المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 312 - بتاريخ: 26 - 06 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣١٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 312

- بتاريخ: 26 - 06 - 1939

ص: -1

‌على ذكر الضرائب الجديدة

تكاليف الاستقلال

وهل تكاليف الاستقلال، إلا ضرائب الدماء والأموال؟

لقد كنا قبل أن نبلغ رشدنا الدولي نعيش في كنف الحكومة وحمى

الاحتلال، كما يعيش النشء الأغرار في ظلال الأبوين ورعاية

الأسرة! تنفق علينا الحكومة ولا نعلم من أين تكسب، وتدفع عنا الحليفة

ولا ندري بماذا تضرب. وكنا نسمع بما تجود به الأمم لأوطانها من

الأموال والأثمار والأنفس، ونرى ما نحن فيه من البال الفارغ والعيش

الأبله، فنحسب أن حياتنا هي الحياة، وغبطتنا هي الغبطة. ولكننا كنا

نرى من الجهات الأخرى أن عزتنا وقومنا لا تقاس على عزات هذه

الأمم وقواها؛ فهي في أوطانها حرة الإرادة مطلقة السيادة، وفي العالم

مرفوعة الرأس مسموعة الكلمة؛ ونحن في وطننا قطيع يسام ويسمن،

وفي العالم سلعة تُساوم وتؤمّن، فلا نشعر هنا كما يشعر الناس هناك

أننا نحن الوطن والثروة، والحكومة والسطوة، والدولة والسلطان. فلما

بلغنا التكليف وأدركنا الاستقلال وملكنا زمام الأمر، أصبحنا فإذا

أخطار المجد تحوم على كل نفس، وأثقال الدفاع تنحط على كل كاهل:

فالضرائب تجبى من المال، والكتائب تجمع من الدم، والتضامن الدولي

العام يقتضينا المساهمة في حفظ السلام وإقرار العدل بالمعاهدات

الدفاعية والمواثيق الاقتصادية؛ وفي سبيل ذلك تستعد كل نفس للموت،

ويتهيأ كل شيء للبذل؛ ومن أجل ذلك يجب أن يكون صوتنا هو الأرفع

في السياسة، ورأينا هو الأعلى في الحكم

ص: 1

نحن الذين ننفق فلا بد أن يكون لنا الحساب؛ ونحن الذين نموت فيجب أن يكون في أيدينا الأمر!!

ما كنا قبل اليوم نشعر هذا الشعور ونفهم هذا الفهم. والفضل في هذا الوعي وفي هذه اليقظة يكاد يرجع إلى ضريبة الدمغة من دون الضرائب. فإن ضرائب العقار والدخل والإنتاج إنما هي ضرائب خاصة، تُجبى من قوم دون قوم، وفي وقت بعد وقت؛ فالشعور بوجودها محدود، والتفكير في أمرها مؤقت. أما ضريبة الدمغة فهي ضريبة عامة، تُجبى من أي إنسان في أي زمان ما دام له عمل أو حاجة. فهي لذلك لا تنفك تشعرك وتشعرني أننا ننفق على الحكومة؛ فرؤساؤها وكلاؤنا، وموظفوها أجراؤنا، وأموالها أموالنا؛ فنحن حقيقيون أن نراقب الوكيل، ونحاسب الموظف، ونرعى الخزانة؛ ونحن خليقون أن نقول للوزير: إن جهدك للدولة فلا تبذله على هواك الفرد، وللموظف: إن وقتك للأمة فلا تشغله بعملك الخاص، وللنائب: إن رأيك للناس فلا تصرفه إلى متاعك الباطل

لقد كنا ندرك معنى الوطن إدراك الشيوع والإبهام والغفلة، فلا نكاد ندري ما يقدم إلينا وما نقدم إليه. فالترع تشق، والطرق تنهج، والجسور تنصب، والعمارة تمتد، والثقافة تنتشر، والأمن يستقر، والحضارة تزدهر، ونحن نستمتع بذلك كله استمتاع الغريب لا نجد فيه ريح الفخر ولا روح المجد، كأن غيرنا هو الذي قام به وأنفق عليه! ولو أن عابثاً عبث به، أو عائثاً عاث فيه، لما ألقينا بالنا إلا لخبر السرقة أو الخيانة أو المحاباة، نرويه كما نروي أخبار البرق للتفريج والتفكهة في حديث القهوة أو في سمر البيت. وتلك حال كانت أشبه بحال الأمير أو الغني الذي أوتي الملك عفواً من غير حيلة، واستولى على ريعه صفواً من غير كلفة؛ فشعوره به شعور بأثره لا بعينه، وحرصه عليه حرص على ثمره لا على شجره. أما لذة الملك في ذاته فلا يستشعرها إلا المالك الذي اشتراه بجهده، والفلاح الذي استغله بعرقه

كذلك كنا نفهم معنى الوطن قبل أن نفهم معاني الاستقلال والسيادة والعزة، فلما فهمناها وفهمنا لوازمها من الإخلاص والإيثار والتضحية، أصبحنا نعتقد أن كل قوة هي من قوات الوطن العامة، وكل ثروة هي من ثرواته المشتركة، فالقادر لا ينبغي أن يعطل قوته لأنه حر، والغني لا يجوز أن يبدد ثروته لأنه مالك

ص: 2

إن للوطن حقاً معلوماً في أملاك المواطن وملكاته، وإن للمواطن حقاً مشاعاً في أمجاد الوطن وخيراته. فأنا من حقي أن أقول للأمير الذي يهلك ثروتنا وسمعتنا على الفتون والمجون، وللغني الذي يخمد نهضتنا وحيويتنا بالكزازة واللؤم، وللأديب الذي يزيف أدبنا وتاريخنا باللغو والباطل، وللوزير الذي يوزع المناصب بالهوى ويقسم الأرزاق بالمحاباة، وللموظف الذي يتصرف في أشياء الدولة تصرف المالك، فسيارتها في (جراجه) وسعاتها على بابه، وأموالها في جيبه، وللعضو البرلماني الذي لا يدخل أحد المجلسين إلا ليقبض مكافأته أو يلقى أصحابه أو يتلقى بريده؛ من حقي وحقك أن نقول لهؤلاء جميعاً على التوالي: إنكم علق تعيشون على دماء الناس، وأنكاد تتلذذون بكفران النعم، وافدام تتطفلون على موائد العلم، وأوغاد تدلسون الحكم على الوطن، ولصوص تعيث أيديكم في مال الأمة، وعيال تبهظ أثقالكم عاتق الفقير؛ فحياتكم على الأرض غرور ولهو، ونسبتكم إلى الوطن زور وباطل

ذلك ما يحق لكل مصري أن يكرر قوله؛ وذلك ما يجب على كل مصري أن يتقي سماعه. ولا خوف علينا بعد اليوم من غفوة العيون وغفلة البصائر، فإن كل طابع نشتريه من طوابع الدمغة منبه عنيف الحركة في اليد، شديد الصوت في الأذن. وإنما الخوف كل الخوف على زعيم الأمة إذا ضل، وعلى أمين الخزانة إذا أسرف!

أحمد حسين الزيات

ص: 3

‌جناية أحمد أمين على الأدب العربي

للدكتور زكي مبارك

- 3 -

تطايرت الأخبار بانزعاج الأستاذ أحمد أمين، وكثُر المتحدثون عن الوفاء والأوفياء. فليت شعري كيف يكون العزم على تصحيح أغلاطه ضرباً من العقوق، ولا يكون إلحاحه في الغض من قيمة الأدب العربي ضرباً من العقوق؟

إن هذا الصديق حدثنا ألف مرة أنه لا يغضب من النقد إذا كان فيه تقويم للأفكار والآراء

ونحن سنضع شجاعة الأستاذ أحمد أمين في الميزان، وسنختبر صبره على كلمة الحق، وسنرى كيف يجزينا على ما نقّدم إليه من جميل

إن هذا الرجل يحكم على الأدب العربي أحكاماً تشهد بأن طريقته في فهم الأدب والحياة طريقة عامية، فكيف يكون حاله إذا صححنا بعض ما وقع فيه من أغلاط؟

أيرجع إلى الحق؟

أيوجه إلينا كلمة ثناء؟

هنا تُعرف قيمة الأخلاق في نفس الرجل الذي ألف أول ما ألف في الأخلاق

وأقسم أني أهجم على هذا الرجل وأنا كارهٌ لما أصنع، فأحمد أمين رجل محترم، وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة الأدبية، وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي، وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي لأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين

ولكن كيف أسامح رجلاً يحاول أن يلطخ ماضينا الأدبي بالسواد؟

إن هذا الرجل يؤرخ الأدب بالجامعة المصرية، وهو بذلك قدير على تلوين الاتجاهات الأدبية عند شبان هذا الجيل، فتصحيح أغلاطه لا ينفعه وحده، وإنما ينفع معه ألوفاً من الشبان الذين يدرسون في كلية الآداب من مصر ومن أقطار الشرق

يرى هذا الرجل أن (المديح والهجاء) هما أظهر الفنون في الأدب العربي، وبذلك يكون الأدب العربي في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح

ولو كان هذا الرجل يدقق لعرف أن المديح والهجاء هما السجل الصحيح للأخلاق العربية،

ص: 4

فمن المديح نعرف كيف كان العرب يتمثلون المناقب، ومن الهجاء نعرف كيف كانوا يتصورون المثالب، ومن المحاسن والعيوب يعرف الباحث صور المجتمع في الحياة العربية والإسلامية

ولو ضاعت قصائد المديح والهجاء لضاع بضياعها أعظم ثروة يستعين بها علماء النفس لفهم تطورات الأفكار والأذواق فيما سلف من عهود التاريخ

فمؤرخ الأدب لا يؤذيه أن تكثر قصائد المدح والهجاء إلا حين يزهد في فهم المشارب والميول، وتعقب المنازع والأهواء، كأن يكون رجلاً يؤرخ الأدب وهو غير أديب

يضاف إلى ذلك أن المادحين والهاجين لم يكونوا جميعاً طلاب أرزاق، وإنما كان أكثرهم أصحاب مبادئ وعقائد، وكانوا يؤدون في خدمة الدولة ما تؤديه الصحافة في هذه الأيام، وهي تؤرخ الصراع بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين

وقصائد المديح والهجاء كان لها تأثير نافع في تقويم الأخلاق. ولو أن أحمد أمين كان من المطلعين لعرف أن تلك القصائد كان لها تأثير في أكثر ما غنم العرب من الحروب

لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن شيوع المديح والهجاء في البيئات العربية يدل على خلق عظيم من أخلاق العرب وهو (النخوة)، فالعربي يسره أن يُذكر بالجميل ويؤذيه أن يُذكر بالقبيح، ومن هنا كانت المدائح والأهاجي لا توجّه في الأغلب إلا إلى عظماء الرجال

وما رأي أحمد أمين في حسان بن ثابت؟

ما رأيه إذا حدثناه أن الرسول كان يرى المدح والهجاء باباً من أبواب الجهاد؟

ما رأيه إذا حدثناه أن الرسول كان يرى حسان بن ثابت جنديًاً نافعاً لأنه كان يخوّف خصوم النبوّة بأشعاره في الهجاء؟

أتكون أشعار حسان في الهجاء من أدب المعدة؟ قل بذلك يا أحمد أمين، إن استطعت، ولن تستطيع!

وما رأي أحمد أمين في مدائح الكميت وأهاجيه؟

ما رأيه في قصائد الفرزدق وقصائد دعبل في الثناء على أهل البيت؟

ما رأيه في الشعراء الذين أوقدوا نار الحرب بين بني أمية وبني العباس؟

ما رأيه في قصائد مسلم بن الوليد في الثناء على بعض الأبطال؟

ص: 5

ما رأيه في قصيدة أبي تمام يوم فتح عمورية؟

ما رأيه في مدائح البحتري وهي تسجيل للشمائل العربية؟

أيكون عيب أولئك الشعراء أنهم كانوا يعيشون في ظلال الأمراء والخلفاء؟

وما العيب في ذلك؟

ألم يكن شعراء المشرق والمغرب يعيشون في ظلال الأمراء والملوك؟

وكيف يعاب على أمثال البحتري والمتنبي ما استباحه أمثال فولتير ولافونتين؟

إن أولئك الشعراء كانوا يؤدون لدولهم خدمات اجتماعية وسياسية، ومن حقهم أن يعيشوا بفضل تلك الخدمات، لأنهم لم يخلقوا بلا معدة كما خلق الأستاذ أحمد أمين الذي يخدم الأمة المصرية بالمجان، لأنه لا يتناول من الجامعة في كل شهر غير مبلغ ضئيل لا يتجاوز الستين ديناراً، ولا يتناول من أعماله الأدبية في كل شهر غير دنانير لا تعد بغير العشرات!

ما الذي يعيب الشاعر والأديب حين ينتفع من الشعر والأدب؟ ما الذي يعيبه وهو من جنود المعامع الاجتماعية والسياسية؟ ما الذي يعيبه حين يطمع في أموال الملوك والخلفاء، وكان شعره السناد لدول الملوك والخلفاء؟

وهل يعاب جوبلز لأنه يعيش بفضل الدعاية للسيطرة الألمانية؟

هل يعاب الصحفيون الذين يعيشون بفضل الدفاع عن الحكومات والأحزاب؟

إن الشاعر القديم هو نموذج للصحفي الحديث، وكلاهما يؤدي مهمة اجتماعية وسياسية

لو كان الأستاذ أحمد أمين يدقق لعرف أن رجال الأخبار يؤدون مهمة خطيرة، فهم في حكم الواقع رجال شرفاء وإن احتقرهم المجتمع عن جهل وسخف، فكيف نهين الشعراء والصحفيين وهم يرشدون الدول عن طريق العلانية، ويوجهون أممهم إلى سبيل المجد والاستعلاء؟

ولولا بُناة الشعر في الناس ما درى

بُناةُ الندى من أين تُبنَى المكارمُ

أنرضى أن يكون شعراء العرب شحاذين ومتسولين لتصح أغلاط أحمد أمين؟

أيكون أسلافنا من الأدباء والشعراء مرتزقة لأنهم لم ينسوا حظوظهم من أموال الملوك والخلفاء، وبفضل مدائحهم وأهاجيهم عاش الملوك والخلفاء؟

ص: 6

إن الأمم العربية والإسلامية لم تضعف حيويتها إلا حين عدمت الأريحية وزهدت في مدائح الأدباء والشعراء

وهل تستطيع حكومة في هذه الأيام أن تعيش بلا سناد من تشجيع الكتاب والخطباء والصحفيين؟

وهل قامت حكومة أو سقطت حكومة إلا بفضل أسنّة الأقلام؟

إن الأقلام تصنع في مصير العالم مالا تصنع جيوش البر والبحر والهواء

وكلمة (مأجور) كلمة ابتدعها أحمد أمين، وما كان (الأجر) عيباً إلا في نظر هذا الناسك المتبتل، فقد كان (الأجر) من قبله كلمة شريفة أقرها القرآن المجيد

ومن الله ألتمس (الأجر) على تصحيح ما وقع فيه هذا الصديق من أغلاط

وما رأي صاحبنا في هتلر وموسوليني وهما يُرهبان العالم بالأقوال قبل الأفعال؟

ما رأيه إذا علم أن هتلر يهمه أن يكون لأقواله ومؤلفاته قيمة مادية؟

بل ما رأيه إذا علم أن العراك حول مشيخة الأزهر له أسباب دنيويه؟

ما رأيه إذا علم أن (البابا) يجتذب مريديه بثمرات النخيل والأعناب؟

ما رأيه إذا علم أن الغض من قيمة المعدة ليس إلا رهبانية نهى عنها الإسلام؟

ما رأيه إذا عرف أن من يحتقرون الأمعاء كانوا كتبوا مرة أو مرتين في تأثير (الهضم) على العقول؟

نحن لا نريد مؤرخاً للأدب يفهم الدنيا بالمقلوب، وإنما نريد مؤرخاً يفهم أن الأدب صورة الحياة، ويعرف أن شعر ابن الرومي في وصف (الرقاق) لا يقل شرفاً عن شعر ابن المعتز في وصف (مداهن الطّيب) لأن الشاعر لا يطالب بغير إجادة الوصف لما تراه العيون، وما تحسه القلوب

نريد مؤرخاً للأدب يدرك أن من حق الأديب أن يصف ما يرى ويسمع.

نريد مؤرخاً للأدب يدرك الفروق بين الأشياء، ويتأثر بجميع المناظر، ويطرب لجميع ما في الوجود، ويتابع النبرات الموسيقية في نقيق الضفادع، على نحو ما يصنع وهو يتسمع لأسجاع الحمائم. وذلك يوجب أن يكون رجلاً له ذوق وإحساس

نريد مؤرخاً للأديب يغلل أسباب الحسن وأسباب القبح مع العطف على جميع مظاهر

ص: 7

الوجود

نريد مؤرخاً للأدب يرى السخرية من العيوب ويرى مكر الثعلب لا يقل جمالاً عن بلاهة الغزال

قد يسأل القارئ: وما محصول هذا التصحيح؟

ونجيب بأن له أهمية عظيمة لأنه يضع تاريخ العرب في نصابه من حيث الأخلاق، فأتباع الأمراء والوزراء والملوك والخلفاء من أهل الشعر والأدب لم يكونوا في جميع أحوالهم صعاليك كما يريد الأستاذ أحمد أمين؛ وإنما كانوا قوماً يؤدون خدمات سياسية واجتماعية وأدبية، وكانوا يؤلفون جماعات منظمة تنشط الروح المعنوي في الدولة وتشيد بمكارم الأخلاق. وكان الطائشون منهم يمثلون ما في أرواح بعض الجماهير من عناصر الزيغ والارتياب. فهم الصورة الصحيحة لما كان عند العرب والمسلمين من عناصر الشك واليقين

وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إنهم خلقوا العصبيات القومية، وأمدوا التاريخ بروح الحياة. فهذه مصر مرّ بها كثير من الخمول في مطلع حياتها الإسلامية، ولم يبق من ولاتها وحكامها من هو أسير ذكراً من كافور والخصيب بفضل مدائح المتنبي وأبي نواس

ولو شئت لقلت إن المداحين والهجائين كانوا يقيمون بقصائدهم مدارس لتعليم الأخلاق، وكانوا يقيمون بقصائدهم معاهد لتعليم اللغة والأدب والتاريخ. وقد كانوا بالفعل معلمين، لأنهم كانوا أساتذة الأدب في تلك الأزمان، وبفضل صوابهم وخطئهم كان يعيش النحاة واللغويون

والأستاذ أحمد أمين الذي يجعل وصف الطبيعة من أدب الروح ينسى أن الإنسان هو خير ما في الطبيعة. وهل يكون مدح الغصن المزهر أشرف من مدح الملك المفضل إلا في ذهن من ينظر إلى حقائق الأشياء نظرة عامية؟

أقول هذا وأنا أزهد الناس في هذا اللون من الحياة، لأن الاتصال بالملوك يتطلب ألواناً من التلطف والترفق لا يحسنها رجل مثلي، فلي شمائل تغلب عليها الشراسة والجفوة وتثقلها بداوة الطبع.

ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن الشعراء الذين اتصلوا بالملوك وتفيئوا ظلالهم لم

ص: 8

يكونوا في كل حال من ضعفاء النفوس، وإنما كانوا في الأغلب ناساً عقلاء يعرفون روح الزمان

والمرتزقون منهم كانوا انساقوا إلى تلك المزالق بفضل القالة الحسنة التي جعلت الشعر من أطيب ما يشتهي الملوك والخلفاء، فقد مرت أزمان كانت فيها الهبات الرسمية باباً من الشرف قبل أن تكون باباً من المعاش

قد يسهل على الأستاذ أحمد أمين أن يخرج من هذا المأزق بأن يلوذ بما اصطلح الناس عليه في العصر الحديث من الانصراف عن مدح الملوك، ولكنه، إن فعل، سيصطدم بصخرة قاسية، لأن الحكم الأخلاقي مرجعه إلى تصور الدواعي والأسباب، فما نتحرج منه اليوم لم يكن يتحرج منه القدماء، وما قد نعده عيباً كان الأسلاف يعدونه من التشريف

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أريد أن أنزه تاريخ العرب عن وصمة المعدة، والمعدة ليست وصمة إلا في ذهن الأستاذ أحمد أمين، أمدني الله وإياه بالمعدة القوية لنستطيع مواصلة الجهاد!

آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدة

حتى أضيف إليها ألف آمينا

أيرى القارئ أني استطعت إفحام هذا الباحث المفضال؟

لن أُفحمه حتى يشرب صبابة الكأس: (وكل صبابةً في الكأس صابُ). كما قال شوقي

أحمد أمين يقول:

(نرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح. هذا البارودي رحمه الله اختار لثلاثين شاعراً من خيرة شعراء الدولة العباسية. . . وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار. فكان ما أختاره من المديح 24185 بيتاً، ومن الأدب 1697 بيتاً، ومن الغزل 4616 بيتاً، ومن الهجاء 1229 بيتاً، ومن الوصف 3993، ومن الزهد 473 بيتاً. ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش: إذ يتبين لنا طغيان أدب المعدة - وهو المديح والهجاء - على أدب الروح، طغياناً كبيراً).

ذلك هو أحمد أمين بقضّه وقضيضه كما كانوا يعّبرون. ذلك هو أحمد أمين الذي يدرس الأدب بالإحصاء، والذي يقيس الدواوين الشعرية بالمتر والباع والذراع.

لقد كنت أحفظ أكثر مختارات البارودي ولم يخطر ببالي أن أعّدها. فهل أستطيع اليوم أن

ص: 9

أقول للأستاذ أحمد أمين: (أفادك الله!)

هل بلغت المدائح في مختارات البارودي 24185 بيتاً؟

ذلك (إحصاء) أحمد أمين، ولا موجب لمراجعته لأنه من النوابغ في الإحصاء!

ولكن هل فكر هذا الرجل في (إحصاء) الأغراض المبثوثة في تلك المدائح؟ هل يضنها جميعاً من قبيل: (أنت شمسٌ أنت بدرٌ؟).

ألم يكن أكثرها تسجيلاً لوقائع حربية، ومواسم تشريف؟ هل خطر بباله أن (يُحصي) ما في تلك المدائح من الأوصاف والحِكم والأمثال؟

هل خطر بباله أن يلتفت إلى القصائد التي استوجبت عناية النحاة واللغويين فأمدت اللغة العربية بفيض من الحيوية لا ينضب ولا يغيض؟

أحمد أمين يرى أن محصول المدائح في العصر العباسي أكبر محصول، ويرى محصول الزهد أصغر محصول!

فهل استطاع هذا الرجل أن يستخلص العِبرة من الموازنة بين النسبتين؟

لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن طغيان المديح على الزهد كان من علائم الحيوية في العصر العباسي. فهو الشاهد على أن العرب كانت حياتهم تزدحم بالأخطار الدنيوية. وهو الشاهد على أنهم كانوا أهل نخوة وأريحية. وهو الدليل على أنهم كانوا يحيون حياة تفيض بمعاني الأفراح والأحزان، وتتسم بعلائم القوة والكفاح.

وما كانت الأهاجى أقل قيمة من المدائح في الدلالة على هذه الشؤون.

فالأهاجي كانت في الأغلب تمثل صوت المعارضة السياسية، وكان لها تأثير شديد في كبح الطغيان، وبفضل الأهاجي قلّمت أظفار الاستبداد، وخشي الطغاة بأس القلم واللسان.

وهل تفرّد العرب بالهجاء؟

ألم يكن الهجاء فناً ظاهراً في جميع الآداب الشرقية والغربية؟

وهل خلت الكتب المقدسة من الهجاء حتى نعده من السيئات؟

وما هو الهجاء حتى نحكم عليه ذلك الحكم الجائر؟

ألم يكن صورةً للنفوس التي تغضب وتثور على ما تنكر من ألوان الضمائر والأعمال؟

وكيف نعيش إذا نجونا من ثورة الحب والبغض؟

ص: 10

كيف نكون إذا لم نقل للمحسن أحسنت، ولم نقل للمسيء أسأت؟

إن الملائكة يرضون ويغضبون، ويفرحون ويحزنون. وكل ما في الوجود من طبائع وأرواح يدرك معاني الرضا والغضب والابتهاج والابتئاس. فكيف يعاب علينا أن نكون صبحاً يتنفس وليلاً يتمرد، من حين إلى حين.

(مصر الجديدة)

زكي مبارك

ص: 11

‌الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق

للأستاذ بيير فيينو

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

ما هي الظروف التي أحاطت بمفاوضات المعاهدة؟

ولنتساءل الآن: ما هي الظروف التي أحاطت بمفاوضات المعاهدة السورية الفرنسية؟

ليست البلاد السورية بلاداً منعزلة في محيط بعيد، ولكنها على النقيض من ذلك تقع في قلب العالم وتخضع لتيارات من التأثيرات العميقة: أهمها سياسة إنكلترا في البلاد العربية المجاورة كمصر والعراق

ومهما يكن شأن تلك السياسة فنحن لا نستطيع أن ننكر أنها ساعدت في مختلف مراحلها على إثارة الشعور العام في البلاد التي تخضع لانتدابنا

وأول ذلك أن إنكلترا وعدت الشريف حسين سنة 1914 بالمساعدة على تأليف الإمبراطورية العربية، ثم إنها اتخذت بعد الحرب سياسة تختلف كل الاختلاف عن سياستنا نحن، فقد عقدت سنة 1930 معاهدة مع العراق كانت نهاية للانتداب البريطاني وفاتحة لانتظام العراق في سلك جامعة الأمم. وفي سنة 1935 بدأت مفاوضاتها مع مصر لعقد معاهدة صداقة وتحالف. . . وما من شك في أنه كان لهذه السياسة أثر كبير في سوريا التي كانت ترقب مجرى الحادثات في غليان وقلق

وقد أثبت ذلك سلسلة الوقائع المتأخرة، ففي 10 يناير 1936 قرر الحزب الوطني اتباع سياسة سلبية مطلقة وإعلان الإضراب العام إلى أن تجاب مطالب سوريا في الوحدة والاستقلال. وضم الإضراب سلسلة من المآسي وأسفر عن 60 قتيلاً ومئات من الجرحى، واضطر مندوبنا في سوريا مسيو (دومارتل) أن يستشير وزارة الخارجية، وكان على رأسها المسيو فلاندان فأشار بفتح باب المفاوضات مع وطنيّ سوريا

وقد انبثق عن هذه المفاوضات بين زعماء الحركة الوطنية وبين المفوض السامي تصريح أول مارس سنة 1936 الذي نص على وجوب عقد معاهدة في باريس بين وزارة الخارجية ووفد مفاوض تنتخبه البلاد، على ألا تقل هذه المعاهدة عن معاهدة إنكلترا

ص: 12

والعراق

ولا شك أن هذا التصريح كان يحمل طابع الضعف، لأنه صدر إثر تهديد شعبي قوي لم تتمكن الإدارة الفرنسية من أن تصمد له، ولكنه مع ذلك ضروري لازب، لأنه كان على فرنسا أن تختار بين العناد والمقاومة وبين الاتفاق والمسالمة - كما أبرق بذلك المندوب السامي في فبراير 1936 - وطبيعي جداً ألا تزج فرنسا بنفسها في مغامرة جديدة بعد تجربة الثورة السورية الكبرى فضلاً عن أنها ترغب في أن تفي بوعودها المتقدمة

ولقد وجهت بعض الاعتراضات على انتخاب أعضاء الوفد المفاوض، ولكن الواقع يضطرني إلى أن أقول إن هؤلاء الوطنيين المفاوضين هم الذين ناضلوا في سبيل بلادهم، وإنهم كانوا مصدر الصعوبات التي وجدناها في سوريا، وإن فشل معاهدة سنة 1933 أظهر في كثير من الجلاء ضرورة التعاون مع الجماعات الوطنية للوصول إلى تعاقد مُرضٍ حاسم

يقولون إن رجال الوفد المفاوض ليسوا أصدقاءنا - ولكنه قول خاطئ - لأن خصومة الانتداب لا تعني بالضرورة خصومة فرنسا

ولنسلم جدلاً أن ذلك صحيح، أو ليست السياسة أن يسالم الرجل أعداءه لا أصدقاءه؟

المعاهدة

لقد كان الغرض الرئيسي من التعاقد استبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدتين مع سوريا ولبنان. وابتدأت المفاوضات في منتصف شهر مارس، وكانت تقتضي منا أن نوجه انتباهنا إلى كل ما يجري حولنا. . . ففلسطين كانت تخوض غمرات ثورة حمراء كنا نخشى أن يمتد لهيبها إلى سوريا، وفي المغرب تتماوج الاضطرابات العنيفة ضد فرنسا عند كل بلبلة في الشرق الأدنى، ولهذا لم يكن في وسعنا أن نقف في المفاوضات موقف الآمر الناهي؛ وإنما كنا نستمع إلى جلسائنا ونناقشهم ونجادلهم وسأبدؤكم بالحديث عن المعاهدة السورية:

لقد كان تصريح أول مارس مؤكداً لاستقلال سوريا، أما المعاهدة فتصرح أن هذا الاستقلال يتحقق في انتساب سوريا إلى جامعة الأمم كما تشترط فترة انتقال تمتد ثلاث سنوات تمتحن فيها مقدرة السوريين على الإدارة والحكم.

على أن أطراف المشكلات التي اعترضت المفاوضات مشكلة العلاقات السورية اللبنانية؛

ص: 13

ويهمنا كفرنسيين أن يبقى لبنان في نجوة من طغيان الوحدة السورية.

ومع هذا فيجب أن نقرر أن الوطنية السورية تجد في لبنان عناصر مؤيدة فعالة؛ وذلك أن عدد سكان لبنان 850. 000 أكثرهم من المسيحيين، ولكن بعض المدن مثل طرابلس التي تنتهي فيها أنابيب بترول الموصل مسلمة كلها. وقد أثبتت التجارب أن من الصعب أثناء الاضطرابات والقلاقل السياسية أن تحول السلطات دون ظهور الشعور الفعال في الأطراف الأخرى. . .

ولقد عرفنا ذلك 1920 - 1921 في لبنان الجنوبي ومنطقة العلويين؛ وفي سنة 26 كان اتحاد الدروز مع وطنيّ دمشق مثلاً رائعاً لهذه الألفة. وفي يناير 1936 خضعت طرابلس المدينة اللبنانية إلى حركات الوطنيين في دمشق فشاركت في الإضراب العام. ومن هنا ظهرت لنا ضرورة العناية باستقلال لبنان وانفصاله لما له من أهمية رئيسية بالنسبة إلى فرنسا

ولقد كانت المفاوضات في هذه الناحية - ناحية العلاقات بين سوريا ولبنان - صعبة عسيرة، ولكنها انتهت أخيراً إلى عزلة كل من البلدين عزلة كاملة؛ لأننا عارضنا بقوة وشدة كل محاولات طغيان سياسي أو اقتصادي سوري على لبنان

أما مستقبل العلاقات بين فرنسا وسوريا، فقد كانت مدة التعاقد التي نصت عليها المعاهدة خمسة وعشرين عاماً تقوم سوريا خلالها باستشارة فرنسا في الأمور المشتركة بين البلدين

وأما الناحية العسكرية فقد سويت في ملحق خاص واعترضها بعض العقبات الكثيرة التي استطعنا أن نتغلب عليها بفضل مهارة المفاوض السوري ومرونة خلقه السياسي

ويختلف الملحق العسكري في المعاهدة السورية عن الملحق العسكري في المعاهدة العراقية - الإنكليزية، التي تنص على بقاء قاعدتين جويتين لسلاح الطيران الإنكليزي، وعلى تحديد مناطق النفوذ البريطاني، بينا يمتاز الملحق العسكري للمعاهدة السورية بأنه يدع مناطق النفوذ من غير تحديد ويترك لفرنسا حق الاحتفاظ بمركزين لجيوشها في مقاطعتي العلويين وجبل الدروز

أما حماية الحقوق والمصالح الفرنسية فمن الطبيعي أن نقول إن المعاهدة صانت هذه الحقوق في نصوص واضحة، ولا سيما ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية والحقوق المكتسبة

ص: 14

للأشخاص الماليين والفنيين، وتعهدت بالإبقاء على نظم المؤسسات العلمية الحاضرة وبعثات الحفريات ومعاهد الدراسة الأجنبية؛ ونصت كذلك على استخدام ثمانين مستشاراً فرنسياً في نواحي الإدارة. وقد كان هذا كله ضرورياً من أجل البلاد التي انتشرت فيها ثقافتنا بفضل البعثات التبشيرية واللادينية

هذا فيما يتعلق بالمعاهدة السورية، أما عن المعاهدة اللبنانية فأستطيع أن أقول إنها نسخة ثانية من المعاهدة السورية، ولكنها تمتاز بأن مدة التحالف التي حددت بـ 25 سنة في المعاهدة السورية يمكن تجديدها ثانية في المعاهدة اللبنانية لمدة مساوية؛ وأن القواعد العسكرية لا تخضع لحدود معينة في التمركز والتنقل والمناورات.

وأخيراً قد استطعنا بواسطة هذا النظام الجديد أن نوطد مقامنا في لبنان وأن نثبت أركانه.

تلخيص

شكري فيصل

ص: 15

‌في بلاط الخلفاء

بين المازني والواثق والمتوكل

للأستاذ علي الجندي

لم تر البصرة بعد سيبويه من كان أعلم بالنحو وأحسن استنباطاً لمسائله، وتخريجاً لعلله من أبي عثمان بكر بن محمد المازني نسباً أو ولاءً على الخلاف في ذلك

ولم يشأ المازني أن يقصر همّه على قواعد النحو الجافة، شأن كثير من رجالات البصرة، بل أراد أن يكون وسطاً بين سيبويه والأصمعي، فاتجه إلى تحصيل اللغة والأدب برغبة صادقة، فأخذ عن أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأخفش والأصمعي، حتى صار إمام عصره، وحتى كان من تلاميذه المبردُ وعبد الله بن سعد الورّاق وغيرهم من كواكب العربية الساطعة

وكان - إلى تمكنه في النحو واللغة والأدب - على حظ عظيم من قوة اللّسن، وخلابة المنطق، وبراعة الاحتجاج، فما تعرّض لمناظرته أحدٌ إلا افتضح، لدقة مسلكه في الجدل، وامتلاكه مذاهب القول، وتصرّفه في ألوان البيان

وقد ناظر أحد شيوخه الأخفش في مسائل عدّة، فقطعه وتركه ساقطاً مغلّباً!

ولم ينس المازني نصيبه من الشعر فنظمه على قلة. ولشعره حلاوة، وعليه ماء ورونق، وإن لم يخرج في جملته عن نطاق شعر النحاة والفقهاء والمعلمين الذين يعتمدون على حسن الرصف وإبداع الصياغة أكثر من اعتمادهم على الخيال الموشى والتصوير البارع

فمن أبياته السائرة قوله في الحكم:

ثِنْتان يعجِز ذو الرياضة عنهما

رأيُ النساء وإمْرة الصّبيان

أما النساء فإنهن نواشز

وأخو الصِّبا يجري بكل عِنان

وله تعزية حسنة لبعض الهاشميين تفيض سلوى وتأساء على الكبد المقروحة والقلب الصديع، لما انطوت عليه من الذكرى النافعة، والحكمة البالغة التي تقود النفوس طيعةً إلى التسليم بقضاء الله وقدره. قال:

أني أعزيك، لا إني على ثقة

من الحياة ولكن سنة الدين

ليس الُمعَزَّى بباقٍ بعد ميِّته

ولا المعزِّّى وإن عاشا إلى حين

ص: 16

وكان المازني يمنح نفسه حرية المتشرع في فهم المسائل وإدراكها على الوجه الذي يسوغ في الذوق والعقل دون التعبد بآراء السلف. ومن أثر ذلك: تفسيره للحديث المشهور (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) بأن المراد منه: إذا كان الفعل الذي تريد إتيانه لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت. وهو رأي حسن لم يسبق إليه

ولهذا الاستقلال الفكري الذي عرف به، كان المبرّد يقول: ما رأيت نحوياً أشبه بفقيه من المازني!

وللمازني رأي غريب في جماعة المشتغلين بالعلوم يحسن أن نورده لطرافته ولدلالته على شغف الرجل بدراسة أخلاق الناس، ودقة فطنته إلى ما يتمايزون به من صفات. يقول: - وقد سئل عنهم - أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأصحاب الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار: الظرف كله. والعلم: هو الفقه

وقد يكون المازني جانب الصواب في بعض هذه الأحكام، ولكنه قد صدق على الأقل في حكمه على النحويين!

ومن نوادره السائغة قوله: مررت ببني عقيل فإذا رجل أسود قصير أعور أبرص أكشف قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق منه، ويتغنى بأعلى صوته:

فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي

فمثلك موجود ولن تجدي مثلي

فقلت له: صدقت. ومتى تجد - ويحك - مثلك؟! فقال: بارك الله عليك! واسمع أخيراً. ثم اندفع يغني:

يا ربة المِطْرف والَخلخال

ما أنت من همي ولا أشغالي

مثلك موجود ومثلي غالي

ويمتاز المازني بسمة واضحة عرف بها شيخ شيوخه الخليل ابن أحمد، وهي القناعة بالكفاف، والميل إلى العزلة والانفراد، والأنفة من التكسب بالعلم، وإيثار البعد عن الخلفاء وحاشيتهم والزهد في احتجان جوائزهم وصلاتهم ما لم يتقدموا بأشخاصه إليهم رغبة في الاستفادة منه، فيصدر عنهم معزّزاً مكرماً.

ومع أنه من المتعارف لدى الناس أنه قلّما يكون النحوي دّيناً. فقد كان المازني ثقة في دينه

ص: 17

صدوقاً، كثير التزمت والورع، وإن كان منحرفاً عن أهل السنة إلى المعتزلة، ولهذا كان يلقى جفوة من أستاذه الأصمعي السنّي المتشدد فقلّت روايته عنه. وقد بلغ من زهده أن يهودياً بذل له مئة دينار ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك! فقال له تلميذه المبرد: جُعلت فداك! أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فكان جوابه: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آيةً من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكّن منها يهوديّاً غيرةً على كتاب الله وحمية له.

ونرجو أن يثاب المازني على حسن نيته، وإن كنا لا نقره على هذه العصبية. ومهما يكن من شيء فإنه لم تمض غير برهة قصيرة حتى أرسل الخليفة الواثق في طلبه ونفحه بالأعطيات السنية، فعدّ الناس ذلك إكراماً من الله له وإخلافاً عليه.

أما سبب طلب الواثق له فقد حدث أن مخارقاً غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي.

أظلوم إن مصابكم رجلاً

أهْدَى السلامَ تحيةً ظُلْمُ

فذهب بعض الحاضرين إلى نصب (رجل)، ورأى آخرون رفعه، واشتد اللجاج في ذلك، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين فذكروا له المازني، فتقدم بحمله وإزاحة علله وإحسان تجهيزه ليفصل في هذا الخلاف.

وقد يتساءل بعض القراء: ما شأن الواثق بالنحو، وما قيمة رفع (رجل) أو نصبه حتى يزعج المازني من البصرة، ويعقد لذلك مجلساً من القضاة والمحكمين؛! والجواب: أن الواثق كان من أجلّ الخلفاء وأكثرهم اشتغالاً بالعلم والأدب وأطبعهم على قول الشعر الرقيق، وأبصرهم بالنقد، وأشدهم تمحيصاً للرواية وأميلهم للغناء. ولولا خشية الإطالة لجلونا ناحية من نواحيه الأدبية المشرقة ليعرف الناس كيف كان خلفاء هذا الزمان!

بلغ المازني دار السلام فأدخل إلى الواثق. فقال له: ممن الرجل؟ قال: من مازن. قال: من مازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟ قال: من مازن ربيعة.

وكانت اللغة الفاشية في مازن ربيعة قلب الميم باءً والباء ميماً. فقال الواثق يخاطبه بلغته بسطاً لنفسه وإدخالاً للأنسة عليها: باسمك؟ يريد: ما أسمك؟!

وهنا تتجلى لباقة المازني وسلامة ذوقه ورفاهة حسه وحسن تأتيه في مخاطبة الخلفاء؛ وأحسبه لو كان نحوياً فقط لارتطم في الهوّة، ولكن ذوقه المكتسب من معاناة الأدب فتق له

ص: 18

عن وجه الحيلة في الخروج سالماً من ورطة دفعته إليها دُعابة الواثق من غير قصد.

لقد عرفنا أن اسم المازني (بكر) والجري على مقتضى القياس في القلب أن يقول: اسمي (مكر) ولكن كيف يرضى المازني الأريب أن يقذف في وجه الخليفة بهذه الكلمة الكزّة الجاسية؟

رفع المازني رأسه إلى الخليفة قائلاً: اسمي بكر، يا أمير المؤمنين

رفّت هذه الكلمة رفيفاً نديّاً على كبد الواثق، واستنار منها وجهه واستضحك لها! وعرف أن هذا الذي يقف بين يديه رجل فيه كيس ودراية، وله طبع مهذب مصقول. فقال (مستمراً في مفاكهته): اجلس فاطبئن. أي فاطمئن

ويجب ألا ننسى بهذه المناسبة أننا في العصر العباسي، حيث ورفت ظلال الحضارة ولان العيش وفشا النعيم واستفاض الظرف ورقت حواشي الأخلاق، وارتفعت مقاييس الأذواق، فكلمة ناعمة منضورة أمام خليفة أو وزير قد تنبّه من شأن قائلها وتحله منازل السعادة! وربّ كلمة حوشية جافية تهوى به إلى أسفل سافلين!

خذ لذلك مثلاً ما حدثوا به من أن مؤدب الرشيد كان عند والده المهدي (وهو يستاك) فقال له: كيف الأمر من السواك؟ فقال: اسْتك يا أمير المؤمنين. فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون! التمسوا لنا من هو أفهم من هذا. فقالوا له: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريباً. فكتب بإحضاره، فساعة مثل بين يديه قال له: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سُك. قال: أحسنت وأصبت وأمر له بعشرة آلاف درهم!

وقد حرم الأصمعي التوفيق في بعض مواقفه مع الرشيد على علمه وفضله فقد سأله عن مسألة، فأجاب: على الخبير بها سقطت! فقرعه الوزير يحيى بن خالد ونسبه إلى السوقة والأغتام!

على حين فطن لها أبو أحمد العسكري - وقد سأله الصاحب ابن عباد، فقال: الخبير صادفت. فقال الصاحب: يا أبا أحمد تُغرب في كل شيء حتى في المثل السائر! فقال: تشاءمت من السقوط بحضرة مولانا، وإنما كلام العرب: على الخبير بها سقطت

لهذا نَبُل المازني في نفس الواثق وحليّ في عينه، لأنه توسم فيه سجاحة الخلق وسلاسة

ص: 19

الحاشية ودقة الفطنة. وما زال الناس يستدلون بحديث المرء على دخيلة نفسه وصحيفة لبه ومبلغ تهذيبه وثقافته

ولنعد إلى ما انقطع من الحديث، فنقول: إن الواثق سأله عن البيت المتقدم فقال: الوجه النصب، لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيدي النحوي يعارضه. فقال المازني: هو بمنزلة: إن ضربك زيداً ظُلمٌ. فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه: أن الكلام معلق إلى أن نقول: ظلم، فتتم الفائدة

فأعجب الواثق بهذا الفقه الدقيق. فقال: صدقت. ثم أردف قائلاً: ألك ولد؟ قال: بنت لا غير. قال: فما قالت لك حين ودعتها؟ قال: أنشدتني قول الأعشى:

تقول ابنتي حين جدّ الرحيل

أرانا بسوء كمن قد يتم

أبانا فلا رِمْتَ من عندنا

فإنا بخير إذا لم تَرِمْ

فقال الواثق: كأني بك وقد أنشدتها قول الأعشى أيضاً:

تقول بنتي وقد قرّبتُ مُرْتحلاًِ

يا رب جنّب أبي الأوصابَ والوجعا

عليك مثل الذي صلّيت فاعتصمي

يوماً، فإن لجنب المرء مُضَّجَعا

ولا ندري أقال المازني لابنته هذا الشعر أم لم يقله؟ ولكن ذوقه الذي كشفنا جانباً منه أبي إلا أن يصدق ظن الخليفة.

فقال: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك وزدتها عليه قول جرير:

ثقي بالله ليس له شريك

ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال الواثق: ثق بالنجاح إن شاء الله.

وخطر للواثق أن يكل إليه امتحان معلمي أولاده فقال له: إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان عالماً ألزمناه إياهم، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. وقد امتحنهم المازني فلم يجد فيهم طائلاً. فجزع المعلمون المساكين، وأيقنوا بالشر. ولكن المازني كان له دين يعصمه من قطع أرزاق الناس، فقال لهم: لا تُراعوا. ثم مضى إلى الخليفة. فقال له: كيف رأيت؟ فأجاب بجواب أبرأ بة ذمته وخلص منه إلى غرضه. قال: رأيتهم يفضل بعضهم بعضاً في أمور، ويفضل الباقون في غيرها، وكلٌ يُحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً فكان غايةً في الجهل خطاباً ونظراً! فقال المازني: يا أمير

ص: 20

المؤمنين أكثر من تقدّم من المعلمين بهذه الصفة! وقد قلت فيهم:

إن المعلم لا يزال مضعفاً

ولو ابتنى فوق السماء بناَء

من علم الصبيان أضنوْا عقله

مما يلاقي بُكْرة وعشاء

فاهتز الواثق طرباً وقال: كيف لي بقربك؟ فقال المازني: يا أمير المؤمنين، إن الغنم لفي قربك والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضُرُ بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال الواثق: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقال: السمع والطاعة.

وقد أمر له الخليفة بألف دينار، وأجرى عليه في كل شهر مئة، فانصرف إلى البصرة موطنه، وظلت تجري عليه الوظيفة حتى مات الواثق فقطعت عنه.

وقد ذُكر المازني للمتوكل فاستدعاه، فدخل إليه وقد جلس وزيره وصفيه الفتح بن خاقان بين يديه، وحفّت به كوكبة من فتيان الأتراك مدججين بالسلاح فهاله ما رأى من روعة الحضرة وأبهة البلاط، وكثرة العدد والعُدد، فطارت نفسه شعاعاً، وانتشر عليه فكره، وخشي أن يسأل فلا يسعفه الجواب لما داخله من الهيبة. فحين سلّم على الخليفة، ابتدر قائلاً: يا أمير المؤمنين أقول كما قال الأعرابي:

لاتَقْلُوَاها وادْلواها دلوا

إن مع اليوم أخاه غَدْوا

ولم يكن المتوكل كالواثق في ثقافته العربية فلم يفهم ما أراد المازني، فاستُبرد وأُخرج. ولكن المتوكل لم يستغن عنه، فعاد فاستدعاه وقال له: أنشدني احسن مرثية قالتها العرب:

فقال المازني قول أبي ذؤيب الهزلي:

أمن المنون وريبها تتوجع

وقول كعب الغنوي:

تقول سليمي ما لجسمك شاحبا

وقول متمم بن نويرة:

لعمري وما دهري بتأبين هالك

وقول محمد بن مناذر:

كل حي لاقى الحمام فمودي

ص: 21

وهذه القصائد من الشرّد السائرات في الشعر العربي، وبخاصة قصيدة متمم في أخيه مالك التي كان يسميها الأصمعي أم المراثي! ولكن المتوكل لم يطرب إلى واحدة منها، فكان كلما سمع قصيدة قال ليست بشيء!

ثم قال المتوكل: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قال المازني: عبد الصمد بن المعذّل. قال: فأنشدني له

ولم يشأ المازني أن يُقل عليه بالشعر الجزل الرصين، فأنشده أبياتاً قالها ابن المعذل في قاضي البصرة ابن رباح:

أيا قاضية البصرة (م)

قومي فارقصي قَطْره

ومرّي بِرَوْيسيجٍ

فماذا البرد والفتره

أراك قد تثيرين

عجاج القصف يا حرّه

بتجذيفك خديك

وتجعيدك للطره

وهذا الشعر من السخف والغثاثة والثقل بمكان! والمتوكل شاعره البحتري أولى من استحق لقب شاعر على الإطلاق، فكان من المظنون ألا يطرب لهذا الشعر البارد المخشوب، ولكن من العجب أنه استطير له ومالت به النشوة كل مميل فوصل المازني بجائزة سنية!

وعرف المازني من ذلك أن المتوكل يستروح إلى الشعر المهلهل النسج، القريب الغور، من مثل المقطعات الرقيقة في الأهاجي والمجون والدعابات والإخوانيات، فكان يتكلف أن يحفظ له من ذلك الشيء الكثير، فينشده إياه إذا استدعاه، فيغمره بالخلع، ويملأ يديه بالصفراء والبيضاء! والسلطان سوق يحمل إليه ما ينفق عنده. وقد توفي المازني سنة ثمان وأربعين أو تسع وأربعين بعد المائتين عن ثروة ثمينة من التآليف الحسان في عدة فنون. نضر الله وجهه وأجزل مثوبته!

علي الجندي

ص: 22

‌دراسات إسلامية

الزندقة في الإسلام

للأستاذ عبد الرحمن بدوي

للزندقة في الإسلام تاريخ شائق، عنى المستشرقون بدراسته عناية شديدة، فكتبوا فيه الرسائل القصيرة أو المقالات الطويلة المستفيضة التي تظهر باستمرار وأغلب ما فيها جديد طريف. ولكنهم لم يبلغوا من هذا كله شأواً بعيداً، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يلقوا ضوءاً قوياً ساطعاً على أغلب نواحيه

عنوا بدراسة هذا التاريخ لأنه بدون إيضاحه وتعمقه لن نستطيع أن نفهم كيف نشأت بعض النظريات في علم الكلام بل بعض المذاهب الكلامية التي ازدهرت خصوصاً في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إذ أن الكثير من نظريات مذهب كمذهب المعتزلة لا يمكن أن يفهم بدون معرفة هذه الخصومات الكثيرة العنيفة التي كانت تقوم بين كبار المعتزلة وبين الزنادقة، والتي كان يثيرها هؤلاء الأخيرون فيضطر أصحاب الاعتزال إلى أن يتخذوا موقفاً بازائها خاصاً. حتى أنه لو أتيح لنا أن نبحث في تكوين النظريات المختلفة التي يشتمل عليها مذهب المعتزلة بحثاً دقيقاً، يتابع تطوره ويرسم المنحنى الذي عليه سار، إذن لوجدنا للزندقة أكبر الأثر وأعظم الخطر في هذا التكوين

كما لا نستطيع أن نفهم أيضاً تلك الحركة السياسة الحضارية الخطيرة التي ظهرت خصوصاً في أوائل حكم العباسيين، وأعني بها حركة الشعوبية. ودون أن نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في كتاب (حديث الأربعاء) من إرجاع حركة الزندقة كلها أو معظمها إلى حركة الشعوبية، نستطيع أن نؤكد على أقل تقدير أن بين كلتا الحركتين صلة قوية شديدة، حتى كان بعض أنصار العربية ضد الشعوبية يتخذون من الشعوبية وسيلة للدلالة على الزندقة كما سنرى بعد حين

وإلى جانب هذا كله لا يمكن أن ندرك التطور الروحي في بلاد الإسلام والحياة العقلية عامة على حقيقتهما، إلا إذا نظرنا إلى حركة الزندقة باعتبارها عاملاً من أخطر العوامل التي لعبت دورها في ذلك التطور وهذه الحياة، فسيرت الأول في اتجاه معين وحددت له خطوطاً رئيسية مشى فيها؛ وكيّفت الثانية تكييفاً معيناً وصبغتها بصبغة خاصة لم تبهت

ص: 23

على مر الزمان

فلهذه الأسباب كلها ولغيرها من الأسباب وجه المستشرقون عنايتهم إلى هذه الدراسة؛ ولكن دراستهم هذه لا تزال حتى اليوم ناقصة، فيها الكثير من التشويه واللبس. وذلك راجع إلى أن تاريخ الزندقة في الإسلام موضوع غامض كل الغموض، مضطرب كأشد ما يكون الاضطراب، يشق علينا كثيراً - الآن على اقل تقدير - أن نتبينه في وضوح وان نتمثله في جلاء

فلفظ (زنديق) لفظ غامض مشترك قد أطلق على معان عدة، مختلفة فيما بينها على الرغم مما قد يجمع بينها من تشابه. فكان يطلق على من يؤمن بالمانوية ويثبت أصلين أزليين للعالم: هما النور والظلمة. ثم اتسع المعنى من بعد اتساعاً كبيراً، حتى أطلق على كل صاحب بدعة وكل ملحد. بل انتهى به الأمر أخيراً أن يطلق أيضاً على من يكون مذهبه مخالفاً لمذهب أهل السنة، أو حتى من كان يحيا حياة المجون من الشعراء والكتاب ومن إليهم. وقد كتب الأستاذ هانز هينرش شيدر فصلاً ممتعاً عن أصل هذا اللفظ واستعماله عند الكتاب غير الإسلاميين وجمع الأستاذ ماسينيون معاني اللفظ كما استعمله الكتاب الإسلاميون في البحث الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة (زنديق) وفي كتابه عن (عذاب الحلاّج). ويظهر من هذين البحثين أن اللفظ قد اتسع معناه إلى حد لا يسمح بتحديده تحديداً دقيقاً مما يحملنا على الحذر والانتباه الشديد للمعنى المقصود به في السياق الذي نجده فيه

ثم إن المصادر التي تحدثنا عن الزندقة والزنادقة قليلة غير مأمونة. وهذه القلة إما لأن كتب الزنادقة قد فقدت كلها تقريباً، ولم يعد بين أيدينا منها إلا شذرات ضئيلة نعثر عليها بعد عناء طويل في كتب الردود، مثل هذه الشذرات التي عثر عليها الأستاذ كراوس في كتاب (المجالس المؤيدية) وهي شذرات لابن الراوندي مأخوذة من كتابه (الزمرذ) قد رد عليها داعي الدعاة مؤيد الدين الشيرازي في هذه المجالس الموسومة باسمه؛ أو لأن بعض المصادر التي تحدثنا عن الزندقة والزنادقة لا تزال مخطوطة حتى اليوم فليست في متناول يد الباحثين. وأهم المصادر من هذا النوع كتب الشيعة مثل كتاب (الاحتجاج) للطبرسي

كما أنها غير مأمونة من ناحيتين: الأولى أن الروايات المكتوبة في بعضها لم يتحر

ص: 24

أصحابها الدقة في إيرادها، فجاءت في الغالب مهوشة ناقصة. والثانية أن البعض الآخر من هذه المصادر، وهو أغلبها، قد كتبه الخصوم وأوردوا فيها آراء الزنادقة بعد أن أدخلوا عليها شيئاً غير قليل من التبديل والتغيير، بما يوافق أغراضهم في الخصومة والحجاج، ومما يتلاءم مع الإلزامات التي يريدون أن يستلخصوها منها. ولهذا يصعب على الباحث أن يتبين أقوال الزنادقة الحقيقية وأن يعرف كيف كانوا يوردونها

ومن أجل هذه الصعوبات مجتمعة كان الباحثون من المستشرقين يقتصرون على دراسة ناحية صغيرة من نواحي الزندقة، أو واحد من كبار الزنادقة الذين يستطيعون أن يجدوا منهم في المصادر شيئاً. ولم يستطع واحد منهم حتى هذه الأيام الأخيرة أن يكتب بحثاً شاملاً لهذه الحركة يتناولها من جميع نواحيها

فعن صالح بن عبد القدوس ألقى جولد تسيهر بحثاً قيماً في المؤتمر الدولي التاسع للمستشرقين سنة 1893. ثم من بعده كتب ا. كريمسكي رسالة صغيرة (في 65 صفحة) بالروسية عن أبان ابن عبد الحميد اللاحقي طبعت في موسكو سنة 1913. وكان ابن المقفع خصوصاً موضوعاً لدراسات عدة أشهرها ما كتبه عباس إقبال في كتابه (شرح حال عبد الله بن المقفع، فارسي) وهو مكتوب بالفارسية؛ ثم فرنشسكو جبرييلي في مقاله المنشور (بمجلة الدراسات الشرقية) سنة 1932 بعنوان (مؤلفات ابن المقفع) وهو أحسن بحث كتب عن ابن المقفع حتى الآن. وقد أثار بحثين آخرين كتب أولهما كارلو ألفونسو نلينو في المجلة نفسها بعنوان (تعليقات على ابن المقفع وابنه) وكتب الثاني الأستاذ بول كراوس في المجلة عينها سنة 1933 تحت عنوان (حول ابن المقفع) وقد ترجمنا هذه البحوث الثلاثة وربما أتيحت لنا فرصة قريبة لنشرها أو للتحدث عنها. وبعد أن كتب جبرييلي مقاله ظهر بحث عن ابن المقفع كتبه رشتر وكانت أفكاره فيه أجرأ وأصرح من أفكار جبرييلي في مقاله

ونحن قد أشرنا من قبل إلى المقال الذي كتبه الأستاذ كراوس عن ابن الراوندي بمناسبة الفقرات التي عثر عليها في (المجالس المؤيدية) مأخوذة من كتاب (الزمرذ) لابن الراوندي. وهو مقال طويل (في ثمانين صفحة) مملوء بالمعلومات؛ وهو حتى الآن أحسن بحث كتب عن ابن الراوندي، وقد ترجمناه أيضاً

ص: 25

وأخيراً كتب الأستاذ فرنشسكو جبرييلي: (تعليقات على بشار بن برد) ظهرت في مضبطة مدرسة الدراسات الشرقية سنة 1937.

وكل هؤلاء الباحثين لم يحاول واحد منهم حتى الآن أن يكتب عن حركة الزندقة كلها كما ظهرت في الإسلام. ولكن بين يدي الآن فصل ممتع كتبه الأستاذ جورج فيدا سنة 1935 ولم ينشر إلا في سنة 1937 في (مجلة الدراسات الشرقية) أراد فيه أن يدرس تاريخ الزندقة الظاهري - إن صح هذا التعبير - دون التعرض للمناظرات التي قامت ضد الثنوية والمانوية ولما عسى أن يكون هناك من أثر للمانوية في الحياة الفكرية في ذلك العصر (أوائل العصر العباسي)، معتمداً في ذلك على المصادر التاريخية الخاصة باضطهاد الزنادقة، وبأشهر الزنادقة في خلافة العباسيين الأول. وأول هذه المصادر وأهمها كتاب (الفهرست) ويليه كتاب (الأغاني). ثم كتب التاريخ الكبرى مثل:(تاريخ الطبري) و (مروج الذهب).

بدأ الأستاذ فيدا بحثه بأن أورد في القسم الأول منه الفقرات الموجودة في كتاب (الفهرست) لابن النديم، وبعضها خاص بتاريخ المانوية في بلاد الإسلام واختلافهم حول الإمام بعد ماني، واضطهاد كسرى لهم وتشتتهم في البلاد وأسماء رؤسائهم. والبعض الآخر من هذه الفقرات يتعلق بالمتكلمين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، وبأسماء الرؤساء والأمراء الذين اتهموا بالزندقة في أيام العباسيين.

وفي القسم الثاني تحدث صاحب المقال عن اضطهاد الزنادقة اضطهاداً رسمياً في أيام الخلفاء العباسيين الأول. فقال: إن المصادر لا تسمح لنا بتتبع هذا الاضطهاد إلا في الفترة القليلة التي مضت بين سنة 163هـ إلى سنة 170 هـ أي في السنوات الأخيرة من خلافة المهدي وإبان خلافة الهادي القصيرة الأجل.

ففي سنة 163 بدأت حملة المهدي العنيفة على الزنادقة بأن أمر عبد الجبار المحتسب، والذي يلقبه صاحب الأغاني بلقب (صاحب الزنادقة) بالقبض على كل الزنادقة الموجودين في داخل البلاد. فقبض على من استطاعوا القبض عليه، وأتوا به إلى الخليفة الذي كان حينئذ في دابق؛ فأمر بقتل بعضهم، وتمزيق كتبهم. واستمر الحليفة في هذا الاضطهاد في السنوات التالية، حتى بلغ الاضطهاد غايته في الفترة ما بين سنة 166 هـ وسنة 170

ص: 26

هـ. وكان يقوم على أمر هذا الاضطهاد قضاة مخصوصون، أشهرهم: عبد الجبار الذي ذكرناه آنفاً، وعمر الكلوزي الذي عين في سنة 167، ثم محمد بن عيسى حمدويه الذي خلف عمر.

وكان الزنادقة يقبض عليهم لأقل شبهة ويأتون أمام القاضي فيطلب إليهم أن يرجعوا عن الزندقة إن اعترفوا بها ويطلق سراحهم إن رجعوا عنها ويقتلون إذا استمروا عليها ورفضوا الخروج عنها.

ولكي يتأكدوا من أنهم رجعوا عن الزندقة حقاً كان الخلفاء يستخدمون وسائل شتى أشهرها تلك التي يروون عن القضاة في عصر المأمون أنهم كانوا يستخدمونها، فهم يذكرون عنهم أنهم كانوا يطلبون إلى الزنديق أن يبصق على صورة ماني، وأن يذبح طائراً بحرياً اسمه التزرج. أما البصق على صورة ماني فالمقصود به تحقير صاحب مذهب المانوية وهو ماني، وهذا دليل على أن الزنديق قد رجع عن هذا المذهب؛ أما الحكمة في ذبح هذا الطائر فلا تكشف عنها المصادر التي بأيدينا. ولكن مؤلف المقال الذي نحن بصدده يقول بأن المقصود بذلك هو أن يفرض على الزنديق أن يذبح كائناً حياً، وذبح الحيوانات تحرمه المانوية. ولا بد لنا من قبول هذا التفسير لأن كل المصادر التي تحدثنا عن المانوية لا تذكر مطلقاً أن المانوية كانوا يقدسون طائراً بعينه، سواء أكان هذا الطائر التزرج أو كان غيره. وقد حدث مثل هذا في أيام محاكم التفتيش سنة 1239 مع طائفة الكاتار التوسكانيين فقد طلب إليهم بحضور البابا جورج الرابع أن يبرهنوا على إخلاصهم في الارتداد بأن يأكلوا اللحم أمام جمع من الأساقفة

ولم يكن كل هؤلاء الذين يتهمون بالزندقة زنادقة حقاً؛ وإنما كان منهم من يتهم بالزندقة لأسباب سياسية. فقد اتخذ الخلفاء من هذا الاتهام وسيلة للقضاء على خصومهم من الهاشميين. وعلى هذا النحو اتهم ابن من ابناء داود بن علي ثم يعقوب بن الفضل وأتى بهما إلى الخليفة المهدي. ولما كان الخليفة المهدي قد ارتبط من قبل بعهد ألا يقتلهما، فانه لم يستطع أن يأمر هو بقتلهما، وإنما حبسهما وأشار إلى ابنه الهادي أن يقتلهما حينما يتولى الخلافة، ولكن الهادي لم يستطع أن يقتل غير يعقوب، لأن ابن داود بن علي مات في سجنه قبل أن يشغل الهادي مركز الخلافة.

ص: 27

ولسنا نعرف على وجه التحقيق ماذا كان يوجه إلى الهاشميين من تهم. وكل ما ترويه لنا المصادر هو ما يرويه لنا الطبري (أخبار سنة 169 جـ 3 ص 549) وما لخصه عنه ابن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول)(ص 221) من أن ابنة يعقوب بن الفضل قد اعترف أثناء محاكمتها بأنها حبلى من أبيها! والمانوية تحلل زواج الآباء بالبنات في الروايات الإسلامية.

ولم يقتصر الأمر على الخلفاء في اتهامهم الخصوم بالزندقة لأغراض سياسية، بل كان هناك من الوزراء من يتخذون الاتهام - الباطل غالباً - بالزندقة سبيلاً للكيد والوقيعة بنظرائهم أو خصومهم الذين يحقدون عليهم. ومن هنا نستطيع أن نفهم تلك الرواية التي ذكرها الطبري (ج 3 ص 490) ثم الجهشياري في (كتاب الوزراء والكتاب)(ص 89 - ص90)، ثم صاحب الأغاني وغيرهم، عن اتهام أبناء أبي عبيد الله الوزير بالزندقة. فقد اتهم الربيع صاحب الخليفة المهدي ومنافس أبي عبيد الله الوزير أبناء هذا الأخير، أو واحداً من أبنائه - كما في بعض الروايات - بأنهم زنادقة. وقد أفلح الربيع في هذا الدس عند الخليفة الذي أمر بأن يقتل عبد الله بن أبي عبيد الله الوزير. وكان ذلك سبباً في توتر العلاقات بين المهدي وبين أبي عبيد الله، حتى أن الخليفة عزله من منصب الوزارة، ولى يعقوب بن داود بدلاً منه

والطبري يذكر صراحة أن اتهام ابن أبي عبيد الله بالزندقة كان يقصد به زعزعة مركز أبيه عند الخليفة المهدي. وقد كان أبو عبيد الله موضوعاً لدسائس موالي المهدي. ويذهب صاحب الأغاني إلى أبعد من هذا فيقول إن المهدي أدرك من بعد السبب الذي من أجله أبلغه الربيع أخباراً عن زندقة ابن الوزير (الأغاني 21 ص 122)

والآن، وبعد هذا العرض الموجز للاضطهادات التي عاناها الزنادقة، أو من اتهموا بالزندقة، في الفترة ما بين سنة 163 وسنة 170، نسائل أنفسنا: ما هي هذه الزندقة التي اتهم بها هؤلاء، وبأي معنى يجب أن تفهم؟

يرى صاحب المقال أن الزندقة التي حاربها المهدي والهادي في شخص هؤلاء الزنادقة هي المانوية، أولاً وبالذات. ودليله على ذلك ما ذكرناه من قبل من الوسائل التي كان يمتحن بها القضاء قيمة رجوع الزنادقة عن الزندقة، وإنكارهم لها، حينما يقدمون إليهم. ويؤيد هذا

ص: 28

الرأي أيضاً تلك الرواية التي ذكرها الطبري والتي يمكن اعتبارها صادقة وهي التي تقول بأن أحد الزنادقة قدم إلى الخليفة المهدي فطلب إليه الخليفة أن يتبرأ من الزندقة ولكنه رفض فأمر بقتله، والتفت من بعد إلى ابنه موسى، وقال له كلاماً يحثه فيه على محاربة هذه العصبة من الزنادقة. ووصف له مبادئ هذه العصبة وصفاً يكاد ينطبق كله على مذهب المانوية؛ مما يدل على أن المقصود بالزندقة كان حينئذ مذهب المانوية

ومع هذا كله فإن هذا اللفظ قد اتسع معناه في هذه الفترة ذاتها اتساعاً كبيراً كما سنرى في مقالنا التالي عن أشهر الزنادقة في أيام الخلفاء العباسيين الأول.

عبد الرحمن بدوي

ص: 29

‌ألفريد دي موسيه

بين العبقرية والحب!. . .

للأستاذ صلاح الدين المنجد

سلك ألفريد دي موسيه في شعره طريقاً ما سلكه أحد قبله. فلقد أذاب أناته عبرات في قصائده وأخرجها للناس، فإذا فيها معان رائعة لا تنفد: تبسم بالذكرى، وتموج بالزفرات، وتنسم بوقد الجوى ساعة، وعطر الهوى ساعات. . .

وإنك لتجد في حياته الخاصة أطاريف كثيرة تتجلى في حبه اللاهب وصباه الفاجر وطفولته اللاهية. فقد كان فتى غرانقاً خلب نساء، ذا شعور من ذهب استرسلت إلى كتفيه. وكان أنيقاً في لباسه، رقيقاً في طباعه، رفيقاً بأصدقائه. حفلت طفولته بالترف والنعيم؛ فقد كان أبوه ذا يسار وسعة، فنشأه تنشئة فيها إدلال ونعومة؛ يلهو في النهار مع ابنة عمه بين الزهر، ويصغي في المساء إلى أحاديث عمه عن نابليون - الذي كان آنئذ قد ملأ الدنيا وشغل الناس - وأقاصيص جده عن الأيام الخوالي، وأعاجيب (ألف ليلة وليلة) و (دون كيشوت)، وغيرها؛ فكان يشعر بلذة عميقة في تخيل تلك العوالم التي تفيض بالحب، وترّف بالبطولة، وتسجو بين السعود والنحوس.

وعشق شاعرنا ابنة عمه، ولما يبلغ الرابعة من عمره؛ وقد كانت تقص عليه تحت الشجر وبين الزهر أحلى الأقاصيص فسألها الزواج ذات يوم، وهو لا يدري من أمره شيئاً. فضحكت منه. وتضطر بعد شهور إلى الرحيل عنه، فيبكي لفراقها، ويحزن لبعدها؛ وتكون هذه الدموع أول ما ذرف الشاعر في سبيل الحب. . .

وكان لهوه وترفه يدفعانه إلى أعمال فيها عبث الطفولة الساخر الذي لا يخشى شيئاً، أو يخاف أحداً؛ فلقد ألقى بكرة البليارد يوماً على مرآة في البهو فحطمها، وعمد إلى نجف الصالة في يوم آخر فمزقها؛ فلم يُسأل عما فعل خشية أن يثور حسه الرهيف فيجهد جسمه النحيف.

ولما التحق شاعرنا بكلية هنري الرابع لقي من رفقائه أذى كثيراً: كانوا يسخرون منه ويهزءون به ويسمونه (بالآنسة) لشعره الأشقر الجعد، ولربطة عنقه الزاهية. فكان يصبر صبراً جميلاً، ويدعهم يلعبون ويمرحون؛ حتى إذا ما أتى الامتحان أراهم الجد كيف يكون،

ص: 30

والجوائز كيف تنال!

وما كاد ينهي درس الفلسفة حتى ظهر ميله للأدب، ولكنه كان يريد أن يبرع فيه. كتب ذات مرة إلى صديقه (بول فوشيه) يقول له:

(أنا لا أريد أن أكتب الآن، فإذا كتبت فيجب أن أكون شكسبيراً أو شيلر)

ودرس شاعرنا الحقوق وقليلاً من الطب، وعنى بالرسم والأدب والموسيقى. وتركته أسرته يفعل ما يشاء، فلم يكن بحاجة إلى العمل الذي يدر المال، وكان الزمان أنيقاً والعيش رقيقاً وأهله كما قلنا من ذوي اليسار

واستطاع صديقه (فوشيه) أن يعقد أواصر الصداقة بينه وبين هوغو، وأن يدخله في مجمعه الأدبي فتعرّف هناك على (دفيني) و (دوماس) والنقادة (سانت بوف)

وكان هذا النفر يقضي أمساء الآحاد عند القصصي الكبير (شارل نودييه) مع (لامرتين) و (بلزاك) و (جيرار دي نرفال) العاشق المجنون و (غوتييه) و (دي لا كروا)؛ فكانوا يستمعون إلى أقاصيص (نودييه) ويتناشدون الشعر على حين تجلس ابنة صاحب الدار ماري إلى البيان (ورأسها الجميل الأشقر يلمع كالشقيقة بين سنابل القمح كما يقول موّسيه، وأناملها الناعمة تتنقل هنا وهناك، ونحن نستمع إلى الشعر، أو نجد في الرقص)

وكان موسيه إذ ذاك وضيء الطلعة متلألئ الوجه يخلب الفتيات. حتى ليصفه (بانفيل) بأنه كان (كالإله الشاب الجميل لتجعيد شعره المسترسل إلى كتفيه كأنه الموج الراعش تحت أشعة الشمس)؛ فأخذ يغشى المجالس ويتنقل بين الفتيات، وينظم الأشعار ويكتب أقاصيص أسبانيا وإيطاليا. فردد الناس اسمه، ثم جذبه المسرح نحوه، فإذا بصاحب (الأوديون) يطلب منه مسرحية شديدة الحماسة: فكتب الشاعر (ليلة البندقية) فمثلت (بين الصفير والضجيج) وباءت بفشل عظيم.

على أن هذا الفشل لم يبعد شاعرنا عن المسرح، فلقد كتب بعد ذلك مسرحيات كثيرة أخفق بعضها ونجح بعضها، واستطاع بفضل ذلك أن يصبح مخبراً أدبياً لمجلة (باريس) و (الطان).

ثم نشر أشعاره في مجلة (العالمين). وفي هذه الفترة مات أبوه.

عندئذ عاش فتىً مغامراً يرتاد الملاهي، ويضاحك الحسان، ويعاقر الخندريس. والتقى ذات

ص: 31

يوم بجورج صاند، وكانت قد نبه ذكرها، واشتهرت بأقاصيصها ومغامراتها، وصرمت حبال (ساندو) عشيقها. . . فأعجبته وأعجبها، ثم دعته بعد أيام إلى دارها وهناك تعاهدا على أن يبقيا صديقين ويعيشا معاً

وبدأ الحب يشب وينمو، فعاش معها في عالم زاخر بالأماني مائج بالرؤى، فظلّلته بعطفها ووصلها، وأذاقته طعم الوجد والهوى، وأسمعته أغاني الحب فسكر وانتشى، وعاش معها في غيبوبة رف النعيم في جنباتها، وضحكت على حفافيها المنى: قصف، جنون، لهو، شباب، لذة، سكر. تلك كانت حياتهما؛ على أنهما لم يمتعا بهذا كله طويلاً وأتت رحلتهما إلى إيطاليا ليذهب كل شيء. . . وليودعا آمالهما الضاحكات، ويعود الشاعر إلى وطنه ليمعن في البكاء

فلقد أرادت جورج أن تذهب إلى (البندقية) مدينة الحب والشعر؛ فلم ترض أمه عن هذه الرحلة خوفاً على أبنها. فأقسمت لها جورج لتعنين به العناية كلها. وسافر العاشقان إلى البندقية فوصلا إليها في يونية من عام 1843

وكانا لا يزالان في نشوة الحب وفوران الأحلام. فعاشا فيها أياماً لذة كانت آخر أيام الهوى؛ فقد أصابت جورج حمى مذ مرت على البندقية في جيئتها، فعني بها الشاعر؛ ثم مرض ألفريد بعد شهور، فأحضرت له طبيباً اسمه (باجيلّو) أعجبها. . . فتركت موسيه في غرفته مريضاً وتبعت الطبيب، فتخاصم الشاعر وحبيبته وانكب على الخمر يعاقرها لينسى الفاجعة التي أصابت حبه وقلبه، ثم ترك جورج مع الطبيب وعاد إلى باريس وحيداً

لم ينس موسيه في باريس جورج. فكان يمر على مغاني حبهما، ينظر إليها فيذكر ليالي الوصل، فتشجيه الذكرى ويعود إلى نفسه يذرف الدموع، وينظم (الليالي) ويتسلى بالرسائل التي كانت ترسلها إليه وتنصح له أن يحب غيرها، وأن يتذوق الملذات كلها. (ليرتشف قلبك لذات الحياة جميعها. . . ولكن ليؤد رسالته جيداً لتستطيع أن تردد يوماً إذا نظرت إلى الماضي فتقول: لقد تألمت كثيراً وخدعت أحياناً، ولكني ارتشفت وأحببت. . . لقد عشت أنا بنفسي. . . لم أكن شخصاً خلقته كبريائي وأوجده وهمي. . .)

وانكب شاعرنا يكتب ويؤلف، ثم عمد إلى اللذات يرتشفها وإلى الخمور يعاقرها، وهو يتألم ويبكي ويقول:

ص: 32

(دع هذا الجرح المقدس. . . دعه يتسع)

(فلا شيء يجعلنا عظماء. . . كالألم الشديد. . .!)

وفي سنة 1848 قبل الشاعر في المجمع العلمي الفرنسي عضواً، وهو في إحدى الحانات. . . على أنه لم ينتفع بالعيش بعد جورج أبداً: فقضى حياته بائسة، وخبت تلك العبقرية الوهاجة وانطفأ ذلك الذكاء المشع، وغاض الجمال الخلاب ومات وله من العمر سبعة وأربعون عاماً وهو يقول:

(وأخيراً. . . أريد أن أنام. . .!)

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 33

‌على هامش الفلسفة

مرجع الأخلاق

للأستاذ محمد يوسف موسى

تتمة البحث

رأينا في الكلمة الأخيرة أن الأستاذ العلامة ليفي برهل - يرى في كتابه (الأخلاق وعلم العادات أن الأخلاق ترجع أولاً إلى علم العادات الذي مرجعه استقراء التاريخ وملاحظة الحاضر، ثم يتداخل فيها النظر العقلي لتعديل ما يجب تعديله من الظواهر الأخلاقية والاجتماعية. هذا هو ملخص ما يدعو إليه. فما الرأي فيه؟

لا ريب أن هناك فائدة كبيرة من علم العادات الذي يشير باستيحائه. لأن النظريات والأفكار الأخلاقية التي تعاقبت على الزمن هي وليدة المجتمعات، وإذا ليكن من الواجب دراستها أولاً بالعقل العملي الدقيق. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من هذا أن علم العادات يختلط من الناحية العميقة بالأخلاق بحال من الأحوال

يقفنا التاريخ على أن كثيراً من أرباب الضمائر العالية عورضوا في أيامهم بآراء أخلاقية تقليدية كانت ضد مثلهم العليا، إلا أن المستقبل كان يحكم دائماً لهم، وإذا تكون ضمائرهم الشخصية سبقت الضمير الاجتماعي المستقبل وأعدته لما أرادوا له، وإذاً يكون من الممكن والواقع أن الخلقية تقوم على قتال النظريات الأخلاقية والعادات الاجتماعية التي توجد في زمنها. هاهي ذي أخلاق (بوذا) لم تكن متفقة مع عادات الهند البرهمية في القرن السادس قبل الميلاد، كما لا تتفق الأخلاق التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام مع عادات الأمم والشعوب التي بعثوا فيها ولها.

لا يقول لنا علم العادات كيف نختار عندما تتعارض المثل العليا للثورات الأخلاقية مع الآراء والحقائق الاجتماعية التي توجد معها! لننظر مثلاً للحرب، نجدها تكشف حقيقة اجتماعية لا شك فيها؛ هي تسيطر العواطف والمشاعر الحربية على جميع الشعوب، ومع ذلك لا يرضى أحد أن يرفض مثالاً أعلى هو السلام العالمي متى وجد لذلك سبيلاً. وبعبارة أخرى إن تحقق أية حقيقة ولو اجتماعية لا يلزم المرء بالانحناء أمامها واعتبارها مبدأ

ص: 34

أخلاقياً جديراً بالتقدير

وبعد فعلم الاجتماع وعلم العادات من العلوم التي لها قيمتها وجدواها، ولكنهما لا يحلان محل الأخلاق التي تقدر الأعمال وتضع لها قواعد للسير عليها. الاستقراء المطبق على تجارب التاريخ يعلمنا حقيقة ما كان في الماضي وما هو كائن الآن لا ما يجب أن يكون. ذلك أن دراسة ماضي مسألة من المسائل من الوجهة التاريخية كمركز المرأة وحقوقها مثلاً معناه الوقوف على ما كان خاصاً بذلك من نظريات مما يجعل الدارس أكثر صلاحية من غيره لمعرفة ما إذا كان من الخير الاحتفاظ بالحالة الراهنة فيها أو تناولها بالتعديل قليلاً أو كثيراً؛ لكن هذه المعلومات التاريخية والاجتماعية التي أمدّنا بها البحث لا تكتفي وحدها لفرض حلّ حازم سواء أكان حلاً محافظاً أم معدلاً أم ثائراً. هذا حق لا شبهة فيه؛ إذ كيف يمكن تاريخياً معرفة ما يمكن أن يكون في المستقبل! أكبر دروس الماضي أنه مضى لطيته، وأن الحاضر يجب أن يتبعه أيضاً. والأخلاق لا يكفيها هذا بل تسعى كما قلنا لمعرفة ما يجب أن يكون.

وأخيراً، إذا كنا لم نرتض نظرية من النظريات السابقة التي تواردت بشأن الطريقة التي تتبع لتعرف القانون والمثل الأعلى الأخلاقي، فما هو إذا الحل الذي نرضاه؟ هذا الحل هو ختام هذا البحث الذي قد طال وقوفنا عنده

التجربة الأخلاقية

ليست الحياة الأخلاقية إلا مجموع أعمال نفسية واجتماعية خاصة، فمن الممكن أن نقول بتطبيق الطريقة الاستقرائية عليها، ولكن على نحو آخر غير الذي رآه الأستاذ (ليفي برهل). والعقل العلمي لا يتطلب منا أن نلتزم في كل موضوعات البحث طريقة واحدة، إذ يتطلب فقط أن يلائم المرء بين موضوع البحث وطريقته، وأن يعني الأخلاقي بأن يقارب بالقدر الممكن بين الطريقة التي ينتهجها في الأخلاق والطريقة التي يستخدمها العالم في العلوم التجريبية؛ أي أن يصدر عن تجارب واسعة وصدر رحب وروح غير متحيزة لا تدع للخطأ سبيلاً. هكذا عالج العلامة روه) موضوع طريقة الأخلاق في مؤلفيه القيمين، وهما:(التجربة الأخلاقية، ودراسات الأخلاق)

يرى هذا البحاثة أن العالم يقبل كمبدأ لبحثه اكتشافات أسلافه وآراءهم كفروض على الأقل

ص: 35

يأخذ في بحثها وتمحيصها بكل ما يملك من وسائل. كذلك الأخلاقي يجب أن يبدأ بحثه من التقاليد فيمحصها ويزنها بما تمده به تجاربه الخاصة والحقائق الدينية التي لا ريب فيها والضمير القادر على الحكم الصحيح. بعض هذه الأفكار التقليدية توسع من قلوبنا وعقولنا، وتبث فينا يقيناً شريفاً وسعادة نبيلة، ونحن بعد تمحيصها لا يسعنا أن نضعها موضع الشك، كما لا يشك العالم في فروض محصها وظهر له صحتها

حقاً يجب السير مما اتفق عليه الأديان ثم من التقاليد؛ فالحياة تولد من الحياة، حياتنا الأخلاقية لم نبتدعها بل جاءتنا من حياة أسلافنا الأخلاقية إلى حدّ ما، فمن الادعاء والعبث الذي لا معنى له أن يهمل باحث كل تجارب الإنسانية الأخلاقية. ومن الغباء أن يزعم أحد قدرته وحده على أن ينشئ أخلاقاً، كما ليس في مكنة أحد أن يبني وحده علم الهندسة أو الطبيعة مثلاً

لكن حذار أن نقتصر على تقاليد البيئة الأسرية أو القومية الخاصة. يجب أن يعنى الباحث الأخلاقي بتقاليد الأمة كلها فيجتهد في تعرف أصولها في زوايا الماضي البعيد والقريب وآثارها في الحاضر؛ ومن ثم يكون لعلم التاريخ فائدته وخطره وخاصة تاريخ الفلسفة والأديان. على أنه ليس للمرء أن يحد نفسه باستشارة المكاتب؛ عليه أن يخالط - مصغياً مستطلعاً باحثاً - المساجد والكنائس وسائر دور الدين بلا تمييز، وألا ينسى المجتمعات المختلفة للأوساط الاجتماعية، بعد هذا يجب أن يبحث ويقارن ويحقق ما جمعه بهذه الوسائل من الآراء والنظريات الأخلاقية المختلفة وأن يستخلص منها ما يكون متماثلاً ومشتركاً، ويختار من بينها الأصلح حينما تتعارض حسب تجار يبه وضميره وفكرة المنزه عن الهوى

بعد هذا أيضاً يجب ألا يكتفي بتقاليد أمته وجنسه، بل يكون واسع الأفق عالمي البحث حتى يصل إلى مبادئ يمكن الحكم بصلاحيتها للجميع. والسياحة بما تهيئ لنا من فرصة تعرف تقاليد الأمم والشعوب المختلفة الدينية والاجتماعية في مواطنها الخاصة يمكن أن تمدنا بهذا البحث الأخلاقي الواسع الدقيق بمبادئ أخلاقية عامة لها قيمتها وخطرها. من أجل هذا يقول أحد الكتاب الإنجليز - بعد ما ساح كثيراً بين أوربا وأمريكا وأقام أخيراً باليابان - ما دمنا معاشر الأوربيين لم نعش إلا في نصف الكرة، فليس لنا إلا أنصاف أفكار وآراء).

ص: 36

وإذاً لكي نصل إلى مبادئ وأحكام صحيحة، يجب أن نسائل هذا وذاك، لا نخص بحثنا بأمة دون أمة ولا بجنس دون جنس، ولا بعصر دون عصر. يجب أن نجمع شهادات كل الضمائر التي لها قيمتها، وأن نبحث لنفهم نفسية الأفاضل والأبطال والحكماء ثم نعمل التحقيق غير المتميز في كل هذا المجموع من الآراء الأخلاقية لنعد بذلك العقيدة الأخلاقية غير المغرضة على طريقة (المروحة) حسب تعبير (روه - نفسه، وإذا يكون القانون والمثال الأعلى الأخلاقي هو نقطة الانتهاء لطرق متعددة متنوعة.

هذه هي الطريقة الحية المنتجة التي أرى أنه باتباعها نصل إلى تقرير حقائق أخلاقية صالحة لكل العقول، وإلى تعرف المثل الأعلى الأخلاقي الذي يقبل من كل الضمائر المستقيمة والإرادات الطيبة في كل البيئات والعصور.

إلى هنا انتهيت مما أردت بحثه، ولم يبق إلا أن أتوجه بالشكر لله تعالى، وإلى حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)، وحضرات القراء الذين تفضلوا بتشجيعي على جهد المقل برسائلهم وكلماتهم الطيبة. وأخص حضرة الباحث الجليل الأستاذ نصيف المنقبادي الذي لا أجدني أهلاً للثناء الذي وجهه إليّ بعدد (الرسالة) الغراء رقم 303 في ابتداء الكلمة القيمة التي بحث فيها غريزة الخير والشر من الناحية البيولوجية أي من ناحية أصلها ونشأتها وتطورها وذلك غير الناحية التي حاولت بحثها.

وإلى اللقاء بعد العودة من فرنسا إن شاء الله تعالى في أول العام الدراسي الآتي.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين

ص: 37

‌من برجنا العاجي

أبصرت اليوم من نافذة برجي (شهر يوليو) مقبلاً بخطى سريعة وهو متدثر برداء أحمر كأنه قطع اللهب، وقد تصبب من جبينه العرق، وهو يقرع باب برجي ويصيح:

- أيها الغافل عن جسمه، القابع بين جدران سجنه. انطلق قليلاً إلى نسيم البحار وهواء الجبال، وأرح نفسك واسترح من نفسك!

فسمع الجواب من أعماق نفسي:

- وكيف يستريح من هذه النفس وهي تمتطي وجوده امتطاءً؟

- أو نذعن لهذا الفارس القاسي حتى يسحق المطية سحقاً؟!

فقالت النفس (لشهر يوليو):

- أهي رحمة منك بالمطية أم أنك تريد أن تأخذها مني لنفسك أيها الشهر اللعين!

- إنها ستجد عندي الراحة والنعيم. وسأقدم لها (علفاً) من فاكهة الجبال الغضة وزهر الغابات الجميل ونسيم صيفي العليل. . . أما أنت فماذا تجد عندك؟ إنك لن تقدمي إلى هذه المطية النحيلة غير (علف) من الحبر والورق والسهاد المضني والعمل المرهق والتفكير الطويل!

- سأعطيها النور الذي يضيء لها السبيل!

- لا تخدعيها بهذه الكلمات. ومع ذلك فإن عينيها في حاجة كذلك إلى الراحة والبعد عن النور. أقصى عن وجهها شهراً واحداً ذلك المصباح الذي لزمها طول الشهور!

- إنها لا تستطيع السير خطوة بغير ذلك المصباح

- أقسم لك أن الزيت قد نفد من هذا المصباح. دعيني أذهب بها إلى حيث تملؤه من جديد زيتاً خالصاً نقياً، يرسل الضوء وهاجاً قوياً، لها وللآخرين من القراء والمريدين، طول عامها القادم. . . آمين!

توفيق الحكيم

ص: 38

‌د. هـ. لورنس

للأستاذ عبد الحميد حمدي

مقدمة

أمل ويأس: في هاتين الكلمتين يتلخص تاريخ القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين. كانت تقوم الحركة تلو الحركة، وفي كل مرة ينبعث الأمل ويظن الناس أن الحياة قد بعثت من جديد وأنهم صاروا قاب قوسين أو أدنى من السعادة الإنسانية، ولكن سرعان ما تذوي الحركة وتموت، فيتحول الأمل يأساً، وينقلب النعيم بؤساً، وتحل الحسرة محل السرور، ويأخذ الألم مكان اللذة، وبذلك تقتم الحياة وتظلم أكثر من ذي قبل حتى لا تبشر بعد ذلك بخير

ففي مستهل القرن التاسع عشر قامت الحركة الصناعية، فهلل الناس وكبروا استفاقوا كأنهم من كابوس مريع. ولكن لم تلبث هذه الحركة أن خلّفت أضعاف ما كان موجوداً من بؤس وشقاء، فازدحمت المدن حتى ضاقت بسكانها وتوزعت الثروة ولكن توزيعاً غير عادل؛ فكان من جراء ذلك أن مال الناس عن هذه الحركة وتعلقوا بأهداب حركة أخرى ناشئة هي الحركة العلمية التي قامت نتيجة للمستكشفات العلمية والمخترعات الحديثة؛ فأّمل الناس فيها واستبشروا بها حتى صدمتهم الحقيقة المرة وتبينوا أن العلم قد يعطي الإنسان قوة فوق قوة ولكنه لا يهبه السعادة ولا الهناء

وعلى أثر يأس الناس من هذه الحركة ناصروا الحركة السياسية التي قامت تحت زعامة جلادستون أملاً في أن الدعوة إلى الحرية وإلغاء الفوارق بين الطبقات والتخلص من امتيازات الطبقة العليا هي سبيل السعادة المنشودة. ولكن ما كاد عميد الحركة يقضي حتى قضت الحركة إلى جواره، ثم أتت هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية فكانت ضغثاً على إبالة وكالت الضربة القاضية للحركة لأن فرنسا كانت نصيرة الحرية ورمزاً لها في ذلك الوقت

وبهذه الطريقة بلى الإنسان باليأس المرة بعد المرة حتى نضب معين أمله، وزال عنه تفاؤله، وصار لا ينظر إلى الحياة إلا بمنظار أسود، بعد أن تبين له أنه إنما يحارب عدواً لا قبل له به، وأنه قد كتبت عليه الهزيمة مهما قاتل ومهما استبسل. لذلك رأى أن لا مفر له

ص: 39

من اجتناب هذه الحياة والابتعاد عنها، فكانت الفنون خير مكان يلجأ إليه. . . فهناك في دنيا الخيال يسبح الإنسان في عالم من صنع يده، عالم هو مبدعه وخالقه، بعيداً عن صخب الحياة وضجيجها. ولكن ما كاد يبزغ فجر القرن الجديد حتى تبين للناس أن الفنون ما عادت تصلح لأن تكون ملجأ الإنسان إلى الأبد، وزاد إيمانهم بهذا عند نشوب حرب جنوب أفريقيا واستعداد ألمانيا للحرب بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. عند ذلك أدرك الناس أن الوقت قد حان كي يتركوا عالم الخيال جانباً ويعودوا إلى الحياة ومواجهتها

وقامت في ذلك الوقت مدارس عديدة تدعو إلى مبادئ متباينة. فقامت مدرسة ريارد كبلنج، ومدرسة برناردشو، وهـ. ج. ويلز، ثم مدرسة ج. ك. تشسترتون. وكان هم كل واحدة منها نقد مبادئ المدرستين الأخريين ودعوة الناس إلى اعتناق مبادئها هي، حتى قامت الحرب العظمى التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الأفكار والمبادئ التي كانت تسيطر على عقول البشر في ذلك الوقت خاطئة تحتاج إلى التعديل أو التغيير، وعلى هذا الأساس قامت مدارس أخرى، وعلى رأس هذه المدارس قامت مدرسة لورنس

وبرغم أن لورنس في نظر بعض ضيقي العقول لا يعدو كونه كاتباً مفحشاً أو رساماً لا خلاق له، إلا أنه يعتبر في رأي أئمة المفكرين نابغة عصره. فقد بذ معاصريه الكتاب في عالم الروايات الطويلة والقصص القصيرة والروايات المسرحية، كما فاق غيره من الرسامين بلوحاته الفنية، وظهر على الموسيقيين بمقطوعاته التي وضعها بنفسه. وكان يحدوه في ذلك كله أمل واحد وغرض واحد: هو القضاء على هذه الحياة التي غلبها التكلف وساد فيها التصنع حتى صارت حياة ملق ورياء، فكان همه أن يهدم هذه الحياة من أساسها ليقيم على أنقاضها حياة جديدة

ولما كان هذا هو غرضه وجب عليه أن يكون صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة، وأن يتوخى الصدق في كل ما يقوله، لا يهمه في ذلك نوع الموضوع الذي يعالجه ولا رأي الناس فيما يقوله، فلا يجد فارقاً بين أن يكتب في موضوع العلاقة الجنسية وبين أن يكتب في موضوع مناجم الفحم أو ما إلى ذلك من الموضوعات العادية. وهم يعيبون على لورنس صراحته وصدقه وأنه يحاول أن يخدع نفسه ويخدع الناس كما يفعل غيره من الكتاب. يعيبون عليه لغته وجرأته في التعبير وهم يعلمون أنهم يستعملون نفس اللغة في أحاديثهم

ص: 40

في منتدياتهم الخاصة، ويعيبون عليه الموضوعات التي يعلجها وهي لم تخرج عما يفعله الإنسان منذ الخليقة حتى يومنا هذا

ولما كان لورنس صريحاً لا يعرف للمداراة معنى فقد حذر الناس من تيار المدنية الحديثة الذي يجرفهم إلى هاوية الدمار وهم لا يشعرون. فهذه المدنية الحديثة وليدة العقل والتفكير قد قامت على حساب كبت الغرائز الإنسانية. فبعد أن كان الإنسان وحدة كاملة بعقله وجسمه انفصل الاثنان، ثم تغلب العقل حتى أصبح الجسم مسجوناً لا يستطيع التنفيس عن رغباته؛ فيرمي لورنس من كتاباته أن يفك قيود الجسم ويطلق سراحه كي يستعيد الفرد كليته الأولى. ولما كانت العلاقة الجنسية وتنظيمها هي التي تكفل للإنسان الوصول إلى هذا الغرض فقد اهتم بها لورنس وعالجها في معظم كتبه

ولورنس من ذلك الصنف من الكتاب الذي يخلق في قرائه الذوق الذي يعينهم على فهم كتبه واستساغتها، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى وقت ليس بالقصير. ونلاحظ على كتب لورنس أنها سهلة القراءة صعبة الفهم، وهذا سر خلودها. فلورنس يعتقد أن الكتاب خالد ما دام يسبر غوره أحد. وكثيراً ما يقرن اسم لورنس باسم جيمس جويس أو فيرجينيا ولف أو بروست أو غيرهم من رواد المدارس الحديثة في الأدب. والحقيقة أن لورنس يختلف عنهم اختلافاً بيناً، فكتب هؤلاء صعبة القراءة في أول الأمر سهلة الفهم بعد ذلك، لأن صعوبتها هي في لغتها الجديدة وتعبيراتها غير المألوفة في حين أن موضوعاتها لم تخرج عن المطروق المألوف. وأما لورنس فعلى العكس من ذلك، فهو يكتب في لغة مفهومة مألوفة، ولكن شخصيات رواياته وحوادثها وموضوعاتها أبعد ما تكون عن المألوف، وكلها ترمي إلى غرض واحد هو شق طريق جديد في الحياة

وكان من يجرؤ على قول الصدق بين قوم ألفوا الكذب وتعودوه يحاكم محاكمة صورية تنتهي بحرقه أو بزجه في أعماق السجون. أما في عصرنا هذا عصر المدنية الحديثة و (حرية القول) فتقوم الصحافة مقام محاكم التفتيش القديمة؛ فإذا لم يعجبها كاتب بأن كان صريحاً أو مخلصاً فيما يقول قامت تشوه اسمه وتسيء إلى سمعته حتى تنفر الناس منه وتبغضه إليهم. وهذا ما فعلته الصحف المغرضة بكاتبنا، وساعدها على ذلك ميل الناس في عصرنا هذا إلى تصديق كل ما يقال دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة بحث هذه الآراء

ص: 41

وتمحيصها. ولهذا نرى عدداً كثيراً من الناس لا يعرفون عن لورنس أكثر من أنه وضع كتاباً اسمه (عشيق لادي تشاترلي) صادرته الحكومة وأمرت بحرقه. وهم يعرفون كذلك أن رجال البوليس داهموا معرضاً لصوره في لندن وحطموا كل ما وصلت إليه أيديهم، ثم بعد ذلك لا يعرفون عنه شيئاً. وكان الأولى بهم أن يقرءوا كتبه بعد أن يدرسوا المؤثرات التي دفعته إلى كتابة ما كتب، وبعد ذلك يصدرون على الكاتب حكمهم.

وبرغم كل هذه الظروف المعاكسة ورقة حال الكاتب ومرضه الذي لازمه طول حياته حتى قضى عليه وهو لا يزال في زهرة شبابه، وبرغم عدم فهم الناس لكتبه وبعدهم عن تقدير صاحبها، وبرغم تنكر أصدقائه له وانفضاضهم من حوله كان لورنس كاتباً مكثاراً ما ولج باباً إلا نبغ فيه. فرواياته الطويلة كثيرة، وقصصه الصغيرة ممتعة وشعره رائع، وكتبه في الفلسفة وعلم النفس هدمت النظريات القديمة، ومجموعة رسائله كنز أدبي لا يفنى

عبد الحميد حمدي

مدرس بمدرسة شبرا الثانوية

ص: 42

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

450 -

والله ما شعرت بذلك

في (معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان): كان (الإمام) محمد بن سحنون ذات يوم يؤلف إلى أن حضر العشاء. فجاءته جاريته أم مدام بالعشاء. فقال لها: يا أمّ مدام، أنا مشغول عن العشاء بما أنا فيه. فلما طال انتظارها أخذت تلقمه وهو على حاله يؤلف حتى أتت على جميعه. وما زال كذلك حتى أذّن المؤذن لصلاة الصبح، فطوى كتابه وقال: يا أم مدام، هات ما معك من العشاء!

فقالت: يا سيدي، إني أطعمتك إياه!

فقال: والله ما شعرت بذلك!

451 -

لو كان من كلام النظام لكان كبيرا

في (الأغاني): عتب المأمون على عريب (المغنية) فهجرها أياماً. ثم اعتلت فعادها. فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟

فقالت: يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عُرفت حلاوة الوصل، ومن ذمّ بدء الغضب حمِد عاقبة الرضا.

فخرج المأمون إلى جلسائه، فحدثهم بالقصة. ثم قال: أتُرى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيراً؟!

452 -

. . . فيستثنون فتبطل أيمانهم

(وفيات الأعيان): قال الربيع صاحب المنصور: يا أمير المؤمنين هذا أبو حنيفة يخالف جدك: كان عبد الله بن عباس يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثنى بيوم أو بيومين جاز الاستثناء. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلاً باليمين. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة. قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم. فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تتعرض لأبي حنيفة. فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردت أن تشيط بدمي. قال: لا.

ص: 43

ولكنك أردت أن تشيط بدمي فخلصتك وخلصت نفسي.

453 -

. . . أن يجلسوا على حائط

(روح المعاني) للآلوسي: عن ابن سيرين أنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق، فقال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ القرآن من أوله إلى آخره، فإن صعقوا فهو كما قالوا

454 -

وكريم أنظر له

في (الإيجاز والأعجاز) للثعالبي: سمعت مأمون بن مأمون خوارزم شاه يقول: همتي كتاب أنظر فيه، وحبيب أنظر إليه، وكريم أنظر له.

455 -

الجلهكية

في (الملل والنحل ونهاية الأرب): الجلهكية أي عُباد الماء في الهند، يزعمون أن الماء ملك، ومعه ملائكة، وأنه أصل كل شيء، وبه كل ولادةً ونمو ونشوء وبقاء وطهارة وعمارة. وما من عمل في الدنيا إلا وهو يحتاج إلى الماء. فإذا أراد الرجل منهم عبادته تجرد وستر عورته. ثم دخل الماء حتى يصل إلى حلقه (أو وسطه) فيقيم ساعة أو ساعتين أو أكثر. ويأخذ ما أمكنه من الرياحين، فيقطعها صغاراً، ويلقى في الماء بعضها بعد بعض، وهو يسّبح ويقرأ. فإذا أراد الانصراف حرّك الماء بيده، ثم أخذ منه فنقط على رأسه ووجهه وسائر جسده خارجاً، ثم سجد وانصرف.

456 -

من عدم الناس عاشر القردة

في (تتمة اليتيمة): كان أبو سهيل الحراني ينادم قردة له، فقيل له في ذلك، فقال:

ملت إلى قردة أنادمها

فأنكرت ذاك زمرةُ الَحسَدهْ

فقلتُ: يا بُلْهُ لا عقولَ لكم

من عدم الناس عاشر الِقردَهْ

457 -

التمثالان في تدمر

في (معجم البلدان): كان من جملة التصاوير التي بتدمر صورة جاريتين من حجارة من بقية صور كانت هناك، فمر بها أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس في البصرة،

ص: 44

فنظر إلى الصورتين فاستحسنهما فقال:

فتاَتيْ أهل تدمرَ خبَّراني

ألَمّا تسأما طولَ القيام

قَيامُكما على غير الحشايا

على جبل أصمَّ من الرُّخام

فكم قد مرّ من عدد الليالي

لعصركما وعامٍ بعد عام

وإنكما على مرّ الليالي

لأَبقى من فروع ابنيْ شمام

قال المدائني: فقدم أوس بن ثعلبة على يزيد بن معاوية، فأنشده هذه الأبيات، فقال يزيد: للًه درّ أهل العراق! هاتان الصورتان فيكم يا أهل الشام، لم يذكرهما أحد منكم، فمر بهما هذا العراقي مرة فقال ما قال

458 -

مفرق. . .

في (مروج الذهب، والكنز المدفون): بلغ خالد بن عبد الله القسري، وكان عاملاً لعبد الملك بن مروان على مكة قول الشاعر:

يا حبّذا الموسمُ من موفِد

وحبذا الكعبة من مشهد

وحبذا اللائى يُزاحِمْنَنا

عند استلام الحجر الأسود

فقال خالد: أما هن فلا يزاحمنك بعدها. فأمر بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف. فهو أول من فرّق بين الرجال والنساء في الطواف. فاستمر ذلك إلى اليوم، وكان يُجلس لهن حرساً عند كل ركن، معهم السياط، يفرقون بيتهم.

459 -

ثم اطووه إلى يوم القيامة

في (زهر الآداب): شرب كوران المعنى عند الشريف الرضي فافتقد رداءه وزعم أنه سُرق. فقال له الشريف: ويحك! من تتهم؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوى بما عليه. . .؟

قال: انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائي ثم اطووه إلى يوم القيامة. . .

ص: 45

‌موت كريزيس

للأستاذ زكي المحاسني

(ضعني على قلبك كالميسمِ

فالحب مثل الموت للمغرمِ)

صغت هذا البيت من قول (مارلين ديتريش) ليلة رأيتها في الصور المتحركة وقد باتت عند عمتها؛ فلما تهيأت للنوم أخذت بكلتا يديها كتاب العهد القديم ثم وضعته على صدرها وفتحته ثم تلت نشيد الأناشيد بصوت ملائكي خافت قالت في آخره: (ضعني كالخاتم الواسم على قلبك فالحب كالموت)

صار بها هذا النشيد إلى الموت فماتت في روايتها حرقاً ولقيت جزاء قلبها. تفننت في كلام الحب وفنيت في صباباته حتى هشمت بمطرقة كبيرة تمثالها الذي صنعه عاشقها النحات، لتدخل في أغوار العدم

هكذا فكرت في غادة نشيد الأناشيد حين مرت في خاطري (كريزيس) في الإسكندرية القديمة وقد اغتسلت ذات مساء بالعطور ونادت جاريتها الهندية (دجالان) فقالت لها: نشفيني وألبسيني وزينيني ثم ضمخميني بالطيوب

خرجت كريزيس تشق رواق المساء بنور وجهها الساطع وتخطر في مشيتها حتى بلغت شاطئ البحر. وكان هناك على متكأ الشاطئ النحات (ديمتريوس) الذي صنع تمثال (آفروديت) ملكة الإسكندرية. وقف على الشاطئ وفي سمعه أنغام الزامرتين وقد ابتعدتا عنه وغابتا في تضاعيف الظلام. وقف ينظر إلى البحر فيرى نفسه في موجه الصاخب ويحسن تلك الثورات الخفية التي يثور فيها روحه ثم يصطدم في حدود جسمه فيعود مستكيناً حبيساً

فكر في الملكة التي تعشقه وفكر في آلاف الرعابيب اللواتي ارتمين على قدميه وما حظين منهما بالتقبيل. وإنه لكذلك سادر في تأمله إذ مرت به كريزيس فتيمته حبا. فلحقها فعزت عليه وتجنت. ثم اشترطت الهوادة غوالي الشروط وأشدها هولاً. فسرق من أجلها وهو الشريف. وقتل من أجلها وهو البريء. وهزئ بالآلهة جرّاها وهو الحكيم الرزين. ثم أنقذ نفسه فجأة من مهاوي العدم وبؤرة العار؛ فصدف عنها واجتواها، وكان كرهه لها حبا، واجتواؤه إياها هياماً. ولما صارت إلى السجن قدم إليها السجان كأس الشوكران وقال

ص: 46

اشربي

مدت يدها وأخذت الكأس فرفعتها إلى فمها وشربت نصفها، ومدتها بالنصف الباقي إلى ديمتريوس، وقد جاء ليشهد مصرعها، فنحى عنه كأسها. فاستردتها إلى فمها وشربت السم حتى الثمالة. . .

سألت كريزيس السجان: ماذا أفعل؟ فقال لها سيري جيئة وذهاباً. ففعلت حتى عمل فيها السم، وارتمت كما يرتمي غزال قد صيد. . . وماتت

عاد إليها ديمتريوس وهي في لفائف الموت قد سُجيت على سرير. فجلس حيالها يناجيها بصمته، ويستودعها بروحه. وبدت له على سرير الموت أروع جمالاً وأشع نوراً مما كانت في الحياة

جلب معه عجين التراب الذي يصنعه للتماثيل، وأقبل على السرير فنضا الثياب عن الضحية، ثم أقعدها في وضعٍ فنيٍ رائع ثم أخذ منقاشه وظل من الصباح حتى سد عليه المساء نافذة السجن، فانتهى من صنع تمثال (كريزيس الخالدة) حين دفنتها صديقتاها (روديس وميرتو) قطعتا من شعريهما خصلة دفنتاها معها ثم بكتا على قبرها أحر البكاء. . .

فكرت في نهاية (كريزيس) التي قص قصتها العبقري بيير لوئيس، فاستطعت بسبب فاجعتها أن أفهم نشيد الأناشيد في كتاب العهد القديم.

زكي المحاسني

ص: 47

‌ترانيم وتسابيح

أنشودة الصباح. . .

(إلهامات من سحر الحب وجمال الطبيعة في ضفاف الجزيرة)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

سَبقْتِ إلى النيلَ خَطوَ الصباح

فَتيَّمِتهِ بالصِّبا والفُتونْ

وخَمْرٌ إلهيّة في يَدَيكِ

وكأسٌ من الَحُبِّ ملآى جنون

وثَغْرُكِ تَغريدَةٌ ما وَعَى

ترانيمَها غَيْرُ قَلْبي الحزينْ

عَشِقْتُ صَداها فَغنَّيتُها

ولَقَّنتُها لِشِفاهِ السِّنينْ

وما كُنتُ أدْرِي الْهوَى والحياهْ

ولا السِّحرَ في أُغْنِياتَ الشِّفاهْ

ولا كُنتُ أعلَمُ سِرَّ الإْلهْ

سِوَىَ بَعدَ ما لُحْتِ لي فِتنةً

وأْقبلْتِ لي مَرَّةً تَبسمينْ!

وعَيناك عَلّمتاني السُّجودَ

وكيفَ أخِرُّ مَعَ العابِدينْ

لَهمْ دِينُهم في زِحامِ الصَّلاةِ

وَديني الضِّياءُ الذي تَنشرينْ

عَبَدْتُ بِكِ الله. . . ما في دَمي

ولا في فَمي غَيْرُ هذا الرَّنينْ

فيا ولَهاً ناعِساً في الجُفونْ

ويا سَجْدَتانِ بِدَيْر الجَبينْ

ويا قُبلْتانِ بِخَدِّ الصَّباحْ

ويا بَسمتانِ بِثغْرِ الأقاحْ

طفَتْ بَيْنَ جَنْبيَّ نارُ الجِراحْ

فَرُدَّيِ لبَلْوايِ سِحرَ المُنَى

وبُثِّي حديثَ الهْوَى يا عيونْ!

وإيقاعُ صَوتِك فوقَ الضِّفاف

أهازيجُ رفَّافةٌ بالحَنينْ

سَمِعتُ لُغاهُنّ تحتَ الظّلالِ

أناجيلُ تُتلَى على الرّاهبينْ

وأنغامَ رقْصٍ بَعيدِ المَدَى

حَلَمتُ به في سَماءِ الظُّنونْ

مَحا شَجنَ الطَّيْرِ إغْرادُهُ

وتَيِّمَ في عُشِّهِنَّ السكونْ

ص: 48

فَهَّللن بين خَميلٍ وأَيْكِ

وهَفْهفْنَ مِثلي حَناناً إليكِ

وكِدْن يقبِّلن طُهراً يديْكِ

ويَسجدْنَ حَولكِ فوق الرُّبى

وتخشعُ لِلحبِّ هامُ الغصون!

وقلتِ: هنا النهرُ! قلتُ: اصمُتي

هُنا الله يَرعَى هوانا الأمينْ

هنا قَدَرٌ في الضُّحى نائمٌ

أساريرُهُ طَلْسمتها القرونْ

يسمونه (النيل)! وهْوَ الذي

يُنيل ويشفى صدى الظِامئينْ

سقَى الدهر من جامه فارتْوى

ورَوّى بِخَمرتِهِ الملْهَمينْ

فَغنَّى بِأسرِارِه الشَّاعِرُ

وكبَّر في شطِّهِ الكافرُ

وخَرَّّ لَهُ السحرُ والساحرُ

وَلَمَّا تهادَتْ عَليهِ الصَّبا

تَصابَى فحَيَّا خُطا العاشقين!

أَتَيناهُ والصُّبحُ طِفلٌ غَريرٌ

تهدهدُهُ سَكرةُ الحالمين

طَهورُ الْمسارِبِ ما لَوَّثتْ

خُطا شَمسهِ قَدمُ العابِرِينْ

سِوَى بائِسينَ إلى قُوتِهم

تَنادوْا: سَلامٌ على البائِسين

أفاقوا مَعَ الفجرِ فوق الثَّرَى

حَيارَى على أرضهم مُتعبينْ

وصيَّاد رزْقٍ على الشاطِئْينْ

مِنَ اليأسِ قَلَّب نار اليدَينْ

وفي وَجههِ مِنْ كلالٍ وأَينْ

بَقايا مِنَ الَّليلِ يَمْشي بها

إلَى كوخِهِ في شعاب الأنين!

وَنجْوَى يَمامِيَّةٌ في العشاشِ

تَحجَّبُ إلاَّ عَنِ المغرَمِينْ

فَهِمنا لُغاهَا وأَسرارها

فهمنا بها في الضُّحى حَائِرين

وفي ظِلِّنا لِلهْوى رِعشةٌ

وقَفْتِ على طيفها تسألينْ

وصدْركِ يَهتَزُّ تَحت السَّنا

كأُنشودةٍ في أكفِّ الحنينْ

شجاها التَّغنِّي فهزّتْ لنا

ص: 49

تحايا مِنَ الله طافتْ بِنا

ونجْوَى مِنَ الله رَفَتْ هنا

وقالتْ: سلامُ الهوى والعفافِ

على قُبلَةٍ في فَمِ الخائِفينْ. . .

(وزارة المعارف)

محمود حسن إسماعيل

ص: 50

‌الشاعر والأمة

للأستاذ إيليا أبو ماضي

خير ما يكتبه ذو مِرْقم

قصة فيها لقوم تذكره

كان في ماضي الليالي أمة

خلع العز عليها حَبره

يجد النازل في أكنافها

أوجهاً ضاحكة مستبشره

ويسير الطرف من أرباضها

في مغان حاليات نضره

لم يقس شعب إلى أمجادها

مجدها الباذخ إلا استصغره

همها في العلم تعلي شأنه

بينها، والجهل تمحو أثره

ما تغيب الشمس إلا أطلعت

للورى محمدة أو مأثره

فتمنى الصبح تغدو شمسَه

وتمنى الليل تغدو قمره

ومشى الدهر إليها طائعاً

فمشت تائهة مفتخره

كان فيها ملك ذو فطنة

حازم يصفح عند المقدره

يعشق الأمر الذي تعشقه

فإذا ما استنكرته استنكره

بلغت في عهده مرتبة

لم تنلها أمة أو جمهره

فإذا أعطت ضعيفاً موثقاً

أشفقت أعداؤه أن تخفره

وإذا حاربها طاغية

كانت الظافرة المنتصره

مات عنها فأقامت ملكاً

طائش الرأي كثير الثرثرة

حوله عصبة سوء كلما

جاء إدّاً أقبلت معتذره

حسّنت في عينه آثامه

وإليه نفسه المستكبره

وتمادى القوم في غفلتهم

فتمادى في الملاهي المنكره

زحزح الأمة عن مركزها

وطوى رايتها المنتشرة

ورأت فيها الليالي مقتلاً

فرمتها فأصابت مدبره

فهوت عن عرشها مصروعة

مثلما ترمى بسهم قبّره

كان فيها شاعر مشتهر

ذو قواف بينها مشتهره

كلما هزت يداه وتراً

هز من كل فؤاد وتره

ص: 51

تعسُ الحظ وهل أتعس من

شاعر في أمة محتَضَرة؟

يقرأ الناظر في مقلته

ثورة ظاهرة مستتره

ما يراه الناس إلا واقفاً

في مغاني قومه المندثره

حائراً كالريح في أطلالها

باكياً كالسحب المنهمره

وهي في أهوائها لاهية

وكذاك الأمة المستهتره

ما رأت مهجته المنفطرة

لا ولا أدمعه المنحدره

فشكاه الشعر مما سامه

وشكاه الليل مما سهره

ثم لما عبث الناس به

مزق الطرس وشق المحبره

مر يوماً فرأى أشياخها

جلسوا يبكون عند المقبره

قال: ما بالكمُ ما خطبكم

أي كنز في الثرى أو جوهره؟

ومَن الثاوي الذي تبكونه

قيصر أم تبّع أم عنتره؟

قال شيخ منهم محدودب

ودموع اليأس تغشى بصره:

إن من نبكيه لو أبصره

قيصر أبصر فيه قيصره

كيف يا جاهل لا تعرفه

وحداة العيس تروي خبره

هو مَلْك كان فينا ومضى

فمضت أيامنا المزدهره

ولبثنا بعده في ظُلَم

داجيات فوقنا معتكره

والذي كان بنا (معرفة)

لصروف الدهر أمسى نكره

فانتهى التاج إلى معتسف

لم يزل بالتاج حتى نثره

كل ما تصبو إليه نفسه

مُعْصر أو خمرة معتصره

مستهين بالليالي وبنا

مستعين بالطغام الفجره

كلما جاء إليه خائن

واشياً قرّبه واستوزره

فإذا جاء إليه ناصح

شك في نياته فانتهره

مستبد باذل في لحظه

ما ادّخرناه له وادخره

يهب المرء وما يملكه

وعلى الموهوب أن يستغفره

هزأ الشاعر منهم قائلاً:

بلغ السوس أصول الشجره

ص: 52

رحمة الله على أسلافكم

إنهم كانوا تقاة برره

رحمة الله عليهم إنهم

لم يكونوا أمة منشطره

إن من تبكونه يا سادتي

كالذي تشكون فيكم بطره

إنما بأس الألى قد سلفوا

قتل النهمة فيه والشره

فاحبسوا الأدمع في آماقكم

واتركوا هذى العظام النخره

لو فعلتم فعل أجدادكم

ما قضى الظالم منكم وطره

ما لكم تشكون من محنتكم

رضتمُ ألسنتكم أن تشكره

وجعلتم منكمُ عسكره

وحلفتم أن تطيعوا عسكره

كيف لا يبغي ويطغى آمر

يتقي أشجعكم أن ينظره

ما استحال الهر ليثا إنما

أُسد الآجام صارت هرره

وإذا الليث وهت أظفاره

أنشب السنور فيه ظفره

(الولايات المتحدة)

إيليا أبو ماضي

ص: 53

‌القصص

الباب المقفل

للأستاذ محمود تيمور بك

ذهبت إليه، وسألته أن يعطيها الكتاب الذي وعدها به فوقف هنيهة يفكر: أين وضعه؟. . . ثم تمتم:

لعله في حجرة البيان!

وتقدمها إلى الحجرة، فدخلاها. إلا أنها تنبهت إلى شأن غير عاديّ بدر منه. لقد أقفل الباب بالمفتاح!. . . فتسارعت دقات قلبها، واختلست إليه النظر، فوجدته قد اتجه إلى الخزانة، واندفع يقلب محتوياتها. . .

كيف اجترأ أن يقفل الباب بالمفتاح وهي معه؟!. من يظنها؟! ورمته بنظرة حادة. . .

وأبصرت خصلة من شعره الذهبي قد تهدلت على جبهته. . . يا لله! لم تره على هذه الفتنة قبل الآن. . . قامة مبسوطة، ومنكبان عريضان، ووجه صبيح عليه طابع الرجولة الحق!

لم تره قبلُ في هذه الفتنة، على أنها نشأت وإياه في منزل واحد، وكان يكبرها بعشر سنين، فهو ينظر دائماً إليها نظرات الأخ الكبير إلى أخته الصغرى. . .

ووقع بصرها على خيالها في المرآة، فتذكرت معابثته إياها إذ كان يلقبها أحياناً بالضفدع، لقصر قامتها!

ورفعت عينيها إليه ثانية

ها قد حبسها معه في حجرة واحدة، هذا الفتى المبسوط القامة، العريض المنكبين. . .!

إنه يتظاهر بالبحث عن كتاب، ويطيل التقليب فيما بين يديه، وقد يكون الكتاب المقصود على قيد أنملة منه!

ما أجهله بعقول الفتيات!. . . إنه ما برح يتوهمها طفلة، على حين أنها استقبلت منذ أيام عامها السادس عشر!

ولكن أية مفاجأة تلك التي يفكر فيها؟

أهجوم مصحوب بقبلة حرّى؟

إن يدها على استعداد لدفع هذا الهجوم!

ص: 54

صفعة قوية تثيب إليه رشده. . .

وجعلت ترنو إليه، وهو منهمك يبحث عن الكتاب، وكان مرتدياً منامةً حريرية تتموج على جوانب جسمه الرياضي البديع، الذي يحسده عليه أجمل كواكب (السينما). . .

وأطالت النظر إلى ساعديه القويين، فاختلج جسمها بهزة كهربية. . .

لقد أنبها أخيراً لأمور تتعلق بسلوكها. . . أتكون الغيرة قد بدأت تتسلل إلى قلبه؟!

هو قليل التحدث معها، ولكنه كثير التفكير والسهوم. وهل تنسى يوم سارقها النظر، فتضرج وجهها؛ فغضب لافتضاح أمره، ونهرها بشدة؟!

ما أشد كبرياءه! ولكنها ستهزم اليوم هذه الكبرياء هزيمة ساحقة. . .

سيجثو تحت قدميها، ويقول لها:(كم أحبك. . . كم أحبك يا عصفورتي الصغيرة!. . . فتجيبه، وهي مهتاجة: (دعني أخرج!. . افتح لي الباب. . .) ثم يمسك بيديها، ويغمرها بقبلاته وهو يكرر:(ارحميني!. . . ارحميني!. . .)

وأخيراً رفع رأسه عن كومة الكتب، ثم التفت إليها، فرآها تبتسم له، فأجابها بابتسامة سانحة!

تلك هي العاصفة توشك أن تهب، فلتستعد لها. . .

إنها لم تره على هذه الوسامة قط. . .

أتراه يفكر في حملها بين ذراعيه، ثم يقفز بها من النافذة إلى الحديقة، ثم يظل يعدو بها. قد يعقد الذعر لسانها، فلا تستغيث ولا تتحرك. . . فلا يفتأ يجري ويجري. . . فإذا ما امتلكت نفسها، واستعادت شجاعتها، وأرادت أن تصيح، أسكتها بقبلة طويلة!

لم يعد يبحث عن الكتاب، إنه في تفكير شارد مضطرب. يُعد برنامج الهجوم. . . أفلا تتقدم إليه من فورها، وتباغته بقولها:

لقد كشفت عن خططك. . . سأفسدها عليك. . . افتح الباب، ودعني أخرج. . .)؟!

والتفت إليها في هذه اللحظة، ثم رأته يدنو منها. . .

يا لله! ما أشد خفقان قلبها!. . . إنها تسبل جفنيها. . .!

وسمعته يقول:

هذا هو الكتاب.

ص: 55

فرفعت إليه بصرها، فإذا به يمد إليها يده بالكتاب الذي كان وعدها به. وقد زوى ما بين حاجبيه. . . فأخذته منه في صمت!

وأبصرته يفتح الباب بالمفتاح، وينفذ منه، وهو يصيح بالخادم قائلاً:

ألم آمرك غير مرة بإصلاح هذا الباب؟ إن المرء ليضطر لاستعمال المفتاح كلما دخل أو خرج تفاديا من هذا التيار الشديد!. . . ثم اختفى عجلاً.

ولبثت الفتاة طويلاً تحدق في الجهة التي اختفى منها. . . ثم وقع بصرها عفواً على الكتاب في يدها فاندفعت إلى النافذة، وقذفت به!

ثم ارتمت على المتكإ، وانكبت على منديلها تمزقه بأسنانها. . .

محمود تيمور

ص: 56

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

الفن شعور

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

يأبى بعض علماء النفس إلا أن يسرفوا كل الإسراف في التقيد بالتجارب المادية فلا يرضون أن يقرروا الحقائق النفسية إلا بعد أن يقيسوها ويزنوها بمقاييس وموازين مادية من الأجهزة البارعة التي استحدثوها. ولست أدري كيف غاب عن هؤلاء العلماء الأجلاء أن المادة لا تستطيع أن تقيس وأن تزن إلا المادة وهم - على ما يعترفون بجهلهم المطبق بالنفس ذاتها - لا يجرؤ أحدهم على القول بأنها مادة. فإذا قال قائل: إن هناك طريقاً غير سراديب المعامل وأقبيتها قد تؤدي إلى بعض العلم بالنفس كان من حسن المجاملة التي يجب على علماء النفس اصطناعها أن يسكتوا عنه - إذا تكبروا عن متابعته - كما سكت عنهم وتركهم يقيسون ويزنون بما يستحدثون ويصنعون ما لا يعرفون ولا يعلمون ويقولون مع هذا إنهم علماء، وإنهم ينهجون في علمهم النهج القويم الوحيد

فإذا أرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم وقالوا إنهم لم يستحدثوا حدثاً، ولم يبتدعوا بدعة وإنهم لم ينهجوا في علم النفس إلا النهج الذي ينهجه العلماء في بقية العلوم، وإنهم لا يطلبون شططاً من الناس ولا يحملونهم فوق ما يطيقون حين يسألونهم الإيمان بعلمهم كما يؤمنون بأمور الكهرباء التي يذيعها علماء الطبيعة فيقبلها الناس ويستغلها المخترعون من غير أن يطالبوا علماء الطبيعة بإدراك كنه الكهرباء. . . إذا قالوا هذا قلنا لهم: وعلماء الطبيعة مثلكم أيضاً يكتشفون ويخترعون ولكنهم لا يعلمون، وهم إذا جاز لهم أن يقعدوا عن فهم أسرار الطبيعة الصماء وقنعوا باستغلال قواها مستفيدين آكلين شاربين، فإن لهم عذرهم في هذا ما داموا يرون الطبيعة التي يقيسونها ويزنونها بأجهزتهم شيئاً خارجاً عن أنفسهم بعيداً عنهم، أما أنتم يا علماء النفس فتستطيعون أن تجولوا في أنفسكم بأنفسكم ولكنكم تزدرون أنفسكم زراية ما بعدها زراية حين تأبون إلا أن تسألوا عنها أجهزتكم، وأجهزتكم وحدها كالمبصر المفتوح العينين الذي يسير في وضح النهار ويأبى إلا أن يتحسس الأرض بعكازة لها

ص: 57

وحدها الأمر في خطواته، وهي وحدها التي تأذن له بالتقدم، وتشير عليه بالتريث، وتميد به ذات الشمال وتميل به ذات اليمين

ولعل واحداً من علماء النفس الطبيعيين يتواضع ويسألنا عما يمكن أن يسلكه علم النفس من السبل التي قد تصل به إلى العلم الصحيح والتي لا تقف به عند الباب موقف التجسس المريب. هذا ندعوه إلينا، أو نتطفل عليه فنأتمّ به ونرجوه أن يقودنا بعلمه وأجهزته ونحن من ورائه تابعون، ولكن متيقظون

سنسأله أول ما نسأله: أين هي النفس؟ فإننا لا نستطيع أن نتجه إلى شيء من غير أن نعرف مكانه

وهو عندئذ سيقول: النفس في الإنسان وفي الحيوان

. . . فهو رجل طيب متواضع يعترف للحيوان بالنفس بينما غيره من العلماء يجهده هذا الاعتراف، ولا شك أن حظنا السعيد هو الذي هدانا إلى هذا العالم الطيب المتواضع، فعلينا إذن أن نشكره كل الشكر لأنه لم يترفع بجنسه على الحيوان، ثم أن علينا بعد ذلك أن نمضي في البحث عن العلم فنوجه إليه السؤال الجديد

- أليس هناك فرق بين نفس الإنسان ونفس الحيوان؟

وهنا سيطرق أستاذنا قليلاً ثم يقول:

- إن هناك فرقاً من غير شك. فالإنسان عاقل والحيوان غير عاقل. . . ونحن نفرح بالحق، فلا نملك إلا أن نعترف لأستاذنا بأن ما يقوله صحيح، ولكننا ملحون نريد أن نمضي في الطريق ما دمنا نستطيع أن نمضي فيه، فنخطو وراء أستاذنا خطوة جديدة لنقف به أمام سؤال جديد فنقول له:

- إن الطبيعة حين تودع كائناً ما قوة من القوى فإنها تقصد من هذا أن ينتفع هذا الكائن بهذه القوة، والذي لا شك فيه هو أن الإنسان انتفع في حياته بعقله، ولكننا لا نشك أيضاً في أن هذا العقل يلتوي على الإنسان في كثير من الأحوال فيضره بل إنه يبسط أذاه على الآخرين، كما أنه يحار أحياناً في تصريف أمور صاحبه فيرتبك ويضطرب ويصيب أحياناً ويفشل أحياناً، بينما نرى الحيوان يقضي طول حياته لا يؤذي نفسه، ولا يلحق الضرر بفصيلته، ولا يعجز عن حفظ حياته، ولا يضطرب ولا يرتبك إلا عندما يدهمه ظرف

ص: 58

خاص غريب على الطبيعة فلا بد إذن أن يكون في الحيوان شيء آخر غير العقل هو الذي يصونه هذه الصيانة، ويحفظه هذا الحفظ ويقوده إلى السلامة، ولا بد أن يكون هذا الشيء أنفع من العقل. . . فهل هو موجود عند الإنسان أو مفقود؟ فإذا كان موجوداً فلماذا يغفله الإنسان ولا ينتفع به؟

ويهتز أستاذنا حينئذ طرباً لأنه تمكن من مغمز في كلامنا فهو يأخذ بخناقنا ويقول: إن الإنسان أيضاً لا يرتبك ولا يضطرب ولا يعجز عن صيانة نفسه وحفظها إلا إذا دهمه طارئ غريب على الطبيعة

فنبتسم نحن في دورنا ونسلم له بهذا جدلاً مع أنه كلام مبتور ولكننا نسأله:

- ما بال الإنسان إذن يكثر من صناعة العجائب والغرائب بعقله، وما باله يتعمد الحيدة عن الطبيعة، وفي هذه الحيدة الأذى والضرر. . . لا بد أن يكون العقل إذن هو الجنون

ويزور أستاذنا عن هذه النتيجة فيعبث بلحيته قليلاً ثم يسعل سعلتين، ومع أنه رجل طيب متواضع إلا أنه عالم يعتمد في علمه على العقل، وعلى العقل وحده، فإذا آمن معنا بأن العقل مجنون كان عليه أن يغيب عنا ساعة يمزق فيها كتبه، ويحطم فيها أجهزته ثم يعود ألينا نحن الجهلاء ليجلس إلى جانبنا معتمداً رأسه بكفه ينتظر الفيض من الكريم. . . عز على أستاذنا الطيب المتواضع أن يغيب عنا هذه الساعة لأنه فيما يظهر أحبنا ولم يعد يطيق البعد عنا. . . ونحن قوم نستجدي الله عطف المحبين

انتصب الرجل، وتحجرت عضلاته - فتحجرت نفسه - ووضع يديه في وسطه وهز لنا رأسه وقد ركبته كبرياء العلم وزجرنا متسائلاً، أو سألنا زاجراً:

- والآن ماذا تريدون؟

فخفضنا الرؤوس ذلاً ورجاء، وزفرناها جميعاً قائلين:

- اللهم إنا لا نطلب إلا الهدى فاجعلنا من المهتدين

فسألنا ساخراً:

- ومن يهديكم غير عقولكم؟

فقلنا: - قد رأينا العقلاء مجانين

فقال: - وكيف إذن تهتدون؟!

ص: 59

فقلنا: - لا بأس في أن نتعلم من غير العاقلين، هذا هو الحيوان يجوع فيسعى إلى الطعام، ويظمأ فيطلب الماء، ويحن إلى الأنثى فيدلونه إليها، ويزيد نشاطه فيلعب ويتعب فينام، ويطمئن فيهدأ، ويخاف فيتقي ما يخاف، ويستطيب فيألف، ويستنكر فينفر، ويصح فيعتدل، ويعتدل فيصح، فإن مرض عالج نفسه بنفسه، وهو لا يمرض إلا إذا ألم به ما هو غريب على الطبيعة، وحياة الحيوان بهذا كحياة الإنسان فيها كل مظاهر الحياة، وفيها كل معاني الحياة، وليست تنقص عن حياة الإنسان إلا هذه العقد التي أنشأها العقل. فهي لا يمكن أن تعاب بهذا النقص لأن فيه سلامتها؛ فما الذي يدبر هذه السلامة لها. . .

هذا يا أستاذنا هو السؤال الذي نحب أن نبدأ به جدلنا. . .

. . . وأصاب أستاذنا الرد سريعاً فأجاب: إنها الغرائز، أي نعم الغرائز. فالحيوان ينقاد لغرائزه في حياته فيسلم ما دامت حياته طبيعية لا تمتد إليها المؤثرات المصطنعة. . .

. . . وهذا كلام طيب لا نستطيع نحن الجهلاء أن ندفعه. فعلماء النفس عندهم مقاييس وموازين وأجهزة أثبتوا بها أن الحيوان يعيش بالغرائز، ويحفظ نفسه طول حياته بالغرائز؛ ثم يموت أيضاً بالغرائز. . . ولكننا نرى في حياة الحيوان أعاجيب تشهد بأن الحيوان يدرك من أسرار الطبيعة ما لا يدركه العقلاء بعقولهم، ولما كان علماء النفس لا يقولون إن غرائز الحيوان تزيد على غرائز الإنسان شيئاً لم نر بداً من أن نسأل أستاذنا سؤالاً رأيناه يرتعش قبل أن نسوقه إلى مقام الأستاذ، ولكننا سقناه فسألناه: هل في غرائز الحيوان ما يدعى (غريزة الغيب)؟!

فأسرع أستاذنا ولطمنا معترضاً: وهل ترون الحيوان يدرك الغيب؟

فقلنا والخجل يكاد يخنقنا: نعم. فالحيوان يبدر منه أحياناً ما يدل على أنه يدرك ما يشبه الغيب، أو أنه يشبه أن يدرك الغيب عندئذ نفخ أستاذنا وقال: مثال ذلك؟

فحمدنا الله لأنه لم يتعجل فينكر علينا دعوانا قبل أن نحاول إثباتها، فقد تعودنا من كثيرين من العلماء الذين يشغفون بالمقاييس والموازين والأجهزة أن ينكروا كل ما يعتصم على مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . استبشرنا وتوقعنا الخير، وقلنا عساه يريد أن ينزل عن علمه وأن يسلك معنا طريق الفن أو طريق الجهل، وأسرعنا فضربنا له المثل قائلين:

- يحدث في ليلة العيد الكبير في مدن المسلمين أن يرتفع ثغاء الأضاحي أكثر من ارتفاعه

ص: 60

في الليالي السابقة، وأكثر بيوت المسلمين تختزن أضاحيها قبل ليلة العيد بليال عدة ليلعب الأطفال معها قبل أن يأكلوا منها. . . فلماذا يتزايد ثغاء الأضاحي ليلة العيد، ولماذا تلمس فيه الأذن الحساسة معاني الاستغاثة والشكوى والفزع واليأس؟

. . . وطلب هذا السؤال لأستاذنا نكتة فراح يضحك ويقهقه ويقول:

- وماذا أيضاً؟!

. . . وجدنا نحن سنداً لملحوظتنا هذه في ملحوظة أخرى فرضناها هي أيضاً عساها ترد سخريته واستهزاءه فقلنا:

- ويحدث أن يموء القط وأن يعوي الكلب في بيت المحتضر قبيل الوفاة بزمن قليل. فلماذا يموء القط وقتئذ، ولماذا تلمس الأذن الحساسة معاني الموت والإنذار، في مواء القط وفي عواء الكلب؟

. . . فلما رأى أستاذنا أننا مصرون على المضي في سبيلنا عدل عن التهكم بالضحك إلى التهكم بالكلام فقال:

- كأني بكم كأولئك المخرفين الذين يلصقون ببعض الحيوان الشؤم، فيتطيرون منه جرياً وراء الذي روجه القدماء الجهلاء عن هذا الحيوان من حديث الشؤم والسوء.

. . . ولم نر نحن في هذا عيباً، فنحن لا نشك في أن حضارتنا زادت على حضارة القدماء، ولكننا نرى في هذه الحضارة تنائياً عن الطبيعة، فالمتحضرون لا يمارسون الاحتكاك بالطبيعة والتفاعل معها مثلما يفعل الهمج والبدو، وهذه المسألة التي نحن بصددها من مسائل الطبيعة المحضة لا من مسائل الحضارة، فلا يبعد أن يكون الأقدمون الأقربون من الطبيعة قد اهتدوا إلى سرها بينما ابتعدنا نحن عن هذا السر بحضارتنا التي أضرمت الغرور في عقولنا فلم نعد نكلف أنفسنا مؤونة البحث في علوم القدماء وقنعنا باتهامهم بالتخريف لأننا رأيناهم تخبطوا أمام بعض الحقائق وعجزوا عن الوصول إليها بينما أتيح لنا نحن أن نكشفها، فساقنا هذا إلى أن نتهم علومهم جميعاً بهذا التخريف مع أننا عاجزون إلى اليوم عن إدراك بعض ما اهتدى إليه الأقدمون

أما نحن الجهلاء فإننا لا نزدري الأقدمين كما أننا لا نزدري المحدثين، وإنما نطلب الحكمة عند هؤلاء كما نطلبها عند هؤلاء، ونكتفي بالتحنيط الفرعوني شاهداً على اهتداء الأقدمين

ص: 61

لنخفض الرؤوس أمامهم بالاحترام والتقدير.

فقلنا لأستاذنا: فلندع هؤلاء المخرفين وغربانهم تنعق فوق رؤوسهم أو فوق رؤوسنا حيثما طاب لها النعيق، ولنحاول تعليل هذا الذي نراه في أضاحي العيد، وهو شيء لا يمكن أن ينكر، ولنحاول معه تعليل هذا الذي نراه من القط والكلب في بيت المحتضر قبيل وفاته. . . هل في علمكم هذا التعليل؟ وهل هي أيضاً غريزة تنذر الحيوان بالغيب، أو ماذا تقولون؟!

فلم يهن على أستاذنا أن يكف عن القول. . . قال:

- إن الأضاحي تثغو ليلة العيد، ويزيد ثغاؤها مصادفة، وبالمصادفة أيضاً يموء القط، ويعوي الكلب في بيت المحتضر قبيل الوفاة.

. . . وهكذا العلماء. كلما حيرتهم ظاهرة من الظواهر عللوها بالمصادفة، ولم يفكر واحد منهم أن يبحث للمصادفات عن قانون! ولماذا لا يكون للمصادفات قانون، ولكل شيء في هذا الوجود قانون؟ الهم هديك! على أننا مؤمنون بأن الظاهرتين اللتين أوردناهما لسيدنا العالم ليستا مما يخضع لقانون المصادفات، فليس الذي يتكرر في ملابساته تكرارا متواصلاً مستمراً بالذي يدخل في حساب المصادفات مهما أصر سيدنا الأستاذ على ما يقول. . . ومع هذا فقد أمسكنا عن مناقشته فيه فنحن لا نستطيع أن نقنع المكابر بأن البيضة من الدجاجة وأن الدجاجة من البيضة إذا أصر على أن يقول إنها المصادفة وحدها هي التي تخرج إحداهما من الأخرى، فانتقلنا به من هذا إلى ما ذكرناه من تعبير ثغاء الأضاحي الهاتفة مصادفة فقط ليلة العيد بالاستغاثة والفزع والشكوى وغير ذلك من المعاني التي يمكن أن تضطرب في نفس المسوق إلى الموت، سألناه عن هذه المعاني: ألا يستشعرها، فضحك وقال:

- وهل تشعرون أنتم بها؟

فقلنا: نعم والحمد لله، وإنك أيضاً تستطيع يا أستاذنا الجليل أن تستشعرها إذا أردت، وإن كنت تأبى أن تشعر إلا بمقاييس وموازين وأجهزة فإنك تستطيع أن تكتب ما شئت من ثغاء هذه الأضاحي بالنوتة الموسيقية، وتستطيع أن تطلب من عازف فنان أن يعيدها على سمعك بآلة يشبه صوتها صوت الخراف، ولعل الفيلونسيل هو أقرب الآلات الموسيقية إلى

ص: 62

تقليد هذه الأصوات، فإذا لم يشعرك الفيلونسيل بهذه المعاني التي نحدثك عنها، فإنه عجز المادة عن قياس النفس ووزنها، ولا بد لك إذن من الاستعانة بجهاز يشبه الحيوان من حيث وجود النفس فيه، وليكن هذا الجهاز إنساناً مغنياً؛ أو إنساناً ممثلاً تطلب منه أن يقلد لك أصوات الخراف ليلة العيد تقليداً أميناً فيه الصوت وفيه ما يبعث الصوت من الشعور.

. . . وهنا تعجل أستاذنا وقطع علينا الطريق متسائلاً:

- فإذا لم أشعر بما تشعرون؟

فقذفنا بها عندئذ مجبرين وقلناها محرجين:

- لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في الناس فريق يشعرون وفريق لا يشعرون وإن كانوا يعقلون.

. . . وعادت إلى الأستاذ طيبته، وعاد إليه تواضعه فسألنا كمن يريد أن يعرف:

وهل في الناس حقاً من يشعرون؟

ولم ندهش لهذا السؤال، فقد صدر من عالم، فقلنا له: نعم يا سيدنا الأستاذ. نقسم لك بالله أن في الناس من يشعرون بأضاحي العيد. بل أن فيهم من يشعر كأضاحي العيد.

. . فذعر الأستاذ لهذا، وضاق عقله عنه، وسأل من فمه سؤال أبله معتوه وقال: إذا كان هذا حقاً. . . فكيف يحدث. . . هل تعرفون؟!

فتبادلنا فيما بيننا النظرات لأننا كنا نظن أن العلماء مهما جمدوا بعقولهم دون الحق فإنهم يستطيعون أن يستنبطوا أسباب المظاهر التي يلمسونها ما دامت ظاهرة لهم، وما داموا يلمسونها، وما دامت لهم عقول، وما داموا يقولون إن عقولهم تكفيهم وتهديهم وتلبي مطالبهم وحاجاتهم. . . وكنا نظن هذا لأننا نسينا أن سادتنا العلماء ينفضون أيديهم من العلم ما انفلتوا من معاملهم وما نفضوا أيديهم من مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . وجل من لا ينسى. . . ولكننا عدنا فذكرناه وقلنا لسيدنا الذي هجر الشعر رأسه إلى لحيته:

- أنتم صدقتم داروين حين قال لكم إن بدن الإنسان تطور من بدن الحيوان، ثم صدقتم علماء آخرين قالوا لكم إن جنين الإنسان يمر في بطن أمه بالأدوار التي مرت بها الإنسانية في سلسلة رقيها، فهو يبدأ خلية ثم دودة ثم زاحفة حتى يتم تكونه الإنساني فينقذف إلى الحياة إنساناً ولكنه يمشي على أربع، إنساناً ولكنه أبكم، إنساناً ولكنه بلا عقل. فلماذا لا

ص: 63

تتأملون هذا الإنسان العجيب، ولماذا ترضون أن يكون الجنين تلخيصاً للرقي البدني البشري، ولا يخطر في بالكم أن حياة الطفولة تلخيص هي أيضاً للرقي الروحي البشري، وأن الطفل فيها يتخلص من بعض الخصائص ويستكمل خصائص أخرى غيرها، ولماذا لا تدرسون المرحلة الأولى التي يتجلى فيها العقل عند الطفل وترون على حساب أي شيء يتجلى هذا العقل، وما الذي يستره من نفس الطفل كلما ازدهى وازدهر وساير الحياة العاقلة؟ ولماذا لا تتابعون في الطفل ائتلافه بالطبيعة لتروا كيف يضمحل هذا الائتلاف عن بعض الأطفال وكيف ينمو عن الآخرين؟ ولماذا لا تحاولون أن تفسروا ما يتاح لبعض الناس من القوة على إدراك أسرار الطبيعة بشعورهم بينما لا تتاح هذه القوة لغيرهم؟

أليس هذا كله مما يصلح للدرس؟!. . .

ثم ألا تلحظون أن الأطفال يهجمون على حقائق الحياة الطبيعية غير محاذرين ولا مشفقين لا لشيء إلا لأنهم لا يعقلون، وأنهم يقيسون الأشياء ويزنون الناس بشعورهم (لا بعقولهم) فيصدق قياسهم ويصدق حكمهم أكثر مما يصدق قياس الكبار العقلاء وحكمهم. لا لشيء إلا أن الكبار يزحمون أنفسهم بمعايير مصطنعة يقدرون بها الحقائق ويزنون بها الأشياء، وكثرة هذه المعايير واضطرابها هما اللذان يورثان أحكامهم وتصرفاتهم الغلط والشطط

لماذا لا تفكرون في هذا يا سادتنا العلماء؟ ولماذا تغفلون شعوركم وشعور الناس؟!

فأطرق الأستاذ مرة أخرى. ولكن إطراقته طالت هذه المرة ما شاء علمه وتفكيره أن تطول. . . ثم رفع رأسه وقال:

- وهل هناك من يجول في ميادين الشعور؟

فقلنا غير مفاخرين:

- نعم إنهم أهل الفنون وهم الذين يرقى شعورهم كما يرقى عقلهم فيحتفظون بتوازنهم الإنساني ولا يعطلون بإرادتهم ولا بالجشع المادي قوة يرونها تحفظ حياة الحيوان وتصونه وتهديه، فما بالك لو صاحبها العقل والتفكير السليم. . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 64

‌رسالة العلم

نحو فلسفة جديدة

للدكتور محمد محمود غالي

الحركة (البراونية) - عمل كوتون وموتون - مشاهدات بيران

- المجهودات الأولى لأينشتاين - توحيد الظواهر الطبيعية -

غاية العلوم

حدثنا القارئ عن فلسفة ليبنز بأن الحرارة عنده هي الحركة، وذكرنا أن جزيئات جميع الأجسام في حركة مستمرة وهي الظاهرة المعروفة بالحركة (البروانية) نسبة إلى العالم (براون)، وعند ظني أن الذين يبحثون عن الحركة الدائمة يجدونها في جزيئات أية مادة تقع عليها العين، فهي في حركة دائمة لا تعرف للسكون سبيلاً، وهذه الحركة تُحدث فينا شعوراً نسميه الحرارة، وهو حركة جزيئات الجسم لا أكثر ولا أقل، وكما أنه لا يوجد جسم دون أن يكون له حرارة معينة كذلك لا يوجد جسم لا تتحرك جزيئاته بسرعة معينة، وعندما نصف أي جسم بالبرودة الشديدة فإنه على درجة من الحرارة مهما انخفضت عن الصفر الحراري العادي فإنها تفوق الصفر المطلق

وهكذا عندما تحقق للعالم المعروف (دي باي) في السنين الأخيرة الحصول على درجة - 271ْ، أي درجتين فوق الصفر المطلق فإنه بقي لجزيئات المادة عند هذه الدرجة الخفيضة نوع من الذبذبة لازمها دائماً على ضعف مقداره

قد يقسو علينا الشتاء وتبرد الكائنات وتحرمنا الشمس الجزء الأكبر من حرارتها لبعدنا عنها في هذه اللحظة المعينة من السنة، وقد يتجمد معظم حاجاتنا. . . أجل أذكر في شتاء سنة 1929 وكنت أقطن ضاحية (مونت روج) من ضواحي باريس - أن تجمد كل ما نحتاج إليه مما يباع عند البدال، فاللبن والزيت وكل ما يباع سائلاً تجمد وأضحى في عداد الأجسام الصلبة حتى مياه المنزل داخل المواسير ومياه نهر السين تحولت وباتت جسماً صلباً لا يتحرك، ولكن جزيئات هذه الأجسام على برودتها الشديدة التي بلغت في بعض الأيام عشرين درجة تحت الصفر احتفظت بنوع من الذبذبة هو دليل حرارتها مهما كانت

ص: 65

منخفضة

هذه الحركة الدائمة في الغازات والسوائل والذبذبة المستمرة في الأجسام الصلبة أصبحت من الأمور التي لا تقبل الجدل، وقد سألني بعض القراء الذين تابعوا مقالاتي هل توصل العلماء إلى رؤية حركة الجزيئات داخل الأجسام أو أنهم اعتبروا هذه الحركة موجودة لأنها حققت الكثير من الظواهر الطبيعية؟ وبعبارة أخرى، هل هذه الحركة مجرد فروض علمية أو هي حقيقة واقعة يمكن أن ترى أثرها العين؟ هل من سبيل أن نرى مثلاً حركة الجزيئات في نقطة من الماء؟

وجوابي أن هذه الحركة بين الجزيئات حقيقية يمكن أن نرى أثرها، وأنه من الأمور العادية أن تقوم داخل المخبر ببعض التجارب التي ترى خلالها أثر حركة الجزيئات داخل السوائل وتصادمها مع غيرها، وهكذا عندما ذكرنا في مقال سابق نقطة الماء على ورقة من الشجر داخل حديقة ساكنة، وقلنا أن هذه النقطة بعيدة جد البعد عن السكون وأنها مكونة من ملايين العوالم وأن كل عالم منها في حركة دائمة، كنا رأينا كغيرنا الحركة الناتجة من اصطدام هذه العوالم بعضها بالبعض وما على الذين يريدون أن يستمتعوا برؤية أثر هذه الحركة الداخلية بين الجزيئات إلا أن يمزجوا بهذه النقطة من الماء نقطة من سائل كولويدي أي مكون من الجسيمات الصغيرة المعلقة كمحلول البرمنجانات أو الحبر ويفحصوا المخلوط الجديد تحت الألتراميكروسكوب. إن هذه الجسيمات الغريبة من البرمنجانات أو الحبر تقع بين ملايين العوالم المكونة لنقطة الماء، تلك العوالم التي تتحرك دائماً حركة لا يؤثر عليها سكون الحديقة ولا يغير فيها تعاقب الليل والنهار، وهي بهذا تصطدم مع الجسيمات الداخلة بينها والتي نرى حركتها بشكل واضح

أذكر يوماً تقدمت فيه للأستاذ كوتون رئيس المجمع العلمي الفرنسي لأقوم بأبحاث طبيعية في مخبره بالسوربون. قدمني الأستاذ الكبير لزميله موتون واقترحا عليّ في ذلك الحين أن أستغل قليلاً ببعض العمليات الألتراميكروسكوبية، وهكذا ظللت أعمل بضعة أيام بذلك الألتراميكروسكوب التاريخي الذي كان من اكتشافهما. كل من يطالع اليوم التاريخ المجيد الذي حازته العلوم الطبيعية في القرن الحالي يعلم أن في أوائل هذا القرن نشر الشابان كوتون وموتون طريقتهما الجديدة في رؤية الأشياء الصغيرة التي لا يراها الميكروسكوب

ص: 66

العادي وأن لهما في ذلك أبحاثاً هامة

إن العين تتأثر بأشعة الضوء عندما تقع طول موجاته بين

حدود معينة هي من 100004 إلى 100008 من المليمتر،

بحيث أنه يمكن للعين أن ترى الجسيمات الصغيرة بواسطة

الميكروسكوب ما دامت لا تصغر هذه الجسيمات عن حد معين

مرتبط بطول موجة الضوء المرئي، ولكن كثيراً من

الجسيمات التي نصادفها تقل عن هذا الحد من الصغر، لهذا

وقف في بادئ الأمر التقدم الطبيعي عند هذه الحدود

إن جسيما يقل في العادة عن 101 أو 201 من الميكرون

(الميكرون 10001 من المليمتر) لا يعطينا بالميكروسكوب

صورة واضحة للجسيم، ولا يمكن بمجرد النظر فصل أجزائه

المختلفة، ولكن كوتون وموتون فهما أننا لا نرى في المساء

الكواكب بذاتها وإنما نرى مواضعها، وهكذا استطاعا بإنارة

معينة أن يريا في مجال الميكروسكوب الجسيمات المتناهية في

الصغر، وأدركا أن هذا الجسيم الذي لا نراه بالميكروسكوب

إذا أضيء إضاءة جانبية مماسة يرسل في كل الجهات أشعة

مبعثرة بحيث يظهر في الميكروسكوب بقعة مضيئة لا تشبه

الجسيم، ولكن تدل على وجوده.

ص: 67

وتتلخص تجربتهما في أنهما وضعا نقطة من السائل المراد فحصه، والحامل للجسيمات الكولويدية على كتلة من الزجاج ووضعا عليها شقفة رفيعة من الزجاج، وقد استعملا لإنارة السائل قوساً كهربائياً من الفحم بحيث كونا صورة طرفي الفحم المضيء داخل نقطة السائل المراد فحصها، والموضوعة على كتلة الزجاج، وتحت الشقفة في محور الميكروسكوب.

على أن الجزء الهام في تجارب كوتون وموتون هو أن الأشعة

مائلة للدرجة التي يحدث فيها الانعكاس على السطح

الفاصل بين الهواء والشقفة الزجاجية بحيث لا يصل إلى

الميكروسكوب إلا الضوء المنبعث من الجسيمات

الألتراميكروسكوبية التي نراها في هذه الحالة كما نرى

النجوم، ويعتقد زيجموندي أنه استطاع أن يعرف وجود

جسيمات من الذهب يبلغ قطرها 100006 من الميكرون أي

أصغر بكثير من واحد على مليون من المليمتر

إنه لمشهد رائع أن ترى هذه النجوم تروح وتجيء وترتفع وتهبط ويطول سيرها طوراً ويقصر تارة أخرى وهي بهذا تذكرنا بالمناورات الليلية البديعة التي يقوم بها سلاح الطيران المصري خاصة بالكشف عن الطائرات، فهذه النقط المضيئة في السائل تشبه الطائرات المرتفعة ليلاً في كبد السماء عندما يقع على إحداها أنوار الكشافات من كل صوب، فإننا نرى جسماً ساطعاً في السماء يتحرك جيئة وذهاباً وهي تسطع كالنجوم في الليل الدامس

وهكذا عندما صعدت إلى تلك الغرفة أول مرة لأقوم فيها ببعض التجارب على هذا الجهاز التاريخي رأيت في نقطة من المحلول الكولويدي السماء كأنها ترتسم أمامي. . . رأيت في النقطة الصغيرة الجسيمات كالنجوم الساطعة في ليلة حالكة مع هذا الفارق وهو أن الأجرام

ص: 68

الصغيرة داخل النقطة في حركة دائمة شاءتها أسباب طبيعية كما شاءت أسباب فوتوكيميائية (الهابوش) المسكين أن يجتمع مجبراً ويدور قسراً ويتصادم عفواً طول الليل حول المصباح المتألق

على أن ما يجعل لهذه التجارب أثراً في نفسي أنني لم أقم بها على الألتراميكروسكوب التاريخي فحسب، بل في ذات الحجرة المتواضعة التي أجرى فيها (جان بيران) تجاربه الخالدة، تلك التجارب الخاصة بالحركة البراونية، والتي استعمل فيها الجهاز الألتراميكروسكوبي المتقدم الذكر، ففي هذه الحجرة المتواضعة الواقعة في الطابق الثالث من السوربون، والتي تطل على مكتب بريد الحي اللاتيني في شارع كيجا، استطاع جان بيران أن يعين بطريقة تدعو للإعجاب شحنة الإلكترون، وهي الطريقة التي سنشرحها للقارئ عندما ننتهي من الكلام عن الجزيء والذرة ونشرح الإلكترون

وقد تتبع بيران حركة الجزيئات أياماً طويلة واستطاع بالاستعانة بقوانين وضعها العالم الكبير أينشتاين، قوانين كانت باكورة أعماله في سنة 1906، أن يعطي أهم النتائج التي نعرفها عن الحركة البراونية أو الداخلية للأجسام، تلك الحركة التي اكتشف فيها توزيعاً لوغاريتمياً يشبه التوزيع الذي اكتشفه لابلاس لجزيئات الهواء، وهذه التجارب الأخيرة جزء من الأعمال التي أتمها بيران في سنة 1909 والتي منحه من أجلها المجمع السويدي جائزة نوبل للطبيعة لعشرين عاماً بعد ذلك التاريخ

وهكذا يستطيع اليوم أي طبيب بعيد عن المختبرات أن يعيد تجارب كوتون وموتون بأن يكوّن داخل النقطة المراد فحصها صورة مصباح على طريقتهما، ويتأمل الحركة الأبدية داخل أصغر نقطة من رذاذ الماء

وهكذا نجحت طريقة كوتون وموتون اللذين فهما من أول لحظة أنه لا بد في فكرة إنارة الجسيمات من وجود طريقة لرؤيتها، وهكذا يتعلق النجاح في الأعمال على درجة فهم الإنسان لأصول الأشياء ودرجة إدراكه للحقائق، وعند ظني أن شيلز وشيل، وودجود الذين مهدوا لاكتشاف جهاز التصوير الشمسي بأبحاثهم الخاصة بأثر الضوء على نترات الفضة، أدركوا قبل كل شيء أن في أشعة الشمس أسراراً تمكننا من أن نرى الأشياء مرة أخرى بل أن ليبمان أستاذ السوربون لم يكتشف فيما بعد التصوير الشمسي بالألوان إلا لأنه فهم

ص: 69

بدرجة دقيقة فكرة التداخل الموجي للضوء

نعود الآن بالقارئ إلى فكرة ليبنز من أن الحركة بين جزيئات السائل التي ذكرت للقارئ إمكان رؤيتها عملياً، لا تسبب الحرارة بل إنها هي الحرارة نفسها، فنقرر أن اختلاف إحساسنا للحرارة عن إحساسنا للحركة لا يدل على أن الظاهرتين مختلفتان، والواقع أن بين أعصابنا ما يجعل شعورنا يختلف إزاء الحركة أو الذبذبة المستمرة للجزيئات، فلا نسجلها كشعور للضغط ولكن كشعور لكمية جديدة نسميها الحرارة

هذا الجمع بين الظاهرتين في ظاهرة واحدة يعد تقدماً كبيراً للعلوم وللإنسان وريث هذه العلوم، ولا شك أن النجاح العلمي معقود اليوم على ربط الظواهر الطبيعية بعضها ببعض وإزعاجها ما أمكن إلى أصل واحد، وعند ظني أن ليبنز وبيران وغيرهما يقدمون بهذا النوع من التوحيد في الظواهر الطبيعية من الخدمات للإنسان أكثر من هؤلاء الذين اخترعوا لنا القاطرة أو الطائرة

أن نترك على جريدة موضوعة على منضدة كوباً من الماء فيهب النسيم بشدة على هذه الجريدة فيرفعها بعنف ويرفع معها الكوب فيقع على الأرض ويتدفق منه الماء - أمر لا يدهش. ولكن أن نعرف حركة ما بداخل الكوب من جزيئات ونعرف أن هذه الحركة هي ظاهرة الحرارة - أمر يعتبر في صميم تقدم معارف البشر

كذلك أن ترفعنا قطعة من الألمونيوم، رتبنا فيها مقاعد للجلوس، من الأرض إلى طبقات الهواء، وأن نجعل الظروف الطبيعية التي وقعت على الجريدة والكوب من رفع الهواء لهما ظروفاً مستمرة بالنسبة لقطعة الألمونيوم فنسافر على هذه القطعة من القاهرة إلى الإسكندرية أو من القاهرة إلى لوندرة وذلك بالسيطرة على عاملين: العامل الأول دائرة كارنو واحتراق البنزين، والعامل الثاني دوران المروحة لدفع الهواء - مسائل يجب ألا تدهشنا ولا نعتبر أنها ذهبت بنا بعيداً في التقدم - وأما أن نعرف ما يدعونا إليه ليبنز وأمثاله، وأما أن نعرف طبائع المسائل ونرجع بالظواهر إلى صورها الحقيقية، وأما أن نحاول توحيداً في ظواهر الكون، فإن هذه خطوات جريئة إلى الأمام.

وعند ظني أنه في اليوم الذي يُرجع فيه العلماء كل مظاهر الكون إلى قليل من الظواهر، وكل جزيئاته إلى قليل من العوامل والمكونات الأولى، نكون قد صعدنا أرفع الدرجات في

ص: 70

سلم المعرفة

أجل: أن في اليوم الذي نرجع فيه كل ما في الكون من مادة حية وأخرى عديمة الحياة من إنسان وحيوان ونبات وجماد، من كل مظاهر الضوء والمادة والكهرباء بل والقوى، إلى حوادث زمنية مكانية - يلعب على مسرحها عدد قليل من المكونات التي يغلب على ظني أنها لا تتعدى الإلكترون والبوزيتون والفوتون والنيترون نكون قد سرنا بالعلوم إلى لأقصى الدرجات وبالفلسفة إلى أعلى المراتب بحيث يصبح كل ما نراه ونسمعه ونشعر به، وكل ما يخطر على بالنا ويجول بأنفسنا يجد تفسيراً مادياً في اختلاف موضعي وزمني لهذه المكونات وما يتفرع منها

عندئذ نكون قد فهمنا من الكون أكثر مما نفهمه اليوم. ولو أننا وُفقنا بعد ذلك إلى التغلغل في معرفة حقيقة الزمن والحيز فإن التقدم عند ذلك يفوق كل قدر

لا شك أن ليبنز وبيران وغيرهما خطوا بنا في هذا السبيل. لقد أردت أن أتحدث إلى القارئ عن نتائج فلسفة ليبنز فأحدثه عن عمل (ماير) و (بولتزمان) ولكن تجارب كوتون وموتون الإيجابية وأسئلة القراء التي تكرموا بتوجيهها إلينا والرد عليها بذكر تلك التجارب التي تعد آية في العلم التجريبي طغت على كل تفكير، لذلك آخذ العدة لمل فاتني في مقال آخر.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 71

‌من هنا ومن هناك

نابليون العرب - عن مجلة (في الباريسية

ابن السعود، وهو يحكم منطقة تعادل المناطق المجاورة له جميعها، ويملك جيشاً كبيراً مجهزاً بالأسلحة الحديثة، ويستمتع بشهرة عظيمة بين الممالك الإسلامية بمقدرته على حماية الأماكن المقدسة، سيكون له تأثير كبير ونفوذ دائم على الشرق الأدنى

لذلك يلجأ إليه كل من تحدثه نفسه بالشئون السياسية في تلك البلاد

وهو رجل قوي رزين لا يطلع أحداً على أسراره، حتى أخص أصدقائه ومعاونيه أمثال عبد الله الفادي وحافظ وهبة

وابن السعود مسلم محافظ يحكم بقواعد القرآن وتعاليمه. وهو لا يشرب الخمر ولا يدخن، ويؤدي فروضه الدينية خمس مرات في اليوم. ويزيد طوله قدماً على المستوى المألوف في الرجال. جميل الطلعة ذو لحية وأنف طويل، وفم عريض يدل على القوة والمرح

وقد مرض مرضاً طويلاً أصاب إحدى عينيه، حتى لا يكاد يبصر بها. أما فيما عدا هذا فهو قوي صحيح لم يؤثر فيه الكفاح بحال من الأحوال

وهو رجل ثابت كالطود يطيل التفكير فيما يعرض عليه، ويتكتم أموره عن كل إنسان حتى ليتساءل الناس ماذا عسى أن تكون نياته في مشكلة فلسطين

ومن المعروف عنه قوله: (إنني مسلم أولاً وعربي ثانياً) وحياة ابن السعود جهاد مستمر في توجيه قوى العرب نحو المصلحة العامة. وهو يعمل بجد لإزالة العراقيل التي يضعها الشيوخ في سبيل تنفيذ مبدأ ضم الدول الصغيرة في الشرق الأدنى

ويبلغ الملك ابن السعود الآن الثامنة والخمسين من عمره، وينحدر من سلالة سعود العظيم الذي أحرز ملك العرب في أواخر القرن الثامن عشر. وقد تبع والده في منفاه بالكويت حين أمر بنفيه ابن رشيد حاكم الكويت

وما كاد يبلغ ابن السعود العشرين حتى ترأس فريقاً من البدو وهاجم الرياض واحتل حصونها. وبضربة واحدة استطاع أن يضع نصف نجد تحت إمرته. . . وقد كان هذا في أوائل القرن العشرين!

وما زال ابن السعود ينال انتصاراً يتلوه انتصار في ميادين الحرب والسياسة حتى تغلب

ص: 72

على منافسيه وأنداده وأصبح أمير العرب

وقد نجح في تطهير بلاد العرب من اللصوص والقتلة، وأصلح الحالة المالية وألف في بلاده أقوى جيش عرف في الشرق الأدنى

ولابن سعود كل الخصائص التي تجعله يقود أمة عظيمة؛ فهو على ما هو عليه من المهابة يجمع بين قوة القائد العربي والرجل السياسي. ومع أنه رجل محافظ متدين لا يأبى أن يفكر في الواقع ويساير المدنية بقدر الإمكان

وقد استحدث في بلاده العربات الضخمة والسيارات الحربية التي تطوي الأرض من نجد إلى الحجاز. وأنشأ محطة للإذاعة بالرياض ووضع خطوط التليفون التي تصله بجميع أنحاء العالم. واستنبط الآبار الارتوازية تتفرع منها الجداول والغدران لري الأرض. ويقال إن ابن السعود أمر بقتل أحد ضباطه لارتكابه جرماً يخالف الدين، وإنه عرض حياته للخطر لإنقاذ طفل صغير.

هل تستطيع إيطاليا أن تهاجم تونس - عن الديلي تلغراف

تسعة أعشار سكان تونس من العرب المسلمين لا ينظرون إلى إيطاليا بعد تلك الكارثة التي أوقعتها بألبانيا بعين الراحة والاطمئنان

وقد استطاعت فرنسا أن تهيمن عليها، وتخمد كل حركة من شأنها أن تغل من يدها، أو تقلل من نفوذها. وقد كان فتح إيطاليا لألبانيا من أقوى المحرضات للعرب وعددهم 2250000 نفس على كراهية الحكم الإيطالي. وقد بدأت الدعايات تبث في تونس ضد الحكم الإيطالي، والألسنة تلهج بشرح مبادئ حامي الإسلام!

وقد تحمل هذه الدعايات كثيراً من المبالغة في شرح وحشية الإيطاليين. فقصة رمي الناس من الطائرات قد تكون من اختراع الخيال؛ إلا أن مثل هذه السير تنتشر في تونس ولها أثر غير قليل في تسوئ سمعة الإيطاليين

وتؤلف الآن في تونس بعض الفرق من الجنود غير النظاميين، بقيادة بعض الضباط الفرنسيين، وهمها أن تهاجم طرابلس في وقت من الأوقات

أما باقي السكان وقدرهم مليونان فهم يميلون إلى الفرنسيين ويفضلونهم كثيراً على الإيطاليين الذين يسكنون تلك البلاد. فالإيطاليون يزاحمون السكان في شئون الحياة

ص: 73

والمعيشة وينافسونهم في الأعمال الصغيرة مما لا يقبله الفرنسيون

ومن الإحصاءات الفرنسية لسنة 1936 المعدلة في 1939

أن عدد السكان الفرنسيين في تونس يبلغ 108000 فرنسي وعدد الإيطاليين 98000 إيطالي وقد تجنس بالجنسية الفرنسية من السكان الإيطاليين 16000 نفس

وقد اتخذت فرنسا تدابير قوية ضد الأعمال السرية التي تقوم بها إيطاليا، فوضعت الحراسة الحربية على الطرق والكباري والمرافق العمومية، وقد قامت بعدة تجارب لصد أية محاولة من قبيل إيطاليا في صقلية وفي ألبانيا أخيراً، وقد زرع خليج تونس بالرجال والمعدات الحربية على طول الطريق ووضعت مضادات الطيارات في جميع الأنحاء

وبدأت فرنسا تحصي عدد العمال الإيطاليين في تونس وتراقبهم. وقد استبدل بالإيطاليين الذين كانوا يشغلون مراكز كبيرة غيرهم من الفرنسيين. إذ أن الإدارة الفرنسية تعتقد أن عشرين ألفاً من الإيطاليين أي 20 % منهم فاشست عاملون. أما الباقي فينتسبون إلى صقلية ويعيشون في تونس منذ أربعة أو خمسة أجيال ولم يحدث منهم ما يكدر السلام؛ وهؤلاء سيبقون مدة الحرب على ما هم عليه

وما زالت فرنسا تزيد في استعدادها، وقد أنشأت خطاً حديدياً يمر من الجزائر إلى تونس وهي على استعداد وتأهب لمقابلة الحرب في أي وقت

فمهاجمة تونس على هذه الحالة تعد نوعاً من المجازفة والجنون

بحث في مشكلة المستعمرات

(عن (ذي جورنال أوف رويال سوسايتي أوف أورتس))

مسألة المستعمرات من المسائل التي تتعارض فيها رغبات الأمم الديمقراطية: إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، مع رغبات الدول الثلاث المتحدة: ألمانيا وإيطاليا واليابان. وحجة هؤلاء هي أن دول الديمقراطية تملك من المستعمرات ما يكفيها ويفيض عن حاجتها، بينما هي لا تملك ما يسد عوزها

فالمشكلة في هذا الموضوع هي المشكلة الأبدية بين الذين يملكون والذين لا يملكون، مشكلة الراضين المكتفين والمحتاجين المتبرمين

ص: 74

فماذا يجب أن تفعل الدول ذوات المستعمرات العظيمة الشاسعة؟ لقد مضى الوقت الذي كان يتمتع فيه أصحاب الثراء ولا يجدون من ينازعهم هذه المتعة ويحقدها عليهم

إن ضريبة الثراء موجودة منذ أقدم العصور. ولعل مما يزيدها ويضاعف أثرها نظرة إلى المال الذي يكتسبه أصحابه بالجد والعمل المضني، والمال الذي يئول إلى أربابه دون أن يبذلوا في سبيله أي جهد، فإما أن يكون قد آل عليهم عن طريق الاغتصاب والظلم أو عن طريق الميراث

ولقد أخذ الناس يفكرون في أصحاب الثروات الكبيرة، ويفرضون رقابتهم عليهم حتى يتحققوا من أن هذه الثروات لا تنفق في سبيل الملذات والأهواء الشخصية، دون أن يكون للمواطنين نصيب من الانتفاع بها. وقد تقدم هذا المذهب فأصبح يشمل الدول كما يشمل الأفراد. وليس لهذا المذهب من سلطة غير قوة الرأي العام التي تفرض إرادتها على الأفراد.

ونحن الآن نرى حركة جديدة بين الأمم، لإلزام كل أمة مراعاة ذلك: وهذه الحركة ترمي إلى مطالبة الأمم التي تملك المستعمرات بأن تكون وفية أمينة لأبناء تلك المستعمرات من ناحية، وأن تراعي المصلحة العامة في استغلالها

يقال أن الاستعمار طريقة لتخفيف ازدحام السكان، والواقع خلاف ذلك؛ فعدد الأوربيين في أواسط أفريقيا يدل على أن الدول الأوربية لا تستفيد من هذه الناحية. فمن الواجب ملاحظة الجو في تلك المستعمرات، وإعداد رأس المال لإصلاح تلك البلاد، وملاحظة حقوق الأهلين.

مما لاشك فيه أن لكل أمة تقاليدها وأحوالها الاقتصادية؛ ومعنى هذا بالبداهة أن الأمم التي لا تستطيع أن تعيش على غير الصناعة، يجب أن تستولي على أرض تستخرج منها المواد التي تتطلبها.

إن الطبيعة قد حرمت الأمم كافة من أن يكون لديها الأرض التي تغلها جميع المواد التي تحتاجها. فالولايات المتحدة تعتمد على المصادر الخارجية لاستكمال ما تحتاجه من المواد؛ وكذلك بريطانيا وألمانيا واليابان. ولا توجد أمة واحدة تملك الأرض التي تغلها كل ما تريد إلا إذا كانت تملك العالم أجمع

ص: 75

فيجب والحالة هكذا أن يكون الموقف متعادلاً بين الذين يملكون والذين لا يملكون. ولا يكون ذلك بالتنازل عن المستعمرات، ولكن بمراعاة مصالح الدول المحرومة منها وإيجاد الطرق الودية التي تكفل لها الراحة والسلام

ص: 76

‌البريد لأدبي

1 -

المرأة القارئة

في الأعداد السابقة من (الرسالة) دارت بيني وبين الصديق الأستاذ زكي طليمات، مناظرة محدودة الأطراف، على جمهور القراء. والمتحصل مما أذهب إليه أن اعتقادي أن في مصر طائفة من المهذبين الذين يميلون إلى الأدب الرفيع والإنشاء الجد. ولا شك أن الجانب الأكبر من تلك الطائفة من الرجال. وإذا أنت وازنت بين جمهور قرائنا وجمهور قراء البلدان الأوربية الراقية تبين لك أن النساء هنالك يقرأن بقدر ما يقرأ الرجال. ولقد رأيت في ألمانية نساء يسرن في الطرق ويجلسن في القهوات والكتاب رفيقهن. وعرفت في فرنسة نساء يرشدن أزواجهن وأصدقاءهن إلى نفاسة الكتب الخارجة. وكثير من نساء الفرنجة يقبلن على قراءة ما يقال له في مصر:(الأدب الدسم)(كأننا نعني الأدب الذي يكلف القارئ مشقة حتى إنه ينفّره. والغريب أن الطعام المصري - في غالب الأمر - ذو دسم شديد. فلم نخشى على أذهاننا ولا نخشى على بطوننا؟!)

إن جمهور القراء لن يزالوا على حالهم من الخدر والنعاس حتى ترغب المرأة عن القراءة المسلية: عن روايات الجيب، والمجلة المشحونة بالصور، والكتاب الذي يكثر فيه البكاء ورسائل الغرام الشاحب؛ وحتى تكشف للرجل عما وراء الحس المباشر من خلجات وبدوات ولوامع هي أقدر منه على الشعور بها والانتفاض لها

المرأة هي المهذبة الأولى والقارئة الوفية

2 -

تاريخ الأدب العربي

وصلني الجزء الثالث من المجلد الثالث لتكملة (تاريخ الأدب العربي) لصاحبه المستشرق العلامة كارل بروكلمن الألماني. وقد سبق لي أن خبّرت قراء هذا الباب من (الرسالة) بمجمل ما في الجزء الأول والثاني.

أما هذا الجزء فيتم الكلام على الشعر في مصر لهذا العهد؛ ومن الشعراء الذين نظر المؤلف في شعرهم: أحمد رامي، والهراوي، وعماد، وعثمان حلمي، وخليل شيبوب، وإبراهيم ناجي، والعقاد، والمازني، وحسن كامل الصيرفي، وعلي محمود طه، وصالح جودت، والهمشري، وعلي الجارم، ومحمود حسن إسماعيل، وسيد قطب، ومختار الوكيل،

ص: 77

وبشر فارس. على أن العقاد والمازني شغلا ما يقرب من ربع الجزء (وهو يقع في ثلاثة وستين صفحة).

ومما حاوله المؤلف الفحص عن مصادر الأخذ والاستلهام. فجاءت المصادر على نوعين: عربي وإفرنجي. أما العربي فالشعر الاتباعي القديم؛ ثم شعر شوقي وصبري؛ ثم شعر خليل مطران؛ ثم شعر مدرسة أبوللو، وعلى رأسها أبو شادي؛ ثم شعر العقاد. وأما الإفرنجي فالابتداعيون الفرنسيون، وطائفة من الشعراء الإنجليز؛ ثم فرلين وبودلير.

وجاء الكلام بعد هذا على الشواعر، فذكر المؤلف عائشة التيمورية وأمينة نجيب وجميلة العلايلي ومنيرة طلعت.

وختم المؤلف الكلام على الشعر بفصل في الزجل، فذكر خليل نظير ومحمد عبد النبي وعزت صقر ومحمود رمزي نظيم. ثم انتقل إلى الشعر في السودان

هذا وإن المؤلف أجرى الكلام على غير الشعر إذا كان الشاعر ممن يعالج صناعة النثر. من ذلك فصوله في كتب العقاد والمازني وبشر فارس

وأما مراجع المؤلف فالدواوين والمؤلفات المطبوعة ثم المقتطف والهلال والرسالة وأبوللو والحديث. بقي أن هذا الجزء يستهل في آخره باباً جديداً موقوفاً على القصص والاسترسال في مصر أيضاً، وفيه تناول المؤلف بالبحث المتصل: جميل نخلة المدوّر وجرجي زيدان وأحمد حافظ عوض وفرح أنطوان

وبعد، فلي فيما ذهب إليه الأستاذ بروكلمن من الفحص عن مصادر الأخذ والاستلهام نظر سأبسطه يوم يخرج المجلد الثالث كاملاً

في اقتباس الكتّاب

كتب الدكتور إسماعيل أحمد أدهم رداً طويلاً في العدد الماضي من الرسالة على كلمتي في بحث له. وإني أكره أن أطلق قلمي في مناظرة تنحرف فيها القضايا وتجتلب الحجج وينبو القلم

إلا أن هنالك أمراً محسوساً لا أستطيع إهماله. وقصة ذلك أني قلت في كلمتي (الرسالة رقم 310 ص 1176)(. . . وكأني بالدكتور أدهم اقتبس مني (انظر (مباحث عربية) ص 76) هذا التعبير: (جملة صلات اجتماعية) مع ما ينظر إليه باللغة الفرنسية أي (. . .

ص: 78

وفي رد الدكتور أدهم: (رأي الكاتب (يعنيني) أننا استعرنا اصطلاح (خلق جملة صلات اجتماعية) من كتابه (مباحث عربية) والواقع عكس ذلك. إن هذا الاصطلاح قد دار على قلمنا من قبل صدور كتابه هذا وتجده في دراستنا عن إسماعيل مظهر حين تكلمنا عن آرائه الاجتماعية في م 36 ص 411 هذا فضلاً عن أن هذا الاصطلاح من جملة ما يجري على أقلام كتاب عصرنا هذا، وإذن فلا يمكن القول بأنه من الاصطلاحات التي استحدثها الكاتب)

على أن الدكتور أدهم لم يثبت الجملة التي ورد فيها ذلك التعبير في دراسته لإسماعيل مظهر، ولم يستشهد بما (يجري على أقلام الكتاب)، حتى أتبين على أي وجه ورد التعبير. ثم إن المجلة التي نشر فيها دراسته لإسماعيل مظهر لا أعرف كيف يكون الاهتداء إليها حتى أراجعها (وأرجو منه أن يبعث بها إليّ) وسواء استعمل الدكتور أدهم ذلك التعبير قبل ظهور كتابي أم لم يستعمله، فالمهم أن يقول لي هل كتب إزاءه التعبير الفرنسي: كما صنعت في كتابي؟ وأنا أدري من باب التجربة العملية أن علم الدكتور أدهم باللغة الفرنسية لا ييسر له ذلك.

وبعد فإن الدكتور أدهم قد اقتبس مما جرى به قلمي غير هذا التعبير. وحسبك الموازنة بين ما جاء في بحثه في توفيق الحكيم، إبريل 1939 (ص 361 س 6 و7؛ ص 368 س 19 - 21) وما جاء في صدر توطئة (مفرق الطريق)(مارس 1938) وفي نقدي لكتاب شهرزاد (المقتطف يونيه 1934 ص 733)

هذا وكأن الدكتور أدهم شاء أن يبذل لنا الدليل على ذلك، إذ كتب في بحثه في توفيق الحكيم ص 361 ما حرفه (وازن أيضاً بين هذا الفصل وما جاء في ردّ الدكتور أدهم في العدد الأخير من الرسالة ص 1226):(وكان كلف توفيق الحكيم باستنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر أن اضطراب عقله (؟). . . ومن هنا جاءت اليقظات الرمزية في فنه. . . ولقد قوى من الاتجاه الرمزي في فنه أنه نتيجة لإعيائه عن معرفة حقيقة النفس ولوامعها وبوادرها (كذا) جعلته يلتفت لعلم النفس الحديث ويخلص من دراسة تجارب (شاركو) في التنويم والإيهام و (ريبو) في الأمراض النفسية و (فرويد) في أحوال اللاواعية و (برجسون) في تغليب المضمر الذي في النفس على البارز. . .)

ص: 79

والآن خذ ما سطّره قلمي في الرسالة رقم 251 ص 712 (25 إبريل 1938): (إن المسرح الحديث وإن سماه أهل الفن: المسرح الرمزي، من باب الاصطلاح، لينهض على عناصر تزيد على التي عرفتها الرمزية الأولى: ينهض على نتائج علم النفس الحديثة (تجارب شاركو في التنويم والإيهام، وريبو في أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية، وفرويد في أحوال العقل الباطن، وبرجسون في تغلب المضمر الذي في النفس على البارز. . .)

هل رأيت كيف يكون النقل مع استبدال لفظة مكان أخرى أحياناً (هنا: (العقل الباطن)، وهناك:(اللاواعية)؛ ثم هنا: (أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية)؛ وهناك: (الأمراض النفسية)؟

أما هذان التركيبان: (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر) فمأخوذان أخذاً من مسرحيتي (مفرق الطريق)(ص6 س 7، 8) حيث يجري الكلام على عرض طريقتي الرمزية. وكذلك هذا التركيب: (لوامع النفس وبوادرها)؛ إلا أن الدكتور أدهم قرأ: (بوادر)، وفي الأصل (بواده)، وهو الوجه هنا. واللوامع والبواده من اصطلاحات الصوفية، وقد شرحهما القشيري في رسالته، وعلى الدكتور أدهم التفتيش

وبعد: فهذه كلمة كتبنها مكرهاً لأني غير ميال إلى مثل هذا اللون من (وضع الشيء موضعه). ففي شؤوننا الثقافية ما هو أجل شأناً. غير أن القلم ربما حركه ما لا يرضيه. وعليّ عهد أني غير عائد إلى مثل هذه الكلمة مهما كتب الدكتور أدهم

بشر فارس

التبادل الثقافي بين مصر والسودان

عقدت في وزارة المعارف لجنة لدراسة المقترحات التي قدمت في موضوع التبادل الثقافي بين مصر والسودان.

وقد اتخذت هذه اللجنة قرارات علمنا أن من بينها ما يأتي:

إيفاد خبير تعليمي إلى السودان، وإسناد هذا المنصب إلى ناظر مدرسة الخرطوم الثانوية المزمع إنشاؤها في العام القادم على أن يكون متصلاً بخبير مصر الاقتصادي في السودان.

وضع سياسة لتبادل البعثات العلمية، فتفد إلى مصر بعوث الأساتذة والتلاميذ السودانيين في

ص: 80

الإجازات الدراسية، وتزور السودان مثل هذه البعوث. وأن يكون تبادل الرحلات العلمية بين البلدين في نطاق أوسع، وأن تنشأ مكتبة تلحق بمكتب الخبير الاقتصادي. وذلك رغبة في نشر الثقافة المصرية في السودان، على أن تهيئ مصر للسودان نظاماً يقف المصريون به على الإنتاج الفكري لإخوانهم السودانيين

وهناك اقتراح بتبادل الأفلام السينمائية الثقافية بين البلدين ومعاونة النادي المصري في السودان على التوسع في الغايات التي قام من أجلها. وكذلك أقترح توفير العناية بالثقافة الدينية، والعمل على إنشاء فرق لحفظ القرآن الكريم، أسوة بما هو متبع في مصر.

وقد درست اللجنة مسألة تنظيم قبول التلاميذ السودانيين في المدارس المصرية، وخاصة بعد إنشاء المدرسة الثانوية الجديدة في الخرطوم، وانتظار زيادة المتخرجين فيها، ورغبتهم في الالتحاق بكليات جامعة فؤاد الأول في مصر.

إلى ناقد تصحيح البخلاء ومنه

حضرة الفاضل المحترم الأستاذ محمود مصطفى

جاء في نقدكم لتصحيح كتاب البخلاء المنشور في العدد 309 من الرسالة في الصفحة الأخيرة ما يلي:

(ونحن نعترض على ضبط العبارة وشرحها. فأما الضبط فنرى أنه ينبغي أن يكون هكذا:

(إذا حبس زف السحاب، وأما المعنى فهو: لو قدم إليه من الطعام مقداراً إذا جمع بعضه فوق بعض. . . الخ)

وأنا أعترض عليكم جميعاً، فإن في العبارة تصحيفاً، وصحة العبارة هكذا:

(. . . إذا حيس) بالياء المثناة من تحت لا بالباء الموحدة.

أي خلط وعجن. والمعنى: لو قدم إليه من الطعام مقدار إذا عجن نزف السحاب

وهذا خير من تفسيركم حبس بجمع بعضه فوق بعض، فإنه تفسير بعيد

أرجو أن تدفعوا هذا للرسالة لتنشره ما دام الغرض تصحيح الكتاب، ولا يهمكم بعد ذلك أن تعرفوني، ويكفي أن تعرفوا أني من المعجبين بنقدكم وجرأتكم، وسداد رأيكم

(؟)

ص: 81

حضرة الأديب الجليل الأستاذ الزيات صاحب (الرسالة):

ورد لي هذا الخطاب من مرسله الفاضل الذي ضن بذكر اسمه، وله رأيه في ذلك. وقبل أن أعلق على كلامه أشكره أجزل شكر على حسن ظنه بي، واستكثر على نفسي وصفه لي بالجرأة و. . . فليس ما قمنا به إلا زكاة يجب على من ملك نصابها أن يؤديها خالصة لوجه الأدب برّاً به واعترافاً بحقه على خدامه.

أما رأي الأستاذ في أن تكون كلمة حبس (بالباء) محرفة عن حيس (بالياء) وتفسيرها بمعنى عجن، فهو رأي لا بأس به، وإن اتجه إليه النقد أيضاً، لأننا في سبيل الأخذ به سنتكلف أن نحمل الحيس معنى العجن مع أن أصل معناه الخلط. ثم إذا راعينا الدقة اللغوية كان خلطاً خاصاً، لأنه كما ذكروا خلط الأقط بالسمن والتمر، والعجن، كما نعلم، إنما يكون عادة للدقيق والماء. ويساعدنا على هذا أننا لم نر (في حقيقة ولا مجاز) من قال حيس الدقيق أو الخبز.

محمود مصطفى

الاعتماد على المصريين في علم الاستشراق

دعت اللجنة القائمة على نشر (الكنز العبري) الدكتور مراد كامل إلى معاونتها على إخراج ذلك المعجم الضخم للغة العبرية وهو الأول من نوعه. وهذه اللجنة أعضاؤها من كبار المستشرقين وعلماء العبرية. ولا شك أن الذي حملهم على دعوة الدكتور مراد كامل إلى معاونتهم ما ألفه الدكتور في اللغات السامية المختلفة. من أعماله العلمية نشرة (تاريخ اليهود) ليوسف بن كريون باللغة الحبشية مع موازنته بالنص العبري والنص العربي

واشتراك عالم مصري في ذلك المعجم الجليل إيذان برفعه قدر الاستشراق عندنا

أبو تمام والرمزية (تأخرت سهواً)

جرى قلم الأستاذ الكبير عبد الرحمن شكري في رمزية أبي تمام حين عالج البحث فيه بالرسالة فتنكر لهذه الرمزية ورمى بها من حالق غير متلبث ولا وان. وقال فيما قال: (وأستطيع أن أفهم سبب عد أبي تمام من شعراء الرمزية وإن لم يكن كذلك فإنه يكثر من استخدام التشبيه والاستعارة والمجاز، والاستعارة رمز والكتابة رمز، ولكن شعراء الرمزية

ص: 82

في أوربا تخطوا منزلة الاستعارات والكنايات وصاروا يرمزون إلى حالات نفسية بأشياء مادية وبألفاظ أو جمل ويقطعون الصلة بين الرموز التي يرمز لها اعتماداً على خيال القارئ وإحساسه وأحلامه وهواجس نفسه الغامضة الخ. . .) ولعمري لو طلبنا من أبي تمام أن يستخدم تلك الرمزية الأخيرة لأقلقنا ترابه الصامت في برزخه إذ تلك الرمزية التي عناها الأستاذ الكبير إنما هي الرمزية الناضجة التي استحصدت قواها في أواخر القرن التاسع عشر في أوربا وبالأخص في فرنسا وقامت على أسس لم تعرفها الرمزية في عهدها الأول ومن تلك الأسس التجاريب النفسية كأحوال العقل الباطن والتنويم وسوى ذلك، وقد برز في هذه الرمزية أبطال منهم بريستلي، وهنري باتاي، وطاغور شاعر الهند الأكبر، وجبران خليل جبران. فليس من الإنصاف أن تقاس رمزية أبي تمام على رمزية هؤلاء المتأخرين وإلا تبخرت الأولى بلا مراء، إذ لا بد أن تقام المفارقات التاريخية على أصول بعضها الزمان والمكان؛ وأبو تمام عربي تنبسط أمامه الصحراء وتنسدل حوله آفاق السماء فلا يمكن بحال أن تطلب نفسه الرمزية بهذا اللون وتؤدي بها إلى الحد الذي أدت بهم إليه، وأما في عهدها الأول فهي بلا ريب تبسط أجنحتها على أبي تمام لتضعه إلى أعلامها. وما الرمزية إلا اتجاه نفسي يسلك للتعبير عما في متاهات النفس من الأشباح العصبية المتغلغلة في الإبهام والغموض فتبدو مرموزاً إليها فقط كي يدل الرمز على المعنى المقصود من قريب أو بعيد، وفي ذلك جهد الشاعر. وإذا ما بسطنا بين أيدينا ديوان أبي تمام وجدناه حالياً بكثير من الشواهد الرمزية على هذه الطريقة وأسوق منها طاقة صغيرة فيما يلي:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها

تنال إلا على جسر من التعب

بخديه دقائق لو تراها

إذاً لسألت عنها في المعاني

وقديماً ما استنبطت طاعة الخا

لق إلا من طاعة المخلوق

لي عبرة في الخد سا

ئرة وبيت سائر

وبوجنتيه بدائع

للجلنار ضرائر

نقشت كف الملاحة في

وجنتيه أظرف النقش

يعيش المرء ما استحيا بخير

ويبقى العود ما بقي اللحاء

تفاحة جرحت بالدر من فيها

أشهى إليّ من الدنيا وما فيها

ص: 83

حمراء في صفرة علت بغالية

كأنها قطفت من خد مهديها

وفي الديوان انتزاعات نفسية وألوان حسان تؤيد ذلك وبالأخص في قصاره التي دبجها في الغزل والنسيب.

أحمد عبد الرحمن عيسى

كتاب الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة عل الصحابة

أرسل إلينا الأستاذ الجليل (القارئ) مقالاً عن هذا الكتاب قبل أن يصدر العدد (311) بيومين، وقد ضاق عنه هذا العدد أيضاً؛ فنعتذر للأستاذ من هذا التأخير، وسننشره شاكرين في العدد التالي.

ص: 84

‌رسالة النقد

مباحث عربية

تأليف الدكتور بشر فارس

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

أما المبحث الثالث ففي (المروءة) وقد نشر في الأصل بالفرنسية في (تكملة دائرة المعارف الإسلامية). وفي هذا المبحث يبرز الباحث رجلاً مدققاً عرض للموضوع في إحاطة عجيبة. ولكن الحقيقة رغم كل هذا جانبته. ذلك أن الباحث دخل الموضوع وهو يعتقد أن لفظ المروءة من الألفاظ التي ذهبت بذهاب العصر الجاهلي. والحقيقة أن استعمالات اللفظة في أوضاع متباينة هي التي خلعت على اللفظة معاني متباينة وألقت شيئاً من اللبس على أصلها. على أننا نلاحظ أن اللفظة في الأصل تفيد معنى الفرد الإنساني (الهوامش 10، 11، 12 من المبحث) واتسع معناها من الفرد إلى أن حملت معنى الإنسان الاجتماعي. وشاهد هذا استعمال اللفظة في هذا المعنى في بعض مواضع القرآن وفي بعض ما تنوقل عن العصر الجاهلي من الشعر في أعمال معهد الدراسات الإسلامية بموسكو: م 31 ج 10 ص 914 - 916) ومن هنا أصبحت اللفظة تشتمل على معنى الفضائل الاجتماعية، وأصبحت تدل على معنى الإنسانية في عصرنا الراهن. ونزول المروءة منزلة الفضيلة هو الذي جعلها جامعة كل الفضائل والأخلاق الكريمة. ومن هنا دارت عليها الآداب الجاهلية في م1 ص1 - 40)

فإذا أخذنا هذا موضعاً للنظر لم نجد معنى للإشكالات التي يثيرها الباحث والتي إن أورثت بعض الحيرة فهي لا تقنع الإنسان بوجهة نظر، ولا تجعله يرفض الأصل الذي ذهب إليه (جولد زيهر). ومن الإشكالات التي تصادفنا في هذا البحث ما ينقله الباحث عن العقد الفريد من تساؤل معاوية عن معنى المروءة - ج 1 ص 221 - وهو يستدل بذلك على التباس معنى اللفظة. غير أنه من الملاحظ أن مثل هذه الأسئلة التي ترد في كتب الأدب وفي كتب اللغة منحولة لأغراض واضحة ظاهرة منها، وإذن يكون الاستدلال بهذه

ص: 85

الروايات في حدود دائرتها الحقيقية، لا تحميلها وجهاً لا تدل عليه. ثم عندك الروايات التي يأتي بها الباحث محملاً كل رواية دلالة خاصة للفظة (المروءة) التي ترد فيها، وهو بهذا يريد أن يقرر أن معنى المروءة كان ملتبساً على الناس. على أنه لو لاحظنا التفسير الذي قدمناه والذي يسير عليه أعلام الاستشراق في أوربا فإن كل هذه الروايات تتسق معانيها وتتوضح من أصل جامع للفضائل التي تقوم على الصلات بين الفرد والجماعة، والتي يتقوم بمفهوم فضائلها لفظ السيد. وإذا كان الباحث لا يجد غير قول واحد ينزع فيه معنى المروءة إلى السيادة في العربية، فلا أظنه جمع شوارد العربية وأوابدها واستعمالات ألفاظها في كل النصوص التي انتهت إلينا حتى يحكم بهذه الدعوى. هذا ولولا حظنا أن دعوى الباحث تستند إلى أن ابن قتيبة لم يثبت في باب (المروءة) غير وجه واحد تنزع فيه اللفظة لمعنى السيد، فإننا نجد استنتاج الباحث أكثر مما يساعد عليه النص.

ومما يحسن بي الإشارة إليه أن كلمة (المروءة) وردت في اللغة العبرية وهي من أخوات اللغة العربية نازعة فيها لمعنى السيادة (دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91)

والبحث الرابع وقف على (التفرد والتماسك عند العرب) وهو في عمومه مراجعة - فيها نظر - لأقوال المستشرقين. وفي هذا البحث ينكر الدكتور بشر فارس نظرية التفرد المنسوبة للعرب، ويرى للعربي صلات اجتماعية في حدود الحي والقبيلة. وفكرة الباحث وجيهة، ولكن ما رأيه في كون التحاق العربي بقبيلته أو حيه مظهر من الأصل الطوتمي - عند العرب القدماء، والطوتمية مصدرها فردية صرفة؟ (أنظر عن طوتمية العرب 23 وماكلينان 53 - 56 ولنا علم الأنساب العربية ص 12)

ولنا أن نتساءل هنا: هل يرى الباحث أن صلات العربي تتجاوز جماعته ممثلة في الحي أو القبيلة؟ وإذا كان لا يرى ذلك كما يستفاد من مضمون كلامه، فلماذا؟ وإذا كان يرى سبب ذلك - كما يبدو من كلامه - العصبية، فما منشأ العصبية عند العربي؟ سيعود بها الباحث إلى الأسرة، ولكن لماذا تدفع الأسرة العربي للعصبية؟ أليس في ذلك شعور بالانعزال يقوي رأي الذين ينسبون التفرد للعربي؟. . .

والبحث الخامس يتكلم فيه عن (البناء الاجتماعي عند عرب الجاهلية) وهو بحث قيم

ص: 86

مستخلص من كتاب الباحث (العرض عند عرب الجاهلية)) ومما نلاحظه على هذا البحث أن الكاتب يقول: (ولا شك أن القبيلة بنو أب واحد من حيث تحتمل تجمع أسر أرومتها واحدة - ص 85 - وهو في هذا الكلام يستند إلى المخصص لابن سيده. ولكنا على الرغم من ذلك نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة (ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج 3 ص 187) والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التي تناثرت في الصحراء من القبائل العربية التي تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب (الفهرست ج 3 ص 187 وكذا لنا علم الأنساب العربية ص 13 - 14)

أما المبحث السادس فوقف على (تاريخ لفظة شرف) ومطالعات الباحث في هذا المبحث جديرة بالنظر فيها والتأمل في مواطنها لقيمتها. والبحث السابع والأخير فمن تحقيق في (بعض) الاصطلاحات) وملاحظاته في هذا المبحث قيمة

هذا هو كتاب (مباحث عربية) وهو كتاب فريد في موضوعه وفي نهج بحثه وفي منحى تحقيقه؛ يدل على أن صاحبه صاحب ذهنية علمية متزنة يتصدى للموضوعات على أساس من التقصي للأصول والفروع مع دراية تامة بأساليب البحث. والمآخذ التي أخذها على أهميتها لا تنال من قيمة البحوث ولا من الجهد العلمي المبذول فيه. والواقع أن الدكتور بشر فارس حمّل اللغة العربية بكتابة هذا بحثاً جدياً في مسائل اجتماعية وأخرى لغوية على أساس من التحقيق العلمي ومن الطريقة العلمية الصحيحة. وتنظيم الكتاب يدل على ذوق فني وعلى تمكن من أساليب التنظيم العلمي والأخذ بسبل التبويب الصحيحة، ولا شك أن الدكتور بشر فارس بكتابه هذا شق الطريق للبحث العلمي الجديّ ولو لم يكن له غير هذا الجهد لكفى ذلك التقدير

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 87

‌في سبيل العربية

كتاب البخلاء

للأستاذ محمود مصطفى

(تتمة)

ص 158 عند الكلام على أن تثمير المال في بناء البيوت يعود على أصحابها بالضرر بسبب مماطلة السكان وتقطيع الأجرة عند الدفع قال:

(فصارت لذلك غلات الدور - وإن كانت أكثر ثمناً ودخلاً - أقل ثمناً وأخبث أصلاً من سائر الغلات)

وإن نظرة عارضة إلى العبارة توجب علينا مراعاة المقابلة التي أراد أن يعقدها القائل للعبارة فإنه يقول إنها وإن كانت في الأصل أكثر ثمناً ودخلاً صارت الآن بمعاملة السكان لأصحابها أقل ثمناً وأخبث دخلاً) ومن هنا ظهر خطأ الشارحين في إثبات كلمة أصلاً بدل دخلاً، ومحاولتهما ما لا يستقيم من الشرح على هذا الاعتبار حتى اضطرا أن يقولا:(في العبارة شيء من التجوز يظهر للمتأمل) والواقع أن الذي يظهر للمتأمل هو تحريفهما أو قبولهما لتحريف كلمة دخل إلى أصل

في ص 160 يرد في الحديث عن إساءة السكان إلى صاحب المنزل (إن عفا عفا على كظم ولا يوجه ذلك منه إلا إلى العجز، وإن رام المكافأة تعرض لأكثر مما أنكره) فيعلق الشارحان بقولهما: (وإن أراد أن يكافأ بالمعروف على معروفه وبالإحسان على إحسانه كان عرضة لأن يلحق به من الأذى أكثر مما أنكر هو منه واستفظعه. ولا شك في أن الشارحين لا يفهمان المكافأة إلا على أنها المقابلة الحسنة، وهو المعنى الذي يفهمه منها صغار التلاميذ حين يسمعون من معلميهم أسماء المكافآت ومنحها عقب الامتحان أو القيام بعرض ألعابهم في حفلات آخر العام.

فأما المكافأة بمعنى المقابلة مطلقاً أو المجازاة بخير أو شر فهي في كتب اللغة فحسب، لم تخرج بعد إلى خير الموجود ولم يسمح لها بطروق آذان الشارحين؟!

وغريب جداً من أمر الشارحين أن يدورا في كلامهما ويتجنبا الوقوع في هذا المعنى كأنما

ص: 88

هو منكر لا يريدان أن يقعا فيه مع أن استقامة الكلام تستلزمه ولكنهما يحيدان عنه عملاً بالأمانة اللغوية التي في عنقهما لمعنى المكافأة!

في ص 165 وردت هذه العبارة: فمدحتم من جمع صنوف الخطأ وذممتم من جمع صنوف الصواب. فاحذروهم كل الحذر ولا تأمنوهم على حال

وفي الشرح يقول الأستاذان الفاضلان: (من جمع صنوف الصواب) أي وهو من سميتم (بخيلاً) و (من جمع صنوف الخطأ) أي وهو من سميتم (جواداً) ثم يعلقان على عبارة (فاحذروهم) بقولهما الضمير يرجع إلى الذين تسمونهم أجواداً وهو التفات من صيغة المفرد إلى الجمع.

ومعنى ذلك في رأي الشارحين أن القائل للعبارة استعمل اللفظ مفرداً ثم أعاد عليه الضمير جمعاً لأن لفظ (من) في نظرهما مفرد بدليل تفسيرهما بقولهما (أي وهو من سميتم بخيلاً) فقوله بعد ذلك فاحذروهم يكون خروجاً عن مقتضى الظاهر إذا الظاهر في رأيهما أن يقول فاحذروه ما دام الضمير عائداً على (من)

وفي هذا الكلام خطآن ظاهران: أما أولهما فبلاغي وهو اعتبار مثل هذا الخروج عن الأصل (إن كان) التفاتاً، والالتفات لم يعهد إلا في العدول عن الخطاب إلى الغيبة أو عكس ذلك أو ما أشبهه مما لا نطيل به، فأما إرجاع الضمير جمعاً إلى لفظ مفرد فلم يدخل في حساب البلغاء أن يعقدوا له هذه التسمية أو غيرها

وأما الخطأ الثاني فهو عدم تنبه الشارحين إلى أن لفظ (من) من الألفاظ التي يصح اعتبارها مفرداً وغير مفرد فيعاد عليها الضمير على حسب ذلك الاعتبار وهنا اعتبرها القائل جمعاً فأعاد إليها الضمير كذلك. ونرى أن هذا الكلام من الوضوح بحيث نعد أنفسنا مسرفين إذا توسعنا فيه أكثر من ذلك

في ص 178 في الحديث عن آداب السلف على الطعام وأنهم كانوا لا يمدون أيديهم إلى الجدي الذي يقدم آخر الطعام لعرفانهم أنه إنما يقدم ليجعل علامة الختام والفراغ، حتى قال أبو الحارث جمين حين رآه لا يمس (هذا المدفوع عنه) ويعلق الشارحان على هذه العبارة الأخيرة من كلام جمين بقولهما: أي هذا الذي لا تناله الأيدي بالأذى. والمراد التعجب

والذي نقوله: إنه لا تعجب ولا شبه تعجب، بل هو إخبار بالواقع لأنه لما رآه لا تمد إليه

ص: 89

الأيدي لأنه جاء بعد الشبع وصفه بهذا الوصف فأين التعجب الذي في كلام الرجل؟

في 183 يحكي الجاحظ حال ابن أبي المؤمل في معاملة ضيفانه وذيادهم عن طعامه، فإنه كان إذا قدم عليه زائر ابتدره قبل أن يستقر في مجلسه وقبل أن تذهب عنه وحشة المكان بقوله لخادمه هات يا خادم شيئاً لفلان ينال منه. فإذا قال الضيف قد فعلت سجل عليه تلك الكلمة ثم يقول الجاحظ:

فإذا استوثق منه رباطا وتركه لا يستطيع أن يترمرم لم يرض بذلك حتى يقول في حديث له: كنا عند فلان فدخل عليه فلان فدعاه إلى غدائه فامتنع ثم بدا له فقال: في طعامكم بُقيلة أنتم تجيدونها

وهنا يضع الشارحان علامة الاستفهام بعد كلمة تجيدونها ووضع الاستفهام هنا خطأ لأن الجملة خبرية والمعنى أن الضيف بدا له أن يعدل عن الاعتذار من الأكل فأحب أن يتطرق إليه بقوله إنكم تجيدون عمل هذه البقيلة التي أراها على المائدة أي فهو يقدم لقيامه إلى المائدة بهذه المقدمة، وابن أبي المؤمل إنما يحكي لضيفه هذه الحكاية ليأخذ عليه طريق هذه الحيلة فالكلام خبر على وجهه ولا رائحة للاستفهام فيه

وفي ص 185 يرد كلام ابن أبي المؤمل:

ومن لم يشرب على الريق فهو نكس في الفتوة دعي في أصحاب النبيذ وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب) فيذكر الشارحان في معنى النكس أنه المقصر عن غاية المجد والكرم وأنه الرجل الضعيف ثم يقولان يعني أن من لم يشرب على الريق فهو ضعيف الكرم مقصر فيه، وهذا خطأ وإنما المراد أن من لم يشرب على الريق فهو ضعيف في فتوته ناقص الصلابة في جسمه بدليل قوله بعد ذلك وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب.

ولا ندري السبب الذي من أجله حشد الشارحان في شرحهما معاني النكس من غير أن يكونا بحاجة إلا إلى معنى واحد منها على حسب ما رأيا في شرحهما. وما نرى ذلك إلا تضليلاً للقارئ وتردداً من الشارح. وإنما الواجب تلمس ما يناسب المقام ثم المضاء في القصد إليه وحده. فأما هذا الاستكثار من أقوال أصحاب المعاجم فليس فيه كبير فائدة لمن أسلم ذهنه إلى شارح وثق به واعتمد عليه في هدايته إلى الصواب

ص: 90

قد انتهينا وما انتهينا من التعليق على شرح أستاذينا الفاضلين، ذلك أننا تركنا كثيراً من القول رأينا أن فيه تطويلاً، وأنه لا يتضح فيه الصواب إلا ببسط كثير وتعليل واسع، ولكنا نكتفي بما أثبتنا معتقدين أننا أدينا الخدمة خالصة لكتاب الجاحظ ولقرائه ولشارحيه، والسلام

محمود مصطفى

ص: 91