المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 31 - بتاريخ: 05 - 02 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٣١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 31

- بتاريخ: 05 - 02 - 1934

ص: -1

‌في الأقصر.

. .

- 2 -

وقف القطار ضحى على محطة الأقصر. وأخذ الحجيج المدني يخطو على أفرزيها ذابل الأجفان، خاثر الأبدان، من تكسير السهاد أو تفتير الوسن. وكان قوم يستقبلون زوار الآثار، وقوم يستقبلون أطباء المؤتمر، فتدفق الركب المتجمع لدى الباب في وجهتين مختلفتين، وذهب بنا أولياء القطار إلى موائد الإفطار، فأصاب منها من أراد على قدر شهوته، ثم قسمونا إلى قسمين: قسم يزور (طيبة الأحياء) في الشرق، وقسم يزور (طيبة الأموات) في الغرب. وهل بقي لعمري في طيبة اليوم أحياء أو أموات؟! لقد ذهب الموت منذ بعيد بأحيائها إلى القبر، وذهبت الحياة منذ قريب بأمواتها إلى المتحف! فلم يبق منها على عدوتي الوادي غير أنقاض طفت على وجه القرون، وأبعاض بينها وبين الفناء صراع لا يفتر!

الأقصر مدينة رقيقة الحال تقوم على أطلال طيبة منا تقوم أعشاش الطيور على شُم الصخور! تسير في شوارعها القروية، وبين منازلها المتنافرة، فلا يستبي طرفك منظر فاتن، ولا يزدهي لبك مظهر غريب، فإذا استثنيت (ونتربالاس) وما تألق من الفن في فنائه وأبهائه، ومرفأ النهر وما ترقرق من الحسن في ظله ومائه. وشارع السلطان حسين وما تنسق على حفافيه من نخله وكهربائه، والجو الفاتر وما شاع من القوة في شمسه والحياة في هوائه، وجدت بلداً كأحقر بلاد الناس يعيش حاضره على ماضيه، وتذهب عينه على آثاره! ولكن وَلِّ ظهرك حضارة الأحداث، وتعال نسر وراء العم (ضاوي) في طريق الكرنك. وبين الأقصر والكرنك مدى من الزمان والمكان يتسع فيه الخيال ويسبح في أعماقه الخاطر. ومن الذي يستطيع أن يجول في مسارح الجبارين دون أن يتمثل هذا الفصل الذي افتتح به الأزل رواية العالم؟

فهنا منذ بضعة آلاف سنة نبتت في ظلال هذه الجبال إنسانية باكرة ترسل النظر الثقيل البطيء في هدوء واستقامة وبعد. ويصور لها عقلها الطفل ألوان التعاجيب والتهاويل من قوى الطبيعة الخفية، فتنحت الجبال قبورا، وتبتني الصخور قصورا، وتقيم لآلهتها الغلاظ من صم الجلاميد تماثيل ومحاريب يتضاءل أمامها الفن الحديث؛

ص: 1

وهنا منذ أربعة آلاف سنة كان الفكر الإنساني يقطع مرحلته الأولى بينما كان الرقاد الأزلي يغشى سائر الأرض، ويطير متثاقلاً عن جفون يونان وآشور.

وهنا سجل الزمن الواعي على ملس الغرانيت أولى صحائف الفكر، فألهمت اليهود والإغريق في الدين والفن والجمال في شتى ضروبه وصوره. وهنا كانت لبني الإنسان بداية حسنة، لولا أن طغيان الفرد المتحكم، وسلطان الدين المتعسف، قد جعلا لهذه البداية نهاية من الجور والإرهاق محزنة! فها نحن أولاء بين صفين من الكباش المسيخة الجاثية أمام معبد آمون. ومعبد أمون يتلو عليك وحده ان شئت نبأ القوم! فهو أكداس هائلة من ضخام الصخر تنافس في نقلها وركمها الجبابرة في خمسة عشر قرناً منذ سيتي الأول! منها أبواب وحجر، ومنها محاريب وتماثيل، ومنها مسلات وعمد؛ ومن ذلك كله ما هو قائم يتحذى بطوله السماء، وما هو نائم يفدح بثقله الأرض!

أنظر إلى هذه الغابة الكثيفة المخيفة من الأعمدة أتظن الشمس منذ أوقدها الله أشرقت على مثلها في الضخامة والبساطة؟ إلا يذكرك هذا العمود الذي تتفتح فوق هامته زهرة اللوتس العجيبة على علو خمسة وعشرين متراً بصرح (تيتان) الخرافي وأخوته؟

من الذي قطع هذه الأطواد، ووضع هذه الأوتاد، وشاد هذه الأروقة، ونحت من الصوان هذه الآلهة البكم، وخلد الملوك على هذه الحجارة الصم؟؟ هو شعب النيل الذليل البائس! بناها وبنى سواها على قفار الخبز وأُلهوب السوط ونزع الروح، ولا تستطيع أن تصدق وأنت ترى هذه المعجزات أن مصر كانت في مدى ثلاثين قرناً تعمل غير ذلك.

استعبدت فكرة الخلود عقول الفراعنة فاستعبدوا في سبيلها جسوم الشعب، وملكهم حب الآخرة فسخروا له حب الدنيا، وفتنهم متاع السماء فرصدوا له متاع الأرض، وأغرقوا في إعزاز النفس وإيثار الحياة وتقديس العظمة. فأنكروا حرمة العامة، وجحدوا قدرة الموت، وجهلوا معنى الضعة، وخلفوا لأجيال الأبد من يطمح كالملوك، يطمع كالكهنة، ويخضع كالسوقة!

لقد كنا نتجمع حول دليلنا الهاذي في أروقة هذا المعبد المحطم، نطن في أجوافه طنين البعوض باللحون المختلفة: نذكر أوائلنا الذين ارتجلوا للناس لفظ المجد، واقتحموا على الدهر باب الخلد فنزهى ونصلف؛ ونذكر أسلافنا الذين قامت على أشلائهم هياكل أمون،

ص: 2

وفاضت بدمائهم بحيرة أوزيريس فنأسى ونأسف، ونذكر أمام ذلك الماضي الخالد حادز الكرنيش وحائط المحكمة المختلطة فنمضي ونضحك!!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌النفس والرقص

للكاتب الشاعر الفرنسي بول فاليري

ترجمة الدكتور طه حسين

- 4 -

فيدر - لنستمتع لحظة أخرى في سذاجة بهذه الأعمال الحسان!. . . كأمها تقدم الهدايا عن يمين، عن شمال، إلى أمام، إلى وراء، إلى فوق والى تحت، من الطيب ومن البخور ومن القبل، وحياتها نفسها تهديها إلى كل مكان في الكرة والى قطبي الكون.

إنها ترسم ورداً وشباكاً، ونجوماً من الحركات، وأسواراً سحرية. . . . إنهاً تثب فتتجاوز الدائرة التي لا تكاد تغلق. . . إنها تثب وتجري في أثر الأشباح. . إنها تجني زهرة لا تلبث أن تستحيل إلى ابتسامة. . . ما أعجب ما تنكر وجودها في خفة لا تنقضي!. . . إنها لتضل بين الأصوات ثم يردها إلى الهدى خيط ضئيل. . . هو المزمار المعين الذي أنجاها! يا لعذوبة اللحن!. . .

سقراط - كأن ما حولها ليس إلا أشباحاً. . . . إنها تلد هذه الأشباح وهي تهرب منها، ولكنها إذا التفتت فجأة تخيل إلينا أنها تتراءى للآلهة الخالدين!. . .

فيدر - أليست هي روح الاساطير، وما ينفذ من جميع أبواب الحياة!

أركسيماك - أتظن أنها تعلم من هذا شيئاً؟ أو أنها تفاخر بأنها تنتج شيئاً إلا هذه الحركات التي تأتيها حين تغلو في رفع قدميها، وهذا التوقيع وهذه الالتواءات التي أتقنتها في مشقة حين كانت تتعلم الرقص.

سقراط - من الحق أننا نستطيع أن نلاحظ الأمر تحت هذا الضوء الذي لا سبيل إلى إنكاره. . . . فالعين الهادئة تنظر إليها في يسر كما تنظر إلى مجنونة. هذه المرأة التي اجتثت من اصلها اجتثاثاً غريباً، والتي لا تنفك تنزع نفسها من صورتها على حين قد جنت أعضاؤها فهي تتنازع الأرض والهواء، وعلى حين يستلقي رأسها فيجر على الأرض شعراً مفرقا، وعلى حين تظهر إحدى ساقيها كأنها أخذت مكان الراس، وعلى حين تخط صبعها في التراب علامات لا أدري ما هي!. . . . وبعد، فلم هذا كله؟ - يكفي أن تثبت

ص: 4

النفس وان تمتنع فإذا هي لا تلاحظ إلا ما في هذا الاضطراب من غرابة تدعو إلى الاشمئزاز. . . فلو أردت يا نفس كان كل هذا سخيفاً.

أركسيماك - وإذن فأنت تستطيع حسب استعدادك أن تفهم وإلا تفهم، وان ترى الشيء جميلاً أو تراه سخيفاً كما تحب وتهوى؟

سقراط - يجب أن يكون ذلك كذلك. . . .

فيدر - أتريد أن تقول أيها العزيز سقراط أن عقلك ينظر إلى الرقص كأنه شخصغريب يحتقر لغته ويرى أخلاقه شاذة بل مؤذية بل فاحشة كل الفحش.

أركسيماك - يخيل إلي أحياناً أن العقل هو الملكة التي تمتاز بها نفسناً والتي تمنعها من أن تفهم جسمنا بأي حال من الأحوال!

فيدر - أما أنا يا سقراط، فان ملاحظة الرقص تمكنني من أن أتصور أشياء كثيرة وأتصور الصلات بين أشياء كثيرة. وهذه الأشياء تصبح فوراً فكرتي الخاصة وتكاد تفكر مكان فيدر. واجد ضوءاً ما كنت قط لأجده في الخلوة إلى نفسي وحدها. ولقد كانت اتكتيه منذ حين تخيل إلى أنها تصور لي الحب. - أي حب؟ - لا هذا ولا ذاك، ولا أي مغامرة سخيفة! - لم تكن تصور شخص الحبيبة من غير شك. . . لم تكن تخيل، لم تكن تمثل! كلا. كلا. لم تكن تخترع الخيال. . . ولم نتكلف أيها الصديقان حين نستطيع أن نتصرف في الحركة وفي المقدار وهما خير ما في الحقيقة من الحق؟. . كانت إذن حقيقة الحب ولكن ما هذه الحقيقة؟ ومم هي؟ وكيف تحديدها أو تصورها - ونحن نعلم أن روح الحب إنما هي الفرق الذي لا يقهر بين العاشقين، على حين أن مادة الحب الرقيقة إنما هي اتحاد رغبتهما فيجب إذن أن يلد الرقص بدقة معالمه، وبجمال وثباته، وبرقة وقفاته، هذا الكائن الكلي الذي ليس له جسم ولا وجه، ولكن له منحاً وأياماً ومصائر ولكن له حياة وموتاً بل ليس هو إلا حياة وإلا موتاً، فان الرغبة إذا نشأت لم تعرف نوماً ولا هدنة.

ولهذا تستطيع الراقصة وحدها أن تظهره للعيان بأعمالها الحسان. كلها يا سقراط، كان الحب!. . . كانت لعباً وبكاء وتكلفاً لا غناء فيه، سحر، سقوط، منح والمفاجاءات، ونعم ولا، وكل هذه الخطى الضائعة في حزن. . كانت تحتفل بكل أسرار المحضر والمغيب، وكأنما كانت أحياناً تمس الكارثة التي لا تمحي. . . ولكن الآن انظر إليها تقرباً إلى

ص: 5

أفروديت. أليست تظهر فجأة كأنها موجة من موج البحر؟ طوراً أثقل؛ وطوراً أخف من جسمها، تثب كأنما تفصل عن صخرة، ثم تسقط في هدوء. . . هي الموج.

أركسيماك - مهما يكن من شيء فان فيدر يزعم أنها تصور شيئاً.

فيدر - ماذا ترى يا سقراط؟

سقراط - في أنها تصور شيئا؟

فيدر - نعم. أترى أنها تصور شيئا؟

سقراط - لا شيء أي فيدر العزيز. ولكن كل شيء أي اركسيماك - تصور الحب كما تصور الحياة نفسها وكما تصور الخواطر والآراء. . . إلا تشعران بأنها خلاصة التحول؟

فيدر - أي سقراط الملهم انك لتعلم أي ثقة ساذجة نادرة قد توثقت بنورك الذي لا نظير له منذ عرفتك. لا أسمعك إلا صدقتك، ولا أصدقك إلا استمتعت بنفسي التي تصدقك. ولكن القول بان رقص اتكتيه لا يصور شيئاً ولا نكون فوق كل شيء صورة لقوة الحب وظرفه قول لا أكاد أطيق الاستماع له.

سقراط - لم اقل - إلى الآن شيئاً يبلغ هذه القسوة! - أيها الصديقان إني لا أزيد على أن أسألكما ما الرقص، وكلاكما يظهر علماً بالجواب، ولكنكما تعلمانه على اختلاف بينكما! أحدكما يقول إن الرقص هو ما هو، وانه ينحل إلى ما ترى أعيننا هنا. والآخر يؤكد انه يصور شيئا، وإذا فليس هو كله في نفسه وإنما هو في أنفسنا قبل كل شيء. أما أنا أيها الصديقان ، فما زلت احتفظ بشكي كاملا!. . خواطري كثيرة، وليس هذا علامة خير!. . . كثيرة مختلطة ومزدحمة حولي على السواء. . .

أركسيماك - أتشكو من الثروة!

سقراط - إن الثروة تضطر إلى السكون، ولكن رغبتي حركة يا اركسيماك. . . أنا محتاج الآن إلى هذه القوة الخفيفة التي تمتاز بها النحلة، كما تمتاز بها الراقصة. . . يحتاج عقلي إلى هذه القوة، وهذه الحركة المركزة اللتين تعلقان الحشرة فوق جماعة الزهر وتجعلانها حكما ناطقا فيما بين رحيقها من اختلاف. وتقدمانها كما تحب إلى هذه أو إلى تلك، إلي هذه الوردة البعيدة بعض الشيء وتسمحان لها بان تمسها أو تتركها أو تمعن فيها. . . هي تنأى فجأة عن الزهرة التي فرغت من حبها. ثم تعود إليها إذا أحست الندم لأنها تركت فيها

ص: 6

بعض الرحيق الذي ما تزال ذكراه تتبعها، وما تزال لذته الماضية تنغص عليها طيرانها. أو يحتاج عقلي يا فيدر إلى هذا التنقل الدقيق الذي يتاح للراقصة، والذي إذا انسل بين خواطري أيقظها في رفق واحداً اثر واحد، وأخرجها من ظلمة نفسي وأظهرها لضوء عقليكما، في خير نظام بين النظم الممكنة!

فيدر - تكلم، تكلم. . إني لأرى النحلة على فمك والراقصة في نظرتك.

طه حسين

ص: 7

‌صفحة سوداء

بقلم الأستاذ أحمد أمين

رووا أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر أن: (نيلها عجب، وأرضها ذهب، وهي لمن غلب).

ورووا أن عتبة بن أبي سفيان كان عاملاً لأخيه معاوية على مصر، فبلغه أمور عن اهلها، فصعد عتبة المنبر مغضباً وقال:(أيا حاملين ألأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم، إذ كان فسادكم راجعاً اليكم، فاما أد أبيتم إلا الطعن في الولاة والتنقص للسلف، فوالله لأقطعنَّ على ظهوركم بطون السياط، فان حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم).

وقبل هذا وذاك، جاء فرعون (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى)

وجاء أبو نؤاس مصر بعد ذلك فقال:

محضتكم يا أهل مصر نصيحتي

ألا فخذوا من ناصح بنصيبَ

رماكم أمير المؤمنين بحية

أكول لحيات البلاد شروب

فان يك باق إفك فرعون فيكمو

فان عصا موسى بكف خصيب

واشتهر المصريون عند المؤرخين بالانهماك في الشهوات وعدم النظر في العواقب، ولما رآهم ابن خلدون على هذه الحال قال فيهم:(كأنما فرغوا من الحساب) يريد انهم لا يحاسبون أنفسهم على ما يصدر منهم، ولا يخافون من عاقبة أعمالهم، كأنما فرغوا من الحساب.

وظل مؤرخو العرب يرمون المصريين بالذل، وقبول الضيم في كل ما كتبوا - وكان من أشدهم المقريزي في أول خططه، فقد عقد فصلاً في أخلاق المصريين قال فيه:(وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات، والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات، ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوة عليه، وتلطف فيه، وهداية إليه). ثم رماهم بالذل، واخذ يحصي الأقوال في ذلك: فروي عن كعب الأحبار أن (الخضب قال: أنا لاحق بمصر؛ قال الذل: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية. فقالت الصحة وأنا معك). وروى ان ابن القرية وصف أهل مصر فقال:

ص: 8

(عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغرا، وأجهلهم كبارا).

وجاء بعده السيوطي فلم يخجل من أن يضع في كتابه (حسن المحاضرة) فصلاً عنوانه (السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم) وقد جاء فيه (إن الشيخ تاج الدين كان يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بدمشق وجد في طباعه غلظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة وحسنا) والرقة والذل قريب بعضهما من بعض. وقال القاضي الفاضل: (أهل مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر).

ويذكرون الذل على انه حقيقة ثابتة، ثم يختلفون في السبب في ذلك، فمن قائل إن المصريين غاظوا يوماً سعد بن أبى وقاص، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذل؛ وسعد عرف بإجابة الدعوة.

انو كان ذلك فالخطب هين، فمن الممكن أن يجتمع صلحاء مصر وورعاؤها فيقرءوا الفواتح والدعوات وما تيسر من القران الكريم، ويهبوها لروح سعد ويطلبوا إليه ان يعدل عن دعوته، ويطلب إلى الله تعالى ان يرميهم بالعزة بعد الذل. وما أظن سعداً يصر على دعوته، وقد عرف في حياته بالسماحة والسؤدد.

ومن قائل: إن فرعون لما غرق كان معه أشراف القوم وأعزتهم، فلما غرقوا معه، فلم يبق إلا الحثالة، فأتى من نسلهم الجبناء الأذلاء. وهل ينتج الذليل إلا الذليل؟ وهذا القول أيضاً سهل رده، فالمصريون قد نزل بين أظهرهم كثير من سادة اليونان والرومان، وسادة العرب وسادة الأتراك، وذابوا في مصر واختلطوا بأهلها؛ فلم يغلب الذل العزة وعهدنا دائماً غلبة الأعزاء؟

أخطر الأسباب ما يلمح إليه الماكر (المقريزي) فهو يريد أن يبعث في النفوس اعتقاداً بان هذا سبب طبيعي يرجع إلى الإقليم والى الجو، والى طبيعة الأرض، هو يريد أن يقول إن ذلك خلقة فيهم، بل هو في كل شيء حولهم فيقول (إن هواء مصر يعمل في المعجونات وسائر الأدوية ضعفاً في قوتها، فأعمار الأدوية - المفردة المركبة، المعجون منها وغير المعجون - بمصر اقصر منها في غير مصر) واشد من ذلك وأصرح قوله (ان قوى النفس

ص: 9

تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التغير، قليلة الصبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة والتنقل من شيء إلى شيء، والدعة والجبن. . . ومن اجل توليد أرض مصر الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الأُسد، وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل، وكلابها اقل جرأة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخر، ما خلا ما كان منها في طبعه ملاءمة لهذه الحال كالحمار والأرنب)

قول قاس أيها المؤرخ! ولو صح ما قلت لكان حكماً أبدياً صارماً، فان لنا طاقة بتغيير كل شيء إلا الجو والإقليم فماذا نصنع فيهما، لو كان صحيحاً قولك لاستوجب اليأس في الإصلاح، فما تفلح أمة ضرب عليها الذل والخضوع، بل لوجب الرحيل من بلد يسمم جوها دائماً أخلاق أهلها:

وقد قال الشاعر:

(وإذا نزلت بدار ذل فارحل)

أخشى أن تكون متأثراً بآراء شيخك ابن خلدون وقد كان في طباعه حدة وعنف، وفي المصريين دعة، فنظر إليها بطبعه الحاد نظرة فيها إفراط وفيها مبالغة - لو كانت نظريتك صحيحة لما تعاقبت الذلة والعزة على الأمة الواحدة فتعز بعد ذلة، أو تذل بعد عزة، والجو واحد والإقليم واحد - وان في تاريخ مصر نفسها صفحات بيضاء تجلى فيها العزة بأجلى مظاهرها، الحق - يا سيدي - إن الإقليم عامل، ولكن ليس كل عامل، فإذا كان الجو سماً فالتربية والتعليم ترياق، إلا ترى إلى مثلك نفسه، فقد ذكرت أن الأدوية والمركبات والمعاجين يسرع إليها الفساد في مصر لسوء الجو - لو عشت إلى عصرنا لعلمت كيف تغلب العلم على الإقليم، وصار من المستطاع في يسر وسهولة أن يحفظ الدواء - بأبسط المعالجات - في مصر كما يحفظ في أوربا وان التربية كذلك تفعل في النفس الأعاجيب، وكل ما نستطيع أن نستفيده منك انك نبهتنا أنت وأمثالك من المؤرخين على أن في مصر جبناً وفي مصر ملقاً، إلى هنا نقبله منك ولكنا لا نستسلم له، ولا نقر انه طبيعي فينا. ولكن لنريك الأمثال على خطأ تعليلك ولننبهك على نظرية ثبتت حديثاً وهي: أن الأمم المبتدية الساذجة هي اكثر استسلاماً للطبيعة وشؤونها، والأمم المتحضرة تستطيع بعلمها وتربيتها

ص: 10

وقوة عقلها أن تسخر الطبيعة لمصلحتها، لا أن تخضعها الطبيعة لأمرها، فنحن نستطيع أن نستفيد من وداعة الطبيعة فنكون وديعين إلى حد، فإذا أرادت ان تتجاوزه إلى نفاق وملق وجبن قالت التربية (لا) بملء فيها، وحق للتربية إذا قالت (لا) أن يكون (لا)

وعبت كلاب المصريين بالضعف، ويظهر انك لم تر كلاب (ارمنت) وما هي عليه من بسطة في القوة والجسم، ولو قدر عليك أن ينبحك واحد منها ما سلمت بجلدك، ولغيرت حكمك.

لقد أحسست بان تعميم نظريتك خطأ بين، فاستدركت وقلت (ومن المصريين من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرأه من الشرور) أليس هذا - يا سيدي - نقضا لقولك.

ص: 11

‌أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة للمرة الثانية بعد أن قضى في أسر ملك قشتالة زهاء ثلاثة أعوام. وكانت الخطوب والفتن التي توالت على مملكة غرناطة قد مزقتها حسبما بينا، فلم يبق منها بيد الإسلام سوى بضع مدن وقواعد متناثرة مختلفة الرأي والكلمة ينضوي بعضها تحت لواء أبي عبد الله والبعض الآخر تحت لواء عمه محمد بن علي (الزغل). وكان واضحاً أن مصير غرناطة يهتز في يد القدر بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، ولم يكن الملك الصغير (أبو عبد الله) طبق المعاهدة التي عقدها مع فرديناند سوى تابع لمملكة قشتالة. يدين لها بالخضوع والطاعة، وكان ملك قشتالة يحرص من جهة أخرى على المضي في تحقيق خطته لسحق البقية الباقية من دولة الإسلام في الأندلس قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديداً من العزم والمقاومة، فبدأ بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل لأنه كان في صلح مع غرناطة يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، ولأنه أراد أولاً أن يعزل غرناطة، وأن يطوقها من كل صوب. وزحف فرديناند بادئ بدء على مالقة امنع ثغور الأندلس وعقد صلتها بالمغرب، وطوقها بقوات كثيفة من البر والبحر وسقطت مالقة رغم دفاعها المجيد في شعبان سنة 892هـ (أغسطس 1487م). ثم استولى فرديناند على المنكب والمرية (أواخر سنة 894هـ 1489م) ثم على بسطة (المحرم 895هـ ديسمبر 1489) ثم قصد إلى وادي آش آخر معقل لمولاي الزغل، ورأى الزغل رغم شجاعته وبسالته انه يغالب المستحيل وان جيوش النصرانية تحيط به من كل صوب، فانتهى إلى الاذعان والتسليم، ودخل فرديناند وآدي آش في صفر سنة 895هـ (يناير 1490م) واتفق بادئ بدء أن يستمر (الزغل) في حكم قواعده باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وان يلقب بملك اندرش، وأن يمنح دخلاً سنوياً كبيراً، ولكنه لم يلبث أن رأى انه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع الشاذ، فباع حقوقه لفرديناند مقابل مبلغ كبير، وجاز البحر إلى المغرب واستقر في تلمسان يقضي بها بقية حياته في غمر من الحسرات والعدم، وجاز معه كثيرون من الكبراء

ص: 12

الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام بالأندلس قد غدت قضاء محتوما.

ثم جاء دور غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وكانت جميع قواعد الأندلس الأخرى: مالقة والمرية ووادي آش والحامة وبسطة فد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة وعين لها حكام من النصارى، وتدجن أهلها أو غدوا مدجنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية فارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم، وخشية الريب والمطاردة؛ وجازت ألوف أخرى ممن خشوا على أنفسهم ودينهم إلى المغرب وتفرقوا في ثغوره، وهرعت ألوف أخرى إلى غرناطة تلوذ بها حتى غدت المدينة تموج بسكانها الجدد. وكان سلطان غرناطة أبو عبد الله يرقب هذه الحوادث جزعاً ويشعر أنها تسير إلى نتيجة محتومة هي سقوط غرناطة في يد العدو الظافر، وكان قد تخلص بانسحاب عمه الزغل من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في نفس الوقت أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وسرعان ما بدت طوالع الخطر الداهم، وبعث فرديناند إلى أبي عبد الله يطلب إليه تسليم الحمراء والبقاء في غرناطة في طاعته وتحت حمايته مثلما وقع لعمه الزغل؛ فثار أبو عبد الله لذلك الغدر، وأدرك - وربما لأول مرة - فداحة خطأه في محالفة الملك الغادر؛ وجمع الكبراء والقادة، فاجمعوا على الرفض والدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم؛ ودوت غرناطة صيحة الحرب؛ وحمل أبو عبد الله بعزم شعبه على القتال والجهاد، وخرج في قواته نحاول استرداد القواعد والحصون المسلمة المجاورة؛ وثار أهل البشرات وما حولها على النصارى؛ ووقعت بين المسلمين والنصارى عدة مواقع ثبت فيها المسلمون، واستردوا كثيراً من الحصون والقرى في تلك المنطقة (أواخر سنة 895هـ)، وعاد أبو عبد الله إلى غرناطة ظافرا، وانتعشت قلوب الغرناطيين نوعاً بذلك النصر الخلب، وأخذوا يتأهبون للدفاع بعزم. وغضب فرديناند لتلك المفاجأة التي لم يكن يتوقعها واعتزم أن يقوم بضربته الحاسمة في الحال؛ فخرج في ربيع العام التالي (896هـ) في جيش ضخم مزود بالمدافع والذخائر الوفيرة؛ وسار تواً إلى غرناطة ونزل بمرجها الجنوبي وأنشأ لجيشه في بلك البقعة مدينة صغيرة مشهورة سميت سانتافي (شنتفي) أو الإيمان المقدس رمزاً للحرب الدينية، وهي تقوم حتى اليوم وبدأ حصار غرناطة في جمادى الآخرة سنة 896هـ (مارس 1491م).

ص: 13

ولسنا نقف طويلاً عند حوادث هذا الصراع الأخير بين الإسلام والنصرانية في الأندلس؛ فهي تملأ فصولاً طويلة مؤثرة في الروايات العربية والإفرنجية؛ ويكفي أن نقول أن غرناطة دافعت عن نفسها دفاعاً مجيداً، ولم تدخر لاجتناب قدرها جهداً بشرياً؛ وان فروستها الشهيرة بذلت بقيادة زعيمها موسى ابن أبي الغسان أشجع فرسان عصره، ضروباً رائعة من البسالة، وخرج المسلمون من مدينتهم المحصورة غير مرة واثخنوا في النصارى. ولكن الضيق كان يشتد بالمدينة المحصورة يوماً فيوماً، وتقل مؤنها شيئاً فشيئاً، ويتساقط جندها تباعاً. وكانت مدى الربيع والصيف تستمد بعض المؤن من جهة البشرات من طريق جبل شلير فلما دخل الشتاء غطت هذه السهول والشعاب بالثلج الكثيف؛ وازدادت غرناطة ضيقا، واشتد بأهلها الجوع والمرض، وهم أبو عبد الله بمفاوضة فرديناند في التسليم غير مرة لو أن كان يمنعه موسى بن أبي الغسان وتحمله الحماسة العامة، فلما اشتد الخطب تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك، وقرر أن المؤن تكاد تنفد، وان الجوع أخذ يعصف بالشعب، وان الدفاع عبث لا يجدي؛ واتفقت كلمة الزعماء والقادة على التسليم؛ وتم الاتفاق على أن تسلم غرناطة بشروط كثيرة أهمها أن يؤمن المسلمون على أنفسهم ودينهم واموالهم، وانتمس مساجدهم وشعائرهم وشرائعهم وتقاليدهم؛ وان يجوز منهم إلى المغرب من شاء وهكذا أذعنت غرناطة وسلمت، وانتهت دولة الإسلام بالأندلس (صفر 897هـ ديسمبر سنة 1491) وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة الرائعة من تاريخ الإسلام، وقضى على تلك الحضارة الأندلسية الشامخة وآدابها وعلومها وفنونها وكل ذلك التراث الباهر بالفناء والمحو، ودخل النصارى غرناطة في الثاني من ربيع الأول سنة 897 (2 يناير 1492) واحتلوا حمراءها وباقي قصورها وحصونها وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المنهار.

أما الملك التعس أبو عبد الله فقد قضت معاهدة التسليم ان يغادر غرناطة مع أسرته إلى البشرات وان يحكم هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وفي طاعته وان يكون مقره في قرية اندرش. ولما ذاعت أنباء التسليم اضطرم الشعب غضباً وسخطاً على أبي عبد الله واعتبره مصدر كل مصائبه ومحنه؛ فبادر أبو عبد الله بالأهبة للسفر مع أسرته وخاصته وحشمه، وبعث بأمواله ونفيس متاعه إلى مقره الجديد في اندرش. وفي نفس اليوم الذي دخل

ص: 14

النصارى فيه غرناطة، غادر أبو عبد الله قصره وموطن عزه ومجد إلى آبائه الأبد؛ وخرج للقاء عدوه الظافر في سرية من الفرسان والخاصة، فاستقبله فرديناند في محلته على ضفة شنيل. وتصف الرواية هذا المنظر المؤثر فتقول إن أبا عبد الله حين رأى فرديناند، هم بترك جواده، ولكن فرديناند بادر بمنعه وعانقه بعطف ورعاية؛ ثم قدم إليه أبو عبد الله مفاتيح الحمراء قائلا:(إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا. وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا. هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند إلى حيث كانت الملكة إيزابيلا ، فقدم إليها تحياته وخضوعه، ثم انحدر إلى طريق البشرات ليلحق بأسرته وخاصته.

وهنا تقول الرواية إن أبا عبد الله اشرف أثناء مسيره في شعب تل البذول (بادول) على منظر غرناطة فوقف يسرح بصره لآخر مرة في هاتيك الربوع العزيزة التي ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه؛ فانهمر في الحال دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة:(أجل فلتبك كالنساء ما لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال). وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعري مؤثر هو: (زفرة العربي الأخيرة) وما تزال قائمة حتى اليوم يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول.

ثم تقول الرواية أيضاً إن باب غرناطة الذي خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة قد سد عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة وبني مكانه حتى لا يجوزه من بعده إنسان.

لم يطل مكث أبي عبد الله بمقره الجديد في اندرش، ولم تمض اشهر قلائل حتى أدرك كما أدرك عمه من قبل انه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع الشاذ كعامل لملك قشتالة، وكان فردنياند من جانبه ينظر إلى وجوده بعين الريب ويخشى مثار الفتنة؛ فعول أبو عبد الله ان يحذو حذو عمه في الجواز إلى أفريقية، ونزل لفرديناند عن حقوقه نظير مبلغ كبير، ثم جاز بأسرته وماله ومتاعه من ثغر المرية إلى المغرب الأقصى في سفن أعدت له (1493م) ونزل أولاً بمليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها، وتقدم إلى ملكها السلطان محمد شيخ بني وطاس الذين خلفوا بني مرين في الملك، مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتذراً عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، متبرئاً مما نسب إليه، وذلك في كتاب طويل مؤثر كتبه عن لسان كاتبه ووزيره محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وسماه

ص: 15

(الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس). وقد افتتحها بعد الديباجة بقصيدة رائعة هذا مطلعها:

مولى الملوك ملوك العرب والعجم

رعياً لما مثله يرعى من الذمم

بك استجرنا ونعم الجار أنت

لمن جار الزمان عليه جور منتقم

حتى غدا ملكه بالرغم مستلب

وافظع الخطب ما يأتي على الرغم

حكم من الله حتم لا مرد له

وهل مرد لحكم منه منحتم

كنا ملوكاً لنا في أرضنا دول

نمنا بها تحت أفنان من النعم

فأيقظتنا سهام للردى صبت

يرمي بأفجع حتف من بهن رمى

فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا

وأي ملك بظل الملك لم ينم

وهي طويلة جدا، يمتدح فيها ملوك فاس وشيد بعلائقهم القديمة مع بني الأحمر: ويشير أبو عبد الله بعد ذلك إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن نكبته؛ ويعترف بخطاه. زمن قوله في ذلك:(اللهم لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكني مستقيل، مستنيل، مستغيث، مستغفر؛ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) بيد أنه يدفع عن نفسه تهم الزيغ والتفريط والخيانة بشدة، ويقول:(ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بإيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها؛ فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر، ولا يسوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهرانيالكفر، ما وجدناه على ذلك مندوحة ولو شاسعة) ثم يرثي ملكه بعبارات مؤثرة منها: (ثم عزاء حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض ورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فليطر الطائر الوسواس المرفرف مطيراً كان ذلك في الكتاب مسطوراً. لم يستطع غير مورده صدوراً. وكان أمر الله قدراً مقدوراً).

واستقر أبو عبد الله في فاس في ظل بني وطاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس رآها وتجول فيها المقري مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن (1037هـ - 1628م)، وقضى أعواماً طوالاً في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، وتوفي سنة 940هـ (1534م). ودفن بفاس، وترك ولدين هما يوسف وأحمد، واستمر عقبه متصلاً معروفاً

ص: 16

بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة، ويذكر لنا المقري أنه رآهم سنة 1037هـ فقراء معدمين يعيشون من أموال الصدقات وفي بعض الروايات الأسبانية أن أبا عبد الله توفي قتيلاً في موقعة نشبت بين السلطان أحمد الساطي وبني سعد الخوارج عليه في وادي أبى عقبة وقاتل فيها أبو عبد الله جانب أصدقائه بني وطاس وذلك سنة 943هـ (1536م) بيد أنها رواية ظاهرة الضعف لان أبا عبد الله يكون في هذا التاريخ قد جاوز السبعين ومن الصعب أن نصدق انه يخوض مثل هذه المعارك الطاحنة بعد أن هدمه الإعياء والهرم، هذا إلى أن الرواية الإسلامية في هذا الموطن ادعى إلى الترجيح والثقة.

ويعرف أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس بالملك الصغير (وبالأسبانية تمييزاً له من عمه أبي عبد الله الزغل، ويلقب بالزغيبي، أو عاثر الحظ تنويها بما أصابه وأصاب الإسلام على يده من الخطوب والمحن.

هذه قصة مصرع الأندلس، وقصة آخر ملوكها

وصار ما كان من ملك ومن ملك

كما حكى عن خيال الطيف وسنان

تم البحث

محمد عبد الله عنان

ص: 17

‌المشتهى

بحث طريف لم ينشر

للعلامة المغفور له أحمد تيمور باشا

ذكره المقريزي في خططه في كلامه على متنزهات الفاطميين، ولكن الذي ورد عنه في النسخ التي اطلعنا عليها لا يعد وهذه الجملة المقتضبة (وكان من مواضعهم التي أعدت للنزهة المشتهى) وبعدها بياض متروك، غير أن السيوطي نقل عنه في كوكب الروضة مانصه:(قال المقريزي كان من مواضع الخلفاء الفاطميين التي أعدت للنزهة المشتهة بالروضة وكانوا يركبون إليه يوم السبت والثلاثاء فيعم الناس من الصدقات أنواع ما بين ذهب ومآكل وحلوى وغير ذلك) ولا ريب في أن هذه الزيادة من كلام المقريزي، لأن السيوطي أعقب العبارة بقوله (انتهى). وذكرها الشيخ عبد الغني النجدي النابلسي في رحلته المسماة بالحقيقة والمجاز عن المقريزي بهذا النص أيضا، فالظاهر أنهما نقلاها عن نسخة من الخطط بها هذه الزيادة أو عن تاريخ المقريزي المسمى بالسلوك. ثم أوردا بعدها بيات الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض التي منها:

وطني مصر وفيها وطري

ولعيني مشتهاها مشتهاها

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في شرحه لديوانه: المشتهى الثاني اسم مكان في مصر تدخل إليه فرقة من ماء النيل وهو متنزه مشهورا. وله ذكر في الأشعار المصرية في حسن المحاضرة وغيره من كتب الأدب والتاريخ انتهى. قلنا نعم أكثر الشعراء من ذكره وأورد السيوطي في كوكب الروضة وحسن المحاضرة كثيراً من مقطعاتهم فيه، ومنها قول ابن الفارض أيضاً مشيراً إليه والى المقياس والروضة وكان كثير التردد على المسجد الذي فيه أيام النيل.

لقد بسطت في بحر جسمك بسطة

أشارت إليها بالوفاء أصارع

فيا مشتهاها أنت مقياس قدسها

وأنت بها في روضة الحسن يانع

ولكن الغريب إلا ترى في كتب التاريخ ذكراً لموضعه بالروضة ولا نعرف من خبره غير القليل الذي رواه المقريزي، ولولا السيوطي والنابلسي ما وصل إلينا هذا القليل أيضاً. وطالما تلمسنا مزيداً من العلم به فلم نكن نحلو بطائل، فقصرنا الجهد على تحقيق موضعه

ص: 18

وعولنا في ذلك على الوسيلة الباقية لدينا وهي مراجعة ما كتب عن آثار الجزيرة وتتبع ما وقع في أسمائها من التغيير جيلاً بعد جيل إلى زماننا هذا رجاء ان نرى في الباقي منها ما له صلة بهذا المتنزه تهدينا إليه. ولابد لنا في الوصول إلى ذلك من قطع المراحل الثلاث الآتية.

المرحلة الأولى

كان أول ما تنبهنا إليه في هذا البحث أننا تذكرنا رباطاً يسمى برباط المشتهى مر بنا اسمه أثناء المطالعة فقلنا إن ظهر أنه بالروضة فلا ريب في أنه لم يشتهر بذلك إلا لكونه بنى في موضع من هذا المتنزه وقد تكون له بقية تهدينا إلى موضعه. ثم بادرنا إلى خطط المقريزي فرأيناه يقول عنه (رباط المشتهى. هذا الرباط بروضة مصر مطل على النيل وكان به الشيخ الملك بهاء الدين الكازوني ولله در شيخنا العارف الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي العباس الشاطر الدمنهوري حيث يقول:

بروضة المقياس صوفية

هم منية الخاطر والمشتهى

لهم على البحر أياد علت

وشيخهم ذاك له المنتهى

ثم رأينا السيوطي ذكره في كوكب الروضة فنقل هذه العبارة عن الخطط، ونقل عن تاريخ المقريزي (أي المسمى بالسلوك) أن بهاء الدين الكازروني المذكور توفي بهذا الرباط ليلة الأحد الخامس من ذي الحجة سنة 774هـ ثم نقل ترجمته عن إنباء الغمر للحافظ ابن حجر ونصها (محمد بن عبد الله الكازروني الشيخ بهاء الدين قدم مصر فصحب الشيخ أحمد الحريري صاحب الشيخ ياقوت الحبشي تلميذ أبي العباس المرسي وانقطع بعده بالمشتهى من الروضة وكان الناس يترددون إليه ويعتقدونه، وكان الشيخ أكمل الدين شيخ الشيخونية كثير التعظيم له، واقطع إليه البدر البشتكي وكتب له أشياء من تصانيف الشيخ محي الدين بن العربي، وكان يكثر الثناء عليه، وكانت وفاته في ذي الحجة، وأرخه ابن دقماق ليلة الأحد خامس ذي القعدة) انتهى. قلنا وقد وقفنا على ترجمته أيضاً في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ بن حجر المذكور فرأيناه أرخ وفاته بسنة 773 أي بنقصان سنة واحدة عن قول المقريزي.

ولم يزل لهذا الرباط بقية إلى اليوم، وذكره علي مبارك باشا في موضعين من خططه

ص: 19

أحدهما في مساجد الروضة باسم زاوية المشتهى (ج 18 ص 14) فنقل عبارة المقريزي والسيوطي ثم قال (وفي زماننا هذا يعني سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف، الزاوية المذكورة مشهورة بزاوية الشيخ الكازروني وموضعها غربي سراية الخديو إسماعيل وبنتها سعادة والدة باشا والدة الخديو المذكور، وأقام بها الشيخ علي القشلان أحد المشاهير من رجال الطريقة القادرية ومعه سبعة دراويش ورتبت بها مولداً سنوياً، وفي كل شهر ثلاثمائة قرش ديوانية ورتبت لها من الشمع والبن والفحم والزيت ما يلزم لها يوميا). والثاني في كلامه على الربط (ج6 ص53) فذكره باسم رباط المشتهى ونقل عبارة المقريزي المتقدم ذكرها ثم قال (وهذا الرباط يعرف اليوم بجامع المشتهى وقد ذكرناه في كتابنا المسمى مقياس النيل فارجع إليه إن شئت) انتهى. قلنا لم نر أحداً يعرفه النوم بذلك بل هو معروف بزاوية الكازروني كما ذكر في عبارته الأولى. وقد زرنا هذه الزاوية فرأيناها تلاصق السور الغربي لقصر الخديو إسماعيل وحديقته، وكان القصر بينها وبين النيل، ولا ريب في أنها بقية الرباط وأن سائره كان ممتداً في جزء من موضع القصر حتى يكون مطلاً على النيل كما ذكروه عنه في التواريخ، والباقي من هذا القصر الآن أطلال ماثلة شرقي الزاوية وفي حائطها الجنوبي قبة مدفون بها الكازروني، وعلى قبره تابوت من الخشب مغطى بستر أخضر من الجوخ عملته له أم الأمير حسين ابن الخديو إسماعيل، وفي الجانب الغربي من هذا الستر رقعة حمراء مكتوب فيها بالبياض (هذا مقام سيدي محمد الكازروني) وفي جانبه الشرقي رقعة مثلها مكتوب فيها (جددت هذا الستر دولتلو فادن أفندي والدة دولتلو حسين كامل باشا ثاني نجل حضرة الخديو حالا 1289) انتهى بنصه ورسمه. وليس بالزاوية اليوم إلا خادم واحد وأما الشيخ علي القشلان القادري شيخ صوفيتها فقد دفن في الإيوان الشرقي بالزاوبة القادرية المسماة قديماً بالزاوية العدوية والمعروفة الآن بجامع سيدي عُلَيّ (بالتصغير) خارج باب القرافة، وقد فصلنا الكلام على هذا الجامع وما به من القبور في ص 29 - 38 من رسالتنا (اليزيدية ومنشأ نحلتهم) ولما زرناه وقت تأليف الرسالة سألنا خدمته عما يعرفونه عن هذا الشيخ فأخبرونا أنه الذي كان مقيماً بالمنيل في زاوية الكازروني ومات من نحو خمس وأربعين سنة.

وموقع هذه الزاوية في وسط الجزيرة بقرب شاطئها الشرقي، وكان المتنزه المسمى

ص: 20

بالمشتهى ممتداً منها إلى جهة الشمال كما سنبينه في المرحلة الثانية وربما كان ممتداً في الجهة الجنوبية منهاً أيضاً.

المرحلة الثانية

وفي هذه المرحلة نترك زاوية الكازروني أو رباط المشتهى ونسير شمالاً حتى نصل إلى قرية صغيرة تعرف الآن بكفر قايتباي فنرى في شماليها مسجداً ملاصقاً لدورها يعرف بجامع قايتباي قد نقش على بابه اسم السلطان الملك الأشرف أبي النصر قايتباي وهو ثالث تغيير وقع في اسمه، فقد كان قديماً يعرف بجامع الفخر باسم منشئه القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش المشهور بالفخر، وكان نصرانياً ثم أسلم وحسن إسلامه ومات سنة 732. قال السيوطي في كوكب الروضة ثم جدده الصاحب شمس الدين المقسي فصار يقال له جامع المقسى ونسي اسم الفخر، ثم جدده سلطان عصرنا وزماننا الملك الأشرف أبو النصر قايتباي وابتدأ فيه سنة 886 وعمل فيه ناعورة على وضع غريب بحيث تدور بحمار ينقل قدميه وهو واقف من غير أن يمشي ولا يدور وركب عليها طاحوناً فصار يسمى جامع السلطان ونسي اسم المقسى كما نسي اسم الفخر ثم زاد فيه سنة 891 وأنشأ حوله الغراس والعمائر الحسنة فعمرت تلك البقعة وأحييت الروضة بعد ما كادت تدرس محاسنها انتهى المراد منه. قلنا ثم نزل به جلال الدين السيوطي المذكور أو سكن قريباً منه فعرف به ثم عاد إليه اسم قايتباي لبقاء اسمه منقوشاً على بابه، وفي تاريخ الجبرتي (ج3 ص 191 طبع بولاق) خبر حريق وقع بهذا المسجد سنة 1216 يقول عنه في حوادث يوم الجمعة 13 ربيع الأول (وفي ذلك اليوم احترق جامع قايتباي الكائن بالروضة المعروف بجامع السيوطي، والسبب في ذلك أن الفرنسيس كانوا يصنعون البارود بالجنينة المجاورة للجامع فجعلوا ذلك الجامع مخزنا لما يصنعونه فبقي ذلك بالمسجد وذهب الفرنسيس وتركوه كما هو وجانب كبريت في أنخاخ أيضاً فدخل فلاح ومعه غلام وبيده قصبة يشرب بها الدخان وكأنه فتح ماعونا من ظرف البارود ليأخذ منه شيئا ونسي المسكين القصبة بيده فأصابت البارود فاشتعل جميعه وخرج لهصوت هائل ودخان عظيم واحترق المسجد واستمرت النار في سقفه بطول النهار واحترق الرجل والغلام). وقد ذكر علي باشا مبارك هذا المسجد في ثلاثة مواضع من خططه أولها في الجزء الخامس ص67

ص: 21

باسم جامع الفخر في كلامه على جوامع القاهرة عامة في حرف الفاء، والثاني في ص69 من هذا الجزء في حرف القاف باسم جامع قايتباي بالروضة، والثالث في الجزء الثامن عشر ص13 في كلامه على جوامع الروضة خاصة وقال في الموضع الثاني عن الحريق الذي وقع به ما نصه (ثم بعد مدة جدد ما احترق منه وأقيمت شعائره إلى الآن وكان يعرف أيضا بجامع السيوطي لإقامة الشيخ جلال الدين السيوطي فيه أيام نزوله بالروضة) انتهى.

قلنا وقد وصلنا في هذه المرحلة إلى ان مسجد قايتباي كان يعرف بجامع السيوطي لنزوله فيه أو لتردده عليه بسبب سكناه بجواره وإذا رجعنا إلى مترجمي هذا الإمام نراهم متفقني على إقامته في أواخر أيامه بالروضة ووفاته بها بعد أن مرض أسبوعاً وصرح الأسدي في طبقات الشافعية بوفاته سنة 916 بالروضة بالمشتهى وعلى هذا فمسجد قايتباي والأماكن المجاورة له كانت داخلة في حين هذا المتنزه أيضاً وكذلك ما بينها وبين زاوية الكازروني من المواضع غير أن قول الأسدي كما يحتمل أيضاً أن يكون مراده بالمشتهى رباط المشتهى المعروف بزاوية الكازروني على تقدير أن يكون السيوطي انتقل إليه وسكنه قبل وفاته وتوفي به ولكنا نرجح الأول لبعض مرجحات اطمأننا إليها: منها أنه الأشبه بما كان عليه هذا المتنزه من العظم المظنون في أمثاله من متنزهات الخلفاء الفاطميين إذ لا يعقل أنه كان محصوراً في بقعة ضيقة لا تتعدى الجهة الجنوبية لهذا الرباط وهو ما سنعالج تحقيقه في المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة

إذا تركنا زاوية الكازروني وسرنا في الجهة الجنوبية منها فانا نصل إلى زاوية تعرف بزاوية الأباريقي واقعة على فيد غلوة منها شمالي قصر علي باشا شريف بجانب السور المحيط بحديقته وكانت قديما مسجداً جامعاً أنشاه قائد القواد غبن أحد خدام الحاكم بأمر الله الفاطمي فعرف به كما في كوكب الروضة للسيوطي قال وقد صار يسمى الآن جامع الأباريقي بولي مدفون بجواره ونسي اسم غبن فلا يعرفه الآن أحد إلا من له نظر في التواريخ. انتهى. وذكر على باشا مبارك في خططه أن هذه الزاوية بنيت على جزء من جامع غبن وجددها أخيراً علي باشا شريف ابن شريف باشا. قلنا وقد زرناها فرأينا على بابها كتابة منقوشة في الحجر نصها: (مقام سيدي أحمد الاباريقي، أنشأ هذا المسجد سعادة

ص: 22

عبد الحميد بك شريف في غرة شهر شعبان المكرم من سنة 1327 هجرية) وبداخلها من الغرب قبة على حجرة بها ضريح الشيخ وعليه ستر أخضر عمله له عبد الحميد بك المذكور سنة 1328، ثم توفي بعد ذلك بقليل وهو ابن علي باشا شريف المتقدم ذكره وقد يكون المراد بإنشائه هذا المسجد إصلاح ما تشعث فيه من بناء والدة. وفي هذه الزاوية صلوا على الإمام السيوطي لما شيعوا جنازته من الروضة إلى حوش قوصون قال الأستاذ الشعراني في ترجمته بذيل طبقاته (ثم بعد شهر سمعت ناعيه ينعى موته فحضرت الصلة علوه عند الشيخ أحمد الاباريقي بالروضة عقب صلاة الجمعة وفي سبيل المؤمنين عند الجامع الجديد بمصر العتيقة).

فيتضح مما تقدم ان زاوية الكازروني المسماة قديما برباط المشتهى واقعة بلا ريب في موضع من هذا المتنزه ويعلم من موقعها انه كان في وسط الجزيرة على الشاطئ الشرقي منها ويدخل فيه ما في كمالي هذه الزاوية من المواضع إلى جامع قايتباي، ثم إذا صح أن هذه الزاوية واقعة في وسط المشتهى كما يغلب على الظن كان أيضاً ممتداً في الجهة الجنوبية منها أي زاوية الأباريقي أي فيكون موقعه فيما بين الأباريقي وجامع قايتباي وربما كان زائداً عن ذلك جنوباً وشمالاً والله أعلم.

تتمة

في توضيح أماكن ذكرت أسماؤها بالمصور منها جامع عبد الرحمن بن عوف فان العامة تزعم أن القبر الذي به للصحابي المشهور أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم والصواب انه مدفون بالبقيع وبهذا المسجد قبر آخر دفن فيه حسن باشا المناسترلي الذي كان كتخدا مصر زمن عباس باشا الكبير أي وزيراً للولاية وهو من المساجد القديمة بالروضة أنشأه بدر الجمالي زمن المستنصر الفاطمي وكان يسمى جامع المقياس ثم جدده الصالح نجم الدين أيوب ثم هدمه المؤيد شيخ ووسعه ولم يتمه فأتمه بعده الظاهر جقمق ثم عمره قائصوه الغوري ثم خرب وانتهك الفرنسيس حرمته زمن احتلالهم لمصر ثم جدد حسن باشا المناسترلي البناء القائم منه الآن على الجزء الشمالي منه ولما توفي دفن فيه وكان في الأصل كبيراً ممتداً من الجنوب إلى الشاطئ ومتصلاً بالدرج التي كانت على النيل وهي التي تزعم العامة أن موسى عليه السلام قذف منها بتابوته في اليم، ويرى

ص: 23

الفرنسيس في كتابهم (وصف مصر) أن أبا جعفر النحاس رمى من هذه الدرج في النيل لما جلس عليها يقطع بيتاً من الشعر لظنهم انه يسحر النيل.

ومنها زاوية أبي يزيد البسطامي فان العامة تزعم أيضا انه مدفون بها والصواب انه مدفون ببسطام وقبره معروف بها كما في معجم البلدان لياقوت، واسمه طيفور ووفاته سنة 261 أو 264 كما في وفيات الأعيان لابن خلكان. وإنما نسبت هذه الزاوية للبسطامي لان بانيها من ذرية وهو الشيخ محمد بن أصيل بن مهدي الهمذاني ثم جعلها فتح الدين صدقة بن زين الدين أبي بكر رئيس الخلافة جامعاً في حدود سنة 770 فعرفت بجامع الريس وهي معروفة اليوم بزاوية البسطامي.

ومنها جامع الديريني وهو الشيخ عبد العزيز الديريني المتوفى سنة 694 فانهم يزعمون انه مدفون به والصواب انه مدفون بديرين وقبره بها معروف يزار كما في المنهل الصافي وطبعات الشعراني.

ومنها مقام الأربعين ولا مقام بهذا المكان وإنما هي شجرة سدر تعتقد العامة فيها ذلك، وقد وضع سدنتها بجوارها زيراً وأكوازاً لشرب الزوار والسابلة.

ومنها شجرة المندورة وهي من الجميز وللعامة فيها اعتقاد ومزاعم غريبة والظاهر ان اسمها عن المنذورة بالذال المعجمة والمراد المنذور لها والله أعلم.

ص: 24

‌عثمان بن أبي العلاء

الرجل الذي غزا الأسبان 732 غزوة

للدكتور عبد الوهاب عزام

ملك بني مرين يعم المغرب الأقصى، ويرث دولة الموحدين. وهذا سلطانهم السادس يوسف بن يعقوب بن عبد الحق (685 - 706هـ) يسير الجحافل لتمكين ملكه، ويجتهد ليكسو الدولة المرينية رونق الحضارة، ولكن جماعة من بني مرين حسدوا بني عمومتهم على السلطان، ونفسوا، وزعموا أنهم أحق منهم بميراث عبد الحق فثاروا على السلطان يوسف، اعتصموا بجبال ورغة، فأنزلهم السلطان من صياصيهم وألحمهم السيف. فأشفق أعياص بن مرين على أنفسهم ولحقوا ببني الأحمر بالأندلس سنة 686

ثم رجع إلى المغرب بعد سنين أحدهم: عثمان بن أبي العلا إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، لينازع بني عمه السلطان، فثار في جبال غمارة فاشتملت عليها ناره واستطارت منها ثورته، فعمت بلاد كثيرة، ولجأ إليه كل مخالف من بني مرين وغيرهم.

ومات يوسف وعثمان في ثورته فخلفه ابنه أبو ثابت (706 - 708) فسير الجحافل إلى عثمان فهزمهم، ومد على رغم أبي ثابت سلطانه إلى بلاد أخرى فنهض أبو ثابت نفسه في جنود لا قبل لعثمان بها فخلى البلاد واعتصم بسبته، وهي يومئذ في قبضة بني الأحمر

ومات أبو ثابت فخلفه أخوه أبو الربيع سنة 708 واصطلح بنو مرين وبنو الأحمر فضاق المغرب على عثمان بن أبي العلاء فولى وجهه شطر الأندلس فيمن تبعه من قرابته.

لم يكن للمسلمين في الأندلس إلا مملكة غرناطة الضيقة وقد ألح العدو عليها وصمم على محوها. واستمات في الدفاع عنها المسلمون إذ كانت الملجأ الأخير، والوزر الذي ليس وراءه إلا الموت أو الاستعباد. وكان بنو مرين يرسلون جيوشهم مدداً لبني الأحمر حيناً، ويسيرون إلى الجهاد بأنفسهم حيناً. وكان أولو النجدة والصرامة، كأبي العلاء، يفدون على الأندلس مجاهدين مرابطين غضبا لدينهم، وحمية لإخوانهم.

جاء عثمان الأندلس فتولى (مشيخة الغزاة) وحسن بلاؤه، وعظمت مكانته فكان شجى في حلوق الأسبان، وكان غصة لبني الأحمر شاركهم في سؤددهم حتى كان يستأثر بالأمر دونهم وهو من قبل خصم قومه ملوك المغرب، ثار عليهم وزلزل دولتهم زمانا. لم يكن

ص: 25

عثمان ملكا ولكنه:

كان من نفسه الكبيرة في جيش، وكم كبرياه في سلطان تولى زعامة الغزاة ثلاثاً وعشرين سنة فما وهن عزمه، ولا فل حده، ولا أغمد سيفه، ولا خط سرجه،

وما كان إلا النار في كل موضع تثير غباراً في مكان دخان والنفس الكبيرة تستهين بالصعاب، وتطرق على المنايا الأبواب. وما الجيوش الجرارة، والحروب المستعرة في همة الرجل العظيم إذا صمم.

فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها: من تحت أخمصك الحشر حسبي من الإفاضة في وصف عثمان، والإشادة بذكره أن أنقل هنا ما كتبه أصحابه الغزاة على قبره:

(هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال والكماة، وأحد الجلالة، ليث الأقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، والقائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام الماجد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدس المرحوم أبي سعيد عثمان أبن الشيخ الجليل الهمام الكبير الأصيل الشهير المقدس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانياً وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنين وثلاثين غزوة، وقطع عمره مجاهداً مجتهداً في طاعت الرب، محتسبا في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفار، مصادما بين جموعهم تدفق التيار، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار، ما سار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السيار، حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفر وأحزابه. فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به سعيدا مرتضى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضى، مقدمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلاً على نيته الصالحة، وتجارته الرابحة.

فارتجت الأندلس لبعده، أتحفه الله برحمة من عنده. توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه الله.

ص: 26

‌صحائف المجد والخلود

الفن المصري القديم

- 3 -

مصر ملتقى ثقافات العالم:

مرت بمصر في مدى نيف وسبعة آلاف من السنين، من عهد ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا، أربع مدنيات عظيمة: المدنية المصرية أو الفرعونية. وهي عصر قدماء المصريين وملوكهم حتى دخول الإغريق مصر واتخاذهم الإسكندرية مقراً للحكم، والمدنية الإسكندرية، وهي عصر الإغريق والرومان الذين كانت الإسكندرية في عهدهم عاصمة البلاد. والمدنية المسيحية (أو القبطية البزنطية) وهي عصر خضوع مصر للديانة المسيحية وظهور الأقباط. ثم المدنية الإسلامية، وتبدأ بدخول العرب وتغلب الديانة الإسلامية على البلاد.

ومن ذلك تجمع مصر لنا في آثارها أعظم سجل للحضارات البارزة، وأجل كتاب يقرأ عن العصور المتعاقبة في تاريخ الإنسانية. دع عنك ما شهدت مصر من مختلف الشعوب التي تتابعت على أرضها في الفتوح المتوالية، وما تركت هذه الدول في وادي النيل من صور للثقافات المتباينة. حتى لتكفي مصر وحدها أن تعطي لمن يرغب في دراسة الفن كل شيء، وتكفية المؤونة في كل ما يريد عمله. وإننا إذا وضعنا تحت عيني القارئ بأن أديم مصر قد كان مسرحاً كبيراً لغالب الأمم التي عرفها التاريخ، مثلت فيه كل واحدة دورها، وصرعت عليه أمة بعد أمة. وإذا أشرنا إلى أن كل أمة من هذه الأمم تركت على هذا الأديم أثراً من ثقافتها، وأثراً من نفسيتها، إن كان كبيراً أو ضئيلاً. فقد تكون مصر وحدها أجدر دول التاريخ بالدراسة. فضلاً عن أنها المصدر الأول للمدنيات جميعاً.

ويكفي لنقرر كيف جمعت مصر في أرضها حضارات العالم بأجمعه بان نشير إلى العناصر التي دخلت فيها من الحروب والفتوح، مدى التاريخ القديم حتى يومنا هذا. فقد تعاقب على مصر من عناصر الأمم المختلفة: الساميون. والهكسوس (البدو الرعاة). واللوبيون. والأتيوبيون (النوبيون). والآشوريون. والفرس. والإغريق. والرومان. والعرب. والمغاربة. والأكراد. والشراكسة. والأتراك. والفرنسيون. والإنجليز. وقد احتك

ص: 27

بها فوق ذلك من الأمم الأخرى: الحثيون. والكلدانيون. والفينيقيون. فلا عجب أن تكون مصر خير أمة يجب دراسة تاريخ الفن فيها. بل ما أجدرها أن تجتمع حولها الدنيا الحديثة لترقب في آثارها وسجلاتها صوراً خالدة من الدنيا القديمة. وتقرأ في مظاهرها المتباينة جليلا من كتب المجد لم تجمعه أمة غير مصر.

وقد يجب أن تعتبر مصر ملتقى ثقافات الشرق بالغرب. بل إن ثقافة مصر ذاتها نشرت على البلاد المجاورة لها نوراً كان له الأثر الأهم في حضارتها وتفكيرها.

ونأخذ دليلاً على ذلك فتوح مصر القديمة على يد جيوش (تحوتمس الثالث) و (رمسيس الثاني) مثلاً. فان أمثال هذه الفتوحات قد ترك في كل مكان، من الغرب للشرق، ومن المال للجنوب، أثرا، لا تزال بقاياه تشاهد في الآثار الموجودة حتى أقصى الفرس، وحتى أقصى بلاد المغرب، وحتى أواسط أفريقيا.

ولكن مصر ظلت مدى هذه التطورات التي مرت بها محافظة على قومية خاصة في فنها لم تعرف لها ظاهرة في أي أمة أخرى. ففي عهد المدنيات الأربع المتعاقبة على تاريخها، التي ذكرناها، وفي عهد الاقتباسات الفنية القليلة التي دخلت على الفن المصري في بعض فترات من التاريخ، كان للفن عندها طابعه الخاص. لا يخطئ قوميته أو روحيته الملازمة له. فهي إن كانت في إبان المدنيات الأربع قد انتقلت من عصر إلى عصر، يكاد يكون كل واحد منه غريباً عن أخيه في ثقافته ونظامه، حتى ليظهر جديداً كل الجدة عما كان مألوفاً من قبل. وان كانت الحياة قد تطورت عندها، من مصرية فرعونية، إلى إغريقية ورومانية، إلى مسيحية وقبطية، إلى إسلامية، إلا أن الفن في إبان هذه الثقافات الطارئة كان مصرياً. مصري الشخصية والروح. أو أن البلاد تمصر فيها الفن، أو هي مصرت فن كل مدينة من تلك المدنيات، وذللته ليلائم طبيعة مصر، ويتمشى مع ذوقها.

وان كان من شاهد يطلب على ذلك، فقد نشير إلى آثار الفن في العصر الذي حكمت في مصر فيها الإغريق والرومان مثلن ونقارنه في نفس الوقت بما كان من اثر الفن الإغريقي والروماني في بلاد الإغريق والرومان ذاتهما. فلاشك سيظهر ذلك الفرق واضحاً بين روحية الفن في المكانين في الإغريق والرومان متشحاً بذلك الوشاح الظاهر من الإجهاد والتعمق. وفي مصر بسيطاً وديعاً رشيقاً.

ص: 28

وكما نطبق هذه الحال على العصر الإغريقي والروماني، نطبقها أيضاً على العصر المسيحي القبطي، الذي كان فاشياً فيه نوع الفن البيزنطي. فان نفس تلك الظاهرة التي بيناها ستفرق ما في مصر عما كان مألوفاً في ذلك العهد من نفس نوع الفن في القسطنطينية مثلاً، مهبط الفن البيزنطي.

وهكذا أيضاً الفن الإسلامي. فقد يكفي بلا كبير عناء مقارنة ما في مصر من آثاره بما هو موجود في بلاد المغرب مثلاً التي نقلت إلى مصر الأسلوب الفاطمي. أو ما هو موجود منه في بلاد العراق وسوريا اللتين ارتبطت مصر في طويل من الزمن معهما في عصر من الأسلوب والشكل. فقد خضع الفن الإسلامي نفسه في جو مصر لمزاج أهل مصر، وللروح المصرية. في حين أن له في كل مكان، وفي بلاد الإسلام جميعا، صبغة عالمية. فاضطر الفن لذلك أن يتكيف في الأرض المصرية بالطابع الذي تتميز به مصر دائما، وهو طابع الاحتشام والبساطة والرقة الذي يعطي مع ذلك أروع وألطف ما يكون من التأثير.

وحينئذ فقد بقي لمصر فنها الخاص بها، المنطبع بالطابع المصري الصميم، الذي لم يخطئ غرضه، ولم يشذ عن طريقه، منذ أخذت مصر مكانها تحت الشمس. وفي ذلك سر من أسرار عظمة مصر الفنية التي نعترف لها بها التاريخ.

وإذن فالفن المصري جدير بالدراسة قبل كل الفنون الأخرى. إذ هو فضلا عن كونه فنا محليا غير مقتبس في اصله من أي بلاد أجنبية، بخلاف غيره. وفضلا عن انه الفن الوحيد الذي احتفظ مدى التاريخ بشخصيته الخاصة التي اقترنت باسم مصر. فانه المرأة التي تعكس علينا ثقافات الأجيال المتعاقبة مجتمعة في سجل واحد، هو الآثار المصرية القديمة.

ودون ذلك يجب إلا ينسى فضل الفن المصري على فنون العالم، في انه المصدر أو المدرسة الأولى التي تلقنت عنه دروس الفن أمم الأرض جميعا.

(يتبع)

أحمد يوسف

بالمتحف المصري

ص: 29

‌من الصميم

يا أختاه. . .

إلى الفتاة المصرية:

صحراء الحياة موحشة يا أختاه، تشيع في شعابها المخاوف وتتحفز على هضابها الوحوش، وتكمن في كهوفها الحتوف، وتحوم في سمائها العقبان. . .

ومرحلة الجهاد طويلة. . .

ونحن المدلجين في صحراء الجهاد ينقصها رفاق يحملون عنا بعض ما ننوء به حتى لا يأخذ منا الياس، ويحملون أمامنا المشاعل حتى لا نأخذ على غير الطريق.

نحن بحمد الله أقوياء ما سلبنا الألم الأمل وان طال وغلا، وما غلبنا اليأس على بعد الشقة واتصال المشقة. . . ولكن:

إذا الحمل الثقيل توازعته

أكف القوم هان على الرقاب

في عنقك الجميل دين يا أختاه، وعلى عطفك الرقيق تبعة هائلة؛

إن كنت تؤمنين بحق الوطن فاستعدي لتعدي لمصر جيلا جديدا أمينا على الميثاق، متينا بالأخلاق قويا لا يهاب في سبيل مصر الموت، مؤمنا لا يرتاب في حق بلاده وصدق جهاده.

إن كنت أما: فعلمي طفلك الدين أولا، ثم حدثيه عن مصر، اقرئي له صحف المجد الأولى، صحف أجداده من سادة الزمان، وقادة العالم وشادة الهرم، لقنيه تاريخ الأبطال فربما نفعت الذكرى، حديثه عن (مصطفى كامل) المجاهد المؤمن الشاب كيف جاهد ولما يتخط العشرين فتداولته الوان العسف وتناولته ضروب الإرهاق، فلم يصرفه ذلك عن السبيل ولم يصدفه عن الغاية، حدثيه عن (محمد فريد) كيف ضحى في سبيل مصر بالمنصب والراحة والصحة والمال وكيف مات غريبا واهتفي معه: لتحيى الضحية!

فإذا فرغت من تاريخ إشراق النهضة فحدثيه عن انبثاق الثورة ففيها من روائع آيات التضحية وبدائع صفحات الوطنية ما يهز نفوس المخلصين فخرا، ويحفز نفوس الناكصين في طريق المجد. . هناك (سعد زغلول) حمل الراية في أعصب الظروف وقد تساقط من حولها المجاهدون وكان له في مناهضة الاحتلال ومعارضة أهله جولات لا يزال يذكرها

ص: 30

الذاكرون.

وشيء آخر أحب أن تلفتي نظر بنيك إليه:

في الألزاس واللورين نوعان من (الشيكولات) أحدهما مر والآخر حلو، والوالدة تبدأ فتعطي لطفلها المر منهما، فإذا بكى أفهمته أن هذه ألمانيا. . . سبب هذه المرارة ثم أعقبت فأعطته القطعة، الحلوة فيصفو ويبسم فتفهمه أن هذه فرنسا. . حلوة كهذه القطعة، هنا قياس طرفه الثاني محذوف للظروف فاستخلصي منه النتيجة والحكمة والموعظة إن كنت مدرسة.

فرسالتك مهمة، ومجالك متسع، وأثرك بعيد، وخطرك شديد، ودورك يبتدئ. حيث ينتهي دور الأم: لقد أعدت لك التربة، ومهدت لك منها ما جفا فاغرسي فيها الأصول الطيبة بالموعظة الحسنة والقدوة الحسنة، علمي تلميذتك كيف تفني في الحق وتغضب للكرامة وتثور للوطن وتستشهد في العقيدة والواجب في أسماء بنت أبي بكر يوم ساقت ابنها عبد الله إلى الموت، وفي الخنساء يوم فقدت بنيها الأربعة، وفي المرأة الإسبرطية يوم صرخت في ولدها الجندي (عد بترسك أو محمولا عليه) في كل أولئك صور من الفناء في الحق والواجب. . وأخيرا: ملاحظة لست أرفع القلم دون أن أثبتها.

قابلت في قطار الصعيد فتاة مدرسة في القاهرة ومعها طالبات لا تقل صغراهن عن ست عشرة سنة فاتصلت بيننا أسباب الحديث وتشققت نواحيه، فكان من رأيهن جميعا أن المرأة لا تقع في الذكاء والعقل دون الرجل، وزادت المدرسة أنه يجب أن يباح للمرأة من الحريات والأعمال ما يتاح للرجل، وكنت أعتقد أن هذا لا يخرج عن كونه نقاشا ومكابرة! وراعني ان تخرج المدرسة (علبة سجائرها) أمام طالباتها وتقدم لي سيجارا!! أفي هذه الوجوه وحدها تطلبين المساواة؟ أنا مسلم يا أختاه أن رسالة المرأة في الحياة لا تقل أهمية عن رسالة الرجل، ولكن كل ميسر لما خلق له، ولو شاء ربك لجعل الناس جنسا واحدا رجالا أو نساء، ولكنه خلق المرأة لتكون كالظل يسكن إليها المجهود، فيجد في أحضانها مقيلا ينسى فيه لفحات الشقاء وسفعات الحياة. . . لتكون كالشاطئ يعود إليه الملاح بعد اضطراب الموج وثورة الزوابع. لم يخلقها لتحترف التنس والجولف. خلقها لتزين العش لا لتوزع وقتها بين الحدائق والزيارات والسينما. خلقها لتشارك الرجل في السراء والضراء

ص: 31

لا لترهقه من أمره عسرا. خلقها لتعد بنفسها أبناءها، لا لتتركهم لعناية الخدم والمربيات. . . تلك يا أختاه رسالة المرأة، أما ما عدا ذلك فباطل.

محمود البكري القلنصاوي

ص: 32

‌فلسفة سبنسر

للأستاذ زكي نجيب محمود

تمهيد

تستطيع أن تصور لنفسك الحركة الفكرية في أوربا في القرن الماضي بند ولا يتذبذب من طرف إلى طرف، ونقفز من النقيض إلى النقيض، وليس في ذلك نبو أو شذوذ، إنما هي الطبيعة الإنسانية، أو إن شئت فقل هي طبائع الأشياء جميعا، إذا ما تطرف بها الموضع، لا تستطيع أن تتوسط في مقر معتدل مطمئن قبل أن تجذبها الدفعة إلى أقصى الطرف الآخر. وهكذا خضعت الفلسفة في القرن التاسع عشر لما تخضع له الأشياء جميعا، فاهتزت بها الأرجوحة بين طرفي النقيض. ففي أوائل القرن الماضي طوح بها هجل في بيداء الغيبيات والتجريد فلا تكاد تقرأ شيئا منه، حتى تضل في عالم وراء هذا العالم المحس الملموس، فليست الطبيعة عنده شيئا، وما وراء الطبيعة هو كل شيء. ولكن لم يكد ينسلخ من القرن نصفه الأول ويضرب الناس في أحشاء النصف الثاني حتى نفر العقل الإنساني من ذلك الفكر المجرد، وسئم تلك الميتافيزيقا المعقدة الموحشة، وأعياه هذا العبء الثقيل. فألقاه عن كاهله غير أسف، وقفز الفكر إلى النقيض الآخر، فنهضت فلسفة جديدة تنكر غيبيات هجل وأشياع مذهبه، وتنتقل بالإنسان إلى ضرب آخر من ضروب الفكر، فبعد أن كانت تتناول بالدرس حياة لا يربطنا وإياها إلا الخيال الشارد، أخذت تعالج مظاهر هذا العالم الواقع المحسوس. نعم انتقلت الفلسفة إلى المعرفة اليقينية الإيجابية. وكان حامل اللواء في هذه الحركة أوجست كنت في فرنسا، ثم دارون وسبنسر في إنجلترا.

وكان طبيعيا أن تنشا هذه الفلسفة الإيجابية في فرنسا، لأنها موطن اللا أدرية والشك، وهما طريق لا بد أن تؤدي يوما إلى الإيمان واليقين مهما امتد بها الزمان، ثم كتب لهذه الحركة الإيجابية أن تصل بتيار الفكر في إنجلترا الذي استمد روحه من الصناعة التي تدوي أرجاؤها في كل ربع من ربوعها، والتي تقوم على العلوم أولا واخرا، فليس عجيبا أن يصوب الفكر الإنجليزي ناظريه نحو الحقائق التي هي المعين الذي تستنبط منه العلوم بأسرها وان يضرب بكل ما وراء الطبيعة عرض المحيط. . وقد كان بيكون أول من انتحى بقومه ذلك النحو من التفكير، ثم تأثر خطوه من جاء بعدهفلاسفة الإنجليز: هوبز

ص: 33

ولوك وهيوم.

عني الإنجليز إذن بدراسة ما حولهم من أحياء وأشياء. حيث آمنوا إيمانا قاطعا أنها هي الحقائق التي لا حقائق بعدها، فنتج عن هذه الدراسة علوم الطبيعة والكيمياء وسائر العلوم جميعا، بما في ذلك علم الحياة الذي كانت نظرية التطور ثمرة من قطوفه. وقد فصلها دارون في كتابه اصل الأنواع تفصيلا ضافيا، فكان لها دوي ارتجت له أركان الجامعات ومجامع العلم في أنحاء العالم، ثم جاء على الأثر فيلسوفنا سبنسر حيث استوى على ذروة بلك الموجة الفكرية فتناول مبدأ التطور وأخذ يطبقه على كل ناحية من نواحي التفكير. وها نحن أولاء نورد لك خلاصة موجزة لأهم ما جاء في كتبه من آراء.

1 -

الحقيقة المغلقة، أو ما لا يمكن معرفته

يقدم سبنسر بين يدي كتابه (المبادئ الأولى) قضية لا يرتاب في صدقها، وهي أن كل دراسة تقصد إلى البحث في حقيقة الكون واستقصاء علتو، لابد أن تنتهي إلى مرحلة يقف حيالها العقل عاجزا لا يستطيع أن يدرك عندها من الحق شيئا، سواء سلك إلى ذلك سبيل الدين أو العلم أو ما شئت من سبل

ابدأ بالدين وانظر كيف يعلل ك الكون: هذا ملحد يحاول أن يقنعك بان العالم إنما وجد بذاته، لم يتفرع عن علة وليس له بدء ولا ختام، فلا يسعك أمام قوله هذا إلا أن تمط شفتيك جحودا وإنكارا، لان العقل لا يسيغ معلولا بغير علة، وموجودا سار في الحياة شوطا لا بداية له. . . ثم استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقص عليك علة الكون وكيف كانت نشأته، فخالق الكون عنده إنما هو الله العلي العظيم، ولكنك صلب عنيد، سترى انه لم يفسر من المشكلة شيئا، ولم يزد على صاحبه سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء، وكأني أسمعك تسائله في سذاجة الطفل ومن أوجد الله؟. وإذن فالدين بجانبيه - الإيمان والإلحاد - لم يستطع أن يقدم لك تعليلا واضحا معقولا.

خذ العلوم، فلعلك واجد عندها ما يرد حيرتك. . . سائل العلم: ما هذه المادة التي أراها والمسها والتي تغص بها جوانب الكون؟ انظر! ها هو ذا يحلل لك المادة إلى ذرات ثم إلى ذريرات أدق. ثم إلى أخريات اكثر منها دقة، ثم ماذا؟ هنا يقف العلم بين اثنتين، فهو إما أن يعترف بان المادة قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، وليس من اليسير أن تسيغ

ص: 34

هذا القول، وإما أن قرر بان ثمت حدا يقف عنده التقسيم، وهو ما يستحي عليك أن تقنع به. . . ثم سائل العلم عن القوة ما هي؟ فلست أحسبه يستطيع جواباً. . وأذن فالعلم كذلك عاجز عن شرح حقائق الكون.

وأي غرابة فيما يصادف الذكاء البشري من إبهام لا يقوى على معرفته؟ انه اعد لكي يفهم ظواهر الأشياء، ولا يعدوها إلى ما خفي وراء أستارها، ولكنا في الوقت نفسه لا نستطيع أن ننكر هذا الشعور الذي تضطرب به نفوسنا من أن وراء هذا الغشاء الظاهر حقيقة كامنة، حسب العقل أن يدرك وجودها، إما إذا هم نحوها بالتحليل والتعليل خر صريعا عاجزا.

وعلى هذا الأساس من وجهة النظر، يصبح التوفيق بين العلم والدين هينا ميسورا، فليقصر العلم دائرة بحثه على ظواهر الأشياء دون أن يورط في البحث عن حقائقها المستورة. له أن يتناول المادة تحليلا وتركيبا دون أن يبحث في ماهية المادة، وله أن يستنبط قوانين الحرارة والضوء والصوت وما إليها من مظاهر القوة دون أن يعلم ماهية القوة، لان هذه وتلك فوق مقدوره، وكل محاولة له في هذا السبيل ضرب من العبث. . . أما الدين فخير له أن يترك هذا العقل المعاند الملحاح، الذي لا يركن لغير الحجة المنطقية، خير له إن يترك هذا العقل يسبح في غروره وان يناشد العقل من الإنسان، لأن من طبعها إلا تلزم بالحجة العقلية. . قل للعلم أن يكف عن إثبات الله أو إنكاره فليس اللاهوت ميدانه الذي يصول فيه ويجول، وقل للدين أن يكف عن مناشدة العقل لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير، تر الدين والعلم أخوين متصافحين لكل منهما حلبة ومجال.

ترى من هذا أن سبنسر يعتقد اعتقادا لا يلين للشك بان وراء ظواهر الأشياء حقيقة مغلقة لا يستطيع العقل البشري أن يعلم من أمرها شيئا، ولكني أريد أن أتقدم هنا إلى سبنسر في تحفظ أن يعلم عنها شيئا، قول يهدم نفسه بنفسه لأنه يتضمن اعترافا بان العقل قد ألم بها فعلا بعض الإلمام فقد أدرك وجودها على اقل تقدير، ثم سار في بحثها شوطا أيقن بعده أنها فوق مقدوره المستطاع، إذ لو كانت مغلقة دون العقل إغلاقا تاما، لما علم وجودها فضلا عن علمه بقدرته على إدراكها أو عدم قدرته.

2 -

التطور

ص: 35

ولكن مهما يكن من أمر فهاهي ذي الفلسفة - أي العقل - قد ألقت سلاحها معترفة بقصورها وعجزه عن إدراك تلك الحقيقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء وبادرت فألقت بهذا العبء الذي اثقل كاهلها طوال العصور إلى الدين نبحثها ما شاءت له طرائقه، ولتقنع الفلسفة بالبحث فيما تستطيع له فهما وإدراكا، ولتكن مهمتها منذ اليوم تلخيص النتائج العلمية وجمعها في وحدة شاملة. فقد بدأت المعرفة بأشتات متناثرة من المعلومات، ثم امتدت إليها يد العلم بشيء من الربط حتى تركزت في طائفة من العلوم. أفلا يجدر بالفلسفة أن تؤاخي بين أفراد هذه الجماعة من العلوم المختلفة. فتسكب المعارف الإنسانية جميعا في وحدة متماسكة؟ حقيق بها إلا تدع سبيلا للبحث حتى تهتدي إلى قانون عام ينتظم التجارب الإنسانية جميعاً، كائناً ما كان لونها. . . ترى هل توفق إلى الهداية في هذه الطريق الملتوية الوعرة، فتنتهي إلى قانون واحد يفسر هذا الشتيت المتضارب مما يقع تحت حسنا؟ ويضم تحت لوائه المفرد كل هذه البنود المتباينة مما تضم صدورنا من تجربة وعلم؟

يجيب سبنسر أن نعم، إلا يتلخص تاريخ الكائنات جميعا في ظهورها من بدء مجهول ثم اختفائها في نهاية مجهولة؟ إذن فلا بد ان يكون ذلك القانون المنشود شاملا للتكوين والانحلال. . . إلا وهو التطور. وهنا يضع سبنسر قانونا للتطور شرحه في مجلدات عشرة واستغرق من زمنه عشرين سنة كاملة، هاك نصه:(التطور هو تجمع لأجزاء المادة، يلازمه تشتيت للقوة والحركة، وفي خلال ذلك تنقل المادة ن حالة التجانس المطلق إلى حالة التباين المحدود) ولشرح هذه العبارة نقول:

لقد تكونت الجبال الشامخة من ذرات الحصى، وامتلأت المحيطات الفسيحة بقطرات ضئيلة من الماء، واجتمعت عناصر دقيقة من الأرض فكونت الأدواح العالية، ووجبات متعاقبة من الطعام تشيد أجسام الرجال، وتآلفت طائفة من المشاعر والذكر فألفت فكرا ومعرفة، ثم تآخت جزئيات المعرفة فأنتجت علماً وفلسفةً، لقد تطورت الأسرة إلى القبيلة، ثم إلى المدينة والجنس، ثم إلى الدولة، ثم إلى تحالف بين دول الأرض قاطبة. . . كل هذه أمثلة لأجزاء المادة المتناثرة كيف تأتلف ويجتمع بعضها إلى بعض. ومن جهة أخرى يسبب هذا التالف حدا من حركة الأجزاء وشلا لقوتها، فقوة الدولة مثلا تحد من حرية الافراد، والحبة من الهباء حرة الحركة وهي منفصلة، مشلولة مقيدة إذا ما اجتمعت مع

ص: 36

أخواتها في صخرة أو جبل. . ولكن تجمع الأجزاء يستتبع نتيجة أخرى هي التنوع والتنافر في العمل الذي نؤديه كل منها، فقد كان السديم الأول مركبا من مادة متجانسة يشبه بعضها بعضا ولكنها سرعان ما تنوعت في غازات وسوائل وأجسام صلبة. . أنظر فهذه قطعة من الأديم قد افترشت سندسا أخضر، وتلك الجبال قد اكتست ثوبا ناصعة البياض، وذلك البحر قد تسربل بلباسه الأزرق. . . أنعم النظر في هذه الخلية الواحدة المتجانسة وما سينشأ عنها من مختلف الأعضاء: هذا للغذاء وذاك للإفراز ثالث للحركة ورابع للإدراك. . . اللغة الواحدة لا تكاد تسري في بطاح الأرض حتى تتنوع في السنة ولهجات لا يفهم بعضها عن بعض. . العلم الواحد يتفرع عنه عشرات من العلوم، المنظر أو الحادثة توحي صورا من الفن والأدب ليس إلى حصرها من سبيل. . . كل هذه أمثلة على التنوع والتنافر اللذين يعقبان التشابه والتجانس.

وهكذا أسطورة الحياة: تجمع وتفريق، تآلف وتنافر، تأتلف الأجزاء وتجتمع في وحدة لا تزال تطرد في النمو حتى يدركها تنافر الأجزاء، ثم يشتد حتى تتلاشى وتنحل. . .

سنة الوجود هذا الانحلال والتكوين، ولكنه بين جذبة المد ودفعة الجزر يلتمس التوازن لكي ينتهي إليه. . . فكل حركة تعاني من المقاومة ما يؤدي بها البطء ثم إلى السكون عاجلا أو آجلا. . . الكواكب السيارة يضيق فلكها شيئا فشيئا. . . حرارة الشمس وضوؤها يقلان كلما تقادم عليها الدهر. الأرض تتلكأ في سرعتها عهدا بعد عهد الدماء في عروقنا سيصيبها البرودة والبطء. . . وهكذا سيسعى الوجود نحو الانحلال، أو سيسعى الانحلال إلى الوجود خطوة خطوة، وهي خاتمة محتمة للتطور: سينحل المجتمع وتتفرق الشعوب، ونذوب، وتذوب المدن. وبمثل هذا تتم دورة التطور والانحلال ولكنها ستبدأ السير ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية له من المرات، وكل تكوين جديد لا بد أن ينتهي بالفناء والموت.

وهكذا كان كتاب (المبادئ الأولى) مأساة مروعة تروى لنا قصة العالم صعود وهبوط، تكوين وانحلال، حياة وموت، تطرأ متتابعة على الأحياء والأشياء. . . أفيكون عجيبا أن يقابل هذا المؤلف عند إخراجه وأذاعته في الناس ثورة عنيفة لأنه لم يدع مجالا للعقيدة والأمل؟!

رأيت فيما سبق أن التطور عند سبنسر هو القانون الذي تنشده الفلسفة لكي تضم بين دفتيه

ص: 37

علوم الإنسان بأسرها. فمهما قلبت النظر في مظاهر الكون وجدتها تسير في سبيل التطور أي من البساطة إلى التعقيد ومن التجانس إلى التباين. ويجدر بنا أن نورد في هذا المقام نقدا للفيلسوف المعاصر برجسن على هذا القانون، فهو يقول إن سبنسر بقانونه هذا إنما يقدم لنا صورة الطبيعة كما هي، وليست هذه مهمة الفيلسوف، بل يطلب إليه أن يفسر هذه الصورة التي اكتفى بسردها سردا.

ويختم سبنسر كتابه هذا برأيه في الحياة بأنها تافهة حقيرة لا تستحق البقاء، فأصاب بهذا الرأي ما أصاب الفلاسفة جميعا من محنة النظر البعيد، إذ ألقى ببصره إلى الأفق النائي، فمرت صور الحياة الخلابة تحت أنفه دون أن يراها!!

ولنقف من الأمر عند هذا الحد على أن نعود في مقال تال إلى تتمة الموضوع.

زكي نجيب محمود

ص: 38

‌من طرائف الشعر

أغنية ريفية

للشاعر الوجداني علي محمود طه المهندس

إذا داعبَ الماءُ ظلَّ الشجر

وغازلت السحب ضوء القمر

ورددت الطير أنفاسها

خوافق بين الندى والزهرْ

وناحت مطوقةٌ بالهوى

تناجي الهديلَ وتشكو القدرْ

ومرَّ على النهر ثغرُ النسيم

يقبلُ كلَّ شراعٍ عَبَرْ

وأطلعت الأرض من ليلها

مفاتنَ مختلفات الصورْ

هنالك صفصافةٌ في الدجى

كأن الظلام بها ما شعر!

أخذت مكاني في ظلها

شريد الفؤاد كئيب النظر

أمر بعيني خلال السماء

وأطرق مستغرقا في الفكر

أطالع وجهك تحت النخيل

وأسمع صوتك عند النهر

إلى أن يمل الدجى وحشتي

وتشكو الكآبة مني الضجر

وتعجب من حيرتي الكائنات

وتشفق مني نجوم السحر

فأمضى لأرجع مستشرفا

لقاَءك في الموعد المنتظرْ!!

ص: 39

‌الزورق الغريق

للشاعر الدمشقي أنور العطار

(. . . ولكن إذا رجع بك القدر دون ما قصد إلى أثر لحب منسي، فان هذه الحصاة تقفك ويؤلمك أنها صدمتك. وتصيح حينذاك أن الحياة حلم، وتظل مكتوف اليدين كما لو انتبهت من إغفاءة، فتحزن وتضطرب، ذلك لان الأكذوبة المفرحة لم تدم إلا لحظة!)

(ألفريد دوموسيه)

أنيري ظلام الروح فالحب زورق

متى يعترضه طائف اليأس يغرقه

يحوم على شط النجاة مروعا

فتحبسه الأمواجقربان متق

علالة مغلوب تعايا رجاؤه

فلم يبق منه غير أنَّة مشفق

وفاضت من المجداف حسرة خائب

حبيس التشكي خافت النوح مرهق

وعاصفة هوجاء كالموت صولة

رمت بشراع خافق متمزق

فطاحت أمانيه وافضى به الردى

إلى حالك جهم السرائر ضيق

قسوت على قلبي وشردت حلمه

وخلفتني مثل الغريق المعلق

فلا اللجة الربداء تخطف روحه

ولا هو من مر العذاب المعلق

حنانيك ردي النفس من عالم الأسى

إلى عالم حلو الأعاليل مونق

فينتعش القلب الذي مضه الجوى

ويمرح في كون من الحب مورق

أسيت له كم يقطع العمر موجعا

ويحيا بحب يائس منك مقلق

متى تلتمع ذكراك في ساح حلمه

يضج كطفل واهن الصبر محنق

يود لو آن الله ألقاه موجة

بصدرك أن يخنق به الوجد تخفق

خذي بيدي فالحب لم يبق لي يدا

أرد بها كيد الحياة وأتقي

أضعت ملاذي في هواك وليتني

ظفرت بحب طافح منك مغدق

كأن الهوى قد بدل القلب طائرا

وعلمه نوح الحمام المطوق

يحلق في موج السماء مغلغلا

ومن يضنه الحب البريء يحلق

هل الحب إلا بعض اصبغة الصبا

متى ما توش القلب يخفق ويعشق

يعيد إلى خابي الحياة شعاعها

فتندى بنور ساطع متألق

ص: 40

أفيضي عليَّ الحب تلمع على المدى

خيالات ماض ضاحك الحلم مشرق

يرف سناه وهو نديان بالرؤى

كموجة نور في غلالة زنبق

تعاودني ذكراك والقلب عاطش

وإما يساوره التذكر يشرق

إذا اغدر الورد الذي كان صافيا

فلا بد من كرع المرير المرنق

أيا نهر النسيان غيب صحيفتي

وهرق بها في الغيب كل مهرق

فما نور هذا الكون إلا عماية

إذا كان حظ الحب غير موفق

أماني كثر والهوى يستثيرها

ولكنها بنت الخيال المنمق

يزين لي أفق الأعاليل حاليا

فأيان يبد الحلم نضرا اصدق

ويغري فؤادي بالرؤى وهي ضلة

وما كان حلم القلب بالمتحقق

أفقت وقلبي لا يروم إفاقة

ومن تحتجب عنه الأماني يزهق

فيالك من قلب كحلمي طائح

شتيت كدمع الفجر نهب مفرق

سنمضي ويبقى الحب لهفان باكيا

يموج كسر في السموات مغلق

إذا طفحت هذي السماء بحبنا

فهل تحفظ النجوى إلى يوم نلتقي

وقفت عليك الشعر أسوان دامعا

بقية ومض من فؤاد محرق

فصوني نشيدا ضم أحلام شاعر

مضاع شرود اللب ولهان شيق

ص: 41

‌آية الجزر

للأستاذ فخري أبو السعود

جزيرة قد إشاحتها يد القدر

عن الشطوط فقامت آية الجزر

قد استوت وسط أمواج تلاطمها

نصب الرياح ونصب البرد والمطر

إذا الشتاء أتاها لم يرم حولا

عنها وفشى فجاج الأرض بالكدر

قريب ما بين أطراف النهار وما

يزهو برونق آصال ولا بكر

يأتيك في كل يوم من تحوله

شأن جديد وأمر غير منتظر

يا رب يوم شرود جاء مزدهيا

بشمس ونسم لين عطر

تلاه آخر رواها وأترعها

بوابل مستمر الوكف منهمر

فجاء صبح حديد البرد قارسه

يكوى الوجوه بوخز منه كالإبر

فجاء من بعد صبح أبيض يقق

كاس بثلج كزغب الطير منتشر

نغشى المنازل والأشجار ناصعة

كسكر فوق حلوى العيد منتر!

يكاد يزلق عنه غير منتبه

من لم يطأه بنعل الخائف الحذر

فجاء صبح يلف الأرض في سدف

من الضباب كثيف اللون معتكر

يكاد يفتقد الإنسان راحته

إذا تعرض بين الراح والبصر

يطوي معالمها في طي غيهبه

فلم يدع ثم منظورا ولم يذر

إذا أقام ثلاثا في جوانبها

نسيت كيف مسير الشمس والقمر

إذا تراءت شتاء وهي كالحة

شوهاء عاطلة من معجب الصور

دجناء مربدة الآفاق حائلة

جدباء ذاوية الأزهار والشجر

عجبت كيف يزور الوحي واديها

وكيف ينطق فيها الشعر بالغرر

وكيف يونع حسن في كواعبها

يتهن في ريق منه وفي نضر

لكن شاعرها سارت نباهته

في الخافقين وجابت سالف العصر

وقومها في أقاصي الشرق قد رفعوا

والغرب راية رب السبق والظفر

سادوا بكل أديم راق منظره

وكل واد قشيب الوشي والحبر

وسخروا اليم واعرورو أواذيه

بقاهر حيث جاب اليم منتصر

ص: 42

الله يشهد ما جاءوا بمعجزة

في العالمين ولا بدع من الخبر

لكنه الجد تنقاد الأمور به

للطالبين ويدنو عازب الوطر

ص: 43

‌في 14 نيسان 1933

(هدية إلى صديقي الشاعر الملهم أحمد رامي)

احبك في القنوط وفي التمني

كأني منك صرت وصرت مني

أحبك فوق ما وسعت ضلوعي

وفوق مدى يدي وبلوغ ظني

هوى مترنح الأعطاف طلق

على سهل الشباب المطمئن

أبوح إذن فكل هبوب ريح

حديث عنك في الدنيا وعني

سينشرنا الصباح على الروابي

على الوادي على الشجر المغني

أبوح اذن، فهل تدري الدوالي=بأنك أنت أقداحي ودني

أتمتم باسم ثغرك فوق كأسي

وارشفها كأنك أو كأ ني!!

نعيم حبنا فانظر بعيني

وعرس للمنى فاسمع بأذني

كأن الصحو يلمع في ظنوني

ويخفق في ضلوعي ألف غصن

على الوتر الحنون خلعت شوقي

وماج هواي في آه المغني

ففي النغم العميق إليك أمشي

وأسلك جانب الوتر المرن

بيروت

أمين نخلة

ص: 44

‌دراسات أدبية

بلاسكو ايبانيز

نقل رفاته من منفاه إلى مسقط رأسه

بقلم محمد أمين حسونة

رأت الجمهورية الأسبانية وقد تحققت أطماع رجالها السياسية واستقرت حركتها الانقلابية الدستورية، أن تمجد الرجل الذي تقدم الصفوف ونفخ في بوق الثورة، فذهب ضحية مبادئه، بعيدا عن البلاد التي لبث نصف قرن ونيفا يخلص لها الحب، حتى كانت (إسبانيا) آخر كلمة لفظتها شفتاه، وهو يعاني الآم الموت في منفاه. فلم تجد أليق من أن تعبد رفاته إلى وطنه ليضمه ثرى (بلنسية) وهي البلدة التي انبثق من نواحيها فجر هذه العبقرية الفذة التي نتحدث عنها.

فمن أسابيع خلت، احتفلت الحكومة الأسبانية رسميا بنقل رفات الكاتب الشهير (بلاسكوايبانيز) من مدينة (منتون) بفرنسا، على ظهر بارجة حربية حملته إلى مسقط رأسه، وقد كان الاحتفال بوصول رفاته يوما مشهودا في تاريخ إسبانيا، ساهم الشعب فيه بإظهار عواطفه السامنة، نحو الرجل الذي لبث يجاهد ويناضل ويذكي في وطنه من حرارته وفتوته، لتظل فوهة البركان أبدا مشعلة وهاجة!

عاش ايبانيز طيلة حياته متمرداً ثائراً، لا يهدأ ولا يستقر ولا يعرف لبدنه عليه حق، كأنه موكل بتسخير قوى الطبيعة لخدمتة حتى قيل: إنه سحابة من نار.

طالع في فجر شبابه كل كل ما كتب عن الثورة الفرنسة، وكان يشبهها (بالهرة) عندما تجوعلا تلبث أن تأكل صغارها، ولكن الثورة لم تأكل صغارها، بل أكلت زعماءها: دانتون، ومارات وروبسبير. وكان مفتوناً بروسو وفولتير، يعجب بهما ويقول: هما اللذان مزقت أفكارهما وثائق العبودية، وبفضل مبادئهما اشتدت روح الثورة، غذاها الاول من ناحية القلب، والثاني من ناحية العقل.

ولد بلاسكو فيسنت ايبانيز في 29 يناير سنة 1876 بمدينة بلنسية، وهي حاضرة المقاطعة المسماة باسمها، وقد اشتهرت بكتدرائيتها الأثرية ومنها خرجت طائفة من اعظم فناني

ص: 45

إسبانيا في القرن الرابع عشر، وقبل أن يبلغ العشرين من عمره، اصدر صحيفة أسبوعية كانت تبث المبادئ السياسية المتطرفة في ذلك الوقت، كالجمهورية، والدعوة إلى الاشتراكية ونحو ذلك، وحدث أن قدم ايبانيز إلى برشلونة - مهد الثورة - ليخطب في حفل سياسي، فتناول في خطابه الجمهورية والملكية، وأخذ يفاضل بينهما، فقبض عليه رجال البوليس، ولكنه قاومهم واعتدى عليهم فحكم عليه بالسجن، غير أنه خرج من السجن وقد ازداد إيمانا بمبادئه وتحفزاً إلى تحقيقها، فكون (الحزب الجمهوري الحر) وتقدم في ضوء هذه المبادئ إلى الانتخابات، ففاز بالإجماع وانتخب نائبا في البرلمان الإسباني عن مقاطعة (بلنسية) ولم يمنعه اشتغاله بالسياسة من ان يتفرغ للأدب والكتابة، وهو بلا شك أعظم كاتب ظهر في إسبانيا إلى اليوم، خلف وراءه ثروة أدبية زاخرة، تبلغ الثلاثين كتابا، كل صفحة منها مشرقة إشراق النجم!

أم تقتصر ثورته على الأوضاع السياسية التي كانت تشكو منها بلاده فحسب، بل عرف أنه كان هداما في دائرة الأدب أيضاً، ليبني على أنقاض القديم وجموده، أدبا جديدا حيا له طابعه ومميزاته الخاصة، والحقيقة أن العصر الذي بدأ فيه ايبانيز حياته الأدبية، كان في حاجة إلى من يقوض أركانه، وكان يقول: نحن في حاجة إلى الثورة الأدبية التي تدفعنا إلى كشف مواطن الجمال وتؤدي بنا إلى النور.

ولكن هل أثرت تعاليم ايبانيز حقا فأخرجت الأدب الأسباني من الظلمة إلى النور؟ أن من يتذوق ذلك الفن العميق الرائع الذي خلده ايبانيز في قصصه الممتعة، أمثال: في ظل الكنيسة، وامرأة (جويا) العارية، وفرسان الرؤيا الأربعة، وفاجعة البحيرة، وبحرنا، وزهرة مايو، وأعداء المرأة، ورمل ودم، والأراضي المجهولة الخ، ذلك الفن الذي كان يعتمد في إبرازه على جمال التنسيق ودقة الوصف، وإرهاف العاطفة ويكسوه بإشعاع الروح الدرامي الغامر، حتى يجتهد في أن يجعل من أدبه مرآة صافية لفنه الجميل، تنعكس عليها مختلف الصور والأحاسيس، فتشعر وأنت تطالع قصة له أن شعورك ووجدانك مرتبطان تماما بحوادثها، وأنها تمثل بلاده ونفسيتها أبلغ تمثيل، وقد لا يصرفه كلفه باللوحة ومحاولة إظهار مكامن الفتنة في الصورة، عن العناية بالإطار نفسه، فتجده يقتنص المعاني ويصقل الألفاظ كما يصقل النحات الأحجار قبل البناء، وولعه بالطبيعة يدفعه إلى ان يجاري (زولا)

ص: 46

فيرسم أبطاله وهم يعيشون بين مهادها بعيدين عن تلك العاطفة الزائفة التي تولدها الحياة المصطنعة في المدن، كما أن، إعجابه بالبحر المتوسط - مهد جميع البطولات والأديان - يوحي إليه أن يمجد من أعمال رجاله. عوليس، وبركليس، وهنبيبال، والاشادة بشجاعة فرسانه، ولك في قصته الخالدة

لفت ايبانيز أنظار العالم الأوربي إلى فنه خاصة والى الأدب الإسباني عامة، فترجمت مؤلفاته إلى اللغات الحية وأولع الفرنسيون بقصصه فقلدوه وسام (جوقة الشرف)، وهتف له شيوخ النقدة، فوصفه كورتوس النقادة الألماني (بأن فيه عباره عن مأساة الخير والشر)، وقال أحد القصصيين الأمريكيين (لقد بدأ ايبانيز ينافسنا في صناعتنا، والاوفق أن نحطم أقلامنا ونبحث عن صناعة غير الأدب لنعيش)!

وقد غرست مبادئ فولتير في نفسه كراهية رجال الدين والسخرية من أعمالهم، ففي قصته المسماة ' (في ظل الكتدرائية)، يصور لنا مفكرا اشتراكيا هو (جبريل لونا)، يطالب بالإصلاح الاجتماعي فيكون نصيبه الاضطهاد من الكنيسة، فيثور على رجالها ويحتج ويغادر بلده بعد ان يؤمن بأن لا كرامة لنبي في وطنه! ويطوف باوربا ليبشر بمبادئه، غير أن السلطات تطارده أينما حل، فيعود أخيرا إلى بلده مقصوص الجناح كسيرا، ويضطر إلى ان يعيش متخفيا مع أخيه الذي يعمل خادما (بالكتدرائية)، أي يعود فيأكل من خبز الكنيسة التي يضمر لها البغض، حتى إذا ما اشتد ساعده اخذ يكفر بنعمتها ويؤلب الجموع عليها، يتخذ من خدامها تلاميذ له، ويبث مبادئه بينهم، فلا تلبث هذه المبادئ أن تسري كالسم في أبدانهم، يحملهم على سرقة أموالها وتحفها، ولكنهم في خلال السرقة يقتلونه ويمثلون به اشنع تمثيل!

ولعل فن ايبانيز يبدو قويا واضحا، وأفكاره مستوية ناضجة في القسم السادس من القصة، عندما يحمي وطيس المناقشة بين جبريل واحد اتباعه، فيبسط أمامه حالة إسبانيا وجمود الكنيسة، ويتعرض للفترة الذهبية من تاريخها، فيذكر ان الإسبانيين اعظم من اليونان والبيزانطين، فهم الذين اهدوا البشرية (الدنيا الجديدة) وهم أرستقراطية الشعوب وسادة البحار، قادوا الرواد في سياحاتهم حول الكرة وجابوا الآفاق وبعثوا المدنية من مرقدها، ولو أنصف التاريخ لجعل بلادهم وطن العالم الأول!

ص: 47

أما في قصته (رمل ودم) فهو المتهكم اللاذع، صاحب الأسلوب المتدفق الفياض، يرسم لنا في لياقة وسحر، حياة مصارعي الثيران فلم يحاول أن يقلل من خطر هذه المصارعة الوحشية، ولكنه هاجم الأرستقراطية التي تبني مجدها وتسليتها على شقاء هؤلاء المصارعين الذين يطلقون عليهم اسم (التربادور). فبطل هذه القصة (جوان جالا رادو)، فتى يخرج من صفوف الشعب ليشق طريقه إلى المجد بقوة ساعديه فيتمرن على مصارعة الثيران ولا يلبث أن يبذ أقرانه ويتألق هجمه، وتمكنه شهرته وحياته الجديدة من ان يستمتع بكل ما كان يصبو إليه في صغره، يحارب الفقر والجوع وينعم بالزواج ووفرة المال، ولكن القوة والشهرة لا تدومان، فهو يخشى ان يفقدهما عندما يقف في ساحة المصارعة حاملا حياته بين ذراعيه، ويرسم ايبانيز إلى جانبه صورة أخرى يحملنا على التهكم والازدراء بها: صورة (كورنتيس) وجدانية الحس متقلبة الأهواء تدعى (دوناسول)، بعد أن تنتزع (جالارادوا) من أحضان زوجته، تحبه، وتعبده كبطل وتحاول أن تقرن نجمها بمجده وشهرته، ولكن عندما تحس بالفارق بينهما كامرأة أرستقراطية تنحدر أصلاب الأشراف، وبينه كرجل من عامة الشعب. تحتقره وتتخلى عنه، فيهوى نجمه ويفقد توازنه وهو في ساحة المصارعة فينشب الثور قرنيه في صدره ولا يلبث أن يقع مضرجا على الأرض حيث تسيل دماؤه وتمتزج بالرمال، يحملونه إلى الخارج جثة هامدة ولكن الجمهور لا يلبث بعد قليل أن يصفق ويصيح طالبا مشهدا جديدا ليشبع نهمته ويرضى غريزته التي طبعت على ذلك، منذ أن شهدت الدماء الأولى وهي تجري على الأرض: دماء هابيل.

وايبانيز قوي الإيمان بروح الحضارة العربية التي سادت إسبانيا وظلت ترفرف فوق ربوعها زهاء ثمانية قرون؛ تلك الروح المتوقدة التي نفذت إلى الغرب فعلمته كيف يخلق من الحب أدبا عاليا ومن المرأة صنما معبودا، ما برحت تمد المعجم الإسباني بربع مفرداته وان تشع أنوار خيالها فتلهب قرائح كتابها وتسعر بحرارتها دماءهم فتدفعهم إلى كتابة، دون كيشوت، وكونده لوكانور، وغيرهما مما نرى آثار الفروسية العربية كامنة بين سطورها، بل أن أثر هذه الروح ليبدو واضحا تماما في مؤلفات وأشعار سلفادور، رويدا، والفريدو بلانكو، وبيرس فالنتي وغيرهم ممن نراهم متأثرين بالخيال العربي الباهر.

لقد صهر بلاسكو ايبانيز بنار عاطفته المشبوبة تخيلاته عن حضارة أجداده العرب،

ص: 48

فأودعها في بعض قصصه ودافع عنها في حماسة ويقين، فهو وان كان يكتب بلغة أسبانية، إلا انه كان يفكر قبل كل شيء بروح عربي، وقد خلف وراءه أنصارا يحاولون اليوم جهدهم تحقيق ما كان يصبو إليه من إعادة الحضارة العربية إلى (الفردوس الإسلامي المفقود) كي تنتعش النهضة الحاضرة من تراثها الخالد، وإعادة التعليم باللغة العربية - مفتاح الثقافة الإسلامية في إسبانيا - ونشرها بين الجامعة ودراسة آدابها العالية؛ وسوف يكون شأنهم بالنسبة لها في أوربا شأن الموارنة عندما خدموها في الشرق خلال العصور الغابرة.

ينشر ايبانيز ظلال أفكاره هذه على صفحات روايته (في ظل الكنيسة) فتراه يمجد من شأن هذا الروح العربي ويصف شعوره على لسان أحد أبطال قصصه فيقول:

(إن تاريخ إسبانيا الباهر لم يأت إليها من الشمال ولا من الكنيسة، بل من الجنوب ومن العرب، هؤلاء الرجال سمر الوجوه الذين وصلوا إلى شواطئنا في القرن الثامن من شمال أفريقيا بعد أن سيطروا في انتصاراتهم على أرقى الشعوب، حملوا إلينا الحضارة والتمدن، حضارة أجيال امتزجت ببعض، قوامها فلسفة الهند وثقافة الفرس وآداب اليونان وفن البيزانطيين وأشياء أخرى من الشرق ومن الصين.

(احتضنت إسبانيا العرب، ومكنتهم في مدى عامين من أن يستولوا على حضارة سبعة أجيال، رحب الشعب بهم لأنهم فكوا وثاقه من استبداد ملوكه السابقين، وكان استعمارهم استعمار الحضارة والنور والتسامح الديني لا استعمار الوحشية والسلاح!

(وعندما استوطن العرب إسبانيا، جعلوها. . كالولايات المتحدة الأمريكية) في العصر الحاضر، تعيش فيها جميع الأديان في حرية ومساواة، من غير تحيز ولا تعصب، وفي الوقت الذي كانت شعوب الشمال تعيش في ظلمات الجهالة وتتطاحن في الحروب الدينية وتختلط بالأقوام البربرية، كان العرب والإسبان واليهود، يعيشون كتلة واحدة في وئام، يعملون في سبيل إسعاد إسبانيا ورفاهية شعبها، فتأسست دور العلم والجامعات وازدهرت الفنون وارتقت العلوم ونشطت المواردالاقتصادية وبدأت إسبانيا تستيقظ لتشهد أنوار فجر جديد!

(وماذا عمل ملوك الكثلكة الذين أتوا إلينا من الشمال بعد ذلك؟ نشروا الإرهاب ومحاكم

ص: 49

التفتيش، أجلوا العرب واليهود، طردوا العبقرية والحضارة، واحلوا مكانهما: الدين والتعصب، أطفأوا مصابيح العلم التي كانت تضاء من المساجد الإسلامية والبيع اليهودية، ليضعوا مكانهما قناديل الجهل والجمود وخرافات رجال الكنيسة، وعندئذ بدأت إسبانيا تتلاشى من العالم وتموت).

يتشعب بنا الحديث لو شئنا ان نتحدث عن ايبانيز لنوفيه حقه، وخير لنا أن نرجئ هذا إلى فرصة يكون فيها المجال أكثر اتساعا، وإنما نختم هذه الكلمة بان نقول، انه لما شبت نار الثورة الإسبانية الأخيرة التي انتهت بإعلان الجمهورية، كان ايبانيز في مقدمة من يثيرون الخواطر ضد دكتاتورية الجنرال بيمودي رفيرا، فاشتدت الخصومة بينهما، وكان ايبانيز عزوفا عن الضيم فاتهم الملكية في وطنيتها، وكان هذا هو السبب في إبعاده عن إسبانيا ونفيه.

محمد أمين حسونة

ص: 50

‌بين الشك والإيمان:

(شيلر)

للأستاذ خليل هنداوي

حتى في ظلمات الشك التي رانت على قلبي، وفي الغم الذي غشى نفسي، تعلم - يا إلهي - بأنني قد تحريت النور. . . أراني - دائما - أكثر هدوءا. . .!

(شيلر)

بين كل شعراء الأدب الألماني تجد (شيلر) هو أشقى من طغى عليهم الشك. وبرح بهم التشاؤم المعذب.

درج (شيلر) من مهده، يغمره حنان أم هي رمز التقوى ومثال العطف. وأب دعا له حين احتضنه بذراعيه - (ربي! امنح طفلي هدى العقل، واهده السبيل الذي أخطه له) وهكذا كانت مظاهر طفولته محاطة بالإيمان العميق. وقضى الشاعر نشأته الأولى مولعا بالكتب. وهائما في الطبيعة يشيع ما يثور في نفسه من الأهواء الشعرية.

دخل المدرسة وأخذ العلم يطغى على شاعريته وإيمانه، ولكن (شيلر) كره العلم والعلماء، وكان يجد ألذ ساعاته ساعة ينفرد بنفسه ويتلو توراة (لوثر) أو (المسباد) ولكن روح الشك كانت تتسلل إلى نفسه من حيث لا يشعر. وفجأة تيقظت هذه الروح فيه فغدا صاحب شك وقلق - وظل في دوره الأول - بين عاملين يتساجلان الغلبة عليه، فطورا يقهر القلب المتردد روحه الصافية. وتارة تغلب روحه الصافية قلبه المتردد: فينشد متألما

(حتى في ظلمات الشك التي رانت على قلبي، وفي الغم الذي غشى نفسي: علمت - يا إلهي - بأنني قد تحريت النور.

أنت أردت لي هذه الأيام السوداء، التي تبرز فيها الأوهام المغرية من ناحية، ويبرز الإنكار - من ناحية أخرى - ضاحكا ضحكة الساخر

هانذا - تجأر فوق رأسي العاصفة! والقصبة سترتجف إذا لم ترحمني يا الهي!

احرس قلبي في هذا الهدوء، في هذا الهدوء المقدس وأنا سائر إلى الحقيقة. فالشمس لا تعكس أشعتها في اللجة الثائرة، ولا تبسط شعاعها إلا على صفحة الماء الرقراق.

ص: 51

إنني اسمع صلصلة الناقوس الذي يهتف بي إلى الهيكل: فأغدو إليه حاملا إيماني. . . .

ألا أفتح قلبي لإدراك الحقيقة، حتى أستطيع أن أعانقها، فأغدو سعيدا.)

في هذه المقطوعة الصغيرة يظهر لنا شك الشاعر، ومرارة قلبه، وتوقان روحه إلى الحقيقة، والطريق التي انتقاها ليستعيد الهدوء والإيمان. ولكن الله لم يجاور قلب شيللر كثيرا. لأن الشك تسرب إليه ظافراً وملك عليه نفسه ولما يتجاوز الثمانية عشر ربيعا، فعاد شاعر هذه المقطوعة الطافحة بالإيمان شاعراً شاكاً ما علمنا سر انقلابه! ولكن هل كانت المذاهب الفلسفية إلا تاريخ قلب الإنسان؟ وهل كان الشك والجمود والسلب إلا ثورة من ثورات النفس المتعطشة إلى معرفة المجهول. وإذا بشيللر يقول - متحديا الدين بلهجة من يؤله الطبيعة (إن الإله الواحد إنما هو كل الكائنات. الطبيعة والآلهة هما قوتان متساويتان. الطبيعة هي اله يتعدد ويتقسم إلى ما نهاية) وفي الاجتماع، يؤمن بمذهب (روسو) القائل: إن الإنسان يولد صالحا ولكن المجتمع هو الذي يفسده.

- 2 -

ليدرس الشاعر، نفسه وقلبه وعواطفه في رسائله وفي قصائده، لأنها هي صورة نفسه - إذا توخينا صورتها الصادقة.

إن شقاء شيللر لم يكن شقاء شعريا خياليا فحسب، بل كان شقاء مصدره نفسه التي غشيها منه ما غشيها! فهو في بعض أحيانها يتنازعه عاملان: ثورة حواسه، وتعنيف ضميره له تعنيفا أراد أن يحطمه الشاعر فعجز عن تحطيمه، ويتمثل أنينه هذا في مقطوعة (القتال)

(لا لا. . . سوف لا أتحمل طويلا هذا القتال. . القتال الطاحن الذي يقوم به الواجب، فإذا لم تقدري على كبح أهواء قلبي أيتها الفضيلة، فلا تطلبي مني التضحية. . . هذا إكليلك ليظل - كل الأيام بعيداً عني. . .

خذيه. . . وذريني وحدي أتلاشى!)

وفي بعض أحيانه قد يجد الشاعر في نفسه جرأة على الفرار، الذي يتجلى فيه الانتصار. فيأوي إلى ملجأ (مانهايم)

(في حالة هم وغم، أكتب لكم - يا أصدقائي - بأنني لم أعد أستطيع البقاء هنا - فأنا خلال اثني عشر يوما أحسست مع نفسي كل مكان داخل نفسي وخارج نفسي، طالباً الخروج من

ص: 52

هذا العالم، فالناس والسماء والأرض كلها غدت عندي قبيحة. أنا هنا فاقد نفسي. . .)

وهناك لحظات نرى وطأة الحاضر والمستقبل والعالم والناس تثقل عليه حتى تحطم قلبه، فيقول يائسا:

إنني عانقت الإنسانية بحرارة وشوق ملتهب ولكن - وآ أسفاه - لم أجد نفسي إلا بين ذراعي كتلة من جليد)

إن النفوس التي نشأت في كنف الله، تجد - عندما تنعتق منه - ما لا نجده غيرها من أصناف الألم، وضروب التوجع، لأن هذا الفراغ الذي كان يملؤه الله ينقلب إلى ظمأ شديد لا يرويه شيء ولا يطفئه شيء.

هذه هي المرحلة الأولى التي قطعها شيللر ومن ورائها مراحل، والآن أصبح يظهر تردده كمذهب في كتابه (رسائل فلسفية من جول إلى روفائيل) فما كان جول إلا الشاعر نفسه، وما كان روفائيل إلا صديقه الشاعر (كرونر). ففي (جول) تجلى نفس فتية ينتابها الشك، وهي لا تستطيع أن تفر من أسفها على إيمان فقدته!

قال: (يا لها من أيام سعيدة! تلك الأيام السمارية، حين كنت أتبع مورد الحياة بعينين مغمضتين، كنت مستسلماً لعواطفي وكنت سعيداً. علمني روفائيل أن أفكر. وهأنذا الآن أكاد أذري دموع الندم على هذا الاستكشاف. أنت سلبتني الإيمان الذي كان يودع الراحة في قرارة نفسي، وأوحيت إلى أن أزدري كل ما كنت أحترمه فكم من أفكار كانت عندي مقدسة فنزعت حكمتك (الحزينة) عنها رواءها. وأذهبت بهاءها.

كلما رأيت الناس وهم يرددون صلاة واحدة بلحن واحد قلت لله هذه الشريعة التي استمسك بها الناس! فبعثت في قلوبهم الراحة والسكون.

عقلك قد أطفأ هيامي النفسي. أنت قلت لي: لا تؤمن إلا بعقلك. ولا مقدس غير الحقيقة، ولا حقيقة إلا ما يتقبله عقلك - وهكذا أطعتك وصرفت عني أبهى أفكاري.

والآن عقلي وحده ظل معي ليكون وحده دليلي يحملني إلى الله. إلى الحقيقة والأبدية. فتعساً لي إذا وجدت ما يخالف تفكيره. أو عراني شك في معرفته، أو غزاه داء تركه مشلولاً)

فروفائيل يمثل أصحاب المذهب العقلي القائلين بأن لا حكم إلا للعقل كما يذكر جول: (أنت قلت لي: لا تقبل شاهداً غير العقل، إذ لا مقدس إلا الحقيقة. والحقيقي هو الشيء الذي

ص: 53

تعرفه بعقلك ، قد أطعتك وضحيت بإيماني وغدوت كالظافر اليائس الذي أحرق كل سفنه وقطن في الجزيرة الجديدة قاتلاً منه كل جاء بالرجوع. فعقلي هو الآن كل شيء وهو وحده يحملني إلى الله ويفتح لي أبواب الحقيقة والأبدية! ولكن تعساً لي إذا ضل دليلي الطريق فالعادة لا بد أن تغادرني. وويل لي إذا شاء القدر أن تتقطع أوتار هذه القيثارة، فتضطرب ألحانها، وتكثر أشجاني وأشجانها.)

وفي فترة ثانية يكتب جول هذه الرسالة لروفائيل:

(إن مذهبك قد خدع كبريائي، كنت سجينا وأنت جذبتني من عجلتي لتقودني إلى ضوء النهار. فالنور الذهبي والفضاء الفسيح قد لامسا جفوني. بالأمس كان يرضيني من المجد الوضيع ان أكون ابنا صالحاً وصديقا فاضلا ورجلا نافعاً لبلده، أما أنت فقد صيرتني رجلاً إنسانيا.)

قال لي روفائيل: المملكة الوحيدة في العالم الروحاني هي مملكة العقل

وفجأة ترى الشاعر يحس حقارة الإنسان إزاء عظمة الوجود فيجعله إحساسه هذا في شك من نفسه فيقول:

في أي مكان حيثما حولت أنظاري يا روفائيل يبدو لي الإنسان محدود العقل، وان هوة عظيمة تفصل بين تأملاته وبين الحقيقة لا تغبطه على النوم الذي يستريح فيه ولا توقظه! فالعقل هو مشعل في عجلة ينير لحظة فوق رأس السجين ثم يتركه في ليل أكثر حلوكة. إن فلسفتنا هي رغبة (أوديب) في المعرفة رغبة يحوطها الألم. ولا تنتهي من الإلحاح والسؤال حتى يجيبها مجيب (هل تستطيع أن تعلمني من أنت؟) ولكن الشك أخذ يحز في قلب جول وجول يصيح ويتألم فتخمد جذوته المشتعلة، فيقول مؤنبا (روفائيل) بلهجة النادم:

(هل تعيد إلى حكمتك ما سلبته مني؟ وإذا لم يكن - لديك - مفتاح تفتح لي به السماء فلماذا طردتني من الأرض؟ وإذا كنت تعلم أن سبل الحقيقة وراء حفائر الشك المخيفة فلماذا ألقيت صاحبك في هذه الشعب الملتوية؟

أنت هدمت كوخا حقيرا لتشيد على بقاياه قصرا منيعا ولكنه قصر فارغ ويا للأسف!

روفائيل!! أطلب منك نفسي، فأنا لست بسعيد.

قد فقدت شجاعتي، ويئست من قوتي. ويدك وحدها تستطيع أن تشفي جراحي.)

ص: 54

وروفائيل يجيبه: (عزيزي جول:

أتريد أن تنصب عليك السعادة من السماء بدون انقطاع؟ هذا كثير على نصيب الإنسان. داء الشك الذي وقعت فيه لن تشفى منه إلا بنفسك، وبرغم أن يقظتك تعسة فإنني لا أملك علاجا أنقذك به من خيالك واحلامك؛ أنا لم أضع شيئا للنفوس التي هي أمثال نفسك إلا أنني لقحتها بالاضطراب الذي لا مفر منه

أيها الجاحد! قد لعنت العقل ونسيت النعم التي حباك بها.)

وها هو ذا روفائيل يحاول أن يقود صديقه إلى الحقيقة فيكتب له:

(ما الشك - يا صديقي - إلا حدة العقل الإنساني في ثورته. على أن الهزة الشاذة التي تصيب النفس النامية يجب إلا تؤول بها إلى تأييد صحتها، وتثبيت وجهتها، وكلما كان الخطأ بعيدا كان الظفر بالحقيقة أكثر خطراً. وكلما كثرت عوامل الشك في الإنسان كان أكثر لجاجة في تحري اليقين)

وكتاب روفائيل الأخير يقر بتأثير مدرسة (كانت) الفيلسوف. وفي تلك الأثناء كان شيللر يقف أجدر ما كتبه (كونسبرغ) بالمطالعة من تصانيف فلسفية. فقرأ فيها بان أفكارنا وآراءنا التي نراها، قد يمكن إلا يكون لها خارج عقلنا حقيقة مدركة. ومثل هذا المذهب يوافق كل الموافقة مذهب شكه، بل يذهب شيللر إلى أبعد من ذلك، فبينما كان (كانت) يحرص على شيء من الحكمة في (العقل المكتسب) إذا بشيللر يسلخ عن (الكانتيسم) هذه النتيجة التي تجعل الواجب شيئاً مجرداً والفضيلة حلماً.

والآن فلنتل بعض مقطوعاته نر فيها هذا الشك بارزاً بألوان مختلفة يفيض على جنباتها، ونرى الجمال الفني أسمى صفاتها. أما المثل الأعلى فأنت مجهد نفسك باطلا لتقف عليه. لأنه هو حلم ، يقول:(لقد خمدت تلك الشمس التي كانت تضئ أيام فتوتي. وذهبت رسوم ذلك العالم الكامل الذي كان يهجس به ضميري. وضاع إيماني الجميل بتلك الأشياء التي كانت تخلقها لي أحلامي الوادعة الإلهية.)

كان الشاعر يسأل. ما هو الوجود؟ وأين يذهب؟ وما يحول؟ والإنسان نفسه ما هو؟

هو في بعض أحيانه:

(كحاج في ربيع أيامه، وقف في الطريق يستخفه الطرب فسمع صوتا يهتف به: سر وثابر

ص: 55

على سيرك حتى تبلغ الأفق، حيث يغدو ما هو أرضي ترابي سماوياً لا نهائياً. هذه كانت أنشودة الفجر:

ولكن - وا أسفاه - قدم المساء وحالت الجبال والأنهار دون سيره، فترامى على البحر لكي يبلغ غايته! ولكن الغاية كانت تفر دائما دون أن يدركها.

وقف الحاج في النهاية قائلا! (وا أسفاه! لا طريق تقودني إلى الغابة، والسماء لن تلتقي مع الأرض. والمكان الذي أنا فيه ليس هو بالمكان الذي يجب أن أكون فيه.)

وهو في بعض أحيانه الأخرى (كالهارب) الذي يسأل نفسه. (أين يجب علي أن أمشي حتى أجد الهدوء؟ أنا متكئ على عصاي! والأرض الضاحكة بربيع شبابها ما هي - لي - إلا كالضريح.

فاصعد يا لون الصباح! ولون الشفق والقبل الملتهبة هذه الإحراج والغابات. وانزل أيها المساء، وسكن بهمسك الجميل هذا العالم الذي سكنت منه الحياة

أنت أيها الفجر لا تنير إلا حقلا للأموات، وأنت أيها المساء لا تهز بهمسك الجميل إلا نعاسا طويلا.)

ولكن أية أحلام يريدها الشاعر في قصيدتة (آلهة اليونان) ففي هذه المقطوعة يظهر الهدف الذي سعى إليه، ووضعه نصب عينيه. فهو يتغنى بالشك ويتباهى به، لأنه يقدس من اليونان الأقدمين ما يريد أن ينشره من عبادتهم الوثنية فهو يعظم خلقهم البسيط، وبكرم أساطيرهم الحساسة. بل هو يأسف على ذهاب العصر الذي كانت تحكم فيه مجموعة آلة لطيفة تسيطر على العالم. وتقود الناس وراءها إلى إلهات اللذائذ والمسرات ويختم هذه القصيدة بقوله:

(سرعان ما تبدل كل شيء! في كل الخليقة يجري سلطان الحياة المطلق

أما النبات القديم، والوقار الحزين فقد طردتها من عبادتك الصافية. وكل القلوب يجب أن تخفق سعيدة مغتبطة لأن السعداء كانوا حلفاءك، ولا شئ إذ ذاك مقدس غير الجمال) أما وقد قطع هذه الرحلة فليدن خطوة أخرى! أليس هو معتنقاً مذهب الشك وناصراً مذهب اللذة فلماذا لا يؤمن بالعدم ويتغنى به؟ وهذه قصيدة (الخضوع للقدر)

إن إنسانا مخلوقا للسعادة يتمثل لنا في يومه الأخير. كان زاهداً في كل طيبة من طيبات

ص: 56

دنياه، راجيا منه العالم الثاني أن يحتسب له هذه التضحية. سفك الدمع الكثير ولم يتمن إلا وعداً إلهياً حتى يكمل إلى النهاية غلبته على قلبه، وأخيرا دنت الساعة التي ينال فيها ثوابه. فانتصب الرجل الأمين أمام عرش الله ليذكره بالوعد الذي ضحى في سبيله بكل ملذة.

فكان الجواب:

إنني احب كل أبنائي على السواء. أنت تأملت فكان التأمل ثوابك، وآمنت فكان الإيمان سعادتك، أنت تستطيع أن تستفهم العقلاء وهم سيقولون لك (أن الأبدية لن تعيد إليك ما فرطت في ملذاتك.)

(البقية في العدد القادم)

ص: 57

‌العلوم

البحوث الروحية

للأستاذ عبد المغني علي حسين

خريج جامعت برمنجهام

سبقت لنا كلمة بهذا العنوان في الرسالة. وفيها أشرنا إلى أن أفراداً من أساطين رجال العلم الحديث جمعوا من اختباراتهم وتجاربهم باستخدام الوسطاء أدلة جديرة في اعتبارهم باسم العلم تبرر القول بأن العالم الروحي جزء من النظام الكوني، وأن الاتصال به في حيز الممكنات.

ونود بعد ذلك أن نورد طرفا من تلك الاختبارات والتجارب، ونزنهابالميزان العلمي، لنرى مبلغ صلاحيتها كدعامة لهذا الزعم الخطير، الذي إذا صح فأن كل كشف علمي سابق يعتبر بجانبه من محافر الأمور. لما لا، والعلم لم يمهد لنا إلى اليوم غير سبيل المادة، والمادة لا نمكث في محيطها إلا قليلا، ونرتحل عنها وشيكا. أما عن الخلود بعد الممات فلم نسمع أن العلم الحديث كلمة، الهم إلا كلمة إنكار من بعض الذين ينتسبون إليه.

نعم، نسمع إنكاراً صريحا من بعض رجال العلم، وافتراض وجود الأرواح غير المنظورة أبغض شئ إلى رجل العلم الحديث وليس هذا بغريب، فالبرق الذي أعتبره الأقدمون لمع سيوف الآلهة في السماء قد ثبت اليوم أنه شرر كهربائي. والرعد الذي حسبوه زمجرة غضب الآلة ليس سوى فرقعة ذلك الشرر. وقوس قزح الذي ظنوه سلما تمده الآلة ليهبط على درجه رسولهم ليس سوى طيف ضوئي ناتج من تحلل أشعة الشمس بانعكاسها وانكسارها في قطرات ماء المطر. والمرض الذي توهموه فعل أرواح شريرة وطاردوها عبثا بالتمائم والتعاويذ ليس سوى فعل ذر دقيق يرى بالمجهر ويعالج علاجا صحيحاً بالمحقن. لا حد لما كان ينسبه الأقدمون إلى الأرواح. ولا شك أن تاريخ العلم الحديث يكاد يكون سلسلة حرب مع الارواح، فهو يجليها كل يوم عن مركز في العالم المادي، ويقيم على أعقابها نظما وقوانين يتسع بعضها بعضا ولا أثر فيها لروح ما.

لا بدع إذن أن نرى رجل العلم يرفض الاستماع لكل زعم بوجود أرواح للموتى مهما كان مصدره. ويعتبر ذلك رجوع القهقري، وعوداً إلى عهد الخرافات البغيض، واستسلاماً لحب

ص: 58

البقاء، وطمعا في لقيا الاعزاء، وذرعاً من الفناء. ولا بدع أن نراه يعتبر تعليل الظواهر بالأرواح عجزاً عن التعليل، ويفضل عليه أن تبقى الظواهر بلا تعليل.

هذا الموقف السلبي تراه كثرة المفكرين هو الجدير بالروح العلمية الصحيحة، التي لا تعرف الآمال ولا المخاوف. ولكن بعض المفكرين يرونه تطرفا وتنعتا. لأن الروح العلمية التي لا تعرف الآمال والمخاوف، لا تعرف أيضا البغض والحب. يجب أن نستمع لكل رأي مهما كان بغيضا. وأن لا نرفض الاشتراك في تجارب تجري إلى النمط العلمي مهما بدا موضوعها سخيفا والأمل في جدواها ضعيفا. إذا لم نفعل ذلك فنحن كالذين رفضوا النظر في تلسكوب غاليلو (سر الفر جوزيف لدج) أستاذ إنجليزي في علم الطبيعة، وشخصية علمية عالمية فذة. نيف اليوم على الثمانين من عمره، ولا يزال نشيطا عاكفا على البحث العلمي في معامله. كان أستاذا بجامعة ليفربول، ثم قضى حقبة طويلة مديراً لجامعة برمنجهام. وكان رئيسا للمجمع العلمي البريطاني، ولجمعية رنتجن، ولجمعية الطبيعة، ولجمعية الراديو. ولديه من ألقاب الشرف العلمية الشيء الكثير. وله فضل معروف في تحقيق التخاطب اللاسلكي ويعتبر دائما حجة في كل ما له علاقة بالأثير

لم تقتصر جهود هذا العلم الكبير على الطبيعة، بل امتدت إلى ما فوق الطبيعة. والذي دفعه إلى هذه المخاطرة العلمية أمران: أحدهما بحوثه في الأثير، التي أوصلته إلى أن الأثير هو الحقيقة الأساسية في العالم المادي، وانه الوسط الشامل، وان منه تصاغ المادة نفسها. ثم نظر فرأى الأثير الجزء الأهم في كياننا الجثماني نفسه. أليس الجسم البشري ككل جسم مادي يتألف من كهارب دقيقة بينها فراغ شاسع بالسبة لحجومها المتناهية في الصغر؟ أليس الجزء الأكبر من الجسم البشري فراغا يملؤه الأثير؟ هذا الأثير إذن هو الثوب الحقيقي لعنصر الحياة الذي يميزنا من الجماد والذي نسميه الروح. أما الذرات المادية فهي مجرد آلة تمكننا من العيش برهة في عالم المادة. أن الدقائق المادية نفسها لا تتلامس قط بل يوجد بينها دائما فراغ يملؤه الأثير. فنحن إذن لا نمس شئ إلا عن طريق الأثير. ولا نسمع شيئا إلا بتوسط الأثير. ولا نرى شيئا إلا باستخدام الأثير. والتفكير وكل الظواهر العقلية والنفسية لا شأن لها البتة بالذرات المادية. بل تنشأ أول في الأثير المتخلل لأجسامنا. وهذا الأثير بكيفية مجهولة يحرك ذرات المادة التي تتألف منها أعضاؤنا الظاهرة. فننسب نحن

ص: 59

كل شئ لذرات المادة وننسى الأثير الرابط لها والضابط لكل ما تأتيه من حركات.

هل يتحتم إذن أن يكون موت الفرد زوال كل أثر لذاتيته من الوجود؟ إذا كانت الحياة من خواص الأثير الجثماني فهناك كل أمل في بقائها بعد الممات. إذ قد علمتنا دروس الطبيعة أن الظواهر الأثيرية تبقى ما بقى الدهر، ولا نتشتت أيدي سبا، شأن ذرات الجسم المادي. الموت إذن هو طرح ذرات المادة والعيش بعد ذلك في ثوب الأثير الجثماني، وفي عالم أثيري لا يحجبه عن حواسنا الحاضرة إلا عجز تلك الحواس وقصورها. لقد كشف العلم عن ظواهر أثيرية لم تكن من قبل محسوسة، مثل الإشاعة الخارجة عن حدود المنظور، فلم نستنكر أن يكشف العلم عن حياة في الأثير؟

هذا ما يقوله (لدج). وظاهر أنه رأي فلسفي أكثر منه عمل علمي. وإذا كانت هذه هي كل حجته فقد أتى بغير جديد. إذ النقاش الفلسفي في المادة والروح والفناء والخلود فاضت به الكتب وكاد يصبح مفروغا منه. لذا لا نرى التبسط في حجته هذه رغم ما تستحقه من تقدير. وننتقل إلى اتصاله الفعلي بتلك الكائنات الأثيرية وكيف أمكن أن يكون.

وضع (لدج) كتابا اسماه (كيف ثبت في خلود النفس البشرية) مهد له بما يأتي: -

(القول بخلود النفس البشرية بعد الممات، وبأن الموت طرح للجسد المادي ليس غير، هو قول قديم، وجد منذ وجد البشر. أما الحجج التي تؤيد هذا القول فبعضها ديني قائم على التسليم بوجود خالق رحيم عاقل، وبعضها حيواني يرجع إلى نفور النفس الغريزي من فكرة الانعدام، والقول بأن الغرائز البشرية تنم حتما عن حقائق واقعة. أني في هذا الكتاب لا أعتمد على أحد هذين النوعين من الحجج، وأن كنت أحترمهما وأقدرهما قدرهما. بل لست أنوي أن أحاج أو أجادل، فنظريتي قائمة على أساس من الاختبار الفعلي، وعلى قبول طائفة من ظواهر يمكن لكل إنسان أن يشاهدها بنفسه إذا تجشم عناء التجريب. إني أعرف خطورة كلمة (حقيقة) من الوجهة العلمية، ومع ذلك أقول دون أدنى تردد أن بقاء ذاتية الفرد بعد الموت هو عندي حقيقة قام عليها الدليل الحسي. لقد وصلت إلى هذا اليقين بدراسة خصائص نفسية غامضة لم يلتفت إليها العلم حتى الآن، ولا يرتاح لها فيما أظن رجال الدين. لذا أرى لزامنا على أن أذيع من آن لآن ما يبرر مثابرتي على هذه البحوث ويعبر عن اقتناعي التام بصحة ما وصلت إليه.

ص: 60

(ولا حاجة بي إلى القول بأن كلمة (خلود) الواردة في العنوان لا يقصد بها الخلود أبد الآبدين فهذا ما لا علم لي به. كل ما أطمع في تقريره هو بقاء ذاتية الفرد بعد الموت. الموت هو الحادث الذي نرى عنده انقطاع حبل الحياة فإذا كنا نعيش بعد هذا الحادث القاصم فبعيد أن نلتقي بعده بحادث أشد منه وأعظم خطرا. لست أعرف ما يكون من شأننا في المستقبل القاصي، وكل ما استدللت عليه هو بقاء ذاتية الفرد منا بعد مغادرة هذا الجسد المادي. والمستقبل البعيد خليق بأن لا يشغل بالنا الآن. وحسبنا العلم أن هذه الحياة الأرضية ليست كل نصيبنا من الوجود كأفراد، وإننا إذا استخدمناها كما ينبغي فهي المرحلة الأولى من عيش طويل كله فرص للخدمة التي تتفق مع طبيعتنا الحقيقية وفيها سعادتنا الصحيحة.)

هذا ما كتبه (لدج) تمهيدا للكتاب. وسنتناول ما تضمنه الكتاب من تجارب ومشاهدات في كلمة أخرى إن شاء الله.

عبد المغني علي حسين

خريج جامعة برمنجهام

ص: 61

‌في النسبية

بين أستاذ وتلميذه

التلميذ - كأنك تريد أن تقول إنالأطوال تنكمش بالحركة

الأستاذ - يظهر انك لم تفهم ما أعنيه بالضبط. سأضرب لك مثلا. تصور طائرة الآنسة لطيفة مبتعدة عنا بسرعة مائتي كيلو متر في الساعة. وأنك ترصد - وأنت على الأرض - قائمة علم مثبتة عمودية على هيكل الطيارة في اتجاه حركتها تريد قياس تلك القائمة. ثم لنفرض انك - باستعمال ما تعلمنه في مدرستك من أصول حسابات المثلثات وما تحت يدك من دقيق آلات القياس قادر على إيجاد طول تلك القائمة الثبتة في الطيارة مضبوطا إلى أجزاء من ألف مليون من الميليمتر. فان العلم الحديث يؤكد لك انك ستجد انكماشا في طول القائمة المذكورة. . .

التلميذ - أي أنني أجد طولها أقل منه عندما كانت ساكنة أمامي على سطح الأرض.

الأستاذ - نعم. ولكن ليس هذا كل ما هناك. فان الآنسة لو رأت القيام بتجربة مماثلة وهي في طائرتها. وكان معها أجهزة دقيقة مثل التي عندك. ثم حاولت قياس ارتفاع قامتك وأنت على ظهر الأرض. لرأتك أقصر قليلاً مما كنت وهي أمامك قبل أن تبدأ الطيران.

التلميذ - أقصر! لا شك أنك تريد أن تقول أطول

الأستاذ - لا. بل أريد أن أقول أنها تراك أقصر. فهنا موضع الدقة في النظرية الجديدة. ذلك لأن الحركة والسكون نسبيان. وإذا كنت تعتبر الآنسة وطائرتها مبتعدتين عنك بتلك السرعة بينما ترى نفسك ساكنا. كذلك هي. فأنت والأرض التي تحملك - بالنسبة للطائرة - في حركة ابتعاد عنها بسرعة مائتي كيلو متر في الساعة. أما هي فتعتبر نفسها ساكنة.

التلميذ - ولكن أترى الآنسة محقة في اعتبار طائرتها في حالة سكون وكل ما عداها مبتعد عنها بتلك السرعة الكبيرة.

الأستاذ - هذه وجهة نظرها. صحيح أن وجهة نظرك أنت على الضد من ذلك. ولكن هذا لا يمنع أن تكون أنت أيضا على حق من وجهة نظرك. أي أن كليكما على حق في اعتبار نفسه ساكنا والآخر متحركا. ولا شك أنك تذكر قطار السكة الحديدية عندما سار بك لأول مرة. وكيف أنه كان يخيل لك كأن الأرض تبتعد عنك. وأن القطار لا يتحرك. وهذا ما

ص: 62

يحدث أيضا للمسافر بالطيارة. فالأستاذ البشري عندما ركب الطيارة لأول مرة ووصف شعوره في مقال له بالأهرام. أبان كيف أنه خال الطائرة لا تحرك أكثر من كيلومترين كل ساعة بينما هي تقطع مائة. ولعله لو أغمض عينيه وتجاوز عن بعض العوامل الآلية التي تحيط به في الطائرة كأزيز محركها مثل. لما شعر بحركة ما.

وما دمنا قد قررنا هذا المبدأ - نسبية الحركة والسكون - فيمكننا أن نعيد نظرة على مسألة انكماشا لأطوال المتحركة. أيمكنك أن تخبرني الآن أيهما ينكمش في الطول. قائمة العلم في طائرة الآنسة المبتعدة: أم قامتك أنت وأنت واقف على ظهر الأرض؟

التلميذ - يخيل لي مما سمعته الآن أن كليهما ينكمش طولا. فقائمة العلم بالنسبة لي تتضاءل وتصغر، وكذلك قامتي إذا حاولت الآنسة رصدها.

الأستاذ - تعبيرك الآن مضبوط. أزيد عليه بأن كلا الاثنين أيضا ثابت الطول. فقائمة العلم طولها لم يتغير في نظر الآنسة. وكذلك قامتك في اعتبارك أنت ثابتة. إذ مادامت الحركة نسبية فالانكماش نسبي أيضا.

التلميذ - فهمت أن مثل هذا الانكماش النسبي - لو وجد - ضئيل جدا. وأظن أن كشفه بالآلات مستحيل، فما الذي دعا أينشتينلفرض وجوده.

الأستاذ - ليس هو أينشتينأول من قال بوجود مثل هذا الانكماش. فمنذ اكثر من مائة عام وعلماء الطبيعة يجرون تجارب على الضوء والأثير؛ فيجدون نتائج مخالفة لما يتوقعون، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين إزاء تلك النتائج غير المنتظرة إلى البحث عن تعليل لها؛ وكان أوفق الفروض التي اهتدوا لها فكرة انكماشا لأطوال المتحركة. وبواسطة هذا الفرض أمكن إصلاح ما فسد من النتائج. ثم قامت المحاولات لتعليل انكماشا لأطوال بالحركة، ووضعت النظريات العلمية على أسس معقدة، حتى جاء أينشتينفعرض تفسيرا بسيطا سهلا لهذا الانكماش معتبرا إياه كقوس قزح، أنت تراه موجودا وغيرك لا يراه بتاتا.

وليست الأطوال هي المقاسات النسبية فقط، فهناك الكتلة والزمن، فهذان أيضا نسبيان. الكيلو جرام من المادة في نظرك هو أكثر من كيلو جرام في نظر الآنسة الطائرة. والساعة من من الوقت عندك. . . .

التلميذ - مهلا. مهلا. فان ما قلته الآن يتنافى تماما مع ما علمناه في المدرسة عن الكتلة.

ص: 63

أليست هي مقدار ما تجمع في الجسم من المادة، فكيف تقول إذن إنها تتغير. ومن أين تجيئها تلك الزيادة وهذا التغيير؟

الأستاذ - ومن أين يجيء التغيير للأطوال؟ وفوق ذلك فالتعريف الذي أعدته أمامي للكتلة قابل للانتقاد. والتعريف الذي يمكننا أن نقبله لها هو التعريف الذي يبين طريقة الوصول لتقديرها. وما دامت الكتلة لا تصل لتقديرها إلا عن طريق تغير في (كمية تحرك) أو (عجلة) سببتها قوة. فالسرعة والأطوال لهما دخل دائما في تقديرها. والأطوال والسرعة كما علمت نسبيان. فلماذا لا تكون الكتلة نسبية أيضا؟

وأريد أن أزيد الآن على ما قلته عن الكتلة كلاماً يشبهه عن الزمن فالدقيقة من الزمن ليست كذلك في كل زمان ومكان.

التلميذ - أرجو أن تعلم أن النسبية تطلق الآن على نظريتين: النظرية الخاصة والنظرية العامة. والأولى قال بها أينشتين سنة1905 أما الثانية فلم يكملها إلا سنة 1917. وكل ما سمعته الآن من النتائج مأخوذ من النظرية الخاصة. التي تبحث فيما يحدث للأقيسة أثناء الحركة المنتظمة في خط مستقيم ، وهي تبدأ من فرض أبانت التجارب العلمية صحته. وهو فرض ثبات سرعة الضوء. فالمسافة التي يقطعها الضوء في الثانية هي عدد محدود من الكيلومترات لا يزيد ولا ينقص باختلاف الأمكنة والأزمنة. وقد استغل اينشتين هذا الفرض. واستنتج رياضياً بواسطته وبواسطة مبدأ النسبية الخاص. مقدار التغير في الاقيسة نتيجة الحركة النسبية.

والنظرية العامة لا تقتصر في بحثها على الحركة المنتظمة في خط مستقيم، بل تتناول الحركة الدورانية ومجالات القوى. وهذه النظرية طبعاً أعم من الأولى وأشد تعقيداً: ورياضياتها تظفر بمن يتقن فهمها، ولذا فهي سيئة الحظ مع جمهور الكتاب بعكس شقيقتها.

تسألني إلى أي مدى عززت المشاهدات والتجارب النظرية

النسبية وسأجيبك مقتصراً على النظرية الخاصة. 1 - فأنت

تعلم أن فرض انكماش الأطوال نتيجة الحركة احتاج العلماء

له لتفسير نتائج غير متوقعة في تجاربهم. وما دام هذا الفرض

ص: 64

مقررا بوضوح ومبينا على أسباب معقولة في النظرية النسبية

فالنظرية لم تأت إذن إلا بما دعمته التجارب وقررته.

2 -

وأنت تذكر من غير شك الالكترونات السالبة التكهرب

المنبعثة من المواد المشعة (كالراديوم مثلاً). هذه الالكترونات

تحرك بسرعة كبيرة تقرب من سرعة الضوء. وقد وجد أنها

تختلف في السرعة باختلاف مصدرها أحيانا. ووجد أيضاً ان

كتلتها تختلف باختلاف سرعة تحركها.

والنظرية النسبية كما رأيت تقول بذلك. فالكتلة مثل الطول شيء نسبي تختلف باختلاف السرعة. والنظرني تعطينا مدى تغير الكتلة بتغير السرعة. وهو ما يتفق مع المشاهد الملحوظ.

3 -

كان هناك رأي قائل بأن النجوم المتحركة للأمام، ضغط

الإشعاع على سطحها الأمامي أكثر منه على سطحها الخلفي.

وهذا مما يعمل على تقليل سرعتها بالتدريج حتى تصل لحالة

السكون في وقت ما. وقد استنتج الفلكيون من ذلك أن النجوم

القديمة لا بد ان تكون أسرع حركة من النجوم الحديثة. ولكن

من الأسف لم تعزز المشاهدة هذا الاستنتاج الواضح.

ولقد جاءت النظرية النسبية في الوقت المناسب لتسعف العلماء وتنقذهم من هذا التناقض فأبانت لهم أن السرعة ليست إلا شيئا نسبيا. فلا يوجد ما يسمى بحالة السكون المطلق. والنجم المتحرك بالنسبة لنا ساكن بالنسبة لنفسه. فلا داعي لان نبني على حركته المزعومة

ص: 65

ما بنينا من النتائج.

لعلك تعفيني الآن من ذكر نتائج أخرى هامة للنظرية. فإني أخاف أن تعجز عن متابعتي فيها بمثل ما فعلت من الصبر حتى الآن ولعلنا نناقشها في فرصة أخرى.

طنطا

محمد محمد السيد

ص: 66

‌القصص

إلى خراسان

للأستاذ الرحالة محمد ثابت

من رحلة قام بها الأستاذ عام 1933 إلى تركية والعراق

وإيران وأفغانستان

اعتزمت القيام من (طهران) إلى (خراسان) حيث مقر الإمام الرضى أحد أئمة الشيعة، وضريحه في (مشهد) ثانية مدن فارس، وأولى البلاد المقدسة. . تعد عن طهران مسافة نائية هي فوق مائة وستين فرسخا. والفرسخ - وهو وحده القياس عندهم - نحو ستة كيلومترات، فالمسافة كلها نحو ألف كيلومتر أو تزيد. كان القوم يقطعونها على متون الإبل والبغال والحمير قبيل الحرب الكبرى، فيما بين أربعين يوما وستين، وهي اليوم بالسيارات بين يومين وثلاثة. أخذت مكانا أماميا في سيارة كبيرة من ذوات العجل المزدوج برفقة ركب من الحجاج يناهز الخمسة والعشرين بين رجال ونساء، وشيوخ وشبان، وبدأنا السير ليلاً، وكلهم إيمان صادق لا يبتغون من وراء متاعبهم تلك ونصبهم هذا إلا زيارة قبر الإمام الرضى ومعهم زادهم، أما أنا فكنت أعتمد على المحاط وما فيها من وسائل ساذجة للنوم والطعام، آونة وأخرى كان يصيح القوم قائلين:(لاهم سل آلي مهمد آل مهماد) وأخذنا نمر بالمحاط التي يسميها القوم مسافر خانات أو (كرفان سراي) وهناك نجد أمكنة تحكي الفنادق بها حجرات فقيرة الأثاث، وغذاء بسيط كنا نتزود منه ونأخذ قسطنا من الراحة، ثم نستأنف السير ولم تكن تقوى القوم لتنسيهم ملاذهم، فقد كان الفريق الأكبر منهم يحمل الغلايين لتدخين الأفيون فينتحون جانبا من المكان ويمر الغليون عليهم جميعا ، وكان في جواري إلى جانب السائق أحد علماء كربلاء بعمامته السوداء الضخمة، ولحيته المرسلة، وسحنته الناحلة، وكان يتيه على الآخرين بعلمه وبأنه من سلالة هاشمية ومن نسل العلم والعلماء، ولأولئك على الناس حق العطاء ويسمونه هناك (حق الخمس)، يقصدون الأغنياء كلما أعوزهم المال ليأخذوا منهم حقهم هذا لأنهم من السادة سلالة الرسول.

جد السائق في السير على ضوء القمر وقبس مصباحه، فخانه نظره فما نسعر إلا والسيارة

ص: 67

تنحدر بنا عن الطريق، وتنزل هوة من دونها واد سحيق، فكادت تنخلع لرجاتها قلوبنا، وصاح الجميع، وارتطم هذا بذاك، وذاك بجانب من السيارة، ثم كانت صدمة عنيفة وفرقعة أصمت آذاننا، وإذا هي صخرة كبيرة ناتئة في منحدر الوادي توقف السيارة قبل أن تنقلب، وقد أصيب من الركاب كثير، ونالني من ذلك شج بين العينين سال منه الدم سيلاً وصدمة شديدة في الركبة اليمنى أحدثت بها كسرا لا أزال أعانيه، فقفزت من السيارة ونمت على الصخر تائها حتى الصباح فرأيت العجلة قد كسرت من أساسها، ولولا لطف الله لكنا اليوم في عالم غير الذي نحن فيه. أمضينا يوما كاملا في تلك البرية المقفرة ولم يكن لدى السائق ومعه بديل عما كسر، وكان قد رجع إلى طهران ثم عاد إلينا وأصلح ما أفسدت غفلته، واستأنفنا سيرنا شاكرين الله ان أنجانا من خطر الموت في بلك الناحية النائية وكم من سيارة خانها الحظ العاثر فهوت وهلك من ركابها الكثير في تلك الطرق الوعرة. ولقد عزا القوم سلامتنا إلى رضى الإمام عنا. وما كدنا نسير بعيداً حتى وفقت السيارة فجأة وتبين أن البنزين قد نفد، ولم يكن لدينا منه شيء، فلبثنا مكاننا حيارى ساخطين جزعين أربع ساعات حتى مرت بنا سيارة أخرى أعارتنا بعض البنزين والسيارات الكبيرة تمر تباعا ذهابا ورجعة في كثرة هائلة، تحمل جماهير الحجاج، ويقولون بان هذا الخط على وعورته أكثر الخطوط حركة في نقل المسافرين لأن (مشهد) خير لديهم من مكة المكرمة تغنيهم عن حج بيت الله الحرام في زعمهم فترى الفاني منهم والفقير المدقع يدخر أجر السفر ليصل إليها ويود لو يموت بها ليدفن في أرضها الطاهرة.

لبثنا نسير وسط الربى وصعدنا منها ما هو بالغ الوعورة في طرق لياتها متعاقبة، وكلها مجدبة عريت عن النبت إلا في بعض بطون من الأودية، حيث كنا نرى سيلا من الماء يتلوى وتقوم القرى على جوانبه بأبنيتها الوطيئة من اللبن والطين، وبعد يوم ونصف دخلنا سهولا غالبها صحراوي وتلك بداءة أرض خراسان.

استوقفت السيارة قليلا في قرية (نيسابور) مثوى رفات (عمر الخيام) الذي عاش في الربع الأخير من القرن الحادي عشر وأوصى ان يدفن في بقعة تظلها الأشجار ويكسوها ورقها الذابل مرتين كل عام. زرت مقبرته وسط الحقول، تظلها حقاً أدواح عالية قديمة، ويزورها من الأجانب خلق كثير لأنه قد خلد له ذكرا بما كتب في رباعياته التي ترجمها الناس إلى

ص: 68

جميع اللغات، ولقد أبى عليه علماء الدين تشييد مدفنه لاتهامهم إياه بالزندقة لأنه كان إباحيا في شعره.

عادت الربى فتسلقناها وأشرفنا على (مشهد) وهي في حجر الجبال بعد أن لبثنا في الطريق ثلاثة أيام وأربع ليال كاملات قاسينا خلالها كثيرا. هنا وقف السائق ونبه القوم أن هاهي مشهد فارقبوها تبركا فأخذوا يحاولون رؤية القبة الشريفة وسط الضباب والدخان المنبث وكل من لمح منها قبسا قرأ آيات التبرك وعمد إلى قطع الأحجار يجمعها في كومة، ثم أقبل على السائق يهبه من أنعامه ما تيسر.

دخلنا مشهد تحوطها المزارع والبساتين ثم أخذنا نخترق طرقا فسيحة يحفها الشجر وتقوم عليها المباني الحديثة الوطيئة، وقد كانت من قبل أزقة مختنقة كسائر بلاد فارس، لكن يد الإصلاح تناولتها اليوم على نحو ما فعلت في طهران، وقد استرعى نظري بناء القنصلية البريطانية بعظيم امتداده وهو أثر من آثار النفوذ الإنجليزي الذي كان يسيطر على البلاد بجانب النفوذ الروسي. حتى حدث مرة أن حاول بعض الناس أن يعلو ببناء بيته الملاصق لتلك الدار فمنعه القنصل إذ لا يجوز كشف حرمة الدار الإنجليزية أما اليوم فلا يكاد يكون لذاك النفوذ ظل أبداً.

قصدت زيارة ضريح الإمام الرضى، الذي بدت لنا قبته الذهبية البراقة من أميال، وإذا المسجد والحرم فاخران إلى حد كبير. مداخلهما عدة، الباب تلو أخيه في زخرف جذاب وفن شرقي بديع بالقيشاني والبلور والمرمر والرخام، وأمام كل واجهة رئيسية بهو مربع تحفه الحجرات المزركشة أقيمت لطلاب العلم في طابقين وتتوسطه قناة الماء يغترف منها الجميع للشر والغسل وتنظيف الملابس والأحذية ومآرب أخرى، والباب الرئيسي للضريح مكسو كله بالذهب الخالص في فجوات وتعاريج جذابة، وفوق الضريح قبة مكسوة بالذهب الخالص وللمسجد مئذنتان دقيقتان، عليهما غشاء من ذهب. أما عن العالم المتراص كالموج المرتطم هنا وهناك فحدث في دهشة فائقة. كنت أسيراً ولا أكاد أشق لي طريقا بينهم، ومنهم المثقف أنيق الهندام والمتسول البائس في الخرق البالية والأقذار التي ينبعث منها مكروب المرض فيوشك أن يخترق أجسادنا. هذا إلى العلماء في عباءاتهم وعمائمهم السوداء للشرفاء منهم، والبيضاء لغير الشرفاء يخضبون لحاهم بالحناء جميعاً، ومن زوار

ص: 69

الأجانب خلق كثير، عراقيون وهنود وأفغان ومن كافة العالم الإسلامي، وعلى الجدران يرتمي الكثيرون في خمول زائد وجلهم ممن أضناهم المرض وشوه البؤس أجسادهم، ويتوسط أحد الأفنية سبيل مذهب في داخله نافورة حولها السلال تحمل القعاب للمحتسين ويشرف عليهم كهل توقد حوله الشموع صباح مساء وبين آوية وأخرى يمد مغرفة يحرك بها الماء والسعيد من استطاع أن يتذوق هذا الماء الطاهر: أخيرا دخلت الضريح الفضي وإذا المدفن وسط شباك الفضة والذهب ترصعه الجواهر الثمينة وقد أتممت تطوافي حوله في ثلث ساعة كدت أختنق خلالها من كثرة الزحام وهنا رأيت عجباً: نواح وصياح ولطم وتقبيل واستلقاء على الأرض ولمس للأعتاب بالخدود وما إلى ذلك مما تقشعر له الأبدان. هنا أسرع شيخ يطوف بي وناولني أدعية مطبوعة يجب أقرأها وأركع أسجد وأقبل، فأسرعت بالتخلص منه بفضل زميل فارسي عرفته، فخاطب المطوف قائلا بأنني عالم قارئ بكل أولئك، وقد علمت بعدئذ أنني لو رفضت الإذعان للأمر وحدي لظن أني ملحد ولكان ما لا تحمد عقباه، وبجانب الضريح قبر هرون الرشيد غير أنه منبوذ في ناحية غير طاهرة وقد وضعوه بحيث يلمسه الزائرون بأدبارهم عندما يطوفون حول الرضى وذلك احتقارا لشأنه وكثير منهم يلعنه بعد الزيارة ويركله برجله ووجهه مقابل للأمام ويقول (لعن الله المأمون وأباه) وذلك لأنه سني أولاً، ثم لأنه والد المأمون الذي اتهم بدس السم للإمام، وقد سافر الرشيد إلى هناك في حملة ضد أحد الحكام الذين مالأوا بني أمية، فوافته منيته هناك فأوصى بأن يدفن في هذا المكان الذي أقام عليه الاسكندر المقدوني علماً، ونبأ بأنه سيكون مدفن رجل عظيم، ولما جاء المأمون ولى الرضى حاكما على تلك البلاد من قبله، ولما عاد إلى بغداد وتم له الأمر دس للرجل فمات ودفن إلى جوار الرشيد. خرجت إلى الفناء وإذا في كل ركن من أركانه عالم يرتقي منبرا وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول وهو يقص عليهم أنباء الإمامين علي والحسين وجميعهم يبكون، وكلما أشار في قوله إلى الفاجعة صاحوا ولطموا جباههم وخدودهم في فرقعة مؤلمة ومنهم الطفل والمراهق والسيدة والعجوز والكهل الفاني والمتفقه والأمي الجاهل، وذاك التبشير يضل سحابة اليوم في جميع أركان الأفنية. ولما أوشك الغروب سمعت من شرفة الباب الأوسط طبولا تقرع في نقرات مثلثة ثم أعقبها صياح وتلا ذلك نفخات في أبواق طويلة

ص: 70

مزعجة، وظل هذا حتى غربت الشمس فكأنهم يودعونها كما يفعل المجوس بذاك الذي يدخل الرهبة ويلقي الرعب في القلوب. فقلت في نفسي أهكذا يلعب رؤساء الدين بأذهان البسطاء لا ابتغاء مرضاة الله بل لملء جيوبهم هم وذراريهم الذين لا يحصيهم عد؟ تأخر معيب وتدهور يعطي الأجنبي عن البلاد أسوأ الفكر؛ وحتى تقضي حكمة الشاه على كل أولئك، سيظل هذا حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد.

والذي شجع الفرس على اتخاذ (مشهد) كعبة مقدسة، الشاه عباس أكبر ملوك الصفويين هناك وكان عصره ثالث العصور الذهبية في فارس. صرف قومه عن زيارة مكة لكراهتهم للعرب ولكي يوفر على قومه ما كانوا ينفقون من مال طائل في بلاد يكرهونها، فاتخذ (مشهد) كعبة وجه الشعب إليها ولكي يزيدها قدسية حج إليها بنفسه ماشيا على قدميه مسافات تفوق ألف كيلومتر ومائتين فتحول الناس اليها، ويندر من يزور الحجاز منهم اليوم وهم يحترمون كلمة (مشهدي) عن كلمة (حجي) لان من زار مشهد لا شك أكثر احتراما وطهارة ممن زار مكة في زعمهم!

ص: 71

‌حبيشة

- 1 -

عذراء، فاتنة، ناطقة الملامح، تبسم عن ثغر نقي مؤشر. فوهاء ولكن جمالها في ذلك الفوه. حوراء، تتراءى نفسها اللطيفة رقصة في عينيها، ما تلقى عليها نظرة إلا ثبتت في قلبك بصورتها المرحة، وبسمتها الوادعة، مأنقة في ملبسها من غير تبرج، متألقة في خفرها بلا تكلف،

وكانت فتاتنا في ريعان شبابها، بدأ عودها يثمر، وأخذت حركتها تنتظم، ونظرتها تستقر ونغمتها تلين. قضت أيام طفولتها ترعى البهم، وكانت محبوبة من لداتها وصواحبها، مشهورة المواهب بينهم، يتهافتون على صحبتها ويجمعون على مودتها، ويقنعون منها بكلمة طيبة أو بسمة عذبة. وكان لابد للطفولة من نهاية، وقعدت في بيتها تاركة رعيتها للصغار من اخوتها وابتدأت حياة جديدة.

- 2 -

أنبأت (عبد الله) أمه برغبتها في زيارة بيت من حيها. وكان غلاما يفعه، فاستبان وجهتها وإذا به بيت (حبيشة) رفيقة صباه فوثبت صورتها توا إلى مخيلته، وبدا وجهها الطلق يناديه وصوتها العذب يناغيه. فدعاها لأن تتريث حتى يمضي معها، ليكسر عنها كلاب الحي الضارية وأكبرت الأم شهامة فتاها، وحستها عاطفة حقاً لأمومتها. فرجل جمته، وطيب ثيابه، ومشى يختال كالطاووس، ويترنح كالعروس، ومن مثله سيقدم على وجه صبيح طالما انتظر لحظات رؤيته؟ والآن قد أمكنته الفرصة. نعم سيراها، وفي بيتها، وتحت رقبة أهلها، ويشبع نفسه من حسنها فيروي قفره، ويبل صداه.

دخل عليها، وشد على يديها، ونظر نظرة فيها، فإذا هي غيرها بالأمس، جمال يتولد ومحاسن لا تنفد.

تحمل الفتى بسهامها، وخرج من دارها، تحدثه أمه فيغمغم، يهيم في مهامه فكره، قد أطرق برأسه وشرق بنفسه، وبعد حين زفر كالمهجور، وانتظمت أنفاسه كلمات خافتة خاشعة.

وما أدري، بلى إني لأدري

أصوب القطر أحسن أم حبيش؟

حبيشة والذي خلق الهدايا

وما عن بعدها للصب عيش

ص: 72

سمعته أمه، وفطنت لدائه، ولكنها تغافلت عن همه، ومشيا يلفهما الصمت، حتى اعترضهما ظبي نعطو إلى سلمة فوق رابية، رآه مقدودا كتمثال، ولمح في جيده وعينه ليلاه، فانطلق لسانه من عقاله، وجهر بصوته:

يا أمتا! أخبريني غير كاذبة

وما يريد مسول الحق بالكذب؟

أتلك أحسن أم ظبي برابية؟

لا، بل حبيشة في ظني وفي أرب

وماذا تخبره أمه؟ صبت عليه ذنوبا من الملامة، وقرعته على خوره واستخذائه، وحذرته أن يتمادى في عمايته، ثم فكرت في صرف هواه إلى بنت أختها، التي عمدت تزينها، وتبدع في تجميلها علها تقع من قلبه موقعا، ولكن حب حبيشة كان قد واتى والنفس فارغة فاستحكم، وان غابت عنه تركت ربعه خاويا، وقبله وارياً

إذا غيبت عني حبيشة مرة

من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا

كأن الحشى حر السعير، يحشه

وقود الغضى والقلب مستعر جمرا

وكان عبد الله ككل الشعراء، وضع قلبه على طرف لسانه، أحب فشبب، ولذ له ذلك، فلقي أهلها منه كل بلاء، وعملوا كيدهم لصرفها عنه، فأرادوها على أن تعده موعدا، وفيه تصارحه بزهادتها فيه، وكراهتها إياه، وهم عن جنب منها يسمعون. فلما أقبل انخرط اللؤلؤ متهالكا، والتفتت حيث أهلها كامنون، ففطن لنظرتها، ورجع من حيث أتى، وقال:

لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم

على أنه لم يبق ستر ولا صبر

ولم يك حبي عن نوال بذلته

فيسليني عنه التجهم والهجر

وما أنس م الأشياء لا أنسى دمعها

ونظرتها حتى يغيبني القبر

وظل على حبه، يقنع باللمحة، ويتعلل بالخيال حتى وقعت الوالقعة.

- 3 -

وجه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى ما حولها من القبائل يدعوهم. إلى الله عز وجل فنزل ببني جذيمة من عامر ولم ينزلوا على رأيه، فأسر من استطاع منهم، وحكم السيف فيهم وكان من أسراه (عبد الله بن علقمة الكناني) صاحب حبيشة، ولما هموا ليقتلوه استوقفهم لحاجة في نفسه وطلب من آسره أن ينزل معه إلى أسفل الوادي، حتى يودع ظعنه، ولما كان منهن قاب قوسين، نادى بأعلى صوته: أسلمي يا

ص: 73

حبيش، عند نفاد العيش) فقالت وأقبلت عليه: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء، وشدة البلاء، ولبث معها برهة، تزود منها بقبلة، تقويه على سفره الناصب، وشقته البعيدة، ثم أنشدها

إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع

هواك لهم مني سوى غلة الصدر

وأنت التي أخليت لحمي من دمي

وعظمي وأسبلت الدموع على نحري

وبعد أن قضى لبانته، دفع لصاحبه هامته، وكان ما كان.

أحمد أحمد التاجي

دبلوم دار العلوم

ص: 74

‌الكتب

كتاب ابن خلدون

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لقد ظهرت للأستاذ عنان مؤلفات شتى في اللغة العربية تختلف في

موضوعاتها، وتجول في أنحاء مختلفة من نواحي الأدب، ولكنها جميعا

تنضوي تحت لواء واحد، وهو لواء البحث، وتقصد إلى قصد واحد

وهو إحياء التراث القومي العربي، وإغناء التأليف في اللغة العربية.

ولعل الأستاذ من أغنى المؤلفين المصريين إنتاجا، فله كتب في الأدب، وأخرى في التاريخ، نذكر منها كتب: قضايا التاريخ والمحاكمات الكبرى، وكتاب (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام) وكتاب (تاريخ الخطط المصرية) وكتاب (تاريخ الأندلس) وها نحن اليوم نتلقى منه كتاب (ابن خلدون) في ترجمة حياة ذلك المؤلف العربي الكبير وأثره في الحياة الفكر العالمية.

وليس لأحد أن يبحث في السبب الذي دعا الأستاذ إلى تأليف كتابه الجديد، فليس من العجيب أن يوجد في اللغة العربية كتاب في ترجمة حياة ذلك العالم الإسلامي العظيم، وإنما العجب أن تكون اللغة العربية خالية من مباحث شتى فيه وفي تحليل آرائه ودراسة مؤلفاته. فعلى أهل العربية شكر الأستاذ عنان على أن قام بأداء ذلك الغرض وكان أداؤه له أداء كريماً.

ولقد بين الأستاذ في مقدمة كتابه الدافع الذي دفعه إلى تأليف الكتاب فقال (أن هذه الدراسة التي أقدمها اليوم للتعرف بابن خلدون وتراثه، إنما هي وفاء التلميذ لاستاذه، التمست لكتابتها هذه الذكرى الستمائة لمولد المؤرخ والفيلسوف العظيم).

وقد قسم الأستاذ كتابه إلى أقسام: كل منها يتعلق بناحية من نواحي دراسته. فأولها يتعلق بحياة أبن خلدون وتطورها في مختلف الظروف والتقلبات وفيه ذكر للدول التي كانت له بها علاقة. وقد أفاض في وصف حياته في مصر وأثره في مجتمعها. والقسم الثاني وصف لما خلفه أبن خلدون من المؤلفات ولا سيما مؤلفه الأكبر (المقدمة) والقسم الثالث عرض

ص: 75

لآراء الغربيين في أبن خلدون وأثره في مؤلفات أوربا في العصور الوسطى.

وقد حرص الأستاذ عنان في القسم الأول من كتابه على أن يصور المؤرخ الإسلامي الكبير تصويرا دقيقا تلمح فيه تفاصيل الملامح، ودقائق الأوصاف فتحس وأنت تقرأ وصفه أنك حيال رجل حي ينبض قلبه بأقوى المشاعر وتتحرك نفسه مع عوامل الحياة المضطربة حوله، ويفكر في كل مواقفه تفكيرا متناسقا متوافقا منطقيا مع نفسيته.

وانه لمن الأمور المعتادة في كتابة المترجم أن يقع الكاتب في خطأ المبالغة إذا كان بمن يترجم له، فان الكاتب إذا كان معجبا بالرجل الذي يصف حياته كان من السهل عليه أن يؤول كل أعماله وكل آرائه تأويل المعجب. ولكن الأستاذ عنان كان فوق هذه المرتبة، فان إعجابه بعقل ابن خلدون وقوة تفكيره لم يحمله على أن يتغاضى عن وزن مسلكه الخلقي في حياته، فكان في حكمه عليه من هذه الناحيه قاضيا غير محاب، لا يحمله الإعجاب على الإغراق والمبالغة. ومن ثم نراه يصفه بعد النقد والتمحيص وصفا فيه اللوم إذا كان في مسلكه ما يدعو إليه فيقول مثلا:(فكانت كسابقتها دليلا على ما تجيش به نفسه من الأثرة ونكران الصنيعة وانتهاز الفرص السانحة مهما كان انتهازها ينافي الوفاء والولاء والعرفان. كان ابن خلدون ينطق في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة والأخلاق المرعية، وكان يسيره مثل ذلك الروح القوي الذي اعجب به ميكافللي فيما بعد الخ) غبر أن الأستاذ عنان وأن لم يحمله الإعجاب على المبالغة لم ينس أن يعطي ابن خلدون حقه في التقدير الفكري فكتب فصلا بديعا في وصف عزلته ومؤلفاته وآخر في وصف ولاية للتدريس والقضاء. ويمكن أن يعتبرا آية من آيات التأليف الحر والبحث الدقيق. ثم ختم بحثه بفصل بين فيه أثر ابن خلدون في التفكير المصري صور فيه صورة واضحة للرجل والعصر حتى ليكاد الإنسان يرجع حيا إلى ذلك العصر، ويحس ما كان الناس يحسونه فيه من تنازع في العواطف بين صديق معجب وحاسد كاره وناقد متجن وهو في كل ذلك يبين الأسباب التي تحت المظاهر ويرد الأمور إلى عللها وأساسها. وقد عاد الأستاذ عنان بعد تحليل شخص ابن خلدون إلى تحليل آرائه فختم بحثه بالكتاب الثاني وهو في وصف تراث ابن خلدون الفكري والاجتماعي، فبين مجمل آرائه ووجهة نظره فيها، ثم بحث تطور آرائه الاجتماعية فتتبعها فيما كتب المؤلفون من قبله، ثم عقب بما كتب من بعده في الموضوع

ص: 76

نفسه. وكانت خاتمة هذه البحوث فصل طريف عن رأي النقد الحديث في ذلك المؤلف وهو باب قلما يعني به الكتاب عند كلامهم على مؤلفي الإسلام.

ولعله لم يسبق أحد إلى الإفاضة في المقارنة بين آراء ابن خلدون وآراء ميكافيللي الإيطالي مؤلف كتاب (الأمير) المشهور وقد خرج من تلك المقارنة إلى رأي طريف في مقدار الصلة التي بين المؤلف الأوربي والمؤلف العربي الذي سبقه بنحو قرن من الزمن.

فكتاب الأستاذ عنان كتاب شامل على صغر حجمه دقيق على سهولة مأخذه وسلامة أسلوبه. وإنني لأهنئ الأستاذ به وأرجو منه المزيد في هذه البحوث التي ظهر فيها فضله إلى هذا المدى.

م. ف

ص: 77