المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 313 - بتاريخ: 03 - 07 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣١٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 313

- بتاريخ: 03 - 07 - 1939

ص: -1

‌من هذيان الحر.

. .

نحن يا صديقي القارئ من سموم تموز على حالٍ سواء: أنا لا أحسن الكتابة، وأنت لا تحسن القراءة؛ فتعال أهذِ أنا وتسمع أنت؛ فإن الهذيان في الحر كالهذيان في الحمى تنفيس عن الروح المكروب، وتخفيف عن الدم الفائر، والهذيان كلام كفورة الإناء ليس له نظام ولا فيه عقل؛ ولكنه كحلم النائم لا تغلب فيه جملة على جملة، ولا تظهر به صورة دون صورة، إلا لأن لهما في العقل الباطن أثراً، وبالروح اليقظان صلة. ولعلك واجد في لواغي المحموم والملموم والنشوان والنائم من ومضات الحق ما لا تجده أحياناً في بعض الكلام. ولقد كان في قرى الريف جماعة من الممسوسين المستهامين يعتقد الناس أن وسوستهم من كشف الغيب وإنذار القدر؛ وربما أصابوا في لحونهم توجيهاً إلى منفعة أو تنبيهاً إلى مضرة!

يقولون: في شهر تموز، يغلي الماء في الكوز، ويجري الشر على البوز! فهل صمم الفوهرر أن يفتح في (دانزيج) طاقة من جهنم تجعل البحر حميماً على كل مستجم، والجبل جحيماً على كل مصطاف؟ ما ضر هتلر أن يمهل الأغنياء المدللين حتى يبذروا الذهب في مدن المياه، كما أمهل الفقراء المساكين حتى حصدوا الحنطة في قرى اليابسة! ماذا يصنع ذلك الأمير أو ذلك الكبير الذي وقف دخل العام كله على هذا الشهر، فقسم أمواله بين موائده الخضر في كل ساحل، وفرّق آماله على مواخيره الحمر في كل حضيض؟ أيجوز أن يحرمه هتلر غدوات القمار وأصائل الغزل وأماسي الرقص وأسحار الفتون، لأنه يريد أن يتسع وطنه، ويرتفع شعبه، وينتشر سلطانه؟ هل هانت الأرستقراطية على الناس إلى هذا الحد؟

لو كنت ذلك الأمير أو ذلك الكبير لصحت ملء فمي: لعن الله

الديمقراطية والدكتاتورية! فإنهما منذ رفعتا كلمة الشعوب فوق إرادة

السادة، ونقلتا سلطان الملوك إلى الساسة والقادة، هوت الأرستقراطية

إلى الدرك الأسفل من بناء المجتمع، وأصبح أهلها كدُمى الأثاث توضع

للزينة، أو كذلاذل الثياب ترسل للحلية. لقد كانت الحرب في عهد العزة

ص: 1

الأرستقراطية لا تقوم بين إمارتين أو مملكتين إلا لأن الأمير أو السيد

أراد أن يصيد فصُدّ عن الأرض، أو يخادن فدُفع عن المرأة، أو ينفق

فعجز عن المال. أما اليوم فمن مهازل الدهر أن تشب الحرب بين

دولتين أو قارتين لأن عاملاً فقيراً أراد ليده عملاً فلم ينل، أو تاجراً

حقيراً طلب لبضاعته سوقاً فلم يجد!!. وفساد الأمر كله إنما جاء من

وضع الحكم في أيدي المتعلمين من أبناء الصناع والزراع والعملة!

آمنت أن الله خلق في الناس العُلّيق والعلق. فالعلّيق نبات يتسلق ما يقربه من الشجر فيعلوه ويلتف به ويعرش عليه حتى يحرمه نسم الريح وضوء الشمس وجلال الرفعة. والعلق دود يتعلق بمن يمسه من الحيوان فينشب فيه خرطومه، ثم يمتص دمه ويستلب حياته.

فهؤلاء الأتباع والأوزاع الذين يلتفون حول (أبناء الذوات) يهرّجون لهم في الحديث، ويروجون لهم المنكر، ويتطالون من وراء أكتافهم إلى فخفخة الحياة، هم علّيق.

وهؤلاء (البلطجية) الأوشاب الذين يلقون أبدانهم الثقيلة على عواتق البغايا الضعاف والتجار المساكين فيفرضون عليهم بالقوة ملء البطون والجيوب من السحت والأثم، هم علق.

وأولئك المتزعمون المتبطلون الذين قصروا جهدهم في الحياة على أن يتخاطفوا عصا القيادة ويتنازعوا كراسي الحكم، ووسيلتهم إلى ذلك أن يقوموا على هامش الطريق أبواق فتنة، أو يقفوا في سوائه أحجار عثرة، هم علّيق.

وأولئك المترفون المسرفون الذين استولوا على الأرض من غير ثمن، وتسلطوا على الفلاح من غير سلطان، فأكلوا ثمرة الزرع حتى انتفخوا وشربوا عرق الزارع حتى طفحوا، هم علق.

وأولئك النقاد المتخرصون الذين يتهجمون على أعيان العلم والأدب باللغو والجهل والسفه، ليدركوا نباهة الذكر من بلاهة العامة، هم علّيق.

وأولئك المؤلفون المزيفون الذين يستغلون ضعف المعلمين وفقر الأدباء فيكلفونهم أن يكتبوا المقالات وهم يمضونها، ويضعوا الكتب وهم يستلحقونها، ويربحوا الأموال وهم يقبضونها،

ص: 2

هم علق.

وأولئك الرؤساء البلداء الذين يحملون على الموظف الصغير بالإعنات والقهر حتى يكفيهم كل رأي في التقارير، وكل نظر في الأضابير، ولا يدع لهم إلا نفخة الشدق بالأمر، ولطعة الإمضاء بالخاتم، هم علّيق. وأولئك الموظفون المخادعون الذين يسرقون جهود زملائهم بالمكر، ويكسبون رضى رؤسائهم بالملق، ويلقون التبعات عن كواهلهم بالحيلة، هم علق

ولو شئت لحدثتك عن العليق والعلق في كل طائفة؛ ولكن مالنا نبغّض الهابط إلى الصاعد، ونحرض الساعي على القاعد، ولا نترك شؤون الخلق للخالق؟

إن عقرب الساعة يهدف إلى السابعة في خُطى غير منظورة؛ وإن أنفاس المساء الندية قد أخذت ترف بطراءتها على الغرف المحرورة. وهأنذا أشعر شيئاً فشيئاً بحمّاي تذهب، وبرشدي يثوب، وبدمي يسكن، وبذهني ينتعش، وبفكري يتجمع، وبقلمي يجري على الورق بكلام لا أدريه، وبالغلام يطلب المقال للجمع فلا أستطيع أن أصرفه لأعيد النظر فيه!

ص: 3

‌بيلاطس (باشا)

للأستاذ عباس محمود العقاد

بيلاطس هو الوالي الروماني الذي حكم البلاد اليهودية من قبل الإمبراطور طيبريوس عشر سنوات ظهر في أثناءها السيد المسيح وسيق إليه متهماً بما نسميه اليوم (الخيانة العظمى) والانتقاض على النظام القائم والدولة الحاكمة. فخشي بيلاطس أن يطلقه وأشفق من الحكم عليه وهو لا يدينه بجريمة، فأسلمه إلى قومه يدينونه بما عندهم من شريعة، ويجزونه بما اصطلحوا عليه من عقاب

وكان بيلاطس رجلاً حاذقاً أريباً ولكنه في بعض الأمور معوج الأساليب معرض للريبة والشكاية إلى (المراجع العليا) كما نقول اليوم

فمن أساليبه أن اليهود ثاروا عليه بتحريض الكهنة والرؤساء فلم يقمعهم بقوة القانون، ولم يرسل عليهم الجند ظاهرين، ولم يحمل أمام الناس وأمام المراجع العليا تبعة القمع والقسوة في علاج هذه الثورة، بل ألبس الجند ثياب الشعب وسلحهم بالمدى والخناجر وأمرهم أن يندسوا في غمار الشعب الهائج فيمنعوا فيه تجريحاً وتقتيلاً حتى يتفرق الجمع وتثوب المدينة إلى السكينة، ولا جناح عليه فيما زعم، فإنما هي مشاجرة جامحة بين يهود ويهود!

أمثال هذه الأساليب مع شيء من الطمع وشيء من الترف هي التي أخافته من اليهود ومن رفعهم أمره إلى عاهل الرومان فأسلمهم السيد المسيح وهو يقول في ضميره كما هو رأيه: يهود في يهود!

هذا هو بيلاطس. فمن أين جاءته الباشوية التركية ولم تظهر لها دولة في أيامه، ولم يكن لها معنى في ذلك العهد معروف؟

لم تجئه الباشوية التركية ولكنها جاءت إلى رجل يشبهه أقرب الشبه في العصر الحديث، وهو حاكم الإقليم المعروف ببحر الجاموس من أقاليم السودان في أعالي النيل، وهو كسائر الحكام هناك إنجليزي صميم لعله لا يحمل اللقب من الترك ولا من المصريين، ولكنه (وال) والوالي هناك لا يكون إلا (باشا) في لسان رعاياه، مجاراة للعرف الذي شاع في تلك الأقاليم النائية منذ سمعوا بالولاة العثمانيين

ولم يكن اسمه بيلاطس ولكنه عرف باسم بريدج، أو قد شاء المؤلف أن يعرفه لنا بهذه

ص: 4

التسمية، وقد عالج مسألة كالتي عالجها الوالي الروماني على نحو كالذي انتحاه ذلك السلف القديم، فهو من ثم بيلاطس حديث!

وبيلاطس باشا هو اسم الرواية التي تقص لنا نبأه مع مسيحه عيسى بن النجار، وتشرح لنا من أحوال السودان الأعلى ما يغني عن مطولات في السياحة والتاريخ، وتتمثل لنا بقلم مؤلفها ميكائيل فوسيت صحيحة من وثائق الاستعمار البريطاني في القارة الأفريقية

أول فائدة تستفاد من قراءة هذه الرواية أن يأتي عليها القارئ الذي له معرفة يسيرة بأهل السودان فلا يلبث أن يقول: نعم! هذا يحصل!

ثم يرجع إلى تاريخ السيد المسيح فيرى من الموافقة والمخالفة ما يدله على الجائز وغير الجائز من ذلك التاريخ، ويقول على بصيرة: نعم هذا محتمل الحصول، وهذا لا يقع في الاحتمال

ولا ريب عندنا في أن المؤلف قد جهد بعض الجهد لتقريب الموافقة والمشابهة بين التاريخين

فاسم المهدي السوداني الذي تحدث عنه (عيسى)، واسم أمه (مريم)، واسم الخاطئة التي صبت على رأسه الطيب مريم المغربية، وصناعة الرجل الذي دل عليه الصرافة، وكراماته أو الكرامات المنسوبة إليه شبيهة بمعجزات السيد المسيح، والحوار بينه وبين المدير بريدج كالحوار بين المسيح عليه السلام وبيلاطس، ولأسباب التي أثارت الجمهرة ورجال الدين على مهدي السودان الأعلى هي الأسباب التي أثارت الجمهرة والأحبار على رسول الناصرة، والموعد يوم عيد، وكل شيء متفق متقارب حتى رجاء الشعب من الحاكم أن يطلق لهم نخاساً سفاكاً للدماء كعادته في العفو عن بعض المسجونين في أيام الأعياد

ولكن العجيب من أمر الرواية أن من يجهل تاريخ المسيحية يقرأها فلا يستغربها ولا يشعر بجهد المؤلف في ذلك التقريب والتوفيق لأنها إذا حصلت فأغلب الظن أن تحصل هكذا بغير اختلاف كبير

وقد سمعنا نحن بأنباء مهديين متعددين ظهروا في تلك الأقاليم، وسمعنا عن واحد منهم أباح بعض المحرمات ورفع بعض التكاليف، واحتج لذلك بما شاء من التعلات والتأويلات. ويخيل إلينا أنه هو هذا الذي عناه صاحب الرواية لقربه من مكانها، وقربه كذلك من

ص: 5

زمانها، وهو حوالي مقتل (لي ستاك) حاكم السودان، فإن كان في الرواية توفيق مقصود فليست فيها مبالغة ولا شذوذ عن المعقول

على أن القارئ لا يستفيد هذه الفائدة وحدها من قراءة الرواية لأنه يعرف منها أشياء شتى عن أساليب الإنجليز في استعمارهم لأمثال تلك الأرجاء، وسياستهم لأمثال تلك الشعوب، واضطلاعهم بتصريف الأزمات وهم بعيدون عن الرؤساء كلما طرأ من الحوازب ما يدعو إلى تصريف سريع

فالحاكم (بريدج) يعرف العربية معرفة جيدة، وهو ومساعدوه يقرءون تاريخ النوبة وتاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه السلام ومذاهب العلماء في الظواهر النفسية والنقائض الاجتماعية، ويتتبعون أخبار الاستعمار في الدول الأخرى فيعتبرون بها أو يقيسون عليها ويأخذون بصوابها ويجتنبون أخطاءها

فإذا شغلوا الناس بالألعاب والمسابقات في المواسم الوطنية أو المواسم الإنجليزية فلعلة يصنعون ذلك لا لمجرد اللهو وتزجية الفراغ. أو كما جاء على لسان واحد منهم وهو يتكلم عن الحاكم: (لقد تعلم مما قرأ عن مجرى الأمور في ميلانيزيا وغيرها من جزائر المحيط الهادي، فإن المبشرين هنالك قد غيروا من عقائد أبناء البلاد، فأعرض هؤلاء عن العراك فيما بينهم وزهدوا في الرقص وليالي السرور، وضعفت في نفوسهم حمية الحياة وشهوة البقاء. إنهم لا يعيشون أو لا يرسلون شعلة الحياة إلى ما بعدهم من الأجيال فهم على وشك الانقراض. وهكذا يحدث هنا فيوشك أن ينقرض القوم أو هم على الأكثر متماسكون لا ينمون مع الأيام. لقد منعنا العراة أن يقتتلوا، ومنعنا العرب أن يغيروا على العراة، فشق على هؤلاء وهؤلاء أن يشغلوا أنفسهم وأن يفثأوا ما في طبائعهم من شوق إلى الصيد والنضال، وفارقتهم حماسة العيش. فهذا الذي جعل الحاكم بريدج مهموماً بإيقاظ تلك الطبائع وتوجيهها بعد تهذيبها إلى حب الرياضة والمغالبة في هذا المضمار.

وجاء على لسان أحدهم: (من هم المسلمون حق الإسلام في زماننا هذا؟! إنهم لنحن نحن طلاب الحقائق العلمية. إنهم لنحن نحن أصحاب الإيمان بالتوحيد الشامل لأبعد الكواكب وأصغر الذرات، وعلى ديننا هذا يدور العمل وتأتي الأعاجيب من اليابان إلى فلباريزو، ومن رأس الرجاء إلى سبتزبرجن، إلى ماوراء هذه وتلك من أرجاء القطبين. نحن نطلب

ص: 6

الحق وليس غير الحق نطلب. ونحن لا نتبع نبياً واحداً ولكننا نستقصي كل شيء، ونمحص كل شيء، وننبذ كل باطل، ونرفض كل ضلال)

ومع عناية هؤلاء الحاكمين بالخفايا النفسية في الرعايا الفطريين أو ذوي النصيب المحدود من الحضارة تراهم لا ينسون العناية بإرضاء القوم ومجاراتهم فيما يشتهون مما لا ضرر فيه

فيبعث الزعيم من الزعماء البدويين إلى الحاكم في طلب طبيب يشفيه من عرج مزمن فلا يرده الحاكم ولا ييئسه من الشفاء، بل يكلف خير أطبائه أن يحمل معه الجهاز الكهربائي والبلاسم الضرورية ويزوده بالنصائح التي تنفعه عند الرجل وذويه. . . ثم لا ينسى أن يهمس في أذنه وهو منصرف: ولا تنس أن تأخذ معك شيئاً من عقاقير الباه فإنهم سائلوك عنها لا محالة وفي مقدمتهم المريض!

وإذا حسن لديهم أن يتوخوا مظاهر الهيبة بين المحكومين فليس ذلك بمانعهم أن يحتالوا على تمليقهم ومجاملتهم كأنهم خدم مسخرون في طاعة السادة ذوي الأهواء والبدوات. وهكذا يساس الملك في جميع الأقطار، ولا سيما في أقطار يلخص حاكمها مشاكلها كلها فيقول: إنها تنحصر في مشكلة واحدة وهي: (مسافات الأماكن ومسافات الأحوال)

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌جناية أحمد أمين على الأدب العربي

للدكتور زكي مبارك

- 4 -

عجب ناسٌ حين رأونا نقول بأن الأستاذ أحمد أمين ينظر إلى الأدب وإلى الوجود نظرةً عامية، واستكثروا أن نحكم هذا الحكم على رجل من أساتذة الجامعة المصرية

ونجيب بأننا لم نظلم هذا الصديق، وإنما نفسه ظلم، فهو الذي يبني أبحاثه على قواعد المسلّمات والمقررات عند عوامّ الباحثين، وذلك يشهد بأن الابتكار والابتداع بعيدان كل البعد عن ذهن هذا الباحث المفضال

يعلن الأستاذ أنه يحتقر المعدة ليصح له التطاول على ماضي الأدب العربي؛ واحتقار المعدة لا يقوم على أساس من الواقع ولا من المنطق، وإنما هو مجاراةٌ للعوامّ الذين يصعب عليهم أن يدركوا أن النفس تتبع الجسم في الصحة والمرض، والقوة والضعف، والنشاط والخمول، ويعسر عليهم أن يفهموا أن الإنسان يرى المعنويات والمحسوسات بأشكال مختلفة في وجوه متباينة تبعاً لاختلاف الذوق والحسّ والمزاج

والواقع أننا عبيد لحواسنا وأعصابنا، وأن جمهورنا مدين في تكوين ذوقه وحسه وعقله إلى ما يأكل وما يشرب وما يلبس وما يرى وما يذوق. وقد راعى ذلك فقهاء الشريعة الإسلامية حين وضعوا آداب القضاء، فقد استحبوا للقاضي أن يمتنع عن الحكم إذا شعر ببعض عوارض المرض أو الظمأ أو الجوع

قلنا من قبل إننا لا نهجم على هذا الرجل بلا تأثّم ولا تحرّج، فالله وحده يعلم أننا نهجم عليه كارهين، لأنه صديق لم نر منه غير الجميل، ولأن له أصدقاء كنا نحب أن لا نؤذيهم بالهجوم عليه، فلنا فيهم إخوان أعزاء

ولكن هل يجوز أن يكون أحمد أمين وأصدقاؤه أعز علينا من الحق؟

هل يجوز أن نترك هذا الرجل يتحذلق ذات اليمين وذات الشمال مراعاةً للأخوة الغالية التي جمعت بيننا وبينه منذ نحو عشرين عاماً؟

إن أحمد أمين يجور على ماضي الأدب العربي بلا تحفظ ولا احتراس، وأغلب الظن أنه ما كان ينتظر أن يقول له أحد: (قف مكانك، يا أحمد أمين، حتى تدرس الأدب العربي

ص: 8

دراسة تمكنك من الحكم له أو عليه)

وساعده على الاطمئنان إلى السلامة من عواقب ما يصنع أنه يصدر أحكامه الخواطئ في وقت خمد فيه النقد الأدبي. فهو يظن أنه لن يجد من يرشده إلى التصدر لأستاذية الأدب العربي يوجب حتماً أن يكون ذلك المتصدر أدبياً يتذوق المعاني ويدرك الفروق بين أساليب البيان.

فإن كان القراء في ريب من ذلك. فإنّا ننقل إليهم أحكامه على مقامات بديع الزمان، ومقامات الحريري؛ ننقلها بالحرف ليستطيعوا متابعتنا في تبيين ما فيها من خطأ وضعف.

قال الأستاذ أحمد أمين:

(ثم انظر بعدُ إلى الفن المبتكر في العصر العباسي، وهو فن المقامات، فقد ابتدعها بديع الزمان الهمذاني، فلم يجعل محورها حبّاً ولا غراماً كما يفعل الروائيون اليوم. ولم يجعل محورها شيئاً يتصل بأدب الروح، ولكنها كلها (أدب معدة). فأبو الفتح الإسكندري بطل المقامات كلها، رجل مكر واحتيال، يصطنع جميع المهن لابتزاز الأموال. نراه مرة قرّاداً يسلي الناس ويضحكهم، ومرة واعظاً مزيفاً يعظ وينصح؛ ثم تنكشف حيلته فإذا هو مهرج؛ ومرةً مشعوذاً يحتال على الناس بشعوذته ليفتحوا كيسهم ويغدقوا عليه من مالهم، وهو في كل ذلك مستجد سائل محتال. وجاء الحريري فجعل مكان أبي الفتح الإسكندري أبا زيد السروجي، وهو كصاحبه دناءة نفس، وخساسة حرفة. يشحذ ثمن كفن لميت يدّعيه، ويتعامى فتقوده امرأته إلى المسجد ليبتز أموال المصلين، ويجمّل غلامه ليوقع الوالي في شركه فيسلبه ماله وهكذا، ويتخذ الفصاحة والبلاغة وسيلة للتكدي والسؤال. . . أليس هذا كله أدب معدة؟)

ذلك كلام الباحث المفضال أحمد أمين نقلناه بحروفه لئلا نتّهم بالتجنّي عليه حين نحكم بأنه رجل لا يدرك أسرار الحروف، أبهذه الجرأة يحكم أحمد أمين على فن المقامات؟

لن نقول شيئاً يمس أحمد أمين، ويكفي أن نقف عند الملاحظات الآتية:

1 -

نلاحظ أولاً أن أحمد أمين لم يفهم أغراض الحريري وبديع الزمان، فهو يتوهم أنهما يحاولان إغراء الجماهير بالإقبال على ما في تلك المقامات من شمائل وخصال، ومن هنا جاز له أن يضيف أدب المقامات إلى أدب المعدة، ولو كان أحمد أمين درس مقامات

ص: 9

الحريري ومقامات بديع الزمان لأدرك بلا شك أن لهذين الرجلين غاية ما كان يصح أن تخفى على رجل يؤرخ الأدب بالجامعة المصرية.

فما هي تلك الغاية؟

هي غاية واضحة لمن يقرأ ويفهم، وهو بحمد الله ممن يقرءون ويفهمون، ولكنه لم يقرأ المقامات

الغرض من نظم المقامات عند بديع الزمان هو نقد الحياة الاجتماعية والأدبية في القرن الرابع. وفي سبيل هذا الغرض تعرض بديع الزمان لوصف ما رآه في زمانه من مثالب وعيوب، واهتم بتدوين ما عاناه الناس في تلك الأيام من حيل الدجالين والمشعوذين. وقد وصل إلى أبعد حدود الإجادة حين حدثنا عما كان يعرف أهل ذلك العصر من فنون الأدب ومذاهب المعاش، ولم يفته أن يقيد حيل اللصوص في تلك الأيام، بحيث صارت مقاماته سجلاً صادقاً لبعض أحوال المجتمع في القرن الرابع بأقطار فارس والعراق

وكذلك كان الغرض عند الحريري، فقد أراد أن يصور ما عرف الناس لعهده من ألوان الحياة، وأن يبين كيف كانوا يجدون وكيف كانوا يمزحون

وهناك غاية ثانية عند الحريري لم يفطن لها الأستاذ أحمد أمين وهي تقييد ما شاع في زمانه من ضروب الرموز والكنايات

ولا موجب لإيراد الشواهد، فسيعرف ذلك أحمد أمين حين يقرأ تلك المقامات

2 -

ونلاحظ ثانيا أن أحمد أمين غفل عن نظرية تعد من البديهيات، وهي أول ما يدرس طلبة الكليات، وهي النظرية التي تقول بأن للفن والأدب غاية أصيلة هي الصدق في وصف ما ترى العيون، وما تحس القلوب، وما تدرك العقول؛ وليس من الحتم أن يكون الأدب والفن جنديين في جيش الأخلاق، فبعض أشعار ديك الجن وأبي نواس أرفع قيمة من بعض ما كتب ابن مسكويه والغزالي، أرفع من الوجهة الأدبية والفنية، وأن كانت أضعف من الوجهة الدينية والخلقية

3 -

ونلاحظ ثالثاً أن أحمد أمين ينظر إلى الأخلاق نظرة سطحية، فلو أنه كان تعمق في دراسة الأخلاق لعرف أن الأخلاق تغلب عليها الصفة الاعتبارية، فما نعيبه اليوم من طرائق التعبير لا يجب أن يكون كذلك في أذهان من سبقنا من الأدباء في الأعصر

ص: 10

السوالف

4 -

ونلاحظ رابعاً أن أحمد أمين توهم أن فن المقامات وقف عند الحدود التي رسمها الحريري وبديع الزمان، ولو كان أحمد أمين من المطلعين على تاريخ الأدب العربي لعرف أن فن المقامات اتسعت آفاقه فشمل الزهديات والفقهيات، وتحول مع الزمن إلى أن صار من الأساليب التعليمية، ولذلك تفصيل سيهتدي إليه حين يقرأ تاريخ المقامات، وهو سيقرأ ذلك التاريخ لأنه يؤرخ الأدب بكلية الآداب

5 -

ونلاحظ خامساً أن أحمد أمين لم يعرف أن فن المقامات الذي ابتكره الهمذاني وأجاده الحريري قد انتقل إلى اللغة الفارسية واللغة العبرية واللغة السريانية، فهو من الفنون العربية التي وصل تأثيرها إلى ما جاورها من اللغات، وأدب المعدة لا يؤثر كل هذا التأثير

6 -

ونلاحظ سادساً أن الأستاذ أحمد أمين الذي أساء الأدب مع الحريري فجعل راويته مثالاً في (دناءة النفس وخساسة الحرفة) لم يعرف أن مقامات الحريري خدمت الأدب واللغة خدمة عظيمة جداً، فقد شُرحت تلك المقامات مرات كثيرة وشغلت الأدباء واللغويين في المشرق والمغرب، وكتبت بالذهب مئات المرات، وتهاداها الأمراء والملوك، وكان لها تأثير شديد في النهضة الأدبية الحديثة لأنها من أقدم ما نشرت مطبعة بولاق. وحديث عيسى بن هشام وهو أول كتاب مبتكر في الأدب الحديث له صلة بأسلوب المقامات

7 -

ونلاحظ سابعاً أن أحمد أمين لم يخطر بباله أن في مقامات بديع الزمان تحفة فنية نستطيع أن نباهي بها أدباء العالم في الشرق والغرب، وهي المقامة المضيرية، فقد بلغت من الروعة مبلغاً لم يصل إليه كاتب في قديم ولا حديث، ولو ترجمت إلى اللغات الأجنبية لعدها الأجانب من الأعاجيب

8 -

ونلاحظ ثامنا أن الجانب التعليمي في مقامات الحريري خفيت دقائقه على فطنة أحمد أمين، وما أحب أن أزيد!

9 -

وألاحظ تاسعاً أن أحمد أمين لم يدرك أن للكاتب حرية ذاتية في طريقة التأليف، فهو كان ينتظر أن يكون في المقامات حب وغرام كما يصنع الروائيون في هذه الأيام، وهو أيضاً يجهل أسلوب الروايات بعض الجهل، فالحب ليس ركناً أساسياً في تأليف الرواية كما يتوهم الناقد، وإنما هو وسيلة لدرس الشخصيات وللمؤلف الروائي أن يغفله حين يشاء

ص: 11

10 -

ونلاحظ عاشراً أن أحمد أمين لم يبتكر الهجوم على المقامات، وإنما نقله عن الأستاذ سلامة موسى، وسلامة موسى له عذر مقبول هو بعده عن التغلغل في أسرار الأدب العربي. فما عذر أحمد أمين وهو يتصدر لتدريس الأدب بالجامعة المصرية؟

ألم أقل لكم أن أحمد أمين يعتمد على ما يقرأ ويسمع بلا نقد ولا تمحيص؟ إن أحمد أمين يتوجع فيقول:

(أصبحنا إذا قرأنا ما يقوله الإفرنج عن تعريف الأدب بأنه (نقد الحياة) عجبنا من هذا التعريف، لأنا لا نرى الأدب العباسي ينقد الحياة، وإنما يصف نوعاً من حياة القصور، فأما الشعب فلم يوصف إلا قليلاً)

ولو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن مقامات الهمذاني والحريري هي من الصميم في (نقد الحياة)

وكيف يكون وصف القصور بعيداً عن (نقد الحياة) يا أحمد أمين، وأنت تعرف أن القصور في تلك الأزمان كانت محور الحياة؟

وهل يستطيع الأدب أن يخرج على واجبه في (نقد الحياة) حين يتحدث عن الوزراء والملوك والخلفاء؟

وهل كانت المدائح والأهاجي إلا دساتير لحياة الناس في تلك الأزمان. . .؟

و (الشعب) الذي يتحدث عنه أحمد أمين هو نفسه الذي كان يتلقى المدائح والأهاجي بالقبول، وهو الذي كان يروي ما يقوله الشعراء في الرؤساء والملوك، فهو قد اشترك فعلاً في مسايرة الاتجاهات الأدبية في العصور الخالية

أحب أن أعرف رأي الأستاذ أحمد أمين في التصحيحات التي قدمناها إليه

ألا يزال يعتقد أن الهمذاني والحريري كانا يضعان دستوراً لحياة الصعلكة والتشرد والاحتيال؟

أيكون انتفع بهذا الدرس فعرف أن فن الهمذاني والحريري يقوم على أساس السخرية من بعض أخلاق الناس في تلك الأزمان؟

أحب أن أعرف كيف يحرم على أمثال الهمذاني والحريري أن ينقدوا المجتمع بالرسائل والقصائد والأقاصيص، وهو مذهب استحله كتاب الإنجليز والفرنسيين والألمان؟

ص: 12

لو كان أحمد أمين من المطلعين على تاريخ الأدب العربي لعرف أن أدباء العرب فهموا أن فن المقامات ليس إلا وسيلة للتعبير عن طوائف من الأغراض، ومن أجل ذلك تصرفوا فيه فنقلوه من ميدان إلى ميادين، وحملّوه ما شاءوا من المذاهب والآراء

وما فهمه أدباء العرب فهمه أدباء الفرس حين اتخذوا المقامات وسيلة لشرح المذاهب الدينية والفلسفية، وعرض الصور الفنية والأدبية، وكذلك فعل بعض اليهود وبعض السريان فضمنوا المقامات طوائف من العضات والأخلاق

ثم ماذا؟ ثم ماذا؟

ثم يقول الأستاذ أحمد أمين:

(وانتشر بجانب أدب المقامات نوع آخر من أدب المعدة بمعناه الحقيقي هو أدب التطفيل. . . وخلف لنا الأدب وصيتين طويلتين يوصي بهما نقيب الطفيليين ولي عهده: إحداهما من إنشاء أبي اسحق إبراهيم بن هلال الصابي الأديب المعروف، والثانية من إنشاء المولى تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني)

ذلك ما قال أحمد أمين، وهو بما قال رهين

فهل يفهم هذا الرجل أن الصابي كان يجّد حين أنشأ تلك الوصية؟

لو كان أحمد أمين قرأ كتاب النثر الفني لرأى المؤلف يقول:

(ومن أظرف ما كتب على طريق الهزل والفكاهة (عهد التطفل) وهو عهد أنشأه أبو اسحق الصابي على لسان طفيلي اسمه (عليكا) كان يقع على مائدة معين الدولة بن بويه، والطريف في هذا العهد أنه يجري على نمط العهود السلطانية فيبدأ بعرض خصائص العهود إليه، ثم يعيّن المهمات التي كُتب من أجلها العهد)

إن الأدب هو (نقد الحياة) كما يقول الإفرنج، فهل يكون من الفضول في (نقد الحياة) أن يعمد كاتب مثل الصابي إلى السخرية من طائفة طفيلية كانت تعيش على هامش المجتمع في القرن الرابع؟

وهل يطلب من الكاتب أن يغفل وصف الطفيليين لئلا يقال إن أدبه أدب معدة؟

وما قيمة الأدب إن سكت عن وصف عيوب المجتمع؟

إن العصر العباسي هو من العصور التي اشتبكت فيها النوازع الإنسانية فكثر فيه الجدل

ص: 13

والهزل، والعفاف والمجون

فكيف يجوز أن يقف الأدب عند غاية واحدة هي وصف الجانب الرزين من المجتمع؟

إن ذلك لا يجوز إلا في ذهن رجل يجهل أن غاية الأدب هي (نقد الحياة)

أتحبون أن تعرفوا من أين وصل الخطأ إلى الأستاذ أحمد أمين؟ وصل إليه الخطأ من التلمذة للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين، فقد حكم الدكتور طه بأن العصر العباسي عصر شك ومجون، لأن فيه عصابة مشهورة بالزيغ والفسق، وهي جماعة أبي نواس ومطيع بن إياس، مع أن العصر الذي عرف أمثال هذين الرجلين هو نفسه العصر الذي نبغ فيه كبار الفقهاء والنساك والزهاد، وهو الذي بلغ فيه الفكر العربي غاية الغايات في فهم أصول الفلسفة وأصول الأخلاق

فهل خطر في بال أحمد أمين أن العصر العباسي لا يصح الحكم عليه بإيثار المعدة وإغفال الروح من أجل كلمة أو كلمات في وصف الاحتيال على الطعام والشراب؟

تذكّر يا أستاذ أمين أنك أستاذ مسئول، وتذكّر أنك بالفعل رجل محترم، ولأغلاطك تأثير سيئ في تلاميذك، وفيمن يثقون بك فيأخذون عنك بلا مراجعة ولا تدقيق.

تذكر، يا أستاذ، أن للدنيا آفاقاً أوسع مما تظن، وأن من واجب الأديب أن يتعقب بالوصف تلك الآفاق.

تذكّر أننا قد نطالبك بوصف زمانك، وفيه (طفيليون) يتقربون إليك بتجريح الرجل الذي يواجهك بكلمة الحق، وأنت تعرف ما أعني ومن أعني.

تذكّر، أن من العيب أن تقول إنك نظرت في الأدب العربي فوجدته (ينحدر مع التاريخ شيئاً فشيئاً ليكون أدب معدة)، وأنت تعرف بلا ريب أن من ذكرتهم من الأدباء لم يكونوا يصورون إلا بعض الجوانب من الحياة الاجتماعية.

وهل غاب عنك أن العصر الذي جعلته يعيش من أجل المعدة هو نفسه العصر الذي نشأ فيه أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي وجار الله الزمخشري، وهو نفسه العصر الذي نبغ فيه ابن مسكويه والحلاج والجيلي إخوان الصفاء؟

أنت رجل فاضل فيما أعتقد وفيما يعتقد عارفوك، فأنت أستاذ على جانب عظيم من أدب النفس، وقد أنصفتُك مرات كثيرة في مؤلفاتي، فمن جنايتك على نفسك أن ترتجل في

ص: 14

مواطن لا ينفع فيها الارتجال.

أما بعد فقد دعانا كثير من الزملاء إلى نقض ما كتبه الأستاذ أحمد أمين عن جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي.

ونجيب بأننا سنؤدي هذا الواجب بعد أن نشرب معه فنجاناً من قهوة أبي الفضل على شوا طي الإسكندرية، الإسكندرية الجميلة التي لم يخلق الله مثلها في البلاد.

وهنالك، على شاطئ البحر، وفي رعاية الألوف من أسراب الملاح، سأصاول صديقي أحمد أمين

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 15

‌التجني على أحمد أمين

للأستاذ نديم الجسر

لقد استوقفت نظري في العدد 311 من الرسالة الغراء عنوان الكلمة التي كتبها الأستاذ العلامة الدكتور زكي مبارك عن الأستاذ العلامة أحمد أمين، فحسبت أن قول الدكتور في العنوان (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) يطوي وراءه معنى غير المعنى الصريح؛ لأن الأستاذ أحمد أمين، إن لم يستأهل أن يسمى أديباً بكل ما في الكلمة من معان، فهو، بلا ريب، من أعاظم العلماء الذين خدموا العلم والفلسفة والأدب العربي بدراسات لا مثيل لها في لغة العرب؛ فأسدى بذلك إلى كل أديب ومتأدب عربي لا يحسن الاستقاء من معين الفرنجة خدمة لم يسبقه إليها سابق بمثل الطريقة التي سلكها. فكيف يكون من هذا شأنه في خدمة العلم والفلسفة والأدب جانياً على الأدب جناية يستحق عليها التشهير بين الناس؟

لو قرأت هذا العنوان في جريدة سياسية أو كانت الكلمة لغير الدكتور زكي مبارك ما حملت نفسي عناء مطالعتها، لأني كنت أذهب إلى أنها كلمة عدو أو حسود أو جاهل؛ ولكن المجلة مجلة (الرسالة) وما أدراك ما الرسالة، والكاتب هو الدكتور زكي مبارك فماذا أقول؟

إن الدكتور زكي مبارك هو أحق الناس بعرفان فضل أحمد أمين، وإن الدكتور زكي مبارك لأولى الناس بالدفاع عن أحمد أمين لو حاول هدمه شخص آخر. هكذا رأيناه قد فعل عندما غضب لكرامة الأدباء في مصر يوم حاول النيل منهم ناشئة الأدب في لبنان.

قد لا تكون كلمة الدكتور في حقيقة أمرها تطوي الشيء الكثير من الظلم لأحمد أمين، ولكن الظلم والقسوة يبدوان في العنوان؛ وطالما كانت ضخامة العناوين أشد أثراً في تحويل أفكار المتأدبين الناشئين وتضليلها مما وراء العناوين. فهل يرضي الدكتور مبارك أن يستقر في أذهان هؤلاء أن أحمد أمين من الجناة على الأدب العربي؟

لا ريب في أن الأستاذ أحمد أمين لم يكن موفقاً في المقالات التي كتبها في (الثقافة) مؤخراً: لا أقول هذا مجاراة للدكتور مبارك بل هو شيء لاحظته منذ شهرين، وقلته لبعض عشاق أحمد أمين، وأنا منهم. فكل من قرأ مقالاته التي كتبها بعنوان (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) أدرك أن العلامة الكبير لم يأت بشيء في هذا المضمار: لأن التأثر بالأدب القديم ليس مما يستطيع الأديب التفلت منه كما يتفلت من اللفظة الوحشية عند صوغ الكلام؛

ص: 16

بل هذا التأثر نتيجة لازمة للعناصر التي تتكون منها نفسية الأديب بحكم الوراثة والتقاليد والذوق والثقافة. وظهور القليل منه في أدب اليوم برهان على أننا نجاري طبيعة التطور بالتدريج.

ونظن أن أستاذنا الكبير أحمد أمين الذي يحدثنا في (ضحى الإسلام) بحديث دونه السحر عن تطور العقلية العربية في مضمار العلم والأدب، لا ينكر أن أثر الأدب الجاهلي قد ضعف في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية، وكاد يتلاشى في شعر شوقي وحافظ. وهكذا سوف يسير الأسلوب الأدبي مع الزمن ويستقي من تطوراته عناصر جديدة تحل محل القديمة حتى لا يبقى من القديمة إلا ما يتخذ أمثلة لدراسة تاريخ الأدب.

وبعد فأي بأس في بقاء ذلك الأثر الضعيف من الأدب الجاهلي؟ ألسنا نجد لذة وطرباً ونشوة في هذه الصلة الحلوة بين القديم والحديث؟

ثم أليس من جملة أعمال الأدب أن يحفظ شخصية الأمة بربط حاضرها بماضيها، وتوجيه عواطفها نحو قبلة واحدة تجتمع عندها أحزان تلك الأمة وأفراحها ومفاخرها وتقاليدها وأساطيرها؟

وهل يجوز لنا أن نترك كل ذلك الماضي ونتجرد منه كما نتجرد من الثوب الخلق لنكّون لأنفسنا أدباً جديداً تزعق فيه السيارة بدلاً من حداء الحادي، وتهب فيه نسمات الخرطوم أو مالطة بدلاً من صبا نجد؟

إن هذا سوف يكون مع الزمن كما حصل حتى اليوم؛ وأما التخلي دفعة واحدة عن أذواق وعواطف داخلية كونتها الأجيال فينا فهو عمل يتم بقوة الجيش إذا شاءت الحكومة، ولكنه عندئذ لا يسمى أدباً تخاطب به الأرواح، بل يسمى (أوامر عسكرية) تنفذ بقوة السلاح. . .

وبعد فإنك إذا أردت أن تجد في كلمة الدكتور زكي مبارك شيئاً من الإنصاف فاطلبه في قوله في صدر مقاله الأول:

(إن الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين في العصر الحديث ولكنه على أدبه وفضله لا يجيد إلا حين يصطحب الروية ويطيل الطواف في الموضوع وذلك سر تفوقه) فهذه كلمة الحق وأما ما تلاها من لواذع فهو ظلم

ونريد أن نرجح أن المقالات التي كتبها الأستاذ أحمد أمين في الثقافة بعنوان (جناية الأدب

ص: 17

الجاهلي على الأدب العربي) هي التي حملت الدكتور مبارك على أن يسمي قلة توفيق الأستاذ أحمد أمين في مباحثه هذه (جناية على الأدب العربي). ونحن لا نقول عن هذه التسمية إنها (جناية) على أحمد أمين بل نسميها (تجنياً على أحمد أمين). ولعل الدكتور يبدل عنوان هذه السلسلة بعنوان آخر يستحسنه، فإنه إن لم يفعل ذلك من باب الإنصاف والرقة في النقد فليفعله من باب الكياسة، كيلا يمنح أحمد أمين، من حيث لا يشاء، زعامة قوية في الأدب العربي، فأن من يستطيع بمقال أو بمقالين أن يجني على الأدب العربي لا بد أن يكون زعيماً من زعماءه إن لم يكن كبير زعمائه.

(طرابلس الشام)

نديم الجسر

ص: 18

‌مدينة قونية

(يا حضرة مولانا)

للدكتور عبد الوهاب عزام

فصل من رحلات الدكتور عبد الوهاب عزام التي تطبع الآن

في مطبعة الرسالة ننشره بمناسبة ذكرى انتصار الجيش

المصري في قونية على الجيش التركي.

- 1 -

من أسكيشهر إلى قونية

أمضيت يوم الأحد في أسكيشهر ثم ركبت قطار المساء والساعة ست ميمّماً قونية؛ وكانت زيارة قونية منية في النفس حاولتها حينما سافرت إلى استانبول من قبل فحال دونها بُعد الشقة؛ وبينها وبين استانبول أكثر من عشرين ساعة بالقطار.

وكنت حينئذ أهاب اختراق الأناضول، فلما اخترقته في هذه السفرة وأنست بالسفر فيه عزمت على الرجوع إلى الشام من الطريق الذي أتيت منه؛ وكانت قونية أحبّ بلاده إليّ وكانت نفسي على رؤيتها أحرص. وإنما أربي من قونية زيارة مولانا جلال الدين

كان معي في القطار شاب من قونية معه زوجه فحدثني عن الترك وتمسكهم بدينهم وما فعلوا في الحرب، وكيف توغل اليونان في الأناضول حتى قذفهم أبطال الترك في البحر. وقال: إنهم قاربوا قونية ولكن مولانا جلال الدين ردّهم عنها. قلت في نفسي: هذه كلمة ظاهرها خرافة وباطنها حق؛ فإن ما يبثه جلال الدين في النفوس من قوة وإيمان وجهاد وحرية جدير أن يرد كل عدوّ عن حماه

- 2 -

بلغ القطار قونية والساعة ست ونصف من الصباح فمضيت إلى فندق اسمه فندق سلجوق فاسترحت بمقدار ما حال التعب الشديد بيني وبين مشاهدة المعاهد التي طال اشتياقي إليها.

ص: 19

ثم خرجت إلى المكتبة (ملت كتبخانه سي) فألقيت نظرة على فهارس المكتبة ولا سيما العربية منها فلم أجد فيها من نفائس الكتب أو غرائبها ما يستوقف الباحث. وأرسل معنا قيم المكتبة رجلاً من الموكلين بالآثار فذهب بنا إلى حيث يدفعنا الشوق ويدعونا الحب إلى البقعة التي ترسل الشعر والحكمة والتصوف في آفاق الإسلام منذ ستة قرون، إلى المزار الذي استبدل به صاحبه قلوب العارفين:

فلا تطلبن في الأرض قبري فإنما

صدور الرجال العارفين مزاري

إلى الذكرى العظيمة التي لا تزال تدوي في القلوب تقي وشعراً، وفي العقول حكمة وإيماناً، وفي الآذان موسيقى وغناء؛ إلى النبوغ الذي مزج الحكمة والتصوف والشعر في أحسن تقويم؛ إلى الرجل الذي أنبته بلخ وظفرت به قونية ولكن لم يسع قلبه وعقله مكان؛ إلى الحكيم البكري الذي لا تحده الأنساب والأوطان؛ إلى صاحب المثنوي والديوان مولانا جلال الدين الرومي الذي تنسب إليه الطائفة المولوية المعروفة في مصر والأقطار الإسلامية، وقد اشتهرت مجالسهم في السماع، يجتمعون على نظام خاص ويدورون بترتيب محكم على نغمات الناي وإنشاد المثنوي؛ والناي عند المولوية رمز إلى الحنين الدائم إلى العالم الروحي وقد بدأ مولانا جلال الدين كتاب المثنوي بنشيد الناي وأوله:

استمع للناي غنى وحكى

شفّة البين طويلاً فشكا

مذ نأى الغاب - وكان الوطنا -

ملأ الناس أنيني شجنا

من تشرده النوى عن أصله

يبتغي الرجعى لمغنى وصله

أين قلب من فراق مُزّقا

كي أبثّ الوجد فيه حُرّقا

كل نادٍ قد رآني نأدباً

كل قوم تخذوني صاحبا

ظن كلٌّ أنني نعم السمير

ليس يدري أي سر في الضمير

إن سري في أنيني قد ظهر

غير أن الأذْن كلّت والبصر

إن صوت الناي نار لا هواء

كل من لم يَصْلَها فهو هباء

هي نار العشق في الناي تثور

وهي نار العشق في الخمر تفور. الخ

وكان للمولوية في تركيا شأن عظيم وكان رئيسهم (جلبي قونية) يقلد سلاطين العثمانيين السيف حين يتولون الملك

ص: 20

وكذلك كان لهم أثر عظيم في الأدب، وحسبك من شعرائهم الشيخ غالب

هذه دار المولوي ولكن لا أري الوفود متزاحمة على بابها، ولا أرى الدار آهلة بنزّالها، قد أقفر الندىّ، وخلا السامر، وعدت الدار من الآثار، يدخل إليها بالمال الصالحون والفجار

يلقى الداخل سور يتوسطه باب عتيق فوقه ظلة وعليه ثلاثة أبيات بالتركية تدل على أن السلطان مراد خان بن سليم خان بنى هذه الخانقاه سنة 992 هـ. ومراد هذا هو مراد الثالث ابن سليم الثاني ابن سليمان القانوني (982 - 1003 هـ) فإذا ولج رأى فناء ينتهي إلى الشمال بحجرات كانت مساكن المولوية ومجالسهم ومطابخهم ومأوى ضيوفهم. وإلى اليمين حجر رفيعة اتخذت الآن مكتبة. وأمام الداخل بناءٌ كبير تعلوه في الجهة اليمنى قبة خضراء مخروطية تحلّق فوق قبر جلال الدين، وفي الجهة اليسرى مأذنة وقبتان كبيرتان، ويُدخل إلى البناء من باب جميل مصنّع تعلوه كتابة فيها هذا الشعار الذي يرى على كثير من أبنية المولوية:(يا حضرت مولانا) ويفضي الباب إلى حجرة فيها آثار للمولوية فيها كتب ونسخ من المثنوي هي أقدم نسخة وأنفسها، ثم باب آخر يفضي إلى قبور المولوية والمصلى ودار السماع (سماعخانة): إلى اليمين رواق عليه قبة ويفصله سياج وسُتُر تمنع الناس أن يدخلوا إليه أو يروا ما فيه إلا أعالي ضريحين كبيرين أحدهما لجلال الدين والآخر لأبيه بهاء الدين ويبدو ضريح الأب من وراء السياج مستطيلاً رأسياً فيقول العامة: لقد قام بهاء الدين في قبره إجلالاً لأبنه

وفي وسط البناء رواق بناه السلطان الفاتح، وإلى اليسار مصلى ودار للسماع من آثار السلطان سليمان القانوني

وفي البناء من عجائب الخط والنقش والتذهيب والكتب والبسط ما يبهر الناظر، وفيه من ملابس مولانا وآثاره وآثار بنيه

رأيت أربع قلانس قيل إن إحداها قلنسوة مولانا، وأخرى لابنه سلطان ولد، والثالثة لشمس الدين التبريزي، والرابعة لحسام الدين جلبي من كبار أصحاب جلال الدين

ورأيت ثلاثة مصاحف كتبت في أواخر القرن التاسع فيها ترجمة تركية ومصحف سلجوقي بين سطوره ترجمة فارسية ونسخا من شروح المثنوي، ونسخة من الفتوحات يقال إنها بخط الشيخ الأكبر

ص: 21

ورأيت سجادة عليها صورة الكعبة قيل أنها كانت لأم جلال الدين مؤمنة خاتون بنت السلطان جلال الدين خوارزمشاه، وسجادة أخرى يقال أن السلطان علاء الدين السلجوقي أهداها لجلال الدين يوم عرسه، عليها الآية:(أقم الصلاة لدلوك الشمس). . . الخ

وقناديل صنعت في مصر. . . الخ الخ

أطفنا بجوانب المكان نستمع إلى الدليل، وللذكرى في نفوسنا صوت أبين من صوته وأصدق وأجّل، ولكني أستعيذ بالله من قول القائل:

يك طواف مرقد سلطان مولاناي ما

هقت هزار وهفصد وهقت وحج أكبر ست

(طوفة بمرقد مولانا سبعة آلاف وسبعمائة وسبعون حجا أكبر)

ثم خرجت وفي النفس حنين إلى البقاء وعزم على العودة:

خرجت أمشي يقول قلبي

للرِّجل بالله أنظريني

وعدت في اليوم التالي فلقيت أمين الدار وكنت واعدته اللقاء لاشتراء بعض الصور، فقلت: أريد تجديد العهد بالمزار فدخل معي يطوف في أرجائه ويصف ما يرى ويروي من التاريخ.

وخرجت ولم أقض حاجات الفؤاد من رؤية ما وراء السياج.

ونعوذ بالله من الحجاب! إن شرّ ما يلقى الصوفيّ أن تسدل الحجب دون آماله ويحال بينه وبين مقصوده. خرجت كارهاً أتثاقل لأمضي مع الرجل إلى داره فيعرض عليّ ما صوّر من آثار قونية.

قال: أأنت أستاذ؟ قلت نعم. قال: انتظر، ثم أشار إليّ فتبعته فرجع إلى المزار وتلفت ثم أشار إليّ وفتح باب السياج فتبعته. قال: نحن نمنع العامة من الدخول ونمكّن الأساتذة الباحثين من رؤية ما يشاءون. فشكرت له وسرت إلى ضريح جلال الدين بين قبور كثيرة لشيوخ المولوية من أولاده. وقفت وقفة أناجي الروح العظيم وأستلهم حكمته وعظمته؛ ثم خرجت وفي النفس ما فيها من جلال الذكرى وثورة الشوق

- 3 -

ورأينا من آثار قونية مسجد علاء الدين وقصره وهما من أعظم آثار السلاجقة هناك؛ يقومان على ربوة في المدينة تسمى ربوة علاء الدين (علاء الدين تبه سي)

ص: 22

ورأينا على مقربة من الربوة مدرسة قرة داي وزير السلطان علاء الدين ولا يزال فيها من عجائب الصنعة، ولا سيما الكاشاني ما يخلّدها على رغم الزمان الذي ذهب برونقها وكثير من نقوشها

وعلى باب المدرسة آيات وأحاديث وكلمات عربية منها: رب أوزعني أن أشكر نعمتك. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. السماح رباح. العسر شؤم. الحزم سوء الظن. الولد مجبنة مبخلة

وفي المدرسة بهو عليه قبة، وإيوان وحجر قليلة كانت للطلاب، وحجرة فيها ضريح صاحبها

وزرنا مدرسة خربة تسمى صرجه لي مدرسة بنيت سنة 640 هـ ومدرسة صغيرة لحفظ القرآن كتب على بابها:

أنشأ هذه البقعة في أيام دولة السلطان محمد بن علاء الدين خلد الله مملكته صاحب الخيرات والحسنات محمد بن الحاج خاصبك الخطيبي أعلى الله شأنه وجعلها دار الحفاظ سنة أربع وعشرين وثمانمائة

وهذا تاريخ محرّف فيما أظن فقد انتهت دولة السلاجقة قبل هذا التاريخ. والظاهر أن البناء شيد سنة أربع وعشرين وستمائة في عهد علاء الدين كيقباد الأول (616 - 634) إلا أن يكون السلطان المذكور هنا من سلاطين بني قرمان الذين خلفوا السلاجقة في قونية

(البقية في العدد القادم)

عبد الوهاب عزام

ص: 23

‌لجاجة الجدل

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قد ترى إنساناً يسخر من إنسان آخر لأنه في حديثه معه يذكر حقائق مبتذلة يعرفها كل الناس؛ وهذا الساخر قد يعرف أن أحاديث الناس في جملتها من هذا النوع الذي يسخر منه، وأن كونها من هذا النوع يسهل الحديث بين الناس على اختلاف ما يؤهلهم للحديث من علم وفطنة، أو ما لا يؤهلهم له من جهل وغباء. فهذا النوع المبتذل من الحديث الذي يسخر منه الساخر يؤلف بين الناس في مجالسهم ويساعدهم على أن يقضوا وقتاً يريدون إفناءه، ويمنع من انقطاع الحديث زمناً للبحث عن فكرة صائبة غير مبتذلة، كما قد يمنع من الحقد الذي ينشأ بسبب الخلاف على فكرة غريبة غير مبتذلة، أو بسبب حسد جليس لجليسه إذا ظهر عليه بفكرة جليلة. والساخر من الحديث المبتذل قلما ينقم في سريرة نفسه على محدثه إذا كانت آراؤه سخيفة أو مبتذلة قدر ما قد ينقم عليه إذا بذه بالحجة وفاقه بأصالة الرأي. فليس شر الحديث المبتذل، وإنما شر الحديث ما كان لجاجة وحبّاً للظهور بالعظمة وأثرة ورغبة في الانتصار وفي إرغام الناس على إجلال فكر. فان بعض الناس - حتى بعض أفاضلهم وعلمائهم - يرتاد المجالس كي يزهى بعلمه وينتصر بالجدل. وبعض الذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم يشعر بنقص إذا جالس الناس فيعمد إلى إخفاء ما يشعر به من نقص بما يظهر ذلك النقص، فتراه يحول الحديث من الموضوعات الشائعة المبتذلة إلى الأمور العلمية ويحاول أن يسيطر على الحديث باللجاجة وادعاء العلم والإصرار والتهجم على مخالفه، وقد ينفعل انفعالاً نفسياً شديداً، وليس انفعاله من شدة انتصاره للحق ولا من ذعره أن يسود الباطل العالم، وإنما انفعاله من غيظه إذا لم يُمكّن من الانتصار في الحديث ومن إسكات مجادله كي يوهم نفسه وكي يوهم جلساءه أنه لا يشعر بنقص علمه، وقد يفطن جلساؤه إلى أن باعثه على اللجاجة والانفعال شعوره بنقص تعلمه ولا يفطن هو إلى فطنتهم لنقصه فيضع نفسه في منزلة الخزي من غير داع

وتشبث المرء بالحق في المجالس واجب، أما إعلان هذا التشبث بالجدل الذي يؤدي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء والتضارب أو التقاتل فمن الضعف وقلة كبح النفس والعجز عن ضبط اللسان. وهذا العجز ليس من الحكمة في شيء بل هو من الطيش الذي قد يندم

ص: 24

المجادل عليه ولو كان الحق في جانبه، فإن أحاديث الناس في مجالسهم ليس فيها ما يزكي اللجاجة التي تدعو إلى الخصومات. ويستطيع الجليس إذا خشي أن يُعدّ سكوته عن الجدل واللجاجة مشاركة في خطل الرأي أو إثم الغيبة أن يترك ذلك المجلس وأن ينصرف عنه إلى غيره بعد إعلان رأيه في رفق وتؤدة وحلم

وبعض الناس قد طُبع على أن يجادل لنصرة ما يراه حقاً حتى ولو أدت المجادلة إلى المهاترة أو المضاربة، وكأنما يشعر شعوراً غامضاً أن مصير الدنيا وبقاء الكون موقوف على انتصاره لما يراه حقاً، وقد يكون هذا المجادل اللجوج صادق النية مخلصاً في شعوره كأنه لم ير كيف أن العلماء والفلاسفة يأتون كل جيل أو كل عصر بآراء تخالف ما أتى به أسلافهم، والحياة قائمة بالرغم من خطأ السابقين أو اللاحقين، والسماء لم تنهد ولم تسقط على الأرض والدنيا على حالها يخالطها كثير من الخطأ، فلأي أمر إذاً يتضارب الناس في مجالسهم أو يتخاصمون من أجل اللجاجة والجدل

على أن في الناس من يحترف الجدل مكراً ودهاء كي يكون اعترافه بأصالة رأي مجادله أوقع وكي يكون انهزامه في الجدل أحب إلى جليسه الذي يجادله، وكي يفهم ذلك الجليس أن قوة بيانه ورجاحة حجته وفرط ذكائه هي الصفات العالية والهبات النفيسة النادرة التي مكنته من إقناع ذلك المجادل الذي إنما يجادل كي ينهزم وكي يمدح صفات جليسه العقلية تقرباً إليه لحاجة في نفسه، وهذه وسيلة من وسائل الدنيويين الذين يريدون النجاح في الحياة، وقد شاهدنا مثل هذا الجدل والاقتناع الكاذب في حديث الرؤساء والمرءوسين وفي حديث الوجهاء ومن هم أقل منهم منزلة

وهناك نوع آخر من الجدل يثيره خبيث يعرف أن جليسه عصبي المزاج ينفعل إذا جادل فيحب أن يعبث به وأن يضحك من انفعاله، وأن يتخذه لهواً وقد يكون رأيه في الأمر الذي يجادل فيه مثل رأي ذلك العصبي المزاج ولكنه يخالفه كي يتفكه بضجيجه وصراخه وحركاته حتى إذا نال بغيته من الفكاهة أقرّ برجحان رأي ذلك العصبي المزاج فينال نوعاً آخر من الفكاهة إذا رأى عظم سروره وخمود ثورة أعصابه.

وقد شاهدنا نوعاً آخر من الجدل إذ يرى أحد الجليسين أن جليسه سفيه لا يريد توضيح الحق بالجدل وإنما يريد الظفر في الحديث بأية وسيلة، ولا يترك جليسه إذا سكت بل كلما

ص: 25

طال سكوته أحس ذلك السفيه أن سكوته إنكار لرأيه فيلج في الجدل كي يرغمه على الخروج من صمته وصاحبه لا يرى فائدة في الخروج من صمته فيكتفي بأن ينطق بمقاطع لا تدل على مخالفة أو موافقة كأن يقول: أومْ. إيمْ. آ. إمْ. وهذا على أي حال خير من التقاتل أو التضارب من أجل الجدل

ونقرأ في الجرائد عن تضارب يؤدي إلى قتل وكان سببه نزاعا على مليم أو على قطعة من البطيخ، ومثل هذا التقاتل يرجع إلى اللجاجة في الجدل أكثر مما يرجع إلى شدة الفقر إلى المليم أو إلى قطعة البطيخ؛ ومثله مثل اللجاجة في الجدل وفي النزاع على رأي سياسي أو في التنافس في البر وعمل الخير، فهذا أيضاً قد يدعو إلى التقاتل كما حدث بين شابين تجادلا في أيهما أحق بالتأذين والدعوة إلى الصلاة فانقلبت لجاجة الجدل إلى تشاتم ثم إلى تضارب فتقاتل. ونقرأ في الجرائد أن اللجاجة في الجدل قد تؤدي إلى الخصومات والتقاتل بين الأسر أو بين البلدان المتجاورة

واللجاجة في الجدل عند بعض الناس مرض يظهر خبث النفوس فترى بعض الناس يحقد على من يجادله ويسعى في أذاه إما سعياً ظاهراً وإما في الخفاء. ويخيل للرائي أن بعض المجادلين يكاد يجن إذا لم ينتصر في الجدل، وقد يكون هذا المجادل طيب القلب سمحاً إذا وافقه الجلساء على رأيه وهواه، وقد يمدح من يوافقه في حديث المجالس على رأيه فيقول: - فلان رجل ذكي لا يجادل بالباطل ويدرك الصواب إدراكا سريعاً. . . وقد يكون هذا الممدوح مخفياً غير ما وافقه عليه وساخراً برأي المادح في سريرته وهازئاً بلجاجته

والطوائف والأمم مثل آحاد الناس فإننا نقرأ في تاريخ الإنسانية عن تقاتل الطوائف من الناس على ألفاظ لا طائل تحتها وعلى أخيلة وأوهام بعيدة عن العقل فنعجب هل كانوا حمقى أم مجانين

وستأتي عصور يتساءل أهلها عن تقاتلنا على الألفاظ والأوهام، ويتعجبون من حماقة هذه الأجيال كما تتعجب هذه الأجيال من حماقة أهل العصور القديمة، ولم يعظنا ما رأيناه من عبث التقاتل على الألفاظ والأوهام والآراء التي تتبدل في كل عصر حتى كأن العقل البشري من قلة اتعاظ النفوس لا أثر له في الحياة وحتى كأن الحياة لا تستقيم إلا بأن يجد الناس لذة في خلق أسباب الألم والعذاب لأنفسهم بخصومات الجدل وعداواته كما يجد بعض

ص: 26

المتدينين لذة في أكل النار وطعن أنفسهم بالخناجر في بعض الحفلات الدينية. والجدل في مناظرة الكتب والصحف والمجلات كالجدل في مناظرة الكلام فمنه ما يكون من العبث المضي فيه، ولعل أشد المناظرة عبثاً وضيعة ما يدعو إلى مجادلة الذي يزكي بالمصطلحات قلة خبرته بالحياة، وهي مصطلحات لا يستقيم مذهبها إلا في الأمور النظرية التي لا تتصل بأمور الحسّ، أو مجادلة من يشبه المؤرخ الذي لا ينتقد مصادر تاريخه كما ينتقد الصيرف نقوده وتطغى حماسة الشباب في قوله وتطغى الثقة بالأصدقاء على الرغبة في الإنصاف وفي تخليد حكمه وصيانته من أن ينقضه بحث باحث

وقد يكبر الوهم للمشتغلين بالسياسة قيمة جدلهم ومناظراتهم في الصحف، ويحسب كل فريق أن خراب الوطن رهن بانخذاله في أية مناظرة مهما يكن سببها فيستبيح ضمير كل فريق من الوسائل في خصومات الجدل ما كان يعده إجراماً لو نظر إلى الأمور بعين المؤرخ الذي يرى زوال الجهود البشرية وغثاثة أمر الكثير منها وتفاهة ما كان الناس يعدونه جد جليل خطير

ولما كانت السياسة شغل الناس الشاغل في العصور الحديثة فإن الأخلاق التي يستبيحها الجدل في شؤونها، وما قد يظن معينا على هذا الجدل، تتفشى وتفسد أمور الحياة التي يراد إصلاحها بهذا الجدل فيأتي فساد الأمور من سبيل إصلاحها، ويأتي سقمها على يد طبيبها. ولا يقتصر هذا الفساد على المشتغلين بالأمور السياسية؛ فإن كل إنسان وكل قوم يبيح فيمن يعدهم من خصومة وإن لم يكونوا خصوماً في أمور المعاش، ما تبيحه السياسة من الكذب والخساسة في العداوة والإجرام؛ فإن الرجل من عامة الناس أو أشباه العامة يرى بين الخاصة والعظماء المشتغلين بالسياسة من يستبيح كل وسيلة مهما كانت مرذولة، فيبيح لنفسه في أمور المعاش واللهو والتلذذ بالكيد ما تبيحه السياسة في الأمور العامة، ويصير نشر الدعوة الكاذبة في أمور السياسة خطة يتأثرها الناس في أمور المعاش أو اللهو أو الغرور، ويصير التحزب ونصرة الجماعة بالحق وبالباطل في أمور السياسة عادة يتبعها الناس ويغالون في باطلها في أحقر الأمور وأصغرها أو في أبعد الأمور عن تلك الخطط والعادات وأقلها حاجة إليها وأكثرها فساداً بها، ويكون فسادها أعظم والمغالاة بها أشد في البيئات التي تعودت في تاريخها التخاذل في الحق والتحزب والتقاتل في أتفه الأمور أو

ص: 27

أجلها وأبعدها عن التحزب بالباطل.

عبد الرحمن شكري

ص: 28

‌دراسات إسلامية

كبار الزنادقة في الإسلام

للأستاذ عبد الرحمن بدوي

رجحنا في العدد الماضي من الرسالة أن تكون الزندقة التي عناها المهدي والهادي في هذه الاضطهادات العنيفة التي قاما بها بين سنة 163 وسنة 170 هي المانوية، وأن يكون هؤلاء الذين اتهموا بالزندقة ممن كانوا يقولون بأن للعالم أصلين قديمين هما النور والظلمة ويحرمون ذبح الحيوان واللحم إلى آخر هذه المبادئ التي أعلنها ماني مؤسس مذهب المانوية.

ولكن هذا لم يمنعنا أن نقول كذلك أن معنى الزندقة قد اتسع وامتد حتى أصبح يشمل أشياء أخرى لم يكن للمانوية بها صلة ولا سبب. ولم يكن هذا الاتساع وليد السنوات التالية والقرنين الثالث والرابع فحسب، بل بدأ من قبل، في هذه الفترة عينها التي مضت فيها السنوات الأخيرة من خلافة المهدي وسنوات خلافة الهادي كلها.

ولا سبيل لمعرفة نواحي هذا الاتساع، وكيف تشعب وتنوع، فكانت فيه فروق ودقائق، إلا بدراسة كبار الزنادقة والتحدث عنهم.

والزنادقة طوائف وأنواع، والدوافع التي حدت بهم إلى الزندقة كثيرة متعددة. أما طوائفهم فنستطيع أن نحصرها في ثلاث: الأولى طائفة هؤلاء الذين يسميهم صاحب (الفهرست) رؤساء المنانية في الإسلام؛ والثانية طائفة المتكلمين؛ والثالثة طائفة الأدباء من كتاب وشعراء. والدوافع تكاد ترجع كلها إلى ثلاثة أيضاً: فمن هؤلاء الزنادقة من كانوا يؤمنون بالزندقة (ونقصد بها هنا المانوية) إيماناً صحيحاً صادراً عن رغبة دينية صادقة، فكانوا مخلصين في اتخاذها مذهباً، حريصين عليها كأشد ما يكون الحرص

ومنهم من وجد في الزندقة (بمعنى المانوية أيضاً) تراثاً قومياً خلفه الآباء فيجب الحرص عليه وتعهده؛ لا لصلاحيته في ذاته، ولا لأنه يستحق الإيمان به كما هو، وإنما لأن في هذا الحرص وذلك التعهد نوعاً من الإرضاء للنعرة القومية، والإشباع للنزعة الشعوبية. وفيها أيضاً موضع للمفاخرة ومجال لكي يقارنوا به تراث العرب ودين العرب بما خلفه لهم الآباء من تراث ودين.

ص: 29

ومن أجل هذا كان جميع هؤلاء من الموالي الفرس. وبين هؤلاء وهؤلاء وجدت طائفة من الزنادقة كانت تتخذ من الزندقة وسيلة من وسائل العبث الفكري التي يلجأ إليها الشكاك دائماً، يرومون من ورائها أن يعبثوا بعقائد الناس، بأن يعقدوا حلبات النضال بينها، ويساعدوا الضعيف منها على القوي السائد، ويظهروا ميلهم إلى الأول؛ وكل هذا لا شيء إلا ليجدوا السلوى حيث لا سلوى، ويعثروا على العزاء وليس ثم عزاء. فهي حالة نفسية عنيفة تتملكهم فتدفعهم إلى ما هو أشبه باللهو الفكري والمجون الشكي منه إلى شيء آخر.

وتكاد الطوائف والدوافع يقابل بعضها بعضاً تمام المقابلة. فالطائفة الأولى، ونعني بها طائفة رؤساء المانوية (أو المنانية فالمعنى واحد)، يغلب على دوافع أصحابها الإيمان بها إيماناً صادقاً، وهذا هو الأليق بأن يكون عليه الرؤساء. والطائفة الثانية يغلب على أصحابها الدافع الأخير، دافع الشك الفكري والفكر المتشكك، ولا عجب فهم متكلمون أي أنهم رجال فكر وأصحاب مذاهب ومقالات يعتمدون على الأفكار والعقل، دون المصالح أو الإيمان. والطائفة الثالثة، وإن كان للدافع الثاني أثر كبير في اتخاذها الزندقة، إلا أن أعظم دافع أثر فيها كان نزعة الشعوبية. وليس هذا بغريب فالشعراء والكتاب لا يستهويهم الإيمان، ولا قبل لهم بالإمعان في الشك الفكري، وإنما تستهويهم الأحداث العنيفة التي تلهب عواطفهم وتثير ثائرة خيالهم، وليس أدعى إلى إلهاب العاطفة وإثارة الخيال من نزعة الشعوبية؛ أولاً لأنها تتصل بالسياسة وأحداثها، والنزاع القائم بين طائفة وطائفة أخرى. وثانياً لأن الشعوبية تذكرهم بمجد تالد يعتزون به، ويتغنون بعظمته. والشعراء يميلون دائماً إلى التغني بالماضي سواء بالافتخار به أو البكاء عليه، لأن الماضي زمن قد فات ولم يعد له وجود إلا في الذاكرة التي تعيه، فيستطيع الخيال أن يشكله على النحو الذي يبغيه، وأن يتصرف فيه كما أراد وحيثما شاء، وهو مطمئن آمن. بينما الحاضر يحدق في عينه فلا يستطيع أن يزور فيه أو يكذب عليه في أثناء وجوده!

والآن فلنتحدث عن أشهر رجال هذه الطوائف

أما الطائفة الأولى فأشهر رجالها أبو علي سعيد، وأبو علي رجاء، وأبو يحيى ويزدانبخت. وقد استطاع الأستاذ فيدا صاحب المقال الذي أشرنا إليه والذي نعتمد عليه كثيراً في مقالنا هذا، أن يعثر على اثنين منهم في المصادر الأخرى في يقين. ثم حاول أن يتعرف إلى آخر

ص: 30

ثالث

فأبو علي سعيد ذكره الشهرستاني الذي يقول عنه إنه كان في أيام خلافة المعتمد وكان يكتب في سنة 271 هـ

ويزدانبخت ذكره أحمد بن يحيى المرتضى، كمؤلف لكتاب أخذ عنه المرتضى نظرية تتابع الأنبياء. ويحاول فيدا أن يجد أبا علي رجاء في شخص ذكره الجاحظ في كتاب الحيوان حينما أشار إلى أنه جرت مناظرة في حضرة المأمون بين محمد بن الجهم والعتبي والقاسم بن سيار من جهة وبين أبي علي الزنديق. فلما لم يفلح هؤلاء في مناظرة الزنديق قام المأمون نفسه بمناظرته فألقى عليه سؤالاً أفحمه ولكن الزنديق لم يرجع عن خطئه ومات على دينه. ولكي يثبت فيدا صحة هذا الافتراض، ونعني به أن أبا علي المذكور في رواية الجاحظ هو أبو علي رجاء. قال إن هذا الزنديق لا يمكن أن يكون أبا علي سعيداً، الذي ذكرناه آنفاً لأن أبا علي سعيداً كان يكتب وكان حياً في سنة 271، بينما الجاحظ الذي مات سنة 255 يتحدث عن أبي علي صاحبنا، باعتباره ميتاً. وعلى ذلك فليس هناك من مانع، اللهم إلا إذا ورد دليل مخالف، أن نفترض أن الزنديق الذي ذكره الجاحظ هو أبو علي رجاء الذي ذكره ابن النديم

أما الزنادقة من المتكلمين فأشهرهم ابن طالوت ونعمان، اللذان كانا أستاذي ابن الراوندي الزنديق المشهور، كما كان من أساتذته أيضاً أبو شاكر الذي يذكر عنه الخياط أنه كان متصلاً بهشام بن الحكم، المتكلم الشيعي المعروف. ويرى فيدا أن الرابطة بين أساتذة ابن الراوندي الثلاثة هؤلاء يظهر أنها كانت التغالي في التشيع. وهذا كان كافياً لكي توضع أسماؤهم بين أسماء الزنادقة. ويضاف إلى هؤلاء جميعاً صالح بن عبد القدوس. وقد أشرنا من قبل إلى البحث الذي كتبه جولد تسيهر وعسى أن تتاح لنا فرصة قريبة للتحدث عن هذا البحث

وهم جميعاً إما بعيدون عن المانوية أو أن معلوماتنا عن مبادئهم الدينية ضئيلة جداً. ولكن هناك شخصية أخرى بين الزنادقة من المتكلمين نعرف عنها بعض الأشياء ونعني بها شخصية عبد الكريم بن أبي العوجاء. ولا نتعرض هنا للكلام عنه كمحدث أسرف في اختراع الأحاديث ووضع المكذوب منها، ولا عن صلته بحسن البصري وجعفر الصادق،

ص: 31

وإنما يعنينا هنا أن نقول عنه شيئاً يتصل بزندقته فنقول إنه كان كما يقول البغدادي مانوياً يؤمن بالتناسخ ويميل إلى مذهب الرافضة ويقول بالقدر. ويتخذ من شرح سيرة ماني وسيلة للدعوة وتشكيك الناس في عقائدهم ويتحدث في التعديل والتحوير، كما ذكر البيروني في كتاب (الهند)

ولكن أظهر شخصية في هؤلاء المتكلمين الزنادقة بعد شخصية ابن الراوندي (الذي نؤجل الحديث عنه إلى أن نفرد له فصلاً خاصاً إن كان هناك ثم مجال)، هي شخصية أبي عيسى الوراق وقد كان هو أيضاً أستاذاً لابن الراوندي

كان أبو عيسى الوراق معتزلياً في البدء ولكن المعتزلة طردته لآراء له ذكرها خصومه ولسنا نعرف مبلغ صحتها على وجه التحقيق فيذكرون عنه أنه كان شيعياً رافضياً، ويقول عنه الخياط إنه كان مانوياً يقول بأزلية المبدأين (النور والظلمة) ويعتقد في خلود الأجسام؛ والخياط معتزلي فهو خصم لأبي عيسى. ومن هنا لا نستطيع أن نؤكد تماماً أنه كان مانوياً. ولذلك فإن الأستاذ ماسينيون يميل إلى وصفه بالناقد المستقل الفكر)

وهنا ننتهي من الكلام عن الطائفة الثانية وننتقل إلى الطائفة الثالثة ونعني بها طائفة الأدباء والشعراء

وأول هؤلاء وأشهرهم من غير شك بشار بن برد، ولكنا لا نستطيع هنا أن نفصل القول في زندقة بشار، ويكفينا الآن أن نقول إن نزعة الشعوبية عند بشار كانت أكبر دافع له على الزندقة كما كان للعبث والمجون الذي طبع عليه بشار، وروح التشاؤم والسخرية من الناس أثر في هذه الزندقة غير منكور.

وهنا نلاحظ بإزاء بشار ما لاحظناه من قبل عند الكلام عن ابن أبي العوجاء وأبي عيسى الوراق من أن الاتهام بالزندقة كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة كما لاحظ الأستاذ فيدا بحق، ومن هنا كان الشك في معنى هذه الزندقة التي تنسب إلى بشار؛ ولذلك يميل الأستاذ فيدا إلى أن يرى في بشار شاكاً من الشكاك فحسب

ولكن زندقة خصم بشار، ونعني به حماد عجرد، أظهر بكثير من زندقة بشار. وعلى الرغم من أنه لا يمكن القطع بشيء فيما يتصل بعلاقته بالمانوية إلا أنه يمكن اعتباره ممن كانت لهم نزعة مانوية واضحة، خصوصاً إذا لاحظنا أن شعره وقصائده كان يتغنى بها في دوائر

ص: 32

أتباع ماني وتستعمل في الصلوات

أما حظ النزعة الشعوبية في تكوين الزندقة فلم يكن كبيراً في شاعر من الشعراء أو كاتب من الكتاب بقدر ما كان عند إبان بن عبد الحميد اللاحقي. فقد كان يعرف الفارسية ويترجم عنها؛ وكان على اطلاع وسعة علم بأدب الفرس القديم، فكان ذلك داعياً له إلى التعلق بتراث الفرس والتغني به في جميع مظاهره. ولكن هذا ليس دليلاً قاطعاً على أنه كان مانويا حقاً، أو أنه أعتنق المانوية كدين أخلص (؟) على الرغم مما ذكره أبو نواس عنه في إحدى القصائد التي هجاه بها فاتهمه بأنه كان حسياً لا يؤمن إلا بما يراه فلا يعتقد إذن بالجن ولا بالملائكة. وهذه التهمة عينها قد وجهت إلى بشار من قبل. واتهمه أيضاً بأنه أشاد بماني وسخر من المسيح وموسى. وهنا يبدو الخلط والاضطراب في كلام أبي نواس لأنه إذا كان مانوياً فلن يسخر من المسيح. والصلة بين المانوية والمسيحية كبيرة واضحة لا تسمح بهذه السخرية. ونرجح نحن أن السبب الأكبر في اتهام إبان بالزندقة كان نزعته الشعوبية الواضحة فاتخذ أنصار العربية من اتهامه بالزندقة سلاحاً يستعملونه ضده في الخصومة الحضارية بين الشعوبية والعربية

وهؤلاء الشعراء الثلاثة قد اتفقوا جميعاً في غلبة روح الاستخفاف والعبث فيهم. ولذلك فإن أبا نواس كان صادقاً حقاً في تسميتهم (بعصابة المجّان) ولو أنه كان فرداً من أفراد هذه العصابة! فهم أقرب إلى الشك والمجون إذن من الإيمان والجد وهم أولى باسم الشكاك العابثين من اسم الزنادقة المخلصين

وأكثر من هؤلاء جداً وأبعدهم عن العبث والمجون أبو العتاهية. وقد لخص الأستاذ فيدا آراء أبي العتاهية أحسن التلخيص فقال: إن أول ما نلاحظه في معتقدات أبي العتاهية أنه كان يؤمن بالأثينية بكل صراحة. فالعالم الظاهر مكون من جوهرين متعارضين، والوجود تنازعه طبقتان إحداهما خيّرة والأخرى شريرة. وهو يرجع الوجود كله في النهاية إلى الجوهرين المتعارضين اللذين نشأ عنهما العالم وتكوّن. غير أن أبا العتاهية صاغ نظرياته الأثينية في صيغة واحدية، إذ جعل الله الواحد عند بدء الأشياء وقال: إنه خالق الجوهرين وأن العالم ما كان له أن يوجد بدون الله وحده. طارحاً بذلك أسطورة الخليط الأزلي بين الجوهرين أو المبدأين ونعني بهما النور والظلمة

ص: 33

وهنا نقف قليلاً بعد أن استعرضنا كبار الزنادقة وشرحنا كيف كانوا موضعاً للاضطهاد في أيام الخلفاء العباسيين الأول لكي نتبين ما وصلنا إليه من نتائج

فنلاحظ أولاً أن الزنادقة الذين وجه إليهم الخلفاء ما وجهوه من اضطهاد كانوا مانوية إما بتحولهم عن الإسلام أو منذ ولادتهم في الفترة ما بين سنة 163 و170. أما بعد ذلك فإنا لم نستطيع أن نثبت المانوية لواحد ممن اتهموا بالزندقة، اللهم إلا لعبد الكريم ابن أبي العوجاء. أما الآخرون فلم نستطع أن نفصل في أمرهم فصلاً أخيراً

ثم نلاحظ كذلك أن الزنادقة كانوا في أماكن عديدة فكانوا في بغداد وفي حلب وفي مكة، ثم في البصرة والكوفة على وجه الخصوص.

وإن أشهر ما كان يوجه إليهم من تهم هو ترك الفرائض (كالصوم والصلاة والحج)، ثم ادعاء الشعراء منهم والكتاب أنهم يستطيعون أن يكتبوا خيراً من القرآن؛ وأخيراً موقفهم بإزاء وحدانية الله

وأنه كانت هناك رابطة بين الزندقة والشيعة، قد رأينا كيف كان الانتساب إلى الشيعة الرافضة دليلاً على الزندقة وداعياً إلى الاتهام بها

ونلاحظ أخيراً أن الكثير من كبار الزنادقة قد قضوا شبابهم وأوائل حياتهم في أواخر أيام الدولة الأموية. فيجب أن نستنتج كما يقول الأستاذ فيدا: (أنه للكشف عن أصل التأثيرات الإيرانية التي لعبت دوراً خطيراً منذ ظهور الدولة الجديدة (أي الدولة العباسية) فلا بد من البحث في الأوساط العلمية العقلية في داخل خراسان وبين أعوان أبي مسلم الخراساني السريين كما نبحث عنه في البصرة والكوفة) ففي منطقة خراسان التقت جملة حضارات مختلفة في طابعها. فكان فيها في أواخر الدولة الأموية حركة صراع فكري بين عدة حضارات. وكان لهذا الصراع الفكري أكبر الأثر في تكوين العقلية الجديدة التي سادت العصر العباسي أو الجزء الأول منه على أقل تقدير. ولن نستطيع أن نفهم هذه العقلية الجديدة وتطورها طوال ذلك العصر إلا إذا درسنا هذا الوسط الذي اصطدمت فيه العقليات المختلفة واختمرت فيه بذور الحياة العقلية التي جعلت من العصر العباسي الأول عصراً من أخصب العصور الفكرية في تاريخ العالم كله.

عبد الرحمن بدوي

ص: 34

‌الحب العذري في الإسلام

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 2 -

قال ابن الكلبي: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفدت إليه الشعراء، كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله، فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول، حتى قدم عديُّ بن أرطاة على عمر ابن عبد العزيز، وكانت له منه مكانة، فقال جرير:

يأيُّها الرجل الْمزْجِي مَطَّيتهُ

هذا زمانُكَ إني قد مضى زمني

أبلغْ خليفتنا إن كنت لاقيَهُ

أني لدى الباب كالمصفود في قَرنِ

وحْشُ المكانة من أهلي ومن ولدي

نائي المَحلَّة عن داري وعن وطني

قال: نعم أبا حزرة ونُعمى عين. فلما دخل على عمر قال:

يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك، وأقوالهم باقية، وسنانهم مسنونة، قال: يا عدي، مالي وللشعراء! قال: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مدح وأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم. قال ومن مدحه؟ قال: عباس بن مرداس، فكساه حُلّة قطع بها لسانه، قال: وتروي قوله؟ قال نعم:

رأيتك يا خير البريَّة كلّها

نشرت كتاباً جاء بالحقُ مُعلَمَا

ونورت بالبرهان أمراً مُدَمَّساً

وأطفأت بالبرهان ناراً مُضَرَّما

فمن مبلغٌ عني النبيَّ محمداً

وكلُّ امرئ يجْزي بما قد تكلما

تعالى عُلُوًّا فوق عرش إلهنا

وكان مكانُ الله أعلى وأعظما

قال: صدقت، فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة قال: لا قرب الله قرابته، ولا حيّا وجهه، أليس هو القائل:

ألا ليت أني يوم حانتْ مَنِيَّتي

شَممت الذي ما بين عينيك والفم

وليت طهوري كان ريقك كله

وليت حنوطي من مشاشك والدم

ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي

هنالك أو في جنة أو جهنم

فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا، ويعمل عملاً صالحاً، والله لا دخل عليّ أبداً، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جميل ابن معمر العذري، قال: هو الذي يقول:

ص: 36

ألَا ليتنا نحيا جميعاً وإن نُمتْ

يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها

فما أنا في طول الحياة براغب

إذ قيل قَد سوى عليها صفيحها

أظلّ نهاري لا أراها ويلتقي

مع الليل روحي في المنام وروحها

أعزب به، فوالله لا دخل عليّ أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: كُثير عزّة، قال: هو الذي يقول:

رهبانُ مدَيْن والذين عهدتهمْ

يبكون من حَذَر العذاب قعودَا

لو يسمعون كما سمعت حديثها

خَرُّ والِعَزَّةَ راكعين سجودَا

أعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: الأحوص الأنصاري، قال: أبعده الله وأمحقه، أليس هو القائل وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية هربت منه:

الله بيني وبين سيدها

يَفرُّ عني بها وأتَّبعُ

أعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: همام بن غالب الفرزدق، قال: أليس هو القائل يفخر بالزنا:

هما دلَّتَانِي من ثمانين قامةً

كما انقضَّ باز أقتم الريش كاسره

فلما استوتْ رجلايَ في الأرض قالتا

أحيٌ يُرجَىَّ أم قتيلٌ نحاذره

وأصبحتُ في القومِ الجلوس وأصبحت

مُغَلّقَةً دوني عليها دساكره

فقلتُ ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا

وولَّيْتُ في أعقابِ ليلٍ أبادره

أعزب به. فوالله لا دخل عليّ أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأخطل التغلبيّ، قال: أليس هو القائل:

فلستُ بصائمٍ رمضانَ عمري

ولستُ بآكلٍ لحم الأضاحِي

ولست بزاجرٍ عَنْساً بَكوراً

إلى بطحاء مكة للنجاح

ولست بقائم كالْعَيْرِ يدعو

قبَيل الصبح حَيِّ على الفلاح

ولكنِّي سأشربها شَمولاً

وأسجد عند مُنْبلَج الصباح

أعزب به. فوالله لا وطئ لي بساطاً أبداً وهو كافر. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جرير بن الخطفي، قال: أليس هو القائل:

لولا مراقبةُ العيون أرَيْنَنا

مُقَلَ المها وسوالفَ الآرامِ

ص: 37

هل يَنهينَّك أن قتلن مُرقَّشاً

أو ما فعلن بعُروة بن حِزَامِ

ذُمَّ المنازلّ بعد منزلة الِّلوى

والعيش بعد أولئك الأيام

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

وقت الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان ولا بد فهذا. فأذن له، فخرجت إليه فقلت: أدخل أبا حزرة، فدخل وهو يقول:

إن الذي بعث النبيَّ محمداً

جعل الخلافة في إمام عادلِ

وَسِعَ الخلائقَ عدلُهُ ووفاؤه

حتى أرعوي وأقام مَيلَ المائل

والله أنزل في القرآن فضيلةً

لابن السبيل وللفقير العائل

إني لأرجو منك خيراً عاجلاً

والنفسُ مولعةٌ بحب العاجل

فلما مثل بين يديه قال: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً، فأنشأ يقول:

كم باليمامة من شعثاَء أرملةٍ

ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

من يَعُدُّك تكفي فَقْدَ والده

كالفرخ في العيش لم ينهض ولم يطر

يدعوك دعوةَ ملهوف كأنَّ به

خبْلاً من الجن أو مساً من البشر

خليفةَ الله ماذا تأمرَنَّ بنا

لسنا إليكم ولا في دار مُنْتَظَر

ما زلتُ بعدك في هّمٍ يؤَرِّقُنِي

قد طال في الحيِّ إصعادِي ومنحَدَري

لا ينفع الحاضرُ المجهودُ بادِيَنَا

ولا يعود لنا بادٍ على حَضَر

إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا

من الخليفة ما نرجو من المطر

أتى الخلافة إذ كانت له قَدَراً

كما أتى رَّبُه موسى على قدر

هذى الأرامل قد قَّضيت حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله؛ يا غلام، أعطه المائة الباقية. فقال: يا أمير المؤمنين، إنها لأحب مال كسبته إلى. ثم خرج، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: مايسوؤكم، خرجت من عند أمير المؤمنين يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول:

رأيتُ رُقَي الشيطان لا يستفزُّه

وقد كان شيطاني من الجن رَاقيَا

ولا شك أن وجهة عمر رضي الله عنه ظاهرة في منع ابن أبي ربيعة لأنه كان لا يتورع في شعره عن التشبيب بالنساء من يعرفها ومن لا يعرفها، ويتعرض للمحصنات المتعففات

ص: 38

ويترقب خروجهن للطواف والسعي، ويصفهن وهن محرمات حتى صرن يخفن الخروج إلى الحج. وقد نفاه عمر بسبب هذا إلى دهلك، وهي جزيرة ببحر القلزم أمام مدينة مصوع. أما أبياته المذكورة فهي وإن كانت محمولة على المبالغة لا تليق برجل يحافظ على أمور دينه لأن فيها شيئا من الاستهتار بعذاب الله، وما كان لمثل عمر رضي الله عنه أن يقبل هذا منه وأن تنسيه رقته الشعرية ناحيته الدينية، كما أنست قبله عمه عبد الملك بن مروان وقد اجتمع ببابه ابن أبي ربيعة وكُثير عزّة وجميل بثينة، فقال لهم: أنشدوني أرق ما قلتم في الغواني، فأنشده جميل:

حلفتُ يميناً يا بُثَيْنَةُ صادقاً

فإن كنت فيها كاذباً فَعمِيتُ

إذا كان جلدٌ غير جلدكَ مسنَّي

وباشرني دون الشِّعار شَرِيت

ولو أن راقِي الموت يَرْقِي جنازتي

بمنطقها في الناطقين حييت

وأنشد كُثير:

بأبي وأمِّي أنتِ من مظلومة

طَبِنَ العدوُّ لها فغيَّر حالَها

لو أن عَزَّةَ خاصمت شمس الضحى

في الحسن عند مُوَفّق لقضى لها

وسعى إلىَّ بصَرْمِ عزة نسوةٌ

جعل المليك خدودهن نعالها

وأنشد ابن أبي ربيعة:

ألا ليت قبري يوم تُقضى منيَّتي

بتلك التي من بين عينيك والفم

وليت طَهوري كان ريقك كله

وليت حنوطي من مشاشك والدم

ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي

هنا أو هنا في جنة أو جهنم

فقال عبد الملك لحاجبه: أعط كل واحد منهم ألفين، وأعط صاحب جهنم عشرة آلاف

وكذلك الأمر في منع عمر رضي الله عنه الأحوص والفرزدق والأخطل من الدخول عليه، فأما جميل وكثير فالأمر في منعهما غير ظاهر، لأنهما كانا من أصحاب ذلك الحب العذري السابق، ولم يكونا مثل ابن أبي ربيعة والأحوص والفرزدق والأخطل، وإن كان في بيت كثير ما يمكن أن يؤخذ عليه من الناحية الدينية ولكنها مؤاخذة ضعيفة لا يلتفت إليها، لأنه أسند السجود لعزة إلى أولئك الرهبان، وهم يدينون بعبادة الأيقونات والتماثيل، فلو أنهم سجدوا لعزة إذا رأوها لكان لهم في هذا شأنهم، ونحن لا نسأل في ديننا عن شأن غيرنا،

ص: 39

وهذا إلى أن الأمر محمول على المبالغة، والمبالغة ضرب من التجوز

وهذا ليس له محمل عندي إلا أن عمر رضي الله عنه كان لا يرى التساهل في شأن ذلك الحب العذري، وإن كان أخف ضرراً من الحب المستهتر، فهو في ذلك يأخذ جميلاً وكُثيراً بحب واقع قد شغلا به، وأمعنا فيه، وملآ بذكره أشعارهما، وصرحا فيها للناس باسم محبوبتهما، ومثل هذا لا يقبله أدب الإسلام وإن كان يحمد لأصحابه ما يأخذون به أنفسهم من العفاف

أما جرير فكان يتعاطى الغزل في الشعر قضاء لحق الصناعة الشعرية، ولم يكن يشتغل بالحب كما اشتغل به ابن أبي ربيعة وغيره من فساق الشعراء، ولا كما اشتغل به جميل وغيره من العشاق العذريين، ولا شيء أصلاً في تعاطي ذلك الغزل على ذلك النحو الصناعي، كما يفعل الآن في الروايات الغرامية، بشرط ألا يكون في ذلك شيء من الفحش الذي لا يبيحه دين ولا خلق. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وفيه كثير من ذلك الغزل ومن ذلك غزل كعب بن زهير في قصيدته (بانت سعاد) وقد بلغ من أمره أن يقول فيها:

هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً

لا يُشْتكى قِصَرٌ منها ولا طولُ

تجلو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ

كأنَّهُ مَنْهَلٌ بالرَّاحِ معلول

وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم من كعب ذلك الغزل على ما فيه من ذكر الأعجاز، والتشبيه بالخمر المعلول، لأن كعباً قال ذلك قضاء لحق الصناعة، ولم يصف فيه أمراً واقعاً، ولم يتحدث عن اشتغاله بالنساء أو بالخمر على مثل ما تحدث به الشعراء الفساق

وكذلك لا حرج في رواية ذلك الشعر بالغاً أمره ما بلغ، لأنه قد يكون في حفظه وروايته فوائد لغوية أو تاريخية، ومهما بلغ أمره فإنه لا يبلغ ما أجازه الإسلام من حكاية الكفر على طريق النقل؛ إذ حكم بأن ناقل الكفر ليس بكافر، وقد كان أبن عباس رضي الله عنه يروي شعر عمر بن أبي ربيعة على ما فيه من ذلك الحب الفاجر، والفسق الظاهر، ولا يعبأ بانتقاد الخوارج المتشددين في الدين عليه، لأن دين الله يسر ولا عسر، واعتدال محمود بين الجمود والتفريط

وإني أرى في الحب العذري رأي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فهو عندي من

ص: 40

الأمور التي لا ينبغي الاشتغال بها، ولكن لا بأس به إذا كان يراد لغاية حميدة كالزواج، فإذا لم يظفر صاحبه بزواج من يحبها فليقلع عن ذلك الحب، وليشتغل بما يفيده في هذه الحياة لأنه لم يخلق لذلك العبث الضاربة في نفسه، والضار بالمجتمع في أخلاقه وصيانة أعراضه، وإنما خلق للعمل النافع، وإيثار مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؛ فإذا لم يمكنه أن يتغلب على نفسه في حبها، فليكتم فيها ذاك الحب، وليحفظها عن آثامه، وليصبر على تلك البلوى صبراً جميلاً ولو أدى به ذلك إلى إهلاك النفس، لينال في أخراه من الأجر ما يعوض عليه ذلك الحرمان في الدنيا، ولا يكون جزاؤه الحرمان فيهما معاً.

أما الذي قد يقترن بذلك الحب من شكوى الصبابة والتصريح باسم المحبوبة والخلوة بها وغير ذلك مما يفعله العشاق العذريون ولا يصل بهم إلى مجاوزة حد العفاف، فقد تساهل فيه بعض العلماء كما سبق ولم ير فيه بأساً. ومن ذلك ما يحكي أن ابن سحنون دخل على مالك فقال: يا إمام، اجعلني في حل من أبيات قلتها فيك، فقال وقد ظن أنه هجاه: أنت في حل من ذلك، فأنشده هذه الأبيات بين يديه:

سَلُوا مالك الُمْفتِي عن اللهو والغِنَا

وُحبِّ الحسان المعجباتِ الفَوَارِكِ

يُنَبِّئْكُم أني مصابٌ وإنما

أُسَلِّي همومَ النفس عني بذلك

فهل في مُحِبٍ يكتم الحبَّ والهوى

أثامٌ وهل في ضَمَّةِ الُمتهالِكِ

فضحك وقال: لا إن شاء الله

وإني أشك في صحة هذه القصة، ولعلها كانت مع مالك من غير ابن سحنون، أو كانت مع غير مالك منه، لأن ابن سحنون لم يدرك مالكا، وأبوه سحنون هو الذي أدركه، ولكنه لم يجتمع به، وكان قد نشأ بالقيروان وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى مصر وسمع من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم، ثم رحل إلى المدينة ولقي علماءها بعد وفاة مالك رضي الله عنه.

والحق أن بعض تلك الأمور كالخلوة مما لا يصح التساهل فيه أيضاً، لأنها تعد من وسائل الزنا، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولكنها لا تصل في الحرمة إلى حد الزنا، لأنه من الكبائر، أما هي فمن الصغائر. نعم قد تنفع عفة أولئك العشاق في تكفير تلك الصغائر عنهم، لأنه قد ورد أن اجتناب الكبائر مما يكفر الصغائر، كما قال تعالى (إن

ص: 41

تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما)، ولعل هذا هو مراد من أفتى برفع الحرج عن تلك الأمور، فيكون مرادها أن إثمها يكفر عنهم، لا أنه لا إثم فيها، وفرق كبير بين الأمرين، لأن في رفع الإثم عنها إذناً بفعلها، أما تكفيرها بذلك فيبقيها على حرمتها، وليس فيه إذن بذلك الفعل، لأنه لا يصح لأحد أن يفعل ما حرم عليه اعتماداً على الوعد بتكفيره، وهذا إلى أن الإصرار على الصغائر قد يجعلها من الكبائر، فلا ينفع فيها ذلك التكفير، ولا يفيد فيها إلا التوبة عنها

وهذا هو رأيي في ذلك الحب العذري، وإذا كان فيه بعض القسوة على أولئك العشاق، فهو غاية ما يمكن أن يتساهل فيه معهم. وإني أرى أن هناك قوماً قد يقع ما يكون في ذلك الحب من الإثم عليهم أكثر مما يقع على ذلك العشاق أنفسهم، وهم الآباء أو الاخوة الذين يرون في زواج أولئك العشاق فضيحة أو عاراً، فيحولون بين زواجهم، ويعملون على إذكاء نار الحب بذلك المنع، وعلى وجود الفضيحة والعار من حيث يريدون الفرار منهما. وقد كان زواج أولئك العشاق هو السبيل إلى إطفاء نار ذلك العشق، وصيانة المجتمع من الاشتغال بأخباره وأحاديثه، وما فيها من هتك العرض، والاستهتار بتلك الصغائر. وإني أرى أن ما كانوا يفعلونه من ذلك ليس إلا من بقايا عوائدهم في الجاهلية فلا يقره الإسلام، ولا يأذن بتلك القسوة التي يدعو إليها الجهل، بل يندب إلى ذلك الزواج، ويثيب كل من يعمل على إنصاف أولئك العشاق، وهذه هي أصوله وفروعه بيننا، وليس فيها ما يمكن أن يستند عليه في تلك العادة الآثمة؛ ومما يؤيد رأينا في ذلك ما نسوقه من هذه الرواية

روى المسعودي أنه كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد عثمان وكان طريفاً يختلف إلى قينةٍ لبعض قريش، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم، ويحبها ولا تعلم، ولم تكن محبة القوم إذ ذاك لريبة ولا فاحشة، فأراد يوماً أن يبلو ذلك، فقال لبعض من عنده: امض بنا إليها، فانطلقا، ووافاهما وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، وما كان فيهم فتى يجدُ بها وجدهُ، ولا تجد بواحد منهم وجدها بالأموي، فلما أخذ الناس مواضعهم قال لها الفتى، أتحسنين أن تقولي:

أُحُّبكم حُبّاً بكل جوارحي

فهل عندكم علم بما لكم عندي

أتجزون بالودِّ المضاعَفِ مثله

فإن كريماً من جزى الودَّ بالودِّ

ص: 42

قالت: نعم، وأُحسنُ أحسنِ منه. وقالت:

لِلَّذِي وَدَّنا الموَدَّة بالضِّعْ

فِ وفضْل البادي به لا يُجازَى

لو بَدَا ما بنا لكم ملأ الأرْ

ضَ وأقطار شامها والحجازا

فعجب الفتى من حذقها وحسن جوابها وجودة حفظها، فازداد كلفاً بها وقال:

أنت عذْرُ الفتى إذا هتك السَّ

تْرَ وإن كان يوسف المعصوما

فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فاشتراها بعشر حدائق، ووهبها له بما يصلحها، فأقامت عنده حولا ثم ماتت، فرثاها، وقضى في حاله تلك، فدفنا معاً، وكان من مرثيته لها قوله:

قد تمنَّيْتُ جنة الُخْلدِ للخلْ

دِ فَأدْخِلْتُها بلا استئهالِ

ثم أخرجت إذ تطمعت بالنع

مة منها والموت أحمد حال

فقال أشعب الطامع: هذا سيد شهيد الهوى، انحروا على قبره سبعين بدنةً، وقال أبو حازم الأعرج المدني: أما محبٌّ لله يبلغ هذا؟

وأنا أقول: جزى الله عمر بن عبد العزيز عن ذينك المحبين خير الجزاء

عبد المتعال الصعيدي

ص: 43

‌على منهج الأغاني

بقلم أبي الفرج الإسكندراني

صوت

بأبي من حرَّم النوم على عيني وناما

بأبي من أضرم القلب اشتياقاً وهياما

فقضى الله علينا فنزحنا وأقاما

أذكري من ليس ينساك وإن لاقى الحماما

إن من نام لعمري يحسب الناس نياما

حدثنا الأستاذ أحمد رامي قال: إن هذا الشعر للدكتور ناجي، وفيه لحن للأستاذ محمد عبد الوهاب يضرب بكل أصابع اليدين على البيان. .

وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: إن الشعر ليس للدكتور ناجي، وإن للأستاذ رامي عذره الجلي في نسبته إليه؛ فالنفس الشعري متقارب بينه وبين العباس بن الأحنف. فكلا الشاعرين من شعراء اللهفات، تحس في أبياته حرارة أنفاسه، ورقة عواطفه. ولو أني كنت قد وضعت كتاباً عن شعراء القرن الثاني، لكان ذلك أجدى على القراء وأليق بي من كتاب (النثر الفني) في القرن الرابع، ولكن الفرصة لم تفت على كل حال. وإنّ من بدأ حياته الأدبية بالكتابة عن عمر بن أبي ربيعة، لجدير بأن يجعل للعباس بن الأحنف موضعاً في حياته الطويلة المباركة، إن شاء الله.

قال أبو الفرج: وهذا وعد ننتظر من الدكتور زكي مبارك وفاءه. ولقد عجبنا من إيثاره (الشريف الرضي) على العباس بتصنيفه كتاباً عنه أثناء إقامته في بغداد! فالشريف وإن جلّ قدره شاعراً ، وسمت مكانته رجلاً، فإن العباس أشبه بأن يكتب عنه الدكتور زكي مبارك طبيب (ليلى المريضة في العراق). أو لعل اسمها ليلى العريقة في المراض، كما يزعم بعض الناس.

الدكتور إبراهيم ناجي وأخباره:

حدثنا الأستاذ صالح جودت قال: إن الدكتور ناجي غضب من نسبة رامي إليه هذه الأبيات

ص: 44

وقال: إن فيها تحريفاً، فصحة البيت الثاني:

بأبي من أضرم القلب اشتياقاً واهتياما

وصحة البيت الثالث:

فقضى الله علينا

فشحطنا وأقاما

قال الدكتور ناجي: ولست أنا بالذي يقول: (اهتيام) و (شحط)؛ ولا بالذي يبدأ البيت بقول (بأبي) فهذه لغة أستسيغها منسوبة إلى أبناء عصرها، ولكني لا أقبلها من أبناء عصري. ولقد كان العباس رقيقاً دمثاً لما قال شحط، ولم يقل افرنقع؛ وقد كانت الكلمة الثانية تقال في عصره، فعمد إلى أرق الكلمتين. ولكن عصرنا فيه ما هو أرق وأعذب وأصدق في التعبير عن خوالجنا المهذبة؛ ولكن رامي (عفا الله عنه) ينسب لي من شعر القدماء ليرميني بالعدول عن مذاهب المجددين، وسأحاربه هو وأمثاله بمثل هذا السلاح حتى يستقيموا. ثم أنشد:

لأروين لهم من غير قولهم

حتى أجدد فيهم عهد حماد

قال أبو الفرج الأسكندراني: والغريب أن الدكتور ناجي يذكر أحد الحمادين، ويتهدد بأن يسلك مسالكهم، ولا يرى أنه بذلك قد (شحط) عن التجديد. وقد همّ أبو الفرج بأن يبدي هذه الملاحظة، ولكنه خشي أن يؤخذ بها لو أذاعها. فإنه هو أيضاً يعارض كتاب الأغاني وينتحل لنفسه لقب:(أبي الفرج)

قال الدكتور زكي مبارك، وقد أدرك لفطنته ما جال بخلد الأسكندراني وإن لم يقله: لا عليك من ذلك، فالتجديد لا يكون إلا من الراسخين في العلم بالقديم. وهذا مارتن لوثر ما استطاع إنشاء المذهب البروتستانتي إلا لأنه كان قسيساً كاثوليكياً، وإنني ما أنشأت مذهب البروتستانتية في الأدب العربي إلا لأني أزهري

حدثنا الدكتور زكي أبو شادي. . . بل لم يحدثنا بشيء لأنه صاحب مجلة تتعرض للناس بالسوء.

وحدثنا صالح جودت قال: إن حماداً الذي يذكره الدكتور إبراهيم ناجي في قوله.

لأروين لهم من غير قولهمو

حتى أجدد فيهم عهد حماد

ليس أحد الحمادين الذين يشير إليهم الدكتور زكي مبارك، ولكنه الأستاذ محمد علي حماد

ص: 45

محرر مجلة (الشعلة) فهو أقرب إلى خيال ناجي من هؤلاء الذين علت ذكرياتهم طبقات من غبار القرون. وما كان لناجي ولا لأحد منا نحن المجددين أن يلتفت هذا الالتفات، فنحن إنما نستمد الوحي الشعري من الحياة لا من الكتابة عن الحياة، ولا من الكتابة عن الكتابة عن الحياة. نحن نذكر حماد الشعلة لأننا نراه ونتصل به عن طريق الحواس، وهي صلة الفنان بالحياة؛ ولكننا لا نكتب عن العباسين لأننا لا نتصل بهم إلا عن طريق الكتب. . . والكتب نؤلفها نحن ويقرؤها غيرنا. . . إلا أن تكون بالطبع كتباً أجنبية، فدراسة ناجي لشكسبير أمر معقول، وليس كذلك ما كان قد يفعله لو لم يكن مجدداً فيدرس من يقولون إنهم أشباهه كابن الدمينة والعباس بن الأحنف.

قال الدكتور زكي مبارك: هذا بعض الفوارق بيني وبين ناجي ومدرسته الحديثة. فأنا منطيق ولا أرى كلام صالح يتمشى مع المنطق. أنا أدرس الحياة في حاضرها عن طريق الحس، وأدرس ماضيها عن طريق الدرس والخيال، وأدرس مستقبلها عن طريق التنويم المغناطيسي. ولقد أفدت من التنويم وما يتصل به من الدراسات أن صار في وسعي تعرف ما يجول بنفس محدثي من الأفكار والخواطر. وليس ذلك مجرد ذكاء، وإن كنت ذكياً وزكياً بالذال والزاي، ولكن عن طريق العلم والدرس. ولن تمر غير أشهر قلائل، فأجوز امتحان الدكتوراه للمرة الرابعة ولكنها ستكون في هذه المرة في (المازمارتيرم) وسيكون في استطاعتي أن أتعرف ما في الكتب دون أن أقرأها. فأكتب عن الشافعي مرة أخرى دون أن أعيد قراءة كتاب الأم، وأنقد شعر السيد الحميري، وإن كان شعره قد ضاع.

عود إلى حياة الدكتور ناجي

هو زعيم المدرسة الحديثة؛ ولهذه المدرسة طلبة وفيها مدرسون ولكن ليس لها دراسة ولا موضوع قابل للدرس. ولكن في التعليقات الشفوية المتفرقة على قصائد الشعراء المعاصرين مادة لو جمعت لكانت موضوعاً طريفاً لها. وهذا بعض ما سنتناوله في هذا الكتاب

وسنتبع طريقة أبي الفرج الأصفهاني في تحقيق الرواية والإسناد. ولن نخترع ولن نلفق إلا أن يكون ذلك من مستلزمات الكتابة. وكذلك كان يفعل الأصفهاني

ولقد ننسب إلى شاعر من غير شعره لأنه كان الواجب أن يقول هذا، فإن حاد عن هذا

ص: 46

الواجب فالذنب ذنبه هو ولا علينا أن نؤكد صدق الرواية. وسنضرب المثل المقنع بأن لنا الحق كله في ذلك

تتلخص الفكرة العامة لآراء المدرسة الحديثة في هذه النظرية: ما دمنا مجددين في اللغة العربية فالاقتباس عن الغرب تجديد لأنه في لغتنا سيكون جديداً. ولكن محاكاة العرب محرمة لأنها تكرار لما في هذه اللغة

إنهم لا يقولون ذلك ولكن أحسب هذا هو الذي يجب أن يقولوه. أما وقد قالوا غيره فالذب عليهم، وما دمت أدون آراءهم فهذه هي آراؤهم. أما الذي يقولونه فهو أنهم إنما يرون الجديد جديداً بصدوره عن انفعال نفسي جديد، وهم لذلك يزعمون أنهم ينكرون الاقتباس من الأدب الغربي كما ينكرون محاكاة العرب الأقدمين

ولكن الأمر لا يقف عند هذا بل حياة هذا الجيل مقتبسة من الحياة الغربية إلى حد كبير؛ فالاقتباس عن الغرب في الحياة ينشئ في الأدب اقتباساً أصيلاً لا يتنافى مع التجديد. وبذلك لا يختلف ما قلته عنهم في حقيقته مع ما يقولون، ولكن الذي ينكرونه من الإعراب عن الرأي الذي يدينون به يبيح محاكاة العرب والاقتباس من الغرب وعليهم القول وعليّ التوضيح

استطراد في الغرض من هذا الكتاب

وقبل أن نستأنف التحدث عن حياة الدكتور ناجي وشعره نقول إن أبا الفرج الأصفهاني كان يذكر شاعراً والموسيقار الذي لحن له. هذا في بعض العصور، وفي عصر آخر يذكر شاعراً ومن وقف الشاعر نفسه على مدحه أو هجوه، وفي عصر ثالث يذكر شاعراً وراويته، وفي عصر رابع يذكر شاعراً والأمير الذي يتولى رعايته أو يتولى خصومته

هذا بأن الشاعر في بعض هذه العصور كان يخشى على شعره من النسيان فيتخذ راوية. وفي عصر آخر كان لا يستطيع الحياة إلا في كنف أمير، وفي عصر ثالث لا يستطيع الحياة إلا مناوئاً مشاغباً، وهو في كل العصور على السواء محتاج إلى من يضع له ألحاناً لشعره، لأن الشعر غناء قبل كل شيء.

من أجل ذلك رأيت أن الشعراء المعاصرين ليسوا في حاجة إلى راوية فحسبهم من الرواية المطابع، وليسوا في حاجة إلى من يحميهم فللشعوب الآن ما كان للأمراء في سالف الزمان،

ص: 47

ولكن الذي يحتاج إليه الشاعر المعاصر هو الناقد النزيه.

ولقد وجدت بحمد الله هذا الناقد فسأذكر تاريخ شعرائنا وشعراء الأقطار العربية مشفوعاً بتاريخ ناقده وبنقده إياه. ومشفوعاً كذلك بتاريخ الموسيقار الذي لحن له.

عود إلى حياة الدكتور ناجي

هو طبيب متأثر بالثقافتين الإنكليزية والفرنسية عصبي المزاج ثائر الأعصاب مرهف الحس يكلمك فيهتز جسمه كله حماسة وشدة اقتناع

قضت حرفته بأن يكافح الموت في كل مريض وهو واسع الرجاء واسع الأمل. فرسالته في الأدب لا يمكن أن تكون كرسالة أدباء الهند في العصر الحاضر رسالة إذعان وتسليم. وعلى رغم الأمل والرجاء المستفادين من حرفة الطب فلا يستطيع أن يخلص من أثر المشاهدة للمريض والمكافحة للمرض. وإذا كان السيد يحاكي المسود كما يقول الاجتماعيون فشعر الدكتور ناجي في ساعة إخلاده إلى نفسه واستجماعه ألوان تأثره - شعره هذا يحاكي أنين مرضاه وتوجعهم

نوع الشعور الذي يبشر به هذا الطبيب الشاعر هو التفريج عن الهم بالتعبير عنه

لذلك يعنيه صدق التعبير وهو من أدق الشعراء المعاصرين إبرازاً للفكرة محدودة بحدودها في تصوره، فليس في شرح شعره مجال للتأويل وليس فيه شيء من الغموض. ولكن مجال الحياة التي ينظر إليها وينقدها مجال شديد الضيق؛ وفي نفس ناجي ثورة مكبوتة منشؤها أنه لم يقل كل ما يريد أن يقول. فهو مع أمانته في الإفضاء عما شعر به فيما قال لا يزال يختزن الكثير من التجاريب والمشاعر وبمنعه حرصه على صدق الأداء أن يقول اللفظ حائماً حول معناه أو قريباً منه أو شبيهاً به فيفرج عن نفسه بوسيلة ما بالتعبير عنها. وسيظل هذا الكبت ما دام محترفاً الطب التي تشغل الوقت كله والفكر كله، ولكنها لا تشغل كل المشاعر

هذا ما يقوله ناقده عنه وناقده هو الدكتور زكي مبارك فإن لم يكنه فقد كان الواجب أن يكونه

أما ملحنه فهو الشاعر الموسيقار صالح جودت

صوت

ص: 48

ليلى العريقة في المراض

بيضاء شاحبة البياض

مصفرة العينين تت

قل بالدلال وبالتغاضي

مكنونة ليست تعد

من الطوال ولا العراض

فإذا رأيت ذبولها

أبصرت نرجسة الرياض

وإذا سمعت أنينها

شاقتك ضفدعة الحياض

أصغى فيبعث صوتها

كل انشراحي وانقباضي

الشعر للدكتور ناجي وفيه لحنان أحدهما لم يسمع قط، والآخر لم يصنع بعد: وكلاهما من صنعة الأستاذ صالح جودت.

(يتبع)

عبد اللطيف النشار

ص: 49

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

في مثل هذا الجو الذي كدرته دسائس الماكرين والطامعين، راحت وزارة البارودي تعالج ما كانت تشكو منه البلاد، ومن ورائها نواب الأمة يشدون أزرها، وإنهم ليعلمون ما كان يحيط بوطنهم من الكيد والإعنات.

وأحسن البارودي من أول الأمر بتزايد الجفاء بينه وبين الخديو. فما كان ليسيغ توفيق أن يصبح الأمر بينه وبين الوزارة قائماً على أساس غير ما ألف من مبادئ السيطرة ونوازع الاستبداد؛ ولكن الوزارة استعاضت عن معاونة الخديو بمؤازرة البلاد. . .

وكان أول ما واجهته الوزارة من الصعاب بطبيعة الحال هي مسألة الميزانية؛ أو بعبارة أخرى لائحة المجلس التي بسببها استقالت وزارة شريف؛ أو على الأصح أجبرت على الاستقالة.

ويجمل بنا أن نأتي بالحديث على سرده في هذه المسألة لنتبين إلى أي حد كان افتيات الدولتين على البلاد، وليرى الذين رموا حركتها الوطنية ورجلها بمختلف التهم مبلغ ما في مزاعمهم من جهل أو عدوان.

جاء في خطاب شريف باشا الذي تقدم به إلى المجلس بعد انعقاده؛ وقد خطت الحركة الوطنية خطوة واسعة بعد يوم عابدين قوله: (فإنه لم يحجر عليكم في شيء ما، ولم يخرج أمر مهم عن حد نظركم ومراقبتكم. إنما لا يخفاكم الحالة المالية التي كانت عليها مصر مما أوجب عدم ثقة الحكومات الأجنبية بها، ونشأ عن ذلك تكليفها بترتيب مصالح، وتعهدها بالتزامات ليست خافية عليكم، بعضها بعقود خصوصية، والبعض بقانون التصفية. فهل يتيسر للحكومة أن تجعل هذه الأمور موضعاً لنظرها أو نظر النواب؟ حاشا لأنه يجب علينا قبل كل شيء القيام بتعهداتنا وعدم خدشها بشيء ما، حتى نصلح خللنا، وتزداد ثقة

ص: 50

العموم بنا، ونكتسب أمنية الحكومات الأجنبية. ومتى رأت منا تلك الحكومات الكفاءة لتنفيذ تعهداتنا بحسن إخلاص بدون مساعدتها. فنتخلص شيئاً فشيئاً مما نحن فيه).

بهذه الكلمة مهد شريف لخطته فيما يتعلق بلائحة المجلس، أو ما نسميه نحن دستوره، وعلى الأخص فيما يتعلق بالميزانية. ثم جاءت اللائحة تنص على أن:(لمجلس النواب أن ينظر في الميزانية ويبحث فيها، وتعتمد بعد إقراره عليها وعلى رئيس المجلس أن يبلغ ذلك إلى ناظر المالية لغاية اليوم العشرين من شهر ديسمبر بالأكثر).

(ولا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للأستانة أو للدين العمومي، أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية).

هاتان هما المادتان: الثالثة والثلاثون، والرابعة والثلاثون؛ من لائحة المجلس. وبمقتضى أخراهما يحرم المجلس من النظر في نحو نصف الميزانية، لأن هذه الأبواب المستثناة من الميزانية كانت تقرب من نصفها.

ولقد كان المجلس يطمع في أن ينظر في الميزانية دون أن يستثني منها شيئاً ما دام هو القيم على حقوق البلاد. ولكن الحكمة قضت عليه أن يتواضع فيقبل لائحة شريف على ما بها من نقص.

ففعل ذلك ولكنه لم يفد من حكمته وا أسفاه شيئاً. . . فقد كبر على الدولتين أن ينظر المجلس في أي جزء من الميزانية، فرمتاه بالمذكرة المشؤومة التي كان من نتائجها ما رأينا من تطرف المعتدلين وثورة المتطرفين، والتقاؤهما جميعاً، وتمسكهما بالنظر في الميزانية مهما يكن من العواقب. الأمر الذي طاح بوزارة شريف، وأحل محلها وزارة البارودي. . .

وجاءت وزارة البارودي. فلم يكن أمامها إلا طريق واحدة: هي السير وفق رغبة النواب، والرأي العام الوطني في البلاد. فخطت تلك الخطوة مستندة إلى مؤازرة الأمة لها معتمدة على حقها. فكان ما قررته في مسألة الميزانية ما يأتي:(لا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للآستانة أو الدين العمومي أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية)

(وترسل الميزانية إلى مجلس النواب فينظرها ويبحث فيها (بمراعاة السند السابق)، ويعين

ص: 51

لها لجنة من أعضائه مساوية بالعدد والرأي لأعضاء مجلس النظار ورئيسه، لينظروا جميعاً في الميزانية ويقرروها بالاتفاق أو بالأكثرية).

ووافق المجلس على اللائحة الجديدة التي تقدمت بها إليه وزارة البارودي، وكان هذا الرأي الأخير، أعني تكوين لجنة من أعضاء المجلس مساوية في العدد لأعضاء مجلس النظار قد عرض كحل من الحلول على وزارة شريف. فأبت الدولتان قبوله؛ فلما قضت وزارة البارودي في الأمر حسب مشيئة النواب، ثارت ثائرة الدولتين اللتين جاءتا لنشر روح المدنية والحرية في الشرق!

ولقد جعلت الوزارة الأمر للأمة فيما إذا وقع خلاف بين المجلس والوزارة. فنص في دستور المجلس أو ما سماها اللائحة على ما يأتي:

(إذا حصل خلاف بين مجلس النواب ومجلس النظار، وأصر كل على رأيه بعد تكرار المخابرة وبيان الأسباب، ولم تستعف النظارة فللحضرة الخديوية أن تأمر بفض مجلس النواب وتجديد الانتخاب على شرط ألا تتجاوز الفترة ثلاثة أشهر من تاريخ يوم الانفضاض إلى يوم الاجتماع. ويجوز لأرباب الانتخاب أن ينتخبوا نفس النواب السالفين أو بعضهم).

(وإذا صدق المجلس الثاني على رأي المجلس الأول الذي ترتب الخلاف عليه ينفذ الرأي المذكور قطعياً).

هذا هو الحل الذي عالجت به وزارة البارودي مشكلة الميزانية والذي من أجله حقت عليها لعنة الدولتين، وحق عليها عقابهما. مع أنه لا يمكن أن يكون هناك تساهل في مثل هذا الأمر، وفي مثل تلك الظروف من هذا الذي جرت عليه الوزارة.

هؤلاء نواب شعب يجتمعون باسمه للنظر في صالحه، فكيف يتسنى لهم ذلك إن لم يكونوا قوامين على ماليته وهي أساس كل شيء ودعامة كل إصلاح؟ وكيف يكون الحكم قائماً على أساس ديمقراطي إذا حيل بين نواب الأمة وبين النظر في الأموال التي تجبى من أفرادها؟

وإذا كانت لمصر ظروف خاصة ناشئة من ديونها التي لم يكن لأهلها يد فيها، فأي شيء كان يطمع فيه من نوابها أكثر من أن يتركوا ما يتعلق بالدين دون تدخل فيه؟

ص: 52

ولكن الدولتين كانتا تحاربان المجلس فحسب مهما بلغ من اعتداله وحكمته. كانتا تحاربانه، فتحاربان فيه الوطنية المصرية والقومية المصرية، لأنهما إن نمتا وازدادتا قوة، ضاعت الفرصة، وخرجت مصر سالمة مما كان يدبر لها! أنظر إلى الاحتجاج الذي كتبه المراقبان الأجنبيان في 12 يناير سنة 1882 عندما علما نية النواب في وزارة شريف، قالا:(يظهر أن مجلس شورى النواب يتهيأ لأن يطلب حق تقرير الميزانية، ولهذا نرى من واجبنا أن نقول: إن إعطاء النواب هذا الحق ولو اقتصر على الإدارات والمصالح التي لم تخصص إيراداتها للدين يفسد الضمانات المعطاة للدائنين. لأنه سيكون من نتائجه الضرورية أن تنتقل إدارة البلاد من يد مجلس النظار إلى يد مجلس النواب).

ولا تسل عن مبلغ غضب هؤلاء الطامعين الكائدين لمصر من وزارة البارودي حينما حلت المشكلة على النحو المتواضع الذي بيناه، فلقد انطلقت ألسن الساسة منهم مع ألسن السفهاء من مراسلي الصحف بكل فاحشة وجارحة في الوزارة والنواب جميعاً على نحو خليق بأن تخجل منه الإنسانية. فهذا نظام موضوع بأسره تحت سيطرة جيش ثائر كما صوره كلفن في تقاريره؛ وهذه وزارة جامحة تسوق مصر إلى الخراب، وهؤلاء نواب لا يعرفون من معاني الوطنية إلا التعصب الأعمى فضلاً عن جهلهم وضيق عقولهم.

كتب ماليت يصف النواب: (إن ما يتظاهرون به من طموح إلى العدل والحرية قد انتهى بأن حلت سلطة الجيش الغاشمة محل كل سلطة مشروعة).

وقال كوكسن يصف قانون الانتخاب الذي وضعته الوزارة السامية: (إن الغرض منه في هذا البلد أن تكون كل المزايا الانتخابية لمن رشحتهم السلطة الحاكمة، والسلطة الحاكمة الآن هي سلطة الجيش).

وأوعز ماليت إلى وكلائه في الأقاليم أن يكتبوا تقارير عن مبلغ ما وصلت إليه الحل من سوء في البلاد، وأرسل تلك التقرير إلى حكومته، وبلغ من الجرأة على الحق، بل بلغ من صفاقة أحد هؤلاء الطامعين لتغلب الجشع الاستعماري على لبه أن يكتب يندد بإلغاء الكرباج. فقال وما أعجب ما قال: (إن الحاكم الشرقي إذا حرم كرباجه، وحظر عليه أن يسجن من يشاء عجز عن سياسة قوم اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكومة فردية قوية. إن الطريق الذي سارت فيه الحركة منذ عام، جعل الفلاح يعتقد أنه يستطيع الوصول طفرة

ص: 53

إلى ما يسمونه له حرية، في حين أن ما اكتسبته هذه الحركة من قوة جديدة بإسلام أزمة الأمور إلى طائفة من الخياليين النظريين جعل أثرها في السلطة على وجه العموم أثر الماء تصبه على قطعة من السكر).

هذا هو ما قاله ذلك الإنجليزي الذي تفتخر دولته بأنها سبقت الدولة إلى الحرية، والتي ما فتئت منذ عهد كرومر في مصر تفاخر بأن معتمدها هذا هو الذي أبطل الكرباج في هذه البلاد!

وإنا لنسأل الذين يقرءون هذه المفتريات، والذين يتتبعون أساليب إنجلترا وفرنسا في الكيد لمصر - نسأل هؤلاء السادة - الذين يعلمون هذا، ومع هذا يعيبون على عرابي وزملائه تطرفهم: أكانوا يفعلون غير ما فعل عرابي وأصحابه إذا كانوا يحبون أوطانهم حقاً، وكانوا يعيشون في مصر في تلك الأيام؟

أما الذين كانوا يجهلون تاريخ هذه الدسائس التي كانت تبثها إنجلترا في مصر، وحملوا لجهلهم بها على عرابي ما حملوا مجاراة منهم لما أشيع عنه، فحسبنا أن نريهم حقيقة الأمر ونكل المسألة بعد هذا إلى فطنتهم وضمائرهم.

وما ندافع عن عرابي إلا لأننا نعتقد أنه ظلم، وأن الذين ظلموه هم أعداء البلاد الذين استباحوا ذمارها وألحقوا بها الذل والهوان، وما يجدر بمصري وبلاده فقيرة في الأبطال أن يشايع الذين حاولوا أن يمسوا بالباطل تاريخ رجل كانت البطولة في مقدمة صفاته.

على أنه ما كان لباطل أن يطمس نور الحق إلا أن يطمس ظلام الليل نور النهار؛ وهيهات أن يتفجر نور النهار ولا تذوب في أمواجه الوضاءة المشرفة ظلمة الليل، وإن تراكمت من قبل بعضها فوق بعض. . .

ولقد جعل الكائدون لمصر الجيش هدفهم فيما راحوا يشيعونه من مفتريات. أنظر إلى قول ماليت في تقرير له عن: (تزايد اختلال الأمن في البلاد لقلة اكتراث الأهالي بأولياء الأمور الملكيين، ويعزى ذلك إلى سلوك رجال الحزب العسكري الذين لا يعاملون زملاءهم الملكيين بالاحترام الضروري لإدارة البلاد، وقد أخذت الرشوة تعود إلى سابق عهدها بين الموظفين، ومما يساعد على انتشارها كثرة التغيير والتبديل في كبار الموظفين). . . ثم يقول في وصف ما زعمه من الضيق الذي وقع فيه الفلاحون في سبيل الحصول على

ص: 54

المال: (ويعزو الملاك قلة رؤوس الأموال وما هم فيه من الضيق إلى سياسة الحكومة الحاضرة التي لا تبعث على الثقة بها، ويجهرون بأنهم إذا عجزوا عن دفع الضرائب فالتبعة واقعة على الوزارة).

وليس عجيباً أن يسلك كلفن وماليت وأشياعهما هذا المسلك في الطعن على الوزارة، وقد أدركا ما كانت تنويه حكومتهما من العمل على تمهيد السبيل للتدخل المسلح بعد هذا التدخل السياسي

ولقد كانت تلك المذكرة المشؤومة خطوة واسعة نحو هذا الغرض المرسوم. فبسببها كان لا بد أن تتفاقم الحوادث لتصل بالبلاد إلى كارثة الاحتلال. كتب قنصل فرنسا إلى حكومته يوم 29 يناير يقول: (إن الرغبة البادية على مجلس النواب من جانب في أن يصير برلماناً، والخطة القوية التي رأت الدولتان من جانب آخر أن تختارها، والتي كانت مذكرة (7 يناير) تعبيراً عنها، هما السببان الجوهريان اللذان اصطدم كل منهما بالآخر. فأوجدا الموقف الحالي). وكتب في يوم 6 يناير يقول:(يمكن أن يقال إن الانقلاب الذي أحثه مجلس النواب المصري جواب منه على مذكرة (7 يناير). فلقد أعلنا في هذه المذكرة أننا نحتفظ بالنظام الحالي ضد الجميع. فأجاب المجلس على ذلك بأن غيّر هذا النظام تغييراً جوهرياً. وبذلك وضعنا أنفسنا في موضع صارت الضرورة قاضية علينا فيه بأن نتدخل أو نعدل سياستنا).

وهذا الذي ذكره ذلك القنصل يصور الحال تصويراً صادقاً، وما كان موقف الدولتين يخفى على أحد من الوطنيين، وعلى ذلك يقضي الأنصاف على الذين يحكمون على أعمال رجال ذلك العهد، وفي مقدمتهم عرابي أن يضعوا في أذهانهم قبل كل شيء أطماع هؤلاء الساسة، وأن يصوروا تلك الأعمال على هذا الأساس.

(يتبع)

الخفيف

ص: 55

‌رسالة الفن

الرقص قديما وحديثا

للأستاذ محمد السيد المويلحي

ينظر الشرق في هذا الزمن إلى فن الرقص نظرة احتقار واستنكار لأنه لا يعلم عنه أو لا يحب أن يعلم عنه إلا أنه مجلبة اللهو والسرور، وإرضاء للغرائز الحيوانية، ثم هو يعتقد اعتقاداً يبلغ حد الإيمان - ولعله صادق - أن جميع محترفات الرقص من الطبقة الفقيرة التي لا تكترث لعوامل الشرف والتقاليد لا كثيراً ولا قليلاً. . . أولئك اللائى لا يرقصن لأنهن يجدن فن الرقص ويلممن بأنواعه الكثيرة، بل لأنهن يرقصن لملء البطون وستر الجسوم وإرضاء الرجال ليس إلا. . .!

هو لا يعلم أو لا يحب أن يعلم أن الرقص من أروع الفنون وأبدعها إن لم يكن أروعها وأبدعها جميعاً، فقد ظهر مع الإنسان الأول (على الأرض) من غير تعليم أو تدريب، ومن غير قواعد مرسومة أو أصول موضوعة، ومن غير أن يعرف أن هذا الذي يقوم به ويؤديه سيصبح مع مرور الزمن وكر الدهور فنّاً ككل فن آخر له قواعده وأصوله، وقيوده وحدوده. . .

فالطفل الصغير الذي لا يفرق بين الجمر والتمر، تراه إذا صفا ناغى وناجى وأخذ يهز جسمه، ويحرك رأسه، ويلعب بيديه في حركات بريئة منتظمة تعطي للناظر صورة بديعة (للرقص) الساذج الفطري الذي يجري مع الدم ويتحرك مع كل حركة للطفل حركات مضبوطة (موزونة) كأنما تعلمها وتلقنها عن مدرس ماهر!

والعجيب في الأمر أن تلك الحركات الطبيعية التي تصدر عن الطفل لو وزنت (فنيّاً) وقدر لها مثلاً (نواراً) زمنياً لكل حركة لرأينا أنها تجري على هذا النمط، وعلى هذا التقدير دون أن تزيد أو تنقص أو تخل بهذا الحساب الدقيق!

هذا الطفل بذاته لو غضب، أو خاف، أو تألم لعبر عن غضبه وخوفه وألمه بحركات تختلف تمام الاختلاف عن أختها، ولأعطانا صوراً مختلفة صادقة لهذا الفن الطبيعي الذي يجري مع دمه كما قلنا والذي يسجل خلجاته تسجيلاً دقيقاً لأنه يقوم في هذا الدور مقام الكلام ومقام التعبير. . .

ص: 56

والصبي الصغير الذي لا يفهم من الدنيا إلا أنها أكل وشرب ولعب ولهو ويقظة ونوم تراه إذا سمع لحناً أو عزفاً (رقص) معه وتابع موسيقاه وتنقل معه من نغم إلى نغم ومن مقام إلى مقام بإتقان يثير الدهشة ويبعث على العجب والحيرة عند من لا يعلمون أن الصبي لم يفعل شيئاً أكثر من أنه أسلم حواسه وأدمج خوالجه حتى نسي نفسه ونسي كل شيء يحيط به إلا هذا اللحن الذي حرك هذا الشيء الخفي الذي يجري في دمه وهو الرقص. . .!!

والمرأة والرجل، والفتاة والشاب!! ما بال الجميع عندما يسمعون (الموسيقى) التي تلائمهم وتوافق ميولهم يتمايلون برؤوسهم ويضربون الأرض بأرجلهم ويحركون أصابعهم وأيديهم في حركات منتظمة مستمرة؟؟ إنه الرقص الذي يجري مع الدم والذي تؤديه الأجهزة العصبية في حركات غير إرادية!!

(والزار) الذي يقولون عنه إنه ترضية للجن حتى تترك الأجسام أو تعفو عن أصحابها فيبرءون من أمراضهم (وكساحهم)

لو أسقطنا من حسابنا الدجاج الأبيض (أبو منقار أحمر وذيل أصفر) والخروف البني الذي لا شية فيه، والحمام اليمني الذي يرضى عن صوته الجن، والدم الذي يشربه المريض ويلوث به ملابسه وجسمه. . . لو أسقطنا من حسابنا هذا والبندق والفستق والفطير والبلح، ألا يبقى غير الطبل والرقص المنتظم تتثنى له المرأة وتنقبض وتنبسط في حركات إيقاعية سليمة؟؟

قلنا إن الرقص فن فطري نشأ مع الإنسان من يوم أن خلقه الله وقد كان قدماء المصريين يستخدمونه في لهوهم وحزنهم، وحروبهم وقرابينهم، وعبادتهم لآلهتهم لأنه كان عندهم في منزلة التقديس. . . تحترمه الكهنة وتعتقد أن الآلهة لا تقبل الصلاة ولا القرابين إلا إذا سبقها، الرقص لذلك كانوا يسمحون به ويشجعون عليه. وقد بلغ أنواعه في الدولتين القديمة والحديثة أكثر من عشرة أنواع كل منها يقوم على أساس مكين من الفن الصحيح الذي نقلته أوربا عن أوائلنا وأهم الأنواع:

1 -

الرقص الجميل، وكانت تقوم به النساء شبه عاريات إلا ما يستر عورتهن وكن يحلين صدورهن ونحورهن بالحلي والأربطة، ويرتدين بعد ذلك ثوباً شفافاً طويلاً وإن كان لا يستر شيئاً إلا أنه كان يزيدهن فتنة وسحراً، وكان رقصهن رقصاً مهذباً بديعاً راقياً يمتاز

ص: 57

بالبطء والرشاقة، وكان على شكل جماعات تتجه اتجاهاً واحداً الواحدة خلف الأخرى كما يتضح من الشكل رقم (1) وكان بعضهن يصفق ليحفظ الإيقاع الموسيقي.

2 -

الرقص السريع، وكان يقوم به الرجال في حركات سريعة منتظمة قابضين بأيديهم على قطعتين صغيرتين من الخشب تقرع في أثناء الرقص قرعاً متتالياً سريعاً يتمشى مع حركاتهم ش (2)

3 -

الرقص الفني (الكلاسيك)، ويمتاز بنشاطه ولونه الفني البديع وجماعاته المنتظمة. وهذا الرقص الذي ابتكره قدماء المصريين من آلاف السنين هو الذي نقلته أوربا الحديثة عنهم واستعملته في أوبراتها وسمته. .! ش (3)

4 -

الرقص الحي، وهو أبدع أنواع الرقص القديم لأنه كان ترجماناً صادقاً للتفاعيل الطبيعية والخوالج النفسية فكان يمثل الانتصار والاندحار فيجثو المغلوب خاشعاً خاضعاً تحت قدمي الغالب كما ترى في الشكل رقم (4) الجزء الأيمن، وكان يمثل زقزقة العصافير، وتغريد البلابل ومداعبة النسيم للأغصان كما ترى في الشق الثاني من الشكل (4). . .!

5 -

وهناك أنواع مختلفة عرفها قدماء المصريين، منها: رقص الحصاد وكان يقوم به الرجال وهم يصفقون بالأذرع المصفقة الواحد خلف الآخر في اتساق ونظام، والرقص بالآلات الإيقاعية كانت تقوم به نساء ذوات دل، وكن لا يرتدين إلا غلالات شفافة تنم عن جسوم غضة بضة يرقصن ويعزفن في آن واحد، والرقص بمتابعة الصاجات والرءوس المصفقة وكان الراقص غير العازف كما ترى في شكل (6) ضارب بالصاجات (الأول من اليمين) ثم راقص ومصفق وضارب بالرءوس المصفقة. . . والرقص الحربي وتتمثل فيه القوة والعظمة، ويظهر فيه الجبروت

هذه هي أهم أنواع الرقص المصري القديم أما أهم أنواع الرقص الأوربي والأمريكي فهي:

الفالس، سلوفالس (بوستون) التانجو، الرومبا، الكاريوكا، الفوكس تروت، سلو فوكس، اللامبتوك، الشارلستون، الشّيمي، سونج، بج آبل، جافا، وان استب، توستبس (بازودوبل)، فايف ستبس، جيج، لانسبيه، كادرييه، بلوز، مازوركا، كلاسيك دانس، دانس سور بوانت، كونتننتال. . .!

ص: 58

وفيها القديم والجديد فيها المنقول عنا كما قلنا وفيها المنقول عن زنوج أمريكا كرقصة (الرومبا) وهي قريبة جداً من رقصة (شنجا) التي يرقصها العبيد والتي يسميها العامة من المصريين (شنجه رنجه). . .!

وأهم ما يلاحظ في هذه الرقصات كثرة اللف، والدوران، والحركة. والطابع الذي تمتاز به هو طابع النشاط والرياضة العنيفة أحياناً كرقصة الدانس سوربوانت وتقف فيها الراقصة طول الوقت على أصابع القدمين. . .!

على أن هناك رقصات داعرة ماجنة تشمئز منه الأخلاق، وتنفر منها التقاليد كرقصات البج آبل. اللانسييه والكاردييه وتكون فيها البطن فوق البطن والصدر فوق الصدر والفم قرب الفم وتلعب فيها الحيوانية دوراً كبيراً ولا يقوم بها إلا الشباب والشواب الذين يفيضون بالحيوية الكاملة، وبالجرأة المستهترة وبعدم الاكتراث بما يقال أو يثار وتحرم هذه الرقصات بعض الشعوب الأوربية كالإنجليز

أما الرقص الشرقي والمصري الحديث ونعني بالحديث الذي نراه في هذا العصر فلا يخرج عن الرقص الإيقاعي الذي أدخلته وزارة المعارف في برامج مدارس البنات ورياضة الأطفال وهو رقص بديع أشبه بالألعاب الرياضية منه بالرقص، والرقص البلدي ويقوم به عامة الشعب وبخاصة من طبقة الصعايدة (والفتوات) وهو أشبه الأشياء برقص الحصاد الذي كان يؤدى في الزمن المصري القديم ويمتاز بعزف (الوحدة الثابتة)

وأما رقص الراقصات المصريات والشرقيات فلا شيء فيه من الفن أبداً، ولا غاية من ورائه، ولا غرض من أدائه إلا إرضاء الرجال والاستحواذ على (جيوبهم وقلوبهم)!

فالجمهور لا يصفق للراقصة ولا يشتد ويغالي في تحيتها والإشادة باسمها إلا بقدر ما وُهبت من جمال، وبقدر ما تتمتع به قامتها السمهرية من اعتدال، وبقدر ما توزع من بسمات، وبقدر ما تمنح من لثمات!. .

فالرقص هنا لا يعتمد على فن أو ذوق أو رياضة، وإنما يعتمد على هز الصدور، ورج البطون، واستفزاز أحط الغرائز، وتنبيه (الحيوانية) تنبيهاً عنيفاً صاخباً يدفع الموظف الفقير إلى سرقة مال الحكومة ليتمتع ولو على حساب مستقبله وبيته وأولاده، ويحمل الفلاح الذي حصل أمواله أن يبددها ويصرفها ولو خرب بيته وطلقت زوجه، وشرد بنوه

ص: 59

وبناته!

ويرمي إلى هاوية الخراب والدمار شبابنا الذي لا يعرف قيمة مال أتاه من غير كد أو جهد. . .

ويحفر حفرة الخيبة لكل طالب يسمح له والده بالتردد على هذه المباآت التي لا تعلمه إلا التفكير. . . لا في الدرس والفحص ولكن في حلاوة العينين، وسحر الشفتين ونار القلب والحب!

هذا هو رقصنا (الآن). وهو الذي تحميه الحكومة، وتحافظ عليه وتتغاضى عن صيحات العقل التي طالبت بإلغائه. . .

وهذا هو رقصنا الذي يستنزف أموالنا ويخرب بيوتنا ويدفع شبابنا إلى التخنث والتزين ثم الهلاك. . .

الحكومة تطارد الباعة الذين يكسبون (الملاليم) بعرق جبينهم ليصرفوها على أولادهم وزوجاتهم، ولا تطارد الراقصات اللاتي لا عمل لهن إلا الخراب لكل من يحتك بهن.!

الحكومة تحذف بعض المناظر الهينة اللينة من روايات بعض المصريين المساكين ولا تحذف هذه الدعارة وهذا الطاعون الذي يفتك بصغار تلاميذنا ومجانين وارثينا، والساذجين من عمدنا وفلاحينا. . .!

هذا هو الرقص عندنا ويا له من رقص لم يعلمه أو يلهمه إلا الشيطان!!

محمد السيد المويلحي

ص: 60

‌القصص

وحي نفرتيتي

معجزة الإيمان والحب

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

1 -

مع الربيع

في إبريل من إحدى السنين ولد أدولف، فانساق إلى الحياة مع الربيع

أول نسمة أنعشت رئتيه كانت مشربة بروح من العطر والطيب، وأول صورة وقعت على عينيه كانت مزركشة بزخارف صاغتها يد المبدع البديع، وأول صوت طرق أذنيه كان تنهيدة من نسمة رشيقة حنون، وأول ما رشف من عصير الحياة كان رحيقاً من روح الثمر الطيب الذي تتبرج به الدنيا في الربيع

ويا شقاء الذي يهبط الأرض في الربيع. . . أو. . . يا سعده؟ يتدلى إلى الدنيا فيراها أول ما يراها: باسمة راقصة، مرتلة فرحة، قد أسكرتها نشوة التسبيح. وهو ينطلق إليها وكله روح وكله شعور: لم يعشش فيه العقل، ولم يعفّن نفسه الحذر. . . فلا عجب إذا صدّق الدنيا وأحبها، ولا عجب إذا اطمأن لها، ولا عجب إذا بادلها تسبيحاً بتسبيح

وإن هو إلا حين، ثم يعقب الربيع صيف، ومع الصيف لفحات من سعير؛ ثم يتلو الصيف خريف، ومع الخريف أشباح من فناء معتم مخيف؛ ثم يعقب الخريف شتاء، ومع الشتاء صقيع من موت معربد ينخر الصدور

ولكن وليد الربيع يحتضن صورة الربيع، فمهما تلونت الحياة بين ذراعيه، ومهما أفاق لهل مع الحادثات فرآها الحرباء التي لا تثبت على لون. . فهو لا يزال يرجو منها الخير ويأمل أن تعاوده صورة الربيع

وإنها لتعاوده. توافيه وتبارحه؛ وعلى أمل لقياها وفي ذمة فرحتها يصبر على شقوتها وعلى وحشة ظلمتها

أحبها. ومن حبه لها استشف الحسن في قبحها، والخير في شرها، وما فيها من شر! وإن هي إلا صور!

ص: 61

ولكن الناس يعقلون! يعقلون أنفسهم وأرواحهم! وهم من شدة تعقلهم يتعثرون

يا ليتهم حنوا كما جن وليد الربيع!

2 -

فنان

في معسرة أحب أدولف أن يستكمل من لوازم العيش حاجته، وأن يصارع على صدر الزمان فاقته، فلم يمتشق إلا ريشته. . .

طرق أقرب الأبواب منه ولم يكن إلا باب الجمال والفن. . .

فرحب به الجمال، وأكرم الفن وفادته

حقاً إنه لم يكن في المصورين بارعاً مبرزاً. . . ذلك أنه روى من الفن سجعته وقوت صنعته، وما كان الفن إلا فطرته

3 -

محارب

وزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وصبت الأقدار أهوالها، فخف صاحبنا لها مشدوهاً يلاطم أوحالها، يغربل بالفن أشكالها ويلقف بالصبر أحمالها، فلانت ونامت وقد نال منها مضاعف ما قد أهدي لها

4 -

شرير

صهره الزمن حتى لتكاد نفسه تسيل حسا، وتراكمت تحت قدميه التجارب فرفعته ورفعته حتى لتكاد تخرق السماء هامته.

حلق في جو يقصر عنه الترف والرغد. فلم يعد يرضى أن يعيش كما يعيش الناس، ولم يعد يطيق الحياة مستنقعاً بين جنتين، وإنما أرادها ساحة زاهية نيرة باسمة كالربيع، راقصة مرتلة مسبحة. فسالم الناس وسالم الأرض وسالم السماء

ما كان يبغي من هذه الدنيا غير ما يمسك به الرمق فما ملأ جوفه حتى سعى ليملأ سمعه بالنغم، وليملأ بصره بالصور. تدثر بالفن، وأغمض عينيه ونام على الصخب يسترجع الربيع إذا غاب عنه، ويستجديه الراحة إذا حضره

ولكنه لم يعتزم أمراً، ولم يخلبه هدف. فراح يخبط في الشرق وفي الغرب راضياً آمناً، ولكن رضاءه وأمنه شابتهما حيرة إذ كان يحس هتافاً يتلوى في نفسه غامضاً مبهماً مبعثراً

ص: 62

في جوانحه تعجز اللغة عن حشده وجمعه وإنشاده كلاماً ولفظاً، ولم يكن يحس شيئاً أهنأ من هذا الغموض البنفسجي الشفاف، فاستسلم له يداعبه ويناغيه متلمساً إفصاحه ودعوته

5 -

دعوة الحب

كان الجمال يستهويه فيستقصيه في مجال السمع ومجال البصر ومجال الحس ومجال الوعي. فكان يتردد على رياض الجمال ما يغفل روضة، وكان يتعطف على معارج الحسن يُسري به فيها فيلمس من أسراره مالا يراه غيره، فكانت له عند كل جميل وقفة

والتقى هذا المستعشق في جولة من جولاته بتمثال رصد فيه فنان حساس لمعة من لمعات روح نفرتيتي فلم يملك إلا أن يسكن أمام التمثال وقد اختبل حسه وتذبذب بين نزعة الرقص للفنان والسجود لنفرتيتي ومبدع نفرتيتي

رآها أنثى قائدة موجهة فوقف بين يديها وقفة مرن عليها في الجيش. . . وسمعها تسأله:

- وماذا تريد أن تصنع؟

فقال: لا أدري

فعادت وسألته: ألست تحس شيئاً؟

فأجابها: إني أحس

فأمرته: أن لبّ نداء حسك

وسكتت، وشعر بها وكأنها تنصرف عنه أو تنخطف من تمثالها فاستأذن وانفرد

6 -

في الوحدة

راح يقول لنفسه:

- أما أنها حدثتني وأني حدثتها، فقد حدثتني وحدثتها، وأما أن هذا المعروض للناس تمثال، فإنه تمثال لم يحدث أحداً ولم يحدثه أحد. فلا بد أنه تعرفني، ولا بد أنه اختارتني من بين زوارها، ولعلها تسللت من وطنها المستحي لتلقاني دون غيري، (هي) قطعت إليّ آفاقاً وآباداً فكيف أغفل عنها و (هي) تنتقل بين أعطاف الوجود باحثة عني. لابد أنها المكتوبة لي. . .

وإلا فما لي لم تعجبني امرأة. . . وما لي قد آمنت قسراً عني أنه لن تعجبني بعدها امرأة؟!

ص: 63

إذن. . . فيا لقرب الحبيبة!

واللقاء بيدها. . . فيا رحمة الحبيبة!

عليّ أن أسترضيها. إنها طلبت مني أن ألبي حسي، فإلى أي شيْ قصدت. . . وأنا. . . بماذا أحس؟ وأي حس هو الذي تفيض به نفسي حتى ليخفى ما عداه من الأحاسيس؟

أما أنا. . . فإني محروم. إني أرى نقائص كثيرة ويخيل إليّ أني أملك إصلاحها ولكني غير متمكن من شيء أصنعه

ولست وحدي المحروم، فإني أشعر أن حولي كثيرين محرومون، منهم المحروم من قوته. بل إني محاط بجمع. . . بحشد. . . بجيش. . . بشعب من المحرومين. . . إني أعيش في وطن محروم. . . بل في جيل محروم مظلوم. واحتمال الظلم والحرمان نقص. . . ولعلها لا ترضى عن منقوص

فمن هو الظالم؟ أين هو؟. . .

. . . وخرج أدولف من حديثه مع نفسه بأن عليه عبئاً ألقاه على كتفيه أهل جنسه من الجرمان يريدون أن يتوحدوا. . .

وما أكبره من عبء!

7 -

معها مرة ثانية

ودلف إليها مرة أخرى فوجدها تنتظر منه إشارة تعرف بها أنه قد حدد في ذهنه قيمة مهرها من مادة ومعنى. فأطرق خجلاً وقال:

- أليس عسيراً توحيد جرمانيا؟

- ما من شيء في الحياة عسير. وكل ما أردت ميسور. كان لي صهر، وكان يحب المال. . . ومع هذا فقد استطاع أن يوحد الله. . . وأنا. . . وقد كنت وثنية استطعت أن أعبد الله. . .

- وما لله ومالي؟ أترين أني جدير بصنع المعجزات؟ لقد مضى زمان المعجزات يا سيدتي

- إنك كسلان!

- كلا

- أثبت!

ص: 64

وانطفأ التمثال. . .

8 -

مؤمن ونائمون

وبدأ أدولف الكفاح. فجمع حوله الشباب. . . وجاهد ما جاهد حتى استولى على ألمانيا. . .

وقضى هذا الدهر وهو يتردد على محبوبته فلا ينعم منها إلا بومضة وبسمة من علامات الرضى

. . . حتى اشتاقت حكومة مصر إلى تمثال الملكة فطلبت من حكومة ألمانيا أن تعيده إلى وطنه. . . يومئذ زارها فإذا هي ضاحكة تسائله:

- مالك؟

- إنهم يريدونك في مصر

- وما مصر؟

- وطنك

- وطني أنا؟ أنا وطني أينما كنت وإذ ما أكون. لست أحل أرضاً ولا أشغل مكاناً

- ولكنك كنت ملكة مصر

- ومصر الآن في زاوية من ملكي

- أي إنسان أنت؟

- كان الإنسان بعض أزيائي!

- فأي كائن أنت؟

- إنه كائن واحد!

-. . .!! وهل يفهمونك في مصر. . . هل يحسونك؟ واضمحل أدولف وتخاذل. . . وقال:

- لا يمكن. . . فلتبق هنا أيها التمثال فإني أرى فيك عجباً. . . واعتذر (هتلر) لحكومة مصر وقال إنه يحب الملكة المخلدة. . .

9 -

الناس يسخرون

وطابت للناس سخرية وأضحوكة. . . وما أكثر المآسي التي يضحك منها الناس ويسخرون، وما أكثر العبر التي يمرون بها غافلين متجهلين!

ص: 65

فن نبع من فن وأفرغ في فن

درة من منح الله سجلها مؤمن يتعبد بالنحت، وتلقاها عاشق متيم بالجمال والحسن فاندلع رجلاً يبهر المتعقلين والمتفلسفين! إنه اندلع. . . وقال: إنه يحبها ولم يزد فسخروا منه. . . فما باله لو قال: إنه يحادثها. . .

منذ إذ أسرها!

10 -

توت عنخ آمون

احتل الألمان (الرين) وعاد أدولف ليلتها إلى مخدعه متعباً مضني. وكان يحن إليها. وكان صادقاً في حنينه. فناداها فلبته فإذا هو معها، وإذا هي تسأله:

- أحسبك ارتحت الآن قليلاً؟!

- الحمد لله

- وأحسبك تريد جزاء؟

- لا. فقد تعلمت منك تناسي الجزاء

- إذن هيا معي

- إلى أين؟

- إلى وليمة صغيرة. . . ألا تحب أن تعرف توت عنخ آمون؟

- قد أتساقط بين يديه

- لماذا؟

- لأنه صاحب الحق فيك

- وهل مسست أنت حقه؟. . . تعال. . . فهو يريد أن يراك. . . وقادته إلى العرش وقدمته إلى الملك

- هذا هو أدولف

- مرحباً. . . هل تشرب خمراً من خمرنا؟

- قد تروقني. . . ولكنكم قد تحسنون إلى لو أسمعتموني ترنيمة من ترانيم صلاتكم

- وماذا لو حيتك الملكة برقصة أو أغنية؟!

- قد تكون متعبة

ص: 66

- أظنه لا يتعبها ما يرضيك. . . أليس كذلك أيتها الملكة؟ ورفعت المائدة. . . ورفع الملك والملكة. . . وهبط أدولف وعاد إلى مخدعه محزوناً. . .

لقد كان يحسن أن يتقي هذه المقابلة. إنه لم يربح منها شيئاً إلا غيرة خاطئة صوبها إليه قلب صاحب حق

. . . ولكن. . . لا. . . أو هل يمكن أن يكون قد طاب لها أن تعبث به. . . ولماذا لا تكون هذه الصلة كلها من أولها إلى آخرها مؤامرة دبرتها مع نفسها، أو أغرتها بها شيطانة عابثة. أو دبروها معاً

بدأ الشك والقلق يخزان نفسه

11 -

يتخبط

إنهار المسكين!

كان قد أحس حبه المتجرد قد رسا به في مرفأ جديد من مرافئ الوجود: كله ربيع!

رسا فيه. وهم أن ينزل إليه فإذا به يضع قدمه في هذه الدنيا من جديد وفي بقعة من بقاع برلين.

إنه يحب برلين، ويحب ألمانيا. إنه وطني عنيف. ولكن حبه لوطنه لا يزيد على حبه لتمثاله. . . فهل التمثال هو المقصود بالحب؟

و (هي). . . قد قالت إن وطنها القديم لم يعد اليوم إلا جانباً من مسرحها الجديد. وهو لا بد أن يكافئها. . . ولا بد أن يضم إلى ملكه هذا المرفأ البعيد الذي رأى نفسه قد رسا فيه. . .

فما الطريق إليه؟. إلى أين؟. إلى المرفأ البعيد؟ أي مرفأ؟ وأين هو؟!

ويل أو طوبى لمن طلب البعيد!

12 -

عتاب

في هذا الاضطراب الموجع القاسي أخطأ بعض أصحاب أدولف في حقه وفي حق كفاحه فقتلهم بيده. . .

وليس القتل بالفعلة التي يرتكبها الإنسان ثم يسهل عليه النوم. انتابه الأرق ليلتها وثارت به نفسه. كان صرعاه يحبونه، وكان هو يحبهم. حقاً إنهم أخطئوا، ولكن من في الناس

ص: 67

المعصوم؟ ثم من ذا الذي منحه السلطان على الأبدان والنفوس؟

أولا يمكن أن يكون هؤلاء الضحايا أبرياء. . . من يدري؟!

وكيف يقتل المتطهر البريء؟!

العين بالعين. والسن بالسن. وإذا كان في الغفران فضل ففضله للباذل الواهب.

فهل يغتفرها لنفسه؟. كلا. . . كلا. . . فهو إذن منقوص معيب، و (هي) لا تحب المنقوص المعيب. . .

هاهي ذي! تمد يدها بالمسدس إلية. . . مد هو أيضاً يده. تناول المسدس، ورفعه إلى رأسه، وأطلقه. فقد أرادت (هي) أن

يموت مكفراً عن خطيئته.

ولكنه كان قد استنفد الرصاص في رؤوس صرعاه. وكانت الطلقة كاذبة. نظر إليها يعتذر عن جرأته على الحياة بعد ما أرادت فإذا هي تقول:

- هل رأيت. . . ما كانت بك حاجة إلى قتل إخوانك بيدك. فالشر وحده كفيل أن يقتل المخطئين. . . لا تلطخ يدك بالدم بعد اليوم، ولا بالدنس. وليكن منذ اليوم سلاحك الصدق ودرعك الإيمان. . .

- ما هذا؟ كأني سأكف عن المضي في كفاحي. . . فأنا أناضل خصوماً كل منهم جبار عنيد. ولن أصل إلى ما تريدين مني إلا بعد مجزرة أردم بأشلاء قتلاها هذه الهوة التي تفصل ما بيني وبينك

- إذن فأنت لم تبلغ ما أريدك أن تكون. ولست إذن إلا كغيرك من المفتونين!

وغادرته يرتجف وهو يقول:

- كأنها تريد مني أن أقول للشيء كن. . . فيكون

13 -

تجربة

وخانه خائن جديد من اخوته المقربين. . . فانطلق إليه. . . ولكنه أحسها تنطلق إليه معه. . . حتى إذا جاءه ربض أمامه، ومد إليه بالمسدس يده. فتناول المسدس الصديق الخئون وأفرغ رصاصه في رأس بدنه، وخر أمام صاحبه رمة لوثتها الخطيئة، وجثت روحه عند قدميها (هي) باسمة شاكرة إذ هونت عليها سكنى الرمم فاشترت بها براح الخلود. . .

ص: 68

فآمن أدولف بما هدته إليه صاحبته

ومع هذا فقد يحسبه حتى حواريوه من هواة الحروب

14 -

سر نحو الخاتمة

إذن فالحق لا يقف أمامه شيء. والإيمان به هو الطريق إليه. ضمت ألمانيا النمسا. استولت ألمانيا على أراضي السوديت. . . وحدث وحدث، وأمم الأرض كلها كانت مشفقة مما حدث، ولكن أدولف أحدثه ولم يرق قطرة دم

وهو الآن لا يزال يغربل حقائق الحياة وحقوق الناس. وهو مشرف على الدنيا من صومعته المترفعة. . . أما إذا أقر كل حق في موضعه (فهي) راضية عنه. أما إذا طغى فقد تزوره مرة أخرى في مخدعه تعاتبه أو تعاقبه. . .

نفرتيتي ملكة مصر الخالدة لا تسمح أن يصيب بلادها السوء!. . .

(القاهرة في أول يونية سنة 1938)

عزيز أحمد فهمي

ص: 69

‌رسالة العلم

فلسفة ليبنز

إرجاع الحرارة والحركة إلى أصل واحد

للدكتور محمد محمود غالي

بقاء الطاقة يجد تفسيراً في حركة الجزئيات - عمل روبير ماير - المبدأ الثاني في الترموديناميكا - هذا المبدأ يقرر استحالة الحياة في مستقبل الزمن - كيف فسر بولتزمان المبدأ المتقدم - أول دعامة في فكرة الاحتمال والمصادفة.

قدمنا كلمة عن فلسفة جديدة يحاولون بها توحيد الظواهر الطبيعية في الكون والرجوع بها إلى قليل منها، وذكرنا أن كل محاولة في هذا السبيل تُعد تقدماً للإنسان يفوق العديد من الاختراعات التي تبهرنا أحياناً ولا يمكن أن نعتبر الكثير منها خطوة حقيقية في سبيل التقدم، وذكرنا حالة خاصة باكتشاف ليبنز من توحيد ظاهرتي الحرارة والحركة والرجوع بهما إلى ظاهرة طبيعية واحدة، وقد ذكرنا ذلك في معرض الكلام عن النظرية السينيتيكية للغازات والسوائل التي استعرضناها لنثبت للقارئ فكرة الجزيء، وشرحنا تجارب كوتون وموتون واكتشافهما للألتراميكروسكوب الذي نرى به رأى العين أثر ما تحدثه جزيئات السائل على الجسيمات الصلبة الكولويدية التي تتصادم مع هذه الجزيئات، فترى حركة الجسيمات مضاءة داخل نقطة من الماء كما نرى الطائرات في الليل تُضيئها أشعة قوية، وذكرنا أن العلماء توصلوا إلى تفسير هذه الحركة غير المنتظمة والدائمة للجسيمات الصلبة الموجودة داخل السائل، وحسروا الستار عن مشاهدة قديمة للعالم النباتي براون الذي شاهد هذه الحركة منذ سنة 1827 والتي يُروى أن الطبيعي الإيطالي سبالانزاني شاهدها من قبله

ونعود الآن إلى فكرة ليبنز، فللقارئ أن يطالبنا حتى كتابة هذه السطور بأن نقيم الدليل على فلسفته في إرجاع الحرارة إلى الحركة، هذه الفلسفة التي تقدمت اكتشاف براون وسبالانزي بأكثر من قرن، وتقدمت أعمال كوتون وموتون وبيران بقرنين

لقد أقامت العلوم الطبيعية على إثبات وحدة الظاهرتين والرجوع بهما إلى أصل واحد، من

ص: 70

الأدلة مالا يقبل اليوم جدلاً. وقد كان أول هذه الأدلة عن طريق أحد المبادئ الأساسية للعلوم وهو المبدأ القائل ببقاء الطاقة وعدم فنائها، هذا المبدأ يعزز أيضاً النظرية السينيتيكية للحرارة بحيث أصبحت نظرية بقاء الطاقة دليلاً على فكرة ليبنز فضلاً عن إثباتها للنظرية السينيتيكية. ولقد كان ثاني هذه الأدلة تفسير بولنزمان لما يسمونه المبدأ الثاني للترموديناميكا وهو ما سنتكلم عنه فيما يلي، وهو أيضاً عمل على تحقيق النظرية السينيتيكية

أما القانون القائل ببقاء الطاقة الذي يعممه العلماء الآن في كثير من الظواهر الطبيعية فقد وجد أساسه في بادئ الأمر في الظواهر الميكانيكية حيث كان لروبير ماير الفضل في الكشف عن تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية تحولاً حقق وجود علاقة عددية بينهما بحيث تُعيّن دائماً كل كمية من الشغل الميكانيكي كمية من الحرارة تتناسب معها

يذكر كل الذين تخرجوا من كلية الهندسة التجربة المعروفة لتعيين المعادل الميكانيكي للحرارة المعروفة بتجربة جول ويذكرون أن طاقة ميكانيكية معينة ممكن قياسها بعجلة محملة تدور، ترفع حرارة مسعّرٍ وتنقل إليه كمية معينة من الحرارة تتناسب مع الطاقة الميكانيكية بحيث يكون بين الطاقتين نسبة ثابتة هي معامل جول المتقدم الذكر

هذا التحول من طاقة إلى طاقة كان انتصاراً لماير، إذ أصبحت الحرارة مظهراً من مظاهر الشغل الميكانيكي. على أن هذا التحول يجد تفسيره في النظرية السينيتيكية إذا اعتبرنا أن الحرارة هي هذه الكمية من الشغل الموجودة في الحركة غير المنتظمة للجزيئات الداخلية للسائل، أي هذه هي الطاقة الموجودة في بلايين المصادمات الصغيرة، بحيث أن الشغل الميكانيكي هو نتيجة حركة موحدة الاتجاه للجسم، معتبراً وحدة، أي نتيجة حركة جزيئاته متجهة اتجاهاً واحداً

وعلى هذا فتحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة حرارية هو انتقال من حركة منتظمة إلى أخرى غير منتظمة والعكس صحيح، بحيث أن بقاء الطاقة وعدم فنائها دليل جديد على صحة النظرية السينيتيكية التي يصح أن نطلق عيها النظرية الميكانيكية للحرارة

أما عن الدليل الثاني لفكرة ليبنز من أن الحرارة والحركة أمر واحد فقد أتى عن طريق فكرة استحدثت في العلوم الطبيعية كان لها خطرها وأهميتها وكانت فوزاً جديداً للسينيتيكية،

ص: 71

هذه الفكرة خاصة بما يسمونه المبدأ الثاني في الترموديناميكا وهو المبدأ الذي يعين اتجاه الحوادث الطبيعية

كم من حوادث نعتبرها عادية لأننا اعتدناها فلا نسائل أنفسنا عن أسبابها. عندما تنفصل تفاحة عن شجرة فإنها تقع على الأرض بدل أن ترتفع إلى أعلى، ولقد كان الحادث عند نيوتن رغم بساطته لافتاً النظر وسبباً لأن نرث عنه اليوم مسائل من أعظم ما عرفه الإنسان من تفكير منظم، أجل، مسائل إن تزعزعت أركانها اليوم قليلا بعبقرية أينشتاين وغيره فما زالت لها مكانتها من الصحة فيما يخص الكثير من ظواهر الكون. وهكذا عند السؤال عن سبب بعض المظاهر الطبيعية تتعين أمامنا معارف لها من الخطر والأهمية مالا يخطر ببال، فماذا يحدث مثلاً عندما تضع يدك على جسم ساخن؟ إن ثمة نتيجة حتمية هي ارتفاع في درجة حرارة اليد وانخفاض في درجة حرارة الجسم الساخن، فهل تساءلت مرة لماذا يحدث هذا؟ إننا نعلم جميعاً أنه عندما نضع جسماً ساخناً جداً على منضدة فإنه ترتفع حرارة الجزء من المنضدة الملامس لهذا الجسم ويقابل ذلك انخفاض هين في حرارة الجسم الساخن، ونعلم جميعاً أنه لم يحدث بتاتاً أن تفقد المنضدة شيئاً من حرارتها الأصلية لتزيد هذا الجسم الساخن حرارة على حرارته

هذا الموضوع، على بداهته، الذي يتلخص في انتقال الحرارة من جسم ساخن إلى جسم بارد، يعود بنا إلى فكرة أساسية في العلوم الطبيعية، وهي خاصة بتقسيم الظواهر إلى ظواهر عكسية أي ممكن تحولها من حالة إلى حالة كما يمكن العودة من الحالة الثانية إلى الحالة الأولى، وظواهر غير عكسية أي إن قبلت التحول من حالة إلى حالة فهي لا تقبل الرجوع إلى الحالة الأولى

ولزيادة الإيضاح نقول: يحوي الجسم البارد مهما بلغ من البرودة كمية من الحرارة، ومن الجائز أن نزيد في برودته باللجوء إلى وسائل طبيعية مختلفة، بحيث يفقد شيئاً من حرارته، وعليه فليس ما يمنع أن نتصور أن ينقل هذا الجسم البارد جزءاً من حرارته إلى جسم حار، بحيث يرفع الجسم البارد حرارة الجسم الحار على حساب أن يزداد هو في برودته، ولا يتنافى هذا بحال مع مبدأ بقاء الطاقة السالف الذكر؛ ولكن مما يلفت النظر أنه لا بد من عملية خاصة وطاقة أخرى جديدة نصرفها ليكون هذا الانتقال جائزاً، فهو ليس

ص: 72

أمراً طبيعياً يحدث من تلقاء نفسه.

وهكذا لم يحدث أبداً أن فكر إنسان في أن يضع قطعة من الثلج ليرفع بها حرارة فنجان ساخن من الشاي، أو يضع عموداً ساخناً في وعاء به ماء بارد ليزيد في برودة الماء ويرفع حرارة العمود.

إن الذهن العادي لا يستسيغ ذلك، وهو يدرك بالبداهة أن عملاً كهذا ضرب من المحال، وهو يعلم بدون حاجة للرجوع إلى المعادلات الرياضية الصعبة أن قطعة الثلج تعمل على تبريد الفنجان الساخن، كما أن العمود الملتهب يعمل على تسخين الماء ويطفأ عادة فيه، بحيث لم يحدث أبداً لصانعي العجلات الذين يلجئون إلى تسخين الأطواق الحديدية قبل وضعها حول أجزاء العجلة الخشبية أنه عند وضع هذه المجموعة في الماء لتقلص الطوق الحديدي ويشد العجلة، أن برد الماء وازدادت حرارة الطوق، وإنما المشاهد أن يبرد الطوق ويسخن الماء وقد يبلغ الغليان

وهكذا تحتم المشاهدات البسيطة قبل أن تحتم العلوم والمعادلات العويصة أن ثمة نزولاً حتمياً واقعاً من الحرارة العليا إلى الحرارة المنخفضة وأن هذا السير وهذا الاتجاه موجودان في جميع العمليات الحرارية، ولا يتغير ما دمنا لا نلجأ إلى وسيلة خارجية وإلى استعمال طاقة أخرى. ولقد وضح الطبيعيون ذلك بإدخال فكرة يسمونها (الأنتروبي) وهي بالتعريف مجموع تكامل كميات الحرارة الصغيرة الحادثة أثناء الانتقال مقسومة على درجة الحرارة المطلقة، وقرروا أن (الأنتروبي) تزداد دائماً في كل العمليات الحرارية. وأود ألا يشغل القارئ نفسه بموضوع (الأنتروبي) فهي في الواقع طريقة رياضية للتعبير عن القانون الثاني للترموديناميكا هذا القانون الحراري البسيط الذي يلاحظه القارئ في كل مشاهداته اليومية والذي يحتم انتقال الحرارة من جسم عالي الدرجة إلى جسم خفيضها، تقرر كمبدأ عام يربط العلوم الحرارية بمعارفنا الطبيعية، ويقرر أن العمليات الحرارية تتم جميعها في الكون على طريقة التوزيع المتساوي لكل الكميات الحرارية المستعملة. ولئن كانت الشمس التي هي في الواقع المصدر البارز في حياتنا تفقد بالأشعة من وزنها ما يبلغ أربعة آلاف مليون طن في الثانية الواحدة فهي في طريق الفناء كما يعتقد الكثيرون من العلماء أو أنها تزيد حرارتها كما ذكر ذلك حديثاً في النشرات الأمريكية الأستاذ جاموه أي أنها في دور

ص: 73

النمو، فإن حوادثها في كلتا الحالتين تسير وفق المبدأ الثاني للترموديناميكا - هذا المبدأ الذي يعين الاتجاه الحراري من الدرجات المرتفعة إلى الدرجات المنخفضة، ثابت لا يتبدل.

إنما يهمنا من هذا المبدأ الثاني أمران: الأمر الأول خاص بفلسفة الوجود والتطور ولا نتعرض أكثر من أن نقول إنه موضوع يدعو التأمل فيه إلى شيء من الأسف، إذ يدلنا هذا المبدأ الثاني على طريق السير الحراري فيما يتعلق بالكون الذي يسير وفق هذا المبدأ نحو نهاية محتومة، نهاية يسميها العلماء الموت الحراري وتفسير ذلك أنه عندما تتوزع الطاقة الكلية للكون توزيعاً متساوياً تصبح حرارة المادة المكونة لأجزاء الكون المختلفة متساوية. والذين تابعوا مقالاتنا الأولى في وصف الكون والحيز المتمدد وقلة ما به من مادة، يفهم أن هذه الحرارة تكون منخفضة بحيث لا تسمح لأي نوع من الحياة بالبقاء، على الأقل على الصورة التي نفهمها من الحياة والحركة.

والأمر الثاني خاص بعلاقة هذا المبدأ الثاني بالنظرية السينيتيكية، والواقع أنه لم يكن عسيرا أن يتوصل الطبيعيون إلى هذا المبدأ الثاني الذي يشترك في مشاهدة نتائجه اليومية الشخص العادي بقدر العالم الطبيعي، ولكن كان على الطبيعيين أن يجدوا لهذا المبدأ تفسيراً يلتئم مع بقية المعارف الطبيعية، وقد كان لبولتزمان الفضل في أن يجد هذا التفسير الخاص بانتقال الحرارة من جسم حار إلى جسم أقل منه حرارة وعدم إمكان العملية العكسية باللجوء إلى النظرية السينيتيكية، وبذلك وجد بولتزمان مرة أخرى وبطريقة غير مباشرة دليلاً جديداً على فلسفة ليبنز. وها نحن أولاء نسرد في هذه الأسطر لمحة من تفكير بولتزمان وأثره على النواحي الطبيعية الأخرى:

عندما نقول أن لهذا الجسم حرارة معينة فإننا نعني أن لجزيئاته سرعة معينة، هذه السرعة للجزيئات ليست متساوية فمنها ما هو سريع ومنها ما هو بطيء. إلا أن ثمة متوسطاً عاماً لسرعة جميع الجزيئات تمثل حركته المتوسطة، وهذا المتوسط العام يدل على حرارة الجسم، هذه السرعة المتوسطة تزيد كلما زادت حرارة الجسم

وعندما يتلاصق جسمان حرارتهما مختلفة فإن جزيئاتهما تتصادم وتختلط - على أن كل أنواع الحوادث جائزة وقوعها في كل تصادم فردي، حتى أنه من الجائز أن يصطدم جزيء بطيء مع آخر سريع وينقل إليه سرعته الخاصة به كما يحدث هذا بين كرتين من كرات

ص: 74

البلياردو، ولكن مثل هذا الحادث نادر وأكثر شيوعاً منه مصادمات من نوع آخر تتساوى فيها السرعات على قدر الإمكان بحيث أن التعادل الحراري يحدث من تعادل سرعات غالبية الجزيئات المختلفة، وهكذا تكون نتيجة التلاصق نزولاً حتمياً في حرارة الجسم الحار وارتفاعاً حتمياً في حرارة الجسم البارد

على أن أعظم ما في هذا التفسير وهذا القانون الثاني للترموديناميكا أنه يحول هذا الاقتراح السابق إلى قانون إحصائي، ويتساءل القارئ كيف يصبح قانون أساسه إحصاء مبني على المصادفة قانوناً طبيعياً ثابتاً؟ ولكن لم يعد لهذا السؤال محل بعد أن انتصر منطق المصادفة في معظم فروع العلوم الطبيعية ولا سيما بعد (الكوانتا) وما أدخلته من تعديلات جوهرية على معارفنا، وكما يقول ريشنباخ في محاضراته التي أذاعها في برلين: عندما ندخل في حجرة فإننا لا نسائل أنفسنا بتاتاً عن الخطورة التي قد تحدث من اجتماع جميع جزيئات الأكسجين الموجود في الحجرة في ناحية منها واجتماع جزيئات الأزوت في الناحية الأخرى، بل إننا على ثقة دائماً ومهما طال الزمن أن الهواء داخل الحجرة خليط من الأكسجين والأزوت وأن اختلاطهما نتيجة لمصادمات فردية بين جميع جزيئات الأوكسجين وجميع جزيئات الأزوت، ولا شك أنها حادثة نادرة جداً لا يجيزها العقل أن يجتمع في ناحية من الحجرة كل الجزيئات المكونة لأسرة الأوكسجين وفي الجزء الآخر الجزيئات المكونة لأسرة الأزوت، بحيث يصبح جزء هام من الحجرة خانقاً الآخر مساعداً على الاشتعال

ومهما يكن من الأمر فإنه عندما تكون حادثة ما جائزة ولكنها قليلة الاحتمال فإننا لا نأخذها في محل الاعتبار في تسيير حياتنا اليومية - وهكذا نسافر للاصطياف في جبال لبنان العليلة الهواء أو حول بحيرة ليمان في سويسرا المعروفة بمناظرها الخلابة، رغم ما يدل عليه الإحصاء من أنه في مجموع ألوف البواخر المسافرة في العالم يتعرض حتماً بعضها للغرق أو الحريق. وهكذا تراني على استعداد لتكوين ابني ضابطاً بحرياً، لو وجدت لدينا مدارس بحرية منظمة تدرس العلوم الصحيحة، وذلك لأجعل منه شخصاً نافعاً يعتمد عليه، رغم أن الحوادث سجلت في هذا الشهر ثلاث حوادث تأسف لها الإنسانية، وهي غرق ثلاث غواصات لأمريكا وإنجلترا وفرنسا، بحيث أنه يعد ضرباً من السخف أن أمنعه من

ص: 75

تعلم البحرية وأسمح له في نفس الوقت بالخروج من المنزل لشراء حاجياته أو للتوجه إلى المدرسة، لأنه في هذا أيضاً معرض ليلقى حتفه بطريقة أسرع من احتمال غرقه في غواصة قد تغرق في كل بضعة آلاف من الغواصات

وهكذا نغادر جميعاً منازلنا في الصباح بشيء من التفاؤل يملأنا ثقة أننا سنلتقي بأطفالنا في المساء، ولو أن بين مئات الألوف الذين يخرجون كل صباح من مدينة القاهرة يوجد دائماً وكل يوم واحد أو اثنان يُصاب بحادث يحرمه من هذا الاجتماع

إن فهمنا للطبيعة انقلب رأساً على عقب بهذه الفلسفة الجديدة التي أدخلها بولتزمان، فلأول مرة دخل في العلوم الطبيعية قانون إحصائي مبني على مجموع الحوادث الفردية واحتمال حدوثها بدل القوانين القديمة التي كانت لا تستند على هذا النوع من التفكير

من هنا بدأ مجال جديد في جميع المسائل؛ ومن هنا تغلغلت فكرة بولتزمان في النواحي الأخرى للعلوم الطبيعية. ولا شك أنني عندما فكرت يوماً أن أحصل على حالة الماء المشبع بالطمى من دراسة فوتو كهربائية للماء الحامل للطمى كنت متشبعاً بنوع من التفكير الإحصائي لبولتزمان، على رغم أن كل العوامل كانت تؤول بنا إلى الابتعاد عن الطرق النيفولومترية وهكذا رغم العوامل المنفرة استعملت الطرق الضوئية بنجاح لمعرفة كمية ما بالنيل من طمى ووضعت مع العالم بيروه أخيراً أساساً لمعرفة كمية الطمى عن بعد وبدون الالتجاء لاستعمال الأسلاك الكهربائية على أن هذا النجاح مرتبط بوجود متوسط عام لملايين الجسيمات من طمى النيل، متوسط يدل على كمية هذا الطمى ونوعه

وهكذا باتت العلوم كلها مسرحاً لنتائج الإحصاءات الفردية وحساب الاحتمالات، والذين يستطيعون اليوم أن يتتبعوا (الكوانتا) وما أحرزته من نجاح ويفهمونها كما فهمها (بلانك) يدركون أن التقدم الإنساني آتٍ من هذه الناحية الجديدة الخاصة بالاحتمال والمصادفة والتي يظل اسم بولتزمان علماً فيها

ونختم هذا البحث الخاص بالجزيء بأن نذكر للقارئ أن النظرية السينيتيكية قد ساعدت جدياً على فكرة الجزيء وأفهمتنا كنهه وطبيعته بدرجة بلغت الآن اليقين، بحيث أن ترك السينيتيكية يجعلنا عاجزين عن تفسير أحد قوانين الطبيعة وهو قانون بقاء الطاقة وعدم فنائها، ونكرر للقارئ أن السينيتيكية ساعدت أمثال بولتزمان على تفسير بعض مظاهر

ص: 76

الكون مما جعلتهم يتوصلون إلى نوع جديد من التفكير الطبيعي بات أساساً لمعظم معارفنا

وهكذا انتصرت فكرة ليبنز هذا الفيلسوف الألماني الذي طالع في سن صغيرة جدا أعمال كيبلير وجاليليو واستوعب ديكارت، والذي درس الرياضة في جامعة أينا

وسنقيم الدليل بعد الذي كتبناه عن تقسيم الجزيء إلى ذرات ونرى كيف مهدت الكيمياء وانتصرت في هذا الباب وسندخل بالقارئ بعد حين في الذرة ليرى هذا العالم العجيب، والعظيم نسبة لما يحدث في داخله، وبهذا يلمح طرفاً من أعظم ما نعرفه عن الكون.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 77

‌البريد الأدبي

وفاة العلامة الشيخ محمد شاكر

في صباح الخميس الماضي نُعي الإمام الجليل والعالم المحقق الشيخ محمد شاكر، فشق نعيه على المسلمين والعلماء وأهل الأدب؛ فقد كان رحمه الله رجلاً من رجال الجيل، وعلماً من أعلام الدين، وداعية بعيد الصوت صريح القول قوي البرهان.

ولد المرحوم الشيخ محمد شاكر في مدينة جرجا، في منتصف شوال سنة 1282 (مارس 1867)؛ وحفظ بها القرآن، وتلقى مبادئ العلم؛ ثم رحل إلى الأزهر فتلقى العلم عن كبار الشيوخ في ذلك العهد، وعين أميناً للفتوى مع الأستاذ الجليل المرحوم الشيخ العباسي المهدي في مارس سنة 1890. وفي فبراير سنة 1894 تولى منصب (نائب محكمة مديرية القليوبية، ومكث به حتى اختير قاضياً لقضاة السودان في سنة 1900؛ وهو أول من ولي هذا المنصب، وأول من وضع نظم القضاء الشرعي في السودان على أوثق الأسس وأقواها، وله في هذه الفترة تاريخ عجيب لا يُذكر مثله لغير علماء الصدر الأول في الدولة الإسلامية.

ثم عين في سنة 1904 شيخاً لعلماء الإسكندرية فوضع الأساس لتنظيم المعاهد الدينية الإسلامية كي تؤتي ثمرها وتخرج للمسلمين رجلاً هداة يعيدون للإسلام مجده في أنحاء الأرض.

وفي إبريل سنة 1909 صدرت الإرادة السنية بتعيينه وكيلاً لمشيخة الجامع الأزهر فبذر فيه بذور الإصلاح، وتعهد غرسه حتى قوى واستوى، أو كاد. . .

ولأمر ما لم يستمر في منصبه ذاك فاختير عضواً في الجمعية التشريعية في سنة 1913، واعتزل منصبه في مشيخة الجامع الأزهر

ومن يومئذ خرج المرحوم الشيخ شاكر من قيد الوظيفة إلى ميدان الجهاد الحر - في سبيل الله وفي سبيل مجد الإسلام.

فكانت له في الصحف مقالات رنانة ما يزال صداها يتردد بين أقطار العربية.

ولما نهضت الأمة المصرية نهضتها الكريمة في سنة 1919، كان من دعاتها الأولين ومن أشهر قوادها فكتب في الشئون السياسية عشرات من المقالات في الصحف المصرية، دلت

ص: 78

على بعد نظره وصدق فراسته. على أنه إلى ذلك لم يكن له ضلع مع حزب من الأحزاب السياسية في مصر، مؤثراً أن يكون قياده في يده لا يُصدر إلا عن رأيه.

وبجانب ذلك لم يدع مسألة شرعية أو اجتماعية مما يصطرع الرأي حوله إلا قال فيها قالته، صادعاً بما أمر الله، معرضاً عن المنكرين. وكان من أبرز صفاته: صلابته في الدين، وشجاعته في الرأي. واستمر رحمه الله على النهج، مجاهداً لإعلاء كلمة الله؛ لا يرى لأحد عيه سلطاناً، ولا لنفسه عليه حقاً، حتى أصابه الفالج فألزمه فراشه منذ ثماني سنوات، يعاني ألام المرض صابراً محتسباً راضياً عن ربه، حتى غاله الموت فذهب إلى جوار الله راضياً مرضياً.

ولقد نشأ أولاده نشأته؛ فما منهم إلا له مقام معلوم بين المجاهدين لمجد الإسلام والعرب. فإلى أولاده الأساتذة: الشيخ أحمد شاكر، والشيخ علي شاكر، وإلى صديقنا الأديب الأستاذ محمود محمد شاكر، ومحمد محمد شاكر؛ وإلى سائر أسرته والمسلمين عامة، تتقدم أسرة (الرسالة) بالتعزية، راجية ألا يُخلي الله مكان الفقيد العزيز بجهاد أبنائه، وتولاهم الله بتوفيقه وبره. . .

وفاة الأستاذ فليكس فارس

تنعى أسرة الرسالة إلى قرائها عضواً من كرام أعضائها كان له في كل ميدان من ميادين الأدب جولة وفي كل باب من أبواب الإصلاح مدخل؛ ذلك هو المحامي المدره والسياسي الخطيب والكاتب الشاعر الأستاذ فليكس فارس. توفاه الله في منتصف الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء الماضي في مستشفى المواساة بالإسكندرية عن سبعة وخمسين عاماً وهو أنشط ما يكون عملاً لأسرته ولقومه

ولد الفقيد الكريم في المريجات من قرى لبنان العليا من أب عربي وأم فرنسية؛ ثم درس الحقوق وثقف الأدب في اللغتين العربية والفرنسية؛ ثم زاول المحاماة وجاهد في سبيل استقلال بلده وحريته بلسانه وقلمه، فكان حيناً من الدهر موضع الخشية للسلطان ومعقد الرجاء للشعب. ثم اختلف الزعماء بينهم في وجهة النظر، ونبا العيش بالزعيم الكريم فوفد على مصر منذ ثماني سنوات وفادة الغائب على أهله، فأكرمت مصر مثواه وجعلته كبير المترجمين في بلدية الإسكندرية بمرتب قدره خمسون جنيهاً مصرياً في الشهر، فعاش

ص: 79

الأستاذ هو وأمه الحنون وزوجه المخلصة وأطفاله الثلاثة عيش الخفض والدعة. وتوثقت صلاته بأدباء الإسكندرية والقاهرة فكان من عوامل الإذكاء في نهضة الأدب والفكر فيهما. ثم اتصل سببه بأسرة الرسالة والرواية فأختصهما بمترجماته ومساجلاته وخطراته، حتى اشتدت عليه في الأشهر الأخيرة وطأة مرضه الدخيل وهو تضخم الكبد فذهب كما يذهب النور من العين والسرور من القلب والأمل من الحياة. والله وحده يعلم مقدار ما خلف من الأسى المسعور في نفوس أهله وأصدقائه وقرائه

كان الأستاذ فليكس فارس من أنبل الناس خلقاً وأنقاهم ضميراً وأوفاهم ذمة؛ وكان مفطوراً على الخلال العربية النبيلة والروح الشرقية السامية؛ يدعو لها ويدافع عنها ويفخر بها. وكانت الأديان السماوية الثلاثة قائمة في نفسه مقام الوحدة المتصلة لا يرى بينها فرقا ولا حداً ولا معارضة؛ فهي في رأيه ثلاث طرق تؤدي إلى غاية واحدة. لذلك كانت كتابته في الإصلاح الديني والاجتماعي ترضى كل نفس وتساير كل مذهب. وكانت صلته بالرافعي رحمه الله تشبه أن تكون صلة عقيدة لا صلة مودة. والناظر في كتاب (رسالة المنبر) يجد الأستاذ فليكس فارس بروحه وأدبه ورأيه وفلسفته. رحمه الله رحمة واسعة، وألهم أهله وصحبه الصبر على فقده

مجلة الدراسات الإسلامية

بعث إليّ أستاذي وصديقي المستشرق لويس ماسينيون بالمجلد الرابع لسنة 1938 من المجلة التي يخرجها في باريس على أربع دفعات في السنة. وهذا المجلد نفيس جداً، لأنه موقوف على إثبات المؤلفات المختلفة التي ظهرت في السنوات الأخيرة وموضوعاتها فنون إسلامية ومسائل عربية. وهذا المجلد يتم ما عرضت له مجلدات سابقة. وهكذا يقف المطلع والباحث على مجرى التأليف الخاص بالمشرقيات سواء في الغرب أو في الشرق. . . وأين هذا في مصر ونحن ندعي زعامة؟!

وثبت تلك المؤلفات على هذا الترتيب: تاريخ العلوم في البلدان الإسلامية - الفلسفة والكلام - فقه اللغة والتربية (وفي فقه اللغة ما يتعلق بالعربية والبربرية والفارسية والتركية) - الاجتماع وأحوال الأمم (وفيهما ما يتصل بتحول البلدان الإسلامية، والمرأة، والزواج، والمسكن، والبداوة، والنظام، والعرف، والاقتصاد السياسي، ثم العادات والعقائد الشعبية، ثم

ص: 80

الجغرافية البشرية) - الأدب العربي والفارسي والتركي واليهودي: العربي - القانون والتشريع والتدبير - العقائد والتصوف والفرق - الاستعمار الأوربي وسياسة العصر - الفهارس والسير

وقد ذُيّلت طائفة من المؤلفات بتعليقات موجزة مفيدة من حيث إنها ترشد القارئ إلى أوجه النفاسة والطرافة وتنبهه إلى مواطن الذلل أو الضعف. وفيمن قاموا بالتعليقات لويس ماسينيون، ور. بلاشير صاحب كتاب (المتنبي)

ومن المؤلفات العربية المثبتة: (نشوء اللغة العربية ونموها وابتهالها) للأب أنستاس ماري الكرملي، و (إحياء النحو) لإبراهيم مصطفى و (زاد المعاد) لميخائيل نعيمة (لا نعجة كما ورد خطأ) و (مع المتنبي) لطه حسين. (وقال المستشرق بلاشير في هذا الكتاب إنه مقتبس مما ألف في المتنبي حديثاً في أوربة)

بشر فارس

الرمزية وأبو تمام

تفضل الأستاذ أحمد عبد الرحمن عيسى فأشار إلى ما ذكرته عن أبي تمام والرمزية، وأرجو أن يثق الأستاذ أني لم أقصد الانتقاص من الرمزية فإني أعرف أنها ضرورة من ضرورات النفس البشرية في بعض حالاتها ومظاهرها ويستوي في الالتجاء إليها العالم والجاهل، ويستوي الفيلسوف والشاعر والرجل من عامة الناس. ولعل من ألذ التجارب السيكولوجية أن يدرس الباحث مظاهر الرمزية في أفكارهم اليومية وأقوالهم وآرائهم التي يرجعونها إلى العقل والتفكير، وقد لا تكون من مظاهر العقل الظاهر، فإن بعض المبادئ والآراء ولأقوال إنما هي رموز تؤثر في إحساس كثير من الناس وتدعوهم إلى أعمال الخير والشر من غير إدراك لها بالعقل الظاهر. والرمزية في الأدب الحديث في أوربا في بعض نتاجها محاولة دراسة ما في أعماق النفس مما لا يصل إليه التفكير المعتاد. ولكن هذه الدراسة ليس لها طريق سلطاني معروف، فهي قد تكون إبعاداً في بحر الظلمات على غير هدى. وليست كل الرمزية محاولة الفنان المسيطر على فنه وإرادته في عمله، بل لها أسباب كثيرة، وقد تكون أشبه بإشارات الثقافة التي تشير إلى حقائق ثقافية معروفة، أو

ص: 81

أشبه بمصطلحات الفلاسفة أو رموز الكيميائيين، وقد تكون مزاجاً في النفس ناشئاً عن مزاج الجسم. وهي قديمة جد القدم لجدها في أقوال كهان المعابد وكاهناتها ونجدها في الأحلام المشهورة. وقد استخدم الرمزية أدباء كثيرون، فجيتي يستخدمها وشلي يستخدمها وإبسن القصصي يستخدمها، وكل منهم يستخدمها أكثر من أبي تمام ولكنهم لا يحسبون في حساب أدبائها. ولا مانع عندي من عد أبي تمام من أدبائها، ولكنا إذا فعلنا ذلك عددنا خلقاً كثيراً من أدبائها وسلكنا في زمرتهم من لم يتفق الأدباء على عدهم من أدبائها. ويستطاع عد كتاب الرؤيا في الإنجيل من كتبها وهو أقدم من زمن أبي تمام. ومعاذ الله أن نطالب أبا تمام بغير ما قال. وقد كان شكسبير وشعراء عصره يكثرون من استخدام رموز التشبيهات والكنايات والاستعارات كما فعل أبو تمام ولكنهم لم يعدوا من شعرائها. وقد وجدت أن أحسن استعمال للرمزية هو استعمال كبار الشعراء الذين لم يعدوا من مذهبها. وقد كان أحسن استعمال لأنهم لم يقطعوا الصلة بين فنهم وبين العقل الظاهر كل قطع، فإن استخدام العقل الظاهر ألزم وأوجب عند بحث ظلمات النفس، كما أن استخدام الملاح لفنه وعقله وعلمه ألزم وأوجب في بحر الظلمات. فإذا كان هذا أيضاً هو رأي الأستاذ أحمد عبد الرحمن عيسى فلا مانع عندي من عد أبي تمام من شعراء الرمزية

عبد الرحمن شكري

بشر فارس ومصطلحاته

صديقي بشر أديب جليل وبحاثة قدير في الموضوعات التي يديرها سنين في ذهنه ويستقصيها على وجوهها بالبحث والتمحيص

على أن الدكتور بشر فارس بعد ذلك لا ينجح في الكتابات الارتجالية ولا يصلح كاتباً ناقداً ولا يفلح في أن يكون صاحب مطالعات ونظرات تفيد (البوادر واللوامع) التي تطوف بالنفس من حين إلى حين. ولا أدل على ذلك مما تجده من التهافت في الكتابات من المرتجلة التي يكتبها

نقول هذا بمناسبة ما كتبه في العدد الأخير من (الرسالة) تعليقاً على ردي على نقده لدراستي عن (توفيق الحكيم)؛ وأنت إذ تقرأ كلمته هذه تجده قد انصرف عن الردّ على

ص: 82

الإشكالات التي أثرتها حول صميم نقده والمآخذ الجمة التي أخذتها على كلمته إلى بحث شكلي يدور حول افتراض اقتباسي لبعض المصطلحات الفنية التي يرى هو أنه استحدثها في اللغة العربية؛ على أنني ألاحظ على هذا الكلام الجديد الذي خرج به ناقدنا المفضال أشياء أجملها فيما يلي:

أولاً - يعتقد صديقي بشر وحده دون كل المشتغلين بصناعة القلم في الشرق والغرب أن المصطلحات الفنية التي يضعها كاتب ملك لهذا الكاتب وحده.

ثانياً - هذا الاعتقاد الخاطئ الذي يدين به صاحبنا يتناقض مع الفكرة العلمية التي ترى أن قيمة المصطلحات الجديدة ليس في وضعها وإنما هو في جريها على أقلام الكتاب. والدكتور بشر فارس واقع في هذا التناقض حين يقول: (إني فرحت فرحاً شديداً لما أصبته يستعمل في مقاليه بعض تراكيب جرت على قلمي. . . وما فرحي إلا لأني أرى تراكيب اجتهدت في سياقتها تنطلق على الأقلام، وكنت أخشى أن تموت يوم ولدت).

ثالثاً - إذا كان الدكتور بشر فارس يرى حياة المصطلحات في جريها على الأقلام، فهل هو يرى من المحتم أن يشير الكاتب فيما كتب إلى مواضع الاصطلاحات التي استحدثها والتي أخذها عن غيره والتي دارت على الأقلام فجاءت على قلمه؟ وإذا كان لا يرى ذلك بدليل أن كثيراً من الاصطلاحات تجري على قلمه وهي ليست له وهو لا يشير إلى أصحابها فيما يكتب، فما معنى ما كتبه في نقده لكتابنا (بعدد الرسالة 310 ص 1176) من أن التعبير (جملة صلات اجتماعية) الذي جرى به قلمنا في بحث لنا عن (خليل مطران) أصلاً في كتابه (مباحث عربية؟) وما معنى ما كتبه في العدد الماضي من الرسالة؟

رابعاً - نسب إلينا الدكتور بشر فارس أننا اقتبسنا تعبير (جملة صلات اجتماعية) منه وأننا لم نحسن استعماله في مجرى حديثنا. وقد رددنا على الوجه الأول فقلنا إن هذا التعبير قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه. ورددنا عليه في الوجه الثاني من اعتراضه فبينا وجه اتساق التعبير وموضعه من الكلام.

خامساً - خرج الناقد في رده بسؤال عجيب عما إذا كان ورد في كلامنا في المصدر الذي أشرنا إليه، وهو مجلة المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، ما ينظر لتعبير (جملة صلات اجتماعية) في الفرنسية، وهذا تعنت لا معنى له خصوصاً وإن الجملة الفرنسية التي تنظر

ص: 83

إليها العبارة العربية ليست من خلقه فقد تكرر ذكرها في كتابات العالم الاجتماعي (دوركايم)، وخصوصاً في مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون (ص 11، 13، 24، 26 مثلاً) ومن الأعاجيب التي أتى بها الدكتور بشر فارس أنه ذهب يتحدث عن درايتنا بالفرنسية وهل هي تمكننا من الإيمان بمثل هذا التعبير كأن اللغة الفرنسية وقف عليه، وكأن محاضرات (دوركايم) لم يطالعها سواء من الذين لم يرحلوا إلى باريس، ولم يدرسوا في السوربون!

سادساً: قال الدكتور بشر فارس إن عبارة: (توفيق الحكيم يحكم سرد الرواية ويحكم الحوار ويحكم تهيئة البيئة؛ فهو صاحب فن حقاً) التي وردت في موضعين من دراستنا عن (توفيق الحكيم)(ص 357 من العدد ص 368 س 19 - 21 من طبعة مجلة الحديث وص 65 من العدد وص 76 س 19 - 21 من الطبعة الخاصة) مقتبسة منه. ولكن هل اقتبسناها منه ولم نشر إلى مصدر الاقتباس؟ هذا هو الموضوع في الواقع. وأنا اترك الرد على الدكتور بشر فارس في هذه النقطة لنفسه؛ فهو يقول في نقده لدراستنا عن (توفيق الحكيم) في الرسالة (عدد 310 ص 1175 س 25) بعد أن يذكر هذه الجملة: وقد استشهد الدكتور أدهم فيما كتبه بهذه الجملة ص 357) فما معنى الاستشهاد؟ معناها أن العبارة أسندت إلى الدكتور بشر فارس، وإذاً فلا معنى لتعنت الدكتور بشر فارس واتهامنا بالاقتباس الذي يغفل الاستشهاد بالمصدر وإثارة المظنة بكتاباتنا

سابعاً: ارتأى الدكتور بشر فارس أن عبارتنا التي جاءت في الكلام عن الرمزية عند توفيق الحكيم (ص 361 من طبعة مجلة الحديث وص 19 من الطبعة الخاصة) ذات أصل من مسرحية (مفرق الطرق) ومن مقال له عن الرمزية في الرسالة وقد يكون هنا له بعض الحق - لا كله - فليس يبعد أن تكون عبارته عن الرمزية قد علقت بذهننا فجرت على قلمنا ونحن نعرض الفكرة الرمزية عند الأستاذ توفيق الحكيم وذلك بحكم قاعدة التداعي. ومما يدل على صحة هذا التفسير ما يرى من التغيير والاستبدال في بعض المصطلحات التي تضمنتها العبارة المذكورة مما يدل على التمثيل من حيث إدارة العبارة في ذهننا وتصحيح بعض المصطلحات فيها

وأنا إذ أختم هذه الكلمة لا يسعني - وأنا أردّ الأشياء إلى مواضعها - إلا أن أذكر الدكتور

ص: 84

بشر فارس بأنني حين أكتب بالعربية فأنا أكتب بلغة غير لغتي الأصلية، ومن هنا بعض ما يجيء على قلمي من التعابير الخاصة لكتاب اليوم استدراكاً للمعنى الذي في ذهني من تعابيرهم، ولعل في ذلك بعض ما يعتذر عني في بعض ما رأى وارتأى والسلام

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 85

‌الكتب

الإجابة

لإيراد ما استدركة عائشة على الصحابة

(ألفه الإمام الزركشي وحققه الأستاذ سعيد الأفغاني)

لأستاذ جليل

الأستاذ سعيد الأفغاني - العربي الشامي - مسلم مؤمن، وفاضل مهذب، وأديب محقق. ومن رافقه وقرأ أقواله ظهرت له هذه السجايا والمزايا ظهوراً. ومن خطط هذا السيد أن يُطرف فيما يؤلفه أو ينشره من كتب السلف الصالح. فمصنفه (أسواق العرب في الجاهلية والإسلام) مباحثه طريفة ذات جدة. وكتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة تأليف الإمام بدر الدين الزركشي) الذي أظهره اليوم - من أدلة هذا الإطراف. وترجمة الكتاب تنبئ عن غرابته وطرافته

وإن نشر الباحث مؤلفاً قديماً محقًقاً إياه تحقيق الأستاذ الأفغاني كتاب الإجابة - تأليف وزيادة

وعملُ العرب الحق في هذا الوقت - كما يرى اكثر الفضلاء - إنما هو نشر مصنفات الأقدمين ونقل مقالات الغربيين ليس غير. وحجتهم في ذلك أن (البعث) حديث وأن ليس عند العرب اليوم شيء، والمفلسون المساكين لا يكلفون إنفاقاً ولا جوداً. على أن حاجة العرب العظيمة إلى ذينك النشر والنقل لا تصدعن التأليف فلينشر الناشرون، ولينقل الناقلون مكثرين. وليؤلف - بعد البحث الطويل، والتفكير الكثير، والمراجعات المديدة - المؤلفون مقلين، مقلين

الحديث والمحدثون في الإسلام عالم عجيب. وليس في الدنيا أمة عنيت بما يعزى إلى صاحب نحلتها عنايتنا بأحاديث النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم. ومما بعث على هذه العناية الكبرى أن أقواله (صلوات الله وسلامه عليه) لم تقيد بالكتاب في أيامه، ولا أيام صحابته (رضوان الله عليهم أجمعين)، ولم يكن إلا الألسنة تنقل أو تروى (وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا) وعند أهل السنة أحاديث غابت عن الأمامية، ومع

ص: 86

هؤلاء مالا تعرفه الجماعية، السنية؛ وعند الصوفية والإسماعيلية، وسائر الباطنية غرائب تنكرها تانك الفرقتان. وقد بذل الأئمة رحمهم الله المجهود بل فوق المجهود في أمر الحديث ورجاله. وأبدعوا في مؤلفاتهم وتفننوا، وأفردوا كل نوع منه ومن رواته بالتصنيف المجوّد (لقد كانوا في دقتهم وتحريهم وإحاطتهم وإتقانهم معجزة الله في المؤلفين)

ولقرأ من أراد الإلمام باهتمام القوم (مقدمة ابن الصلاح) في علوم الحديث. ففيها إشارات مبينات؛ وهي في هذا الفن مثل مقدمة ابن خلدون في بابها كما قال فقيه الشام كله العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار.

ومن أدلة الإحفاء أو الاستقصاء في شأن الحديث، ومن بدائع التنويع والتخصيص فيه كتاب (الإجابة) الذي صنفه الإمام الزركشي، وحققه وأنشأ مقدمته وعلق عليه وفهرسه الأستاذ سعيد الأفغاني.

يبدأ الكتاب بمقدمة الأستاذ الأفغاني، وقد نشر شيئاً منها في الجزء (304) من (الرسالة) الغراء. ذكر فيها مطنباً موضحاً مكانة أم المؤمنين رضي الله عنها وسيرة المؤلف وأسماء مصنفاته الثلاثة والثلاثين.

وتجيء بعد ذلك مقدمة المؤلف وقد أشار إليها محقق (الإجابة) في مقالة له في الجزء (19) من (الثقافة) الغراء.

ويليها الباب الأول في سيرة (السيدة): رضي الله عنها وخصائصها وفيه فصلان: الفصل الأول في ذكر شيء من حالها؛ وقد جاء فيه:

(رُوى لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفا حديث، ومئتا حديث، وعشرة أحاديث)، (2210).

وفي هذا الفضل: (. . . عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فلما بلغتها قالت: (وصلاة العصر) سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم

قلت: وفي (كتاب المصاحف) للسجستاني نحو من هذا. وعزا الزمخشري هذه الحكاية إلى حفصة رضي الله عنها وقال في كتابه أيضاً: (روي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم والصلاة الوسطى وصلاة العصر بالواو، وقرأت عائشة رضي الله عنها والصلاة

ص: 87

الوسطى بالنصب على المدح والاختصاص) وعزتها رواية في الطبري إلى أم سلمة رضي الله عنها وذكرت رواية فيه حميدة ابنة أبي يونس لا أبا يونس. وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره (جامع البيان) روايات كثيرة، كلها تبين للصلاة الوسطى فقط منها هاتان الروايتان:

(. . . قتادة عن أبي أيوب عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر. . . عن سليمان التيمي عن أبي أيوب عن عائشة مثله)

فالسيدة رضي الله عنها مفسرة. وفي الجزء 211 من (الرسالة) الغراء كلمة أشارت إلى ما أشارت إليه، وجاء في ختامها هذا:(إن كان كتاب كل أمة أو ملة فيه تبديل وتحريف وفيه زيادة ونقصان، وفيه الخطأ والخطل، وكان كاتبه غير صاحبه. ف (ذلك الكتاب لا ريب فيه)(إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون).)

الفصل الثاني في خصائصها (رضوان الله عليها) وهي اثنتان وأربعون، وقد بين المؤلف كل خاصية من هذه الخصائص أو الخاصيات. قال في السادسة عشرة:(اختاره صلى الله عليه وسلم أن يمرض في بيتها. قال أبو الوفا عقيل رحمه الله: انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب، فما هذه الغفلة عن هذا الفضل والمنزلة؟!)

وقال في السابعة والعشرين: (جاء في حقها (خذوا شطر دينكم عن الحميراء) سألت شيخنا الحافظ عماد الدين بن كثير عن ذلك فقال: كان شيخنا حافظ الدنيا أبو الحجاج المزي رحمه الله يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثاً في الصوم في سنن النسائي)

قلت: بطلان ذلك المقول ظاهر مثل الشمس، وقد قال الإمام العلامة الكبير (علي القاري) في رسالته في (الموضوعات):(ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً) وذكر أموراً كثيرة: (منها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه فيدل بطلانه على أنه ليس من كلامه كحديث (إذا غضب الرب أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية) وحديث (خذوا شطر دينكم عن الحميراء)، وحديث (من لم يكن له مال يتصدق به فليلعن اليهود والنصارى)، فإن اللعنة لا تقوم مقام الصدقة أبداً)

ويلي هذا الفصل الباب الثاني والباب الثالث في استدراكاتها رضي الله عنها على أعلام

ص: 88

الصحابة رضي الله عنهم. وهذان البابان هما معنى الكتاب. وفي الأول أربعة وعشرون استدراكا، وفي الثاني أحد عشر استدراكا. وقد ذيلهما محقق الكتاب بأربعة استدراكات، قطفها من (مسند أحمد) رحمه الله وهي تدل على عظم تفتيشه واحتفاله في البحث.

جاء في الباب الثاني من الاستدراكات على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أخرج البخاري ومسلم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة. . .)

فهذا الإمام المهذب المحقق يذكر أخا سيدنا معاوية رضي الله عنه كما ترى، ونابتة في هذا العصر تغبى عن النسبة الحق وتضلها أساطير في أمثال كتاب (العقد).

إن زياد بن أبي سفيان (رضى الله عنهما) من أبطال العرب ومن رجال الإسلام الكبار؛ فيعلم ذلك من يجهل.

ومن استدراكاتها على ابن عباس رضي الله عنهم: (ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى (وظنّوا أنهم قد كُذبوا) بالتخفيف فأخرج البخاري في التفسير عن أبي مليكه قال ابن عباس (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا) خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: معاذ الّله! والله ما وعد الله رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم، فكانت تقرأها (كذّبوا) مثقلة)

قلت: القراءة بكسر الذال والتخفيف هي المشهورة، ولها معنى غير الذي خمنه ابن عباس وقرى بكسر الذال مشددة وبفتحها مخففة ومشددة

وفي (جامع البيان) للطبري (الجزء 13 الصفحة 47) روايات ذوات فوائد في قراءات هذه الآية وتفاسيرها.

وقال (الكشاف) في قراءة ابن عباس وتفسيره: (وعن ابن عباس رضي الله عنهما وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس

ص: 89

على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح)

ومن استدراكاتها على أبي هريرة رضي الله عنهما: (. . . عن أبي هريرة قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً) فقالت عائشة رضي الله عنها: لم يحفظ الحديث؛ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً هجيت به)

قلت إن من يجتزئ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه ليدهاه ما يدهى من يجهل السبب في وحي آية الشعراء

قال الإمام الطبري في (جامع البيان): (قال عبد الرحمن ابن زيد: قال رجل لأبي: يا أبا أسامة، أرأيت قول الله (جل ثناؤه): والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال أبي: إنما هذا لشعراء المشركين وليس شعراء المؤمنين. ألا ترى أنه يقول: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى آخره. فقال: فرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك!)

وقال الكشاف في تفسير الآية: (هم شعراء قريش عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي، ومن ثقيف أمية بن أبي الصلت، قالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم)

وروى الزمخشري عن الخليل: (كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير الكلام، ولكن كان لا يتأتى له)

وجاء في (الإجابة) في باب الاستدراكات: (نقل أهل التفسير في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) إن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟! فقال مروان: يا أيها الناس هذا الذي قال الله فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) فسمعت عائشة فغضبت وقالت والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قضيض من لعنة الله)

ص: 90

قلت: روى فضيض وفظاظة وأنكرها الخطابي، وفي أكثر كتب الحديث وغريبه وكتب اللغة التي روت هذا الخبر أو شيئاً منه - (فضض) بالفاء.

وهذا الحديث في (البخاري) وقد أشار إليه الزركشي ولم يورده، وهذه رواية أبي عبد الله رحمه الله:

(. . . عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري)

ومن استدراكاتها رضي الله عنها على أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن: (أخرج البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة لهن: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث، ما تركناه صدقة)

ويتبع هذين البابين والذيل في الاستدراكات الفائقات فهارس الكتاب: فهرس الأعلام، فهرس الجماعات، فهرس الأماكن، فهرس الكتب، فهرس الموضوعات

إن هذا الذي خططناه إنما هو إشارة إلى كتاب الإجابة لا تبيين ولا توضيح. ومن شاء من الفضلاء أن يعرفه ويستفيد منه اشتراه وقرأه، ودعا للمؤلف، وأثنى على (السعيد) المحقق

بارك الله فيه، وأكثر في شباب العرب والمسلمين من أمثاله.

القارئ

ص: 91