نستطيع أن نظفر في كل زمان بصاحب الرأي الحر الصريح. لماذا؟ لأن هذا المخلوق ينبغي أن يكون مركباً تركيباً مخالفاً لتركيب أغلب البشر. فلا بد أن يكون قد عرف كيف يستغني عن الناس، وأن يكون قد وطن نفسه على أن يمضي في طريقه دون أن يعبأ بسهام الناس التي أصابت جسده. وألا يكون له عند أحد حاجة ولا مطمع. وأن يكون محباً للوحدة معتاداً العزلة، قانعاً من الدنيا بأبسط متاع وأقل مؤونة. ذلك أن أول خطوة في هذا الطريق الوعر يصادفها صاحب الرأي الحر، هي فقد الأصدقاء والأعوان. ثم يلي ذلك تألب الجميع عليه، لأنه لم يرض أحداً ولم يمالئ فريقاً ولم يعتصم بجاه جهة من الجهات، ولم يستظل بقوة من القوى. إنه وحده منبع كل شيء. وهو بمفرده الواقف في وجه جميع القوى متضافرة. إنه قد ينهزم وقد يتحطم ويتهدم تحت ضربات الجميع، ولكن راية الرأي الحر تبقى خفاقة في الهواء عالية مرفوعة في يده الميتة.

حبذا لو كان لي هذا المصير العظيم! لقد أتاحت لي الظروف أن أطلق رأيي ذات يوم حراً في بعض الأمور فأحسست في الحال أني فقدت كل سند من كل جهة من الجهات، ولم يعد لي صديق. ولم يبق حولي سوى عيون نارية تنتظر ساعة الانقضاض عليّ والفتك بي. غير أن كل هذا لم يزعجني. فلقد شعرت في عين الوقت أن في يدي شيئاً يخفق عالياً، أدركت أنه هو وحده الباقي.

توفيق الحكيم

ص: 11

‌أعلام الأدب

أرستوفان

والكوميديا اليونانية

للأستاذ دريني خشبة

يجمع المؤرخون على أن الكوميديا - أو الملهاة - القديمة قد نشأت في سيراقوزا حاضرة جزيرة صقلية قبل أن تنشأ في أثينا حاضرة أتيكا اليونانية، فقد ثبت أن الشاعر الكوميدي إبيخارموس قد ألف للمسرح الصقلي سنة 480 ق. م، أي قبل أرستوفان، أو قبل أن يولد أرستوفان بثلاثين سنة؛ وقد كان له في صقلية قرناء أجلاء منهم صوفرون العظيم الذي كان يتناول في كوميدياته العلاقات بين المرأة والرجل بطريقة فلسفية. ومما يدعو إلى شديد الأسف أن كل كوميديات شعراء سيراكوزا قد فقدت كما فقدت جميع الكوميديات اليونانية إلا إحدى عشر لأرستوفان - من أربع وخمسين! - ولم يصلنا من كل ما فقد إلا نتف هينة ومقطوعات قليلة هي على قلتها ثروة هائلة تدل على الخسارة التي لحقت بالإنسانية في ميراثها الثقافي.

أما الكوميديا اليونانية فقد أخذت تنتعش منذ سنة 460 ق. م ثم ازدهرت في عصر بركليس على يد الشاعر كراتينوس الذي كان يتخذ من سيد العصر - بركليس نفسه - هُزُواً لجميع كوميدياته، فكان يصوره تصويراً كاريكاتورياً (هزلياً)، فيدعوه:(الإله الأعظم أبو رأس بَصَلة!)، استهزاءً برأس بركليس الذي كان يواريه دائماً لاستطالته بخوذة. . . ويدعوه أيضاً:(طفل كرونوس وابن الغَدْر!. الخ).

وكانت لكراتينوس منزلة رفيعة بين شعراء الكوميديا، ويعده النقاد أرفع مرتبة من أرستوفان وأعنف منه في تجريح شخصيات عصره. وقد قال فيه أرستوفان:(إنه كَصَيِّبٍ يتحدر من فوق جبل فهو يكتسح كل من اعترض سبيله من بشر أو شجر أو حَضَر. . .) ومن أبرع الشخصيات التي كان يصورها فيفتنّ في تصويرها شخصيات السكارى، وكان يؤديها له في كوميدياته الممثل الكاتب الكبير كرانس. . . وقد فاز كراتينوس مرات كثيرة بالجائزة الأولى؛ ولما فاز بها للمرة الأخيرة جاء أرستوفان في آخر قائمة المتبارين. هذا

ص: 12

وقد توفي كراتينوس غريقاً سنة 421 ق. م.

وممن نبغ في النظم الكوميدي قبل أرستوفان الشاعر فِرَكْرَاتِسْ، والنتف الباقية من كوميدياته تدل على علو كعبه في فنه، وعلى أنه كان يسمو كثيراً على جميع الشعراء الكوميديين حتى أرستوفان. وقد نال أولى جوائزه سنة 437 ق. م. وكانت كوميدياته تمتاز على غيرها بتنوعها وتناولها المشكلات الاجتماعية الشائكة نحو مسألة الرقيق والبغاء وما إليهما، وهو ضريب أرستوفان في تخيّل الطوبويات وجنات النعيم. . . فمن ذلك ملهاته الضائعة (المنجمون) أي عمال المناجم لا رجال التنجيم، وملهاته الضائعة الأخرى (الرجال النمل!)، وقد نسج على منوالها الأديب الحديث ويلز في إحدى طوبيوتاته.

وكما كان كراتينوس يتخذ من بركليس هزواً لكوميدياته فكذلك كان فراكراتس يتخذ السياسي العظيم المعروف ألسبيادس لمثل ذاك الغرض، وإن يكن لم يَعنفْ عليه كما عنف تيموتيوس.

أما يويوليس فقد كان أعظم الشعراء الكوميديين المعاصرين لأرستوفان. . . وكان نِدّاً قوياً له، وقد اتهم كل منهما أخاه بأنه سرق منه ملهاته (الفُرْسان). . . وكان على العكس من كراتينوس يحب بركليس ويمتدح مزاياه في حين كان يبغض رئيس الوزراء كليون ويمزقه في كوميدياته تمزيقاً لا رحمة ولا هوادة فيه. وكان أرستوفان لا يجرؤ على التهكم على سراة الاثينيين وأغنيائهم، أو هو كان لا يحب ذلك، لأنه كان غنياً مثلهم كما سيمر بك، لكن يويوليس كان لا يبالي أحداً منهم فقد فضحهم وأضحك الدنيا عليهم في ملهاته الضائعة (المداهنون)، وكان مثل فراكراتس يبغض السياسي ألسبيادس ويتخذه سخرياً في ملاهيه. ويختلف المؤرخون في سبب ضياع كوميديات يويوليس كلها مع أن كثيراً منها كان أروع وأفخم من كثير من كوميديات أرستوفان. . . وقد علل الأستاذ موراي ذلك فذكر أنه كان من معتنقي ديانة خاصة بالآلهة كوتيتو، وكانت طقوس هذه الديانة تمارس في السر وفي خفية من الناس، وكان العَوام من أهل أثينا لا يبغضون شيئاً مثل ما يبغضون هذه العبادات التي تؤدى في الظلام فلعلهم ثاروا بالشاعر وأبادوا آثاره بعد موته.

ومن الشعراء الكوميديين فرينيخوس وأفلاطون - وهو غير أفلاطون الفيلسوف - وقد نقلا الكوميديا نقلة شاسعة نحو الأغراض الأخلاقية الخالصة؛ ولذا سقطت ملاهيهما لأنها سبقت

ص: 13

الزمن ولم يكن الأثينيون قد استعدوا لتذوق ما فيها من جمال كما حدث لمآسي يوريبيدز.

نشأت الكوميديا اليونانية كما نشأت المأساة من الاحتفالات الشعبية الكثيرة والأعياد الدينية المتعلقة بالإله باخوس (دينزوس) إله الخمر والنماء والحصاد. تلك الأعياد التي كان اليونانيون يمارسون فيها ألواناً عجيبة من (المساخر) تشمل الرقص والغناء والإنشاد والموسيقى والتضحيك وإرسال النكات واتخاذ الملابس التنكرية التي تمثل الطير والحيوان، ووحوش البر والبحر وتمسخ الخلق، وتبعث على العربدة والتضحيك. وكانت ألوان عجيبة من المجون والفحش لا يسيغهما ذوقنا الحديث تمارس في حفلات هذه الأعياد، وكان المشعبذ الناجح هو عادة ذلك الذي يجيد النكتة البارعة التي لا يحتشم في إرسالها عارية مكشوفة، فلا يبالي أن تتناول العورات المستورة، ولا يبالي أن يصيب بها من يصيب لأن كل همه أن يثير عاصفة من الضحك ويطلق الأكف بالتصفيق حماسة واهتزازاً. وقد احتضنت الديمقراطية التي نماها بركليس الكوميديا اليونانية فلم يكن الكوميديون يهابون اقتحام ميادين السياسة والأدب والتعليم والاجتماع، وكانوا يبالغون في ذلك مبالغة تشمئز منها الأخلاق والتقاليد الحديثة، فإذا انتقد أحدهم واحداً من رجال السياسة فليس في القانون الاثيني ما كان يؤخذ به بسبب ذلك إلا إذا أهان الشرف الوطني أو فضح كرامة الدولة في نظر الغرباء. فقد روي أن أرستوفان نفسه حوكم من أجل ذلك، وحكم عليه بغرامة فادحة في عهد كليون - وقد كانت هذه الديمقراطية المطلقة سبباً في سقوط أثينا، ولذلك شن عليها أرستوفان حرباً عواناً في كثير من كوميدياته. ولما كانت الكوميديات تستبيح جميع صنوف العربدة وتناول العورات وقذف الأعراض وتجريح الكرامات بأقذع ما يتصور الإنسان من أساليب الفحش، وعبارات المنكر فقد منع النساء والأطفال من شهودها لما كانت تفيض به من ضروب الفسق ويرد فيها من الشناعات.

والكوميديا اليونانية من أجل هذا تستند إلى هذه الدعامة الوضيعة من الطعن على رجال الدولة والتشهير بهم على نحو ما تفيض به مجلاتنا الأخبارية اليوم من مثالب وما تتناول به شخصياتنا البارزة من تعريض وكاريكاتور.

وهي تستند كذلك إلى الأساطير المحلية والخرافات التي لا يلجأ الكوميدي إليها إلا إذا ضاقت به ميادين السياسة والاجتماع.

ص: 14

ولا يمكن - أو قد يكون من الصعب العسير - أن تمثل الكوميديات اليونانية اليوم في مسارحنا؛ أولاً لأن أذواقنا تستنكر أسلوب هذه الكوميديات الفاضح الذي يخرج في الغالب عن آداب مجتمعنا؛ وثانياً لأنها جميعاً كوميديات محلية تدور حول طقوس دينية لا نعرفها وتتناول عادات سحيقة في القدم لا نلم بها، وثالثاً لأن نكاتها إن احتفظت بقليل من الاحتشام - وهذا في النادر - إلا أننا لا نفهمها في سهولة ويسر. . . ورابعاً، لأن المسرح اليوناني كان أليق لعرض هذه الكوميديات من مسرحنا الحديث، لأن المسرح اليوناني كان أشبه بالسيارك الجوالة التي نراها اليوم والتي تصلح لعرض الحمير والضفادع والقرود والتنانين وما إلى ذلك مما تفيض به الكوميديات اليونانية. وخامساً، لأن طريقة الأداء التي كانت تعرض بها الكوميديا اليونانية، أو طريقة تأليفها بقول أصح، هي غير الطريقة التي تؤلف بها كوميدياتنا الحديثة.

فالكوميدية الحديثة تتركب من أربعة أجزاء قد لا نسيغها نحن اليوم. فالجزء الأول هو عرض عام لموضوع الملهاة وتفسير للأشكال التنكرية التي يتخذها الخورس أو بعض الممثلين، ويلي ذلك (خطاب الشاعر) الذي نظم الرواية ويلقيه الخورس، ويتضمن أهم العناصر الهزلية في الكوميديا ويسمى هذه الجزء باليونانية وتتبع هذا الجزء سلسلة غير مترابطة من المشاهد التضحيكية لوصل ما انقطع من حديث الجزء الأول المتعلق بالعرض العام، ثم يأتي بعد هذاالـ أو البسط والتمريح، أي إشاعة الانبساط والمرح في نفوس النظارة، وفيه يستمر الممثلون في الأداء والتطريب والتضحيك حتى تنتهي الكوميدية.

وقد ارتبط أرستوفان بهذا الترتيب في كثير من كوميدياته. وهو وإن لم يخلص من كل الشوائب التي تعيب الكوميدية اليونانية، إلا أنه سما بها شيئاً ما وترفع قليلاً عن إيراد مشاهد الفسق والفجور. ولم يكن كالشعراء الآخرين في طريقة مهاجمة خصومه وإن شذ في معاملة خصمه وأستاذه الأكبر يوريبيدز، فقد يعتبر المسرح الهزلي طريقاً إلى النقد الإصلاحي فيما يعرض له من مسائل السياسة والاجتماع والتعليم وسائر شؤون الحياة العامة، فهو كان يقوم عن طريق المسرح بما تقوم به الصحافة اليوم ولكن بطريقته الفنية التي تفرد بها. . والمحقق أن أرستوفان كان يحفظ درامات يوريبيدز عن ظهر قلب، ولم يكن يكتفي بحفظها فقط، ولكنه كان يعيها وعي الحافظ الدارس الواقف على دقائقها الخبير

ص: 15

بأسرارها؛ وقد ترك ذلك كله أثره في نفسه وفي أدبه وفي مُثُله وفي مراميه، فهو كان يسخط على الساسة الأثينيين كما كان يسخط يوريبيدز، وكان يبغض هذه الديمقراطية المطلقة الذميمة التي تنهي بمقاليد الحكم إلى طائفة من الاوشاب، أو تترك للأوشاب الهيمنة على تكييف شكل الحكومة باختيارهم أفراداً بأعينهم لا يمكن أن يختاروا سواهم مهما صنعوا بأثينا من الموبقات. . وكان ملحداً بالآلهة أو أشد إلحاداً من يوريبيدز، وطالما استهزأ بمعبودات اليونان وأضحك عليها نظارته بأسلوبه التهكمي اللاذع حتى لم يترك في أتيكا كلها مؤمناً واحداً بأيٍ ما من أرباب الأولمب!

وكان كذلك يدعو إلى السلم كما كان يصنع يوريبيدز، وكان يسوؤه أن يرى إلى هذه المجازر الدامية التي ذهبت بخيرة الرجال وزهرات الشباب في حروب البلويونيز، وقد تغنى في إحدى كوميدياته بهدنة الثلاثين سنة، وبالغ في ذكر ما يعود على جميع طبقات الشعب من الخير بسببها.

إذن لماذا خاصم يوريبيدز؟! هذا سؤال له جوابه فيما يلي:

ولد أرستوفان سنة 450 ق. م في قرية (كيد أثينايون!)، ومات سنة 385 ق. م، أي أنه عاش خمساً وستين سنة أعطى منها للمسرح وللأدب أكثر من خمس وأربعين، لأنه بدأ نظم كوميدياته وهو فتىً حَدَث السن، فهم يذكرون أن رائعته الأولى (رجال جزلتون)، والتي هاجم فيها التعليم العالي وادعى فيها أنه يتنافى ومكارم الأخلاق!! قد مثلت في المسرح سنة 427، أي أنه كان في الثالثة والعشرين حينذاك، ويذكرون أيضاً أنه لم يشترك في رواياته الأولى لا في التمثيل ولا في الإخراج، بل كان يترك ذلك كله إلى صديقه كللستراتوس، وسبب ذلك فيما يروون صغر سنه وعدم إلمامه بأصول الإخراج وعم استطاعته تمرين أفراد الخورس.

والعجيب أنه لم يقتصر على إسناد الإخراج والتمثيل إلى صديقه هذا، بل كان يبيح له أن ينتحل الرواية لنفسه ويدعى أنها من تأليفه!! وقد صنع بطائفة خالدة من كوميدياته - منها الزنابير والضفادع - مثل هذا الصنع، فقد ترك مهمة الإخراج والتمثيل وحق انتحال التأليف فيها جميعاً لصديق آخر يسمى فيلونيدز. . . وكان الصديقان يهشان لذلك ويبشان لفوزهما بالشهرة الكاذبة، ثم لتناولهما أجر الإخراج من الحكومة وهو أجر يقولون إنه كان

ص: 16

عظيماً يسمن ويغني من جوع.

هذا ولم يكن أحد في أثينا يشك في أن أرستوفان هو المؤلف الحقيقي لكوميدياته، وقد يسأل سائل: لماذا ترك لغيره حق الانتفاع بثمرة جهوده خصوصاً بعد أن شب؟ ذلك أن أباه فيلبّوس كان من الأغنياء المثرين، وكان قد أورثه ضيعة واسعة ذات غلة كبيرة في قرية إيجينا، فكان لهذا السبب يعف عنى أجور الإخراج، بل كان يترك الجوائز المالية - وما أكثر ما نالها - لجماعة المنشدين والممثلين. . . هذا ولا تحسبن أنه كان جواداً سخي اليد لصنيعه ذاك. . . لا. . . لقد كان أرستوفان يكره الفقر ويبغض الفقراء.

دريني خشبة

ص: 17

‌الواشي والوشاية

للأستاذ عبد الرحمن شكري

أيهما أعظم أثراً ونصيباً في إذاعة الوشايات؟ ميل النفس إلى أن تشي بغيرها، أم ميلها إلى أن تقبل الوشاية في حق غيرها؟ هذه مسألة لا نحسب أنه من المستطاع توضيحها على قاعدة واحدة تصدق في كل النفوس على السواء على اختلاف صفاتها من مكر وسذاجة ومن فطنة وغباء ومن خير وشر. على أن الميلين يتصلان في النفس ويتشعبان من شعبة واحدة وهي الأثرة، وما تثير من رغبة في منفعة أو خوف من مضرة، وإن كانت الرغبة في المنفعة ألصق بالواشي، وكان الخوف من المضرة ألصق بقابل الوشاية. على أن هناك أمراً لا شك فيه وهو أنَّ تَنَوُّعَ أساليب الواشي في الوشاية وتهيئتها تهيئة خاصة كي تكون مقبولة في النفوس المختلفة مما يجعل رد الوشاية ورفضها من أشق الأمور. ولا بد من التأثر بها إما قليلاً وإما كثيراً حتى في حالة رفضها وحتى في حالة كره الواشي وقلة الثقة به، وحتى في حالة معرفة كذبه. وإذا استطاع المرء أن يقاوم أثر الوشاية ألف مرة فهو قد لا يستطيع مقاومته مرة بعد الألف. ومن أجل ذلك ترى الرجل العادل الذي كَفَّ نفسه عن الشر يندفع إلى الشر بسبب وشاية واش بعد طول العصمة ويأخذ بالوشاية بعد رفض أمثالها مراراً فيتعجب الرائي المفكر من فجاءات الحياة والنفوس في أمثال هذه الأحوال الغريبة المباغتة. وإذا كان هذا شأن العادل المتحرج من عمل الشر ومن قبول القول من غير بَيِّنة أو دليل، فما ظنك بأكثر الناس وهم يقبلون القول قبل الإطلاع على البينة، وقبل فحص الدليل والتأكد من صحته، ومنهم من يلتقط القول التقاطاً من فم قائله وكأنما ينتزع الوشاية انتزاعاً من بين ثناياه، وكأنما يخشون ألا يخرج القول كله من فمه فيسعفوه بالمسهلات والمقيئات. وأكثر من هذا وذاك أنهم يأخذون بالظنة من غير حاجة إلى وشاية ونميمة؛ فقد يُحيِّي إنسان إنساناً آخر ولا يرد الثاني التحية لخطأ البصر أو بطئه في تبين الأشخاص، أو لانشغال ذهنه أو عينه، أو لسرعة انتقال الأول وفوات الفرصة لرد التحية، فيحسب الإنسان الأول أن الثاني تعمد الإساءة إليه مع عرفانه بسابق إعزازه له ومودته وإكرامه. وقد زاد أبو تمام في هذا المعنى ووضحه فقال:

يَظَلُّ عليك أصفحُهمْ حقوداً

لِرُؤيا إنْ رآها في المنام

ص: 18

وللواشي فطنة بما يؤثر في كل نفس فتراه في بعض الأحايين يتخذ أسلوب التلميح لا التصريح، ويكتفي بالإشارة عن العبارة، لا لرفقه واقتصاده في الشر، بل ليكون قوله أبلغ في الشر، إذ أنه يفطن إلى أن السامع من الذين يفهمون في التلميح أكثر مما كان يبسطه الواشي بالتصريح، ويرون في الإشارة أكثر مما كانت تستفيض به العبارة. ثم إن الواشي يرى في هذا الأسلوب من التلميح احتراساً فيستطيع إذا أُحرِجَ أن ينكر بعض ما فهم السامع أو كله ما دام قوله يحتمل التأويل والتفسير. وفي حالة أخرى يرى الواشي أن الإشارة لا تشغل ذهن السامع ولا تحرك نفسه فيعمد إلى الإطالة والإفاضة والتفصيل والتهويل حتى يكاد السامع يصيبه جنون الخوف أو الغضب من أجل عداء مزعوم أو انتقاص أو تدبير شر أطلعه عليه الواشي فيندفع إلى الشر، وقد يندفع إلى الجرم العظيم، ثم قد يندم أشد الندم ولات ساعة مندم. وتارة يقرن الواشي إلى وشايته وعدا خفياً بمكافأة يجزى بها السامع إذا قبل وشايته؛ ولا نعني مكافأة مالية، وإنما نعني أنه يعده وعداً من وعود المودة والمعاونة والتقديم والإكرام والانتصار له على أعدائه؛ وتارة يُدْخِلْ في ثنايا وشايته وعيداً خفياً يوعد به السامع إذا رفض وشايته، وتهديداً بالعداء إذا عده كاذباً في وشايته وإنذاراً بأنه بعد ذلك الرفض ينصر أعداء السامع عليه أو أنه يُخفي عنه كل ما يدبر له من الشر والكيد فيخشى السامع أن ينقلب الواشي عدواً يناصر أعداءه إذا لم يصدقه أو يخشى أن يصيبه شر من كيد مُدَبَّر يمتنع الواشي من نقل خبره إليه إذا كذبه ولو مرة واحدة فيسرع السامع إلى تصديق الواشي وإكرامه.

ومن أساليب الواشي أنه قد يلاطف السامع ويتحبب اليه، ويكرمه ويمده بنفع، ويطيل في الثناء عليه، ويظهر الحدب عليه، والحزن والخوف من وقوع الشر به حتى يثق به سامعه. ولا شيء تكتسب به ثقة السامع أبلغ من الثناء عليه وذم أعدائه. وإتقان المدح فن قد يُعَدُّ من الفنون الجميلة التي تتطلب صناعة حلوة، وبعد إتقان الواشي مدح السامع ترى ذلك السامع حريصاً على تصديقه كأنه يقول في نفسه هو صادق كل الصدق فيما مدحني به، فلا بد أن يكون أيضاً صادقاً كل الصدق فيما نقله إليَّ من الوشايات؛ ولا يعدها وشايات بل كرامات وهذا هو منطق النفوس البشرية. وإذا أطال الواشي في مدح السامع فقل على الغائب الذي يشي به السلام. فإن كُرْهَ سامع الوشاية لذلك الغائب ورغبته في أذاه وحقده

ص: 19

عليه أمور تتمكن من نفسه كلما أجاد وأطال الواشي في مدحه وانتقاص ذلك الغائب. وكيف لا يعد السامع الممدوح الوشايات كرامات وهو يرى مظاهر إخلاص الواشي له وخوفه على جاهه أو سمعته أو حياته أو مكانته ويرى رغبته في صرف الأذى عنه وفي رد كيد أعدائه؟ وقد يصعب في بعض الحالات على الناقل المخلص حقاً الذي إنما يريد بالنقل دفع الشر عن صديقه أن يثبت صدق قوله فيختلط الحابل بالنابل ويضطر السامع أن يقبل من هذا وذاك. على أن الوشاية قد تترك أثراً وخيماً حتى في حالة معرفة السامع كذبها، فإن النفوس البشرية في بعض حالاتها تشك بالرغم من معرفتها ببطلان الشك، وتسيء الظن بالرغم من معرفتها كذب الظن. وهل هذه الحالة أغرب من حالة أشعب الثقفي النفسية، وهو الذي كان يصرف الأطفال عنه فيدعي أن احتفالاً بزواج في حارة مجاورة تُنثَرُ فيه النقود على الناس فرحاً وابتهاجاً فَيسرعُ الأطفال إلى تلك الحارة كي يلتقطوا بعض النقود، وتنخدع نفس أشعب بالقصة التي اخترعها فيعدو خلف الأطفال كي يلتقط أيضاً بعض تلك النقود التي لا وجود لها. على أنه حتى في حالة رفض السامع للوشاية ورفض كل شك في كذبها تراه مهموماً بسبب ما نُقل إليه من الذم أو الرغبة في الأذى لأنه يعد ما نقل إليه قد أنقص من نفسه لدى نفسه وأنقص من اطمئنانه إلى الحياة عامة والى النفوس البشرية فيحسن امتعاضاً وتضايقاً من الغائب الذي نقل الواشي عنه ما لم يقل أو ما لم يفعل لأنه كان سبب ذلك النقل الباطل والوشاية الكاذبة التي آلمته حتى وإن كان سبباً غافلاً عما سببه في نفس الناقل الكاذب ولكن سامع الوشاية المتألم منها بالرغم من تكذيبه لها في سريرة نفسه قد ينقم على ذلك الغائب المكذوب عليه سواء أكان الواشي الكاذب معذوراً أم غير معذور في بغضه له الذي دعاه إلى أن يكذب عليه في وشايته. وهذا أيضاً من منطق النفوس البشرية. ومما يزيد في حنق سامع الوشاية أنها قد تكون مما لا يستطيع ذلك السامع فحصه أو مخاطبة المنقول عنه؛ ولا سيما إذا كان سامع الوشاية عظيماً أو رئيساً فيخشى على رياسته وعظمته أن تبتذل عند التفصيل في كشف الوشاية وفحصها وتحقيقها، ولا سيما إذا كان الغائب المنقول عنه مرءوساً ليس في منزلته؛ فيرى من الانتقاص لنفسه أن يطلعه على ما نقل الواشي إليه لأنه يضطر أن يُحَدِّثهُ بالقول المر الذي قيل عن شخصه، أي شخص العظيم، وهذا فيه إحراج لعظمته فيفضل أن ينتقم من غير بحث ومن غير

ص: 20

ظهور بينات أو أدلة على صدق الواشي، وتتلمس نفسه لنفسه الأعذار عندما تحوِّل الشبهات إلى بَيِّنات تخلصاً من إحراج عظمته بالتفوه بما قيل في حقه. وإذا كان هذا شأن من توجب عليه منزلته السير بالعدل فما ظنك بالكثير من الناس الذين يرى كل لنفسه عظمة مثل تلك العظمة، وإن لم تكن له تلك المنزلة التي تفرض عليه ما تفرض منزلة الأول. والذين يقرءون كل يوم ويسمعون عما يسمى بالطريقة الأمريكية في الاحتيال، فلا تمنعهم قراءتهم عنها من الوقوع في شرك المحتالين، ووسائل تلك الطريقة الأمريكية في الاحتيال أسهل من وسائل الوشاة. فالنفس البشرية تنقاد بالخيال والإحساس وبالرهبة والرغبة أكثر من انقيادها بالعقل والمنطق الصحيح والعدل.

ومما يزيد الوشاية تمكناً من النفوس أن النفوس طبعت على الخوف، فكل نفس تقبل الوشاية لا لأنها اقتنعت بصدقها بل لدرء الشر واتقاء الضر المحتمل، وهي قد تسرع بالإساءة إلى الغائب المنقول عنه إذا وجدت أن إساءتها إليه أسهل من ملاطفته وملاينته، وإنما تريد تعجيزه عن الشر بالإساءة إليه قبل أن يسيء إليها. وهي تُزَكيِّ إساءتها إليه قبل التأكد من صدق الوشاية بأن تعد تلك الإساءة من ضرورات الحياة ومكارهها التي لا مناص منها، والتي تدعو إلى المبادرة بالشر حيطة وحذراً؛ إذ أن البدء بالهجوم والمفاجأة به نصف الظفر والانتصار كما يقولون. وهذا أيضاً من منطق النفوس البشرية وأعني المنطق الخفي لا الذي يدرس في الكتب.

أضف إلى كل هذه الأسباب ما يدعو إلى قبول الوشاية من الرغبة في الأذى، وهي قد تكون رغبة مُلِحَّة وشهوة قاهرة في كثير من النفوس ولا سبب لها إلا التمتع بارتكاب القسوة وعمل الشر وإيلام غيرها وهذه الرغبة في الأذى والمتعة في القسوة لا تعجز عن خلق الأعذار والأسباب والشواهد والأدلة والبينات كي تُزَكيِّ نفسها في التمتع بالقسوة وفي ارتكاب الشر، وصاحب هذه المتعة النفسية في إيلام غيره يُرَحِّبُ بالواشي النمّام كما يرحب العاشق بحبيبه الذي طالت غيبته لأن ذلك الواشي يساعده على خلق الأعذار التي يُزَكيِّ بها رغبته في عمل الشر.

عبد الرحمن شكري

ص: 21

‌الموت.

. .

حججه اللائحة الملزمة

للشاعرة أيلا هويلر ولككس

للآنسة الفاضلة (الزهرة)

سيدي الأستاذ الجليل الزيات

هل كنت أريد مهادنة لوعتي التي أهاج مدامعها مقالكم المؤثر البليغ بمناسبة الأربعين (في حزن المليك الطفل) حين لجأت إلى ديوان نفيس، لشاعرتي العزيزة أيلا هويلر ولككس، ساعة أن انتهى إلى العدد الأخير النفيس من (رسالتكم) العالية!! وهل كانت المصادفة الرحيمة هي التي طالعتني لأول ما فتحت الديوان بهذه القصيدة وأجرت القلم بترجمتها في الحال، رجاء مغالبة تلك الحسرات العصية التي ما برحت تغلب الجلد وتغذي الجزع، حتى كادت تسد سبيل الصبر، وتصرف عن مواطن الرشد، وتذهل عن سنة الله في خلقه، والدهر في أهله، مذ مضى الملك الشهيد (غازي الأول) فرع الأرومة الزكية، والقائم من منصب السؤدد في الذروة العلية، ذاك الذي غادر قلب العروبة ينعى مهجته، وجعل أمل المحامد يبكي بهجته. وكيف يعزى المصاب من لم يدع لهم المصرع الأليم والخسارة الفادحة فؤاداً يتجلد في وجه الشجون، لندرة الرجال في هذا الشرق الجديب المحزون؟!

أقول هل كانت المصادفة العجيبة، مدداً رحيماً للتماسك عن عزم في النفس لا عن يأسي، بل تذكرة نافعة تلجئ إلى الاقتناع بأن الأسوة في بعض الأمور قد تكون سلما إلى التأسي. . . إذا عجز العزاء وأعيا المعزي. . . على أنه سبحانه المسؤول أن يكتب لآلاف القلوب المكلومة عزاء جميلا، وأجراً على التصبر جزيلا، وأن يعزى بطول بقائكم دولة الفضل والكمال، ويسكب على الفقيد الشاب العظيم سحائب الرحمة والرضوان بمنه وكرمه.

(الزهرة)

يقول الموت:

لِمَ ترتاع من إيذان قدومي، وتتقبض من ارتقاب زورتي أيها الإنسان؟ ولِمَ تهطع مستطيراً مروّعاَ حين آتي لأقبضك إلى رحمة الله وأنتقل بك إلى دار القرار؟ لم تفرّ من أمامي

ص: 22

مشيحاً مستهلكاً، وتتشبث بأذيال الحياة مُزَاحِمتي الأفاكة المرجفة، ورصيفتي السرّاجة المرّاجة!

ألستُ أفيئك ظلال السكون العميق وأقلبك بين أعطاف الدعة، إذ أريحك من المشاق وأعفيك من الشقاء فلا تشغل ذرعك بمهمة، ولا تنقل قدمك إلى دَرَك!

فلماذا تحاول أن تحاجزني عن ذاتك، وتقيم بيني وبينك السدود؟ لماذا تتهضمني وتطلق لسانك في حرمتي وتعبث بكرامتي! لماذا تسلط عليّ بأس لعناتك، وتنزل بي أنكى نقماتك!؟

وأنا - مذ خلقني الله قانوناً طبيعياً لا يدفعه دافع في هذا العالم وجعلني سنّة الخلق التي لا تبديل لها ولا تغيير لم أجرّ على أحد مضرّة ولم أمسّه بأذى، بل اسَوْتُ كل جرح ونثثتُه بالبلسم الشافي، وضمدت كل قرح وأنضجته بالمسخن الوافي.

وظللتُ هذه الدنيا بستر راحتي الأبدية، إذ ضربت لها خيمة الطمأنينة الدائمة، وأوجدت لها ملجأ الغبطة القائمة، لكي تأوي إليهما مما يندلع عليها باستمرار من نيران خطوبها اللافحة، ومصائبها اللاذعة، وهمومها الجائحة، وأطماعها الهائجة، ووساوسها المائجة، وألاعيبها المفترسة، وغواياتها المترامية، وزخارفها المتراصفة، وأحوالها المتقاذفة.

وتلك التضرعات العارضة التي طالما خرجت من أفواه ظمأى تلتمس الرحمة للنفس والعزاء فما ابتلت لهاتها بباطل، ولا حليت بتافه. . بل تلك الاستعطافات التي طالما صعدتها قلوب جياشة باستغاثات تنفطر لها المرائر، ولكنها لم تصب منها رغبة، لأن الحياة ولتها من قلبها جانباً صلباً، وأولتها من إعراضها نكيراً وكرباً.

لقد سوّغتها أنا واستجبتها وألقيت عليها رُخمتي، ومددت لها أكناف مرحمتي. . .

فهلاّ علمت أن عديلتي القاسية وقسيمتي الجافية هي التي تقلبك في ردغة الخبال وحمأة النكال، وتقصم ظهرك بوقر العقاب، وتسوقك كل يوم بسوط العذاب، وتخدعك بعقد يسبقه الانحلال والنصب، وتحطمك بزوال لا تتوقعه عن حِجْر النعمة، وصراع يأخذ عليك سبل الهناء، وكفاح يدفعك عن مناهل الرجاء، وإعنات للنفس بما تعلم أن غايتك فيه اللغو والفشل، وحملها على الجهد في مطالب لا يصحب جهدك فيها أمل.

هلاّ علمتَ أن شوكتي هي أعظم شوكة في الوجود، لأني آخر أعمال الحياة في الموجود. فعلام تتمسك بعروتها، وإلام تسكن إليها، ولِمَ تصارمني إذاً وتقلب لي ظهر المجن؟

ص: 23

(الزهرة)

ص: 24

‌الدعاية الإسلامية

للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد

ترجمة الأساتذة

عبد الفتاح السرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد العزيز عبد المجيد

انتشار الإسلام في غربي آسيا

أما القبيلة التي افتخر ذلك الشاب بانتسابه إليها فهي إحدى تلك القبائل التي اختارت أن تظل على المسيحية، بينما دخل في الإسلام غيرها من القبائل التي كانت تقطن ما بين النهرين كقبيلة بني نمير وبني قضاعة، وكانت قبيلة بني تغلب قد أرسلت من قبل وفداً إلى النبي (ص) في سنة 9 هـ، فأسلم مشركو هذا الوفد وعقد الرسول (ص) تحالفاً مع المسيحيين منهم الذين استبقى لهم عقيدتهم القديمة على ألا يُعَمِّدوا أطفالهم بعد ذلك. وقد حدا هذا الشرط الذي يخالف تماماً ما عهد عن محمد (ص) من صفات التسامح مع العرب المسيحيين الذين سمح لهم أن يختاروا إما الدخول في الإسلام وإما دفع الجزية، ولم يكرهوا مطلقاً على ترك عقيدتهم، قد حدا هذا الشرط إلى الظن بأنه شرط اقترحته العشائر المسيحية نفسها من بني تغلب بسبب عوامل اقتصادية. غير أن بقاء المسيحية مدة طويلة في هذه القبيلة دليل على أن هذا الشرط لم يعمل به. وقد نهى الخليفة عمر ابن الخطاب عن استعمال أي ضغط عليهم أو إكراههم على الإسلام حينما ظهر أنهم غير راغبين في هجر دينهم القديم، وأمر أن يتركوا في أمن ليزاولوا شعائره على ألا يعارضوا في دخول أي فرد من أفراد قبيلتهم حظيرة الإسلام، وألا ينصِّروا أطفال أولئك الذين أسلموا. وقد طلب إليهم أن يدفعوا الجزية، أعني ما فرض على غير المسلمين من الرعية؛ غير أنهم شعروا أن دفع هذه الجزية شائن لفخرهم القَبلِّي، لأن هذه الجزية قد فرضت نظير حماية الأرواح والأموال، ورجوا الخليفة أن يسمح لهم بأن يدفعوا من الأموال كما يدفع المسلمون، ولهذا دفعوا بدل الجزية كفلاً من الزكاة - أو الصدقة - التي هي مال فرض للفقراء من عقار المسلمين ومواشيهم. نعم تضجر المسلمون حقاً أن تبقى قبيلة عربية محافظة على العقيدة المسيحية. وقد أسلم أغلب بني تنوخ سنة 12 هـ حينما خضعوا لخالد بن الوليد مع

ص: 25

قبائل أخرى مسيحية من العرب. غير أنه يظهر أن بعضهم ظل محافظاً على العقيدة القديمة نحواً من قرن ونصف، فلقد روي أن الخليفة المهدي (158 - 169) رأى عدداً منهم يسكن قريباً من حلب، فلما علم أنهم مسيحيون غضب وأمر بهم أن يسلموا، وقد أجاب ذلك منهم نحو خمسة آلاف شخص. وقد آثر أحدهم أن يقتل على أن يعتنق الإسلام. وهنا تعوزنا - لتحقيق معظم هذه الروايات - التفاصيل التاريخية التي تشرح لنا زوال المسيحية من بين قبائل العرب المسيحيين الذين عاشوا في شمال الجزيرة. ومن الممكن أن يكونوا قد اندمجوا في العشائر الإسلامية المجاورة، وفي الغالب بطريق التسلل السلمي خفية، وإلا فلو أن المسلمين حاولوا إكراههم على الإسلام بالقوة حينما أصبحوا تحت سلطانهم لما كان من الممكن أن تظل المسيحية حية بينهم إلى عصر الخلفاء العباسيين.

وهاك أهل الحيرة أيضاً فقد قاوموا كل الجهود التي قام بها خالد بن الوليد ليحملهم على قبول الإسلام. وقد كانت هذه المدينة (الحيرة) إحدى المدن الشهيرة في حوادث الجزيرة العربية. وقد حسب ذلك البطل الإسلامي المغوار أن التوسل إلى أهل الحيرة بصلة النسب العربية كاف لحملهم على أن ينضموا إلى اتباع الرسول العربي. ولما بعث سكان المدينة المحاصرة وفداً منهم إلى القائد المسلم ليتفقوا معه على شروط التسليم ويصالحوه سألهم خالد: (من أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب، أم عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟). فقال له عدي، وكان نقيب القوم:(بل عرب عاربة وأخرى مستعربة) فقال خالد: (لو كنتم كما تقولون فلم تحادونا وتكرهوا أمرنا). فقال له عدي: (ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية). فقال: (صدقت)، وقال:(اختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا؛ إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة). فقال عدي: (بل نعطيك الجزية). فقال خالد: (تبّاً لكم، ويحكم، إن الكفر فلاة مَضلَّة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي).

وقد اتخذت كل الوسائل اللازمة لوعظ أولئك الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً وإرشادهم وتعليمهم، لأنه كان من الضروري - وقد أخذت القبائل تدخل في دين الله بهذه السرعة - أن يؤخذ الحذر حتى لا يخطئوا في العقيدة أو العبادات والشعائر، كما يخشى هذا طبعاً إذا

ص: 26

كان إرشاد حديثي الإسلام غير صحيح. ولهذا بعث الخليفة عمر بالمعلمين لكل الأقاليم. وقد كانت وظيفة هؤلاء المعلمين أن يعلموا الناس القرآن، وأن يرشدوهم إلى كيفية القيام بشعائر الدين الجديد. وكان على حكام الأقاليم، شباناً كانوا أو شيوخاً، أن يحافظوا على حضور صلاة الجماعة، وبخاصة صلاة الجمعة، وفي شهر رمضان. ويمكننا أن نحكم على مقدار العناية التي وجهت إلى تعليم من دخلوا الإسلام حديثاً وإرشادهم من هذه الحقيقة؛ وهي أن وظيفة التعليم والإرشاد هذه لم توكل إلى شخص أقل خطراً ومقداراً من خازن بيت المال نفسه.

ومن تلك الأمثلة السابقة التي تدل على تسامح المسلمين الظافرين مع العرب المسيحيين في القرن الأول الهجري، ذلك التسامح الذي ظل خلال القرون التالية. نستطيع أن نستنبط واثقين أن تلك القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك باختيارها وطوع إرادتها. والدليل الواضح على ذلك التسامح هو بقاء العرب المسيحيين حتى اليوم في وسط الجماعات الإسلامية.

ويحدثنا (لايارد) أنه مر بعشيرة من المسيحيين في ناحية الكرك، شرقي البحر الميت، وأن هؤلاء لا يختلفون عن العرب المسلمين لا في لباسهم ولا في عاداتهم. ولقد ذكر رهبان جبل طور سينا لبوركهارد أن بضعة بيوت من البدو المسيحيين ظلت حتى القرن الثامن عشر على دينها، وأن أخرهم امرأة عجوز توفيت سنة 1750 ودفنت في حديقة الدير.

وكذلك لا يزال على المسيحية كثير من العرب من قبيلة بني غسان الشهيرة، وهم عرب خلص، وقد اعتنقوا المسيحية حوالي أواخر القرن الرابع الميلادي. وهم يستعملون اللغة العربية في صلواتهم الدينية منذ أن خضعوا للكنيسة الرومانية في القرن السابع عشر.

(يتبع)

ص: 27

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

ولست أدري كيف كان يطمع بلنت في أن يقنع غلادستون بالعطف على قضية الأحرار في مصر، وقد كان رجال السياسة في إنجلترا يسعون ما وسعهم السعي إلى الاستيلاء على مصر منذ أن التقى البحران، وهو إنجليزي لا تخفى عليه نيات الإنجليز وأساليبهم تجاه الشعوب الشرقية؟

إني أفهم أن تجوز ألاعيب السياسة الإنجليزية على أولئك الإغفال من أهل الشرق الذين أذهلهم ما هدهم من ضعف عن الحقائق فصدقوا الباطل وهم يجهلون، أو الذين غرتهم بأوطانهم زخارف العيش ووساوس النفس فانغمسوا في الباطل وهم يعلمون؛ أما أن تجوز الأباطيل على إنجليزي عليم بالسياسة وأوضاعها فهذا ما لا أفهمه، ولذلك فلولا ما تأكد لدى من إخلاص مستر بلنت لقضية الوطنيين حتى قضى الاحتلال فيها قضاءه لارتبت في نياته كما أرتاب في نيات الساسة من أهل بلاده أبداً.

وكأن القدر يأبى إلا أن يظهر بين حين وآخر من الإنجليز أنفسهم من لا تطغى على ضمائرهم خدع السياسة، أو يشوه الجانب الإنساني من نفوسهم أوضار العيش، فيكون من هؤلاء حجة على المرائين الماكرين من بني قومهم، ويكونون بينهم شهوداً من أهلهم عليهم تنبعث أصواتهم مجلجلة فتملأ أسماع أولئك الساسة الذين يوصدون أسماعهم دون أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها مهما بلغ من قوة انبعاثها؛ ومن هؤلاء الأحرار روثستين وبلنت ومن حذا حذوهما.

قدر على شريف أن يلاقي عنتاً شديداً من مسلك الخديو من أول الأمر! وأخذت وزارته تشق طريقها في حذر شديد بين تلك الصعاب القائمة، وكان أعظمها دسائس الأجانب وتوثبهم في ذلك الوقت، ولقد هال هؤلاء الأجانب انبعاث الروح الوطنية إذ رأوا فيها

ص: 28

بوادر القضاء على ما يمنون به أنفسهم في مصر.

وسارت سفينة الحكم بين هذه التيارات المختلفة، تنكر الخديو لقضية الحرية ونشاط المدافعين عن هذه القضية، وتربص الدولتين بالحركة جميعاً.

وكان طبيعياً أن تفيق البلاد على صيحة عرابي، وأن تنطلق النفوس من عقالها، فلقد أتيح للناس قدر من الحرية وهم إليها عطاش تتحرق نفوسهم؛ فبدأ الوطنيون يعبرون عما احتبس في صدورهم منذ عزل إسماعيل، وعادت الصحف تعبر عن مساوئ التدخل الأوربي وتندد بأساليب الدخلاء في مصر الذين سلبوها أقواتها بالحيلة وحالوا بينها وبين أمانيها زمناً بالإرهاب والبطش؛ والذين كان يحتل الكثيرون منهم الوظائف المصرية الخطيرة ويؤجرون على أعمالهم فيها إن كان ثمة لهم فيها من أعمال أجوراً غالية من خزانة مصر الفقيرة.

وأخذت جريدة الطيف، وكان يصدرها عبد الله نديم، تقاوم البهرج الزائف الذي بدأ يلتمع في مصر فيخطف سرابه أبصار الجاهلين، والذي سماه الأوربيون مدنية ليكون لهم منه سلاح من طراز آخر يضيفونه إلى أسلحة الدس والكيد التي سلطوها على البلاد؛ وحمل الكرام الكاتبون على المراقص وحانات الخمور ودور المجون ومواخير الدعارة وغيرها من مباءات الفسوق الذي كان يذيعها في مصر أولئك الذين جعلوا من مبررات تدخلهم في شؤون البلاد رغبتهم في هداية أهلها إلى المدنية!

وكان بيت عرابي قبل أن يعين في منصبه الجديد مقصد الناس من جميع الطبقات والهيئات الوطنيون والأجانب في ذلك سواء؛ وكانت شهرة عرابي تطغى على شهرة جميع الرجال من حوله حتى البارودي وشريف وكان لهما الحكم والجاه؛ والحق لقد اتجهت الأنظار إلى عرابي منذ يوم عابدين وأصبح من المستحيل أن يعتزل السياسة أو تعتزله السياسة، وقد خطا في سبيلها تلك الخطوة الجريئة التي كان النجاح حليفها.

أخذنا على عرابي أنه حينما طلب إليه أن يخرج من القاهرة بفرقته اشترط أن يكون ذلك بعد صدور أمر الخديو بدعوة مجلس شورى النواب، ونعود فنأخذ عليه أنه تدخل في الأساس الذي يجتمع عليه المجلس. فكان شريف يرى أن يكون ذلك وفق لائحة عام 1866، أي أول لائحة للمجلس على أن يقوم المجلس بالتعاون مع مجلس الوزراء بوضع

ص: 29

لائحة جديدة تجعل منه مجلساً نيابياً يلائم حال البلاد؛ وبعد معارضة شديدة وافق عرابي على ذلك.

ثم تدخل عرابي في مسألة أخرى وهي الميزانية المخصصة لإبلاغ الجيش ثمانية عشر ألفاً من الجند، فلقد أبدت المراقبة المالية عدم موافقتها على المبلغ اللازم كله، وبعد أخذ ورد وافق عرابي على ما تيسر دفعه من هذا المبلغ على أن يقوم بتوفير الباقي من وجوه أخرى.

لقد قطع عرابي على نفسه عهداً كما أسلفنا ألا يتدخل في شؤون الحكومة القائمة وعلى هذا الأساس قبل شريف رياسة الوزارة؛ لذلك نرى أن تدخل عرابي في الأمور التي ذكرناها يوجب ملامته ولن يَشفع له أنه كان يطلب الخير ولن يخفف من اللوم عليه أنه رضى آخر الأمر ولم يسبب للحكومة عنتاً، فهذه الأمور من اختصاص الحكومة وهي لن تمس كما نرى جوهر قضية البلاد.

لم ين أعداء هذه الحركة الوليدة عن مناوئتها في مصر وخارج مصر؛ والى هذه المناوئة يرجع سبب جموح هذه الحركة والتوائها على شريف ثم خروجها آخر الأمر من يده، ولو أنه قدر لمصر في تلك الأيام العصيبة أن آزر الخديو كبير وزرائه ضد الدسائس التي كانت تحاك للبلاد لأمكن شريف أن يسير بالسفينة إلى شاطئ السلامة، ولكن الخديو وا أسفاه لم يكتف بعدم المؤازرة بل لقد التجأ إلى الأجانب فكان هذا العمل من جانبه أقوى مساعد على نجاح سياستهم. . .

وكان أوكلند كلفن العضو الإنجليزي في لجنة المراقبة المالية، وإدوارد مالت قنصل إنجلترا في مصر هما اللذان يحكمان الشباك حول الخديو، ولقد كانت لهما سياسة ماهرة غادرة تدور على أسس أحكم وضعها أولهما وفق ما تعلم في الهند؛ فهما يظهران الولاء عند الخديو فيدسان له بذلك السم في الملق، ثم هما يخوفانه أبداً من تركيا والعرابيين جميعاً فيذران قلبه هواءاً، وهما بعد ذلك يضللان الرأي العام في بلادهما ويرسلان التقارير السرية بما يجب أن يتبع إلى وزير الخارجية.

وكانت وسيلتهما في تضليل ذلك الرأي العام؛ السيطرة على الصحف بالسيطرة على مراسليها، وكان كلفن نفسه مراسلاً لإحدى الصحف الهامة، وكان مراسل التيمس يعتمد

ص: 30

عليه في استقاء المعلومات، أما شركتا روتر وهافاس، فقد كان يعطى لكل منهما ألف جنيه في العام من خزانة مصر! وقل أن نصادف في تاريخ السياسة عملاً أشد فجوراً من أن تحارب قضية شعب بنقود من خزانته!

وكانت الحركة الوطنية تلاقى أبلغ الكيد خارج مصر من جانب الصحافة أول الأمر، إلى أن منيت بعد ذلك بالتدخل الرسمي الفاجر، الذي لم يدع في تاريخ العالم عرفاً إلا خرج عليه، ولا قاعدة ألا سخر منها وحطمها تحطيماً.

أخذ محررو الصحف في إنجلترا وفرنسا ينددون بثورة مصر ويسخرون من نهضة مصر، ولو أنهم كانوا يحترمون أنفسهم حقاً، أو يحترمون المبادئ التي نادت بها بلادهما لمنعهم ذلك عما فعلوه. . .

وماذا جنت مصر يومئذ حتى تستقبل أوربا حركتها بأسوأ ما تستقبل به الحركات؟ ألم تجر في أوربا الدماء في سبيل تلك المبادئ التي كان ينادى بها المصريون؟ وكيف تكون نغماتها عذبة مشتهاة إذا تغنى بها أهل تلك الشعوب، ثم تكون ممجوجة مملولة إذا هتف بها الشرقيون؟

هذا شعب ينفض عنه غبار القرون، ويخطو نحو الحرية كما خطت أوربا، ثم هو يذب الأجانب عن قوميته، وقد ثقلوا عليها بامتيازاتهم الأثيمة الظالمة ثقل الحشرات والهوام، فماذا كانت ترى أوربا في هذا من معاني الفوضى والهمجية ولم يصحب حركة المصريين عدوان على أولئك الأجانب ما كانوا يلاقونه منهم من عنت وإفساد؟ ألا إنها السياسة تقلب عرف الناس نكراً، وتجعل المبادئ التي ينادى بها دعاة الإنسانية في نظر الساسة أحلاماً لا تجد لها مستقراً إلا في رؤوس الحمقى من الفلاسفة ورؤوس الأغرار من مصدقيهم.

أما السياسة فقد كانوا لا يتوانون عن الكيد، ولا يفتر لهم سعى في تلمس السبيل التي يستولون بها على الفريسة، وكان موقف إنجلترا وفرنسا من مصر ينطوي على كثير من المعاني التي تبعث على الألم والضحك معاً، وكم من المآسي ما تضحك منه النفوس ولكنه ضحك المرارة التي لن يبلغ الدمع مبلغها.

وكان موقف الدولتين كموقف رجلين يطمعان في استلاب شيء وكل منهما يريده لنفسه دون الآخر ولكنه يموه على صاحبه، وكل من الرجلين يفهم حق الفهم أن الآخر يدرك

ص: 31

حقيقة موقفه منه، ولكنهما على الرغم من ذلك يتغابيان ويضللان!

هذا هو موقف الدولتين على مسرح السياسة في تلك الأيام، ولكم شهد المتفرجون يومئذ من الأساليب الميكيافيلية وأوضاعها، ولكم شهدوا من أساليب غيرها لو قرنت بها الأولى لكانت منها كالحسنات، ثم يسدل الستار والمتفرجون من أهل مصر لا يملكون أن ينطقوا بكلمة استهجان لما رأوا، بل لقد فرض عليهم أن ينظموا عقود المدح وإلا عد سكوتهم جحوداً وعناداً، وأي شيء أوجع وأنكى من أن يرغم شعب على تقبيل الأيدي التي استلبته حقوقه والأغلال التي دارت حول عنقه.

ويظهر أول شاهد عل السياسة الإنجليزية في تقرير كتبه كلفن بعد الثورة بعشرة أيام جاء فيه: (أرى أن ليست الحال الحاضرة بطبيعتها إلا هدنة، وأن ما وصلنا إليه من التسوية ليعطينا مهلة نستجم فيها ونلم فيها بالقوى التي تعمل حولنا ونسعى في الاستفادة منها أو القضاء عليها).

وليس في هذه العبارة أول شاهد على السياسة الإنجليزية فحسب، بل إن فيها ملخص تلك السياسة؛ فستتربص إنجلترا للحركة حتى يحين الوقت وحتى تستطيع أن تعمل بمفردها دون فرنسا. . .

وكان شريف يقضاً يفطن إلى دقة الموقف ويدرك مرامي السياسة الإنجليزية وأساليبها؛ ولذلك كان لا يفتأ يحض أنصار الحركة الوطنية على اتباع الحكمة ومجانبة الشطط حتى لا يكون من أعمالهم أو أقوالهم ما تسيء أوربا فهمه فتسوء بذلك العاقبة.

وأخذ العقلاء من رجال الحركة الوطنية يعاونون شريفاً على تثبيت قواعد سياسته، وكان من أثر ذلك أن تنازل عرابي عن رأيه في الموقفين السالف ذكرهما، وكان من أثره أيضاً أن خففت الصحف من لهجتها وكفكفت من غلوائها؛ ولقد كان للأمام محمد عبده فضل كبير في توجيه العناصر الوطنية نحو هذا المسلك الحكيم. . .

ولكن الأفق ما لبث أن تجمعت في حواشيه الغيوم وأحست السفينة بوادر عاصفة قوية ما عتمت أن هبت شديدة عاتية نفد لها صبر الربان أو كاد، وتلك هي أزمة الميزانية الشهيرة.

فرغ شريف من إعداد اللائحة الجديدة للمجلس النيابي ثم عرضها على النواب؛ وشد ما كانت دهشتهم أن رأوا شريف يقرر فيها ألا يكون من اختصاص المجلس عند النظر في

ص: 32

الميزانية البحث في جزية الباب العالي والدين العام، وكل ما فرضه قانون التصفية على الخزانة من نفقات.

وهال النواب وأغضبهم أن يكون ذلك باتفاق شريف مع المراقبين، فرفضوا ذلك وأصروا على أن ينظروا الميزانية كاملة، واعتبروا ذلك من الحقوق التي لا تقبل مساومة مهما يكن من الأمر.

وأخذ شريف المسألة من الناحية العملية، فلم يشايع النواب في نظرياتهم، وأخذ يطلب إليهم الأنات والحذر ويريهم عاقبة التطرف والتعجل، ولكنهم لم يلتفتوا اليه، وظهرت في الوزارة نفسها بوادر التفكك. فلقد كان البارودي يطمع في الحكم بعد شريف فكان لذلك يشجع الوطنيين في موقفهم سراً.

وكان سلطان باشا رئيس المجلس ينقم على شريف أن لم يسلكه في سلك وزارته فوجد في الخلاف القائم فرصة ينال بها من شريف فسرعان ما اتهم شريف بالاعتدال، ثم حمل اعتداله على الجبن والضعف. . . ثم بلغ الأمر إلى اتهامه بالخيانة.

ووقف الربان يواجه العاصفة في صبر وجلد، وهو يؤمل أن يجنح النواب إلى السلام والاعتدال، ونشط الشيخ محمد عبده في معونة شريف، ومما ذكره في هذا الصدد قوله:(لقد ظللنا ننتظر حريتنا مئات السنين، أفيصعب علينا أن ننتظرها بضعة شهور أخرى؟).

ثم بدا على الأفق بعد حين ما يبشر بقرب انكشاف الغمة! فلقد أخذ النواب يتدبرون عاقبة هذا التشدد، وبدأ العقل يتغلب شيئاً فشيئاً على العاطفة.

(يتبع)

الخفيف

ص: 33

‌مأتم غازي

للسيدة وداد سكاكيني

أينَ غابَ اللحن مِنْ شَدْو الطيور

أينَ غابْ

كيف صار الزهر من (قصر الزهور)

في التراب

شعلة للمجد من نار ونور

كالشهاب

سطعت ثم اختفت بين القبور

كالسراب

أين غازي سيد العُرب الفخور

بالغلاب

كان رمزاً فوق هامات العصور

للشباب

التحيات الطيبات لقبر غازي الندي الريان الجاثم على ضفاف دجلة الجميل، في ظلال النخيل، حيث يرقد قائد العرب فيصل العظيم في مضاجع الخلود. هناك في الحلل السود تحت خفق البنود رفرفت أرواح الأسى والأحزان، من كل الجيران والإخوان؛ وفي هذا اليوم العصيب عادت نساء الشام تسفح الدمع الصبيب، على المليك الحبيب.

إن في كبد الشام زفرات لا هبات، إذ كادت تجدد بيعة فيصل لشبله غازي وتمد إليه الأيدي على الولاء والوئام، ففقدت بموته أملها الباسم وعرشها الحالم، ولكنها عاهدت النفس أن يعيش من بعده أهلوها الأباة إما أعزة أحراراً أو يموتوا كراماً. هذا يوم له ذكراه الأليمة في قلوب العرب. النساء يشاركن العراق في الأتراح بعد أن شاطرنه الأفراح في عهد أشبال الحسين الصناديد من هاشم وعبد شمس، المناجيد في غوث العروبة اللهيفة التي قبَّل أبناؤها الغطارفة الصِّيد على أيديهم الشريفة صفحات السيوف ومسحوا عنها الدماء فاستراحوا في ظلهم الرطيب من غدر الزمان وظلم الإنسان.

لهفي عليك يا غازي يا عبقري الشباب لم تمتع بالشباب؟! لقد تركت قافلة العرب في حومة الصحراء، ظمأى إلى الماء، وكأنها أطبقت الجفون الوسنى على أحلامها فيك وهي تسري على الرمال فتخطفتك المنون من بين العيون، فروعت القافلة، وتهاوت أمانيها العِذاب، فتاهت في أسراب الرمال، وغابت منها الأشباح والظلال، تنادي الآمال وتنشد الرجال.

يا حسرتاه على النسر الطيار كيف هيض جناحاه، وكان في الثريا فهوى إلى الثرى، وثنى رأسه الأشم بعد أن علا بجبينه الوضاح وروحه القاحمة، فزاحم النجوم وحوم في آفاق

ص: 34

الحق والجمال حتى حلق في أمجاد العرب، فضجت له البيداء والفيحاء بالتأييد والتمجيد، وأشرقت من تلك المسارب والمحاريب بأنوار الخير والسلام.

مَنْ كان يحسب من العرب أن ذلك فورة العمر ووثبة الموت وهبَّة الضوء قبل الانطفاء؟ لم يكن مأتم غازي في دنيا العروبة واحداً، وإنما كان حسرات موزعة في حبات القلوب، وحسرات منهلة من الصميم. على أن القلوب التي أحبك بها الناس فضموك في شغافها كانت لك في حياتك مهداً، هي التي احتوتك اليوم يا غازي بالذكرى فصارت لك لحداً. نساء دمشق يمجدن الساعة هذه الذكرى الخالدة التي تلاقت فيها مروءة الحسين وبطولة فيصل وشباب غازي وعروبة الهاشميين الميامين.

لقد حملت يا غازي أمانة جدك ورسالة أبيك وأنت طري العود غض الإهاب، فكتبت في سجل العرب الحديث صفحات نيرات، وأعدت المجد التليد، إلى دار الرشيد، ولم تضيع رعاية فيصل للمرأة العربية وعنايته بنهضتها، فكنت على رأيه السديد: لا يقوم بناء قوم إلا بالرجل والمرأة؛ فسرت يا غازي على نهجه ومهدت للإصلاح والفلاح من بعده؛ فعززت ثقافة الإناث وحدبت على نهضة المرأة في العراق. فيا ليت القدر لم يعجل باختطافك حتى تتم رسالتك وترى عبقريتك ممتدة في أرض الرافدين وحيثما ترفع راية القرآن. . .

(دمشق)

وداد سكاكيني

ص: 35

‌العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية

أربعون يوماً في الصحراء الغربية

للأستاذ عبد الله حبيب

- 4 -

تحدث المحرر في المقالات السابقة عن بعض مشاهداته في الصحراء الغربية فوصف بعض عادات العرب وصفاتهم وحكامهم وساحل الصحراء وهطول الأمطار وموارد المياه وسكان الساحل وقبائل الصحراء وسكة حديد مريوط. وهو في هذا المقال يحدث القراء عن الطريق إلى مرسى مطروح

الطريق إلى مرسى مطروح

لعل أهم ما يفيد القارئ ويلذه هو حديث اليوم عن الطريق إلى مرسى مطروح. وسأوجز القول إيجازاً كي لا يمل القارئ حديث الصحراء، وسأعتمد في تدوين ما أحدث به القراء على ما شهدته خلال الرحلة وما دونه صديقنا الصاغ رفعت الجوهري في كتابه المهيأ للطبع عن الصحراء الغربية.

يمكن القول إجمالاً أن الطريق الساحلية من الإسكندرية إلى مرسى مطروح صالحة للسير وقطعها بالسيارات سهل ميسور، وهي عامرة بالبلاد وترتبط أجزاؤها بالمواصلات التليفونية، وتتوفر فيها وسائل إمداد السيارات من بنزين ووقود، كما يمكن الحصول على الماء على طول الطريق بسهولة.

ويبلغ طول المسافة من الإسكندرية إلى مفرق العامرية 21 كيلو متراً كلها مرصوفة بالإسفلت، ثم تمتد الطريق بحالة شبه صحراوية إلى مسافة مائتي كيلو متر تقريباً حتى ناحية فوكه، ومن هذه إلى مرسى مطروح، والمسافة بينهما تبلغ 15 كيلو متراً كلها مرصوفة بالإسفلت.

من الإسكندرية إلى العامرية

تبتدئ الطريق في الإسكندرية من ناحية المكس ثم بوابة خفر السواحل، ومنها تجتاز جسراً خشبياً حتى لوكاندة المكس المعروفة، وعندها تعبر شريط السكة الحديد ثم تمتد معبدة إلى

ص: 36

الدخيلة، وبعد ذلك بنحو 2 كيلو متراً تتجه الطريق يسرة فتصعد تلاً ثم تأخذ في الهبوط، وبعد نحو كيلو مترين آخرين تسير يمنة ثم يسرة وتمر ببوابة من الحجر خاصة بمصلحة الحدود وذلك للاطلاع على رخص المرور.

يعترض الطريق بعد ذلك جسر طوله أربعة كيلو مترات يقطع بحيرة مريوط التي تنبسط إلى مدى ما يصل إليه البصر، وليس بها إلا بعض زوارق الصيد الصغيرة تروح وتغدو في مياهها المترامية، وتتجه الطريق بعد قطع هذا الجسر إلى تلال تحوط البحيرة من جهة الجنوب إلى أن تتفرع - بعد كيلو ونصف - إلى طريقين: الأولى وهي الطريق الرئيسية تتجه غرباً؛ والأخرى جنوباً فتقطع سكة مريوط الحديدية بعد كيلو مترين من المفرق إلى أن تصل إلى مركز العامرية على بعد ثلاثة كيلو مترات من محطة السكة الحديدية. ومن العامرية تتجه الطريق جنوباً إلى وادي النطرون فالقاهرة عن طريق الصحراء.

العامرية

أما العامرية فهي بلدة صغيرة، ومركز القسم الشرقي التابع لمصلحة الحدود وبها سراي لخاصة جلالة الملك، ومزارع عظيمة لجلالته، وحدائق واسعة للعنب والزيتون، وتقوم بها صناعات عربية حديثة لعمل السجاجيد، وتنبت بها زهور النرجس الأبيض الطبيعي بكثرة.

وعلى بعد أربعة كيلو مترات منها توجد بئر المكادرة التي يبلغ عمقها 12 متراً، ومياهها حلوة. وعلى مسيرة ستة كيلو مترات من هذه البئر في اتجاه الشمال الشرقي يوجد تل مرتفع يستطيع الواقف عليه أن يشرف على منظر بديع جداً لبحيرة مريوط، ومن ورائها يرى الإسكندرية.

من العامرية إلى بهيج

تبتدئ الطريق الرئيسية الموصلة إلى الغرب، ومن مفرق (العامرية - بهيج) الذي يقع إلى شمال محطة السكة الحديدية بنحو كيلو مترين، ومنه إلى الجنوب الغربي موازية لشاطئ بحيرة مريوط، وتفصل بينهما سلسلة صغيرة من التلال، وبعد اثني عشر كيلو مترا من المفرق تمر الطريق ببئر (سينة) وبعدة آبار أخرى.

ولكي نختصر الوصف نكتفي بذكر البلدان التي تقع على طول الطريق بعد ذلك إلى مرسى

ص: 37

مطروح مكتفين بذكر البلدان التي لها قيمة تاريخية، وتتصل بها معلومات طريفة:

بهيج

هي مركز لقسم من هجانة الحدود، وبها مغازل (للأكلمة) اليدوية، وهي معروفة لدى المشتغلين بالآثار إذ تقع على بعد أحد عشر كيلو متراً تقريباً منها بلدة أبو مينا وهي سانت ميناس القديمة.

ويرجع تاريخ هذه البلدة إلى القرن الرابع الميلادي، وقد توفي فيها القديس سانت ميناس سنة 296 ميلادية. وتحتوي على كنيسة مبنية على الطراز الروماني وكنيستين أخريين صغيرتين وبعض مبان أثرية أخرى.

قصة غريبة

وللقديس سانت ميناس قصة غريبة إذ يقال إنه كان أحد الجنود الرومانيين الذين اعتنقوا المسيحية في زمن الإمبراطور دقلديانوس الذي أمر بذبح جميع المسيحيين إن لم يرتدوا عن دينهم. أما ميناس فقد أوقعوا به صنوف العذاب ثم قطعت رأسه سنة 296 ميلادية. لكنه كان قد أوصى قبل وفاته بأن يدفن في مصر، فلما نقلت الفرقة التي كان يعمل بها في لوبيا أحضرت معها رفاته تنفيذاً لوصيته. وسارت الفرقة في طريقها حتى إذا وصلت إلى الساحل الإفريقي نقلت الجثة على جمل فمشى بها في الصحراء حتى إذا بلغ هذه النقطة برك ورفض القيام. وكان ذلك بجوار بئر مياه، فاعتبروا ذلك معجزة، وتقرر دفنه في المكان نفسه وسمي باسمه، وبعد ذلك شيدت الكنيسة فوق المكان وعلى مقربة من العين.

أبو صبر الأثرية

هي مدينة كبيرة تقوم على المكان الذي كانت تقوم عليه مدينة (تبازير ليس ماجنا) القديمة وهي إحدى المدن الثلاث الشهيرة الواقعة بين الإسكندرية والسلوم. وهناك على ربوة صغيرة في أحد أطراف البحيرة عند اتصالها بالبحر يقوم بناء فخم قديم على الطراز المصري طوله 295 قدماً، وربما كان أحد معابد الآلهة (أوزيربس)؛ ولم يبق من هذا البناء إلا مدخله وبعض الحجارة المنقوشة، وتوجد على مقربة من المعبد آثار بعض الغرف والمدافن المحفورة في الصخر.

ص: 38

منار فاروس الرومانية

على بعد بضع مئات من الأمتار من هذا المعبد كانت تقع المنارة الرومانية القديمة الشهيرة بفاروس، ولم يبق منها سوى قاعدتها وبعض آثارها.

أما المنطقة التي حول بهيج وبرج العرب فتكتسي في فصل الشتاء حوالي شهر فبراير بحلة جميلة من الزهور الزكية الرائحة تنبت طبيعية في الصحراء كما أن أرضها صالحة للزراعة، وأهم حاصلاتها الشعير، وتسكنها قبائل أولاد على ومنهم عدد كبير من الفرسان، وتمتد من برج العرب جنوباً طريق توصل إلى البحرية.

الحمام

هي بلدة تعد مركزاً تجارياً عظيماً للأغنام، والمياه فيها متوفرة وهي مشهورة بطواحين الهواء المنتشرة في جميع أرجائها، ولهذه البلدة تاريخ قديم، وكانت تعرف فيما خلا باسم (مانو كامينوس).

جامع سيدي عبد الرحمن

سميت باسمه محطة السكة الحديدية، ويقال إنها كانت قديماً مركزاً من مراكز السنوسية الشهيرة، ويحج إليها أعراب المنطقة، والجامع مبني على ربوة يشرف الواقف عليها على مناظر عظيمة للمنطقة المحيطة به.

الضبعية

وهي مركز تجاري كبير للبدو، وكانت تدعى قديماً (زيفر يوم)، وبها مبان لخاصة جلالة الملك ومركز للبوليس، ومبان حكومية وجامع. وتشاهد خيام العرب المسماة (بالخيوش) هناك بكثرة وبعضها مقام بحالة منظمة. ومن المناظر الطريفة مشاهدة الأعراب وهم يحرثون الأرض بمحراث يجره جمل بجواره حمار، أو جمل وحصان، والمحراث المستعمل هناك من الأنواع الخفيفة التي يحملها رجل واحد على كتفه.

ويصل المسافر إلى مرسى مطروح وهي عاصمة الصحراء الغربية وبها دار المحافظة. وسنتكلم عنها في المقال الآتي وهو الأخير.

عبد الله حبيب

ص: 39

‌في ذكرى أربعين غازي في باريس

مصرع الصقر

للأستاذ أمجد الطرابلسي

أقبل الليل من وراء الدُّهورِ

يتهادى تهاديَ المخمورِ

دغدغ الغابَ فاستكانَ إليه

وسرت فيه رِعشةُ المقرور

وسجا تحت جنحه يعبث النَّو

م بأجفاِنِه كطفلٍ غَرير

مثلما نام أَرْغَبٌ تحت جنح الأ

مّ في ظلِّ عشّهِ المضفور

أقبل الليل مثلَ أَجْنحة العقْب

انِ أو وجهِ بائسٍ مَقهور

يسحب الخَطْو مُتبعاً ويجرُّ الذَّ

يلَ جراًّ على بَقايا النّور

وغفا الغابُ لا زئيرُ سباعٍ

يتعاَلى ولا هتافُ طيور

ليس إلا النَّسيم يخطرُ هَوْناً

خَضِل العِطفُ مُثقلاً بالعَبير

يتثّنى وسْط السُّكون مُطيفاً

بِعشاشٍ هَنيئةٍ وَوُكور

كطيوف الأحلام تسرى خفافاً

حول عذراَء في المهادِ الوَثير

يَمسَحُ الأعْيُنَ النّيامَ رَفيقاً

ببَلالِ الندى ونشرِ الزُّهور

ويهزُّ الغصونَ حيناً فلا تس

معُ في الجوِّ غيرَ خفْقِ السَّفير

رقدَ الغابُ في حمى الّليل عَيّا

نَ يَعُبُّ الكرى بطرفٍ قرير

وتلاقى الآلاّفُ فيه على الصَّف

وِ وناموا عن كامن المقدور

رقد الغاب كلّه غيرَ عيني

ن تَشُعّانِ في الدُّجَى المنشور

شَرَدَ النّومُ عنهما في الدّياجي

فهما للسّهاد والتفكير

تستشفّان مُخْبَآتِ الّليالي

وتُضيئان حالكاتِ السُّتور

يا فتىَّ الصّقور! أيُّ مرام

يَتَصّباكَ يا فِتيَّ الصقور!

لفَّ هذا الظلامُ أترابَكَ الصِّي - دَ ببردٍ من غبطةٍ وسُرور

أسلموا الأعينَ القريرةَ للحُلْ

مِ وناموا عن كامِنِ المقدور

وسهرتَ الظلامَ في ذروة الدّو

حِ تُديرُ الأحداقَ في الدَّيجور

ترمقُ الغابَ تارةً فتراه

غارقاً في سُكوِنهِ والعُطور

ص: 41

وتناجى السَّماَء حيناً فتسبي

ك الدراريُّ بالحديثِ المُثير

جرد الصقور حوله من بياض الثلج

جُنحينِ في ائتلاقِ الثُّغور

وانبرى في الفضاء يخترقُ اللي

لَ بسَيْفَيْه كالشهاب المغير

زفَّ كالبرقِ وأمحى بعده الغا

بُ وراَء المدَى وخلفَ البحور

ومضى في السماء يسمو إلى النَّج

م بعزمٍ وسْطَ الظلامِ مُنير

أين تَسمو يا صقر في حُلكةِ اللي

ل، وماذا يغريك بالتَّشمير؟

ما الذي نَفَّر الرقادَ وأذكى النَّ

ارَ حَرَّى في صدرك المصهور؟

النهاياتُ، يا ربيبَ السّموا

ت، تَطَوَّت لجنحك المحرور

وتوارت عنك الدّنى، وتواري

تَ بعيداً عن طرفها المحسور

فإلى أين تَنطحُ الجوَّ يا صق

ر وقد آذن السنا بسُفور

وصفا الكونُ ليس تَسمع فيه

غيرَ همسِ النجوم وسطَ الخدور

رانياتٍ إليك يَرْمقْنِ جُنْحي

كَ الطليقين في الفضاءِ السحير

يا مغيراً على السحاب تَرَفَّقْ

بجناحَيْكِ والشباب الطَّرير

وبوكرٍ تركتَهُ في حمى الغا

بِ مشوقٍ لعطفكَ الَمبرور

رَقَدَتْ زُغْبُهُ وَوَلّيتَ عنه

نحوَ حُلْمٍ ضافي الظُلال نَضير

أينَ تمضي كالسَّهم في ثَبَج الأوْ

جِ وتَرَقى في المَهْمَهِ المهجور

لم تدعْ في العَلاءِ بعدُ فخَاراً

لصُقورٍ تَسمو ولا لنُسورِ

يا فتىَّ الصقور قد هبَّت الريح

فهلاّ سمعتَ صوتَ النَّذير

أعولتْ توقظُ السحاب فتُزجي

هـ على لؤلؤ الدّجى المنثور

أي حلم يغريك يا صقر حتَّى

تتخطَّى إليه كلَّ خطير؟

تركب الليل نحوه راعبَ الوجس

هـ وتغضى عن شرّه المستطير!

يا كبير المنى! أما كلّ جنحا

ك الفتيّان في غلاب الأثير؟!

هل لمسراك يا بعيد الأماني

في الدّجى من مُعرَّسٍ أو مصير؟

اسمُ يا بنَ الطموح! ما كلُّ صقرٍ

يطلب العزَّ فوقَ هامِ البدور

ليس كل الشباب يفرح بالمج

دِ ويَعتزُّ بالطموحِ الكبير

ص: 42

اسمُ حتَّى يَرضني غُرُورك يا صق

رُ بما نالَ. . . عاش ربُّ الغرور!

الشبابُ العظيمُ لا عاش يا صق_رُ قَنوعاً يرضى بكل حقير!

الشبابُ الكبير لا كانَ إمّا

ضَمَّ عِطْفيهِ فوقَ قلبٍ صغير!

جُنَّت العاصفاتُ واضطرب اللي

ل ودوّى فيه نَذيرُ الثبور

وتبارت فيه الأعاصير غَضبي

مُعْولاتٍ تهزُّه بالزْئير

تستحثُّ الغيومَ من كلّ فجٍ

كهضابٍ موَّارة وصُخور

وتَرَجَّى رحبُ الفضاءِ فما في

هِ شُعاعٌ لمدلجٍ مُستنير

وأفاقتْ عيونُ كلِّ الفجاءا

ت وماجتْ أرواحُ كلِّ الشرور

وانبرى البرق يصدع الدجية العمي

اَء صدعاً بلمحِهِ المذعوِر

راسماً باللظى على صفحةِ الأف

قِ وعيدَ المقدّر المسطور

والرّعودُ الغضابُ زلزلت الكو

نَ بصيحاتِ ثائِرٍ موتور

قهقهتْ في السماءِ تَضحكُ لِلهوْ

لِ وتُرغى كالشامت المحبور

لحظةً ثمّ فجِّرَ السّيلً دَفّا

قاً يجوبُ الدّجى رهيبَ الهدير

تَتَلَوّى حباُلُه بيدِ الرّيح

وتهمي بلا وَنى أو فُتورِ

يا لَهولِ القضاءِ خلف الدَّياجي

وألاعيبِ صَرفه المستور!. . .

ساعةٌ كالوُجودِ في طولها المرِّ (م)

ودنيا المعذَّبِ المأسور

مَزّق الفجْرُ هَولها فتجلَّتْ

عن صفاءِ السنا وحُسن البكور

وإذا الغابُ أَدْمُعٌ ومَناحا

تٌ على صقرِهِ أمير الصّقورِ

حَطمت جُنحه الأعاصير في الّلي

ل فيا رَوْعةَ الجناحِ الكسير

ثم ألقتْ به الرياح إلى الغا

ب فيا لَوعة الحِمى المْغدُورِ. .

يا ابنةَ المجد والمآثِرِ يا بَغ

دادُ! يا مَفْخرَ الخلود الفخور

وسِّدي صقرك الصريع ضريحاً

من جراحاتِ صدرك المفطورِ

واغمري بالزّهور والغار نَضراً

قبرَ من عاشَ عُمْرَه كالزهور

واجعلي رَمسَهُ منارَ البُطولا

تِ ورمزَ الهدى وكنزَ الشُّعور

فلقد كانُ حلمنا العذبَ نَرْنو

لِسنا وجهِهِ الضحوك البشير

ص: 43

ولقد كانَ قُرةً للمآقي

ولقد كان خفْقةً في الصدور

تَتغنَّى به القلوبُ تَسابيحَ

ويَهفو إليه كلُّ ضمير

إيه بغدادُ! أين مِنِّىَ قبرٌ

ضَمّ أشْلاءُ حلمِنا المذْرورِ؟!

أنا أبكي له غَريباً فمنذا

يُبلغُ القبرَ مَدْمعي وزفيري

في بلاد، لا القومُ فيها بقومي

فَأُعزّي، ولا القصور قصوري

ولو أني هناكَ حيثُ فؤادي

هائمٌ وحدَه وراَء البحور

في بلادي وملعبي وظلالي

عندَ أهلي وجيرتي وعشيري

لنثرتُ الزهورَ من صدْري الدّا

مي على قبرهِ الذّكيِّ الطَّهور!

يا مليكي! يا سِّيدَ الشام إرثاً

عن أبيهِ المظَفَّر المنصورِ

أرأيتَ الشّآمَ أذْهلها الخ

طبُ ومادتْ لنعيكَ المسْتَثِير

أمسكتْ قلبها الطَّعينَ بكَ

فّيها وصاحت كالصارخِ المستجير

نسِيَتْ جرحها البليغَ المدَمَّي

وشكاياتِ صدرِها المصهور

ونيوبَ الدّخيلِ تَفتكُ فيها

فتكةَ الذّئب بالقنيصِ الأسير

وتَلَوّتْ مَحلولَةَ الشَّعرِ تبكي

في مناخاتِ حُلْمِها المقبور

طالما جَمَّعَت لَك الزَّهَر النَّضْ

رَ وهامتْ على ضِفافِ الغدير

وقَضتْ لَيلَها تصوغُ لكَ التا

جَ وتمشي في قَيدها المجرور

لم تكنْ وهْي تَنسِج التاجَ تدري

أنَّ مَنْعى آمالها في البكور!

لهفَ نفسي يا شامُ يا ملعبَ الأب

طالِ، يا مَسرحَ الحسان الحور!

يا نشيدي في غُرْبتي ولحوني!

يا حديثي في وحدتي وسميري!

أيّ أشباحِيَ الدّوامي أناغي

في الّليالي وفي رُقادي النفور

تضحكُ الأرض والعوالمَ حولي

وأنا في مواجِعي وسَعيري

كم أَتتْ بي إليكِ أخْيلتي الهو

جُ سِراعاً في زحفها والكرور

تَتخطى المَدى فلا الموج يعتا

قُ سُراها، ولا لَهيب الهجير

بجناَحيْن من هوايَ وإشفا

قي شد يَدْين في اختراق الأثير

يا بلادي موجي على نَغَم الهوْ

لِ وغَنِّي وسْط الدّم المهدور

ص: 44

واضحكي للمصاب يَقتحم الغا

بَ عسيراً على المصاب العسير

أنا أبكيكِ إذْ أُهَدهدُ بغدا

دَ وأرثى لجنِحكِ المكسور

أنتما في الصفاء والدّمع أختا

نِ رَبيا تمائِم وَحجور

ضَمَّ شَمليكما طموحٌ وآلا

مٌ وأَمجادُ أَعصرٍ وَدُهور

يا فقيداً بكى لمصرعه العُرْ

بُ بدمعٍ ملء الجفون غزير

وحدةُ العرب كم سهرت تناج

يها مشوقاً لفجرها المنظور!

كم أقضَّت جراحة العربَ جنبي

ك على مَهدك الهنيء الوثير

وشهدتَ الوعيدَ في أعين الذئ

ب وكنتَ النصيرَ خَير نَصير

نم قريراً فوحدةُ العُرب سارت

بسناها النّجومُ كلَّ مسير

وحدةُ العرب قد تَضوّعَ في الجوِّ

شَذاها مثلَ الخميل النَّضير

وحدة العرب مَزَّقتُ حُجب اللي

ل وشَعّتْ مِلَْء الفضاءِ المنير

ملأتْ شَمسُها النهارَ فمنذا

ينكرُ الشمسَ غير كل ضَرير؟

يا لهزلِ المستعبدين! أَلَمّا

يأنِ أن يَنظروا بعينِ بصير

عَبثوا والزَّمان جَدَّ وهاموا

في مَوامي حُلْمٍ لهمْ مَغرور

وأقاموا الحدودَ بينَ الأشقّا

ءِ، فيا حكمةَ العقول العُورِ. .!

أيها الساهرون للكيد في دُهْ

مِ الليالي. . . يا خيبةَ التدبير!

قلِّبوا الرأَي كيف شِئتم خِداعاً

واشتروا كلّ خائنٍ مأجور

وابذلوا الوعدَ كاذباً، واقتلوا الح

ق، وغشّوا الضُّحى بليل الزور

لن تنالوا المنَى ولو قد أقمتم

ألفَ سور وراَءها ألفُ سور!

أيّها العربُ حيث كنتم من الأر

ضِ، ومن كلِّ مربضٍ وعشير

جمعتنا الدموعُ في مأتمِ الصّق

ر، وكم وَحَّد الأسى من شعور

وبكينا حيناً ولا خيرَ في الدَّم

ع إذا لم يُثر شَكاة الصّدور

فدعوني أَصرخْ فَيَسمعَ قومٌ

أَنكروا قَوْلَةَ النَّصيح المشير

واستقادوا لكل أمْلَسَ رَوّا

غٍ وهاموا بصاغَةَ التزوير

غَصّبتْ الكأسُ بالمظالم حتى

أنفدَ الظلمُ صبرَ كلّ صبور

ص: 45

فليكونوا أحلافَنا نُخلص الوُدّ (م)

لهمْ في الشقاء أو في السرور

وليكونوا أعداَءنا نتلقَّفْ

طعنهم في صُدورنا لا الظُّهور

لا نحبُّ الخداعَ في حَوْمَة العِزِّ (م)

ونأبى ميثاقَ كلّ غَدور

عَرَبٌ نحن ما نَذِلُّ لباغٍ

مُستبيحٍ ولا نَدينُ بنير

مِشْعلُ النّور ما يزال بأيدي

نا مُشِعّاً رَغْمَ انطفاءِ العصور

وَحّدَتنا مَواجعُ القيدِ حيناً

فارقبوا اليومَ وَحدَة التحرير!

(باريس)

أمجد الطرابلسي

ص: 46

‌ذكرى

(إلى روح الشاعر م. ع. الهمشري)

للأستاذ صالح جودت

قال لي صاحبي، وقد جُنَّت الشم

س فألقتْ بجسمها في الماءِ

ألَنا أنْ نسير حتى نرى الصُّبْ

ح فنُفضي له بسر المساء؟

قُمْ بنا ننتهي إلى ضفة الني

ل وعشب (الجزيرة) الفيحاء

خُطَواتُ النهار للناس، لكنْ

خُطَواتُ الظلام للشعراء

نحن من نملأُ العقولَ ضياءً

ما بنا حاجةٌ لنور ذُكاء

وانتهينا إلى الجزيرة، مغنى ال

طير والزهر والرُّبى الغنَّاء

لَفَّها النيل في ذراعيه وانْسا

بَ يُغنِّي لها نشيد الولاء

ورمَى الموج تحت أقدامها السُّمْ

رِ دُعاباً، فأطرقَت من حياء

وتَعرَّت رضيّةً في يديه

وتراخت تراخيَ الغيناء

ثم لما خاف الظنون عليها

لَفَّها في ملاءة خضراء!

جنة الحب يا جزيرةُ شُطْآ

نُكِ، مَلْهي القلوب والأهواء

جنة الخُلد، غير أن رُباها

أمَّنَتْ آدماً على حَوّاء

أَمَّهَا شاعر من الخلد يَروي

بالأغاني صَدَى القلوب الظِّماَءِ

وأَطَلَّ الهلالُ حيناً فألْفَى

كوكباً في الضفاف حُلْوَ الضياء

وأطل الزمان حيناً فألفى

أَجَلاً في الشباب جَمَّ الرجاء

وأطَلَّتْ عينُ الخلود فقالت:

إن هذا مكانه في السماء!

يا رفيق الصبا، وهيهات نِسيا

نُ الليالي المخلَّداتِ الصفاء

يوم كان الزمان كالزهر في الفج

رِ، وكنا عليه كالأنداء

يومَ كنا نمَوِّجُ الماء ضِحكاً

في ضفاف (المنصورة) الحسناء

لم نكن نعرف التواريخ إلاّ

من وعود الحسان عند الوفاء

لم نكن نعرف العَشِيات إلاّ

من غناء الكِرْوان عند المساء

ثم مَرّتْ من الزمان صروفٌ

وهبطنا مدينةَ الضوضاء

ص: 47

وبَدَأْنا الكفاحَ في عالم العيْ

شِ ودنيا منازَعاتِ البقاء

فجعلنا لقاَءنا فَتَراتٍ

يَنفدُ الصبرُ من خُطاها البِطاء

كم حَثثْنا تَسْيارَها، وجهلنا

أنها تنتهي لغير لقاء!

أين هذا الشبابُ والأملُ الضا

حكُ بين الخطوب والأرزاء

وأحاديثُكَ المليئةُ بالأح

لام في عالَمٍ قليل الرجاء

كنتُ ألقاكَ، والحياة تجافي

ني وإعصارها يهد بنائي

فإذا ما سمعت ضِحكتكَ العذْ

بةَ، أحببتُ بَعدها أعدائي

وتَمشَّى السلامُ في جوِّ نفسي

وتَطهرْتُ من طويل عنائي

وقرأتُ الحياة فيك كتاباً

شاعريَّ الآمال والآلاء

وشباباً هو الربيعُ الموشَّى

برقيق الظلال والأضواء

حين تبدو وعُرْوةُ الصدر في ثَوْ

بكَ تزهو بالوردة الحمراء

واحمرارُ الحياة يُشعلُ خدَّي

كَ، ونور الشباب في لأَلاء

تَطأُ اليأسَ باعتداء الأماني

وتُذِلُّ الزمانَ بالكبرياء

وتُغنِّي، وتَنهبُ العيش نهباً

شَأنَ من أُلهمَ اقتراب الفناء!

ها أنا عُدْتُ للجزيرة وحدي

أتملاَّكَ خلف تلك المرائي

ومَضتْ قَبضتي تُصافح يُمنا

كَ، فصافحتُ قبضةً من هواء!

وتَلفَّتُ باحثاً عن أماني

ك، فلم تهدِني سوى الأشلاء!

غير أني أراك في شعركَ الخا

لد روحاً تهيم بالإسراء

وأرى طيفكَ المغرِّدَ بين ال

زهر والطير والرُّبى والماء

فأقول الخلودُ لله، واللهُ

يريد الخلودَ للشعراءِ!

صالح جودت

ص: 48

‌رسالة العلم

حبيبات المادة والكهرباء والضوء

للدكتور محمد محمود غالي

عندما نعمد في المساء إلى ترتيب ثيابنا، وفي الصباح إلى إخراج كتاب يُلازمنا طيلة اليوم، فالثياب أو الكتب مكونة مما نسميه مادة، كذلك الخزانة أو المكتبة اللذان يحتويانهما مكون كل منهما من مادة هي الخشب أو الكروم الذي تعمل منه الحلية في وقتنا الحاضر.

وتُزَّيَن حجرة استقبالنا بستائر مزدوجة من النسيج الشفاف ونحلي حوائط الحجرة ببعض الصور الفنية، فهذه الستائر وهذه الصور مظهر آخر من مظاهر المادة.

وتصلنا في الأعياد هدية من صديق حميم - تحفه جميلة أو كتاب قيم - هذه آنية من صنع سيفر، وهذا سِفْرٌ هو آخر نتاج (دي بروي) أو (برجسون) وموقع عليه بإمضائه. فالآنية والكتاب والتوقيع مظاهر مختلفة من المادة لكل منها وزنها الخاص وكتلتها المعينة، وهي بهذا مرتبطة بعلاقة معروفة مع الأرض التي نعيش عليها، فهي تجذبها بدرجات مختلفة تتناسب على قدر ما تحويه كل منها من مادة.

ونشعر في القيظ بمسيس الحاجة إلى كوب من الشراب البارد لنطفئ ظمأنا، فإن ما نجرعه من مياه، وما يحويه الماء من عصير الفاكهة، كله مظاهر للمادة، كانت لازمة لبقاء نشاطنا في هذه الفترة من العمل.

ونسوق عربة من طراز جديد هي قطعة رائعة من بدائع ما وصلت إليه مصانع أمريكا النائية، نقلتها إلى بلادنا بواخر ضخمة حملتها أمواج متلاطمة، فالسيارة والباخرة والمياه مظاهر متباينة للمادة.

وتجلس آنسة فتانة أمام المرآة تتزين (ببدرة) ناعمة، لعبيرها على النفس أحلى الأثر، وتتحلى بخضاب أحمر وكحل أسود، لهما على العين فتنة للنظر، هذه (البدرة) وهذه الألوان مظاهر أخرى للمادة.

ونلج حديقة المنزل فنتجول بين الزهور في أصفى أيام الربيع ونتنسم عبيرها المتطاير: هذه الزهور الساحرة، وهذا العبير الشجي الذي يخف لحاسة الشم فينا متواصلاً، هما مظهران من مظاهر المادة.

ص: 49

ونبتاع علبة لفائف الدخان (السجاير) ونشعل واحدة منها، فيتصاعد الدخان على شكل كرات نرى بالعين مجموعاتها متراصة ومتتابعة، ونرى بالميكروسكوب جزيئاتها أكثر تفصيلاً ووضوحاً، فهذه العلبة وما فيها من لفائف، وهذه الملايين من الكريات المتصاعدة مظهران من المظاهر المختلفة للمادة.

وترزق مولوداً سعيداً يحمل أسمك وتهبه مجهوداتك، وتوليه محبتك، ويرث خصائصك وعلمك وتؤول إليه ثروتك: هذا المولود أيضاً من أعجب مظاهر المادة.

هذه المظاهر المتفاوتة في المادة وغيرها نصادفها في كل لحظة من لحظات حياتنا، وكذلك نصادف مظاهر الكهرباء أو الضوء في حياتنا اليومية، بل إن أجسامنا هي مجموعة لهذه المظاهر مجتمعة.

فهذه مركبة الترام تقلنا من المنزل إلى حيث العمل؛ فما يجري في الأسلاك الممتدة على طول الطريق خلال انتقالنا هو مظهر من مظاهر الكهرباء.

ونعود في المساء إلى المنزل فنستمع لبرنامج الإذاعة، ونتتبع أخبار العالم، هذه محاضرة شائقة وهذا لحن جميل، ونحن في هذا وذاك إزاء تَردِّدٍ كهربائي، تحول في داخل الجهاز، وفي اللحظة الأخيرة إلى تردد صوتي؛ فهو قبل كل شيء ظاهرة من ظواهر الكهرباء، وانتشار الأمواج الكهرومغناطيسية.

وتضغط زراً فتسطع الأنوار في الغرفة، هذه هي الظاهرة الضوئية في المصابيح هي ظاهرة كهربائية في فتيلاتها، ويتطاير في الثانية الواحدة من فتيلة المصباح من الإلكترونات ملايين المرات عَدد ما في أرجاء المعمورة من بشر.

وترى وأنت تخترق بسيارتك الصحراء في طريق السويس مثلاً السراب بوضوح تام فتظنه ماء وما هو بماء، هذه ظاهرة ضوئية ناتجة من انكسار الضوء على طبقات الجو المختلفة، هذا الانكسار الناشئ من اختلاف كثافة هذه الطبقات تبعاً لاختلاف درجات الحرارة. فهذا السراب وهذا الماء المزعوم ظاهرة ضوئية هذه (فوتونات) تصل إلى مقلة العين بسرعة الضوء.

وترى وأنت مطل من نافذتك تتأمل السماء في وقت منذر بالمطر قوس قزح عريضاً في السماء يمثل نصف دائرة كاملة، هذا القوس ظاهرة ضوئية ناتجة من انكسار الأشعة على

ص: 50

قطرات الماء الرفيعة المحمولة في الهواء التي تمثل في هذه الحالة دور المنشور في عمليات الضوء المعروفة عندما يتحلل الضوء إلى ألوانه العديدة المعروفة، هذه أيضاً (فوتونات) تصل إلى العين، لكل لون من الألوان عدد من الذبذبات يؤثر في العين البشرية بتأثيرات مختلفة تجعلنا نفرق ونميز بين كل لون وآخر، هذا القوس وهذا التأثير على العين ظاهرة أخرى ضوئية.

هذه أمثلة مما نقابله كل يوم من مظاهر المادة والكهرباء والضوء، ويتراءى لنا أن كل مكونات الكون والخليقة يمكن إرجاعها إلى ظواهر مادية أو كهربائية (كذلك مغناطيسية) أو ضوئية، أو إلى ظواهر هي خليط من هذه الظواهر الثلاث.

كل هذه الظواهر يمكن الحصول عليها بمقادير متناهية في الصغر، هي التي نريد أن نتأملها ونستعرضها، وهي التي باتت تلعب دوراً فيما نالته العلوم الحديثة من طفرة وتقدم.

على أن أبسط هذه الظواهر هي المتعلقة بالمادة وتقسيمها إلى جزيئات وذرات صغيرة.

إن إرجاع جميع الأجسام مهما كانت صلدة ومهما كانت سطوحها ناعمة، إلى جسيمات صغيرة جداً مركبة تركيباً حُبيبياً فارغة من الداخل هي أول الأفكار التي تطرأ على الذهن. هذه الفكرة ترجع فيما يخص المادة إلى أقدم العهود، وقد تقدمت عن فلاسفة الإغريق، وعمرت على ممر العصور، وبقيت خلال كل التطورات العلمية المختلفة حتى توطدت في أوائل القرن التاسع عشر مستندة على براهين جديدة دعمتها وحققتها بطريقة لا تقبل الشك.

على أن الأفكار التي أدت إلى الفكرة الذرية للمادة مؤسسة في الواقع على ظواهر أولية تفهم بالبداهة ومن دون عناء.

فَثمَّ مجموعتان من الظواهر تؤديان إلى الفكرة الذرية للمادة:

المجموعة الأولى تنحصر فيما يمكن أن يطرأ على المادة من تعديل في شكلها الظاهري، وذلك بما لها من خواص المرونة كضغطها وانحنائها والتوائها، هذا التعديل الذي يصل في السوائل والغازات إلى أقصاه بما لها من سيولة كاملة تأخذ المادة في هذه الحالة شكل الحيز الذي تحل فيه، هذا النوع من الظواهر هو تعديل طبيعي في المادة أي أنه تعديل في مظهرها الخارجي.

أما المجموعة الثانية من الظواهر فتخص التغييرات الداخلية وهذه من موضوعات الكيمياء

ص: 51

مثل التغيير الحادث بين العناصر لتكوين مركباتها؛ فالهيدروجين والأوكسجين يتحدان ليكونا الماء.

وكلتا المجموعتين تثبت فكرة واحدة هي أن الأجسام مكونة من جسيمات صغيرة صلبة، وقد أطلقوا على هذه الجسيمات الكلمة الإغريقية القديمة (أتوم)، أي الذرة ومعناها ما لا يمكن تجزئته. ومع ذلك فقد برهن التقدم العلمي الحديث على وجوب التفريق بين التعديلات الطبيعية الظاهرة والتغييرات الكيميائية، ففي الحالة الأولى لا دخل للذرات في هذه التعديلات الحادثة، وإنما الجسيمات المركبة منها هي التي تدخل في هذه التعديلات، وتسمى هذه الجسيمات وبذلك احتفظ بكلمة ذرة للجسيمات التي تتدخل في التغييرات الكيميائية. صغير من الجزيئي.

على أن العلوم الحديثة أدت إلى أن الذرة قابلة للتجزئة فأصبحت كلمة أتوم أي (غير قابل للتجزئة) لا تؤدي المعنى المراد منها، وعلى ذلك فإننا نتساءل عما إذا كانت هناك حدود للتقسيم المادي والكهربائي والضوئي يمكن عندها أن نقف عاجزين عن الوصول إلى تجزئتها إلى وحدات أصغر من التي نصل إليها.

إن كل معارفنا للعالم الخارجي تتطرق إلى أعماق نفوسنا عن طريق حواسنا، وكل تعريف لأي شيء أو ظاهرة في الوجود، مهما كان دقيقاً، لا يتعدى حدود قوة هذه الحواس على الإدراك والتمييز بين الأشياء، حتى خيالنا وكل ما يعرض في مُخيلتنا لا بد وأن يأخذ أشكالاً حِسية مختلفة. فهو بهذا مُعرّضٌ لنفس القانون الذي يحكم معارفنا للعالم الخارجي عنا.

إننا لا نستطيع أن نتخيل صورة في الكون لا يمكن إرجاع عناصرها المختلفة وأجزائها المتباينة إلى مسائل وأشياء اعتادتها حواسنا. على أن الرجوع بكل الفروض العلمية إلى حواسنا وقدرتها على التمييز والتفرقة بين الأشياء لا يمنع من أن نفرض أحياناً على الذهن صوراً لأشياء لا يمكن استيعابها بسهولة بهذه الحواس ذاتها، وهذا النوع من الصور تثبت صحته لا عن طريق الحواس وإنما عن طريق إثبات النتائج المترتبة على فرض هذه الصور، بمعنى أنه إذا اتفقت النتائج مع الظواهر الطبيعية المعروفة لدينا كانت هذه الصور التي افترضناها صحيحة.

ص: 52

بمثل هذه الطريقة توصل العلماء إلى الشكل الحُبيْبي أو الذري للمادة وتجزئتها إلى وحدات أولى يسمونها الجزيئات وتجزئة هذه إلى وحدات ثانية يسمونها الذرات، دون أن تكون بحاجة لوضع إحدى هذه الذرات على كفة الميزان.

وبطريقة مماثلة توصل العلماء إلى التجزئة الكهربائية بل إلى قياس وإثبات شحنة الإلكترون كما توصلوا إلى التجزئة الضوئية، ومعرفة الفوتون.

وسنتابع في المقالات القادمة نشر العوامل التي أدت إلى الكشف عن هذه الحبيبات، والمكونات الأولى للخليقة فنستعرض بذلك صوراً رائعة مما توصل إليه العلم الحديث.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخاتة

ص: 53

‌الأجرام السماوية ذوات الأذناب

للأستاذ قدري حافظ طوقان

أبو تمام والمذنبات

كان الناس في القرون الوسطى يخافون من أكثر الظواهر الطبيعية ولا سيما المذنبات، وكان الملوك والأمراء وذوو النفوذ يأخذون برأي المنجمين قبل الشروع في أي عمل من أعمالهم. ويروى أن المنجمين كانوا حذروا الخليفة المعتصم بالله من فتح عمورية عندما عزم على الاستيلاء عليها، وقالوا له: إنا نجد في الكتب أنها لا تفتح في وقت نضج التين والعنب!

ولكن الخليفة الحازم العاقل لم يسمع لأقوالهم وسار بجيشه وفتح عمورية وكان انتصاره مبيناً. وهنا يأتي دور أبي تمام حبيب بن أوس فيمدح الخليفة المنتصر ويذكر له فتح عمورية في قصيدة خالدة يحمل فيها على المنجمين ويكذبهم في تنبؤاتهم واختلاقاتهم ويقول لهم: إن العلم الحق إنما هو في السيوف وليس في النجوم، وإن أحاديثهم كذب لا أصل لها:

والعلم في شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

أين الرواية، بل أين النجوم وما

صاغوه من زخرف فيها ومن كذب

تخرصاً وأحاديثاً ملفقة

ليست بنبع إذا عدت ولا غَرب

ويظهر أن المنجمين كانوا خوفوا الناس عند ظهور المذنب سنة 837م - 222هـ أي قبل فتح عمورية بسنة واحدة فتراه يقول في ذلك:

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة

إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

وهذا المذنب هو مذنب (هالي)، وقد قال عنه ابن الأثير:(. . . وفي هذه السنة ظهر عن يسار القبلة كوكب، فبقي يرى نحواً من أربعين ليلة وله شبه الذنب، وكان طويلاً جداً فهال الناس ذلك وعظم عليهم. . .).

وبينما نرى أبا تمام لا يعبأ بالمذنبات ولا يعتقد بما نسج المنجمون حولها من خرافات وتنبؤات ويضرب بأقوالهم عرض الحائط نجد أن ملك فرنسا لويس الأول ابن شارلمان قد استولى عليه الخوف من ظهور المذنب الذي ظهر أيام المعتصم، وقلق لذلك أشد القلق، وبلغ به الفزع درجة جعلته يدعو المنجمين ليقولوا شيئاً عن هذا النجم (في رأيه) ولينبئوه

ص: 54

عن خبره. فقالوا له إن النجم المشار إليه نذير من الله ينذر باقتراب أيام السوء لكثرة المعاصي التي يقترفها الإنسان. ويقال إن الملك منذ ذلك الحين أصلح حاله ورجع إلى الله فبنى الكنائس وشجع الأديرة. كل ذلك تسكيناً لغضبه تعالى.

وقد ظهر أيضاً مذنب (هالي) سنة 1456م ومر على مقربة من الأرض وامتد ذيله كالسيف المسلول، وكان ظهوره بعد فتح القسطنطينية وإيغال السلطان محمد الفاتح في أوربا.

ولقد تشاءم منه أهل أوربا، واتخذوا من ظهوره علامة سماوية على غضب الله تعالى؛ فلقد دخل العثمانيون القسطنطينية، وفر أهلها منها وامتد الفتح العثماني إلى البلاد الأوربية - فنسبوا كل ذلك إلى المذنبات كما نسبوا إليها كل ما يصيبهم من رزايا وفتن وقتل وخسف وغير ذلك.

المذنبات وأقسامها

والآن. نأتي إلى هذه الظواهر التي تظهر في أوقات مختلفة وفترات متباعدة.

ف ي الفضاء أجرام في أفلاك اهليليجية حول الشمس فتقترب منها ثم تبتعد عنها كثيراً، وهذه الأفلاك غير ثابتة بل تتغير من وقت لآخر. وهناك عوامل عديدة تؤثر في سيرها وفي موقعها ولعل جذب السيارات لها من أهم تلك العوامل.

ولهذه الأجرام ذنب طويل هو السبب في تسميتها (بالمذنبات) أو (ذوات الأذناب) يتكون من مادة لطيفة جداً لا تحجب رؤية النجوم الصغيرة التي ورائها (ولا يسري هذا القول على النواة) وهي ألطف من الهواء المحيط بالأرض ألف مرة. وتتألف أجسام المذنبات من رأس ونواة وذنب. فالرأس يختلف بحسب المذنب، فقد يكون صغيراً جداً حتى يرى كالنجم وقد يكون كبيراً جداً حتى يرى كالقمر. أما النواة فلا ترى دائماً في المذنبات ويرجح أنها مؤلفة من أجسام نيزكية صغيرة وقد تكون (كما في بعض المذنبات) لامعة جداً تضاهي لمعان الزهرة. وأما الذنب فهو مادة لطيفة على هيئة مروحة كبيرة تتجه نحو الجهة المقابلة للشمس، ويختلف طوله فقد يملأ الشقة بين الشمس والأرض. ويقول بعض علماء الفلك أن المذنب هو مجموع أجرام نيزكية يحيط بها ويتخللها جو غازي يجعلها منيرة وظاهرة (للعين) بسبب المجاري الكهربائية.

ويرجح بعض الباحثين أن نواة المذنب تتألف من أجسام نيزكية صغيرة؛ فإذا دنت من

ص: 55

الشمس ارتفعت حرارتها كثيراً وخرجت منها غازات تدفعها أشعة الشمس بما فيها من قوة الدفع فتظهر وراء النواة مثل ذنب لها وتكون منيرة بنور الشمس. ويقول آخرون إن أذناب المذنبات تتولد من كهربائية تتكهرب بها دقائق المادة المنتشرة في الفضاء وتظهر كأذناب من نور وراء المذنبات. وهناك رأي ثالث يقول بأن هذه الأذناب ليست إلا ظواهر بصرية أي أن نور الشمس يخترق رأس المذنب ويظهر وراءه كذنب من نور.

ومن الطبيعي أن يكون لهذه المذنبات وزن ولكنه صغير جداً بالنسبة إلى الأرض أو السيارات إذ لا يزيد على جزء من مليون جزء من وزن أحدها.

أشهر المذنبات

تظهر المذنبات في أوقات مختلفة رصد العلماء منها حتى الآن أكثر من خمسمائة كلها تابعة للنظام الشمسي. وقد ظهر مذنب كبير في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد قيل إن طول ذنبه كان كبيراً جداً. وكذلك في سنة 1337م ظهر مذنب كبير، ومذنب سنة 1679م أفزع العالم وبقى ظاهراً أكثر من خمسة شهور وكان قريباً من الأرض. ويقال إنه في سنة 1770م ظهر مذنب شديد اللمعان اقترب من الأرض وكان له ذنب طويل جداً امتد في عرض السماء لمسافة 365 مليوناً من الأميال. وظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد مذنب عظيم جداً حسب (هرشل) الفلكي الشهير طول ذنبه فوجده أكثر من (100) مليون ميل وعرضه أكثر من (15) مليوناً من الأميال. وكذلك مذنب (أنكى) من أشهر المذنبات وهو يدور في فلكه كل ثلاث سنوات وثلث سنة. وقيل إنه في سنة 1826م كشف ضابط نمسوي مذنباً أطلقوا عليه اسم (مذنب بيلا) وقد فزع منه الناس واهتموا له. ووُجد أنه يدور دورة كل ست سنوات و (38) أسبوعاً وقد ظهر عدة مرات بعد كشفه. وفي سنة 1682م شهد (أدموند هالي) ظهور مذنب كبير وقد سماه العلماء (مذنب هالي) نظراً لاعتناء (هالي) بدراسته، وقد استنتج من حساباته أن هذا المذنب يظهر كل 75 سنة وتنبأ بظهوره سنة 1757م وقد حدث فعلاً ما تنبأ به. وفي سنة 1858م ظهر مذنب كشفه العالم (دوناتي) الإيطالي ودرس حركاته وطبائعه وكان شديد اللمعان وقد قيس ذيله فوجد أن طوله بلغ (40) مليوناً من الأميال وكان على وشك الاصطدام بالزهرة.

وظهر سنة 1861م مذنب هائل كشفه (تيوت) في سدني باستراليا وقاس قطر نواته فكان

ص: 56

(400)

ميل وذنبه مستعرض على غير نظام بلغت سرعته (10) ملايين من الأميال في اليوم. ويقال إنه في يونيو تلك السنة مرت الأرض في طرف ذنبه وشعر الناس بأشعة فسفورية. وهذا المذنب هو الذي أحدث خوفاً وجزعاً في لبنان فكانت العجائز يضرعن إلى الله ويسألنه العفو والمغفرة ويتوسلن إليه أن يرفع عن الناس مقته وغضبه.

الاصطدام بالأرض

قد يقترب مذنب من أحد السيارات وقد ينتج عن هذا انحراف في فلك المذنب. ولكن لحد الآن لم يثبت أي تأثير للمذنبات على السيارات أو على الأرض. ولا عجب في ذلك فكتلة المذنب إذا قورنت بكتلة أي كوكب كانت صغيرة جداً. ولقد سبق ومرت الأرض في ذنب مذنب سنة 1819م وذنب مذنب سنة 1861م ولم يقع عليها ما يؤثر على حركتها أو يزعج سكانها حتى إنهم لم يشعروا بهما. فلولا الحسابات الرياضية والفلكية لما عرفنا شيئاً عن مرورهما واصطدامهما بكرتنا. وإذا اتفق واصطدمت الأرض بنواة إحدى المذنبات العظيمة كنواة المذنب الذي ظهر سنة 1858م فقد تحترق الأرض من جراء ذلك. ولكن هذا بعيد الوقوع لأسباب ليس هنا محل ذكرها أو شرحها.

واستولى على الناس خوف عظيم في سنة 1910م عندما اقترب مذنب (هالي) من الأرض وكان من المحتمل جداً أن يصطدم بها وذهب بعض الفلكيين إلى أن هذا الاصطدام قد يكون بلاءً على الأرض ليس من ناحية تأثيره على حركتها بل من الغاز السام (السيانوجين) الموجود بكثرة في المذنبات. ولكنه بحمد الله مرّ المذنب ولم يحدث للأرض ما يفسد هواءها أو يسمم جوها.

وثبت من الرصد أن المذنبات التي كشفها الفلكيون ووقفوا على بعض تفصيلات تتعلق بحركتها وأفلاكها وأقسامها - تابعة للنظام الشمسي متحركة من أفلاك حول الشمس. وكذلك وجدوا أن بعضها لا تستطيع التماسك بل تتحطم وتتناثر إلى قطع كبيرة ومن ذلك تتكون طوائف تسير حول الشمس في اتجاه المذنب.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 57

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

الصدق في الفن

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

في هذا الكون ظواهر غامضة يحاول الناس أن يتفهموها بعقولهم، فيعرجوا إليها بعكازات من هذه العقول البطيئة المتثاقلة، بينما يقفز بعض الناس إلى حقائق هذه الظواهر الغامضة بإحساسهم لا بعقولهم فيوفقوا إلى قوانينها توفيقاً من حيث لا يتكلفون ولا يتعمدون. ولعل أبرز ما تصدى له هذا الفريق من أهل الحس فبلغوا غايته، ثم لحقهم العلم بعد أجيال فقرر ما أحسوه، هو هذه النفس الإنسانية التي أحسها الكتاب والروائيون منذ آلاف السنين، فعرضوها في قصصهم وساروا بها في مناهجها الصحيحة؛ ثم خلفوها للعلم الذي أخذ يحاول في القرن الماضي فقط أن يتعرفها على أساس يطمئن إليه هذا العقل الشكاك الذي ينكر الحس.

وإذا كان أهل العلم يعرفون الفن بأنه التطبيق العملي للنظريات العلمية التي تحوم حول موضوع واحد، أو التي تدور حول مسألة واحدة، فإنا نرى في تعريفهم هذا ما يعزز الذي نذهب إليه. ذلك أننا نلحظ أن فنون الناس سبقت علومهم، فقد طار الإنسان على بساط الريح في قصص ألف ليلة وليلة قبل أن يركب متن الهواء في الطائرات والمناطيد بألف سنة على الأقل. وقد حول الإنسان الرصاص والنحاس إلى ذهب في خرافات الأقدمين قبل أن تحول المعامل (السلاؤون) الأحمر إلى ذهب في العصر الحديث. وقد استطلع الإنسان الغيب في كرة البلور الهندية ما شاء من الغيب قبل أن تنتهي الدراسة الجديدة إلى (التنويم المغناطيسي) بقرون وقرون. وقد مُسخ الإنسان قرداً عقاباً له على الشر في قصص القدماء قبل أن يعلن داروين نظرية التطور بدهور ودهور.

فكيف اهتدى هؤلاء (المخرفون) القدماء إلى هذه الحقائق التي لم يثبت أنها حقائق إلا بعد أن تغيرت الأرض ومن عليها؟ هل كانوا يطبقون نظريات علمية تدور حول موضوعات متفرقة فدار كل منهم بنظرياته حول موضوع؟ هل يمكن أن يكون هذا قد حدث مع تسليمنا

ص: 59

بأن النظريات العلمية لم تتكشف إلا أخيراً؟

نعم! هذا هو الذي حدث، ولم يحدث شيء غيره، وإنما كل ما كان هو أنهم لم يعرجوا إلى هذه الحقائق بعكازات من عقولهم، وإنما طاروا إليها على أجنحة من إحساسهم. هم أحسوا هذه الحقائق، وبلغوها صادقين، وأعلنوها، وإن كانوا قد عجزوا عن إثباتها لمن لا يريدون أن يفهموا إلا بالعقول!

ومن هذا نرى أن صدق الإحساس يكشف للإنسان ما يستره المستقبل. فهذا الكاتب الذي طير الإنسان على بساط الريح في قصص ألف ليلة وليلة كان يحس أن الإنسان يستطيع أن يطير، هذا إذا لم نقل إنه كان مؤمناً بأن الإنسان سيطير. وهذا (المخرف) الذي حول الرصاص والنحاس إلى ذهب كان مؤمناً بأن هذه المعادن التي يشاهدها ليست إلا مظاهر مختلفة لشيء واحد يمكن إذا عدلت المؤثرات التي تؤثر فيه أن تتعدل الأشكال التي يتشكل بها. كان مؤمناً بهذا وإن لم يكن يعرف أن المادة ذرات، وأن الذرات كهارب، وأن الكهارب إلكترونات إلى آخر هذه الزحمة التي تشغل عقول العلماء. وهذا الهندي الذي اختلق في قصصه كرة من البلور ينظر فيها الإنسان فيعلم الغيب كان يحس أن في الإنسان هذه القوة التي تمكنه من الوقوف على ما يغيب عنه وهو في حالته العادية، ولم يكن يدري أن الإنسان سينوم أخاه تنويماً مغناطيسياً فيسأله عن بعض المحجوب عن عقله، وأنه يستطيع أيضاً أن ينوم نفسه ليصل إلى ما يريد. وهذا (المخرف) الآخر الذي رد الناس في خرافاته قردة كان يحس أن هناك عقداً تنتظم فيه الخلائق متتابعة متسلسلة من حلقة إلى حلقة كل حلقة أرقى من أختها وأشد تعقيداً. . وإن لم يكن قد قرأ كتب داروين.

كل هذه حقائق اهتدى إليها الكتاب بإحساسهم لا بعقولهم فنحن نعلم أن العقل لا يطمئن إلا إلى ما يثبت ثبوتاً صريحاً للعين والأذن والأنف وبقة الحواس المادية.

فإذا سايرنا أهل العلم وقلنا إن عمل العقل هو جمع هذه المدركات الحسية والنفاذ بها بعد توليفها إلى الحقائق الصحيحة، رأينا أهل الفن والحس المرهف أسبق من غيرهم في الوصول إلى هذه الحقائق الصحيحة؛ فنفوسهم تدرك من المحسوسات والمعنويات ما هو قابل لأن ينتظم في سلك واحد بأسرع مما تدرك النفوس المتعقلة المتشككة هذه الدركات نفسها. ولعل هذا هو ما يسميه المتصوفون (العلم اللدني) أي الذي يأتي من لدن الله فيهدي

ص: 60

الإنسان إلى الصواب.

أما المتصوفون فيقولون إنهم يستطيعون أن يفسروا علمهم هذا، وأما أهل الفنون فهم غالباً يحتاجون إلى نقاد يصفون فنونهم ويفصلون ما فيها من الحق والبلاغة والجمال، فالفنان إذا أضيف إليه ناقده وشارحه كان مجموعهما إنساناً متصوفاً يهتدي إلى الحق بإحساس الفنان، ويضيء السبيل إلى الحق بدراسة الناقد وشرحه.

وقد أشعر بعد هذا التفصيل أن هذه المسألة قد وضحت بحيث أستطيع أن أتركها مطمئناً إلى ناحية أخرى من نواحي الصدق في الفن، فليس كل الصدق الفني متصلاً بالمستقبل، بل إن هذا الصدق المتصل بالمستقبل هو أندر ما يطالعنا به الفن من الصدق، وإنما يتجلى الصدق في الفنون جميعاً إذ تتصدى للحاضر. فهذا الرسام الذي يسجل الخصائص النفسية للشخص الذي يرسمه حين لا يخط بريشته على الورق إلا خطوطاً رآها في وجه الشخص المرسوم فأحس أنها تخفي هذه المعاني التي يعبر عنها بهذه الخطوط. . . وقد يكون عقله في هذا الطواف كله نائماً لا يدرك الصلة بين الخطوط التي يراها على الوجه والتجاعيد الصاعدة والهابطة فيه، وبين هذه الأحاسيس التي يحسها من يرى الرسم وبين هذه الخطوط التي قيدها على القرطاس. . . هذا الرسام من غير شك صادق الحس، صادق التعبير. وهو موفق في فنه ما دام صادقاً في إحساسه صادقاً في تعبيره، فإذا التوى على نفسه وحاول أن يدرس عقله في فنه لم يصب من هذا الدرس غير التعقيد يشوب الفن، والبعد ينحرف به عن الحق.

وهكذا الصدق في الفنون جميعاً - كما رأينا في الأدب والرسم - فهو دائماً عمدتها في الإحساس بالحياة كما أنه عمدتها في التعبير، وبمقدار ما في الفن من صدق يبلغ الفن شأوه الذي تحسده العلوم عليه، فهو الذي يوجه الإنسانية، وهو الذي يحصي لها خيرها ويحصي عليها شرها، هو ضميرها وروحها.

فإذا أراد القارئ أن أضرب له المثل بالموسيقى فناً يلزمه الصدق أيضاً - فقد تكون صلتها بالصدق متسترة - ذكرته بلحن المارسيليز الذي حرر فرنسا، فهو ليس سوى إحساس صادق بالحرية عربد في أنغام اختلفت في نفوس المستعبدين حب الحرية الصادق فعربدوا كما عربد النغم، وتحرروا كما تحررت روح منشده، وقد كان كل فرنسي منشده وراء

ص: 61

مبدعه.

والآن فإني أظن القارئ الكريم قد بدأ يستسيغ هذا الذي عرضته عليه. وكم أحب أن يستعيد القارئ التفكير في هذه المسائل حتى تسري من عقله إلى روحه. ثم كم أحب بعد ذلك أن يبحث القارئ في ذاكرته عمن يعرفهم من الفنانين وأن يبحث بفراسته في أحوالهم، وأن يرى مدى الصدق في أعمالهم وأقوالهم، وأن يقيس هذا الصدق بما يصيبونه من التوفيق في فنونهم. ولست أريد بالتوفيق النجاح التجاري الذي يؤدي إلى الغنى المادي، وإنما أقصد به الإصابة الفنية التي يعتز بها الإنسان أمام ربه إذ تحسب في حسناته وإن لم تكن صلاة ولا صوماً لأنها أثر من آثار الصدق ومظهر من مظاهره، والصدق في النية، والأعمال بالنيات.

بالمشاهدة والتجربة يتضح أن أبلغ الفنانين فناً هم أصدقهم فعلاً وقولاً كما أنهم أصدقهم حساً.

وهذا الصدق كما أنه حس، فإنه خلق، وإذا كان لا بد لنا أن نلجأ إلى أسلوب العلماء لنثبت الحق في قولنا فإننا لا نكره أن نردد ما يقوله العلماء من أن كل خلق ينمو في نفس الإنسان بالتدريب والتمرين، والفنان الأمين على فنه المؤمن به الآمن له يوالي هذا التدريب ليل نهار، سواء فيما هو متعلق بفنه من الأعمال والأقوال وفيما لا علاقة له بالفن: ذلك لأن الفنان يكون دائماً من المؤمنين بأنفسهم، لأن نفسه ترزقه الحق وتلهمه إياه والحق من الله، ولو لم يدرك بعقله هذا الإيمان وسره. وهو لذلك يطلق روحه حرة صادقة في كل أعماله وأقواله لا يتكلف ولا يتعمل كما يتكلف ويتعمل بقية الناس، ولا يتلون ولا يتشكل في النهار مرات وفي الليل مرات كما يتلونون ويتشكلون، وإنما هو يتشكل ويتلون تبعاً لأحاسيسه الصادقة لا تبعاً لحكمة العقل الكذوب!

وأحسبني لست في حاجة إلى أن أثبت أن الناس كذابون، والناس كما نعرف عقلاء أو هم عقلاء كما يقولون، وهم الذين يتوهمون بعقولهم أن تصرفات الفنانين في حياتهم الخاصة والعامة تصرفات (شاذة) غير معقولة، وهي في الحق شاذة وغير معقولة عند عقل الخداع والغش، وإن كانت طبيعية ومنطقية أمام حكمة الحق.

والآن ما رأي القارئ في الرجل يوالي الصدق ويواصل التدريب عليه؟ ألا ينمو الصدق

ص: 62

في نفسه حتى يملأها؟ وما رأي القارئ في الرجل امتلأ صدقاً؟ أليس هو رجل الجنة؟ وأنه رجل الفن!

عزيز أحمد فهمي

ص: 63

‌الموسيقى المصرية القديمة

للأستاذ محمد السيد المويلحي

إننا حين نكتب عن هذه المدنية الموسيقية المصرية القديمة التي ترجع بالقارئ إلى ثمانية آلاف عام قبل الميلاد لا نقول ما قاله مندل البحاثة الألماني من أن هذا البحث من أظلم البحوث في التاريخ، ولا ما قاله العلامة الفرنسي فيلوتو من أنه بحث غير مثمر يضيع السعي فيه هباء، والكد فيه عبثاً؛ وإنما نقول ما قاله الدكتور محمد أحمد الحفني شرقي نال الدكتوراه في التاريخ الموسيقي (إنه بحث قائم على حقيقة ثابتة يؤيدها العلم والتاريخ وتنطق بصحتها الصور والنقوش).

وهذا حق فإنه لم يدفع مندل وفيلوتو إلى هذا القول اليائس إلا جهلهما بعلم الآثار المصرية فكانا يبحثان ويفحصان دون جدوى لأنهما لم يتوصلا إلى حل تلك الرموز حتى وافاهما أجلهما فلما حلت الرموز وكشفت المقابر عثر أثناء الحفر المتوالي على آلات قديمة كاملة أو قريبة من الكمال وعلى نقوش موسيقية دلت على حضارة بالعزة ومدنية موسيقية ناضجة وصلت إلى درجة تشعرنا أنها كانت مصدر الثقافة الموسيقية في العالم القديم فكانت إماماً للآشوريين واليونانيين والرومانيين والإيرانيين. وإذا علمنا أن ثقافة أوربا الموسيقية كانت أثراً من آثار الحضارة التليدة أمكننا أن نفخر بأن مصر - وحدها - هي التي تولت إذاعة هذه الحضارة والثقافة الفنية الموسيقية!

ولعل القارئ يعجب حينما يرى فيما سيراه من (الصور) تلك الصورة التي تظهر فيها فرقة كاملة بها عازف بالناي، ومغنّ، وعازف بالصنج، وعازف بالزمارة المزدوجة. . . في الوقت الذي كانت أوربا خالية من كل ثقافة علمية أو موسيقية. ولعل مما يؤيدنا في هذا أن الثقافة اليونانية القديمة التي ندين لها بالشيء الكثير حتى الآن كانت صدى للثقافة المصرية القديمة نقلها أرفيوس وأفلاطون وفيثاغورث عمن تتلمذوا على المصريين وأخذوا عنهم ثقافتهم الموسيقية. ولعل القارئ يعجب أكثر عندما يعلم أن أفلاطون كان يؤثر الموسيقى المصرية على الموسيقى اليونانية (موسيقى بلاده) وكان يصفها بأنها أسمى ما عرفه العالم من فن جميل هو جماع ما في الدنيا من صدق وتأثير وجمال وتصوير. . . حتى أن الأغاني المصرية كانت تنشد في اليونان في كل مكان وعلى كل لسان. . .

ص: 64

لو نظر القارئ إلى الصورة رقم (1) لرأى ابن آوى يعزف بالناي الطويل ذي الثقوب العديدة. والناي المصري القديم خشبة طويلة مجوفة بها ثقوب جانبية تصوّت إذا نفخ فيها. ولا يظن القارئ أن المصريين توصلوا إليها طفرة واحدة فقد قطعوا مئات السنين حتى توصلوا إليها وهي قديمة عثر عليها من نقوش سبقت تاريخ الأسر.

أما الصورة رقم (2) فهي لآلة الجنك أو الصنج (الهارب) وهي عبارة عن صندوق مصوت من الخشب ثبتت أوتاره الكثيرة بأوتاد (تقابل المفاتيح في الآلات الوترية الحديثة) وقد قضت هذه الآلة أيضاً زمناً طويلاً حتى تطورت واستقرت كما ترى في شكلها كاملة ناضجة، وإذا علمنا أنها آلة وترية وأن الآلات الوترية هي أحدث أنواع الآلات الموسيقية أمكننا أن نلمس إعجاز قدماء المصريين وجبروت عبقريتهم وعظيم حضارتهم. . .

والصورة رقم (3) وهي التي قلنا عنها إنها تمثل فرقة كاملة فيها المغني والضارب بالجنك أو الصنج والعازف بالناي والعازف بالزمارة المزدوجة. وقد يتكرر أحد أفراد هذه الفرقة فترى أكثر من عازف للصنج أو الناي في الصورة الواحدة كما هو الواقع في شكل رقم (3).

إن الناظر إلى المغني في الشكل المذكور ليلفاه ملوِّحاً بيده في الهواء. ولا يظن أن هذا هراء فقد كان المطرب يستعين بهذه الحركة ليرتِّب الإيقاع وينتقل باللحن من نغم إلى نغم، ويقود عازف الناي أو ضارب الصنك. . . وكان لهذه الحركة أثر عظيم في الموسيقى المصرية القديمة حتى الغناء باللهجة الهيروغليفية كان يسمى (جِسِيْثْ إمْ جِرِثْ) ومعناه الحرفي (الموسيقى بواسطة اليد).

وتُرجِع أوربا أصل التدوين الموسيقي (النوتة) إلى حركة اليد وتسميها لغة إن التي ظهرت بعد أربعة آلاف سنة من هذا التاريخ هي الطريقة المصرية تماماً مع فارق بسيط. فمصر رسمت في الهواء باليد، وأوربا رسمت في الورق باليد!. . .

بل إنها لا تزال إلى هذا العصر تستعملها، وقد استعملها في مصر لتعليم الأطفال الدكتور الحفني فخلد لكل نغمة من النغمات السبع الأساسية التي يتكون منها السلم الموسيقي حركة خاصة تعرف بها وتدل عليها اليد وعممها في جميع مدارس رياض الأطفال. . .

وقد كان المطرب المصري القديم إذا غنى في وضع يده اليسرى تجاه أذنه وخده ليتمكن من

ص: 65

التحكم في صوته فيتلاعب به كيف يشاء - كما هو الحال في البلاد الشرقية إلى الآن - وكما هو الحال مع المقرئين المبصرين والمكفوفين!

قلنا إن الآلات الوترية هي أحدث أنواع الآلات الثلاثة، فأقدمها هي آلات النقر ومنها القضبان المصفقة، والأذرع المصفقة، والأرجل المصفقة، والألواح المصفقة، والرؤوس المصفقة والأجراس والجلاجل، والشخاليل، والطبول، والستروم المنحني والناقوسي. وتلى آلات النقر أو الآلات الإيقاعية آلات النفخ كالناي والمزمار والنفير والفليدت الخ. . .

أما الآلات الوترية فمنها العود، والقانون، والكمان، والبيانو وقد استعاضت به أوربا في القرن السابع عشر عن العود لموافقته لموسيقاها وتلاحينها. . .

فإذن كان طبيعياً ألا نرى في النقوش القديمة التي عثرنا عليها إلا الآلات الإيقاعية وآلات النفخ وآلة وترية وحيدة هي الصنج؛ وليس معنى هذا أنه لم يعثر على آلات وترية غير الجنك وإنما المسألة مسألة زمنية طبيعية. . .

فالإنسان القديم لم يستعمل إلا تلك الآلات التي خلقها الله له في جسمه فاستعمل فمه في الغناء، ويده في التصفيق ورجله في الضرب على الأرض (وللآن تستعمل الرجل لضبط الوحدة) ثم تدرج شيئاً فشيئاً حتى وفق إلى صنع القضبان والأذرع والأرجل والألواح المصفقة وكان يصنعها من الخشب أو العظم أو العاج كما يتضح من الأشكال (4، 5، 6) أما الأجراس فكان يصنعها من البرنز على شكل البيضة، والشخاليل كان يصنعها من الخيزران المجدول على شكل الكمثرى (شكل 7، 8).

أما الستروم بأنواعه فهو نوع من الأجراس كان يستعمل للعبادة، وهو عبارة عن قضب منحن تخترقه أسلاك تلتوي من نهايتها في اتجاه عكسي سهلة الحركة تصطدم نهايات أسلاكها بجدران القضيب كلما حركه الإنسان (ش 9، 10) وكان استعماله مقصوراً على النساء (كهنة هاتور) وبعض الملوك.

وقد وصفنا من آلات النفخ القديمة (الناي). أما الزمارة المزدوجة (ش 11) فهي عبارة عن قصبة من الخشب تستعمل دائماً مزدوجة، وتعزف بها السبابة والوسطى؛ أما الخنصر والبنصر فتسندان الآلة من الخلف، والإبهام تسندها من الأمام. ولا تزال هذه الآلة تستعمل في ريف مصر إلى الآن.

ص: 66

أما الآلة الوترية الوحيدة التي عثر عليها قبل تاريخ الأسر فهي الجنك أو الصنج، وكانت من النوع المنحني، وقد وصفناها قبلاً.

من هذا ومن الرسوم التي عثرنا عليها قبل تاريخ الأسر وبعده يتضح لنا إلى أي مدى وصلت حضارة المصريين في هذا الفن الجميل الذي فرض نفسه فرضاً على جميع المدنيات القديمة حتى رأينا كما قلنا كيف أن فلاسفة اليونان الذي ثقفوا ثقافة مصرية فضلوا الموسيقى المصرية، وعملوا جاهدين مخلصين - على شيوعها وإذاعتها في بلادهم - فكان لهم ما أرادوا فلم يبق ثمة بيت ولا إنسان إلا ودخل طائعاً مختاراً تحت راية الاستعمار المصري (الفني). .!

بل رأينا إلى أي حد بلغت عبقرية المصريين وقدرتهم الخارقة على الخلق والابتكار والوصول إلى صنع آلات إيقاعية ووترية ونفخ في وقت كان العالم كله يسير في ظلمات بعضها فوق بعض حتى هدته مصر بنورها وبثقافتها، وبعبقرية أبنائها الذين بسطوا نفوذهم وسلطانهم وملكهم على الأرض ومن عليها.

هذا كان من ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد. . .! أما الآن وقد تدرجت الدنيا في معارج المدنية وسارت الأرض في مسالك النور فقد أصبحنا وكأننا كنا نسير طوال هذا الزمن سيراً عكسياً متخلفين عن كل حركة إصلاح وحياة. . فثقافتنا أصبحت محاكاة، وموسيقانا أصبحت ترديداً للموسيقى الأوربية التي لا توافق ميولنا، ولا تتفق وخوالجنا، وقد وصل عجزنا في هذا إلى درجة أصبح فيها كل من يخلط ويمزج الموسيقى المصرية بالموسيقى الأوربية يسمى مجدداً.

أصبح كل من يضرب الرومبا، والتانجو، والكاريوكا، والفالس. . . الخ يعتقد أنه أتى بما لم تأت به الأوائل والأواخر.

أصبحنا لا نملك إلا الذكريات، ولا نفخر إلا بالذكريات، ولا نعمل ولا نتقدم ولا نسعى إلا اعتماداً على الذكريات. . . وويل لشعب لا يعيش إلا على الذكريات!

محمد السيد المويلحي

ص: 67

‌القصص

أقصوصة من (أندرسن) القصصي الدانمركي

الأمير الراعي. . .!

للأستاذ صلاح الدين المنجد

عرَف عزّ المُلك وهو في رفاعة شبابه ونعومة إهابه، وأشرق نور النعيم في وجهه، وهو يتقلب على مفارش الحرير ونضائد الديباج، وضاحَك الحسان النواعم بين ضمائم العشب ولفائف الأزهار، وخلب قلوب الفتيات، فحلمن به كلما طفن في الغدو والرواح بهذا القصر الهادئ حيث يرتع الحب ويرف السعد ويتوهج النضار.

على أنه لم ينعم وا أسفاه طويلاً بالحب والجاه، ولم يذق هنيئاً طعم اللذاذات. . . فقد مات الأب الكهل، فتولى المال على مهل وأصابته جفوةُ الزمان، فعزف عنه الإخوان. . . وأضحى وحيداً في قصره الخالي الكئيب. . .

وكان يعلم أن على بعد مائة فرسخ من قصره أميرة رائعة الجمال فحن صبابة إلى لقياها، وأراد أن تكون معينة له على بؤسه، وشريكة له في عيشه. فأرسل إليها ذات يوم وردة نبتت على قبر أبيه تتفتح مرة في العام فتنشر شذاها فيتضوع في الأجواء ثمانية أيام، يفعم الناس خلالها فينسى الكئيب شجوه والمحزن بلواه. . .!

وكان في روضة الأمير عندليب يردد النشيد المهود في الأسحار فينبه النوَّم ويوقظ الوسنان. فأرسل به إلى الأميرة ليشفع له، فيحظى بالعطف وينال الرضى.

فلما وصلت الصناديق إلى الأميرة، وقد طُلي ظاهرها بالذهب وفوِّق باطنها بالخز، أصابتها هِزّة الفرح فتمايلت طرباً وقالت لوصائفها:

- لئن حسنت الهدية فوالله لأتزوجن المهدي. . .!

وفُتح الصندوق الأول ففاح العبير وسكرت الوصائف وقلن للأميرة: (ما هذا أيتها الأميرة من عبير الورد في الأرض. . . إن هو إلا من عبير الجنان. . .!)

فقالت لهن الأميرة:

- أهي من ورد الطبيعة؟

ص: 68

فقالت وصيفة منهن:

- نعم يا أميرتي.!

فأطرقت الأميرة. ثم قالت:

- أواه. .! يا تعس حظي. . . ستذبل أوراقها عند المساء، فتطأها الأقدام عند الصباح. . خذوها، فما أطيق رؤية الجمال يذبل.

وفتح الصندوق الثاني. . .

وصدح العندليب بأغرودة أذهلت السامعين، وتهامست الوصائف، وقالت الأميرة:

- ما هذا؟. . . صوت مسكر. . . ساحر. . . غريب. . .! أرأيتُنَّ يا صواحبي. . . مثل هذا الطير قبل هذا اليوم. .؟

فأجبنها: كلا. . .

وقال شيخ من رجال القصر:

- لشد ما يذكرني هذا العندليب يا أميرتي، بمعزف الملكة السحري الذي كان بالقصر في ماضيات أيامي. فله رنين صوته، ورخامة نغْمه. . .!

فانهلت العيون تذرف الدمع لذكرى الملكة الراحلة. . . ثم قالت الأميرة:

- ترى أهو حي. . . أم ميت. . . ضعوه في الحديد. . .؟

فأجابتها وصيفة معربة:

- كلا يا أميرتي. . . إن الحياة تسمع من صوته الجميل. . . انظري إليه يا أميرتي. . .

فأطرقت الأميرة وقالت:

- دعوه يطير بين الزهر والشجر. . . وينتقل بين الأهاضيب والرياض. . . فما أريد أن أنصت إلى أنغامه تتلاشى. . . غداً إذا مات. . . أما الأمير الذي أرسل الهدية. . . فاطردوه!

وغرِض الأمير إلى رؤية الأميرة. . . ففكر وقدر. وإذا به يترك قصره ذات يوم، وقد خلع ما فخر به من الثياب، وارتدى ما سخف منها. . . ويذهب إلى قصر الأميرة، وبيده ناي. . . يطلب أن يكون راعياً لشاء الملك:

وأدخله الملك في خدمه، ومنحه قليدة من ذهب كتب عليها:(راعي القصر الملكي)

ص: 69

وكان يسوق الشاء إلى المرعى التي تحف بالقصر. . . فإذا بج الكلأ بطونها. . . عاد بها، وهو ينظر إلى نافذة الأميرة. لعله يرى وجهها الصبيح. . .

واستيقظ أهل القصر ذات يوم. . . وإذا بأنغام رخيمة تتعالى من كوخ الراعي. فطربت الأميرة لها. . . وأرسلت الوصائف ليفتشن عن مصدر النغمات. . . فإذا بهن يجدن الراعي في كوخه الصغير. . . أما قدر علق في غطائها أجراساً صغيرة، وملأها ماء، ثم سلط عليها النار. فإذا بالماء يغلي. . . فيدفع الغطاء إلى أعلى. . . وإذا بالجلاجل تتذبذب فترسل الأنغام. . .!

وأخبرت الوصائف الأميرة بما رأينه وسمعنه. . . وزين هذه القدر للأميرة، فأتت إلى الكوخ، تتبعها الوصائف. . . لترى القدر المسحورة. . .!

وما كادت تسمع النغم. . . حتى صفق قلبها له. . . وقالت:

- ما أشبه هذا النغم بالنغم الذي عزفته بالأمس على البيان. اذهبي يا لينورا، وسليه أن يبيعنا هذه القدر وتلك الجلاجل. . .

وأتت الوصيفة إلى الراعي فقالت له:

- هل تبيع هذه القدر أيها الراعي. . .؟

قال لها وقد ضحك:

- نعم. . . أبيعها. . .

فقالت له:

- حسن. . . وكم تريد ثمناً لها. . .؟

- عشر قبلات. . . من الأميرة. . .!

- ويل لك. . . ماذا تقول. . . أمجنون أنت؟. . . أم. . .

- القدر قدري. . . والجلاجل جلاجلي. . . وهذا ما أريد. . . وعادت الوصيفة إلى الأميرة خائبة. . . قالت لها:

- ماذا طلب منك؟. . .

-. . . . . .

- تكلمي يا لينورا. . . تكلمي. . .

ص: 70

- لا أجرؤ يا أميرتي. . . إنه مجنون

- وماذا قال لك. . .؟

وعادت القدر إلى إرسال النغمات فطربت الأميرة مرة أخرى وقالت:

- هيا. . . تكلمي. . . تعالي واهمسي في أذني. . .

- قال إنه يريد عشر قبلات من مولاتي الأميرة ثمناً للقدر. فصاحت الأميرة:

- يا للوقح. . . يا للسافل. . .!

- وغضبت، وأخذت تقطع الحديقة جيئة وذهوباً، ولكن. . ماذا تفعل؟ هاهي ذي القدر تعود إلى إرسال النغمات، وهاهو ذا قلبها يعود فيضطرب ويثور

ووقفت هنيهة. . . ثم قالت لوصيفتها:

- اذهبي إليه. . . وسليه إن كان يقبل أخذ الثمن منكن وذهبت الوصيفة إليه ثم عادت خائبة. . .

عندئذ قالت الأميرة:

- لابُدَّ مما ليس منه بد. . . أحضروه. . . وحِطن بي لكيلا يراني أحد. . .

وحفّت الوصائف بالأميرة. . . وأقبل الراعي. . . فقبلها عشر قبلات. . فيها الخمر والعسل المصفى. . وأعطاها القدر والجلاجل.

يا فرحتها آنئذ. . . لقد قضت يومها أمام القدر كلما نضب ماؤها. . . ملأنها والوصائف حولها يرقصن ويضربن الأكف بالأكف. . .

وأقبل الليل. وانصرفت الوصائف. . . وقالت لهن الأميرة:

- إيّاكن أن تخبرن أحداً. . . بما دفعته ثمناً للقدر. . .!

وقال الأمير الراعي لنفسه وهو ينصت إلى صلاة الليل:

- لقد حطمت كبرياءها يا نفس. . . وعرفت ما يغريها. . . فلن تجزعي بعد اليوم. . .!)

وتجرمت أيام وليال. . . وإذا بالراعي يبدع معزفاً ما طلبت نغماً إلا سمعته فيه. ومرت الأميرة بالحديقة ذات يوم، فقالت لوصائفها:

- لنعدلن إلى هذا الراعي، فلن نخلو من أعجوبة لديه. . .

وما كادت تقرب الكوخ حتى سمعت نغمات مشجية وسمعت الراعي يغني فنادت وصائفها

ص: 71

وقالت لهن:

- اذهبن إليه وسلنه عما يريده ثمناً لمعزفه. . . ولكن. . . احذرن فلا قبلات ولا عناق. . .!

وانطلقت إحداهن إليه فسألته، ثم عادت كاسفة الوجه، مضطربة الشعور. . . فسألتها الأميرة:

- ماذا طلب منك؟

- إنه مجنون يا مولاتي. . . إنه يريد مائة قبلة. . .!

- آه!. . . ويله. . .! وقح. . .!

وفكرت الأميرة ثم قالت:

- لا بأس. . . عشر قبلات مني. . . وما بقي فمنكن

ولكن الراعي أصر ولم يقبل. . . عندئذ قالت: (أحضروه. . . فلن يراني أحد)

مسكينة أيتها الأميرة. . . فها هو ذاك الملك يحدق فيك. . . فإذا رأى ما رأى أقبل إلى الحديقة كالمجنون. . . فيطرد الوصائف. . . ويضرب الراعي. . . ويقول لابنته:

- هيا. . خذيه واذهبي. . . فلن أبقيكما في قصري بعد اليوم

وانطلق الراعي يمشي مع الأميرة على غير هدى. . . في أرض لا تموج بالنبات، ولا ترف بالندى. . . يؤذيهما السحاب الهتون، وتفزعهما الريح العصوف.

وتبكي الأميرة ذات يوم، وهي في واد أغن تستجم، وتقول للراعي:(لشد ما أنا بائسة. . . لو أني قبلت الأمير زوجاً. . . لكنت الآن في قصره. . . ولكنه كان غير. . .)

ولم يسمع ما قالته. . . بل أسرع واختفى تحت الغصون. . . فخلع ثوبه الممزق وارتدى ثوباً فاخراً كان معه. . . وجاء إليها فقال:

- هاأنذا أميرك الذي طلبت. . . ولكني لن أخفض لك جناحي اليوم. . . ولم أهب لك قلبي. . . فإن نفسي تشمئز منك. . . لم تقبلي الزوج الشريف ليكون شريكاً لك في حياتك. . . هه. . . لقد علوت يومئذ واستكبرت، واحتقرت الوردة والعندليب. . ولكنك انحططت وقبلت راعياً من أجل قدر. . .!

وداعاً. . .! وداعاً. . . فلن أراك بعد اليوم

ص: 72

وانطلق الأمير إلى قصره وحيداً

لقد لحقت به الأميرة. . . وطرقت أبواب القصر. . . ونادته. . . ولكنه كان في شغل عنها، كان يقول لنفسه:(لماذا أطلب الغناء. . .؟ لماذا أطلب الكبرياء. . .؟ ألا سحقاً لهما. . . شرف وفقر خير من مال وكبر. . . أيها الحارس كن أصم. . . أيتها الجدران كوني عمياء. . . أيتها الأميرة حطمي كبرياءك وتعالي).

(دمشق)

صلاح الدين المجد

ص: 73

‌من هنا ومن هناك

لماذا نضحك - عن (بورسيف) الأميركية

إذا رأينا طفلاً صغيراً يسقط في الطريق فهذا ولا شك لا يثير فينا شيئاً من الضحك.

ولكنن نضحك أو نتكتم الضحك، إذا رأينا رجلاً من ذوي المكانة يسقط على الأرض، وتجري قبعته الحريرية أدراج الرياح.

فإذا كنا نحمل شيئاً من الكراهية لذلك الشخص، فإن ضحكنا ولا شك يكون أشد وأكثر، إذ أنه في هذه الحالة يكون صادراً من أعماق القلوب.

لماذا لا تضحك إذا سقط طفل أو حصان أو امرأة عجوز؟ أنت لا تضحك لأنك لا يمكنك أن تتخيلهم منافسين لك أو متفوقين عليك. ولكن الرجل من ذوي المكانة والوقار، يبرز شخصيته على حسابك، ويدل عليك بمقامه في الهيئة الاجتماعية والشخص الذي تمقته لا تستطيع أن تنسى منافسته لك، وإن كنت لم تفكر في ذلك.

وخلاصة القول أنك تضحك لأنك تشعر برضائك عن نفسك. تشعر بانتصارك، وكأنك تقول في ضحكتك ما أشد سروري وغبطتي!

هذه حقيقة ليس فيها ما يضحك، ولكنك ستحس قوى حانقة تتحفز للدفاع عما يسمونه (طبيعة التفكه).

فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس من تناول الموضوع من الناحيتين: الضحك كما يقول هوس (هو تجلي النفس وصفاؤها) أما طبيعة التفكه فليست بالشيء البريء الذي يجلب السرور. فهي تحمل بذور شر لا شك فيه.

الضحك هو طريقك للتعبير عن زهو التفوق للعالم وللناس.

وزهو التفوق من الكلمات التي استعملها الفيلسوف الإنجليزي أنثوني لدوفيسي في بحوثه العميقة حول نظرية الضحك في كتابه أسرار الضحك، وقد أودعه مناحي كثيرة وآراء عديدة في هذا الموضوع لا نستطيع أن نستوعبها في مقال.

ويشرح زهو التفوق بقصة الضفدعة والكركي: وهي أن ضفدعة دعت كركياً لتناول الغداء، فلما أقبل على الطعام، وجد الضفدعة قد وضعته في إناء مسطح، فلم يستطع الكركي أن يتذوق منه شيئاً، وأقبلت الضفدعة فتناولت منه ما تريد، فعاد الكركي بدوره

ص: 74

فأولم وليمة للضفدعة، فلما دنت لتناول الطعام وجدت أن الكركي قد وضعه في وعاء ضيق العنق، فلم تستطع أن تنال منه شيئاً، وأقبل الكركي فتناول كل ما فيه. ففي المثل الأول يتبين زهو التفوق في الضفدعة، وفي المثل الثاني يتبين في الكركي. قد تضحك لأسباب كثيرة تخرج عن زهو التفوق، ولكننا إذا دققنا النظر أمكننا ردها جميعاً إلى هذه الناحية. من ذلك ضحك الطفل حين نطارده، ويرتمي في حجر أمه. إنه ولا شك لا يتفوق عنا، ولكنه يشعر بأنه على مطاردتنا وتعلق بصدر أمه، فهو في هذه الحالة يضحك لأنه قد شعر بالغلبة والتفوق.

أما في القصص والروايات الهزلية فنحن نضحك لشعورنا بزهو التفوق مع شخصيات الرواية، إذا كانت لهم هذه الصفة. أما إذا كانوا على نقيضها فإن هذا النقص من شأنه أن يضحكنا لأنه يشعرنا كذلك بزهو التفوق.

لا تتزوج من حسناء! - عن سمشز ويكلي

إياك أن تتزوج من حسناء. هكذا يقول القصصي الذائع الصيت هـ. ج. ويلز. فالمرأة البسيطة كما يقول هي وحدها التي تستطيع أن تقوم بوظيفة الزوجية.

المرأة البسيطة هي التي تستطيع أن تحبوك بما تصبو إليه نفسك من عيشة هادئة وحياة مطمئنة. إذا لم تكن ممن قدر لهم أن يرتطموا في حب قديم يعاودهم خفية بالآلام الممضة إلى الأبد.

المرأة الجميلة تكون شغلاً شاغلاً لبعلها، فهو مسخر على الدوام لرغباتها ونزواتها، وهو عرضة من أجلها لحسد الحاسدين وحقد الحاقدين. ولو أنه لا تمضي عليه برهة من الزمن وهو على هذه الحال، حتى يعود فيحسد نفسه على أمسه الذي أفلت من يديه وذلك حين يظهر لعينيه ما كان مخبأ عنه من النقائص.

ويختلف الأمر عن هذا مع المرأة البسيطة، المرأة البسيطة بكل معاني الكلمة، فقد لا يمضي وقت طويل على بنائك بها حتى تظهر لك فيها محاسن كانت مغيبة عن عينيك: ابتسامة يحفها الخجل والبراءة تظهر من آن لآخر وتحتجب. نظرة ساذجة توحي إليك الدعة وترسل إلى قلبك السكينة. وحسب المرأة التي على هذا الطراز جمالاً أنها كلها لزوجها وأنها له كنز أمين.

ص: 75

فإذا كانت لي نصيحة كرجل حنكته التجارب، وكانت نصيحتي تستحق العناية في هذه الأيام التي كثر فيه لغط الشباب، فنصيحتي لك أن تتزوج من امرأة تفوقك في السن، إذا كان لابد لك من الزواج. وأستطيع أن أقول في هذه المناسبة بعد تجاربي في الحياة وقد عشت فيها طويلاً: إنك قد تكون أكثر سعادة إذا تزوجت من أرملة. ويقول ويلز بعد تجارب السنين الطوال: يجب أن تكون المرأة التي تختارها لزواجك بسيطة بقدر الإمكان، ويجب أن تكون في سنك أو أكبر من سنك، عارية عن كل ما يسمونه المواهب الاجتماعية أو الثقافية مجردة من الأناقة المصطنعة، فقيرة إذا أردت أن تحتفظ بكرامتك.

ولويلز كثير من الآراء في المسألة الجنسية يذكرها في شجاعة وجرأة وقد صور في كتابه الذي ترجم فيه حياته صوراً وفصولاً صريحة عن تجاربه في هذه المسألة تتناول حياته الخاصة وملاحظاته الشخصية على الناحية الجنسية في العصر الحديث.

فيقول عن أول حادث وجداني وقع له وهو في العشرين من عمره إذ قبلته خادمة: إنني شعرت بلذة لم أشعر بمثلها في ذلك الوقت، وابتدأت أحس بالحرمان الذي أعيش فيه ويعيش فيه الكثيرون من أمثالي.

ويرى ويلز أن المشكلة الجنسية لا تختلف عن المشكلة الاقتصادية، فعلة كل منهما الامتلاك، ويرى أن تكون الروابط العائلية روابط جسدية فحسب، أما الشؤون الاقتصادية والثقافية ورعاية الأطفال، فيوكل أمرها إلى الحكومات.

نظام الجاسوسية في العصر الحديث - عن مجلة التيمس

الأميركية

تقوم الدول بتجارب عديدة لقواها الحربية من آن لآخر تنفق فيها أموال طائلة، وتستعد لها استعداداً عظيماً، وتعمل هذه التجارب في الجهات المجاورة لها عادة.

وهي في هذه الحالة لا بد أن تكون على علم باستعدادها الحربي قوة رجالها وأسلحتها والموارد التي تعتمد عليها. فيتصل الجواسيس بالقوات الحربية والبحرية للدول المختلفة، ويتصلون أحياناً بإدارات المباحث السرية لتلك الدول، ويتتبعون حركة الصحافة والتأليف ليستخلصوا منها ما يفيدهم في هذا الصدد.

ص: 76

وقد أصبح عمل الجاسوسية من الأعمال الأساسية التي لا يستغني عنها في جميع الدول، وعلى الرغم من العقوبات الصارمة التي جوزي بها بعض الجواسيس فإن الإقبال على هذه المهنة لازال كبيراً.

وقد توجد الجاسوسية بين دولتين ليس بينهما شيء من العداء على الإطلاق ولا ينتظر أن يكون في المستقبل. ففي هذه الحالة يكون العمل موزعاً بين الرقابة العامة، وتكتفي بالتقارير الحربية التي ترد إليها من سفاراتها ومصادرها الخاصة، وبين الجواسيس المحترفين الذين لهم قوة الكلاب في شم أخبار الحوادث المحلية التي تقع في تلك البلاد، ومعرفة الفرص التي يمكن أن تستفاد بسببها.

ويقوم الجواسيس بأعمال هامة في البلاد التي يدخلونها، ولا يقتصر عملهم على تسقط الأخبار فحسب، فهم يعملون على إثارة الفتن والاضطرابات، وتشجيع روح الامتعاض والثورة والاعتداء على الأنفس والأموال.

والجواسيس المحترفون من الظواهر العجيبة في المدنية الحديثة فهم يستفيدون من وطنية الغير لأنهم خلو من الوطنية. وهم في الغالب أناس ليس لهم وطن ولا تعرف لهم بلاد، وذلك أنهم من عناصر مختلفة حتى إنهم لا يعرفون شيئاً عن أنفسهم أو لغتهم.

ويقومون بهذا العمل بادئ الأمر بإغراء المال وبدافع الحاجة، ولكن سرعان ما ينقلب الأمر إلى ميل طبيعي للمخاطرة والتهييج، وكراهية للشرف والكرامة، ورغبة شخصية في إضرار البلاد لأنهم لا بلد لهم.

لا صداقة للإسلام مع الاستعمار. عن جريدة الوحدة المغربية

الاستعمار ينتزع الحرية من المولودين أحراراً، وينتزع الملك من المالكين الأولين، ويمسخ الإنسانية إلى حيوانية سفلي فيجعل من المغلوبين مادة جامدة صماء بكماء عمياء، ويحصر همهم في التدحرج على فتاة الموائد الذي يفضل عن الأسياد الغالبين. وقد أصيبت به أمم الإسلام فكرهته ومقتته مقتاً عظيماً، وأخذت تعمل للتحرر منه ومن الدول التي تمثله مثل فرنسا وإنكلترا. وجاءت ألمانيا وإيطاليا متأخرتين إلى هذا الميدان، وأخذتا تنشران الدعاية ضد الاستعماريين الإنكليزي والفرنسي، ففهم الناس لأول وهلة انهما ستساعدان الشعوب الضعيفة على التحرر، ودخل في روع المغرورين أن إيطاليا ستترك المسلمين الذين أوقعهم

ص: 77

سوء الحظ تحت يدها أحراراً مستقلين. فإذا بالزمن يدور دورته، وإذا بألمانيا تطالب بالمستعمرات، وتضع لاستعمارها أسساً (نازية) قوامها احتقار السلالات الملونة، ومنع تعليمها، وعدم السماح بالاختلاط معها؛ وإذا بإيطاليا تنقض على الأمم الضعيفة هنا وهناك، وإذا بتاج الحبشة وتاج ألبانيا يوضعان على رأس (الإمبراطور الجديد) محي مجد روما البائدة.

لقد كان من الممكن أيها الإيطاليون والألمانيون أن تحتلوا قلوب المسلمين لو لم تسيروا سيرة الفرنسيين والإنكليز والأميركان؛ أما وقد سرتم سيرتهم فلا مناص للعالم الإسلامي أن يناصب استعماركم العداء كما ناصب العداء استعمار غيركم من الدول الأخرى وثقوا جميعاً أنه (لا صداقة للإسلام مع الاستعمار).

أكثرت مذاييع السلطات الغربية في بلادها، وفي بلاد الإسلام المبتلاة بها من الدعايات المتعارضة لقصد التأثير على المسلمين. وقد أخذ كل منها يذكر عيوب الآخر وينشر محاسن نفسه. فمذياع إيطاليا يذكر عيوب فرنسا ويستدل عليه بمقالات الوطنيين المغاربة؛ ومذاييع فرنسا تذكر عيوب إيطاليا وتستدل عليها بمقالات المسلمين المدافعين عن حقوق الطرابلسيين والألبانيين والاحباش؛ ومذاييع إنكلترا تذكر عيوب خصومها، وكذلك مذاييع ألمانيا، والغريب أن كبار الساسة - تحت ضغط القلق الدولي - فقدوا التوازن في أعصابهم، واصبحوا يشجعون كثيراً من الأعمال الصبيانية التي لا نتيجة لها مطلقاً. ذلك أن المسلمين قد استيقظوا أو أفاقوا، وأصبحوا يعرفون من الغربيين المسيطرين على ما لا يعرفونه هم عن أنفسهم. وإذا كانوا ينصتون إلى هذه المذاييع فليس ذلك ليتأثروا بدعاية خاصة ويصبحوا في صف خاص، وإنما ليتمموا معلوماتهم عن الاستعمار الغربي بمختلف ألوانه وأشكاله. فلا إيطاليا بالغت فيما تدعيه على فرنسا، ولا فرنسا كذبت فيما تدعيه على إيطاليا مثلاً؛ وإنما الجميع سواسية في الإساءة إلى الإسلام واستعباد المسلمين، وجميع المذاييع الغربية المتعارضة تعتبر صادقة في نظر العالم الإسلامي اليوم.

وإذا كانت الدول الكبرى تتناطح على استرضاء المسلمين ليكونوا في صفها يوم الكريهة المنتظر فإنما ذلك لأنهم في حقيقة الأمر قوة دولية كبرى يجب أن يحسب لها حسابها في مستقبل البشرية وتحديد مصيرها القريب، والواجب يقضي عليهم أن يعرفوا قيمتهم

ص: 78

الحقيقية ويقدروها تمام التقدير، وإن يعملوا متى أتيحت لهم الفرصة لحسابهم الخاص حساب العزة والحرية والمجد، لا أن يعملوا لحساب الغير فينتقلوا من يد إلى يد، ويستبدلوا غالباً بغالب! (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).

ص: 79

‌البريد الأدبي

الأدب المصري في اللغة الفرنسية

يسرنا أن نذيع أن قصة (الأطلال) التي نشرها الأستاذ محمود بك تيمور باللغة العربية لبضع سنوات خلت قد نقلت إلى اللغة الفرنسية مع أقاصيص أخر للمؤلف نفسه، وظهرت أخيراً في باريس تحت عنوان وهذا مما يدل على قدر فن الأستاذ تيمور، وهو الكاتب المصري الذي عرف كيف يجيد السياقة ويحسن التصوير ويحكم الخاتمة فيما يبتدع من القصص على الطريقة الواقعية حتى إنه أصبح في مقدمة المهرة في فن القصة، وله أتباعه وله مقلدوه.

والترجمة الفرنسية صحيحة الأداء سليمة العبارة على غير تكلف ولا استكراه.

كتاب نفيس ينشره الأب أنستاس الكرملي

هو (نُخب الذخائر في أحوال الجواهر) لمحمد بن إبراهيم ابن ساعد الأنصاري السِّنجاري المعروف بابن الاكفاني (المتوفى سنة 749 للهجرة). ومزيته أنه يجمع كثيراً من العوائد الخاصة بالجواهر من لغوية واصطلاحية وطبية وعمرانية مما ذكره أكابر كتاب العرب مثل الكندي والجوهري والبيروني والغافقي إلى ما أتى به المؤلف نفسه.

وقد نشر الأستاذ الأب الكرملي هذا الكتاب بالدقة والتحقيق اللذين عودنا إياهما، إذ تعقب متن الكتاب فقرة فقرة فعَلق عليها بإسهاب متمكناً ثم أقام أحد عشر مسرداً (فهرساً) للموضوعات والأسماء على اختلافها والأوضاع اللغوية والحجارة والمعادن والأمراض التي تعالج بالحجارة الكريمة. هذا واعتماد الأب الكرملي في نشر الكتاب على نسخة قديمة سليمة رأى الأب العلاّمة الاستغناء بها عن غيرها مما هو محفوظ في خزائن الكتب لأسباب قويمة (ص 110) إلا أن مثل هذا الرأي مع تلك الأسباب - موضع مراجعة عند بعض العلماء.

نشأة الصحافة المصرية اليومية وتحولها

ذلك عنوان الرسالة العلمية التي نال بها الدكتور كمال الدين جلال، الصحافي المصري القدير، شهادة الدكتوراه من جامعة برلين. والرسالة ظهرت أخيراً في اللغة الألمانية، وهي

ص: 80

مستفيضة جامعة تلم أشتات الصحافة المصرية - أخبارها، وحوادثها، وصحفها، ورجالها، وعهودها - منذ الحملة الفرنسية حتى اليوم. وتمتاز الرسالة بأن مؤلفها ذهب وراء العرض والوصف وثبت المصادر، إذ جعل يعلل الواقعات والمظاهر بالنظر في شؤون السياسة وأحوال الاقتصاد وقضايا العمران. فالرسالة بهذا تتصل بفن الفلسفة التاريخية اللاحقة بالحضارة الفكرية.

ولعل الرسالة تنقل إلى اللغة العربية لحاجة قرائنا إلى ما فيها من الفوائد والحقائق، وعسى أن يضع المؤلف إذن مسردين يدرج فيهما أسماء الأعلام وأسامي الصحف، لأجل تقريب الفائدة.

كتاب جريء

أخرج النائب المحترم الأستاذ حسن الجداوي كتاباً عنوانه (عيوب الحكم في مصر). ولا تعني السياسة مجلة كالرسالة مقصدها الأدب؛ بيد أننا نسجل إقدام الأستاذ الجداوي على الكتابة المنطلقة من كل قيد رغبةً في تدارك العيب الواضح. هذا وإن الأستاذ الجداوي يناوئ أموراً تناوئها الرسالة. من ذلك: (روتين) المصالح الحكومية وجمود نفر من أصحاب الأمر فيها، وقيام نظام (المحسوبية)، ثم إهمال أهل الكفايات واستبعاد الشباب، ثم التفرد والانزواء عن المصلحة العامة. . . بنا حاجة إلى أمثال الأستاذ الجداوي.

وليت الأستاذ الجداوي صرف إلى شؤون الثقافة من همه أكثر مما صرف؛ فإن الذين يتعهدون الثقافة الحق في البرلمان المصري معدودون. ولا بد من تآزر الصحافة والنواب في هذا الجانب حتى نستقبل عهداً تستقيم فيه أسباب الحياة الفكرية.

جلال الفلسفة العربية

ذكرت لك من قبل (عدد 306) كيف اعترف الأب هكتور تيري، من أساتذة المعهد الكاثوليكي في باريس بجلال الفلسفة العربية. فخذ الآن قول العالم اليسوعي الأب كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي، وتهافت التهافت لأبن رشد، وتلخيص كتاب المقولات له، والجزء الأول من تفسير ما بعد الطبيعة له. قال الأب بويج في مؤتمر المستشرقين السابع عشر في مدينة اكسفرد (سنة 1928): من الأمور التي جلبت إلى العالم العربي الفخر الاسمى،

ص: 81

والتي أعانت على تسوية الثقافة الأوربية الرفيعة بحيث لا يستطيع المؤرخون إغفالها أن أمثال ابن سينا وابن رشد نُقلت تأليفهم إلى اللاتينية منذ المائة الثانية والثالثة فانبثت في مدارس النصارى حيث حُللت ونُسخت فاحتجَّ بها هذا ودفعها ذاك من الأعلام مثل (دنس سكوت) و (ألبير الكبير) والقديس توما وغيرهم كثير (راجع ظهر غلاف (تفسير ما بعد الطبيعة) بيروت 1938).

(ب. ف.)

لورنس والقضية العربية

نشر في الأسبوع الماضي في لندن كتاب بعنوان (الندوة الشرقية) يحتوي على كتابات مختلفة من المرحوم الكولونل لورنس الذي اشترك في ثورة العرب في الحرب العالمية. ومن هذه الكتابات فصل كان قد أعده ليكون الأول في كتابه الشهير (أعمدة الحكمة) ولكنه عاد قبل الطبع فحذفه منه وألغاه عملاً بإشارة الكاتب المعروف برناردشو.

وفي هذا الفصل يندد لورنس تنديداً مرَّاً بالوزارة البريطانية لأجل بذلها وعوداً للعرب وله معهم كي يشتركوا في الثورة فكتب لورنس ما ترجمته:

(كان واضحاً منذ البداية أننا لو ربحنا الحرب لصارت هذه الوعود قصاصات ورق بلا قيمة. ولو كنت أنا مشيراً نزيهاً للعرب لنصحتهم بالعودة إلى بيوتهم وعدم المخاطرة بأرواحهم في القتال من أجل هذه الأوراق. لكنني عللت نفسي بأمل آخر وهو أني أقود هؤلاء العرب بحماستهم الجنونية إلى النصر النهائي. وهناك أجعلهم والسلاح في أيديهم في مركز أمين مضمون إن لم يكن متسلطاً، فتجد الدول الكبرى من الحكمة والملاءمة أن يلبوا مطالبهم بمقتضى الإنصاف).

وكتب لورنس أيضاً: (لم يكن لي ظل من الحق في استخدام هؤلاء العرب في هذه المخاطرة دون أن يعلموا نتيجتها الصحيحة فيما يتعلق بقضيتهم. لكني جازفت بالغش اقتناعاً بأن معونة العرب ضرورية لنا كي نفوز بنصر سريع ورخيص الثمن في المشرق وإنه خير لنا أن ننتصر ونخيس بوعدنا من أن ننكسر ونحن نزهاء).

وأوضح ناشر الكتاب أن هذا الشعور من لورنس كان وقتياً وعاد فرضى بقرارات مؤتمر

ص: 82

القاهرة عندما عالج المستر تشرشل المسألة وقرر الوفاء بالعهود البريطانية.

ولقد صرح المستر برناردشو بأنه أشار فعلاً على لورنس بإهمال هذا الفصل الأول لأنه استهلال غير حسن لأسباب غير سياسية.

وزاد المستر شو على ذلك: (أما في شأن العرب فكان لورنس يحسب في أول الأمر أنهم لا يلقون معاملة حسنة، ولكنه شعر بعد ذلك أنهم ينالون أكثر مما تمكنهم إدارته وسلك أخيراً سلوك من يعتقد أن لا أهمية للوجهين. والحقيقة أن لورنس لم يكن يفهم السياسة قط، فهو إنما كان صبياً كبيراً لم يتم نموه يوماً).

نزاع على قصيدة

يا حلوة الوعد ما نساك ميعادي

عِز الهوى أم كلام الشامت العادي

كيف انخدعت بحسادي وما نقلوا

أنت التي خلقت عيناك حسادي

طرفي وطرفك كانا في الهوى سبباً

عند اللقاء ولكن طرفك البادي

ثلاث أبيات من قصيدة للمرحوم شوقي بك تبلغ سبعة عشر بيتاً نشرت الرسالة منها في سنتها الأولى اثني عشر بيتاً تحت عنوان (شوقية لم تنشر تغنيها إحدى القيان). ولم تشر المجلة إلى اسم المغنية لأنها كانت قد تزوجت وانقطعت صلتها بالجو الفني. . وهذه المغنية هي السيدة (ملك) وقد صنع لها شوقي بك هذه القصيدة قبل وفاته بعامين لتغنيها وكان ذلك في مصيفها بالإسكندرية، حيث كان يختلف إليها أمير الشعراء والأساتذة فكري أباظة ومحجوب ثابت ومحمد عبد الوهاب. وقد أعجب الأستاذ محمد عبد الوهاب يومئذ بمعنى القصيدة وتلحينها، فلما توفي المرحوم شوقي بك تحدث الأستاذ عبد الوهاب بأن آخر ما نظمه شوقي له كان هذه القصيدة. فردت السيدة ملك في جريدة البلاغ تنكر عليه ذلك وتستشهد بمن ذكرت وبنسخة القصيدة مكتوبة بخط شوقي إليها. ووقف الأمر يومئذ عند هذا.

ولكن الأستاذ عبد الوهاب عاد فلحن هذه القصيدة في هذه الأيام لروايته الجديدة التي يزمع إخراجها في الشتاء القادم. فلما علمت السيدة ملك بهذا تجدد بينهما نزاع لطيف توَّسط فيه أصدقاؤهما حتى وعد عبد الوهاب بأنه (سيحاول) أن يستغني عن هذه القصيدة. ويظهر أن هذا الوعد لم يطمئن السيدة (ملك) فنشطت حركة استشارة المحامين ونشطت معها تلك

ص: 83

الضجة الطريفة التي لا نعلم كيف تنتهي وعلى أي وجه من الوجوه ستحل. والظريف في الأمر أن أشد الجميع غضباً هو الدكتور محجوب ثابت! فهو يعجب من جرأة الأستاذ عبد الوهاب وعدم استئذانه إياه باعتباره (الشامت العادي) الذي عناه شوقي رحمه الله.

المويلحي

معرض رابطة الفنانين المصريين

افتتحت رابطة الفنانين المصريين معرضها هذا الأسبوع، وهو معرض حر لم يتقيد فيه العارضون بموضوع خاص فكان هذا مما ساعد العارضين على أن يطلقوا أرواحهم وأفكارهم نحو ما يطيب لهم من موضوعات الرسم والنحت والزخرفة. فبماذا عادوا لنا من سماء الفن؟

قد يكون من الشح أن ننكر عليهم ما أصابوه من التوفيق، ولكننا أيضاً قد نسرف في المجاملة إسرافاً لا نحبه إذا قلنا إنهم وفقوا إلى الفن الناضج الذي نطلبه.

فقليل جداً من المعروضات الذي أسعده الطابع المصري الصادق؛ وقليل منها ما قصده به المعارضون إلى التعبير عن عاطفة من العواطف الإنسانية، أو إظهار فكرة لها معنى. وعلى هذا كان المعرض أشبه بمعارض التصوير الشمسي المنقول بالفوتوغرافية منه بمعارض الفنون التي ينتجها فنانون لكل منهم شخصية لها روح ولها عقل.

وقد حاول بعض العارضين أن يظهروا للجمهور وكأن لهم شخصيات مستقلة بهم وكأن لهم أسلوباً خاصاً بهم في فنهم فعمد منهم (منصور فرج) إلى أشكال الناس في لوحة البناء فنحتها نحتاً عجيباً ضخم في عضلاتهم وأعضائهم. فكانوا كالقردة أو (السيدة قشطة) كما عمد (يوذانت) إلى صبغ لوحة (قرية مصرية) باللون الأحمر صباغة لا توزيع فيها ولا تظليل فكانت كأنها (قرية الجن).

ولعل هذين العارضين معذوران فيما فعلا لأنهما قد سمعا كثيراً عن الفنانين الأوربيين الذين يؤثر كل منهم لوناً خاصاً أو شكلاً خاصاً من أشكال الآدميين فحسبوا أن كل فنان حر في هذا الإيثار، بينما الواقع أن الفنان الذي يكثر من لون ما في صوره ورسومه إنما يفعل ذلك غير مختار، لأن الطبيعة تزيف على عينيه الألوان ولأنه مصاب بمرض نظري لا أكثر

ص: 84

ولا أقل.

وإذا كان لنا أن نختار من بين المعروضات في هذا المعرض ما نعتقد أنه خير ما فيه فإننا نفضل من غير شك ولا ترتيب

1 -

(رأس أسواني) تمثال ميزته الأمانة والصدق

2 -

(فتوة) تمثال كان يجدر بصاحبه أن يسميه (بلدي قيافة)

3 -

(الفداء) تمثال على النهج الفرعوني فيه جلال

4 -

(مصرية) تمثال مصري حديث تجسدت فيه الأنوثة

5 -

(حي قومي) صورة مصرية صادقة

6 -

(مليحة) تمثال مصري حديث جميل خفيف الروح

7 -

(ابن البلد) صورة كان يصح أن يكون اسمها (الصعيدي)

8 -

(العودة من السوق) رسم زخرفي بسيط جميل دقيق

9 -

(في الشتاء) تمثال على النهج الفرعوني فيه هدوء وحلاوة

10 -

(موقعة نصيبين) صورة قوية.

11 -

(إدريس) صورة رائعة.

12 -

(القيسرية القديمة) صورة مصرية فيها غموض ورهبة.

13 -

(فتوات البلد) صورة كويدك حفيفة جداً.

14 -

(المخطوبة) صورة عذراء مليحة حالمة.

15 -

(فتاة) تمثال لفتاة عصرية فيه الأنوثة والأناقة.

ونحن نهنئ أصحاب هذه التماثيل والصور كما نهنئ غيرهم من العارضين على أن يشحذوا الهمم ويغذونا بما نحتاج إليه الآن من فن ملؤه الروح والفكر.

جريدة الوفاق في عامها الثاني عشر

دخلت زميلتنا الوفاق في عامها الثاني عشر، وهي أصدق ما تكون إيماناً ولساناً في خدمة الأخلاق والأدب. والوفاق جريدة إقليمية أسبوعية تصدر عن بلقاس ويحررها الأستاذ البيلي علي الزيني، وقد سلخت في جهادها الأدبي المحمود أحد عشر عاماً لم تفتر لها في خلالها همة، ولم يتخلف لها عن الظهور عدد، ولم يعقها عن اطراد التقدم عائق، على

ص: 85

الرغم مما تعانيه مما تعانيه الصحافة الجدية من جهل القراء وضيق المعونة. والرسالة تهنئ الوفاق بعامها الجديد وتسأل الله لها دوام ما عودها إياه من حسن التوفيق في خدمة الدين والخلق والثقافة.

ص: 86

‌الكتب

(مباحث عربية)

تأليف الدكتور بشر فارس

نقد للدكتور مراد كامل

حركتني الرغبة في استطلاع ما ينطوي عليه ذلك العنوان. فقرأت الكتاب فأعجبت به وكان إعجابي من جهة الشكل ومن جهة الموضوع.

أما الشكل، فهذا كتاب يقوم مقام صورة صحيحة لطريقة علمية مستقيمة، لما هو عليه من تقسيم وترتيب وتبويب (ولحق) و (مسارد) و (مضاف) و (فائت). ثم إن كتاباً يخرج على هذا الشكل من الدقة والعناية وفيه ما فيه من المصاعب الفنية في إحكام الإخراج ليدل على مقدرة الصانع المصري في فن الطباعة.

أما من جهة الموضوع، فلن أقف عند أسلوب هذا الكتاب الفذ ولا تراكيبه البارعة ولا ألفاظه المتخيرة، لأني أريد أن أصل بكلمتي هذه إلى ما هو أجل شأناً من الأسلوب. ذلك أن الأسلوب يختلف الناس في النظر إليه وفي تذوقه، وإنما أنا أقصد إلى التنبيه على ما في هذا الكتاب من مستحدث في الفكرة والتعبير.

أما الفكرة فقد اختار المؤلف موضوعات شتى جديدة: فبحثه عن المسلمين في فنلندا لم يسبقه إليه أحد بل هو كشف أضاف المؤلف به فصلاً علمياً طريفاً إلى معرفة أحوال المسلمين في العالم.

وقد طرق المؤلف بعد هذا في مباحثه الخاصة بعلم الاجتماع وعلم اللغة مسائل هابها البحاث من قبل أو استثقلوها، فأقدم على درسها الدرس الأتم وعرضها مبسوطة واضحة. ولا غرو في ذلك فللمؤلف باللغة الفرنسية كتاب (العرض عند عرب الجاهلية) وهذا الكتاب مما حدا دائرة المعارف الإسلامية الصادرة في هولندا على أن تسند إلى المؤلف كتابة طائفة من المباحث فيها، ومن هذه المباحث:(الهجاء) و (الفتوة) و (العِرض).

والآن أعرض لك مسائل الكتاب في علم الاجتماع وعلم اللغة.

بحث الدكتور بشر فارس تعبير (مكارم الأخلاق) مستقصياً كل الاستقصاء؛ إذ استخرج

ص: 87

وروده من بطون الكتب المطبوعة والمخطوطة ثم شرح التعبير من الناحية اللغوية وفحص عنه في كتب الحديث والتأليف الدينية، ثم دل عل أن من يكتب في مكارم الأخلاق إنما يجري إلى إكبار الفضائل الإسلامية وإغراء الناس بالإقبال عليه اقتداءً بالرسول. وذكر آراء المتكلمين في مكارم الأخلاق، وعرض لآراء المصنفين من كتاب العرب المستقلين عن الطرائق الكلامية والمذاهب الدينية. ثم آراء المنشئين فالمتصوفة. وقد عقد المؤلف فصلاً في علاقة مكارم الأخلاق بالفتوة والمروءة ثم اتصال مكارم الأخلاق بالجاهلية، وخرج من مبحثه بأم مكارم الأخلاق تعبير - في أول أمره على الأقل - أجنبي عن علم الأخلاق المنحدر من الحكمة اليونانية وعن علم السلوك النظري.

ومبحث آخر عن المروءة يدلك على استقامة الدراسة بالتدقيق العلمي. في هذا المبحث يبين المؤلف أن المروءة مدلول للفظ قالت فيه العلماء بالتقريب والاحتمال. ثم ذهب إلى أن في تعريفات المروءة جانبين متضادين كلاهما معقود بالآخر: الأول حسي ينحدر من زمن الجاهلية، والثاني معنوي مصدره الإسلام. ثم تتبع معنى المروءة في الجاهلية ومطلع الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين وعهد بني أمية، ثم طلبها عند أهل اللغة حتى في اللهجة الأندلسية وفي لغة العامة لهذا العهد. وانتهى المؤلف إلى أن المروءة أفلتت من المادة لتصير من الكلم الروامز. وقد جاء كلامه في هذا مناقضاً لآراء المستشرقين بأدلة فلسفية ولغوية مستقيمة.

أما مبحثه في التفرد والتماسك عند العرب، ومبحثه في البناء الاجتماعي عند عرب الجاهلية؛ فكلاهما دراسة اجتماعية على أساس صحيح. وقد دفع في الأول أقوال المستشرقين عن التفرد إذ أثبت من طريق الاستشهاد بالشعر والأخبار المتواترة أن العرب كانوا قوماً متماسكين. وبين في الثاني تضارب الألفاظ الدالة على بناء العرب الاجتماعي بحيث يتعذر الفصل في كيفية تكون الجماعة وانتظام الأسرة، وإن تميزت هذه من تلك.

وأما مباحثه في اللغة فقد دلَّ كيف يكون التنقيب عن معاني الألفاظ، بتعقبها في أطوارها المختلفة. من ذلك تعقبه لمدلولات لفظة الشرف وردها إلى أصولها بالاستناد إلى النصوص الجلية. ومما أظهره أن لفظة الشرف خرجت في الجاهلية من الحسيات إلى المعنويات حتى إذا طلع الإسلام أدرج فيها قيماً خاصة به.

ص: 88

أما اصطلاحات الموسيقى التي أفرد لها المؤلف باباً خاصاً فقد أخرج لنا من بطون الكتب تعبيرات وألفاظاً عارضها بما ينظر إليها في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية. ومن ذلك لفظة المساوقة والمراسلة. ونحن نقيد له فضل السبق في هذا الكشف.

وهنالك اصطلاحات في الفلسفة، مثل لفظي التفرد والتماسك بدلاً من الفردية والتضامن الشائعتين عندنا. وقد وضعها المؤلف فيما وضع، ومعه حجج قاطعة من ناحية اللغة ومن ناحية الفلسفة، سالكاً في ذلك طريقاً جديداً مما يدل على مرونة في التفكير وسعة في الاطلاع.

أما الفصل الذي عقده المؤلف لبعض المخطوطات العربية التي درسها في دور الكتب المختلفة؛ فنأمل أن يتنبه المجمع اللغوي إلى الاستفادة بها لما فيها من الفائدة الجليلة لوضع اصطلاحات في علوم كثيرة.

هذا ما يتعلق بالفكرة. وأما التعبير فقد أخذتني جرأة المؤلف في التدقيق لوضع ألفاظاً واصطلاحات لمدلولات شتى ثم في تخيرها؛ الأمر الذي نحن في أشد الحاجة إليه حتى نؤدي بكلمة واحدة معنىً نحتاج إلى التعبير عنه بجملة أو جمل. أعجبني منه وضع كلمة.

استطلاع: وهي تفيد البحث العلمي لا الصحفي عن أمر مجهول أو حقيقة مستورة.

الإمداد: البحث العلمي الذي يلقى في محافل العلماء كالمؤتمرات.

الرأي القَبلي: الرأي القائم في الذهن قبل شهادة التجربة، ويقابله الرأي البَعدي.

البناء الاجتماعي: كيفية تكون الجماعة من حيث الصلات المتبادلة فيها ومن حيث اتساعها.

التفرد بدلاً من كلمة الفردية، والتماسك بدلاً من التضامن.

كلمةٌ رمزٌ: أي كلمة متى وقعت في مسمعك نشرت في خاطرك مجموعة من القيم المجردة. وهي من باب الصفة بالمصدر.

المشتَمل: وهو مضمون الكتاب.

المسرَد: لجداول الألفاظ والأسماء وما إليها

وقد خرج المؤلف على استعمال لفظة الفهرس الشائعة اليوم بإفادتها مدلولات مختلفة، بأن استعمال هذه اللفظة للدلالة على الكتاب الجامع للكتب فقط ثم جعل المشتل لمضمون الكتاب وموضوعاته والمسرد لجداول الألفاظ والأسماء.

ص: 89

أما تلك الرموز التي سبقنا إليها الأوربيون؛ فقد تصرف المؤلف في وضعها، ثم زاد عليها الكثير من عنده فوضع علامة لاسم الكتاب حتى نفرق بينه وبين سائر الكلام لنقص الحرف المائل في طباعتنا، وهو المستعمل في مثل هذا الموضع في اللغات الإفرنجية. ثم وضع رمز شاهد (على شكل هرمي) بدلاً من الصليب الذي يضعه الإفرنج للدلالة على الوفاة. ثم ي=وما يلي ذلك، ك ك=الكتاب المذكور قبل للمؤلف، ن=المؤلف نفسه، ذ=الكتاب ذاته. وإني لا أريد القول بأن ما وضعه المؤلف يجب أن يؤخذ به أخذاً، بل أرى أن يلتفت إلى ما وضعه فينظر فيه إن كان يحتاج إلى مراجعة حتى نبني عليه للمستقبل. على أني أسأل المؤلف أن يدون الرموز في الطبعة الثانية على ترتيب ما، نحو الترتيب الأبجدي؛ وأملي أن يتم وضع الرموز والعلامات اللازمة للتأليف العلمي حتى نظفر بدستور يلجأ إليه الباحث والعالم.

هذا وقد سلك المؤلف في كتابه مسلكاً علمياً صحيحاً وسار على المنهج الذي وضعه لنفسه، وهذا المنهج على قوله في تصدير الكتاب (الاعتماد على المشاهدة دون الفرض، والتحقيق دون التخيّل، والموضوعية دون الذاتية، وإقامة الدليل دون القناعة بالمقبولات والمسلّمات، ثم الذهاب من المركب إلى البسيط، ومن الخاص إلى العام؛ مع تسليط النقد النافذ - من جانبيه الخارجي والباطني - على الواقعات، من حيث إنها أشياء طبيعية مبذولة للحس، لا أمثال عالية ولا معانٍ منتزعة من المحسوسات مجردة في الذهن أموراً كلية عامة؛ ومع نبذ التشيع للآراء من مرتجلة وقبلية، فلا إيثار هوىً ولا تعصب لأحد على أحد؛ ومع رد تلك الواقعات إلى مصادرها من طريق الوصف المباشر أو الاستشهاد بالنصوص الصريحة حتى لا يرسل الكلام فيضيع حظه من التثبت؛ ومع التحري في البحث سعياً في الدنو من الحقيقة بفضل المنطق بالعرض البين والسلك المتصل والاستدلال القويم والنظر الصادق على غير استكراهٍ ولا تحكم ولا مكابرة؛ ومع إثبات ما أتى به العلماء العاملون من قبل بالاستناد إليهم أو الاعتراف بجهدهم خروجاً من ظِنَّة التلصص والسطو).

وبكل ما تقدم يبذل لك المؤلف دراسة فلسفية اجتماعية بذهن مجرد عن التشيع للآراء المرتجلة والمعاني المتوهمة مما يجدر بطلبة التعليم العالي أن يلتفتوا إليه. ويبذل لك أيضاً مباحث في اللغة وتاريخ الألفاظ واستخراج الاصطلاحات مما يهم المشتغلين باللغة وفي

ص: 90

مقدمتهم المجمع اللغوي.

وهكذا خرج الكتاب مبشراً بانبعاث الروح العلمي الخالص الذي أهدى إليه المؤلف كتابه.

مراد كامل

مدرس اللغات السامية بكلية الآداب

ص: 91

‌المسرح والسينما

رواية (الموءودة)

ما هي الرواية؟

اقتصرت في مقالي السابق على إلقاء نظرة إجمالية على رواية (المال والبنون) لمصنفها الأديب فهيم حبشي، لأنها لا تستحق أكثر من ذلك، وما عدت إلى ذكرها ثانية إلا لأقول كلمة إجمالية في جميع الروايات الموضوعة وذلك بمناسبة رواية (الموءودة) التي بعث بها إليّ مؤلفها الفاضل يسألني رأيي فيها وقد وأدتها لجنة التحكيم في مباراة التأليف المسرحي.

يحسن بي قبل الإجابة أن أسأل: (ما هي الرواية؟)

يقول أعلام النقد أن الرواية تبسيط حادث خيالي؛ وأن حاجتنا إلى تبسيط الحادث الخيالي المفرغ في قالب رواية ضرورة لازمة، لأن حياتنا الاجتماعية تمضي في عالم فوضى لا ارتباط فيه ولا تناسب ولا انسجام، وأن الروائي البارع هو الذي يتخيل ويتمنى ويعمل على إخضاع عالمنا لشرائع العقل ويجعله منظماً نفهمه بحسِّنا لا بقوته الخفية المظلمة ولا بكائناته المشوشة المختلطة.

فالرواية كما ترى نجدة نستنجد بها لتمكننا من مقاسمة الانفعالات الاجتماعية دون أن تجعلنا نتعرض لعواقب هذه الانفعالات، وخيال الروائي الذي استنبط حادثة ما (سواء كانت ذاتية أو موضوعية) إنما هي تصور حالة في نفسي أنا، أو في نفسك أنت واقعة فعلاً، أو هي محتملة الوقوع، استعان بها على إبراز خياله بخلق أشخاص مدركين يقدرون تقديراً قياسياً ويَعوْن وعياً نفسياً اضطرابات الإنسان وقلقه وخلجات عواطفه وضوابط نفسه وأحكام عقله.

ولأجل أن يكون الحادث الخيالي الذي ابتكره ذهن الروائي البارع كاملاً، وتكون الرواية تامة لابد لها من عنصرين عنصر الحياة ببساطتها، وعنصر القدرة على تبسيط البسيط من صور الحياة. ولا محيص لها أيضاً من الاعتماد على عنصر ثالث يقوم عليه البناء العقلي وفق النظام وفي حيز الطبيعة البسيطة وصورها وألوانها.

هذه الرواية هي التي تعيدنا إلى ذواتنا فتجعلنا نسمع ونرى فيها هواتف الضمير، وهمهمات الانفعالات، والصور الكامنة في النفس مجلوة واضحة مسوقة على ألسنة ممثلين وممثلات

ص: 92

خلقهم الروائي ودربهم على تحويل صور الخيال إلى حقائق بسيطة سهلة ترتسم في الذهن وتنطبع فيه وتقسره على إطالة النظر وإعمال الروية.

في وسعي أن أقول عقب ذلك بدون تردد إن جميع الروايات الموضوعة التي مثلتها الفرقة القومية منذ تكونها إلى يومنا هذا تنقصها العناصر الأساسية للحياة، والفن، والأدب، وأن حضرات مؤلفيها الأفاضل يشبهون في محاولاتهم (نبيّن زين) يطرحون ودعاتهم في الأرض ويرتجلون، وفق وضعية كل ودعة، كلاماً هو عصارة الذهن الكليل بله الهرف والتخريف. أجل كلهم عرّاف أعطاك ما جاد به خاطره من كلام مفكك الأوصال أسماه (الحوار) ومن جمل خطابية رنانة في الدين أو الأخلاق وأمثال ذلك مما تسميه العامة (لبن سمك تمر هندي). في حين أن الرواية هي كقطعة موسيقية تعزفها جوقة من النافخين في الأبواق ومن الناقرين على الأوتار والضاربين الطبول والصنوج، وأنت إن أرهفت سمعك وكنت من أصحاب الوعي والذوق والشعور، تحس بنغمة هادئة ناعمة تبدو كالهمسة الرفيقة تربط الأصوات النابرة في هذه الآلات وتوحد فيما بينها توحيداً بارعاً يجعلها كالروح الشائعة في الجسد. فهذه الوحدة في القطعة الموسيقية هي التي تغمرك بفيض من النشوة تجعلك ترتفع إلى مقام الغبطة بغيبوبة الفرح، وهكذا الرواية لابد لمصنفها من خلق وحدة فكرية تدور حولها الوقائع والأشخاص.

وأنت يا صاحبي مؤلف رواية (الموءودة) التي افتتحتها بآية من الكتاب الكريم: (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) أنت واحد من هؤلاء الذين طرحوا ودَعاتهم أمام لجنة التحكيم، فكان من دواعي الصدف العمياء أن حكمت بردها، فأبيت إلا التمرد على هذا الحكم فطبعت الرواية أي أنك سجلت على نفسك واقعة أدبية غير موفقة.

أزعم أن الذي شجعك على اتهام لجنة التحكيم وأغراك بطبع الرواية هو أن الفرقة القومية قبلَت ومثلت روايات من نوع أردأ من (الموءودة) نذكر منها على سبيل المثال رواية (اليتيمة) غير أن سبيل النجاح يا صاحبي ليس في الانحدار إلى الوضاعة ومحاكاتها بل في التطلع إلى الكمال.

حدثني أديب كان قد توفر لكتابة القصة والرواية وانقطع لهما قال: أتمنى لو يكلف مدير الفرقة كبار الأدباء بتأليف روايات للمسرح وأن يغريهم بالأجر المناسب، فمبلغ ثلاثمائة

ص: 93

جنيه للرواية الموضوعة يرضي الأديب ويجعله ينقطع طول السنة إلى كتابة روايته. والرواية التي يكتبها الكاتب الكبير تحمل على كل حال الشيء الغزير من أدبه الخاص واطلاعه العام، والمران على كتابة الرواية يبعثه مرة بعد مرة على الإجادة والإبداع. وقد ذكر لي حادثة أدبية من هذا النوع حدثت في فرنسا قام بها مدير (الكوميدي فرانسيز) مع الكاتب المعروف أندريه مورياك وقال مستدركاً: صحيح أن الخصائص الفنية الأساسية لم تتوفر كلها في رواية مورياك التجريبية ولكنها ستتوفر كلها في الرواية التالية ولا شك. وقال أيضاً: يجب ألا يحول مثل هذا التكليف دون إغراء الشباب الناشئ على محاولة كتابة الرواية واشترط لذلك إيجاد العزيمة عند مدير الفرقة وأن يكون حسن الظن بالكاتب المصري وبالشباب المصري أيضاً.

الرأي وجيه سديد، ولكن لابد أولاً من تطهير الفرقة من النكبات المحيقة بها، وغسل السخائم المتأكسدة في أذهان القائمين على إدارتها، وتفهيمها أن المؤلف هو روح الفرقة، وأن البلد بأدبه وأدبائه في ألف خير، وأن إنفاق ثلاثمائة جنيه أو أربعمائة على المؤلف المصري من ميزانية قدرها خمسة عشر ألفاً ليس كثيراً على من صدقت نيته في إنهاض المسرح المصري على قواعد قوية من التأليف والتمثيل.

ابن عساكر

عاصفة فوق مصر

أخرج الأستاذ عصام الدين حفني ناصف هذه القصة الاجتماعية، وهي الأولى من نوعها في اللغة العربية، فليس موضوعها من المواضيع التي ألفنا قراءتها في مؤلفات كتابنا، بل هو موضوع خطير يتناول صميم الحياة المصرية وصميم الحياة الإنسانية عموماً. هو موضوع العلاقة بين الفلاح الأجير والمالك صاحب الأرض. وهو يكشف في هذه القصة عن الطرق التي تلجأ إليها الدوائر الزراعية لحرمان الفلاحين حقوقهم ويبرز في جلاء ووضوح فضائل الفلاح المصري ويذود عنه التهم التي يرميه بها الآخرون.

وهي مطبوعة طبعاً متقناً في 130 صفحة وثمنها 20 مليماً فقط، فنتمنى لها الرواج.

ص: 94