المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 309 - بتاريخ: 05 - 06 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٠٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 309

- بتاريخ: 05 - 06 - 1939

ص: -1

‌حول نظام الطبقات

فلاحون وأمراء!. . .

جلست كعادتي في عصر كل سبت أفكر في موضوعيَ الأسبوعي للرسالة، فتردد على خاطري المكدود معانٍ شتى من وحي الساعة وحديث الناس وحوازِّ القلوب، كمأساة حلحول في فلسطين، وصلة الجديد بالقديم في الأدب، فكنت أذودَها بالفتور والإهمال، لأن معنى من المعاني القوية كان قد استبد بذهني منذ الصباح فهو يراوده ويعاوده ويلح عليه حتى لم يكن من الكتابة فيه بُد. ذلك بيان النبيل عمرو إبراهيم رئيس نادي الفروسية الذي بعث به إلى الأهرام وطلب إليها أن تنشره (كاملاً) في عدد اليوم. والذي استفزني من هذا البيان لَهجته الأميرية المنتفخة في الرد على رئيس الوزراء، والطعن في بعض الكبراء، والدفاع الظنين عن نظام الطبقات، والتفسير المجازف لكلمتي الفلاح والديمقراطية، والتلميح المختزل إلى الساميَّة والطورانية؛ فإن هذه مسائل دقيقة ما كان ينبغي للنبيل أن يعرض لها بهذا الاستكبار، في بيان دفاعيّ لا يجوز أن يخرج فيه عن التنصل أو الاعتذار!

لست والحمد لله من طبقة أولئك النادين إلى هذه (الكُلبِّات) التي

تتضاءل فيها الديمقراطية بين أرستقراطية الدم أو المال أو المنصب فلا

أزعم أني سمعت الأشداق الملوية تأمر، ورأيت الأنوف الوارمة

تمتعض؛ ولكني قرأت كما قرأ الناس ثورة رئيس الشيوخ وزارة رئيس

الحكومة، فعلمت والأسى يحز في الصدر أن بعض الذين جعلناهم

أمراء ونبلاء لا يزالون على عقلية ذلك التركي الفقير الذي كان يقرع

الأبواب مستجديا فإذا أجابه المجيب الفزِع قال له في عنف وصلف

وأنفة: (هات صدقة لسيدك محمد أغا). ولا أدري ما الذي سوغ لهم أن

يعتقدوا أن الله خلقهم من المسك للمِلك، وخلقنا من الطين للطين؛

وجعلهم للثروة والسيادة، وجعلنا للخدمة والعبادة؟ إن كانوا مسلمين

فالإسلام قد محا الفروق بين الطبقات إلا البر والتقوى؛ فالعرب والعجم

ص: 1

سواء، وقريش وبأهلة أكفاء. وإن كانوا وطنيين فالوطن لا يعرف

التفاضل بين أبنائه إلا بأثرهم في تقويته وترقيته وخدمته؛ فالفلاحون

على درجته العليا لأنهم عماد ثروته وعدة دفاعه وقوة سلطانه؛

والأمراء على درجته السفلى لأنهم فيه معنى السرف الذي يفقر،

والترف الذي يوهن، والبِطالة التي تميت! وبين هاتين الدرجتين

تتفاوت مواقف الوزراء والزعماء والكبراء على حسب ما لكل منهم

عليه من فضل.

لا يا سيدي النبيل! ليس نظام الطبقات هو القائم في مصر وأوربا كما تقول؛ فإن جَعْلك نفسك ونُظراءَك طبقة متميزة لها حدودها الأربعة وجهاتها الست لا يجعل نظام الطبقات حقيقة واقعة. إن مصر كلها من أعلى شلالها إلى أسفل دالها طبقة واحدة فيها الغني والفقير والمالك والأجير والصحيح والمريض والعالم والجاهل، فهل تجعل كل حال من هذه الحالات طبقة؟ وهل تستطيع أن تعين لي الفرق بين طبقتك المرفوعة وطبقتنا الموضوعة إذا كان الدستور الذي تخضع له طبقتان يستطيع أن يجعل ابن الخادم الذي ينظف لك الحذاء جليسك ورئيسك؟ لقد كان امتياز طبقتك على طبقتنا أنك تمسك (الكرباج) ونحن نمسك الفأس، وتأكل الذهب ونحن نأكل التراب، وتعبد الشيطان ونحن نعبد الله، وتتكلم التركية ونحن نتكلم العربية. فلما قيض الله لمصر العظيمة فؤاداً العظيم فتزوج منا وحكم بنا وسعى لنا ونشَّأ على خلائقه المصرية المحض شبله الموموق فاروق، شعرنا بأن العرش يستقر على كواهلنا، والعلم يخفق على معاقلنا، والسلام يتردد في شعورنا، والحكومة تقوم بأمرنا، والنيل يجري بخيرنا؛ ورأيناكم حين أخذكم - رضوان الله عليه - بأدب الإسلام والشرق لذتم بأطراف الغربة، وقبعتم في زوايا العزلة، وكنتم من مصر وثروتها مكان البالوعة تطفح بعرق الفلاح ودمه لتصب في مناقع البلدان الغريبة!

لا يا سيدي النبيل! ليس المصريون في الجنسية والوطنية بمنزلة سواء؛ فإن منهم من تمصر بالقانون لا بالأصالة، وتوطن للمنفعة لا للعاطفة. وكيف يستوي في الميزان الوطنية

ص: 2

من يقف على مصر يده وقلبه وكسبه ودمه، ومن لا يعرفها إلا معرفة الغرماء ولا يعيش فيها إلا شهور الشتاء، ولا يعنيه من أمورها إلا أجرة العامل وسعر القطن؟

كذلك ليس من خالص الحق قولك: (إن حق الشخص في الانتساب إلى أمة إنما يناله بما يؤديه إلى وطنه من الخدمات سواء أكان ذلك بنفسه أو بأفراد أسرته من آبائه وأعمامه وأبناء أعمامه وأجداده وأجداد أجداده) فإن أموال أبيك لك، ولكن أمجاده له. والوطني الصميم هو الذي يرفع ما بنى أبوه، ويتمم ما بدأ جده. ولا ينفع المرءَ عند الوطن أن أباه وطني وهو خائن، ولا عند الله أن أباه مسلم وهو ملحد!

أيها الأمراء والنبلاء! إن لكم في سيدكم الفاروق أسوة حسنة. فخذوا أخْذَه الجميل في سيرته ومصريته وشعبيته ودينه؛ فإن ذلك يكفل لكم رضا الشعب في الدنيا ورضا الله في الآخرة!

احمد حسين الزيات

ص: 3

‌ولا ترابه!

للأستاذ عباس محمود العقاد

قلت فيما كتبت منذ أسبوعين عن رسالة الأديب أنني أستعيذ بالله من اليوم الذي تتوقف فيه أقدار الأدباء على مقاييس الدولة، لأن سيطرة الدولة على أقدار الأدباء معناها إخضاع الفكر الإنساني للعرف الشائع مضافاً إليه إجحاف الهوى والمحاباة، وليس من وراء هذا الإخضاع خير للفكر ولا للأديب

إن تقويم أعمال الموظفين من أخص أعمال الدولة، لأن الوظائف تجري على قياس معلوم في نطاق محدود، وليس فيها مجال للتعمق ولا للإغراق ولا لاختلاف المذاهب والشروح

ومع هذا نبحث عن الإنصاف في محاسبة الموظفين فترى عشرين مثلاً للإجحاف والإهمال. والنسيان وسوء التقدير إلى جانب مثل واحد من أمثلة الجزاء الحق والقسطاس المستقيم

فكيف تكون الحال في تقويم الأدب والأدباء؟ وكيف تكون الحال في الجديد من المقاييس الأدبية، ولا خير في المقاييس الأدبية إن لم يحسب فيها حساب التجديد والإبداع؟ وكيف تكون الحال في الرأي المستقل والخلق المستقل والعمل المستقل، ولا خير في الأدباء إن لم يكن لهم استقلال في الآراء والأخلاق والأعمال؟

أحسب أنني تحدثت بالبداهة يوم استعذت بالله من تسليط الدولة على مقاييس التفكير وأقدار المفكرين

ولكننا في البلد الذي (من فاته الميري فيه وجب عليه أن يتمرغ بترابه. . .)، فلا عجب أن يثقل ذلك المقال على كثير من أصحاب الأطماع والآمال، وأن يأبى بعض الذين كتبوا في الصحف وبعض الذين كتبوا إلي إلا أن يكونوا كتاباً (أميريين). . . فإن لم يكونوا أميريين فلا أقل من التراب وما شابه التراب

ويكتب إلي من يقول إن مقاييس الدولة في مصر لن تدوم على ما أصابها من قبل أو يصيبها الآن من العيوب، فهي في الغد كفيلة بحسن التقويم، ومتى حسن التقويم فلماذا هذا الحذر من الجور القديم؟

وتشاء المصادفة أن أقرأ هذا وأقرأ معه فصلاً مسهباً عن (الأربعين الخالدين) في فرنسا

ص: 4

منقولاً في المجلة الإنجليزية (العصر الحي) عن الكاتب الفرنسي هنري بلامي يتناول فيه مجمع فرنسا المشهور وأساليب اختيار الأربعين الخالدين من أعضائه، فإذا هي حال لا نتمنى تكرارها في بلادنا على فرط الحاجة فيها إلى التشجيع والإغضاء عن بعض العيوب.

وحسبك من تلخيص هذه الحالة أن تعرف أسماء الذين استثناهم المجمع من زمرة الأدباء النابهين وبينهم أمثال: موليير، وروسو، وديدرو، وميرابو، وأندريه شنييه، وستندال، وفلوبير، وجوبتيه، وبودلير، وميشليه، وفرلين، وملارميه

وفي وسعنا أن نضيف إليهم ديكارت، ومالبرانش، وباسكال وبومارشيه، وهلباخ، وزولا، وموباسان وغيرهم من أدباء هذه الطبقة الذين عرفهم العالم بأسره ولم يعرفهم المجمع الأدبي في بلادهم!

حسبك من تلخيص تلك الحالة أن تعرف أسماء هؤلاء وأشباه هؤلاء، بعد أن مضت ثلاثة قرون على نشأة ذلك المجمع في عهد الكاردينال ريشيليه، فماذا أغنى وجود المجمع واعتراف الدولة به إنصاف ذوي العقول والقرائح والأقلام؟

نعم إن أصحابنا الخالدين قد اعترفوا بأقدار فولتير، ولافونتين ورينان، وأناتول فرانس، وأناس من طرازهم تفتخر بهم الآداب الفرنسية والآداب العالمية. . .

ولكن متى اعترفوا بأقدار أولئك الأقطاب الأفذاذ؟ إنهم لم يعترفوا بهم إلا بعد أن اعترف بهم (رجل الشارع) كما يقولون، وشاع ذكرهم في الأقطار الغربية والشرقية، فلم يكن للخالدين فضل على غير الخالدين في تقويم القيم وتصحيح الموازين

فإذا كانت مجامع الدولة على منوال الأكاديمية فرانسيز تجهل من جهلت وتنسى من نسيت وتنكر من أنكرت، ثم ننظر إلى من شهدت لهم بالفضل فإذا هم مشهود لهم بفضلهم قبل أن يصلوا إلى عتباتها، فما أغنى بني الإنسان وأغنى أصحاب القرائح والأذهان عن ذلك المقياس وذلك الميزان! وما أولانا أن نرجع إلى (الأصل) وأن نكتفي به دون ماعداه، إذا كان الأصل هو رأي القراء والتبع اللاحق به هو رأي الخالدين من أولئك الأعضاء الأجلاء!

قد يقال إن الكتاب والشعراء يستفيدون الجوائز التي توزعها الدولة على أصحاب الآثار

ص: 5

الجديدة والطرائف البارعة في كل عام

فإن قيل هذا فلنعلم أن الأعضاء الخالدين لا يقرءون الجديد. وقد قيل إن الأديب المشهور ألفريد دي فيني زار (الخالد) روبيه كولار ليطلب منه التزكية والشهادة فسمع منه رأياً لم يعجبه، فسأله: كيف تحكم على كاتب لم تقرأ سطراً واحداً من كتبه! فأجابه الخالد وهو راض عن جوابه: يا صاحبي! إنني لم أقرأ شيئاً قط منذ ثلاثين سنة. وحسب من كان في عمري أن يعود إلى مراجعة الأقدمين حيناً بعد حين)

قال دي فيني: (إذن كيف تبدي رأيك في المجمع يا سيدي؟)

قال الخالد متعجبا: (كيف أبدي رأيي؟ هذا من شأني. إنني أذهب إلى هناك ولا يعنيني أن أخبرك عن طريقتي في إبداء رأيي، ولكنني أبديه. . .)

وقال كاتب المقال الذي أشرنا إليه والعهدة عليه: إن الشاعرة لويس كوليه التي عاشت في عهد الإمبراطورية الثالثة وأنعمت بالسعادة على كثير من الكتاب والشعراء تذكرت يوماً أنها لم تحضر قصيدتها لجائزة المجمع ولم تشأ أن تضيع عليها تلك الجائزة، فما هو إلا أن دخل إليها فلوبير وبويليه زائرين حتى أفضت إليهما بهمها، فما زاد الخبيثان على أن فتحا دواوين لامرتين ونقلا منها مئات السطور من هنا وهناك ووصلا بينها على ما يقتضيه حسن الحبك والصياغة، وأرسلا القصيدة إلى المحكمين فظفرت بالجزاء والثناء وتهنئة الأعضاء!

ثم تحسب مقادير هذه الجوائز التي توزع بهذا المعيار وتحسب الأموال التي تودع المصارف لاستغلالها باسم المجمع الموقر، فإذا هي جدول صغير من ذلك الخضم الغزير على عهدة ذلك الكاتب الأديب، والعهدة كلها فيما نرويه هنا عليه!

أما أعمال المجمع التي تصدى لها منذ إنشائه فمعجم لا يعد من خيرة المعاجم يسهل الاستغناء عنه ويبدو نقصه كلما فرغ من طبعه فيعاد تنقيحه وتأليفه، وإلى جانبه كتاب أجرومية مزيته الأولى أنه مشحون بالأخطاء النحوية والصرفية، بدءوا به في القرن السابع عشر ولم يفرغوا منه إلا منذ بضع سنوات (1932)

وقد عهد إلى المجمع يوم إنشائه في إصدار (قاموس تاريخي) فصدر الجزء الأول منذ سنة 1865 منتهياً بكلمة وصدر الجزء الثاني بعد ثلاثين سنة، وسيتمه المجمع على هذا

ص: 6

القياس حوالي سنة 4855 بعد الميلاد

ولعل القارئ يذكر ما يجري في الشركات والجماعات الخيرية والحكومية التي يندب لها (كاتب سر) أو (وكيل عام). فإن الشأن الغالب عليها أن تستبد بها كاتب السر أو الوكيل العام بعد حين فلا يقع في ملكه إلا ما يشاء

فهذه العادة الغالبة هي بعينها التي تغلب على الأربعين الخالدين فلا يبرمون ولا ينقضون إلا بمشيئة من كاتبهم المختار. . . حتى قال سان بيف: إن هذا الكاتب (يحكم ويلي) في وقت واحد خلافاً للملوك الدستوريين!

كل هذه المهازل يعلمها الأعضاء الخالدون ويعلمون أنها شائعة على ألسنة الكثيرين، ولكنهم يجيبون هازلين بلسان فونتينل:(نحن سخرية الساخرين حين نكون أربعين، ولكننا معبودون مقدسون كلما أصبحنا تسعة وثلاثين!. .)

يريد الشاعر أن المرشحين يتملقونهم ويثنون عليهم كلما مات واحد منهم، فأصبحوا تسعة وثلاثين وراح الطامعون يتزاحمون على الكرسي الفارغ، ولكنهم بعد هذا سخرية الساخرين كلما بلغوا تمام العدد المقدور، ولا ندري لماذا يقف الخلود والخالدون عند الرقم أربعين!!

فالمجامع (الرسمية) جميعها على هذا النمط أو على نمط قريب منه بعد حذف المبالغة الفكاهية التي لا تقوى على تبديل الحقائق التاريخية!

وفحوى هذا أنها إذا أريدت لعرفان الأقذار في إبان نبوغها فهي لا تجدي ولا تنصف ولا تزال متخلفة وراء الصفوف بعد أن يفرغ القارئون من الإعجاب ويفرغ المعجبون من التنويه

وإذا أريدت لإغاثة المفتقرين إلى المدد والمعونة فهي لا تغيث المستحق ولا تتورع عن استغلال الأموال وتثميرها كما يثمرها التجار وأصحاب الأقساط والسهوم

وإذا أريدت لإنجاز عمل من أعمال اللغة والأدب فهي لا تنجزه على الوجه المطلوب ولا في الوقت المعقول

ويبقى بعد ذلك أنها تضير ولا تنفع بما توليه الصغار من أقدار الكبار، وما تجنيه على أقدار الكبار من الغضاضة والإنكار

يفتح الله يا عشاق (الميري) وترابه. . . فلا الميري أفضل من المجمع الفرنسي ولا جمهرة

ص: 7

القراء في إنصاف الأدباء، ولا ترابه أفضل من التراب، عند أولى الألباب!

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌تعليق وتذييل حول

مناوأة الخدر والنعاس في الأدب المصري

للأستاذ زكي طليمات

أثار صديقاي الأستاذ الكبير توفيق الحكيم والدكتور بشر فارس مسألة الكساد الذي يعانيه النتاج الأدبي في مصر وهذه مسألة الساعة على ما أعتقد، وهي شغل الخاطر منذ أن راعنا كساد سوق الأدب والأديب في هذه السنوات الأخيرة، وهي سنوات مليئة بالأحداث تغيرت معها بعض أوضاع المجتمع المصري في السياسة وفي نظام الحكم، وهي سنوات تتصف بالنشاط والحركة، وبمحاولة التخلص من جمود ران على الذهنية المصرية القومية منذ أمد بعيد، وكان من أبين مظاهر هذا الجمود ركود الأدب وانكماش ملكات الابتكار والتوليد فيه بما يتفق وروح العصر. . .

والذي أراه في هذا الصدد ويعن لي أن أبديه في هذا المقام هو أن من الحرج أن نرد أسباب هذا الكساد الذي يشمل عالم الأدب في مصر إلى الأديب وحده، وأن نتهم الكاتب المنشئ وحده بالخدر والنعاس، لأن الواقع يخالف هذا. وآية ذلك أن المطابع تطلع علينا كل يوم بالمؤلفات أو التراجم في صنوف الأدب والفن، ولا أعلم أن النتاج الأدبي في مصر بلغ من الكثرة مثل ما بلغه اليوم

فإذا كان هذا النتاج لا يقابل من الجمهور بالحماس الواجب، فلأن الفتور مفروض على كل شيء يجري في مصر، ولأن عدم الاكتراث صفة - ويا للأسف - من صفات الأكثرية الغالبة من الجمهور المصري ولا سيما فيما له علاقة بالأدب والفن. ومرد ذلك - على ما أعتقد - إلى الطبع المصري الذي لم يستكمل بعد عناصر يقظته، ولم يستخلص له ذوقاً أدبياً صريح الطابع متماسك الأطراف متقارب النزعات يشمله التناسق والتوازن

ومن ثم كان اضطراب المزاج في استيعاب الأدب وصنوفه، فإذا هو مزاج يعج بالبدوات ويخرج على شرعة الانسجام بميوله المتباينة ونزعاته الملتوية. وجمهور القراء في مصر خاضع لهذا الاضطراب، فمنهم من يعيش بميول القرون الوسطى أو بما قبلها، ومنهم من يفزع من قراءة كل جديد في الفكر والرأي، ومنهم من هو ثائر على كل قديم، ومنهم من لا يرتاح إلى القديم أو الجديد ولا يعرف ما يريد!! هذا والسواد الأعظم من هذا الجمهور

ص: 9

في صنوفه المتباينة التي ذكرت، على ثقافة مرتجلة أو هزيلة لافتقارها إلى الغداء السليم. هذا ولا أتحدث عن الأمية التي ما برحت متفشية بيننا، ولا عن التعليم البسيط الذي لا يتجاوز مدى الكتابة والقراءة، وهو حظ الأكثرية الغالبة من جمهور القراء، أو المتأدبين، إذا صح أن نطلق عليهم هذا الاسم باعتبار أنهم قراء أوفياء للمجلات الهزلية وروايات الجيب وما شاكلها

بعد هذا يصح أن نقول إن الأدب في مصر لم يصبح بعد لدى أكثرية الجمهور غذاء لابد منه وحاجه لا غنى عنها، وإنما هو لدى البعض زخرف وزينة، ولدى البعض الآخر ضرب من ضروب التسلية التي لا يستطاب الإقبال عليها في كل وقت

وما دام الأمر كذلك فقد قدر علينا أن نرى محنة الأدب قائمة بيننا تغير وجوهاً ولا تتغير، تخف وطأتها بمقدار نصيبنا من انتشار التعليم ورفعة المستوى الثقافي العام. وملاك الأمر في هذا راجع إلى جهودنا وإلى شرعة التطور والارتقاء، التي هي كلمة الزمان وإرادته.

وإذا كان الصديقان الكبيران توفيق وبشر لا يريان ما أذهب إليه أو يريانه بعين الواعية الباطنة ثم هما لا يجرؤان على الإفاضة فيه والتنبيه إليه التنبيه الواجب، بل يعرضان له لمحاً ويعبران به عبراً، فذلك لأن الصديقين أديبان أصيلان مشبوبان، أخذت هوية الأدب بشغاف قلبيهما، فهما يحذران لمس العلة الكبرى التي يشكو الأدب منها في مصر أكثر من أي شيء آخر، وإذا هما لمساها بإيحاء خاطر يطلع عليهما من وراء الوعي، فإنهما لا يطيقان التمعن فيها، وسرعان ما يفزعان إلى أشياء أخرى يتعللان بها ويموهان بها على نفسيهما

كذلك كان شأني إذ كِنت أعمل في المسرح المصري راكباً رأسي شاحذاً عزمي، لا همَّ لي إلا أن أفرض فن التمثيل على الجمهور، فقد كنت أعتقد أن أسباب كساد فن التمثيل ترجع إلى افتقار المسرح المصري إلى الممثل القادر والمخرج الحاذق والمؤلف النابه

كنت أعتقد هذا وأرفع صوتي به وأعمل على تلاقي هذه الأسباب. ولكن كان يقع لي أحياناً أن يهجس بي هاجس خفيت الصوت نافذة يهمس في أعماق نفسي أن العلة الأولى والأخيرة في كساد المسرح إنما هو الجمهور. . .

ماذا كنت أعمل؟

ص: 10

كنت أغالط نفسي، وهذه المغالطة - على ما أظن - مظهر من مظاهر كبرياء الفنان ومن حبه الكبير لنفسه ولفنه!

هذا عن جمهور المسرح، وموقفه من فن التمثيل كموقف جمهور القراء من الأدب. وجمهور القراء واحد من ثلاثة عناصر رئيسية يقوم عليها عالم الأدب في كل زمان ومكان.

أما الكاتب المنشئ فموقفه من محنة الأدب في جمهور قرائه أنه لا يجيد العمل على تخفيف هذه المحنة بما يمتلكه من الوسائل.

إذا أحس الكاتب في مصر بأنه يجيد الكتابة في أسلوب طلي وبيان رائع، وإن النفس يطول به إلى تسويد الصفحات المتوالية فقد نصب نفسه أديباً لا يشق له غبار، وينسى الأديب البطل المغوار - أو هو يتناسى - أن العبرة في الإنتاج الصالح. ليست بالكمية، وإنما بالجودة. وجودة الأدب أن يكون نباضاً بالحياة مما يشغل أذهان الناس، ويدخل على قلوبهم ويحرك رواكدهم، وينفخ فيهم نفساً من الحياة الدافقة التي ينطوي عليها.

وإذا صح هذا فإنه يصح أيضاً - وهو الأمر الذي ترقى إليه الظنون - أن ننفي عن الأديب المصري تهمة النعاس والكسل، لأنه يعمل ويعمل كثيراً بدليل ما يطالعنا به كل يوم من المؤلفات والتراجم في مختلف نواحي الأدب، وهذا جل ما أفدناه من أخذنا بأسباب تطورنا الأخير.

إلا إن هذا العمل الكبير يعوزه التوجيه الصائب والاستشعار الكامل بمهمة الأدب، ولهذا فإنه ينصب في غير غاية مقصودة ألهم إلا غاية الكتابة والتحبير فحسب.

وتوجيه الأدب أمر لا يتم بمجرد الطلب والتمني. واستشعار مهمة الأديب قد لا تحول كاتباً عن طريق اختطه لنفسه ولا تخرجه عن أسلوبه المختار ما لم تعاونها ظروف خاصة أبينها نصيب المجتمع الذي يعيش فيه الأديب من يقظة الروح المعنوي، وتفتح الذهنية العامة على الآفاق النائية، وقدرة البصيرة على تمييز الأشياء المختلطة ثم اختيار ما تريده منها؛ ثم قسط هذا المجتمع من صدق العاطفة ومن الصراحة ومن الإخلاص.

ولا أريد أن أحدد نصيب مجتمعنا وقسطه مما ذهبت إليه الآن. وحسبي أن أقول إن ما نراه من انحراف أدباء مصر - ما عدا القليل مهم - عن معالجة الأمور الهامة التي يخفق بها

ص: 11

قلب مجتمعهم إنما مرجعه إلى أن أكثرية هؤلاء الأدباء ليسوا على حس مرهف تنطبع عليه كل التيارات التي تنبعث من واعية المجتمع ومن وراء واعيته، وإن هذه الأكثرية تعيش بعين الماضي لا بعين الحاضر، أو أنها لا تحيا إلا في أجواء الكتب التي نطالعها أو أنها تعبث لاهية مزهوة بالآراء الواردة علينا من أوربا مع واردات الأزياء وأخبار نجوم السينما.

والأديب إذا لم يكن على هذا الحس المرهف لم يستطع أن يلتقط الهمسات التائهة التي ترتفع من وراء واعية مجتمعة، هذه الهمسات التي هي رغبات مكبوتة، وآمال مقنعة منشودة لا تقوى الجماهير على المصارحة بها، وتترك أمر الإبانة عنها وترديدها في جلجلة الرعد القاصف إلى قلم الأديب.

أوجب واجبات الأديب نحو نفسه ونحو قومه ونحو فنه أن يستخرج هذه الهمسات من الضوضاء التي تحيطها، وأن يستلها من معاقلها ليحولها إلى ليحولها إلى صيحات صريحة تدوي في الفضاء. فإذا لم يفعل ذلك فقد قضى على نتاجه بالعزلة عن الناس، وقطع ما بينه وبين الينبوع الذي منه يخرج ما يثير اهتمام الناس ويهز الركود الذي يرين على الأدب. إذا لم يفعل ذلك قضى على نفسه أن يعيش على هامش الحياة، في حين أن الجمهور يعيش في صميم الحياة، كما يقضي على أدبه ألا يتجاوز أمر المرآة التي لا ينطبع عليها من آثار الأرض سوى أعالي الشجر ورؤوس التلال

هذا هو الحال الأدباء في مصر وهذا هو موقفهم من محنة الأدب، وإن كان من بينهم من سبقوا عصرهم وأدوا شيئاً من رسالة الأدب الحقة

أما حال الناقد، وهو العنصر الثالث الذي يقوم عليه الأدب، فلا أجد ما أصفه به أبلغ مما جاء في مقال الدكتور بشر فارس:(فإنه في غالب الأمر وأكثر الحال ينوه بصديق، أو يقع عدو، أو يهمل كتاباً جهلاً بفنه أو إنكاراً لنفاسته أو اتقاء لصاحبه أو تسامياً، أما التسامي فيدل على ذهاب بعضهم بأنفسهم على كل أحد وذلك من باب الغرور، وقصة الغرور معروفة. . .)

وإذا كان هذا هو شأن الناقد أيضاً، والناقد الحق هو بوق الكاتب المنشئ، ومذيع أعماله، ومقيم الميزان الذي لا يحيف ولا يخطئ لنتاج الأقلام، بل هو الحركة الدائبة التي تدفع

ص: 12

البطيء وتهز الركود؛ فليس عجيباً بعد ذلك أن يرين الخدر والنعاس على الأدب في مصر

فهل حان الوقت الذي نراجع فيه أعمالنا، ونشرع الحساب عل ضمائرنا ونفيق ونستقبل ضوء صباح جديد بعد نوم ثقيل طال؟

زكي طليمات

ص: 13

‌من برجنا العاجي

في حياتي الفنية جانب مجهول أردت ألا أعترف به ورأيت أن أقصيه وأن أسدل عليه الستار، لأنه في نظري اليوم لا يتصل بأدبي ولا يجوز أن يدخل في عداد عملي. ذلك هو عهد اشتغالي بكتابة القصص التمثيلي لفرقة (عكاشة) حوالي عام 1923. غير أن المصادفة شاءت أخير أن ألتقي بمن يذكرني بهذا العهد، ويعرض عليّ طرفاً مما كنا نعمل في ذلك الحين. ذلك روائي اشترك معي في قطعة موسيقية قام بتلحينها المرحوم كامل الخلعي. ثم انقطع عن الفن منذ ذلك الوقت وشغلته شئون الحياة ثم اختلينا فجعل ينشد لي بعض أغاني رواياتنا القديمة وأنا في ذهول! شد ما تغيرت نظرتي للفن مرات ومرات خلال تلك السنوات! ولكنه هو باق كما كان على احترام تلك القواعد والمثل التي كانت هدفنا ومرمى أبصارنا في الكتابة المسرحية. إنه فيما خيل إلى لم يقرأ شيئا مما أكتب وأنشر اليوم. فهو لا يعترف بعملي الآن. وهو إذ يحادثني في شئون الفن لا يبدي اهتماماً ولا إعجاباً إلا بما كنت أصنع قبل خمسة عشر عاماً. أما اليوم فأنا في نظره غير موجود. إنه يذكرني بأشخاص رواياتنا الغابرة كمن يذكر بأناس من أهل الحسب والنسب والكرم والشهامة لن يجود بمثلهم الزمان. فهو يترحم عليهم ويقول: (مضى كل شيء! ولن نرى مثيلهم أبداً على خشبة مسرح من مسارح اليوم!). هذا الصحيح. وجعلت أتأمل قوله لحظة فخامرني شك في أمري اليوم وقلت في نفسي: (ألا يكون هو على حق؟ وأكون أنا قد ضللت وانحرفت عن طريق الفن الحق! إن فن المسرح فن مرجعه السليقة السليمة لا الثقافة الواسعة. إنه شيء والأدب شيء آخر. أتراني محتاجاً إلى خمسة عشر عاماً أخرى لأكر عائداً إلى ذلك النبع الذي بدأت منه ونأيت عنه؟).

توفيق الحكيم

صلوات فكر في محاريب الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

6 -

الأعشاش

الأشجار تتوجها الأعشاش المعمورة بالحب والرحمة والحنين. . . عليها أجنحة كاسرة،

ص: 14

وفيها جوانح مشبوبة، ويطعم الحب فيها منقارا بمنقار

فيها دنيا من عالم القلوب. . . قلوب الطير ذوات الأطواق والسراويل والريش الملون والعيون الصافية التي استمدت صفائها من إدامة النظر للسماء

أعشاش مبنية من الأعواد وأوراق الشجر. . . تعبت في بنائها الأمهات والأباء لأداء الأمانة التي في صدورها للحياة. . . بناها هؤلاء بالمناقير التي يزق بعضها بعضاً بها حين الحب. . .

في كل عش فرخان يعين أحدهما الآخر على العزلة والنظر إلى الآفاق البعيدة. . .

خرجا من بيضتين متجاورتين، يحركان رأسيهما مغمضين أجردين من الريش معرضين لعوامل قاتلة من البرد والحر وأفواه الشر

من البيضتين انبثق حب دائم ربط بين قلبين صغيرين منسوجين من الهواء والضوء والصفو. . . هو حب اخوة وحب اجتماع في ظروف واحدة، وحب خوف من عالم النور والظلام، وحب زوجية. حديثهما حول هذا الطائر الكبير الذي ينهض من الشرق في الصباح ويملأ الدنيا وقلبيهما بالحرارة والدفء وعيونهما بالنور الذي يكشف لهما عن الأغصان والأفنان. . .

ألم تروا مرة أم فراخ بين أفراخها في عشها؟ ألا ترون الصبر والجد والصرامة واللهفة واليقظة لكل نامة حول العش؟

تصيح الصغار صياحاً ساذجاً بحناجر جديدة الانشقاق رطبة الأوتار. وحين تصيح الكبار تجد الجد والوقار والشعور بالمسؤولية وعبء التربية. لو اقترب الأسد من عش الطير لاعتراه خوف وخشية. . . فإن القبرة تهاجمه هجوم الغائب عن وعيه الحفيظ على أمانة الحياة في صدره. . . لا تبالي الموت ولا تحفل أدواته

إن غضب الطير للمأوى شيء مقدس جليل رائع. إنه ينفش ريشها ويجعلها تنفث أنفاساً من نار، ويدفع بمنقارها في صدر المهاجم. ليت بعض الخونة لأوطانهم ومأواهم يفهمون تلك الأسرار المقدسة في صدور العباد فيعملوا لها ولو بجهد الطيور الضعيفة

7 -

ذعر نحلة

كنت جالساً على الأعشاب أكتب وأمامي محبرة، فجاءت نحلة تبحث عن رحيق الأزهار

ص: 15

فحطت على فم المحبرة ووقفت لحظة تنظر إلى تلك اللجة السوداء المسحورة، ثم فرت وتركتني في دوار

أتراها أدركت عمق هذه اللجة حين وقفت على شاطئها؟ أتراها أدركت بعينها الصغيرة ما ندركه نحن حين نقف على هذه البئر المسحورة؟

أتراها أدركت أن هذا الإناء دن كبير طالما سقط الناس صرعى سكرهم بخمره الأسود؟

لقد سكرنا به عن كل شيء. . . ومضينا في دنيانا نرى الحياة من خلال كلماته كما يرى السكير الدنيا من خلال حبب الكئوس

سُكْرٌ وسُكْرٌ يصرعان ألباب ذوي الألباب، والمدمنون على الخمر يتهمون المدمنين على الحبر بالغفلة والعمى عن اللذة. . . وكذلك المدمنون على السكر بالحبر يبادلونهم نفس النعوت والألقاب، (وكل حزب بما لديهم فرحون)

لابد للأفكار أن تغتسل في هذا الإناء نحلة، قبل أن تخرج إلى الوجود. . . إن ماءه يسجد المعاني ويطلسم أفكار البشر

المخ والمداد. . هذا البياض وهذا السواد يتلاحقان فيلدان أشرق وأبقى ما في الدنيا: عالم الفكر!

نعم إن في لجج بعض المحابر ماء زائفاً وضلالات وتعقيدات وغروراً وتجديفاً وسموماً، ولكن على الأقلام الحساسة أن تتيقظ وأن ترد الصفو وتتجنب الأخلاط كما تيقظت النحلة فلم تذق ما لم تخلق له. . .

طيري أيتها النحلة في رحاب الدنيا غائبة عن عيني وانشدي (ن، والقلم وما يسطرون. . .) وما عليك أن تَفْنَىْ، فقد صرت كلمة خالدة على قلمي. . .

8 -

منطق كلب

كنت جالساً بين الأزهار الطاهرة الجميلة أتطهر وأتأمل، فمر كلب وجاء إلى شجيرة ورد فيها ورفع رجله وبال عليها. . .

خيل إلى أن الشيطان تقمصه، وأراد أن يسخر مني ويريني كيف يحتقر هو وجنوده ما أقدسه وأستغرق فيه. . .

وأقول الحق! إنه زلزلني ونال مني، فوضعت القلم ونهضت إلى الحياة خاضعاً لمنطق

ص: 16

الشيطان على الأقل في تلك الساعة. . .

لم يَرُق الكلبَ لون زهرة ولا عطرها ولا حريرها كما تروقه وتعجبه القاذورات. . .

ومما تعجبت له أنه رفع رجله خوف البلل؛ ثم مد فاه إلى القاذورات. . . تناقض عجيب! وكذلك نرى بعض الناس ينجسون أقدس ما فيهم وأحقه بالطهارة، ويطهرون ما لو تنجس لم يضرهم شيئاً. . .

إنهم كلاب في أفواههم وأحشائهم. . . ولكنهم يتطهرون في أذنابهم وأرجلهم. . . لن يرفعهم شيئاً ن أقدامهم طاهرة، ما دامت رؤوسهم نجسة دنسة. . .

9 -

غضب البلابل

رأيت بلبلين في عراك على أنثى. . . وكانا في غضبهما عنيفين يخرجان صوتاً أجش خشناً، ولا تبدو عليهما تلك الشاعرية التي تكون وقت الإنشاد والتغريد. . . ويل للفنان من غضبه!

ويظهر لي أن أحدهما مسكين فريد يريد أن يأخذ أنثى الآخر، فهو يلحقها ويغريها باللحاق به. لقد جاء الغروب، ولم يسمع صوتاً يناديه إلى العش ويعبث بمنقاره في طوقه. . . هو يريد أن يسكب في أذنيها تغريده الضائع، ويسمعها غزل قلبه حين يرى فتنة الأزهار

والأنثى واقفة تشهد الصراع بدون اشتراك فيه. لماذا لا تهجم على الواغل في حياتها الزوجية فتضع حداً للطمع والأغراء؟ يظهر أنها مبلبلة الخاطر زائغة العين. . .

الأنثى دائماً هي كبرى مشاكل الطبيعة عند كل فنان.

10 -

غزل الضفادع

أسمع في الليل زمراً من الضفادع في الغدران والسواقي تبدي كل فنها وقدرتها في إخراج أصواتها. سكون مطلق يصدعه ضجيج منكر. في كل مكان فيه ماء حنجرة تصرخ في زفير وشهيق منكرين. مقطع صوتي واحد يتردد دائماً في الظلام. علمت صوتاً واحداً ففرحت به وجعلت تغني به دائماً كما يغني الإنسان صاحب البيان للمرأة والدينار. . .

لذات خفية في ضمائر الخلائق! لماذا كل هذا الجهد يا بنات الماء؟ أكل هذا غزل وقصائد حب في مطارح عشق تحت الظلام؟

ص: 17

نعم، فهذه لغة أبناء لحياة من البعوضة للبعير، ومن الثعبان للفيل

هي لذة البلبل حين يمسح خديه بحمرة أوراق الورد لا يبالي أن يفقأ شوكة عينيه. . . وهي لذة الغراب حين يُنغض رأسه ويلوي عنقه ويخرج نعيقه في شناعة وإزعاج. . . وهي لذة الحمار حين يثور همه وحبه في صدره، فيخرجه صوتاً عميقاً خليطاً من البكاء والضحك. . . وهو عنده نشيد فيه فن وغزل وإغراء

وهكذا يملأ الغزل سمع الحياة من كل حي، والجميع في غفلة عن الغاية، إلا الذين ندُّوا عن حبال الشبكة المحبوكة الأطراف ووقفوا يديرون على أنفسهم وعلى الحياة وأبنائها.

(بغداد - الرستمية)

عبد المنعم خلاف

ص: 18

‌أعلام الأدب

أرستوفان والديمقراطية

للأستاذ دريني خشبة

كان أرستوفان رجعياً إلى درجة السخف في رجعيته، لكنه كان على شيء غير قليل من الحق في تلك الرجعية التي حارب بها سيد شعراء الدرام يوريبيدز، وأبا الفلاسفة سقراط، والتي جعلها حرباً غير راحمة على الديمقراطية

يذكرون أن أولى كوميدياته (رجال من جزلتون التي تقدم بها للمباراة في الشعر الهزلي سنة 427 ق. م كانت تدور كلها حول التعليم العالي والحط من قيمته ونسبة كل شر حاق بأثينا وأفسد أخلاق شبابها إليه. . . والكوميديا وإن تكن مفقودة إلا أن النتف الباقية منها تعرفنا بموضوعها الذي يقوم بدور البطولة فيه، والد مسكين حائر بين ولديه. . . فأحدهما شاب تقي محافظ مستمسك بعروة السلف الصالح وتقاليده الوثقى، والآخر فتى متمرد فاسد يسخر بالماضي وسُننه العتيقة وآدابه البالية، فما يزال يتهكم بأسلوب الحياة التي يحياها والده، ويسفّه تقوى أخيه، ويتبجح بالموبقات التي يأتيها هو في غير تورع ولا استحياء، لأنها في زعمه من مقومات المدنية التي لا يفهمها إلا على أنها فسوق وخروج على المألوف

وفي سنة 423 تقدم بملهاته الخالدة (السحاب) التي ندد فيها ما شاء له لسانه السليط بسقراط وفلسفة سقراط، والتي يضع فيها رجلاً طاعناً في السن أمام سوفسطائي، فهو يسأله عن أبرعِ الطُرق التي يأكل بها ديون الناس عليه (!!)، ثم يصنع حواراً شائقاً بين العلة العادلة والعلة غير العادلة (!!) وينتهي بإحراق منزل سقراط! وسنعود إلى ذلك في فرصة أخرى لما (للسحاب) من مكانة فريدة بين كوميديات أرستوفان

وقد كان لرجعيته يعزو ما أصاب أثينا من تدهور وانحلال إلى أدب يوريبيدز، وسنفرد لذلك فصلاً خاصاً نتناول فيه كوميدياته الثلاث الكوامل التي خصه بها، وإن تكن لا تكاد إحدى كوميدياته تخلو من ذكر يوريبيدز والتنديد بيوريبيدز، وإن يكن يوريبيدز مع ذاك أستاذه وملهمه

وبعد، فماذا كان بين أرستوفان وبين الديمقراطية؟ ولماذا كان يبغضها ذلك البغض الشديد

ص: 19

الذي تجلى في معظم كوميدياته؟ لقد تناولنا في الفصل السابق بعض الإجابة عن هذا وذاك، ونحن نضع بين يدي القارئ في هذا الفصل خلاصة لكوميدية أرستوفان المضحكة (الفرسان التي تقدم بها للمباراة سنة 424 ونال بها الجائزة الأولى من الهيئة الرسمية التي كانت تهيمن عليها حكومة كليون وقواد الجيش والشعب من أمثال نسياس وديموستين الخطيب المفوه العظيم

لم يبال أرستوفان أن يسخر بأبرز شخصيات الحكم في أثينا في ملهاته هذه، فصورهم تصويراً كاريكاتورياً مضحكا، مستعيناً في ذلك بميولهم الخاصة ووقائع حياتهم اليومية. ولعله أول رجل في التاريخ عمد إلى اختراع الشخصية الفكهة التي تمثل دولة بأكملها. فنحن نعرف أن شخصية جون بول تمثل في العصر الحديث دولة بريطانيا العظمى، كما تمثل شخصية العم سام الممالك المتحدة الأمريكية، وكما تمثل شخصية (المصري أفندي!) مصر الحديثة. وقد سبقنا أرستوفان إلى خلق هذه الشخصية المضحكة المحببة فابتكر لكوميديته شخصية (ديموس) ذلك الرجل الكهل الأناني الطاغية فجعله رمزاً لأثينا الهرمة المضطربة، للأثينيين الديمقراطيين الذين ذهبت دولتهم وشاع في أخلاقهم، واضطرب حبل حكومتهم، وذلك لما نشره فيهم السوفسطائيون وعلى رأسهم سقراط من فلسفة، وما بثه فيهم يوريبيدز من جرأة واستهتار بالتقاليد، وما أفسده به المرأة من تمثيل الغراميات المحرمة أمامها في المسرح، ولما صنع بهم الإفراط في الديمقراطية بعد بركليس من استباحة الحرمات وضياع القيَم وجرأة الأوشاب على السراة وأهل الرأي باسم الحرية وفقدان الحدود بين الطبقات

ثم سلط أرستوفان على ديموس هذا رجلاً مخاتلاً خداعاً هو زعيم الرعاع في أثينا (الديما جوج كليون) الدبّاغ (!!) وبائع جلود الحيوانات القذر (!) فجعل إرادة ديموس تتلاشى في إرادته، وجعله لا يبرم صغيرة ولا كبيرة إلا بإذنه، ولا يحكم على أحد بخير أو شر إلا إذا حكم عليه كليون بالخير أو الشر، فكان إلى جنبه إّمعة لا قيمة له ولا رجاء فيه، يُوَجهه حيث يشاء، ويسخّره لما يريد. . . وسماه كليون (ألبافلاجوني) أي التفتاف الذي يرسل الزبد في وجوه محدثيه حينما يكلمهم! ثم نعته بالعجرفة والصلف والقحة إذا كان أمام معارضيه، وبالتذلل والضراعة ولبس مسوح الرهبان إذا كان تلقاء مولاه؛ وجعل زملاءه

ص: 20

العبيد يكرهونه وينفرون منه لأنه يستأثر بمولاه من دونهم، فيفرض عليه ما يرى هو، لا ما يرى جماعة العبيد

أما من هو كليون هذا فهو نفسه ذلك الرجل الهائل صاحب الأمر والنهي في أثينا في ذلك العصر. . . الرجل الذي رفعه الرعاع ورفعته الديمقراطية المطلقة إلى ذروة الحكم، وألقت إليه بزمام السلطة يصرفها كيفما يشاء ما دام في حرز حريز من رضى الغوغاء، وما دام متمتعاً بمحبتهم الجاهلة الخرقاء

كان كليون إذن عَبْداً لمولاه ديموس بالدهاء والختل، لكنه كان سيد أثينا ودكتاتورها المطلق عن طريق هذا (الطّبْو!) ديموس نفسه، فماذا يصنع أرستوفان لخضد شوكته وتحقيره كما يحقّر هو أحلام أمة بأسرها؟

لقد جعل له نِدَّيْن من العبيد الأرقاء على شاكلته، هما نسياس وديموستين. . . ونسياس وديموستين هما أعظم رجال الحربية الأثينية في ذلك العصر. وقد أورد أرستوفان أسميهما صريحين كما أورد اسم كليون، ثم جعلهما من عبيد ديموس (أوجون بول أثينا!)، وجعلهما يحقدان أشد الحقد وأمره على كليون لأنه استبد بالسلطان من دونهما فراحا يتمنيان له الشر ويتلمسان له البلاء المبين. . وقد كان نسياس رجلاً فطرياً ساذجاً محافظاً على القديم، يعتقد اعتقاداً جازماً بالخرافات. أما ديموستين فقد جعله أرستوفان رجلاً مرحاً في برود وعدم مبالاة، إذا اعتزم شيئاً لم يتردد في تنفيذه ولو خرط من دونه القتاد، وكان يقبل على الخمر ويشغف بها شغفاً شديداً، فكانت تضاعف من جرأته وتزيد في إقدامه

وقد غيظ نسياس وديموستين من كليون لأنهما أقدم منه في خدمة مولاهما ديموس، فقد اشتراه بعدهما بزمن طويل، ومع ذاك فقد تقدم عليهما عنده بدهائه وطول حيلته، ولذلك فكرا طويلاً في عزله من منصبه في خدمة مولاه، فذهبا ليستوحيا كهنة باكيس، فقيل لهما إن الذي يخلف كليون في منصبه في خدمة ديموس هو شخص من صميم الشعب الديمقراطي!! هو بائع الأكارع (والسجؤ!!) أجورا كريتوس. . . (من أجورا حيث ألتمس الرزق لي ولعيالي!) أي أن أسمه مشتق من أجورا الذي هو سوق الحوايا (الكرشة والأكارع والأمعاء والفشة وما إلى ذلك. . . من أسواق أثينا!!). . .

وقد تحققت نبوءة باكيس. وأقدم كريتوس (في آخر الملهاة) حيث استطاع أن ينفذ إلى

ص: 21

الصميم من قلب ديموس، وأن يحل فيه محل كليون الذي لم يستطيع أن يباري (بائع السجؤ) في ميدان المهاترة والوقاحة والبرجوازية! وبذا تربع كريتوس في كرسي الوزارة - كرسي النبل والشرف! - مكان الغريم المنهزم.

وهكذا كان منطق أرستوفان في تحليله للديمقراطية. . . فمن يستطيع أن يجرد هذا المنطق العجيب من الحق - أو من بعض الحق - فيما يتعلق بمآل الديمقراطية إذا منحت بلا قيد ولا شرط لشعب أخذت عوامل الانحلال تدب فيه مثل الشعب الأثيني؟ ومن يمنع بائع السجؤ من أن يصل إلى كرسي الوزارة ليتحكم في أعناق السراة من النبلاء وأساتذة الجامعة ومسرح الأكروبوليس فيتصرف فيهم كأنهم عبيد أبيه أو قطعان الماشية يسيمها حيث يشاء!

هذا وينبغي أن نرجع إلى الوراء قليلاً لنعرف ماذا نشب من المعارك بين أرستوفان وبين كليون قبل نظمه لفرسان سنة 424 ق. م فإن تاريخ العداوة بين الرجلين يرتد إلى ما قبل ذلك، حينما تقدم أرستوفان بملهاته (البابليون) - وهي ما تزال ضائعة إلى اليوم - للمباراة العامة في الشعر الكوميدي في عيد باخوس الصيفي (الديونيزيا) سنة 426، وهو العيد الذي كان يحضره أحلاف أثينا من كل صوب ليشاركوا الأثينيين أفراحهم، فكانت هذه الملهاة مما شاهدوا، وفيها صور أرستوفان أحلاف أثينا عصبة من العبيد الأرقاء يجرون طاحونا ثقيلاً لديموس (جون بول أثينا!) وكان صارماً إلى آخر حدود الصرامة في حملته على النظام الديمقراطي السائد الذي كانت تهيمن بوساطته عصبة بعينها من الزعماء على مقاليد الحكم فلا تريم عنها ولا تستطيع فئة أخرى أن تحل فيه محلها ما دامت الأكثرية - والأكثرية دائماً هم الغوغاء - مؤيدة للفئة الأولى.

كان أرستوفان عنيفاً إلى غاية حدود العنف في هذه الملهاة المفقودة، وقد استطاع أن يفضح كليون وزبانيته فضيحة قهقه لها الأحلاف من وراء أشداقهم، وإن صورهم في هذه الصورة المزرية الشائنة التي خفف من مرارتها في نفوسهم ما شاهدوا من تصويره لرجال الحكم وعلى رأسهم كليون الهائل. . . فلما عاد الأحلاف بعد انتهاء حفلات الديونيزيا، أمر كليون فقبض على أرستوفان وحوكم من أجل ملهاته تلك بتهمة الخيانة العظمى، لأنه فضح الدولة وأهان أحلافها، وصنع ذلك في غير تورع ولا احتشام في عيد ديني قومي!

ص: 22

ولسنا ندري ماذا كان الحكم الذي أصدره القضاة على أرستوفان. ويبدو أنه لم يتعد الغرامة أو التوبيخ، ونستنتج ذلك مما صنع أرستوفان في العام التالي حينما تقدم إلى المباراة الكوميدية في عيد الريع الـ (لينايا) سنة 425 - أي بعد محاكمته بتسعة أو ثمانية أشهر تقريباً - بملهاته ألـ أخارنيين - وهي أقدم ما حفظت لنا يد العفاء من كوميديات أرستوفان - وفيها يعتذر للجمهور عما وقع فيه من إهانة الحكومة وتحقير الحكام في ملهاته سالفة. . . ولو أنه كان قد حكم عليه بحكم شديد أو يتعدى الغرامة أو التوبيخ لما استطاع في مثل هذه السرعة أن ينظم ملهاته الجديدة، ويحتفظ فيها بثباته وبراعة نكتته، ولما تناول فيها شخصية كليون أيضاً بشيء من التهكم اللاذع، وإن يكن هذه المرة قد بدا رفيقاً بالطاغية الجبار، فكان يسخر منه حينما يفعل ذلك في حيطة وحذر وحساب شديد

وكأنما ضايق أرستوفان أن يقف مكتوفاً هكذا لأن كليون يخفيه، ففرج عن نفسه بمهاجمة شخص آخر هو لا ماخوس، ثم شخص ثالث هو خصمه الأكبر يوريبيدز الذي يسلقه هنا بلسان حديد، ويعزو إليه إتلاف روح أثينا! وقد عجب الشاعر الكوميدي المعاصر لهذا التحرش المستمر من أرستوفان بيوريبيدز، وكان مما لاحظه أن أرستوفان ينسج على منوال خصمه ولكن في ميدان الكوميديا، فكأنما كوميدياته هي معارضات لدرامات يوريبيدز. ومن أجل هذا اخترع كراتينوس اللفظة: التي نحتها من اسمي الشاعرين للإشارة إلى تقليد أرستوفان لخصمه، وهي كما ننحت نحن في العربية بعض الكلمات التي تدل على عبارة من نحو يحوقل أي يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويحيمل من قوله حي على الصلاة الخ.

وملهاة الآخارنيين هي ملهاة نظمها أرستوفان من أجل الدعوة إلى السلام خلال حروب البلوبونيز (المورة)، وبطلها دِسيوبوليس هو مواطن أتيكي ساذج لكنه مقاحم ذكي ثاقب الفكر، وقد اضطر أمام جيوش الغزاة الإسبرطيين الذين اقتحموا قرى أتيكا إلى الفرار إلى أثينا ليلوذ بأسوارها. . . وهنا تثور ذكريات الريف الجميل الهادئ الفطري بخلد الرجل، فيأسف على العيش الساكن البسيط، وأويقات الصفاء في حقول أتيكا فيتمنى على أرباب الأولمب أن تنشر ألوية السلام على ربوع الوطن لتعود مياه الحياة إلى مجاريها. . . وتتسلسل وقائع الكوميديا فينعقد مجلس الدولة ويشتد الجدل، ويشتط الزعماء فيقسمون ألا

ص: 23

يكون سلام حتى ولو تنزل إله من السموات يأمرهم به!. . . على أن الأمر ينتهي بعقد الهدنة لمدة ثلاثين سنة فيعود دسيوبوليس جذلان فرحاً إلى ريفه الجميل، ويتمتع الناس بسلم طويل يفيقون فيه من أهوال الحرب التي جرتها الديمقراطية - أو جرها زعماء الديمقراطية المستبدون - على الوطن الحزين المسكين.

ولما كان أرستوفان يحس ما يلقاه الأتيكيون من أهوال حرب المورة؛ فقد استمر يدعو إلى السلام في كثير من كوميدياته ففي سنة 421 تقدم بملهاته (السلام) التي جاءت آية من آياته. . . وهي ملهاة خيالية يصور فيها رحلة فلاح أثيني على ظهر خنفساء (!) إلى السماء ينشد السلم ثمة، لأنه سئم الحرب وضج من أهوالها! ولشدة حيرة الفلاح يجد أن الآلهة قد ذهبت في السماء صعداً لأنها هي الأخرى قد نفرت من الناس واشمأزت مما تقترفه أيديهم من قتل بعضهم لبعض ومن سفكهم الدماء بغير الحق، ويجد الفلاح أن الآلهة قد أظهرت شبح الحرب على شعاف الأولمب في حين أنها قد خبأت طيف السلام في كهف هناك سحيق، فيجره ويعود به إلى الأرض، وفي ركابه طيف العيد وطيف المحصول وهما عروسان جميلتان، فيتزوج عروس المحصول ويدخل بها على نغم عروس العيد وغنائها.

دريثي خشبة

ص: 24

‌في بلاط الخلفاء

بين الشعبي وعبد الملك

للأستاذ علي الجندي

قضى عبد الملك بن مروان شطراً من خلافته في رتق ألفتوق وسدِّ الثُّلم والقضاء على منافسيه والخوارج عليه، فبلغ من ذلك ما أراد بعد أن خاض أهوالاً تشيب لها ناصية الطفل، واضطلع بأعباء تنوء بها الجبال، فعدّ بحق رجل الأمويين، ومر بي ملكهم ومؤثّل دولتهم. ولم يَعْد الصواب من وازن بينه وبين معاوية فقال: معاوية احلم، وعبد الملك أحزم. ولم يَغْل عبد الملك في وصف نفسه من خطبة له: أيها الناس، والله ما أنا بالخليفة المستضعف (عثمان)، ولا بالخليفة المداهن (معاوية)، ولا بالخليفة المأفون (يزيد)؛ فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا!

والآن تحتويه دمشق الفيحاء، وقد اتسق له الأمر، وصافحه الإقبال، ونفض عن كاهله غبار الحروب، وتكفل له طاغية ثقف وجبّار العرب بقمع أهل الفساد والشَّغب، والضرب على يد الأسود والأحمر على السواء! فكيف يقضي أوقات الفراغ التي انفسحت أمامه؟ وبأي الوسائل يروّح نفسه، ويدخل عليها البهجة والمسرة؟

لم يكن عبد الملك مُعَنَّى بالنساء، ولا منهوماً بالشراب، ولا مستهتراً بالسماع، ولا موكلا بالصيد والقنص، حتى يلتمس المتعة في ذلك؛ ولكنه كان الخليفة جاداً زَميتاً وقوراً. وكان قبل الخلافة أزهد شباب قريش وأورعهم حتى لقّب بحمامة المسجد، كما كان يُقْرن في الفقه بسعيد بن المسيّب. أما روايته للأخبار، وحفظه للشعر، وبصره بالنقد وذرابة لسانه وسحر منطقه، وثقوب ذهنه، ووثاقة عقله، فقد أربى من ذلك على الغاية، ولعل التاريخ الأدبي لم يعن بالتحدث عن خليفة في الإسلام عنايته بعبد الملك والرشيد

فنُّ واحد من اللذات إذن يمكن أن يستهوي هذا الخليفة العالم الأديب، ويساوق طبيعته السامية. فن لا يقدره قدره إلا أصحاب المواهب المصقولة، والحسّ المرهف، والعقل المثقف، والذوق السليم، وهو محادثة الرجال ذوي العقول ومجاذبتهم طرائف الأخبار وبدائع الأسمار

وقد نوه الحكماء بهذه المتعة العقلية الرفيعة، فقالوا: محادثة الرجال تلقيح لألبابها. وأشاد بها

ص: 25

أبن الرومي في شعره حيث يقول:

ولقد سئمت مآربي

فكأنّ أطيَبها خبيثُ

إلا الحديث فإنه

مثل اسمه أبدا حديثُ

وفي الحق أن عبد الملك ليس أول من طلب هذه اللذة ولا آخر من رغب فيها، فقد قال قبله معاوية: أصبْت من النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما أستمرئه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبثت الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم

وقال بعده سليمان بن عبد الملك: قد ركبت الفارة، وتبطنت الحسناء، ولبست اللين حتى استخشنته، وأكلت الطيب حتى أجِمته، فما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عنى مئونة التحفظ. إلى غير ذلك من الأقوال التي ملئت بها كتب التاريخ والأدب

لم يكد عبد الملك تهيج في نفسه هذه الرغبة حتى دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى عامله الحجاج بالعراقيين: إنه لم يبق لي من الدنيا لذة إلا مناقلة الإخوان الأحاديث، وقِبَلك عامر الشعبي فابعث به إلى يحدثني. وفي بعض الروايات أنه كتب إليه: أن ابعث لي رجلاً يصلح للدين والدنيا أتخذه سميراً وجليساً. فقال الحجاج: ماله إلى الشعبي

وسواء أكان الاختيار وقع على الشعبي من عبد الملك أم من الحجاج، فأنه لم يقع اعتباطاً ولا جاء مصادفة. فقد كان الشعبي نادرة الدنيا وفقيه العراق.

يقول الشعبي عن نفسه: دخلت إلى الحجاج حين قدم الكوفة، فسألني عن اسمي فأخبرته. ثم قال لي: يا شعبي كيف علمك بكتاب الله؟ قلت: عني يؤخذ! قال: كيف علمك بالفرائض؟ قلت: إلي فيها المنتهى! قال: كيف علمك بأنساب الناس؟ قلت: أنا الفيصل فيها! قال: كيف علمك بالشعر؟ قلت: أنا ديوانه! قال: لله أبوك! وفرض لي أموالاً وسوّدني على قومي. فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همدان، وخرجت وأنا سيدهم.

وقد بلغ من سعة معارفه أنه كان يقول: ما حدثت بحديث مرتين إنساناً بعينه! ومع أن الشعر أقل بضاعتي فإني أستطيع أن أنشد شهراً كاملاً لا أفرغ منه.

وكان ظريف اللسان، بديع المنطق، ساحر الحديث، بارع المفاوضة، إذا تكلم لا يكاد يسمع

ص: 26

غيره لخلابة قوله وعذوبته!

وكان خفيف الروح، رقيق الحاشية، سلس الطبع، لطيف المزاج، فاشي الدُّعابة، سريع الجواب، حاضر البديهة. سئل مرة عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف! وسئل أخرى عن أسم امرأة إبليس. فقال: هذا زواج ما شهدناه! وقال له رجل: ما تقول في الذباب؟ فقال إن اشتهيته فكله!

ويريه مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة ملكة الجمال في عصرها، ويصله ببدرة، وتخت ثياب، وقارورة غالية، فيقول له الناس: يا شعبي، كيف الحال؟ فيقول: وكيف حال من صدر عن الأمير ببدرة وثياب وغالية، وبنظرة من وجه عائشة! إلى غير ذلك من الملح والطرائف والأجوبة الحسان التي تكشف عن ظرف الرجل وسجاحة خلقه ورقة شمائله

ولكن هذه السمات إن وجدت في الشعبي، فلن تُعدم في غيره، فما السر في اختياره بالذات؟ السر عندي أن الشعبي كان يمثل في عصره ما يصح أن نسميه (الدبلوماسية الدينية)، فقد كان هذا الإمام - على فقهه وورعه وتقاه - لّين المجسة، مرن التفكير، رحب الأفق، طَبّا بأسرار التشريع، يتحامى التعسير والتنفير، ويأوي إلى الجانب الظليل من الحنيفية السمحة البيضاء. كان يتساهل في السماع، ويتشدد فيه ابن سيرين؛ وكان يرى التقية والتورية، ولا يراها سعيد بن جبير، فنجا الشعبي من سيف الحجاج وقتل به سعيد! وكان يجنح في إفتائه إلى الأرفق الأهون على الولاة، ويأخذهم الحسن البصري بالعسْر والشدة. فهرب الحسن من وجه الحجاج، وقرّ الشعبي آمناً مطمئناً

هذه (الدبلوماسية) هي التي جعلت الشعبي أثيراً لدى الخلفاء هذا العصر وأمرائه وولاته - على اختلاف منازعهم الدينية والسياسية - من مصعب بن الزبير، إلى ابن الأشعث، إلى الحجاج، إلى عبد الملك بن مروان؛ وهي التي رشحته أخيراً لأن يكون سميراً للخليفة، وبعبارة أدق خلعت عليه وصف (الجليس الممتع).

ولم يقصر أهل الظرف في تعريف هذا الجليس فقالوا: أمتع الإخوان مجلساً، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقاً، وأنبههم نفساً، من لم يكن بالشاطر المتفتك، ولا الزاهد المتنسك، ولا الماجن المتظرف، ولا العابد المتقشف، ولكن كما قال الشاعر:

ص: 27

يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا

وهل يكون شباب غير فتيان

وهأنت ترى أن هذا التعريف ينطبق على الشعبي كل الانطباق

دعا الحجاج بالشعبي وأفضى إليه برغبة أمير المؤمنين، فوقع منه ذلك بموقع، فبالغ في شكر الأمير وأطال الدعاء للخليفة

وقد جهزه الحجاج بجهاز حسن، وأنفذ معه كتاباً إلى عبد الملك يثني عليه فيه. وسار الشعبي حتى بلغ دمشق، ووقف بسدةِ الأذن، وقال للحاجب: استأذن لي في الدخول على أمير المؤمنين. وكان الحاجب اقتحمته عينه لنحوله وقماءته، فقال: ومن تكون أنت؟ فقال: عامر الشعبي. فقال الحاجب: حياك الله يا فقيه العراق! ووثب عن كرسيه وأجلسه عليه، ودخل مسرعاً إلى الخليفة، ولم يلبث أن خرج ودعاه إلى الدخول في رفق وأدب

ودخل الشعبي حتى إذا واجه عبد الملك سلم عليه بالخلافة فرد عليه السلام وهش له وبش به! وأومأ إليه بقضيب في يده أن اجلس. فجلس على يساره

وعبرت فترة أطرق فيها عبد الملك عابساً متجهماً! ومن الآداب السلطانية المأثورة أن الملك إذا حضره سُمًّاره ومحدثوه لا يحرك أحد منهم شفتيه مبتدئاً. ولم يكن الشعبي يجهل ذلك، بل لا يجهل أن عبد الملك أول خليفة منع الناس من الكلام، وتقدم فيه وتوعد عليه. ولكن اعتداد الشعبي بنفسه، وإدلاله بمنزلته من الخليفة، وتعجله إدخال السرور عليه دعاه أن يسأل غير محتشم: ما بال أمير المؤمنين؟ فرفع عبد الملك رأسه إليه - متجاوزاً عن هفوته - وقال ذكرت يا شعبي قول زهير:

كأني وقد جاوزت سبعين حجة

خلعت بها عني عذار لجامي

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى

فكيف بمن يُرْمي وليس برامي

ولو أنني أُرْمي بنبل رميتها

ولكنني أُرمي بغير سهام

على الراحتين مرة وعلى العصا

أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي

وبهذا الكلام وجد الشعبي مجاله الذي يصول فيه ويجول، فهز رأسه قائلاً: ليس الشأن كما قال زهير يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد:

كأني وقد جاوزت سبعين حجة

خلعت بها عن منكبيّ ردائيا

ولما بلغ سبعاً وسبعين قال:

ص: 28

باتت تَشكّي أليَّ النفس مُوهنة

وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا

فإن تُزادي ثلاثاً تبلغي أملاً

وفي الثلاث وفاء للثمانينا

ولما بلغ تسعين سنة قال:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟

ولما بلغ عشراً ومائة سنة قال:

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تُحْنى عليها الأضالع

أخبّر أخبار القرون التي مضت

أنوء كأني كلّما قمت واقع

ولما بلغ ثلاثين ومائة سنة وحضرته الوفاة قال:

تَمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعه أو مضرْ

فقوما فقولا بالذي تعلمانه

ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعَر

وقولا هو المرء الذي لا صديقه

أضاع، ولا خان الخليل ولا غدر

إلى سَنةٍ ثم السلام عليكما

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

فشاع السرور في وجه عبد الملك رجاء أن يبلغ من العمر ما بلغ لبيد.

(البقية في العدد القادم)

علي الجندي

ص: 29

‌صورة وصفية

صديقي بِشْر. . .

للأستاذ محمود تيمور بك

تلقيت يوماً دعوة من إحدى الهيئات العلمية، ولا أدري متى جرى ذلك على وجه التحقيق. وكانت الدعوة لسماع محاضرة لغوية لبحّاثة معروف، سمعت به؛ ولكني لم أره بعد.

فذهبت، وقد تخليتُ لهذا المحاضر صورة تتفق مع موضوع محاضرته. . . رجلاً أشرف على الخمسين، بشارب مهدَّل، وعينين مجهودتين، وصوت متآكل. فما كدت أستقر في مكاني من القاعة وأرفع بصري إلى المحاضر، وقد اعتلى منصة الخطابة، وبدأ يلقي محاضرته، حتى طالعَتْني صورة أدهشتْني جد الدهشة. رأيتُني أمام فتى كله شباب وحيوية، بعينين تلمعان ذكاءً؛ له وجه صبيح، بشارب طرير مشذًب على الطريقة الفرنسية، وقوام إغريقيّ يذكِّرنا بتماثيل (براكسيتيل)!

فتشككت في الأمر؛ وحسبت أنه قد جد تغيير في المحاضرة والمحاضر، وانحنيت على زميل بجواري أتبين منه حقيقة الحال. فأكد لي أن المتكلم هو الدكتور بشر فارس نفسه!

ورحت أستمع، فإذا بالمحاضر يلقي بحثه بصوت جيل النبرات، في لهجة فصيحة، تتوضح فيها دقة في الأداء، وحسن اختيار لمواقف الجمل، وحرص على سلامة مخارج الحروف. كل ذلك في اتساق وانسجام كاتساق النغمات وانسجامها في اللحن الفني البارع!

واتسعت مسالك البحث وتشعبت، بيد أن المحاضر كان قابضاً على زمام موضوعه قبضة جبار، يديره في حنكة، إدارة الربان الماهر لباخرته وسط العباب الصاخب. . . حتى انتهي به أخيراً إلى شاطئ السلام!

منذ ذلك اليوم عرفت الدكتور بشر، وما أسرع أن توثقت صلاتي به!. . فتجلت لي فيه شخصية أخرى غير شخصية ذلك العالم المتحقق - تلك شخصية الصديق الودود المرح. فالابتسامة اللطيفة التي طالما انقلبت إلى ضحكة عابثة لا تفارق ثغره، والنكتة المصرية اللبقة تظل محلقة في سماء مجلسه. وقد يمضي في حديثه الطريف، فلا يكاد يروي لك أخباره عن باريس، ما شاهده في دور العلم بها، ما لقيه في مغاني عبثها ولهوها، حتى ينتقل بك إلى قهوة (الفيشاوي)، ومطعم (الحلوجي)، فيحدثك عن الشاي الأخضر، وصحاف

ص: 30

(الطعمية) الفاخرة تحيط بها أصناف المشهيات. . . ومن ثمَّ يختفي أمامك العالم الجهبذ، ليحل مكانه (ابن البلد) الوجيه العريق في المصرية، فلا يعوزه إلا (اللائة) يديرها على رأسه، فينطلق في مسارح (سيدنا الحسين) يلوح في يمينه بعصا الفتُوَّة!!

والحق أن جلسة واحدة مع الدكتور بشر تريح الأعصاب، وتملأ القلب من إيناس، وتحوّل نظر المرء إلى ناحية الرفّافة الجميلة في الحياة. . .

صاحَبَنَا الدكتور بشر وقتاً، ثم طلبناه حيناً فلم يجده، فكأنه (فص ملح وداب) كما يقولون. . ثم عاد إلى الظهور، ولكن في فترات متقطعة نادرة. كنا نراه اتفاقاً في الطريق مهرولاً لا يقر له قرار، وهو محاط بشرذمة من النجارين والحدادين والطلاَّئين. فإذا ما استوقفناه، فسألناه عن سبب غيبته، أشار إلى مرافقيه، وقال وهو يتأفف في لهفة المكدود: ألا ترون أني مشغول؟! ويتابع سيره في عجلة واهتمام، وقد اشتبك مع صُنَّاعة في مناقشة حادة. . . فلا نشك لحظة في أنه ودَّع العلم والأدب والتحق بزمرة المقاولين!

وبينما كنا في مجلس نذكر صديقنا بِشراً بالخير، ونأسف لتوديعه الأدب؛ إذا به يفاجئنا بدعوة ظريفة إلى مسكنه الجديد في (جاردن ستي). فقمنا من ساعتنا إليه، فوجدنا أنفسنا في متحف فنيّ، كل ما فيه يشف عن ذوق سليم غاية في السموّ

وجعل صاحب الدار يمر بنا في مقاصير المسكن وقاعاته المنشأة على أحسن طراز، ويقف بنا أمام تحفه واحدة بعد أخرى، وهو يشرح لنا تاريخها وقيمتها شرح خبير. فهنا صورة طريفة محلاَّة بإمضاء فنان، وهنالك صحفة من الفن الصيني الثمين يرجع تاريخ صُنعها إلى عهود غابرة، ترى بجوارها مقعداً لطيفاً على شكل رَحْل من رحال الجِمال. . . وفي ركن من أركان الغرفة يقوم ذلك الرفّ الساذج البديع، يحتضن (تاييس) و (مدام بوفاري) و (أفروديت) وهن في أثوابهن الغالية الفاتنة!

ففطنا بعد لأي إلى سرِّ غيبة صديقنا، وطفقا نطوف معه ذلك (المزار) المبتكر. . . حيث يعبق في جوه عطر الفن، وتشمله روح الجمال!

طابَع الفن والجمال يسم. حياة الدكتور بشر بأكملها، يسم شخصه ومسكنه وتأليفه وكل أسباب عيشه. فإذا ما قرأت له مقالاً رأيته ألبس الفكرة العميقة والرأي الناضج ألفاظاً ينتقيها في حكمة، وينسقها في صبر وجلد، ثم ينضدها تنضيد العقد على صدر الحسناء!

ص: 31

فإذا لقيت شخصه، ألفيت أمامك شاباً أنيقاً يحسن كيف يلائم بين لون رباط الرقبة والقميص والحُلَّة، ليخرج منها صورة فنية طريفة. . .

ولصديق بشر شخصيتان: شخصية الأديب، وشخصية العالم، تتنازعانه على الدوام. . . ولا ندري آيتهما يقدر لها الفوز على الأخرى؟ فقد أصدر في العام الماضي مسرحيَّته الرمزية:(مفرق الطريق)، فتلألأت نجماً جديداً في سماء الأدب الرفيع.

وظهر له منذ أيام كتابه: (مباحث عربية)، فإذا هو سفر قد لا نغالي إذا قلنا إنه في طليعة الآثار العلميّة التي تمخض عنها العصر الحديث، من حيث دقة البحث، واستيعاب الموضوع، وحسن الصياغة، والبراعة في التنسيق والتنميق. كل ذلك على أحدث نهج علميّ خَطَّه علماء الاستشراق؟

ونحن اليوم نتتبع خطوات بشر فارس وهو يروح ويغدو، ينحت الصخر آناً في مفارز العلم، وينظم الزهر آناً في خمائل الأدب، ونتساءل في حيرة: إلى أي مدى يستطيع الصديق أن يحتفظ بشخصيتيه المستقلتين؟ وهل في الإمكان أن يجمع المرء بين الأدب والعلم، ولا يستشعر في دخيلة نفسه ذلك التنافر القائم بين هذين العنصرين النفيسين اللذين لا يهدأ لهما حال إلا إذا أخضع أحدهما زميله واستبعده؟!

وللدكتور بشر نواح خفية، لا يعرفها إلا أصدقاؤه الخلصاء. وإني لمذيع بعضها، وأمري إلى الله! فقد يحاسبني على إفشائها حساباً عسيراً!

إن صديقي بشراً - ولنخفض أصواتنا قليلاً - رجل ذوَّاقة في المآكل، واسع الاطلاع على ألوان الطعام، عظيم الخبرة في كل ما تزدان به الموائد. . . وإنها لمتعة حقاً حين تسمعه يحدثك عن صحاف الأطعمة المختلفة واحدة بعد أخرى؛ يروي لك - وعيناه تلمعان لمعان المرَق الشهي - كيف يشتري بنفسه الزبد الطازج، وينتقي عند الجزار أطايب اللحم؛ وكيف يقف أمام الفرن يجهز الصنف الذي يحب، ثم لا يلبث أن يأتي عليه ولَما يتمّ نضجه على النار، مقتفياً أثر المثل الصالح: خير البر عاجله!

ولصديقنا بشر جولات موفقة في مطاعم المدينة، فهو إذا دخل أحدهما لا يطلب القائمة، ولا يُعنَى بمكانة من المائدة؛ بل يطلب أن يدلوه فوراً على المطبخ. . . وثم يكشف عن القدور يتفحصها تفحص عارف، ثم يشير أخيراً إلى واحدة منها، فيحضرونها له بأكملها. . .

ص: 32

ويشمِّر الدكتور عن ساعد الجوع غير معني وقتئذٍ بأناقته، وينكبْ على القِدْر فيأتي - في لحظة خاطفة - على ما تعب الطاهي في صنعه ساعات طويلة!

وإني أنصح - نصيحة مجرب! - لمن أصيب في معدته، ويرغب في دواء ناجع لإصلاحها أن يأتي بالدكتور بشر عن يمينه وزكي طليمات عن يساره، ثم يراقبهما هنيهة وهما يتناضلان في معركة القدور كرّاً وفرّاً. . . فإنه لا يعتم أن يشعر بمعدته تتصايح في ثورة جامحة، وإذا به ينطلق هو أيضاً في صحاف الطعام يفتك بما فيها فتك مغوار!

محمود تيمور

ص: 33

‌من مذكرات بلنت

صفحات مجهولة من حياة الأمام محمد عبده

(مقتطفات من يوميات نشرها في إنجلترا أخيراً ورثة مستر ويلفريد بلنت، صديق مصر ومحامي زعماء الثورة العرابية، عن حوادث جرت في مصر والشرق العربي بين سنة 1888 وسنة 1914).

(وقد خص صديقه الحميم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بالشيء الكثير من هذه المذكرات، ودون فيها ما كان يدور بينما من الأحاديث والمناقشات حول السياسة والعلم والدين)

(وهذه المذكرات تلقي الضوء ساطعاً على جانب من أفكار الشيخ محمد عبده وحياته الخاصة وعلاقته بالخديو وصداقته للفيلسوف هربت سبنسر).

مارس سنة1891:

حضر عندي صباحاً الأستاذ المفتي محمد عبده، وجلس معي ساعتين تقريباً، تحدثنا فيهما شتى الأحاديث. وكان قد بعث إلى بالنسخة التي أهديت إليه من كتاب بتلر:(فتح العرب لمصر) فشرحت له محتويات الكتاب لأنه لا يعرف اللغة الإنجليزية. ثم تناقشنا في المسألة الخاصة بنظرية المؤلف من أن المقوقس هو (سيرس) بَطْريق الإسكندرية. فذكر الشيخ عبده أن هذه النظرية خطأ. وعنده أن (المقوقس) قبطي، وأنه حاكم منفيس، وأن جماعة القبط في ذلك الوقت رحبوا بالفاتحين العرب ليخلصوهم من ظلم الرومان. وإلا فكيف أتيح للقبط أن ينالوا من عمرو بن العاص ما نالوه من امتيازات وعهود طيبة وحكم ذاتي تمتعوا به عصوراً متتالية؟ وفي رأيه أن الحروب الصليبية، وبالأخص هجوم الصليبيين على مصر هو الذي القبط موضع الاضطهاد بسبب انهم أنهم أعلنوا هواهم في جانب الصليبين.

ودار الحديث على ما يجري الآن من الأمور السياسية في الآستانة، فذكر الشيخ عبده أن الخديو عباس حلمي على علاقات سيئة مع السلطان، وأنه قوبل في الآستانة هذا الصيف مقابلة فاترة، وأن السلطان عبد الحميد امتنع أولاً عن مقابلته إلى أن أخذوا عليه تعهداً بالا يفاتحه في مشكلة جزيرة طشيوز. والمسألة هي أن الجزيرة ملك للخديو بالميراث، ولكنها من أملاك الدولة العلية. وأن الخديو لما فرض على سكانها الضرائب بعثوا بشكايتهم إلى

ص: 34

الحضرة السلطانية، فأرسلت الحضرة الجنود ليقيموا فيها استناداً إلى تلك الشكايات. أما الخديو فهو يريد أن تخلي الجزيرة من الحامية العسكرية، ولكن رجال المابين لم يصغوا إلى نظريته

وذكر أيضاً أن الخديو لآن تحت تأثير سيدة مجربة هي حظيته. وقد كانت معه في حادث العربة التي وقعت لهما أخيراً وهما عائدان من (الدار البيضاء) في طريق السويس إذ نشبت عجلات العربة في الرمال. وكان جزاء الخفراء الذين توانوا عن تقديم المساعدة المحاكمة والحبس مع الشغل مدة أسبوع. وقد رفع ذلك الحادث إلى دار الوكالة البريطانية، وقامت بسببه مشاحنات حادة بين العميد وبين الخديو.

ثم تكلمنا - والحديث ذو شون - عن مدحت باشا، وفترة حكم السلطان عبد العزيز. ومن رأى الشيخ عبده أن وفاة السلطان عبد العزيز لم تخرج عن كونها حادث انتحار، وهو ما أخبرني به الدكتور ديكونس في غضون عام 1884.

أما مدحت باشا فأسر إلى كيفية معاملته في (الطائف)؛ وأنهم يحرمونهم من الغذاء الكافي، ويقدمون إليه الخبز الجاف الخشن حتى كسرت أسنانه، ولا يسمح له بقضاء حاجته إلا في غرفته إلى أن مات من سوء المعاملة. ثم قطعت رأسه وأرسلت إلى الآستانة.

وينعت الشيخ عبده السلطان عبد الحميد بأنه (أكبر مجرم سفاك في هذا العصر).

وإنها لكلمة قاسية يذكرها عالم ديني كبير عن خليفته.

مارس 1891

رفعت تقريراً إلى اللورد كرومر عن الإدارة المصرية وسوء حال الدولاب الحكومي، وشفعته باقتراح يتضمن تأليف وزارة من المصريين، هذه أسماؤهم بعد استشارة الشيخ عبده والمويلحى:

حسن باشا الشريعي، بليغ بك، أمين بك فكري، سعد أفندي زغلول، أحمد أفندي محمود، إبراهيم أفندي الوكيل، محمود بك شكري، أحمد بك حشمت، يوسف بك شوقي، الشيخ محمد عبده.

فبراير 1893

ص: 35

إن الشيخ عبده في جانب رياض باشا رئيس الحكومة. وفي اعتقاده أن رياض باشا برغم كونه مستبداً رجل شريف، وأنه أفضل من تجران وبطرس وأرتين، لأن هؤلاء كلهم مسيحيون لا يريدون خيراً بنشر روح التعليم الإسلامي. ومدح الشيخ عبده في أخلاق بعض الموظفين الإنجليز، ولكنه عاد فذم الطبقة الجديدة منهم، واستحسن تقربي من الخديو حتى أستطيع التأثير عليه. فيستعين برياض وبطبقة من الشبان المسلمين المتعلمين، ويقصى عنه الأرمن والمسيحيين. وذكر الشيخ عبده أخيراً: نحن لا يهمنا أن يبقى الإنجليز سنة أو اثنتين أو خمسة ما داموا سيشركوننا في الأمر؛ إلى أن يقوى حزب الفلاحين؛ ولكن إذا كانت هناك فكرة مبيتة بضم مصر، فإننا نقبل الاستبداد التركي الضعيف على ذلك الخسران المبين. فإن قمتم بالجلاء غداً فثق أننا جميعاً نفرح ونغتبط.

والواقع أن الشيخ عبده الآن أكثر المصريين ميلاً الإنجليز.

ديسمبر 1893

تغدى اليوم معنا الشيخ عبده. وذكر ضمن أن الشيخ حسونة النواوي هو الوحيد بين هيئة العلماء الذي يصلح لأن يكون شيخاً للأزهر على أساس حر شريف.

نوفمبر 1894

تغدى معنا وحدثنا عن مقابلته الأخيرة للخديو واستمالته إياه نحو الأزهر. ثم عرض خلال الحديث إلى حادث قتل70 * 12 إسماعيل باشا المفتش وخنقه في إحدى السفن النهرية أمام جسر قصر النيل. وكذلك جرَنا الحديث إلى ما وقع لعلي باشا، شريف وابتياعه بعض الجواري والعبيد. وتناولنا نوبار باشا، وكيف يستعين بمركزه في الوزارة، ونفوذه ليشتغل بالأعمال المالية ويستفيد منها.

نوفمبر 1895

قابلت كرومر اليوم وتحدثنا في شؤون مختلفة، فأخبرني الشيخ عبده أن قد يصدر الأمر بتعينه مديراً للأوقاف، فاستحسنت ذلك التعيين بكل جوارحي.

مارس 1898

ص: 36

زارني الشيخ عبده وأقام عندي فترة طويلة، ودعني فيها بمناسبة أوبتي إلى إنجلترا. والواقع أنني أغادر هذا البلد الطيب وأنا مريض، وقد مللت الحياة، وكنت على وشك أن أعتنق الإسلام، ولكنني أنظر إلى الإسلام بنفس العين التي أنظر بها إلى المسيحية.

5 ديسمبر 1899

ليس بين جميع الشرقيين، بل بين جميع الرجال صديق أعظم لي من الشيخ عبده. وهاهو يعود بعد أن سجن لإرادته الحرة وأفكاره الجريئة؛ وبعد أن نفي عام 1882 فيعترف لي بقضيته. والحق أنه أقدر رجال مصر وأشرفهم وأنبلهم، وهو يشتغل الآن منصب مفتى الديار المصرية. وقد أهديت إليه منذ سنوات قطعة من أرضي في عين شمس تبلغ مساحتها فداناً، فبنى عليه داراً قروية، وصار أقرب جار لنا.

يناير 1900

تحادثنا ملياً عما فعله كتشنر برأس المهدي في السودان، واتفقنا على أن الله هو وحده المنتقم الجبار من هذه الأفعال الإجرامية التي سوف تصل بالإمبراطورية إلى الانهيار الذي وصلت إليه غيرها من الأمم

28 يناير 1900

كان حديثنا الليلة يتناول الإنسانية ومعاملة القوي للضعيف، فألفيته من المتشائمين مثلي. فقال: إنه كان يتلو التوراة من أيام فرأى أن الفظائع والوحشية التي جاءت على يد المسيحية جاءتها من صلتها باليهودية. وذكر أحاديث نبوية كثيرة عن معاملة الحيوان الأعجم بالرأفة والمحبة، وأن قتل العجماوات هو ضد عقيدة المسلم وشعوره، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسيحية. وهو لا يؤمل خيراً في مستقبل البشرية. وإني لأخشى أن يكون ضعيف الإيمان بأثر الإسلام برغم أنه المفتى الأكبر، مثل ما عندي من ضعف الإيمان بأثر الكنيسة الكاثوليكية.

أكتوبر 1901

أثناء حديث الصباح جاء ذكر (عرابي) بمناسبة رجوعه من النفي إلى وطنه. فأخذه عليه

ص: 37

الشيخ عبده الحديث الذي صرح به لمكاتبي الصحف قبل أن يقف على حقائق الأمور، وبالأخص تصريحه أن كل شيء عمله الإنجليز في مصر طبيب.

24 أكتوبر 1901

كانت اليوم أول مقابلة جرت بين عرابي وعلي فهمي وبين الشيخ عبده فتعانقوا عناقاً حاراً وتناول حديثهم ذكريات العصر الماضي ومواقف رجال العصر.

(البقية في العدد القادم)

محمد أمين حسونة

ص: 38

‌أسرار حياة بلاد العرب السعيدة

'

تأليف الكاتب الإيطالي سلفاتوري آبونتي

للأستاذ محمد عبد الله العمودي

يقسم الجغرافيون القدامى البلاد العربية من حيث التكوين الطبيعي وخصوبة الأرض إلى شطرين عظيمين: يمثل أولهما بلاد العرب الصحراوية وأطلقوا عليه وهو الجزء الشمالي من الجزيرة. والآخر بلاد العرب السعيدة وأسموه وعنوا به الجزء الجنوبي من الجزيرة بما يعرف اليوم باليمن وحضر موت، وما ناوحها من الكور والمخاليف

وهذا التقسيم ليس من مستحدثات هذا العصر، ولكنه يرتفع إلى عصر سحيق جداً؛ فمؤرخو الإغريق والرومان هم أقدم من كتب عن هذا القطر الخصيب، وأول من ابتدع هذا التعريف تفريقاً بين الإقليميين من حيث قوة الإنتاج وكرم الأرض وجمال التربة

وأصبحت (بلاد العرب السعيدة) علماً مشهوراً على بلاد اليمن، وبقى هذا المفهوم بهذا الوضع اللفظي واحداً في سائر اللغات الأوربية مع تحريف بسيط في المقطع الثاني من الكلمة الأخيرة

وترجع شهرة هذا القطر الكريم من بلاد العرب إلى عصور متلاحقة في القدم حينما خط أولئك اليمانون على أمواج الدهور حضارات ومدنيات بلغت النهاية القصوى من الإبداع والازدهار والحيرة مازالت أسرارها بعيدة متفرقة في خفايا الدهور، ورمال الصحراء! وبالرغم من كثرة الرواد الذين اقتحموا هذه البلاد، وتغلغلوا في آفاق بعيدة مهمة منها، وأماطوا اللثام عن بعض أسرارها وخفاياها، فبلاد اليمن أو الجزء الجنوبي من بلاد العرب مازال لغزاً من الألغاز، وسراً استغلق فهمه على الأجيال، وسيبقى هكذا إلى أن يبدل الله أرضاً بأرض وأقواماً بأقوام!

هذا الجزء الخصيب من الجزيرة العربية يؤلف منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه سلسلة متلاحقة الحلقات، قائمة بنفسها لجماعات من الرواد الذين رادوا هذه البلاد فجاسوا خلال ديارها ونقبوا عن أطلالها، فكتبوا عنها تقارير ضافية، مبنية على صدق الملاحظة والاستنتاج الشخصي القائم على الخبرة والبصر

ص: 39

فأقدم من أرخ عن هذه البلاد وبقيت أخباره حتى أيامنا هذه مصدراً يعول عليه هو استرابو، ذلك العالم الإغريقي الذي عاش قبل الميلاد، فقد صور هذه البلاد (السعيدة) من جغرافيته في عبارات مشرقة لماحة الرواء رائعة التاريخ كبسمة من بسمات الدهر لهذه البلاد العريقة في القدم التي رماها الزمن بسهام صائبات في سكانها وحكامها، وقفنا على ما بلغته تلك البلاد من الشأو البعيد في مجتلي الحضارة، وبلَهْنية العيش حتى (إنهم ليحرقون الأعواد العطرية الفواحة في الوقود بدلاً من الأحطاب)

وجاءت القرون الوسطى وعصر النهضة، فتواكبت على البلاد العربية أفواج المستكشفين، مستهدفين لأخطارها، همهم الوحيد ارتياد صحاريها واستكشاف مجاهلها والوقوف على مواطن اللبان والمر والبخور وسائر الأطياب التي تفهق بها منحدرات جبال اليمن وشعاب حضرموت العميقة فوقفوا إلى أقصى حد

وإذا كان للإنجليز والألمان والفرنسيس مغامرون إلى هذه البلاد فالإيطاليون لا يقل حظهم عن هؤلاء في هذا المجال. وترجع صلتهم باليمن - الصلة العلمية البحتة - إلى العهد الذي قام فيه الرحالة الإيطالي المشهور (لودفيكيودي فرثمة) الذي يعتبر أول من راد بلاد اليمن من الفرنجة، وفتح لغيره باب المغامرات وذلك عام 1503م، وقد طبعت رحلته خمس مرات في روما والبندقية

ثم انعكست الآية، وظهر في اليمن قبل الحرب العامة إيطالي خطِر يدعى (لويجي كابرتِّي) كان الجرثومة الأولى للفكرة الاستعمارية؛ وصفه ادوار غلازر بأنه (أحد أولئك الرجال الذين بنوا مجداً لأوطانهم) و (أول من فتح بلاد العرب للتجارة الإيطالية). وقد ظل في اليمن يعمل على بثِّ فكرته حتى قضى نحبه في صنعاء ودفن بمقبرتها، وما زال قبره هناك يعرف بصليب عليه!

وخلفه في مسعاه أخ له يدعى يوسف، يعرفه اليمانيون لليوم (بسيدي يوسف الطلياني!) فكان ضغثاً على ابّالة. . .

أما في هذه السنين الأخيرة التي تحركت الأطماع المتوثبة في صدر إيطاليا الفاشستية فقد حفلت المكتبة الإيطالية اليمنية في هذه السنين بكتب نفيسة، وأسفار ما كتب الأخباريون مثلها حتى أصبحت بلاد اليمن وحياً لأقلام الإيطاليين دون غيرهم. ولقد كتبت في السنين

ص: 40

التالية كتب ومقالات وتقارير عجزت عن مثلها قرون مضت! ولولا الأنفاس الاستعمارية التي ترشح في هذه الكتب لكان الإيطاليون من أكثر الشعوب الأوربية التي أسدت فضلاً عظيما ومجهوداً جليلاً في خدمة التاريخ اليمني والتنويه بذكره في المؤلفات التي نشرها كل من المأسوف عليهما العلامة نللينو والسنيور غرِّيفيني مندوب الأمبروسيانا في ميلانو وغيرهم من الذين أفنوا أعمارهم وأحرقوا أدمغتهم في سبيل الثقافة العربية والتاريخ الإنساني العام. وكما وُجد منهم الخيّرون، وُجد منهم للفاشستية أنصار اتخذوا من العلم سلاحاً يحققون به أغراضاً معينة، ويخدمون أطماعاً متوثبة نحو البلاد التي تشقى بوطأتهم. من هؤلاء السنيور سلفاتوري آبونتي صاحب هذا الكتاب الذي لا يمكن بحال من الأحوال - ونحن نعرض لكتابه هذا - أن نغمط حقه أو ننكر فضله، وما أضفاه من الأثواب الزاهية على تاريخ اليمن ونشره في أرجاء الغرب؛ كما ننكر عليه ذلك الأسلوب الاستعماري الصارخ الذي أسقط هذا الكتاب كمؤلف علمي بحت

هذا الكتاب

هذا السفر الجليل الضخم طبعته ونشرته دار (موندا دوري) بميلانو في قرابة المائتي صفحة؛ محلى باثنتين وسبعين صورة تعد من أبدع الصور، منتزعة من صميم الحياة في سهل اليمن، تمثل الزعماء، والمدن، والقصور، والمعاقل، والجبال المغطاة بأشجار البن. . .

تبتدئ نقطة الرحيل والانطلاق إلى داخلية اليمن من ثغر عدن. ويحدثنا السنيور آبونتي بقصة طريفة قبل أن يبتدئ في مسيره، وذلك أنه عمد إلى صرة فملأها بنوع من العملة الفضية التي لا تزوج إلا في بلاد اليمن والحبشة: هذه العملة هي (ريال ماريا تريزا) أو (أبو طيرة)، وهو عبارة عن ريال ضخم حالك المنظر، قليل القيمة، محدود المنفعة؛ والإمام يحيى وشعبه لا يعرفون إلا هذا النوع من النقد ولا تروج عندهم الأوراق المالية مطلقاً!

ويبارح المؤلف أسوار عدن وينحو نحو الشمال، فتصافحه (أرض العبدلي) سلطنة لحج، فيراها غارقة في بحر من النخيل تحف بها بساتين العنب وأشجار الموز؛ وتبدو الحوطة عاصمة هذه السلطنة في منظر ساحر جذاب، ويزداد المرء إعجاباً بهذه الواحة الواسعة ذلك القصر العجيب المصبوب من المرمر الفاخر الناصع وقد فرشت على واجهته الأمامية

ص: 41

فوطة صفراء مكتوباً عليها بالحرف العريض - خوف الالتباس - هذه العبارة: (قصر السلطان عبد الكريم فضل بن علي محسن العبدلي!)

ويحدثنا المؤلف أن (العبدلي) يعيش في بلهنية من العيش وسمو في الحياة؛ يرجع إلى المرتب الضخم الذي يتقاضاه من الخزانة البريطانية إذ لا يهمه شيء في الحياة إلا العناية بقصوره وزخرفتها بضروب الزينات ثم الشغف العظيم بزرع المزروعات ونمو النباتات وإعطائها قسطاً عظيماً من عنايته واهتمامه. والإنكليز يعلمون منه هذا الميل فيتركونه يفعل ما يريد، لأن سلطنته تكون أهم جزء من المحميات علاوة على أنها موقع مهم يمكن موقع يمكِّن الإنكليز من بسط نفوذهم إلى أعلى النجود اليمنية.

وينحدر المؤلف من سلطنة لحج، فيزهاه سهل (المخا) وقبل أن يضرب على أبواب المدينة (العالية!) تعترضه مدينة (تَعِز) وضواحيها، وهي عبارة عن تفاريق من الفراديس المصطنعة؛ مكِّنت في سهل اليمن ولها منزلة خاصة في قلوب اليمنيين؛ فحوالي هذه المدينة ينبت أعظم (كيف) تترنح له أعطاف اليمنيين وتهفو له نفوسهم. هذا (الكيف) هو شجرة (القات) التي لعبت ومازالت تلعب دوراً خطراً في الحياة الاجتماعية اليمنية. ويحسن بنا أن نذكر العبارة البليغة التي وصف بها السنيور آبونتي هذه الشجرة الملعونة (ولا مؤاخذة أيها المواطنون!) فقد حللها تحليلاً كيماوياً استهلها بقوله:

(منذ قرون خلت وسكان هذا الجزء السعيد من بلاد العرب يمضغ أوراق القات. وأول ما عرف من أمره أن أحد الرعاة لاحظ أن إبله تمددت على وجه الأرض بعد أن أكلت من هذه الأوراق، وقد غمرتها نشوة من الراحة والانبساط، وسرت في مفاصلها تيّارات خفية أخمدت من حركتها، وشلت من عملها فأخذ يضربها ضرباً مبرحاً لتنهض وإذا بأتعابه تذهب سدى، والجمال أصبحت لا تحس بألم الضرب. فبهت من هذا الأمر الغريب ووقف ذاهلاً متحيراً لا يدري ماذا يصنع؛ وأخيراً بدا له أن يطعم هذه الورقة، فقطف منها شيئاً وصار يتناولها كل يوم وعند كل فراغ. ومن ذلك اليوم أقصيت الجمال (المسكينة) عن هذه الشجرة ووجدت لها مجالاً واسعاً إلى قلوب اليمنيين، فكان متعة نفوسهم في الأفراح والأتراح!

وليس في استطاعتنا تحديد طعم هذه الأغصان، ولكن يمكننا أن نعتبر طعمها حرِّيفاً مراً

ص: 42

يشبه شراب الكحول المشوب بالأفاويه وقد عبده اليمانيون عبادة مدهشة وتفانوا في محبته حتى أنهم ليصرفون في سبيله ما لا يصرفون في غذائهم الضروري وهم يمضغونه كل يوم في ساعات مختلفة من النهار؛ ولهم في طريقة جمعه حماسة غريبة؛ وتغمرهم في أثناء مضغه أمواج من الفرح والأنس، ويرون الدنيا به واسعة تشعُّ فيها ألوان مورّدة زاهية!

ويشعر الماضغ مبدئياً بنشوة مؤقتة، ولكن سرعان ما يعقبها ارتخاء في الأعضاء، وانحطاط في القوى، وهمود في العواطف يشبه التخدير. والإفراط فيه يسبب انقباضاً وميلاً دائماً إلى النوم. وآثاره لا تقف عند هذا الحد فقط، بل إنه يخمد الغريزة الجنسية، ويتسرب ماء الحياة من الرجل مختلطاً ببوله! وإذا بلغ الرجل دور الكهولة فقد فقد كل حيوية وانقطعت بينه وبين زوجه أسباب الاتصال!

ومع كل هذه الأضرار فاليمانيون لا يستطيعون أن يعيشوا في الوجود بدون قطف هذه الأوراق العجيبة! ومن الطبيعي أن هذا النبت الذي تنتجه اليمن لا يمكن أن يكون كله في مستوى واحد من القيمة والجودة. فالأغصان التي تنمو على منحدرات جبل صَبِر هي أفضلها وأجودها وقد كان لها في يوم ما ازدهار عظيم وسوق رائجة. . .

(يتبع)

محمد عبد الله العمودي

ص: 43

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود خفيف

وخيل لشريف باشا أن الأزمة في طريقها إلى الحل، ولو أنه اطلع على الغيب لعلم أنها كانت تتضاعف ويشتد خطرها لتتخذ في النهاية وضعها الذي سوف يغير تاريخ هذه البلاد!

لمح الصائدون في هذه العاصفة الفرصة المرتقبة! وهيهات أن يضيع هؤلاء فرصة طال بهم انتظارها؛ الخلاف قائم بين الوزارة والمجلس فليعملوا على زيادة هذا الخلاف وليدفعوا بالخديو ليخطو أول خطوة بعد يوم عابدين ضد الحركة الوطنية فيخسر بذلك الوطنيين والعسكريين جميعاً، ويفقدوا هم الثقة فيه نهائياً، بينما هو يقرب بذلك من الأجانب أو على الأصح يزداد قرباً منهم

ولن يعدم الإنجليز وحلفاؤهم أن يخلقوا ألف مبرر لما يفعلون؛ ومن أيسر الأمور عليهم أن يعلنوا أن البلاد تشيع فيها الفوضى، وأن الأجانب ومصالحهم تكتنفهم الأخطار من كل صوب، وأن الخديو بات يخشى على عرشه ولا مخرج له مما هو فيه، بل ولا مخرج لمصر مما هي فيه من خلل وارتباك إلا أن يضرب على أيدي الثائرين المفسدين في الأرض

ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أنهم بينهم وبين أنفسهم غيرهم بينهم وبين الشعوب الشرقية؛ فهم لا يقبلون من هذه الشعوب ما يعدونه عندهم من مفاخر الإنسانية، وأنهم ليرمون أهل هذه الشعوب بأشنع التهم وأقساها؛ فالتألم من المظالم التي تنصب على رؤوسهم تمرد، والسعي إلى الحرية فوضى وهمجية، والدفاع عن البلاد وذب الدخيل عنها وحشية وإجرام! على أن هذه هي سنة الحياة بين القوى والضعيف منذ كان الإنسان يتخذ سلاحه من الحجر وينحت مأواه في الجبل. . .

ولقد كانت الدولتان تعملان على الكيد للحركة الوطنية في مصر قبل انعقاد المجلس، وكانت

ص: 44

بينهما مراسلات في هذا الصدد؛ فكانت فرنسا هي المحرضة هذه المرة. فرنسا التي كانت سياستها منذ فشل الحملة الفرنسية تدور على مناوأة النفوذ الإنجليزي في مصر!

ولي المسيو ليون غمبتا أمر وزارة الخارجية في فرنسا في شهر ديسمبر عام 1881، فسرعان ما اتصل بوزير خارجية إنجلترا اللورد جرانفيل محدثاً إياه في شأن مصر مبيناً له وجوب تضامن الدولتين في العمل إزاء ما يجري هناك من أمور

وحار جرانفيل أول الأمر ماذا يجيب به على هذه الدعوة، فهو إن قبلها أصبح مقيداً بالعمل مع فرنسا، وان رفضها قطع على دولته الطريق وجعل لفرنسا المكان الأول في شؤون مصر وتلقى جرانفيل من مصر أنباء فاجرة مالت به إلى الطريق التي اختارها. كانت مشكلة ميزانية الجيش لا تزال قائمة بين عرابي والمراقبين، فأرجف المرجفون أن عرابياً يعتزم القيام بثورة جديدة لقلب وزارة شريف وتنصيب البارودي مكانه وكتب السير إدوارد مالت وهو رجل مسؤول إلى اللورد جرانفيل يشكو من تدخل عرابي ويتساءل في لهجة ساخطة برمة: كيف يستطيع شريف أن يرأس الحكومة مع وجود عرابي صاحب النفوذ الفعلي في البلاد؟ وهكذا يسمح هذا الرجل لنفسه أن يكذب فيرمي عرابياً بما هو برئ منه ولا يتورع بعد ذلك أن يكتب إلى رئيسه ينبئه بخضوع عرابي لرأي المراقبين، ولكن جرانفيل كان قد خطأ نحو فرنسا بناء على الأخبار الأولى خطوة لا يمكنه النكول بعدها.

وكتب كلفن كذلك إلى جرانفيل يقول: (والحقيقة أن الإدارة المصرية شركة ثلاثية، فإذا لم تكن الدول على استعداد لتعديل نصيبها فعليها أن تحافظ عليه وتقويه في هذا الوقت الذي أصبح فيه المصريون في حال تطور وانتقال). هذا عدا ما ذكره في تقريره عما يتوقعه من خطر إذا زيدت سلطة المجلس، وثبتت قواعد الدستور المصري

وكان مستر بلنت قد أرسل برنامج الحركة الوطنية إلى جريدة التيمس، وفيه أقوى حجة على براءة هذه الحركة من عناصر الثورة أو المساس بحقوق الأجانب المالية؛ وكان يأمل بلنت وأصدقاؤه من الوطنيين أن يكون لنشر هذا البرنامج أثره الحسن في نفس جرانفيل، ولكنه نشر في أول يناير سنة 1882 بعد أن نفذ السهم، فلقد وافقت إنجلترا على وجهة نظر فرنسا في يوم 31 ديسمبر أي عقب اجتماع المجلس بخمسة أيام

وخطا شريف باشا في تلك الأثناء خطوة حكيمة فأعلن بياناً يشير فيه إلى منهاج حكومته،

ص: 45

فذكر أنها تقوم على أساس الاعتراف بحقوق السلطان والامتيازات التي حصلت عليها مصر والاعتراف بالخديو كحاكم دستوري، والتسليم بقاعدة المراقبة الثنائية ثم إنكار كل اتجاه ثوري، منح الحرية الدينية والسياسية لجميع سكان البلاد والسير على قاعدة الحكومة المسؤولة أمام مجلس نيابي

ولن يكون في الإمكان يومئذ السير على منهاج خير من هذا المنهاج الحكيم الذي كان خليقاً أن يبعث الطمأنينة في نفوس الساسة من الدولتين؛ وكذلك لم يكن هناك برهان على حسن نيات الوطنيين أقوى مما نشرته التيمس لمستر بلنت وهو شاهد عدل من الإنجليز على المصريين

ولكن المسألة لم تكن مسالة اقتناع وإنما كانت نية مبيتة، وهيهات أن تجري الأمور في السياسة على الإقناع والاقتناع، فدوافع الأقوياء إلى العمل في ذلك المضمار أطماعهم وبرهانهم أسلحتهم، وما يكون الكلام إلا تعلة الضعيف. وما أشبه كلام الضعفاء مثل هذه المواقف بصراخ الفريسة قبل تمزيقها

ويذكر مستر بلنت في كتابه سبباً لانحياز إنجلترا إلى فرنسا؛ فيقول إن إنجلترا كانت تسعى إلى عقد معاهدة تجارية مع فرنسا فيها فائدة كبيرة للتجارة البريطانية؛ ومن أجل ذلك هاودت إنجلترا فرنسا وطاوعتها فيما تقترح في شؤون مصر فباعت إنجلترا بذلك مصر إلى فرنسا

وما نظن إنجلترا كانت من الغفلة بحيث تتنازل عن أغراضها في مصر من أجل مثل هاتيك المعاهدة التجارية، وإنما الذي نفهمه أن إنجلترا كانت تراوغ فرنسا لتفوز بهذه المعاهدة ثم تقف من فرنسا بعد ذلك فيما يتعلق بمصر موقف الاتفاق في الظاهر، بينما هي في الباطن تعمل وفق ما تمليه عليها أطماعها. ومما يؤيد ذلك التحفظ الذي أبدته أنجلترا وأقرته فرنسا ومؤداه:(أن الحكومة الإنجليزية يجب ألا تعد بسبب هذه المذكرة مقيدة بسلوك خطة عمل خاصة إذا ما بدا لها أن العمل ضروري)، ولسوف نرى من سياسة إنجلترا في مصر ما يؤيد ما نقول

تم الاتفاق بين الدولتين، وكان المجلس في مصر كما تقدم يخالف الوزارة في مسألة الميزانية، وكان العقلاء من الوطنيين يعملون على الخروج من المأزق بالحسنى، ولاحت

ص: 46

في أفق السياسة بوادر انكشاف الغمة

وما أشد ما نحسه من ألم وغيظ أن نذكر بعد ذلك أن البلاد ما لبثت أن تلقت من الدولتين في يوم 8 يناير سنة 1882 تلك الصيحة المشؤومة التي سميت بالمذكرة المشتركة، والتي قل أن نجد في التاريخ السياسي لا ولا في الخرافات التي تحكي للأطفال على مثال أوضح منها لتحكم القوى في الضعيف واستهتاره به في غير حياء أو تحرج، وحسبك أن تقرأ مثل هذا الكلام الذي بعثت به إنجلترا وفرنسا زعيمتا الحرية والديمقراطية! جاء في المذكرة:(أن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تريان أن بقاء سمو الخديو على العرش بالشروط التي قررتها الفرمانات السلطانية واعترفت بها الحكومتان رسمياً هو الضمانة الوحيدة في الحاضر والمستقبل لاستتباب النظام في مصر واطراد رخائها، وهما الأمران اللذان تهتم بهما فرنسا وبريطانيا العظمى. وأن الحكومتين اللتين اتفقتا اتفاقاً تاماً في عزمهما على أن تمنعا كل أسباب الارتباك الداخلية والخارجية التي يمكن أن تهدد النظام القائم بمصر، لا يداخلهما ريب في أن جهرهما بما عزمتا عليه رسمياً في هذا الأمر سيحول دون الأخطار التي قد تتعرض لها حكومة الخديو والتي لابد أن تقاومها فرنسا وإنجلترا معاً، وأن الحكومتين لتثقان بأن سموه سيستمد من هذا التأكيد ما يحتاج إليه من الثقة والقوة لتدبير شؤون بلده وشعبه)

وأي كلام يمكن أن يعبر عما تنطوي عليه هذه المذكرة من لؤم وفجور؟ ما معنى الإشارة إلى بقاء سمو الخديو على العرش؟ وما شأن الدولتين حتى تهتمان بهذا الأمر؟ وبأي حق تضطلعان بمنع أسباب الارتباكات الداخلية والخارجية؟ وعلى أي أساس يقوم ادعاؤهما وجود هذه الارتباكات؟ وكيف يجوز أن يعتمد الخديو عليهما ويستمد الثقة منهما؟

هذه هي المذكرة المشتركة التي أشار إليها بلنت بقوله: (هذه المذكرة المشؤومة التي يرجع إليها كل ما حدث من المتاعب في خلال ذلك العام والتي أفقدت مصر حريتها كما أفقدت غلادستون شرفه وأفقدت فرنسا نفوذها على جانبي النيل)

ولا تسل عما أحدثته هذه المذكرة الحمقاء من سوء الأثر في مصر لقد بلغ من إثارتها الشعور وإحراجها الصدور أن نقم عليها ما ليت وكلفن وتمنيا لو لم تكن؛ وقد كانا يريدان ألا تكون بمثل هذه الصراحة الطائشة

ص: 47

وكانت النتيجة الطبيعية أن انضم المعتدلون من رجال الحركة الوطنية إلى العسكريين، وهو عكس ما كانت تنتظره الدولتان في غباء مضحك، ورأي العنصر أن الشبح الرجعية المسلحة، بل رأوا الغدر الأثيم يتهدد قضيتهم. وانبعثت الصيحات من كل مكان أن إنجلترا قد ألقت بنفسها في أحضان فرنسا، وأن فرنسا تريد أن تصنع بمصر ما صنعته بتونس، ولذلك يجب الاتجاه إلى السلطان والمناداة بمبدأ الجامعة الإسلامية لمقاومة هذه الحركة الأثيمة

وضاع كل أمل في تهدئة الخواطر؛ فأصر مجلس شورى النواب على موقفه في وجوب نظر الميزانية ورأى شريف في المجلس إجماعاً ضده وحماسة ما رأى مثلها من قبل. ولقد رغب جرانفل في ملاينة الأعضاء في هذه النقطة كأنما أراد أن يعالج بعض خطئه، ولكن غمبتا رفض ذلك بحجة أنه يسقط من هيبة الحكومتين أمام الوطنيين. وما أعجب أمر هذا الرجل الذي يظن أن الهيبة تكتسب بالحماقة! على أن جرانفل ما لبث إن شايع غمبتا في حماقته، فلقد كتب إليه مالت يقول:(إن المجلس باق وسيظل باقياً ما لم يحل بالقوة؛ وهذا أمر لا يكون إلا بتدخل الذي هو آخر سهم في كنانتنا والذي لا يسوغه أبدا ما قد يكون من خرق قانون التصفية. . . إني أعترف أني أفضل أن يعطى المجلس ما يطلبه من الحق وألا نتدخل حتى يسئ استعمال هذا الحق. ويجب ألا ننسى أن الأمة المصرية قد أخذت تسلك طريق الحكم النيابي خيراً كان ذلك أو شراً، وان قانون المجلس الأساسي هو صك حريتها). . هذا ما ذكره ماليت نفسه ولكن جرانفل لم يعبأ به وأرسل إلى غمبتا ينبئه بموافقة الحكومة الإنجليزية على آرائه. ونسي جرانفل أو تناسى أنه كتب إلى مالت قبل ذلك بنحو شهرين يقول له مشيراً إلى حرية المصريين الوليدة: (إن الحكومة الإنجليزية إذا ما رغبت في نقص تلك الحرية أو العبث بتلك النظم التي يرجع وجودها إليها فقد اتبعت سنة تخالف أجمل تقاليد تاريخها الوطني. . . ليس من شيء يحملنا على سلوك خطة أخرى غير قيام حالة فوضوية في مصر). فليت شعري ما الذي حدث في مصر حتى تخالف إنجلترا على هذه الصورة أجمل تقاليد تاريخها الوطني؟ وحاول شريف أن يحصل من الدولتين على مذكرة تفسيرية يستعين بها على تسكين الخواطر، فرفض غمبتا حتى هذه المذكرة وعاد جرانفل فشايعه في هذا مشايعة عمياء على الرغم من نصح الناصحين من

ص: 48

الإنجليز والوطنيين!

ولست أدري كيف كانت ضمائر هؤلاء الساسة تطاوعهم مع هذا على أن ينعتوا رجال مصر بالفوضى وأن يصوروهم أطفالاً في السياسة لا يدرون ما يأخذون مما يدعون؟ ولكن ما لي أذكر الضمائر والحديث حديث السياسة وجشع السياسة؟

وضاقت بشريف السبل فلم يدر ماذا يفعل، ووقفت السفينة لا تستطيع حراكاً، والريح تدوي من حولها وليس في الجو بارقة أمل، والنواب لا يفتر إصرارهم ولا تنقطع زمجرتهم

وعاد مالت يحذر جرانفل فقال في صراحة: (إن التدخل المسلح يصبح أمراً محتوماً إذا ما تشبثنا بمنع المجلس من التصويت على الميزانية، ومع ذلك فجميع الحكومات تهتم بمنع ما يوجب هذا التدخل الذي إذا أقدمت عليه الدولتان وحدهما أدى إلى سوء المنقلب في هذا البلد)

وعلى الرغم من ذلك كله أبلغت الحكومة المصرية رسمياً يوم 20 يناير سنة 1882 أن المجلس لن ينظر في الميزانية إلا إذا أخل بالأوامر العالية التي أنشئت بمقتضاها المراقبة الثنائية

ولما وجد النواب شريفاً يميل إلى موافقة الدولتين، سار وفد منهم إلى الخديو فطلبوا عزله، وتعيين رئيس للوزارة يستطيع أن يسير مع نواب البلاد سياستهم

وسقطت وزارة شريف، وحلت محلها وزارة البارودي في يوم 5 فبراير سنة 1882، وهي الوزارة التي سوف تعرف باسم وزارة الثورة

(يتبع)

الخفيف

ص: 49

‌نقل الأديب

للأستاذ ممد إسعَاف النشاشيبي

428 -

الكهربية بين النفوس

قال علي بن محمد الحلواني: حدثني خير قال: كنت جالساً يوماً في بيتي فخطر لي خاطر أن أبا القاسم الجنيد بالباب اخرج إليه، فنفيت ذلك عن قلبي وقلت: وسوسَة، فوقع لي خاطر ثان فنفيته، فوقع خاطر ثالث، فعلمت أنه حق وليس بوسوسَة، ففتحت الباب. فإذا أنا بالجنيد قائم، فسلم عليّ وقال: يا خير ألا خرجتَ مع الخاطر الأول؟

429 -

ونفست علينا أن نتكلم

في (البيان والتبيين): كان نافع بن علقمة خال مروان والياً على مكة والمدينة، وكان شاهراً سيفه لا يغمده. وبلغه أن فتى من بني سهم يذكره بكل قبيح، فلما أتى به وأمر بضرب عنقه، قال له الفتى: لا تعجل على، ودعني أتكلم. قال: أو بك كلام؟ قال: نعم وأزيد. يا نافع، وليت الحرمين تحكم في دمائنا وأموالنا وعندك أربع عقائل من العرب، وبنيت ياقوتة بين الصفا والمروة (يعني داره) وأنت نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرث أحسن الناس وجهاً وأكرمهم حسباً، وليس لنا من ذلك إلا التراب، فلم نحسدك على شيء، ولم ننفسْه عليك، ونفِست علينا أن نتكلم!

فقال: تكلمْ حتى ينفك فكاّك.

430 -

أصنع من حصونك

كتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم: خذ أهل عسكرك بتلاوة القرآن فإنه أمنع من حصونك.

431 -

مالك من اله إلا الله

(مفاتيح الغيب) للرازي: جاء في كتاب (ديانات العرب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن حصين: كم لك من إله؟

قال: عشرة

قال: فمن لِغمّك وكرْبك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم؟

ص: 50

قال: الله

قال عليه السلام: مالك من إلهٍ إلا الله

432 -

وحور عين. . .

في (روض الأخيار): الأصمعي: رأيت دكاناً فيه أنواعُ الطيور المشوية، وأنواع الفواكه، وامرأة في غاية الجمال فقلت:(وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون).

فقالت بالفور: (جزاء بما كانوا يعمَلون)

433 -

هذه القلعة بنيت لأولادك

في (صبح الأعشى): من غريب ما يحكى أن السلطان صلاح الدين رحمه الله طلع إلى القلعة ومعه أخوه العادل أبو بكر فقال السلطان لأخيه العادل: هذه القلعةُ بُنيت لأولادك فثقل ذلك على العادل، وعرف السلطان صلاح الدين ذلك منه فقال: لم تفهم عني، إنما أردت أنى نجيب فلا يكون لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فيكون أولادك نجباء، فسرَّى عنه. وكان الأمر كما قال السلطان صلاح الدين، وبقيت خالية حتى ملك العادل مصر والشام، فاستناب ولده الملك الكامل محمداً في الديار المصرية، فسكنها:

434 -

وأرى نساء الحي غير نسائها

أبو الحسن علي بن أحمد الغالي:

لما تبدلّتِ المنازلُ أوجهاً

غيرَ الذين عهدتُ من علمائها

ورأيتها محفوفةً بسوي الألي

كانوا ولاة صدورها وفنائها

أنشدتُ بيتاً سائراً متقدّماً

والعين قد شرقت بجاري مائها:

(أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحيّ غير نسائها)

435 -

في أي مدينة؟

في (منهاج السنة): يوسف بن غز أو غلي (صاحب التاريخ المسمى مرآة الزمان) - يذكر في مصنفاته أنواعاً من الغثّ والسمين، ويحتج في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة؛ وكان يصنف بحسب مقاصد الناس: يصنف لهؤلاء ما يناسبهم ليعوضوه بذلك،

ص: 51

ويصنف على مذهب فلان لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقتهُ طريقةَ الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟

قال: في أيّ مدينة؟

431 -

خبر ما في الدنيا

مُعاذ بن جبل: ليس في الدنيا خير من أثنين: رغيف تشبع به كبداً جائعاً، وكلمة تفرج بها عن ملهوف

437 -

حضرنا ملاك الوالدة. . .

في (الغرر الواضحة) لإبراهيم بن يحيى الوطواط: قال أبو هريرة الشاعر المصري: خرجت يوماً إلى (بركة الحبش) بمصر متنزهاً في أيام الربيع حين أخذت الأرض زخرفها وازينت، ومعي آنية شراب وكتاب، وكانت تلك عادتي في كل سنة، فجعلت أشرب وأنادم كتابي طول يومي. فلما كادت الشمس تغرب، وتُلمح في أجنحة الطير أخذت في الانصراف إلى منزلي وأنا ثمِل. فبينما أنا أمشي إذ خرج فارس من مصر متلثماً لا يبين من وجهه غير عينيه، فسلّم وقال: من أين أقبل الشيوخ؟

فقلت في نفسي: أُجنَّ الرجل؟ ومن يرى معي؟ فالتفتُّ فإذا خلفي قطيع من التيوس فقلت: حضرنا ملاك الوالدة أصلحك الله! فضحك وانصرف.

ولما كان بعد أيام دخلت إلى الأمير (تكين) في حاجة فقَضاها لي، وأسرني بألف درهم وقال: هذا حقُّ حضورك ذاك الملاك. فعلمت أنه هو الذي لقيني، فأخذتها وانصرفت

بركة الحبش هي التي يقول فيها أمية بن أبي الصلت:

لله يومٌ ببركة الحبش

والأفق بين الضياء والغبش!

والنيل تحت الرياح مضطربٌ

كصارمٍ في يمين مرتعش!

ونحن في روضة مُفوَّفة

دبج بالنور عطفها وَوُشى!

وأثقلُ الناس كلهم رجلٌ

دعاه داعي الصِّبا فلم يطش

فاسقني بالكبار مترعةً

فهنّ أشفى لشدة العطش

ص: 52

‌الرَّجع البعيد

للأستاذ محمود الخفيف

إيه قَيْثارتي تَغِّني. . . أعيدي

لحْن ماضِيَّ واشتَكي من جديدِ

جَدَّدَتِ جدَّةُ الزَّمانُ هيامِي

وأثارَ الرَّبيعُ ذِكرَى عُهودي

رَدِّدي في الغنَاءِ أحلامَ أمسِي

عَلَّ في الذكرَياتِ رَوحاً لنفسي

جدَّدي اللحن كم خدعتُ فُؤادي

بِسَرَابٍ من المُنى والتَّأسِّي

هَدْهدِي مُوجعاً صحافي الضلوع

وهفا اليوم بعدَ طولِ الهجوعِ

راح يَسْتافُ في الرُّبوعِ نَسيماً

في شَذاهُ عهود تلك الرُّبوعِ!

أتَسَلَّى يَا وَيْلَتَا بِغِنائِي

ومن الدَّاءِ أسْتمِدُّ دَوَائِي!

لُذْتُ بالوَهمِ والتَّجمُّلِ حيناً

لمْ أُصِبْ فيهِما أَقَلَّ شِفَاءِ

ما لهَذي الملاعبِ الخُضر تُوحِي

خطَرات أغرَقْن في الوهم روحي

كُنَّ بالأمس والمُنى نَضِرات

مبعث السحر والهوى والطموحِ

ضقت بالروض أنقل الخطو وحدي

بين زَهْرٍ به وَضَاحِكِ وَرْدِ

صوَرٌ في الضُّحى يَزِدْنَ عذابي

وَمعانٍ يُثِرْن كامن وَجدِي!

خَيَّلَتْ جنَّتي لقلْبِي الشريد

وَحْشة البِيدِ في القَفار المَديدِ

وغَدَا لَحْنِيَ المُرَدَّدُ فِيها

بعد موْت المُنى كرَجْعٍ بَعيدِ!

يا بناتِ الهَدِيل رَدِّدْنَ لحْنِي

وخُذِي الشوْق والتفجُّع عِّني

أنا أشْجى بُكاً وأصدَق وَجْداً

وأَفُوقُ الهَدِيلَ زَوْعةَ فنِّ

يا صِحابِي لا تُنكروا اليوم سَجعي

أتَمَّنى لو كان قَلْبِيَ طَوْعِي

سأُسَرِّي عن مُهجتِي يا رِفاقي

ساعةَ الشوْق ثمَّ أحبِسُ دَمعي

ساعة الشوق؟ فيم يا نفس شوْقي؟

تَعِب القلب بين يَأسٍ وَخفقِِ

حسبك اليوم من زمانك ذِكرَى قَبضةُ الدَّهر غيرَها ليس تُبقِي

أينَ من كنتُ لا أرى لوُجودِي

أملاً دونَها وأيْنَ عُهُودِي؟

أينَ أيَّامِيَ التي ذُقْتُ فِيها

فوق هذا الثَّرَى نَعيمَ الخُلودِ؟

هَجَرَت أيْكها الحَمامَة عَجْلَى

فذَوَى الأيْكُ والرَّبيعُ تَولّى

ص: 53

أَوحش الروض واستحالت قتادا

زَهراتٌ عدِ مْن في الهجر طَلاّ

زَهَراتٌ نجيعُ قلبي كَساها

رَوْعةَ السحر والوَفاءُ سَقاها

نَبَتَت وَهْيَ طفلة فَرَعتْها

وَشبَبْنا فأَوْدَعَتْها شذاها

صرَّحت وهْي غَضَّة زَهراتي

قبل أن ينطوي رَبيعُ الحياةِ

كم يَغيظُ الفؤادَ قَوْلٌ مُعادٌ

كلّ حُسْنٍ مصيره للِممات!

الصباحُ النَّدِيّ يُوحِي البُكاَء

والأصيلُ الرَّخِيُّ يَحكِي الفَناَء

ولريحِ المَساءِ حَوْلِيَ نَوْحٌ

لم يُطِقْ مِسْمَعِي له إصغاَء!

الربيعُ الضحوكِ عيدٌ لغيْرِي

أبطَلت فيه وحْشتي كلِ سحرِ!

لا الأغانِي به أغانِي رَبِيعِي

لا ولا العِطر فيه سالف عطرِي

كل حُسنٍ به يُلذِّعُ قلبِي

وهْوَ بالأمس كان فِتنةَ لُبِّي

أرأيتَ اليتيمَ في يومِ عِيدٍ

حائرَ الدمّع بين حبس وسكبِ؟

فَرحةُ العيدِ في وجوه الصحابِ

حوله كم تُذيقُهُ من عَذابِ

يَتأَذَّى، فإن تَغَابَى لَدْيهم

لَبِسَ الذّل كله في التَّغابي!

عرَف اليُتمُ وَهْو غِرٌّ جفاني

ودهاني من يُتمهِ ما دَهانِي

وتغابَى، يا لَيْتَهُ ما تغابَى

ثُمَّ نادَاهُ أمسُهُ فَعصانِي!

الخفيف

ص: 54

‌ترانيم وتسابيح

من وادي الشمس!

(إلى نورها الساهم الحزين)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

تَعالَيْ يا ابْنَةَ. . .

ويا فَرْحَةً أًيَّامِي!

تَعالَيْ نَمْلأ الأقدا

حَ من شِعْري وأَنْغامِي!

ونَسْقِ الزهْرَ والأطيا

رَ من سِحْرِي إلهامِي. . .

فَزَهرُ الرَّوْضِ نَشْوَانُ

ومَوْجُ النهْرِ سَكرَانُ

وشَدْوُ الطَّيْر فرْحانُ. . .

وأنتِ الفرْحةُ الكُبرَى

لِتغْرِيدِي وأَحْلامِي

فَهَيّا نَسبِقُ النُّورَ

لهذا المَلْعبِ السّامِي!

تَعالَيْ وانظُرِي صَفْوي

وأَسْمَارِي مع الوادِي

وُعرْسَ الشمسِ في الدُّنيا

على مِحْرابِ أجْدادِي

وسِحْرَ النِّبلِ والمَوْجُ

عليه رائحٌ غَادِ. . .

فَوَادي الشمسِ فَتَّانُ

وَشادِي الحُسنِ لَهْفَانُ

وهذا القَلبُ ظَمْآنُ. . .

وأَنتِ الكأسُ والخمْرُ=لرُوحِ البُلبُل الشَّادِي

فَهَيّا أَسِعدِي الكَوْنَ=بِأَعرَاسِي وأعْيادِي!

محمود حسن إسماعيل

ص: 55

‌راعية الغنم

(مهدأة إلى راعي الراعية)

للآنسة جميلة العلايلي

يا رمز جبريل في الدنيا وعائشة

بين الأنام بقلب ملؤه جمر

ودعت دنياك كالنساك راغبة

عن الوجود وعيش كله شر!

ودعت أحلامها في غير ما أسف

ماذا دهاك! ألا أمر له سر!

كيف ارتضيت حياة القفر هانئة؟

وكيف أغراك ذك المهمة لوعر؟

علَّ المراعي التي طابت مغارسها

سعى إليك بها الإيناس والبشر؟

أتسمعين ثغاء في جوانبها

أم تسمعين غناء بعضه سحر؟

ومن عجائب ما شاهدت راعية

تقسو عليها الليالي، وهي تفتر؟

أتلك راعية في القفر ضاربة؟

أم روضة رفّ فيها الزهر والنور

قد لفها النور في أبهى غلائله

وزانها المغريان النبل والطهر!

يا ربة الغنمات البيض طالعة

بين المروج كما قد يطلع الفجر

دنياك، دنياك ما أندى مخاضرها

وما أحب رباها إنها شعر!

كأنما أنت إذ تبدين عاطرة

روض تنفس في أبحائه الزهر

يا ربة الغنمات البيض تكلؤها

عين السماء ويزكو عندها البر

قفر حياتك لكن حين ألمسها

يكاد ينشق روضاً ذلك القفر

وحيدة أنت في دنياك راضية

بما تجئ به الأقدار والدهر

يا حبذا القفر دهر للتي سئمت

كل الأباطيل ممن ودهم غدر!

(المنصورة)

جميلة العلايلي

ص: 56

‌رسالة العلم

كيف ظهرت الحياة على الأرض؟

للأستاذ نصيف المنقبادي

أثبتنا في مقالاتنا أن الحياة ظاهرة مثل باقي ظواهر الطبيعة، وأن تقسيم ما في الطبيعة إلى كائنات حية وإلى جمادات إنما هو تقسيم اصطناعي سطحي لا يستند إلى الواقع، وتنفيه نواميس الطبيعة الأساسية المقررة في علوم الميكانيكا والطبيعية والكيمياء، إذ لا يوجد فرق جوهري بين الأحياء وبين الجمادات. فجميع ظواهر الحياة أو ما كانوا يسمونه بمميزات مثل الشكل النوعي والتركيب الكيميائي والتغذي والتنفس والنمو والتأثر والتحرك الذاتي، كل هذه موجودة بلا استثناء ولكن مبعثرة ومشتتة في الجمادات، وكل ما في الأمر أنها إذا اجتمعت في جسم واحد قيل عنه إنه كائن حي

وقد بينا بالأدلة والمشاهدات العديدة أن الأحياء خاضعة في أمورها وأحوالها وجميع ظواهرها لنواميس الطبيعة وفي مقدمتها ناموسا عدم تلاشي المادة وعدم تلاشي الطاقة، وأثبتنا بالاختبارات والأرقام أن جميع مظاهر الحياة ووظائف الأعضاء وحتى التفكير والقوى العقلية، ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء أو بالأحرى الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء، وما عهد القراء ببعيد بالتجارب والاختبارات الحاسمة التي قام بها أتووتر وبينيدكت وغيرهما من الفسيولوجيين بواسطة ذلك الكالوريمتر الكبير الذي شرحناه في إحدى المقالات السابقة فلا حاجة إلى التكرار، وكذلك الأجهزة الدقيقة التي تدل على ازدياد حجم المخ قليلاً مدة التفكير بورود كمية من الدم إليه، كما تدل من جهة أخرى على ارتفاع درجة حرارته مما يقطع بأن القوى العقلية تستهلك كمية من الطاقة الغذائية، وأنه ليس لها أيضاً إلا مصدر واحد وهو هذه الطاقة وليس شيء آخر سواها

وما دام الأمر كذلك فيمكننا أن نقول مقدماً إن أصلها وكيفية ظهورها على الأرض لابدّ أن يرجع إلى أسباب طبيعية، فهي ظهرت كما ظهرت أجسام أخرى كالمواد المبلورة وغيرها وكما نشأت الجبال والبحار وتكونت طبقات الأرض المختلفة وما تحتويه من مناجم الفحم والمعادن المتنوعة كل ذلك بفعل العوامل والنواميس الطبيعية

غير أن العلماء كانوا فيما مضى، قبل قيام الاكتشافات العظيمة الحالية في البيولوجيا

ص: 57

والفسيولوجيا وباقي علوم التاريخ الطبيعي، حيارى لا يدرون كيف يعللون كيفية ظهور الحياة على الأرض والتفسير العلمي الصحيح

فقال فريق منهم في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل القرن التاسع عشر، منهم بوفون ومحررو دائرة المعارف إذ ذاك، ومنهم لامارك السابق لداروين في تأسيس مذهب التطور والتسلسل. قال هؤلاء إن الكائنات الحية الأولية تولدت ذاتياً من الجمادات، وهو مذهب التولد الذاتي المشهور، بل إن بعضهم بالغ في ذلك إلى الزعم بأن الأحياء السفلى الحالية مازالت تتولد الآن من الجمادات، كما يعتقد العوام خطأ بأن كثيراً من الديدان والحشرات تتولد ذاتياً من تلقاء نفسها في المواد القذرة والعفنة والمتخمرة. وقد أساءت هذه المبالغة وهذا الخطأ إلى المذهب المذكور على ما هو عليه من الوجاهة وكانت السبب في سقوطه في بادئ الأمر وقد جاءت أبحاث باستور واكتشافاته الجديدة التي قام بها في ذلك العهد تنفي - في الظاهر - ذلك المذهب وتثبت استحالة تولد الكائنات الحية الآن من الجمادات، بمعنى أن كل كائن حي مهما سفل نوعه لابد أن يتولد الآن من كائن مماثل له. وكان في الوقت نفسه قد فشلت في ذلك الحين المحاولات التي قام بها بعض الكيميائيين البيولوجيين لتركيب المواد الزلالية ولو البسيطة منها اصطناعياً. فاتخذ خصوم ذلك المذهب - مذهب التولد الذاتي - من هذا كله أسلحة لمحاربته وقتلوه في مهده.

لهذا فكر بعض العلماء أن يأتوا - بمحض خيالهم - ببذور الحياة من عوالم أخرى ففرضوا أنها تنتقل في صورة ذرات صغيرة جداً في الفضاء الكوني من بعض الكواكب إلى البعض، ومتى سقطت على كوكب صالح للحياة تنمو وتتولد منها الكائنات الحية البسيطة ثم المركبة. وبالغ أحدهم وقال إن تلك الجراثيم الكونية لا تؤثر فيها الحرارة - حرارة الكواكب الملتهبة وحرارة الشهب والنيازك التي تحملها أحياناً وتسقط بها على الكواكب والسيارات مثل الأرض وغيرها - وقد سماها أي الأحياء النارية.

ولكن هذه الفروض التخمينية فضلاً عن أنها خيالية محضة لا تستند إلى دليل علمي؛ فإنها لا تحل الأشكال بل تبعد حله بأن تنقله من أرضنا إلى عوالم أخرى. إذ لنا أن نتساءل: وكيف وجدت الحياة في تلك العوالم الأخرى التي انتقلت إلينا منها الجراثيم الحية؟ ويبقى علينا أن نبحث في أسباب وظروف تكوين تلك الجراثيم في باقي الكواكب والسيارات.

ص: 58

وفوق هذا فإن تلك الفروض التخمينية مخالفة لروح البحث العلمي؛ لأنه إذا كان الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسوجين وبعض المعادن الأخرى التي تتركب منها المواد الحية قد امتزجت طبيعياً وكونت تلك المواد في العوالم الأخرى فلماذا - وهي موجودة جميعها على الأرض - لا تمتزج هنا أيضاً وتولد المادة الحية كما فعلت في غير الأرض؟ أليس أساس كل علم أن نفس الأسباب تنتج نفس النتائج؟

لهذا كله وجب علينا أن نواجه الحقائق العلمية في حد ذاتها على ضوء الأبحاث والاكتشافات الحديثة وغير متأثرين بالآراء والمذاهب القديمة الموروثة، وأن نرجع إلى الحالة التي كانت عليها الأرض وقت ظهور الحياة لنستخلص من ذلك مصدرها - أي مصدر الحياة - وكيفية نشوئها وأسباب ذلك. وهذا ما أخذه العلماء على عاتقهم في الخمسين سنة الأخيرة.

قلنا إنه ما دامت الحياة ظاهرة طبيعية فلا بد أن تكون ظهرت على الأرض بفعل العوامل الطبيعية وهذا هو الواقع.

الواقع أن مواد الأجسام الحية النباتية والحيوانية تشتق رأسا الآن من الجمادات، وتتكون منها مباشرة في كل لحظة أمامنا، وعلى مرأى منا. فمن أين جاءت المواد الحية التي تبنى بها أجسامنا منذ تكوينها من بويضة صغيرة جداً لا ترى إلا بالميكرسكوب؟ لا شك في أنها تكونت من الغذاء. وقد بينا في المقالات السابقة أن المواد الغذائية تشتق من الجمادات وتتكون منها، فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى بالحيوانات النباتية وهذه تتغذى من النباتات، والنباتات تركب أنسجتها وتحصل على غذائها من الجمادات، فمادتها الخضراء (الكلوروفيل) تستعين بطاقة الشمس الإشعاعية وتحلل غار حمض الكربونيك المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون وتمزجه بالماء فتؤلف منه السكر والنشا ثم الأحماض والقلويات العضوية والمواد الدهنية. وفي الوقت نفسه تمتص جذورها التراكيب الآزوتية من الأرض ذائبة في الماء وتمزجها بالمواد الكربونية المذكورة بفعل قوة الشمس أيضاً فتنتج المواد الزلالية الموصوفة بالحية. وهكذا تتركب الآن باستمرار جسام الكائنات الحية من الجمادات المنتشرة في الجو وعلى الأرض بفعل قوة الشمس وبواسطة الكلوروفيل.

وقد توصل الكيمائيون إلى تركيب الكثير من المواد العضوية النباتية والحيوانية من الجماد

ص: 59

رأساً كما تفعل الطبيعة، فنجحوا مثلاً في الحصول اصطناعيِاً على المواد السكرية والنشوية المختلفة وعلى معظم المواد الدهنية وعلى الكثير من المواد العضوية الأخرى كالقلويات التي تستعمل في الطب، والعطور المختلفة. والأهم من هذا أنهم ركبوا كيميائيًّا من مواد معدنية محضة حامض النمليك الذي يدخل فيه الآزوت وهو النواة الكيميائية للمواد الزلالية، ثم ركبوا بعضاً من هذه المواد مثل زلال اللبن (مادة الجبن) ومثل البروتيين الناتجة من هضم المواد الزلالية في الحيوانات والنباتات، ومثل الكبراتين التي تدخل في تركيب أظافر الإنسان والحيوانات الفقرية الأخرى. وهذا النجاح يبشر بقرب الوصول إلى تركيب المواد الزلالية العليا الموصوفة بالحية كما بينا كل هذا في المقالات السابقة. . .

ومن الغريب الذي يدعو إلى الإعجاب أن بعض الكيميائيين مثل دانيال برتولو وجوديشون سلكوا في تركيب السكر والحمض النمليك الآزوتي المتقدم ذكره نفس الطريق الذي تتبعه الطبيعة بأن سلطوا الأشعة فوق البنفسجية المنبعة من بخار الزئبق على خليط من الماء والحامض الكربونيك وبعض تراكيب الآزوت المعدنية البسيطة

فما تصنعه الطبيعة الآن تحت نظرنا وأمام أعيننا من إنشاء المادة الحية رأساً بفعل طاقة الشمس ولكن بالواسطة - أي بواسطة المادة النباتية الخضراء (الكلوروفيل) - بل ما يصنعه الإنسان في معامله إلى حد ما، ألم تستطعه الطبيعة رأساً بلا واسطة في الزمن البعيد حيث كانت ظروف الشمس والأرض أكثر ملاءمة من الآن؟

فقد كانت الشمس في ذلك الماضي البعيد جدّاً الذي لا يقل عن خمسمائة مليون سنة من الكواكب الزرقاء أو البيضاء من الدرجة الأولى، تزيد حرارتها عما هي عليه الآن بمراحل، وكانت - على الأخص - تشتمل على الكثير من الأشعة فوق البنفسجية، وهي كما لا يخفى توجد وتنشط التفاعلات الكيميائية على اختلاف صورها. . .

وكانت الأرض من جهتها مرتفعة الحرارة لقرب عهد انفصالها من الشمس. وفوق هذا فإنها - أي الأرض - كانت في ذلك الحين مسرحاً لكثير من إشعاع الراديوم والأجسام المماثلة له التي كانت توجد كميات وافرة على سطحها. وكانت تنبعث من هذه الأجسام الإشعاعية الكثير من غازات الهيدروجين والهليوم الجديدة، ومن المقرر في علم الكيمياء أن الغازات المستجدة تكون أكثر قابلية للامتزاج بغيرها من المواد الأخرى.

ص: 60

فنتج من كل هذه العوامل مجتمعة أن نشطت التفاعلات الكيميائية على الأرض وفي الماء وامتزجت المواد المختلفة بعضها بالبعض، وعلى الأخص الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسجين وبعض المواد المعدنية الأخرى على صور شتى عديدة فتولدت على هذا النحو ما يسمونه بالمواد العضوية البسيطة، أي بعض تراكيب الكربون، ثم المواد العضوية الأكثر تركيباً ومنها الأحماض الآزوتية مثل حامض النمليك وغيره. وهذه امتزج بعضها ببعض وبالأحماض الفسفورية فأدت إلى المواد الزلالية البسيطة ثم العليا الموصوفة بالحية. وكان هذا أول مظهر للحياة وأبسط صورة من صورها

وتطورت هذه المواد الزلالية بفعل العوامل الطبيعية وتحول بعضها إلى الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة، وبعضها إلى النباتات الأولية، وثالثة إلى النباتات الفطرية وهي الحلقة المتوسطة بين الحيوانات والنباتات كما بينا ذلك في مقالنا الأول

وتسلسلت من هذه الأحياء الأولية البسيطة الحيوانات والنباتات السفلى ثم العليا في مختلف العصور الجيولوجية التي دام كل منها عشرات الملايين من السنين مما سنشرحه في مقالات قادمة ونبين أسبابه ونأتي على الأدلة والمشاهدات والاختبارات المؤيدة له

غير أن حرارة الشمس أخذت تنقص بالتدريج في مئات الملايين من السنين، كما نقصت أشعتها فوق البنفسجية فأصبحت عاجزة عن تركيب المواد الحية من المواد الجامدة أو المعدنية من تلقاء نفسها كما كانت تفعل في بادئ الأمر، فاستعانت على ذلك بالكلوروفيل كالرجل المتقدم في السن يستعين على رؤية الأشياء بالنظارات. ذلك لأن النباتات كانت قد ظهرت على الأرض على الوجه المتقدم بيانه منذ ذلك الحين

فضعف الشمس الآن هو السبب في استحالة التولد الذاتي في الظروف الطبيعية الحالية، وهذا ما يفسر مدلول أبحاث باستور وتجاربه المشار إليها فيما تقدم. فإن هذه الأبحاث والتجارب لا تدل إلا على استحالة التولد الذاتي في عصرنا الحاضر ولكنها لا تنفي إمكان ذلك في بدء ظروف الطبيعة على الأرض

كان الناس في بدء نشوء النوع الإنساني قبل اكتشاف الكبريت والفسفور، وقبل أن يستنبطوا أحداث الشرر من احتكاك بعض الأحجار الخاصة بالبعض - يعتقدون أن النار سر من وراء الطبيعة لا يستطيع البشر أن يخلقوها، وأن كل نار لا بد أن تولد من نار

ص: 61

أخرى سابقة لها، كما يعتقد جمهور الناس الآن في الحياة والكائنات الحية

فكانوا في ذلك الماضي البعيد إذا شاهدوا حريقاً نشأ مثلاً بفعل العوامل الطبيعية كانقضاض صاعقة على شجيرة يابسة أو على كمية من الحطب أو الحشائش الجافة، يوقدون منه ناراً دائمة في مغاورهم ومساكنهم يتخذونها كخميرة يولدون منها النار كلما أرادوا إحداثها لحاجاتهم الشخصية، وهذا هو منشأ عقيدة عبادة النار التي تسلسلت منها عادة المحافظة على مصابيح أو شموع صغيرة تضاء في المعابد والمساكن لأغراض دينية

ومع أن الإنسان اكتشف بعد ذلك الوسائل الاصطناعية لإحداث النار كلما شاء إلا أن تلك العادة ما زالت باقية إلى الآن، شأن كل فعل أو صفة مكتسبة يجري العمل عليها الزمن الطويل فإنها تتأصل وتصبح آليةً، وعلى هذا النحو نشأت الغرائز في الحيوانات والإنسان كما شرحنا ذلك في مقالنا الأخير عند الكلام على نشوء الغريزة الاجتماعية والأخلاقية في الإنسان والحيوانات الاجتماعية الأخرى كالقرود العليا والنمل

وهكذا الحال بالنسبة للحياة؛ فأنه نظراً لعجزنا الحالي المؤقت عن تكوين المادة الحية اصطناعية، نظن أنها سر من وراء الطبيعة، وأنها تختلف عن باقي ظواهر الكون وأنها لم تظهر على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، بل هي من عالم آخر كما يتوهمون. فنحن الآن بالنسبة للحياة على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للنار قبل اكتشاف وسائل إحداثها اصطناعياً.

على أن هذا كل الوهم سوف ينقشع ويتلاشى في المستقبل حين يتوصل العلماء نهائياً إلى تركيب المادة الحية في معاملهم. وقد بينا فيما تقدم وفي المقالات السابقة أنهم أوشكوا أن يصلوا إلى هذه النتيجة الهامة حيث خطوا خطوات تذكر في هذا السبيل فقد صنعوا كيميائياً بعض المواد الزلالية سالفة الذكر وهم في طريق صنع المواد الزلالية العليا المسماة (بالمواد الحية). ومتى وصل العلم إلى ذلك الحد تصبح الحياة ظاهرة طبيعية في نظر جمهور الناس ينظرون إليها كما ننظر إلى النار الآن بعد اكتشاف الوسائل التي تجعلنا نحدثها كلما شئنا.

نصيف المنقبادي المحامي

دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية

ص: 62

من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)

ص: 63

‌قصة الحرير

بقلم أحمد علي الشحات

دلف نوح علية السلام إلى الصين يسعى بعد الطوفان، وله في الاشتغال في هذا البلد بالحرير ذكر، إذ يقول بعض المؤرخين إنه هو أول من اهتدى إلى الحصول عليه. وسواء لدينا أكان هو أم كان غيره - مادمنا لم نثبت من ذلك بعد - إلا أن الذي لا ريب فيه أن (الصين) هي أول بلد اشتغل بالحرير؛ بل واسم بلاد الصين ذاته معناه بالصينية (الحرير).

ويعزو التاريخ الفضل الأكبر في انتشار الحرير بالصين إلى زوج الإمبراطور الصيني (فوهانج عام 2500 قبل الميلاد)؛ ويسند التاريخ إليها أيضاً اختراع (المنوال) ونسج الحرير.

ومنذ القدم والحرير يقدر بقيمة عالية. فلقد كانت الممالك: كالهند وإيران واليونان وروما تدفع فيه للصين عن طيب خاطر ما يزيد على وزنه من الذهب.

وكانت الصين تسعى جهدها ألا تتمكن مملكة أخرى من الاهتداء إلى طريقة الحصول عليه. ومن الطريف أنه إذا استعلم الأجانب منهم عن ذلك مكروا بهم وأجابوهم بأن الحرير هو من (وبر الغنم) خلطت به ألياف رفيعة ووضع في الماء تحت أشعة الشمس في فصول معينة من السنة. حتى إذا ما سويت هذه الخيوط بعد ذلك إذا بهم يحصلون على الحرير.

ومما يثير الدهشة أن تمكن الصينيون من كتم هذا السر عن العالم لحقب طويلة إلى أن كان القرن الثالث بعد ميلاد المسيح. وكانت اليبان بطبيعة موقعها وجوارها للصين ترى تلك التجارة العظيمة في الحرير التي تدر على الصين الخير كله، صح عزمها على اكتشاف هذا السر بالغاً ما بلغ الجهد منها، وكانت على اعتقاد جازم بأن الصين تمكر بالعالم إذ تذيع تلك القصة السالفة التي ابتكرها خيالهم بأن الحرير أصله وبر غنم. أوفدت جواسيس لها إلى الصين أسروا بنات أربعا يشتغلن بالحرير، واختلسوا ما تمكنوا من الاهتداء إليه من دود الحرير. وعادوا بالأسيرات إلى اليابان، وهناك علمنهم أن الحرير إفراز خيطي من ديدان الحرير في أحد أطوار حياتها، وعلمنهم أيضاً كيفية استغلاله.

ومن ذاك اليوم والسر عن نطاق الصين قد خرج والاتجار بالحرير في اليابان ينمو ويزدهر، ولعل اليابان اليوم أقوى أمم الأرض في التجارة بالحرير.

ص: 64

كيف اهتدت إليه الهند؟

أما كيف كان ذلك فيروي أن أميرة صينية اقترنت بأمير هندي في ذات التاريخ الذي عرفت فيه اليابان سر الحرير (القرن الثالث)؛ وحملت هذه الأميرة بعض دود الحرير إلى حيث مقامها مع بعلها، هناك ألقت إلى الناس بالسر الذي تكتمت عليه مملكتها أشد التكتم؛ ثم ازدهرت تجارته بعد ذلك بالهند.

دخوله القسطنطينية

في القرن السادس دخل راهبان كانا قد قضيا حقبة من العمر في الصين خبرا خلالها الحرير، بيزنطة (القسطنطينية) وأفضيا إلى إمبراطورها (جستنيان) بما يعلمان عن الحرير. فطلب إليهما أن يشدا رحالهما ثانية إلى الصين، ويحملا إليه بعد ذلك ما اتصل بما أسراه إليه عن الحرير مجزلاً لهما العطاء مسرفاً في الوعود والمنح. فامتثلا وقفلا راجعين إلى الصين وهناك تمكنا من تخبئة كمية من بيض دود الحرير في عصا مجوفة، وارتدا إلى الإمبراطور.

ولو قد استشفا ببصيرتهما الحجب، وعلما ما كمن في سطور الغيب لرأيا أن هذه العصا التي يحملانها ستكون سبباً في سعود نجم تجار كثيرين، وأن العالم الأوربي الآن وقد مضى على حمل هذه العصا أربعة عشر قرناً تأسست تجارته في الحرير على محتويات هذه العصا.

وانتعش الحرير في فرنسا كثيراً واتخذته العائلات المالكة هواية لها وكذلك الأشراف، بل وكانت الألقاب السامية تمنح لمن أفلح في إنتاج الحرير حتى إذا ما وافى القرن السابع عشر كانت فرنسا عن بكرة أبيها قد أجادته تماماً

ولقد كانت إنجلترا على النقيض من ذلك لم تلق بالاً إلى الحرير على رغم أن جوها يصلح لتربية الدود ويصلح لشجر التوت، بل وملكها جيمس الأول يحث الناس ويشجعهم على العمل في إنتاجه والاتجار به. ولكن الناس كانوا عن أمر الحرير غافلين وفضلوا أن يستمروا في تربية الخنازير والعمل على تسمينها واستخراج البيرة

ولكن كان لإنجلترا في الهند خير عزاء إذ أن الحرير بالهند والظروف المهيأة لنمو الدود

ص: 65

هناك والشجر ليتغذى عليه قد بلغ ذلك كله مبلغاً جعل الهند في مصاف الأمم الأخرى التي أفلحت فيه، بل ولقد برزت هي في ذلك

واختلفت أمزجة الشعوب في النقش على الحرير، فبينما الصين كانت تكثر من رسم الأزهار كانت الأمم المسيحية ومن بينها بيزنطة (القسطنطينية) ترسم زخرفة بسيطة بها صليب. وكانت الهند تكثر من رسم الإنسان والوحوش والطيور ومناظر صيدها، وكانت العرب تكثر من الكتابات المتعلقة بسلاطينهم كقولهم العز والنصر والإقبال للسلطان والمتعلقة بالتوحيد كقولهم لا إله إلا الله.

احمد علي الشحات

كيميائي بالسكة الحديد

ص: 66

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

المرأة والإبداع الفني

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

قبل أن أقول كلمة في هذا الموضوع أحني الرأس طويلاً بين يدي حواء، فمهما تكن فإنها أمي، والأم لا تنكر إذ قد ينكر الأب، وإنها بعد ذلك أختي، والأخت لا تتنكر إذ قد يتنكر الأخ، وأنها منذ كنت سكني. . . رحمانك يا رب!

وبعد فإنه يخيل إليّ أني قد استطعت - بعون الله - في حديثي السابق أن أغري القارئ بالتفكير معي في أمر الصدق ولزومه للفن، وإني أرجح أن تفكيره لم يعد يرى بأساً في أن نجعل ما بين الصدق والفن من الصلة أساساً للنظر في صلة الفن بالناس. فالصدق لا يقوم بذاته إلا في الوجود المجرد، ولكنه يحتاج إلى من يتجسده في الكون المحسوس كما يحتاج إلى من يعلنه فيه، والإنسان بعض ما يتجسده، وهو وحده الذي يعلنه بهذا الأسلوب المفهوم المعقول. والإنسان كما هو ظاهر رجل وأمراة، فأيهما كان أقرب من الصدق كان أقرب من الفن. وأيهما كان أقرب من الفن كان أقرب من الصدق.

أما الذي يسجله التاريخ القديم والحديث فهو أن عدد الرجال الذين أبدعوا في فنون الحس والعقل على الإطلاق أكثر من عدد النساء اللواتي أبدعن في هذه الفنون. فإذا نحن سايرنا منطق الحساب فإننا سنشهد مجبرين بأن الرجل أقرب إلى الصدق من المرأة.

ولكن الذي تعودناه من مجاملة حواء لا يجيز لنا أن نمسك بهذه الدعوى وأن نتعلق بها وأن نقف عندها متبلطين لا نتزحزح عنها ولا ننجلي، وإنما يأنف الذوق من هذا ويأبى إلا أن نخف عن هذه الدعوى ألي شيء مما يتلوها، فنقول: لعل طبيعة المرأة في الأصل كانت تكاد تشبه طبيعة الرجل، ولكنها الحياة التي تمردت على الطبيعة بهذه الحضارة هي التي عصفت بالمرأة دون الرجل وللمرأة عندئذ عذرها إلا إذا أنكرت تكوينها، ولها فيه من القوة ما حُرِمه الرجل. كما أن لها فيه من الضعف ما برئ منه الرجل.

قد يتعاشق رجل وامرأة. أما الرجل فيهفو إلى محبوبته، وأما هي فيكون في نفسها أن تطير

ص: 67

إليه ولكنها تتمنع، فلا يرى الرجل بداً من أن يخطو هو الخطوة الأولى. فإذا أحست المرأة إشفاقه من هذه الخطوة وتردده عنها أغرته بها ودفعته إليها وشجعته عليها، ولكنها لا تسمح لنفسها بأن تخطوها لأنها لا تعرف الصلة بينها وبينه إلا على وجه واحد، وهو أن تلقي عليه أعباءها. وهي مع رغبتها هذه تأبى إلا أن تسجل عليه خطوته الأولى، وإن كانت هذه الخطوة بإغرائها وتشجيعها، وهي تفعل هذا كله لتبرر فيما بينه وبينها بهذه الحركات الظاهرة دلالها عليه وتحكمها فيه بعد أن ملكت منه رغبته إليها أولاً، وخطوته إليها ثانياً. فكأنها التي تفضلت بانقيادها، وكأنما كانت تريد أن تعيش على بعد من الرجل

صحيح أن من الرجال من يستطيع أن يتماسك أمام المرأة، وأن يمضي معها في صراع المغازلة إلى أقصى ما تريد من فنون المغازلة، ولكن صحيحا أيضاً أن الكثيرين من الرجال لا يلبثون أمام المرأة إلا ريثما ترتجف أرواحهم فإذا هم يتطايرون عبيراً وشذى، وإذا هم فنون من الأنغام والصور والشعر والحكمة: في هذه الفنون أودعوا اللهفة والشوق، وبها أزينوا وتبرجوا كما يفعل بعض إخوانهم ممن يخادعون المرأة بقوة أبدانهم، وممن ستهوونها بجاههم وأموالهم

والرجل صريح في كل ضرب من ضروب الغزل هذه. . . ولكن المرأة - لا نقل كاذبة - وإنما نقول متحفظة

والتحفظ إبهام ولو ستر وراءه الصدق

وما لنا نتجشم الدخول إلى نفس المرأة، وهذه مظاهرها أمامنا واضحة؟!

أما نرى المرأة تعني بشئون بدنها أكثر من عنايتها بشئون روحها؟ بل إنها إذا صفت روحها سخرت هذا الصفاء لنعمة جسدها، وحسبته في أسباب أناقتها كأنه زي من أزيائها. . . فكثيرات هن المغنيات والراقصات والممثلات اللواتي يغزلن من فنونهن شباكا يقتنصن بها الأغنياء والشبان الوارثين وغيرهم ممن يشترون الجمال بالمال بينما لا يفعل مثل هذا من الرجال الفنانين إلا قلة نادرة شاذة

ثم أن هذا التجمل الذي تدمنه المرأة لا يخرج عن أنه تكلف وأنه شيء يشبه الكذب، فهذا المسحوق الأبيض الذي تذره المرأة على وجهها لتقول به إن بشرتها بيضاء ناعمة ليس فيه من بياض بشرتها ولا من نعومتها شيء وإنما الأبيض الناعم هو. وهذا الدهان الأحمر

ص: 68

الذي (تلطعه) على وجنتيها لتقول به إنها حمراء الخدين ليس فيه من حمرة خديها شيء وإنما الأحمر هو. . . وهذا الطلاء القرمزي الذي تسفكه على شفتيها لتقول به إنها قرمزية الشفتين ليس فيه من شفتيها شيء وإنما القرمزي هو. . . وهذا المشد الذي تربط به خصرها لتقول به إنها نحيلة الخصر إذا انفك ارتاح خصرها فإذا هي كما خلقها الله لا كما تقول بمشدها. وهذا (الكعب) العالي الذي تركبه وتمشي به كما يمشي (البهلوان) على الحبل لتقول إنها سمهرية القد تخلعه في وحدتها فإذا الأرض تبلع منها مقدار ما كانت (تتطاول) بكعبها العالي. . .

والرجل لا يفعل شيئاً من هذا، ولكن المرأة تفعله - ولا نقل إن المرأة به كاذبة - وإنما نقول إنها متأنقة

والتأنق تمويه ولو ستر وراءه الصدق

فهل لا تصلح المرأة للفن إذن وهي غارقة في تحفظها وتأنقها هذين؟ الواقع أن كلا من التحفظ والتأنق يخنق الفن

أما التحفظ فإنه يخنق الفن لأن الفن دائماً يبدأ في نفس الفنان، فليس هناك مغن تغني بعواطف الناس قبل أن يتغنى بعواطفه هو، ليس هناك أديب كتب عن الناس قبل أن يكتب عن نفسه، فإذا لم يكن قد كتب عن نفسه فلا بد أن يكون قد فكر فيها قبل أن يفكر في غيرها من النفوس لأنها أقرب النفوس إليه كما أنه أن لابد ينساب منه حين يكتب عن الآخرين ما يدل عليه وما يستطيع القارئ أن يحكم به على ما يحب وما يكره. ولا ريب أن الوصول إلى ما يحبه المرء وما يكرهه لا تتلوه إلا خطوة قصيرة يقف بعدها المستطلع أمام نفس هذا المرء وجهاً لوجه. وليس هناك رسام ينشر في الناس صورة إلا وهو يضمن هذه الصور جميعاً ما ينجذب إليه من الألوان والأشكال؛ فهو يدل بذلك على ذوقه ونواحي الراحة التي تطمئن إليها روحه ما دام يرسم مختاراً غير مجبر

وهكذا الفنون جميعاً تعلن بصراحة ووضوح عن نفوس أصحابها. زد على ذلك أن الفنون الفذة العبقرية تحتاج إلى جهاد يمارسه - في أغلب الأحيان - أولئك الذين تتملكهم رسالاتهم الفنية فيشعرون أن الإنسانية قد استدارت حولهم فجعلتهم نواة لحلقة جديدة في سلسة الرقي الحسي والفكري الذي ترقاه. وهذا الجهاد وما يصاحبه من ألوان الكفاح

ص: 69

وصنوف الحرمان والتعذيب الروحانيين أو البدنيين يستلزمان من الصبر والعزيمة والقوة والمجالدة والإعراض عن مباهج الدنيا ما لا تطيق المرأة الخفيفة الرقيقة أن تحمله.

فهي بين التحفظ الذي أنشأه عندها الضعف، وبين هذا الضعف الجديد إزاء الحالة العبقرية الطارئة في ضعفين يثقل معهما التكليف بالفن أو يكاد يتعذر، فلا هي قادرة أن تكشف عن روحها فإذا فعلت فإنها عاجزة عن المضي في حياتها وهي روح عادية.

فإذا لحظنا أنه قد شاعت بين النساء أزياء تكشف عما لزمت المرأة تحجيبه عن الأعين دهوراً من الخجل والخفر، وإذا لحظنا إلى جانب هذا أنه لما تذع بين النساء الصراحة حتى اليوم ولما يرج بينهن الصدق، وأنهن ما يزلن يفضلن من يزوق لهن القول ومن يزيف عليهن الحق حتى بعلمهن، إذا لحظنا هذا وذاك أدركنا أن المرأة تعتقد بإيمان كامن في نفسها أن جسمها خير من روحها، وأنها لو أظهرت من جسمها ما أظهرت فأنها لن تصيب الأعين بالقذى، على العكس من روحها التي تدثرها بالغموض والتحفظ خشية أن تحسب عليها خلجات نفسها.

فلماذا تفعل المرأة هذا؟

أفي نفسها شر مرعب مخيف تتقي أن ينفضح؟!

لا أحسب هذا، وقد يكون كل ما في الأمر أن المرأة متحفظة وأنها تحب ألا تعلن إلا ما يسر الرجل، ولما كانت تربط حياتها بحياة رجل واحد إما أن يكون في الغيب فهي لا تدري ما الذي يعجبه وما الذي يغضبه، وهي لهذا تئد النزوع الفني في نفسها حتى لا ينفر منها أحد، وحتى يقبل عليها كل من يريد أن يتعرف بها فعندئذ تريه ما يرضيه هو لا ما يرضيها هي، وإما أن يكون تحت سمعها وبصرها، فهي تسقيه من خمرها ما طاب له لا ما اعتصرته من نفسها

هذه هي حال المرأة الضعيفة المتحفظة

ويشبه هذا حالها في تأنقها واصطناعها الزينة وفنون التجمل فهذا التأنق ينساب من بدنها إلى روحها، والتأنق لا يخلو من التعمل والتكلف، وهما يباعدان ما بينها وبين الفن الصادق الصحيح إذا أحبت أن تدنو من الفن. والأناقة - كما هو معلوم - لها أزياء تتشكل وتتطور على مر الزمن، وهي تخضع في تشكلها وتطورها للذوق العام الذي تدنيه بين الناس

ص: 70

مؤثرات معقدة متعددة يخضع لها المتأنقون خضوعاً لا يرضاه الفنان ولا يستطيع أن يأخذ به لأنه يحب دائماً ألا يفعل إلا ما يقتنع به هو نفسه وهو يستقي سر إقناعه من نظرته للأشياء ومن تجربته الخاصة ومن مقدار الراحة واللذة اللتين يوفق إليهما. . . والمثل الذي يردده المتأنقون هو قولهم: (كل ما يعجبك وألبس ما يعجب الناس) بينما الفنان - ما دام قادراً - لا يأكل إلا ما يعجبه، ولا يلبس إلا ما يعجبه أيضاً جرياً على نهج الحرية والصدق الذي يسلكه في حياته

فإذا فرضنا أن المرأة استقامت إلى الفن فإنها في أغلب الأحيان لا تفعم نفسها وفاء لهذه الاستقامة، وإنما هي تبعثر من إخلاصها في حقل التأنق مثلما تبعثر في حقل الفن، فهي إذن موزعة الجهد مشتتة الروح، وفنها إذن لا يعدو أن يكون صورة أنيقة لزي من أزياء الفنون الرائجة التي يتحدث الناس بجمالها أو التي أنفقت كثرة من الناس على استحسانها، وهذا هو السبب في أنه لم يكد يحدث أن خطت امرأة خطاً جديداً في لوحة الفن لا لشيء إلا لأن المرأة متأنقة، والأناقة لها قاعدة تبيح للمتأنق أن يبتلع ما يعجبه، ولكنها لا تبيح له أن يظهر أو أن يتظاهر إلا بما يعجب الناس

وقد يرد عليّ نصير من أنصار المرأة فيقول إن من النساء الفنانات من لهن أسلوب فني خاص بهن كممثلات السينما المعدودات في الصف الأول بين الممثلات - والسينما اليوم هي المجال الفني الذي تزاحم فيه المرأة الرجل - وقد يضرب لي نصير المرأة هذا المثل بجريتا جاربو التي يعتبرونها ممثلة السينما الأولى في العالم فإن لها من غير جدال أسلوباً خاصاً بها في تمثيلها، كما أن لكل واحدة من الممثلات المبرزات أسلوباً خاصاً وإلا ما احتسبت بين الممثلات المبرزات

قد يقال هذا، ولكن الرد عليه قريب. وهو لا يكلفنا أكثر من أن ننفي عن جريتا جاربو تمكنها من الإبداع الفني الذي يسر لها أسلوبها الخاص بها في التمثيل، فنحن إذا راجعنا تاريخها لفتنا فيه ذكر ذلك المخرج السويدي الذي لطفت عنده جريتا فأحبها واستدرجها إليه بسطوته الفنية، ثم فجئ العالم بها ولها هذا الأسلوب الناعس الجديد في التمثيل

قد تكون جريتا ناعسة في نفسها ولكنها لم تجرؤ على الظهور في زيها النفسي الصادق إلا برعاية رجل وبمعاونته وتشجيعه، ولا ريب أن هذا الظهور قد خدش في نفس جريتا جابو

ص: 71

تحفظ الأنوثة وتأنقها؛ ولا ريب أن هذا الخدش هو الذي يحملها دائماً إلى التهرب من المجتمعات والى حياة العزلة والغموض التي عرف عنها أنها تميل إليها، وأنها تشتريها بالمال الكثير، فهي إذن قد جزعت من الناس عندما ظهرت لهم على حقيقتها لأنها كانت تحب أن تخفي هذه الحقيقة، ولأنها كمن تؤمن بأن التأنق على ما فيه من التكلف خير من الصدق والحق

ولهذا أيضاً اضطربت حياة جريتا الغرامية، فهي قد أصبحت تعتقد أن الرجال قد وقفوا على حقيقة نفسها، وعلى مسالك عواطفها، فهي لذلك تشك فيمن يتقرب إليها بالهوى وإن أقبلت على واحد منهم فريثما تشعر أنه قد تملك من نفسها عندئذ تفيق ولا ترضى أن تؤمن بأن عاشقها هذا يحبها حباً صادقاً، وإنما تحسبه كالنساء التمس إلى روحها مدخلاً هو ناحية الضعف في نفسها

كل هذه الحيرة، وكل هذا الشك، وكل هذا القلق، لم يعتور النفس جريتا إلا لأنها جزعة نادمة على ما كشفت من نفسها، فهي تسمح للمرحوم جون جلبرت بأن يتقدم نحو روحها حتى يتسلط عليها فتشك فيه وتنتفض من حبه وتهجره، ثم لا تلبث أن تمثل مع رامون نوفارو فتحبه وتحس أنه يحبها، فما تحس هذا حتى تفر منه وتهجره

خبل ما بعده خبل. . . أحدثه في نفس المرأة الصدق، وكان حق الصدق أن يفيض بها طمأنينة ودعة

فهل يمكن أن يقال بعد هذا إلا أن الصدق غريب على طبع المرأة؟!

وما دمت قد ذكرت جريتا جاربو، وذكرت بها السينما، والسينما - كما قدمت - هي المجال الفني الذي تزاحم فيه المرأة الرجل، فإني أرى نفسي ميالاً إلى الوقوف عند مشاهدة لا ريب أنها تؤيد ما أذهب إليه من تباعد المرأة عن روح الفن الصادقة. . . تلك هي أنه لم يحدث أن تصدت للإخراج في السينما ولا في المسرح حتى اليوم امرأة. وإن كان ذلك قد حدث فإنه لابد أن يكون قد حدث في حالة واحدة أو حالتين أو - على الأكثر - حالات لا يمكن أن تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة. . .

والإخراج في التمثيل - كما يحتاج إلى إلمام ميكانيكي بقواعد الفن، فإنه يحتاج إلى أبلغ النفاذ إلى روح الفن ومعانيه ومراميه، وهو لا يقوم إلا بذوق مستقل خاص يتجلى في

ص: 72

الطابع الفني الذي يتميز به المخرج؛ هذا زيادة على ما هو لازم للمخرج من صدق الخبرة بالنفوس والحياة، وصدق الحكم على الفن والفنانين، لأنه بهذه الجرأة الصادقة، وبهذا الحكم الصادق وحدهما يستطيع أن يبرز رواية، وأن يوزع الأدوار فيها، وأن يضمن خروجها وهي أقرب ما يكون العرض الفني من الحياة الطبيعية، وأصدق ما يكون من التعبير عما أراده مؤلف الرواية، وأبلغ ما يكون من تصوير عواطفه وأحاسيسه، وأوضح ما يكون من تحديد أفكاره ومراميه. . .

هذا العمل الفني الجليل المعقد المتشعب لم تجرؤ النساء على الاقتراب منه حتى اليوم، ولا ريب أن الذي يحول بينهن وبينه هو الشيء في طباعهن، فإنهن أنفسهن لا يستطعن أن يدعين أن الرجل - وعلى الخصوص في ميدان السينما الحر الطلق - يعوق سبيلهن أو يحد من مطامحهن.

وأخيراً. . . فلعل القارئ قد لفته مثلما لفتني، أن العبقريات من النساء اللواتي شذذن على هذه القاعدة التي رسمناها اليوم فيهن من الرجولة ملامح منها ما هو ظاهر في أبدانهن، ومنها ما هو كامن في أرواحهن، ولست أريد أن أذكر من أعرفهن بالأسماء فقد يكرهن هذا لبقية باقية من الأنوثة في نفوسهن، وإن كنت لا أحب أن أدع حواء قبل أن أعود فأحني الرأس طويلاً بين يديها متوسلاً إليها أن تجرب - إذا استطاعت - الصدق.

عزيز أحمد فهمي

ص: 73

‌من هنا ومن هناك

الوجوه ودلالتها على الأخلاق

(ملخصة عن كتاب (وجوه وملامح جديدة) للدكتور ماكسويل مولتز)

يرى الكثيرون أن ملامح الوجه تدل على الأخلاق. فيرون في قصر الذقن دلالة على الحماقة وفي اعتدالها ما يدل على الحزم، ويرون في انحدار الجبهة أو طول الآذان دلالة على البلادة، وفي شيب الشعر وتجاعيد الوجه علامة على كبر السن، وفي غلظ الشفة دلالة على الشهوة

وفهم الأخلاق على هذا الوجه لا قيمة له من الوجهة العملية لقد كانت الملامح في الأزمان الغابرة هي الدليل الوحيد لمعرفة أخلاق الإنسان، إذ لم يكن معروفاً أثر الظواهر الطبيعية في تكوينه. فكانوا يحكمون على نوايا الرجل لمجرد النظر إلى وجهه فيعرفون إن كان من أصدقائهم أو من أعدائهم، وكم أزهقت نفوس بريئة للالتباس في أمرها!

إن الحكم على الطبيعة الإنسانية له أهمية كبيرة في حياتنا الاجتماعية، ولكننا مع ذلك لا نزال نتوسل إليه بالطرق العقيمة التي كان يلجأ إليها آباؤنا الأقدمون في فهم الأخلاق والخبايا

يقول البروفسير (كليتون) إن أصدقاءنا أكثر قابلية للحكم علينا من الأجنبيين، إذ أن الأخيرين يتأثرون في كثير من الأحوال بالمظاهر المألوفة عند أصدقائنا

ويقول (جاسترو) إن الحكم على الإنسان بسلوكه وتعبيره وحركاته وأحواله وكلامه ونبرات صوته أصدق وأولى من الحكم عليه بمظهره

إننا لا نستطيع أن نقول عن إنسان أن له آذاناً طويلة لأنه على جانب عظيم من البلادة، فلماذا نقول عن شخص إنه على جانب عظيم من البلادة لأن له آذاناً طويلة؟ إن العقل لا يقر هذا ولا يقر ذاك، ولكن من المعقول أن نقول إن الطفل الذي له آذان تزيد في طولها عن المعهود، يلاقي بعض المشقات في حياته لخروجه عن المألوف. فيرى من سخرية أصدقائه ما يجعله يؤثر العزلة والانزواء في غالب الأحيان وفي ذلك ما فيه من التأثير على حياته وأعماله، ولكننا لا نستطيع مع ذلك أن نجعل الوجه دليلاً على شخصية الرجل، فيكفي لنفي ذلك أن نعرف التأثرات التي تعترض الطفل وهو يقضي تسعة أشهر في بطن

ص: 74

أمه مما لاشك فيه أن قبح الوجه له تأثير في حياة الإنسان، قد يؤدي إلى إفساد معيشته وتعكير صفو سعادته، ولكن الجراحة في هذه الأيام قد تقدمت إلى الدرجة التي تجعلها تتغلب على ذلك، فتيسر للإنسان التخلص من هذا الشذوذ، فيتغير تغيراً تاماً يختفي على أثرة الشعور بالاحتقار والسخرية ويحل محله الثقة بالنفس مضافة إلى حسن المظهر

كتب لا تقرأها - عن (جون أولندن)

إذا تتبعنا تاريخ الأدب منذ أقدم العهود لا نلبث أن نرى بين فترة وأخرى صورة من تسلط القوة على الآراء وحجرها على حرية الفكر. فنعلم أن كثيراً من المؤلفات الثمينة والمذكرات ذات الأثر الفعال في إظهار الحقائق التاريخية والاجتماعية قد قضى عليها بعدم الظهور

ولعل أول حادث من هذا النوع كان في سنة ألفين قبل الميلاد إذ أمر الإمبراطور (شي هيانج تي) بإحراق مؤلفات كنفشيوس الأدبية لحنقه عليها وتفضيله غيرها من المؤلفات المبنية على الحقائق العملية: كالكيمياء والزراعة والطب.

ولقد صودرت منذ ذلك الحين كتب نفيسة لهومير وكانت وابش وبودلير وروسو وجاك لندن ود. هـ لورنس وابتون سنكلير وغيرهم من الكتاب الذين ذاعت شهرتهم في العالم

وإذا كان لك الحظ في زيارة المتحف الإنكليزي أمكنك أن ترى مجموعة كبيرة من الكتب القيمة والمذكرات الهامة محفوظة في قسم خاص، حيث يقوم بالمحافظة عليها موظفون وأمناء ومساعدون. فتجد في هذا القسم مذكرات خاصة لبعض رجال السياسة، وخطابات وتراجم لكثير من عظماء الرجال وكتب ورسائل في كل فن وصى عليها جميعاً بأن تحتجب عن الأنظار.

من ذلك مذكرات لسير هنري الذي كان رئيساً للوزارة الإنجليزية وزعيما لحزب الأحرار، وقد مضت سنين عديدة وهي في مكانها من ذلك المتحف تحت مراقبة إدارة حفظ المطبوعات

لقد كان كامبل من رجال السياسة المعروفين بكرم الأخلاق والنزاهة، وهو فوق ذلك بعد من السياسيين الأفذاذ. فماذا كتب في تلك المذكرات؟ قد يظهر ذلك في المستقبل القريب. وإلى أن يحين ذلك الوقت ستظل محجوبة عن الأنظار المتعطشة تحت إشراف إدارة حفظ

ص: 75

المطبوعات هي وعشرات غيرها من المذكرات والمستندات والخطابات التي لم تظهر للعالم. ولم يغرب عن البال قصة الخطابات التي خلفها القصصي المشهور شارلز دكنز، فقد أرسلت مسز بيروجيني ابنة الكاتب الكبير إلى برنارد شو تستشيره في أمر هذه الخطابات التي عانت أمها كثيراً في سبيل المحافظة عليها وبقائها بغير تلف. فأجابها شو بضرورة إرسالها إلى إدارة حفظ المطبوعات في المتحف البريطاني، لعل أحدا من الكتاب يحتاج إلى شيء منها للكتابة عن أبيها، وقد استمعت مسز بيرجيني لهذه النصيحة، ولكن هذه الخطابات بقيت في مكانها من المتحف دون أن تمسها يد أو يطلع عليها إنسان إلى أن مات آخر أبناء دكنز.

ويسري قانون حفظ المطبوعات على المؤلف في إنجلترا طول حياته، ويستمر إلى ما بعد وفاته خمسين عاماً. إلا أن مذكرات رجال السياسة والأوراق الرسمية التي لا تسري عليها القوانين العامة قد تبقى أربعة أجيال أو خمسة بعد وفاة أصحابها إذا قدر لها ظهور في يوم من الأيام

أما الكتب والروايات المألوفة التي يشتبه فيها لسبب من الأسباب، فلها قسم آخر وبعضها منع ظهوره للجمهور والبعض الآخر حدث منه الأجزاء التي لم يسمح بها مثل كتاب قوس قزح وليدي شاترلي لد. هـ لورنس ودراسات في سيكلوجية الجنس لهفيلوك إليس، ومن الأعماق لأوسكار وايلد

وقد أخذت النسخة الأصلية من الكتاب الأخير لعرضها على المحكمة في ظروف قضائية معروفة، ولكنها لم تظهر بعد للجمهور، أما النسخة المتداولة من هذا الكتاب فقد حذف منها الشيء الكثير

سياسة المحور في أمريكا الجنوبية - عن فورتنايتلي

لم تكن سياسة المحور في أمريكا الجنوبية بالشيء المجهول، فلألمانيا وإيطاليا صلة قديمة بهذه البلاد، إلا أن المحاولات الاقتصادية والسياسية التي ظهرت أخيراً، لم تعرف لبريطانيا العظمى إلا في هذه الأيام.

فمع الحملات التي تقوم بها ألمانيا وإيطاليا ضد الاشتراكية، نراها تعمل لتقليل الثقة بديمقراطية بريطانيا وتجاربها في الأسواق التجارية حرباً لا هوادة فيها.

ص: 76

وقد تكون ألمانيا أكثر الدولتين تحمساً لضم أمريكا الجنوبية إلى سياسة المحور، وعلى الأخص تلك الجهات التي لها علاقات قديمة ببرلين كالأرجنتين وبها مائة ألف ألماني، والبرازيل، وفيها عشرة أمثال هذا العدد. وتقام الاحتفالات النازية في بونس إيرس كما تقام في ألمانيا، وقد اتخذت الاحتياطات الشديدة في الأنحاء الألمانية في الأرجنتين لتطهيرها من الجنس الغير الآري.

ويخالط الألمان الأمريكيين اللاتينيين في الأعمال والمجتمعات بحالة لا يصل إليها البريطانيون وسكان أمريكا الشمالية؛ فإذا أضفنا إلى ذلك الكراهية التي تحملها الأرجنتين للاشتراكية عرفنا كيف يتحمس الأهالي للألمان.

فالجيش في تلك البلاد مأخوذ في نظامه بالأساليب الألمانية، وتلقى الكثير من ضباطه دروسهم الحربية في بوتسدام. أما الأسواق التجارية فقد اختفت منها البيوت المالية الإنجليزية وأخذت المحلات التي تروج التجارة الإنجليزية تقل شيئاً فشيئا.

لقد كان في البرازيل ألمان منذ سنة 1843 ولكن عددهم لم يكن محسوماً، أما الآن فلا يقل عدد الألمان في تلك البلاد عن مليون نفس، وفي جنوب هذه الجمهورية وعلى الأخص سنتا كاثرينا وبرانا وريوجراند دوسيل ينحدر أكثر السكان من أصل ألماني، ويقوم حكام وبوليس من الألمان في كثير من البلدان، وقد قامت البرازيل بحركة شديدة لمقاومة الدعاية النازية، وعلى الرغم من ذلك فقد حلت ألمانيا محل الولايات المتحدة في المعاملات التجارية، وأصبحت الآن أعظم الدول التي تستورد القطن من تلك البلاد وهي فوق ذلك تستورد النيكل والزيت بمقادير هائلة منها

ويتسع نفوذ الألمان كذلك في شيلي، ولا شك أن وجود خمسة وعشرين ألف ألماني في هذه المملكة يجعل لها تأثيراً كبيراً من الناحيتين السياسية والتجارية

وقد اصبح أكثر ضباط الجيش في بوليفيا من الألمان، وقد أرسلت ألمانيا إلى بوتسدام ثلاثة من الضباط للتمرن على الأعمال الحربية الحديثة بها

أما الفاشيست فقد أخذوا يزاحمون البضائع الإنجليزية في الأرجنتين بعد أن كانت بغير مزاحم، وفي شيلي تلاقي الآلات والعدد الإيطالية رواجاً عظيما

أما بيرد فهي أكثر المناطق الأمريكية اتصالاً بإيطاليا، ويقدر ما يسخر فيها من الأموال

ص: 77

الإيطالية بأكثر من عشرين مليون جنيه؟ وفي اكيادور يقوم على تعليم الطيران فريق من الإيطاليين. وفي فينزيولا تقوم فرقة من المدفعية الطليان بإصلاح الجيش. وقد أصبحت هذه الحالة مقلقة لبريطانيا والولايات المتحدة، لا لأن ألمانيا وإيطاليا تستعمران هذه البلاد، فإن ذلك ليس في الحسبان، إذ أنه في الحقيقة غير مستطاع، ولكن ألمانيا وإيطاليا تستفيدان من تلك البلاد المواد الضرورية لها إبان الحروب، فإن لم يكن ذلك فهي تستطيع على الأقل أن تعمل عملاً لمنع تلك المواد عن بريطانيا والولايات المتحدة

ص: 78

‌البريد الأدبي

التحرر الأدبي ووزارة المعارف المصرية

ليست هذه الكلمة مناقشة للأستاذ أحمد أمين في رأيه التحرر من

سلطان الأدب الجاهلي، وإنما هي تعليق على مقالته الثانية في الثقافة

وقوله فيها: (أناشد الأدباء والشعراء أن يستمدوا تشبيهاتهم واستعاراتهم

مما بين أيدينا من مخترعات، وألا يستعملوا مالا يحسون ولا يعلمون

من تشبيه، وأناشد المعلمين أن يعلموا بالخط الأحمر على الاستعمالات

التي يستعملها الطلاب الخ. . .)

كيف يستطيع المدرسون ذلك وأمامهم الأكبر ومن تجب عليهم طاعته يذهب من مصر إلى العراق ليرثي ملكا عصرياً توفي من أربعين يوماً، فلا يجد من التشبيهات والاستعارات إلا ما كان يستعمله الشعراء من ألف سنة، فالقدر له سهم (ولن يستطيع العالمون له رداً) والمصاب له سهم آخر أصاب الهاشمية (بعد ثلاثة أبيات)، فهل يقاتل الجيش المصري اليوم بالسهام؟ فما قيمة هذا التشبيه إذن في رأي أستاذنا الجليل أحمد أمين؟ وما قوله إذا كان هذا السهم (العجيب) قد هدّ من العلياء أركانها هدًّا، (فلم يبق للعراق بعده ركن في العلياء قائم. أليس هذا هجاء لأمة في رثاء رجل؟) وإذا كان قد أطفأ نور الشمس وأضرَم المجدا، هل شاهد الأستاذ الجارم الشمس منطفئة فاستعمل ما يحسّ ويعلم من تشبيه؟ وهل رأى هذا (الند) الذي يذكره مع المسك أم كل ما يعرف عنه انه شيء ذكره المتقدمون؟ وذكرُه السيف وسيوف الليالي، أهو من وحي هذا العصر عصر النار والغاز والبارود أم هو التقليد؟ وهؤلاء الذين يبطشون أسداً، أعن حسّ وعلم بالأسد وصفهم الجارم، أم هو قد أخذ المثال النحوي (كرّ على أسداً) من بحث الحال في الكتاب النحو الذي ألّفه؟ ويسأل السيف عن جند العراق كيف صال بكفهم، وهو يرى جند العراق يتنكبون البنادق ويحاربون بالبارود، أفعن تقليد قال ما قال، أم عن مشاهدة وعيان؟ والسلاف تمزج في حانات مصر بالشهد، وتخلط الشمبانيا في خمارات عماد الدين بالعسل، أم الأستاذ يقلد؟ وأياً ما كان الأمر فما هو وجه الشبه بين غبار النصر وهذه السلاف؟

ص: 79

وقوله في غازي رحمه الله: (فتى تنبت الآمال من غيث كفه) أليس إعادة لأقوال المتقدمين يوم كانوا يتمدحون بالكرم ويوم كان الغيث حياتهم في الجزيرة، وتتمة البيت (فلله ما أولى ولله ما أسدى) أليس كلاماً فارغاً، وتشبيه تلال الصحراء بالجمال أعن حسن كان وعلم؟ أفي رحبة وزارة المعارف حيث يقيم الأستاذ، أم في شوارع القاهرة رأى هذه الجمال (التي لا تساق ولا تحدي) أي ولا يحدي بها. . . وكيف رأى في ثنايا وجه فيصل الصغير الوديع (الأسد الوردا) مع أنه لم يشاهد في حياته أسداً إلا محبوساً في قفص الحديقة؟ وقوله في الختام:(سلام على غازي سلام على الندى، إذا ما بكى من بعده الترب والندى)، أيعد له في باب التقليد والجمود شيء؟ أي ندى وأي ندّ يا سيدي إليك؟

فمن أين يستطيع المدرسون اتباع رأي الأستاذ أحمد أمين وإمامهم الجارم بك هذه حاله وهذا مقاله. وأنى لوزارة المعارف أن تحرر الأدب وتعلو به في مدارج العلا وهؤلاء السادة يمسكون بتلابيبها أن تتزحزح أو تريم؟

(بغداد)

ع. ط

تاريخ البيمارستانات في الإسلام

هذا عنوان الكتاب الذي أخرجه العالم المصري أحمد عيسى بك، وقد نشرته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ووقفت (ريعه على المشاريع الخيرية). والكتاب غزير المادة يعرض نشأة البيمارستانات (أي المستشفيات) ونظامها وأطبائها وأرزاقها، وما تحت ذلك من شئون الطب والصيدلة مما يتصل بالتحصيل والمعالجة ومراقبة أهل الصناعة. ويلي ذلك إثبات البيمارستانات في البلاد الإسلامية المختلفة على وجه التفصيل منذ العهد الأول حتى العصر الحاضر، أي حتى إنشاء مستشفى أبي زعبل بضاحية القاهرة سنة 1825

وفي الكتاب أخبار وفوائد لم تدوَّن في المؤلفات السابقة، إذ أخرجها المؤلف من الكتب التي لا تزال مخطوطة نحو تاريخ حكماء الإسلام لظهير الدين البيهقي، وكتاب قطف الأزهار في الخطط والآثار لأبي سرور البكري

وفي الكتاب مسرد للبيمارستانات؛ وكان يحسن بالمؤلف العالم أن يقيم مسرداً آخر للأطباء

ص: 80

المسيو أميل فابر ومقدرته المسرحية

استقدمت وزارة المعارف المصرية من زمن غير بعيد المسيو ليرى رأياً في الفرقة القومية وينظر في المسرحيات التي نترجمها أو نؤلفها. ومن الظريف أن المسيو فابر ألف أول هذا الشتاء مسرحية مثلتها فرقة مسرح الأوديون في باريس، واسمها - وقد سقطت هذه المسرحية سقوطاً مزرياً وعابها النقاد بشدة، وذلك لشحوب الفكرة التي تقوم عليها، ولمشاهدها الملفقة، ولأشخاصها المُملَّة. هذه المسرحية لا تعرف الفن ولا التفكير؛ إنها من مناقص المسرح الفرنسي (راجع مثلاً (المجلة الفرنسية الجديدة) باريس أبريل سنة 1939 ص 680)

ب. ف

مباريات جديدة للإنتاج الفكري للفنانين والمصورين

أقامت وزارة المعارف في السنة الماضية مباريات للإنتاج الفكري اشترك فيها مدرسو المدارس الأميرية والحرة وكليات الجامعة

وعند بحث الرسائل التي قدمت ظهر أنها لا تستحق الجائزة المقررة لكل منها وقدرها مائة جنيه فمنحت أصحابها 50 جنيها.

ورأت الوزارة أن تضع نظاماً جديداً لهذه المباريات وإنشاء مباريات أخرى يشترك فيها المدرسون وغير المدرسين والفنانون والرسامون.

ويقضى النظام الجديد بأن تقسم تلك المباريات هذا العام إلى ثلاث وهي:

أولا: مباريات يشترك فيها المدرسون في المدارس الأميرية والحرة وكليات الجامعة، وعدد موادها ست مواد ولها جائزتان أولى وثانية.

والرسالة التي تنال الجائزة تعتبر ملكاً للوزارة، ولها أن تطبع منها ما تراه جديراً بالطبع وأن تعطي المؤلف 25 في المائة منها

ثانياً: مباريات للثقافة العامة يشترك فيها جميع رجال الأدب والمدرسون ولها جائزتان أولى وثانية.

ولا تعتبر الرسالة التي تنال الجائزة ملكاً للوزارة ولكن لها الحق في أن تشتري حق

ص: 81

التأليف إذا رأت ذلك.

ثالثاً: مباريات للفنانين والرسامين ولها جائزتان أولى وثانية. على ألا تعتبر الجائزة التي تمنح بمثابة شراء للوحة التي تنال الجائزة، وللوزارة الحق في أن تشتريها إذا رأت ذلك.

وللوزارة الحق كذلك في ألا تمنح جائزة عن كل أو بعض الرسائل. ويجوز لها أن تقسم الجائزة الواحدة على أكثر من رسالة

وزارة المعارف العراقية تشجع حركة التأليف

ذكرت البلاد البغدادية أنه بناء على المبالغ التي رصدتها وزارة المعارف في ميزانيتها لهذه السنة لإنفاقها على تشجيع المؤلفين والكتاب ليضعوا الكتب والمؤلفات المفيدة القيمة عزمت على تأليف لجنة من كبار الأدباء والشعراء من وطنيين وغيرهم من البلاد العربية لتعرض عليها كافة الكتب التي ستقدم إليها لتقدير قيمتها الأدبية وما يستحقه أصحابها من المنح والهدايا

وعسى أن يجئ اختيار وزارة المعارف لهذه اللجنة على غير الطريقة التي درجت عليها في تأليف بعض لجانها من الرجال المتصلين بها في الوظائف والمدارس فقط

معلقة الأرز لنعمة قازان

جثمت المادة على الروح في هذا العصر حتى كادت تزهقها، ولم يقنع شيطان الشر بكتم أنفاس الفضيلة والخير في نفوس الناس وإنما مد يده إلى أسمى الفنون وأرفعها يريد أن يقبض على أعناقها وأن يلوى بها إلى الحضيض ليهشمها فيرتاح بعدها من هذه النزعة التي تنزعها الحياة إلى الله. إذا صحت وانتبهت في غفلة منه إلى الحق والجمال والطلاقة

ولكن هذه الفنون ما زالت هي البقية من شذى الإنسانية المتمردة. على المادة الساخرة من حياة الأرض

هذه هي الفنون الحارة التي يشعلها الله في بعض النفوس لتنير الظلمات أمام أعين تحب النور؛ ومن هذه الفنون الشعر، وأقدمها ما حام حول الجمال والحق، وأبهاها ما تحرر من كل قيد أراد العقل الأرضي أن يغلل به رقصات الروح، واسماها وأقواها ما استطاع أن ينتشل العقل من وهدته وأن يخطفه فيطير به في معارج الصفاء حيث لا حقد ولا ضغينة

ص: 82

ولا غل ولا كراهية، وحيث يشيع الحب ويملأ الفضاء بأعذب أنفاس التسبيح

ومعلقة الأرز للشاعر التقي نعمة قازان من هذا الشعر الذي يلهمه الله ولا تتصيده العقول

وهي شعر لا يوصف ولا يحلل؛ وإنما تقرأه فإذا هيأ الله روحك لاستساغته وجدت نفسك تنشده أو تنشد ما يمثله. . . فإن لم تفعل فهي الألفاظ التي تتدلل عليك

عزيز أحمد فهمي

الطفل ووالدته في العالم

صدر أخيراً كتاب باللغة الفرنسية عن (الطفل ووالدته في العالم) تولت الإشراف على إصداره وطبعه مدام هومفري دونفروا واشتركت في تحريره 91 سيدة من الكاتبات يمثلن 55 بلداً من بلدان العالم

وقد جاء هذا الكتاب تحفة نادرة في بابه. ونحن إذ نسجل ثمرة هذا المجهود الجبار الذي استغرق قرابة ثمانمائة صفحة يسرنا أن ننوه بما لحضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول من الفضل في صدوره، إذ تكرمت جلالته فشمل القائمات بأمر هذا السفر النفيس بعطفه الغالي، ومنحهن من المساعدة المادية ما شجعهن على المضي في مشروعهن العظيم تحت رعاية جلالته السامية، وقد نوهت مدام هومفري دونفروا في مقدمة الكتاب بهذا العطف الملكي الكريم وأشارت إلى أنها وجدت في هذه المساعدة المادية أكبر مشجع أدبي لها

وقد حلى صدر الكتاب بصورة رائعة لصاحب الجلالة الملك ووضع مقدمته الكاتب الكبير جوزيف دي بسكيدو، وتتوالى الأبواب بعد ذلك عن الطفل وأمه في البلدان المختلفة في قارات العالم الخمس، وإذا كانت العادات والتقاليد الخاصة بنشأة الطفل وتربيته تختلف بين بلد وآخر فإنها تلتقي كلها في تلك العاطفة النبيلة التي تربط الأم بطفلها والتي تقوم بفضلها أركان الأسرة (لمجد الله وعظمة الوطن)

وقد تولت الكتابة عن (الطفل وأمه) في مصر السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي فأشارت إلى ما يشيعه مولد الطفل من السرور والأمل في جميع الأسر، ولا سيما إذا كان المولود ذكراً، وذكرت الآية الحكيمة:(المال والبنون زينة الحياة الدنيا).

ص: 83

اكتشاف علمي خطير - تولد قوة من الذرات

في جميع مختبرات العلوم الطبيعية في العالم يعالج العلماء نهاراً وليلاً الذرات طمعاً في أن يستخرجوا منها القوة التي قال عنها العلامة بول بانليفه (حينما يتحقق ذلك الأمر تستطيع القوة الكامنة فيها أن تدمر أسطولاً متيناً كالأسطول الإنكليزي). وكان بانليفه يقصد بقوله هذا أن يبين حقيقة القوة المخبوءة في مادة يزعم الناس أنها جامدة. على أن الأستاذ شارل تيبو المدرس بكلية العلوم بجامعة ليون وفق إلى تحليل ذرات الأورانيوم المعدود أثقل العناصر الكيميائية المعروفة، فنشأ عن ذلك قوة تزيد على مائة مليون (فولت). وقد قال الأستاذ تيبو في هذا الصدد:(يبقى الآن حصر تلك القوة واستخدامها من الوجهة العملية، وهذا الأمر كفيل به الزمان والجهود التي يبذلها علماء الطبيعة. أما نحن فقد عالجنا الأورانيوم معالجة جدية، وتمكنا من تحليل ذراته وتأليف عناصر كيميائية منها تختلف عن الجسم المفكك، وأن القوة المنتجة منه تفوق أي قوة يستطاع الحصول عليها بحيث لا يهمنا في المستقبل نفاد الفحم في مناجمه، فالذرات تعطينا قوة لا حد لها، والمسألة الوحيدة التي تبقى لدينا هي أن نعرف طريقة استعمال هذه القوة الجديدة)

ويستنتج من بحوث أساتذة جامعة ليون أن كل مختبر يستعين بأجهزة جديدة، وأنه يجب تفاهم أولئك العلماء وتوحيد جهودهم لإدراك الضالة التي ينشدونها. فالأورانيوم المفككة ذراته ينشئ عنصرين جديدين من الذرات يساوي ثقلهما نصف ثقل الأورانيوم، وهم يبتغون معالجة تفكيكهما أيضاً، وحينئذ يتمكنون من إيجاد مادة أساسية لا يندر وجودها كالأورانيوم نفسه ليتسنى لهم مواصلة التجارب على غير النمط الذي يسيرون عليه في المختبر

مؤتمر التربية الحديثة

يعقد المركز العام لرابطة التربية الحديثة مؤتمراً أوربياً في الفترة القائمة بين 2 و 10 أغسطس القادم للبحث في الوسائل المؤدية إلى المثل الأعلى للديمقراطية. وسيرأس الاجتماع المسيو بول لنجفين أستاذ التربية، وسيشهده كثيرون من رجالات التربية في فرنسا وإنجلترا

ص: 84

ويتناول المؤتمر عدا الموضوع السابق بحث المشاكل التي يجب أن يحلها المربون باشتراكهم في الحياة العامة، والخطة العملية التي يمكن تنفيذها في المستقبل على ضوء الإعداد المهني والاجتماعي للمعلمين وجعل الطفل مواطناً صالحاً. وقد أخطر المركز الرئيسي للرابطة الفرع المصري برؤوس هذه الأبحاث

في اللغة. . . (جاءته كتابي)

جاء في الجمهرة لأبن دريد (ج. أ. ص319) ما نصه: ورجل لغب: ضعيف بين اللُّغابة واللغوبة. . . وأخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابياً يمانياً يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت: تقول جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟ فقلت له: ما اللغوب؟ فقال: الأحمق).

وجاء في اللسان مادة (كتب): (حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سمع بعض العرب يقول: وذكر إنساناً: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟ فقال: نعم. أليس بصحيفة؟ فقلت له: ما اللغوب؟ فقال: الأحمق

وقد يحسن أن أذكر هنا ما رأيته في الجمهرة أيضاً (ج2: 70). وهو (ويقولون: ما كان هذا مذ دجت الإسلام. قال: أو حاتم: قلت للأصمعي: لم أنثوا الإسلام؟ قال: أرادوا الملة أو الحنيفية).

قلت: ومنه الحديث: (ما رؤى مثل هذا منذ دجا الإسلام) وورد في رواية أخرى: (منذ دجت الإسلام). فأنث على معنى الملة والشريعة. . . ومما يناسب أن أذكره هنا أيضاً ما رأيته في الكامل للمبرد (ج3: 386) لأعشى بأهلة يرثى المنتشر بن وهب:

إني أتتني لسان لا أسر بها

من علولا عجب منها ولا سخر

وقد فسره المبرد فقال: (وأراد باللسان هاهنا الرسالة).

عبد العليم عيسى

كلية اللغة

ص: 85

‌رسَالة النقد

6 -

في سبيل العربية

كتاب البخلاء

للأستاذ محمود مصطفى

هذا هو المقال السادس في نقد عمل الأستاذين الكريمين العوامري بك والجارم بك في شرحهما لكتاب البخلاء للجاحظ. وما ندري هل بلغنا رضاهما في هذا العمل، وقد خدمنا به الكتاب خدمة إذا أضافاها إلى خدمتهما له خرج الكتاب نافعاً مرجو الفائدة؟

قد كان الرضا منهما هو الأشبه بخلقهما والأولى بحرصهما على الحقيقة، ولكني لا أسمع إلا حكاية امتعاض ولوم، وما أظن إلا أن القارئ طالب فائدة؛ فليس يهمه أن ننث عتابنا ومكثر اعتذارنا بين يديه، فلنمض فيما نحن فيه مستعينين الله أن ننتهي من نقدنا في هذا المقال إن استطعنا حتى نريح ونستريح

في ص 115 يقول الجاحظ في تصوير جشع الحزامي: (إنه لو أعطى أفاعي سجستان، وثعابين مصر، وحيات الأهواز لأخذها)

ويعلق الشارحان على الحيات والأفاعي والثعابين تعليقاً ينطق بأن الحيات هي الثعابين أو الأفاعي، وأن الثعابين هي الحيات أو الأفاعي، وأن الأفاعي هي الثعابين أو الحيات. وللشارحين بعض العذر في ذلك، فإن كتب اللغة يكثر فيها ذلك النوع من الإحالة في التعاريف، ولكنه عيب يجب ألا نقره نحن الذين سيكون على يدنا إصلاح كتب اللغة وتلافي عيوبها

إن الذي يحاول أن يتخلص من ذلك العيب يجد في كتب اللغة نفسها المخلص منه. ففي المقام نفسه الذي يقول فيه صاحب القاموس: الحية (م) أي معروف نجد كتباً أخرى ومواضع من القاموس نفسه يمكن أن نستخلص من ثناياها فروقاً تجزئنا أو تنجينا من التهافت

ذلك أننا نرى في القاموس المحيط: الثعبان: الحية الطويلة الضخمة، وفي المصباح: الأفعى: الحية الرقشاء الدقيقة العنق العريضة الرأس التي لا تزال مستديرة على نفسها لا

ص: 86

ينفع منها ترياق.

فهذه تفرقة إذا كان الشارحان قد اتجها إليها في شرحهما بانت قيمة كلام الجاحظ، وأنه إنما كان يعني أن هذا النوع في مصر مشهور بالضخامة والطول وأنه في سجستان على الصورة التي مثلها صاحب المصباح. هكذا

على أنه لو لم تكن بين هذه الأنواع تلك الفروق التي ميزناها بها لصار في كلام الجاحظ فضول يجب علينا أن نتلمس له العذر فيه؛ إذ كيف يعطف هذه المترادفات ومعناها واحد لا يزيد ولا ينقص. إنه إذ ذاك يكون كلامه بمثابة قولنا ثعابين مصر وثعابين الأهواز وثعابين سجستان. فهل يرضى أحد منا للجاحظ بمثل هذا التهافت والتكرار المزري، إنني إزاء هذا أرى أنه كان من الواجب (لو لم أجد للجاحظ هذا المخرج من كتب اللغة) أن أقول إنه إنما كرر هذه الألفاظ ليدل على العرف الجاري في هذه البلاد، فهذا النوع في مصر يسمى بالثعابين وفي سجستان بالأفاعي وفي الأهواز بالحيات. حينذاك يستريح القارئ وتبقى لبلاغة الجاحظ صورتها الجميلة التي له في نفوسنا والتي يجب أن نحرص على بقائها كذلك

ص 129 ورد في وصف الجارود وأبي الحارث جمّين أنهما يمتحنان ما عند الناس بالكُلَف الشِّداد

فيقول الشارحان في ذلك ويمتحنان الخ أي ينزلان المحن بما عند الناس من المال بسبب هذه الكلف الصعبة. وأقول إن تفسير الامتحان بما فسراه به تكلف شديد جداً. وعندي أن الامتحان هو بمعناه المتبادر الذي يملأ عقول الطلبة والمعلمين خصوصاً في هذه الأيام وهو الاختبار، والمراد بامتحان ما عند الناس اختبار أخلاقهم ومعرفة مدى كرم نفوسهم ص 131 يقول الجاحظ: سئل جمّين عن جود محمد بن يحيى فقيل له: كيف سخاؤه على الخبز خاصة؟ قال: (والله لو ألقى إليه من الطعام بقدر ما إذا حَبَس نَزْفَ السحابِ ما تجافى عن رغيف)

ثم يقول الشارحان في معنى ذلك: أي لو أعطى من الطعام مقداراً لو جعل كومة واحدة فارتفعت حتى وصلت إلى السحاب فمنعت ماءه من أن يصل إلى الأرض ما تجافى الخ، ثم يقولان بعد كلام: ووضع (إذا) في العبارة غريب أهـ. والواقع أن وضعها على حسب

ص: 87

شرحهما ليس غريباً إذ قد وقعت موقعها وتوافر في العبارة شرطها وجوابها، فكيف يكون وضعها غريباً إذا تم لها ذلك وقد جرى الشارحان في شرحهما على اعتبار أصالتها بدليل أنهما استعاضا عنها في الشرح بلو. . .

ونحن نعترض على ضبط العبارة وشرحها، فأما الضبط فنرى أنه كان ينبغي أن يكون هكذا:

(. . . إذا حُبسَ نزفَ السحاب). وأما المعنى فهو: لو قدم إليه من الطعام مقدار إذا جمع بعضه فوق بعض وصل إلى السحاب فاحتك به وتشرب ماءه، ما تسامح في رغيف منه مع هذه الكثرة وقد نتكلف تصور ارتفاعه إلى السحاب. بل يكفي في تمثيل كثرته أنه لو سقط عليه ماء السحاب لتشربه، وعلى هذا يكون قوله:(ما تجافى رغيف) جواباً للو، لا لاذا

(ص152) في الحديث عن مغرم أصحاب الدور يورد الشارحان عبارة الأصل هكذا:

(فإذا قسمنا الغرم عند انهدامها بإعادتها، وبعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها، ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من كرائها خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الريح).

ويشرحان هذه العبارة المضطربة شرحاً يأتي مثلها مضطرباً. ولسنا بحاجة إلى بيان اضطراب الشرح وإنما نكتفي ببيان اضطراب الأصل فتقول: إن كلمة قسمنا لا موضع لها في الكلام إذ القسمة تقتضي شيئاً يقسم، ولسنا نرى هنا أقساماً فصلها القائل في كلامه وإنما صواب الكلمة قسنا، والقياس هو التقدير والحساب. وهنا قاس المتكلم غرم صاحب المنزل في بنائه أولاً ثم إعادته بعد تهدمه، بما حصل عليه من كراء فخرج القياس بخسران المالك وربح الساكن. كذلك نرى أن الواو في عبارة (وبعد ابتنائها) مقحمة تفسد المعنى والصواب حذفها فكان ينبغي أن تكون الجملة هكذا

(فإذا قسنا الغرم عند انهدامها بعادتها بعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من كرائها، خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الربح)

(بقية المقال للعدد القادم)

ص: 88

محمود مصطفى

ص: 89