الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 314
- بتاريخ: 10 - 07 - 1939
من فكاهات العهد التركي في بغداد
حدثني المرحوم الزهاوي. . .
تركية القديمة - غفر الله لها - كانت في دول الأرض معنى من معاني الإرهاب حروف لفظه السُّم والَيُّم والسجن والسيف والسوط! جمعت في يدها القوية أطراف الشرق والغرب، ثم أدارت حول تاجها الرهيب هالة من خلافة الرسول فعنت لجلالها الوجوه، وخشعت لسلطانها الأفئدة؛ ولكنها لم تستطع أن تثبت ملكها بقوة الروح وبراعة الذهن وعبقرية البيان كما فعل العرب، فظلت واقفة أمام شعوبها الثائرة عابسة الوجه معقودة العنق منشورة الشارب مشهورة السيف، فحرمها ذلك الموقفُ نصيبها من طمأنينة السلم ومدينة العلم ونعمة الثقافة. وكان ولاتها على الأمصار الخاضعة يحكمون الناس بهذه العقلية الجهول، فيظهرون الأبهة وينشرون الرهبة ويحصدون الأموال والأنفس بالضرائب والرُّشى والمصادرة والقتل. فإذا طالت الولاية واكتظ الوالي ورضى (المابين) وأراد الباشا أن يفكر في الدين أو في العلم أو في الإصلاح دل على فهم بليد وغفلة عجيبة!
كنا ذات يوم نتحدث في هذا وفيما جره على الأمة العربية من الجهل والذل والفقر ونحن جلوس في ندوة السيد صبحي الدفتري محافظ بغداد يومئذ؛ وهي ندوة تقوم في داره المضياف ضحى يوم الجمعة من كل أسبوع فيندو إليها الوزراء والزعماء والأدباء والقادة، فيكون لكل طائفة منهم حلقة وحديث. ولكن الزهاوي إذا تكلم أصغت إليه الدار وتحلقت علية الندوة؛ لأن جميلاً كان آية الله في فكاهة الطبع وظرف المحاضرة وحلاوة الدعابة ورقة العبث. وكان له في إلقاء النادرة لهجة وإشارة وهيئة لا يبرح سامعها مستطار اللب نشوان المشاعر من غرابة ما يرى وطرافة ما يسمع
كان الحديث أول ما بدأ دائراً بيني وبين السيد ناجي الأصيل على أن الحرب وأوزارها استقلت بمواهب الترك فلم تدع لهم كفاية للسياسة والثقافة؛ وأخذنا نضرب الأمثال على ذلك مما جرى في العراق ومصر. وكان المرحوم الزهاوي بجانبي، ولكنه كان مشغول الأذُن بكلمة منافقة في العقاد والرصافي أُلقيت إليه في خفوت وخبث. فلما تشربها سمعه وأجاز عليها القائل ببسمة وهزة وسيكارة، أقبل علينا فسمع طرفاً من الحديث نبض له نابضة فقال: هُوهُوه! إذا حدثتك مولانا عن حمق الولاة من الترك لا ينتهي الحديث ولا ينقضي
العجب!
ثم أرسل نكتته الحاضرة وضحك ضحكته الساخرة فتنبه المجلس إلى أن الزهاوي سيتحدث، فسكت المتكلم وأصغي المستمع وتهيأت النفوس للسرور الشديد والضحك المتصل؛ وأخذ الشاعر يقول:
أرسلت إلينا الدولة العلية بعد جفاف الريق والمداد من شكوى الجهل والفساد، والياً يسير بالعراق في طريق العمارة والعلم، فقابله البغداديون باحتفال عظيم وفرح شامل. وكان لي يومئذ يد في إدارة التعليم كما تريده الدولة، فقال لي الوالي ذات يوم: أنا نريد أن ننشئ مدرسة للبنات فابحثوا عن دار تصلح أن تكون لها مكاناً. وكان تعليم البنت في ذلك العهد أملاً من آمال المصلحين تتقارع حوله الأقلام بالحجج في غير طائل. فقلنا إن الرجل رحب الباع في الإصلاح، ودللناه على جملة من الدور الكبيرة الصالحة، فكان كلما دخل داراً قال إن الأبصار تجرح البنات من هنا، والأسماع تسرق الأصوات من هناك؛ حتى لم يدع في بغداد داراً إلا عابها هذا العيب من طريق التوهم أو التخيل! وظهر من تصرف الرجل أن به بلاهة وغفلة، فخطر لي أن أتداعب عليه لأكشف حاله للناس فلا يستنيموا لحكمه. فقلت له: أفندم! لم يبق في البلد كله إلا مكان واحد أرجو أن يقع من هواك موقع الرضى. فقال: امض بنا إليه. فذهبت به إلى (منارة سوق الغزل) وصعدنا فوقها، فلم تكد قدمه تستقر على شرفتها العليا، وعينه تقع على سطوح بغداد وهي متطامنة تحت المأذنة العالية، حتى شهق من الفرح وصاح بملء فيه: نعم! نعم! هذا هو المكان المناسب!
ثم نزل وفي نيته أن يتخذ الأهبة من المقاعد والأدراج ليفتتح المدرسة! فقلت له: مولانا! لا بد أن تجمع الناس قبل الافتتاح لتقنعهم بتعليم بناتهم فإنهم سيئو الرأي في ذلك التعليم. ونجاح الأمر موقوف على أن يعتقدوا فيك التقى والورع. وسأدلك على أقرب الطرق لتحقيق هذا الاعتقاد:
إذا اجتمع الناس واكتظ بهم الديوان جلست أنت في الصدر، وجلس عن يمينك وعن يسارك رجال المعارف؛ ثم تشعل (شبقك) وتأمر كلا منهم أن يفعل فعلك؛ ثم تبتدئ فتذكر الله بصوت موقَّع على ضربات كفي وأنت تُميل رأسك من الشمال إلى اليمين تارة، ومن الخلف إلى الأمام تارة، وأنا والحافُّون من حولك نتابعك في كل كلمة وفي كل حركة. ثم
حاول أن تأخذك الحال ويستخفك الذكر؛ فكلما أزبد الفم وأرعد الصوت وتشنج الجسم وهاج الدم، كان ذلك أحمل للناس على أن يعتقدوا فيك الولاية فتقودهم صاغرين إلى ما تريد
وصدق الوالي كل ما قلته له تصديقاً لا تتخالجه فيه شبهة. وجاء يوم الجمع واحتشد الأعيان والوجوه يسمعون ماذا يقول الوالي. وجلس الباشا وأنا بجانبه وشيوخ المعارف من حوله، وأمر فأشعلت (الغلايين) الطويلة، وأخذ يذكر ويترنح وأنا أرسم له، والشيوخ يذكرون معه. ثم غمزته بعد حين فتهور و (تطور) وأرغى. وتظاهرت أنا بجذبة الوجد وسكرة التجلي فقرعت غليونه بغليوني، ثم أخذت بلحيته البيضاء ورأسه الأصلع، ففعل بي مثل ما فعلت به، وأخذنا نتدحرج على البساط، فمرة أكون فوقه، ومرة يكون فوقي، والشيوخ يعجون بالذكر، والناس يضجون بالضحك، وأنا والوالي قد ملكتنا حميا الولاية فدخلنا في صراع عنيف لم يخرجنا منه إلا انقطاع النفَس. فجلسنا مسترخيين نلهث من الإعياء وكلانا ينظر إلى صاحبه نظر الديك المنتوف إلى الديك المهيض. وذلك يا مولانا هو الوالي الذي اختير لتعليم الجاهل وتصحيح المريض!
احمد حسن الزيات
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 5 -
رأينا أن نقف وقفة قصيرة نحادث فيها القراء قبل أن نأخذ في محاسبة الأستاذ أحمد أمين على الأغلاط التي وقعت في مقالاته السالفة وهو يحاول تزهيد الناس فيما ورثت اللغة العربية من ألفاظ الشعراء والخطباء
فماذا نريد أن نقول اليوم؟
نريد أن نؤرخ الظاهرة العقلية التي بدت شواهدها حين واجهْنا الجمهورَ بعيوب الطريقة التي يفكر بها الأستاذ أحمد أمين، فقد انقسم ذلك الجمهور إلى فريقين: فريق راضٍ، وفريق غضبان
والفريق الأول يستأهل اللوم قبل أن يستحق الثناء، لأن هذا الفريق يمثل جمهور المشتغلين بتدريس اللغة العربية؛ وهؤلاء قد ركنوا في الأعوام الأخيرة إلى التغاضي عن نقد ما يُكتب أو يقال في السخرية من ماضي اللغة العربية. وقد يكون لهذا التغاضي أسباب: فهم في كدح موصول بفضل ما يحمل المدرس من ثقال الأعباء؛ وهم قد رأوا المجادلات السياسية شغلت الناس عن المجادلات الأدبية؛ وهم قد سمعوا أن كلية الآداب صار إليها الأمر كله في توجيه التلاميذ والمعلمين إلى قواعد الدراسات الأدبية، فلا حرج عليهم إن انسحبوا من الميدان
تلك جملة الأسباب التي صرفت أساتذة اللغة العربية عن المشاركة في النقد الأدبي
فهل يعرفون أن سكوتهم هو الذي أطمع بعض الناس في أن يبغي ويستطيل؟
لو كانت كلية الآداب تعرف أن في مصر رقابة أدبية لما وقعت في المضحكات حين قررت أن تدرس لطلبة السنة الأولى أسلوب أحمد أمين وأن تمتحنهم في أسلوب أحمد أمين
ومن المحنة جاء الامتحان!
أحمد أمين له أسلوب؟
آمنت بالله!
ومن هم المدرسون الذين يدرسون لطلبة كلية الآداب ذلك الأسلوب (الأحمدي)؟
هم شبان تخرجوا في كلية الآداب وموقفهم في هذه القضية أحرج المواقف، لأنهم يعرفون أن أحمد أمين من أساتذة الكلية، ولأنهم يعرفون أنه رجل سريع الغضب والاكتئاب. وهم أيضاً يعرفون - وا أسفاه! - أن كلمة الحق في أحمد أمين قد تحمل بعض المتملقين على وصفهم بالجهل!
ولم يقف الأمر عند كلية الآداب بجامعة القاهرة - جامعة فؤاد الأول - بل تعداه إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية - جامعة فاروق الأول - فهنالك الأستاذ أحمد الشايب وهو الأديب الفاضل الذي ألف كتاباً لطيفاً سماه (الأسلوب) وفيه يقرر أن أسلوب أحمد أمين له مزايا وخصائص
فهل لأحمد أمين أسلوب حتى تخلق لأسلوبه مزايا وخصائص؟
أشهد مرة ثانية أن الجامعة المصرية أمرها عجب!
فالدكتور طه حسين الذي وقف بقصر الزعفران في ربيع سنة 1927 يلقي كلمة الجامعة في مهرجان شوقي، ثم رأى أن تكون خطبته في الأخطل لا في شوقي بحجة أن الجامعة لا تؤرخ الأحياء، هو نفسه الذي ارتضى أن يدرس أسلوب أحمد أمين بكلية الآداب!
فكيف يكون الحال لو اعتدل الزمان وقيلت كلمة الحق في التدريس بكلية الآداب؟
أيستطيع إنسان أن يفرض على مدرس أن يعترف بأن أحمد أمين له أسلوب؟
وماذا نقول للشبان الذين يفدون من أقطار الشرق وقد عرفوا من قبل أن أحمد أمين قد يكون من الباحثين ولكنه لن يكون من الكتاب ولا الأدباء؟
وكيف تكون حجتنا أمام الأقطار العربية إذا سمعت أننا ندرس أسلوب أحمد أمين كما ندرس أساليب العقاد والمازني وهيكل وطه حسين والزيات؟
أتريدون الحق؟
إن أحمد أمين لم يكن له أسلوب يدرس في كلية الآداب إلا لأنه أستاذ في كلية الآداب، وإلا فكيف غابت قيمة أسلوبه عن أساتذة الأزهر وأساتذة دار العلوم وهم لم يلتفتوا إليه حين التفتوا إلى أساليب الكتاب في العصر الحديث؟
إن الرجل لا يكون له أسلوب إلا يوم يصح أنه يحس الثورة على ما يكره، والأنس بما يحب، فعندئذ تعرف نفسه معنى الانطباعات الذاتية ويعبر عن روحه وعقله وقلبه بأسلوب
خاص
لقد اشتغل أحمد أمين بالقضاء الشرعي بضع سنين، فهل قرأتم له مقالاً أو قصة تدل على أنه توجَّع مرةً واحدةً للمآسي الإنسانية؟
لقد عاش أحمد أمين مدة بالواحات، فهل سمعتم قبل أن تسمعوا مني أنه عاش بالواحات؟
لو كان أحمد أمين أديباً لحدثكم عن تلك المروج التي يجهلها المصريون
ولكن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما كان موظفاً مخلصاً لواجب الوظيفة لا يرى ما عداها من الشؤون، ثم قال له طه حسين كن أديباً فكان!
وهنا أوجه القول إلى من أغضبهم هجومي على الأستاذ أحمد أمين فمن هم أولئك الغاضبون؟
منهم محام فاضل ألف عدة كتب في الحياة الأدبية والاجتماعية وقد كتب إليّ مرتين يدعوني إلى الترفق في الهجوم على هذا (الأديب)
وهذا المحامي الفاضل يعجب من أن نصحح رأي الأستاذ أحمد أمين في القرآن، وهو يظن أن اللذات الحسية التي سينعم بها المؤمنون في الجنة إنما هي لذات روحية
وأقول إن القرآن وعد المؤمنين بأن سيكون لهم في الجنة لحم طير مما يشتهون، وحورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وسيقال لهم:(كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)
وظاهر النصوص هو الأصل، فهل يرى هذا المحامي الفاضل أن نؤول كلام الله ليصح كلام أحمد أمين؟!
ومنهم كاتب مشهور أخذ يوسوس ذات اليمين وذات الشمال بأن زكي مبارك مولع بهدم الرجال، وأنه لو عدم مجالاً للخصومة لخاصم نفسه بلا ترفق!
وأنا أترك الرد على هذه التهمة لمن يعرفونني معرفة شخصية من أمثال العقاد والمازني وهيكل والزيات، بل أترك الرد على هذه التهمة لحضرة الأستاذ أحمد أمين
كيف تشيع عني هذه المقالة السيئة وأنا الكاتب الوحيد التي احترم معاصريه فتحدث عنهم في مقالاته ومؤلفاته بما يحبون، وسجل آراءهم في الأدب بنزاهة وإخلاص؟
ما هو الشر الذي تنطوي نفسي عليه حتى يستبيح الزملاء اتهامي بحب المناوشات والمشاغبات؟
لقد تأدبت منذ أعوام طوال بأدب أبي منصور الثعالبي رحمه الله فتحدثت في رسائلي ومؤلفاتي عمن عاصرت من الرجال كما تحدث الثعالبي عن معاصريه من الكتاب والشعراء
فأين تكونون يا أدباء الجيل من هذا المسلك النبيل؟
إن أدباء العراق والشام ولبنان ينكرون عليكم ما تتهمونني به من حب الشغب والصيال، ففي جرائدهم ومجلاتهم وأنديتهم تحدثت عن أدباء مصر بالخير والجميل
بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأصرح بأني عاديت كثيراً من الناس في سبيل الدفاع عن أعدائي من أهل الأدب والبيان. ولو شئت لأقمت الشواهد على صحة ما أقول
فكيف يصح أن يتهمني أدباء مصر بالتحامل عليهم وأنا الذي أحسنت السفارة عن الأدب المصري في كل بلد حللت فيه؟
الحق أن أكثر أدباء مصر يحبون أن يعيشوا مدلَّلين في زمن لا ينفع فيه الدلال!
الحق أنهم استمروا العافية من مكاره النقد الأدبي، فهم يصرخون كلما هجمنا عليهم لنعود إلى مهادنتهم من جديد
ولو أنهم فكروا قليلاً لعرفوا أني أؤدي الزكاة عن النشاط المصري. فقد شاع في كل أرض أن الأدباء المصريين تنكروا للنقد الأدبي ولم يعودوا يعرفون غير مقارضة الحمد والثناء
وأوجه القول مرة ثانية إلى من أغضبهم هجومي على الأستاذ أحمد أمين فأقول:
إن هذا الرجل أراد أن يؤرخ العصر العباسي من الوجهة الأدبية فجعله عصر معدة لا عصر روح، وشاء له أدبه أن يختص البصرة بحكم من أحكامه القاسية فزعم أنها عرفت (نقابة الطفيليين)
فهل خطر في بال هذا الباحث المفضال أن البصرة عرفت أكرم نوع من نكران الذات حين كانت مهداً لإخوان الصفاء؟
هل خطر ببال أن البصرة حين آوت هؤلاء الباحثين العظماء قهرت التاريخ على أن يشهد لها بقوة الروحانية؟
ومن الذي يصدق أن رسائل إخوان الصفاء وهي أعظم ذخيرة أدبية وفلسفية وضعت أصولها في البلد الذي زعم أحمد أمين أنه أنشأ أدب التطفيل؟
هل يعرف أحمد أمين من هو مؤلف (رسالة الطير والحيوان) وهي رسالة لم يكتب مثلها في مشرق أو في مغرب؟
إن هذه رسالة وضعت في البصرة، أو ألفها رجل استوحى أهل البصرة، أفما كانت تصلح هذه الرسالة شفيعاً للبصرة فتنقذها من قالة البهتان على لسان أحمد أمين؟
ثم ماذا؟
ثم استطاعت البصرة أن تنشئ مذهباً في النحو شغل الأمم الإسلامية نحو اثني عشر قرناً
ولو أن أحمد أمين كان يدقق لعرف أن البصريين لم يصلوا إلى ذلك إلا بقوة الروح، فكيف شاء له هواه أن يجعلهم أصحاب معدات؟
لو أن معدتي كانت كما أحب من القوة والعافية لأكلت لحم الأستاذ أحمد أمين وأرحت الدنيا من أحكامه الجائرة في الأدب والتاريخ
ولكن الدهر حكم بأن أكون من أصحاب الأرواح فلم يبق لي في محاسبته غير شيطنة الروح، وفي الأرواح شياطين!
وتحامل أحمد أمين على البصرة وعلى العصر العباسي هو الذي أثارني عليه، فإن كان في الناس من يتوهم أن بيني وبينه ضغينة وأنني أشفي صدري بتنغيصه، فهو من الآثمين وسيلقى الجزاء يوم يقوم الحساب
ولن ينقصني عجبي من أهل هذا الزمان
فما كنت أظن أن أهل مصر يستكثرون على رجل أن يقول كلمة الحق لوجه الله؟
ما كنت أظن أن من واجبي أن أكف قلمي عن رجل يتطاول على ماضي الأدب العربي وهو بشهادة نفسه غير أديب!
أليس من المزعج أن يكون من تقاليد الصحافة الأدبية في مصر أن تمجد رجال الغرب وتنتقص رجال الشرق؟
أليس من المزعج أن تكون عيوب الناس في الأعصر الماضية مقصورة على أسلافنا وهم الذين احيوا الثقافة الأدبية والعقلية في عصور ألظلمات، وبفضلهم حُفِظ أكثر تراث الهند والفرس والروم؟
أليس من المؤلم يقال لمن يغار على ذلك الماضي المجيد (إنك ذو ضغينة وإنك تشفي
صدرك بتكلف الغيرة على ماضي اللغة العربية)؟
إن الرجل الذي يملك الفصل في هذه القضية هو الأستاذ أحمد أمين، فليذكر متى عاديته؟ ومتى حقدت عليه؟ ومتى وقع بيني وبينه ما يورث الشحناء؟
إن أحمد أمين لم يوجه إلي أية إساءة، وربما جاز أن يقال إنه لم يؤذ أحداً من معاصريه، فقد كان ولا يزال مثال الطيبة واللطف
ولكن أحمد أمين الذي كف شره عن الأفراد وجّه شره إلى التاريخ، فهو يدوس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولا رفق، ولو تركناه شهرين اثنين يؤرخ الأدب على هواه لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين.
فإن كان هناك شيء يكتب لوجه الله فهو ما أكتب عنك يا صديقي أحمد أمين
أما بعد فقد بقيت معركة حامية حول ما سماه أحمد أمين (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) فإن اتسع صدر (الرسالة) لتلك المعركة فسأخدم الأدب العربي خدمة باقية. وإن ضاق صدر (الرسالة) عن هذه المعركة فسأنقل الميدان إلى مجلة أو مجلتين أو مجلات في مصر والشام والعراق، وحسبنا الله وهو نعم الوكيل.
(مصر الجديد.)
زكي مبارك
الصديق الراحل
فليكس فارس
1886 -
1939
للأستاذ كامل محمود حبيب
حملتك الأمواج غصنا من الأر
…
ز كسيراً يفوح منه العبير
فتعاليت في الجلاد صبوراً
…
علم الناس كيف يحيا الصبور
وتراميت من سما المجد صقراً
…
علم الدهر كيف تفضي الصقر
فليكس فارس
عزيز على النفس أن تتحدث عنك ميتاً، وقد كنت (بالأمس) ملء القلب، ملء الفؤاد، ملء السمع والبصر ملء هذه الحياة الفارغة. . .
انطوى هذا الفكر الوقاد، وانطفأ هذا القبس اللامع، وانحبس هذا الصوت الرنان، وثوى العبقري الثائر في رمسه، وفي قلوب صحابه آهة عميقة وفي أعينهم عبرات حرى
هذا النغم الحادي كان حلواً تتطرب له النفس!
هذه النفس العالية كانت طيبة رفافة لم تشبها نزوة من نزوات الكبرياء!
هذا القلب كان كبيراً. . . كبيراً لم تفسده ثرهات الحياة!
ففي ذمة الله أيها النغم الحادي، وأيتها النفس العالية، وأيها القلب الكبير!
فليكس فارس! هذا هو الرجل!
أخ العلم من كتاب الحياة فما تشرّب روح المدرسة، وفي المدرسة عسف وظلم، وفيها إغضاء عن النبوغ الفطري، وفيها كَبْت للمواهب المتأججة، فسما بنفسه، وعلا بروحه، وتفتح الكمْ عن زهرة يانعة وهو ما يزال عند التاسعة عشر، شاباً ريْق الشباب وفتى غضّ الفتوة؛ فدخل المدرسة - أول ما دخل - أستاذاً للبيان العربي في مدرسة عبية؛ ثم لمعت أول مقالاته الأدبية في جرائد سوريا ولبنان.
وأعلن الدستور العثماني سنة 1908 فتدفق البيان على لسانه، وتراءى خطيباً تتقطع دون بلاغته ألسنة الخطباء، فتألق نجمة. ثم ألقى عن نفسه عبء التدريس ليخوض غمار
السياسة عضواً فذاً في جمعية الاتحاد والترقي العثمانية، واختارته لجنة سالونيك - بعد حين - ليكون عضواً عاملاً فيها يؤسس الجمعيات الدستورية في أرجاء البلاد.
وجرفته السياسة في تيارها فأصدر جريدته (لسان الاتحاد) تتحدث عن نوازع نفسه، وآمال قلبه في السياسة والأدب جميعاً. ثم. . . ثم عُيّن أستاذاً للخطابة والأدب الفرنسي في المدرسة السلطانية بحلب.
واستعرت نار الحرب العظمى فما برح مكانه حتى دخل الجيش العربي البلاد فتخيرته الحكومة الهاشمية سكرتيراً لحكومة حلب، ثم مديراً عاماً لإدارة حصر الدخان، فما شغله المنصب عن أن يقوم - بين الفينة والفينة - خطيباً يدعو إلى الوحدة العربية وإلى رفض الانتداب الأوربي
وفي سنة 1920 أبحر إلى أمريكا يطلب إلى المهاجرين من بنى وطنه العودة إلى بلادهم، وقد عزّ عليه أن ينأى جماعة من أفذاذ قومه عن ديارهم أحوج ما تكون إليهم، وفيهم العالم والصانع والتاجر، فقضى سنة يضرب في أنحاء أمريكا يخطب المهاجرين بالعربية مرة وبالفرنسية أخرى، علّهم يثوبون؛ وهناك تعرّف إلى أعضاء الرابطة العربية جميعاً ووصل بينه وبينهم برباط من المحبة، وتوثقت بينه وبين جبران خليل جبران العبقري الفنان صلات من الهوى والصداقة.
وعاد إلى لبنان وفي خياله أن يستطيع أن يقنع الجنرال بيرو المندوب السامي الفرنسي بوجوب التفاهم مع العناصر الوطنية، وتشجيع المهاجرين على العودة إلى وطنهم. ومال الجنرال بيرو إلى رأي الأستاذ غير أن الحكومة الفرنسية رأت أن ترسل الجنرال فيجان ليشغل منصب الجنرال بيرو. . . فانفجرت الثورة وتطاير شررها هنا وهناك، ولكن اليأس لم يجد طريقه إلى القلب الكبير. . . قلب الأستاذ فليكس، فراح يكتب إلى صديقه المسيو جوسران سفير فرنسا في واشنطن، وإلى ذوي المكانة العليا في فرنسا، يكشف لهم جميعاً عن خطل السياسة الفرنسية في بلاده؛ غير أن صرخاته ذهبت نهب الرياح، فكبر عليه أن يعمل مع حكومة تسير على مبدأ لا يقره، فنبذها جانباً، ولبس ثوب المحاماة.
وفي أواخر سنة 1930 عين رئيساً للتراجمة في بلدية الإسكندرية فترك بلاده ومهنته ليستقر في الوطن الثاني الجميل. . . في مصر، وليجد هنا أصدقاء أحباء يعوضونه ما فقد
في وطنه الأول
تلك لمحة عاجلة عن حياة الأستاذ الفقيد فيا عظة وحكمة
لم يكن للأستاذ فليكس أن يكبح جمحات نفسه، بعد إذ لمس الإخفاق في وطنه الأول، وهو قد هبط وطنه الثاني شعلة من نشاط تتقد، فاندفع يتعرف على جماعة من أدباء هذا المصر. . . ثم قرأ للأستاذ الزيات - أطال الله عمره - وجمع أعداد (الرسالة) لا تفوته فيها شاردة ولا واردة؛ وعكف دراسة أدب الرافعي رحمه الله حين استهوته مقالاته في (الرسالة)؛ وترجم له مقالته (رؤيا في السماء) إلى الفرنسية وعلق عليها، ونشرها هي والتعليق في غير واحدة من الجرائد الفرنسية، وأعجب بعاهلي الأدب العربي الحديث وتمنى لو رآهما
وفي صيف سنة 1936 تعرف إلى الأستاذ الرافعي رحمه الله وطلب إليه أن يزوره في داره في كامب سيزار برمل الإسكندرية فلبى الدعوة وأنا برفقته. . . فألفيت رجلاً هادئ الطبع، طلق المحيا، كريم الخلق، جميل الصحبة. وكان وجهه - ونحن في داره - يتهلل بشراً وسروراً. . . وهكذا ابتدأت أول وشيجة بينه وبين أسرة (الرسالة) الغراء، ومضت أيام فإذا صوت صرير قلمه يرن على صفحات (الرسالة)
ثم انطلق يتلمس الطريق إلى الأستاذ الزيات ويستزيره في إلحاح. وفي صيف سنة 1937 دخل الأستاذ الزيات دار صاحبه فليكس - لأول مرة - وأنا إلى جانبه. يا عجبا. يا عجبا! إنني أرى صاحب الدار يهتز من فرط الفرح كأنه يلاقي حبيباً طال اغترابه؛ وإنه ليتراءى لي أنه يهم أن يضم الأستاذ الزيات إليه لولا هيبته. وتقدمت الأيام وفي قلب كل منا لصاحبه المحبة والإخلاص والوفاء
عرفنا الأستاذ فليكس فعرفنا فيه الأديب الفذ والشاعر الرقيق، وفقدناه ففقدنا فيه الأخ الوفي والصديق الصادق
ففي ذمة الله، وفي رحمة الله. . . يا صديقي!
كامل محمود حبيب
في بلاط الخلفاء
حماد وهشام بن عبد الملك
للأستاذ علي الجندي
ضمت الكوفة في وقت واحد ثلاثة نفر يُقال لهم: الحمادون، وهم حماد عَجْرد، وحماد الراوية، وحماد الزَّبرِقان أو أبن الزبرقان. كان هؤلاء الثلاثة يتعاشرون بثلاثة أجساد تُصرَّفها روح واحدة. ولم يكن غريباً أن يجتمعوا على هذا الود الوثيق، فقد ألفت بينهم رابطة الأدب، ولحمة الزندقة، وآصرة أخرى تُسامي رضاع الثدي وهي رضاع الكأس! ولله دِعْبل إذ يقول
أذكرْ أبا جعفر حقًّا أمتُّ به=أني وإياك مشغوفان بالأدب
وأننا قد رضعنا الكأس دِرَّتها=والكأسُ درتها حظ من النسب
والذي يعنينا من هذا الثالوث العجيب المتّحد في الاسم والنزعة والهوى والنَحلة، حماد بن ميسرة الديلمي مولى بكر بن وائل. كان هذا الرجل آية دهره في العلم بأنساب العرب وأيامها وحفظ لغتها وأخبارها وأشعارها، فخلع عليه معاصروه - على بخل المعاصرة وحقدها - لقب الراوية؛ وهو لقب فخم رفيع لم يمنحه جزافاً بل انتزعه انتزاعاً عن استحقاق وجدارة
يتحدثون أن الوليد بن يزيد سأله: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: لأني أَرْوي لكل شاعر تعرفه - يا أمير المؤمنين - أو تسمع به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً لقديم ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال الوليد: إن هذا لَعلم - وأبيك - كبير. فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير. ولكنني أنشد على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة طويلة، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام!
وكأن الوليد استراب بحفظه فقال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد حتى نال منه الضجر! فوكل به من يسمع منه واستحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة جاهلية، ورفع الأمر إلى الوليد، فأجازه بمائة ألف درهم
ولكن مما يحزّ في النفس أن حماداً لم يكن متحلّياً بتلك الشرائط التي تعدّ قوام الرواية من
أمانة وصدق وإخلاص!
فقد شاء ألا يقنع بما أفاء الله عليه من مواهب عالية، وبما حصّله بجهده من ثروة أدبية ضخمة تتقطّع دونها أعناق الفحول! فاستغلّ حفظه للشعر وبَصارته بمنازع الشعراء، وقدرته على النظم، ودقة مسلكه في التقليد، وَغرامه بالتزيّد في الوضع والتلفيق والتدليس! فكان يقرض الشعر وينْحَلُه من يشاء من شعراء العرب، ويجوز ذلك على أكثر الناس لفرط المشابهة بين الأصيل والدخيل!
ومن السهل على من رُزق علم حماد وقوة طبعه وحدة قريحته وبارع زكانته، أن يفعل مثل فعله لا فرق بين متقدم ومتأخر!
يقول الثعالبي: إن الصاحب يوماً قال لجلسائه - وقد جرى ذكر أبي فِراس الحمداني -: لا يقدر أحد أن يزوّر عليه شعراً. فقال البديع الهمذاني: ومن يقدر على ذلك وهو القائل:
رويدَك، لا تصِلْ يدَها بباعك
…
ولا تُغْرِ السباع إلى رباعك
ولا تُعِنِ العدوَّ عليّ إني
…
يمينٌ إن قطعتَ فمن ذِراعك
فقال الصاحب: صدقت! فقال البديع: أيد الله مولانا قد فعلت! - أي زوّرت عليه -
والغريب في أمر حماد أنه لا يستحي أن يتبجّح بهذا الضلال البعيد! فكان يقول: ما من شاعر إلا أدخْلت في شعره أبياتاً حملت عنه إلا أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قط غير بيت واحد. فقيل ما هو؟ قال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ
…
من الحوادث إلا الشّيْب والصلَعا
وأغرب من هذا أن جرأته كانت تطوّع له الكذب على الخلفاء المعروفين بدقة الفطنة وسعة المعرفة! فقد روَي صاحب الأغاني بسنده عن جماعة ذكر أنهم كانوا في دار الخليفة المهدي إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبيّ الراوية، فدخل فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد الراوية وحسين الخادم، وقد بان وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط. ثم نادى الخادم: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يُعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها. ووصل المفضّل الضبي بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً مُحدَثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية
صحيحة فليسمعها من المفضل
وقد كان السبب أن المهدي قال للمفضل - لما دعا به وحده -
إني رأيت زهير بن أبي سُلمى افتتح قصيدته بأن قال:
دع ذا، وعدِّ القولَ في هَرِم
…
خير البُداة وسيد الحَضْر
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئاً، إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يُروَّى في أن يقول شعراً فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا. أو كان يفكر في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا. أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه المهدي ودعا بحماد فسأله في ذلك. فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين. قال: فكيف قال؟ فأنشده:
لَمِن الديارُ بقُنَّة الحِجْر؟
…
أقْويْنُ مُذْ حِجَج ومذ دَهْر
لعب الزمان بها وغيّرَها
…
بعدي سوَافي المُور والقطر
دع ذا. . . الخ
فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل عليه فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه! ثم استحلفه بأيْمان البيْعة - وكل يمين مُحْرجة - ليَصْدقَنَّه عن كل ما يسأله عنه. فحلف بما توثق منه. فقال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير. فأقرّ له أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه
هذا الضعف الخُلُقي الذي عُرِف به حماد هو ما حدا الأصمعي أن يقول فيه: كان حماد أعلم الناس إذا نصح (يعني إذا لم يزد وينقص) وكذلك قال فيه المفضل الضبي: قد سُلَط على الشعر من حماد الرواية ما أفسده فلا يصلح بعده أبدا! فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في الرواية أم يَلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يُشَبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويُحمَلُ عنه ذلك في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟)
وقد هجا حماداً أحمد بن يحيى هجاء طريفاً يمكننا أن نقف منه على شكله وهيئته وزيه ورأى الناس فيه. قال:
نعم الفتى لو كان يعرف ربَّه
…
ويُقيم وقت صلاته حّمادُ
بسطَتْ مَشافرَه الشَّمولُ فأنفُه
…
مثلُ القَدوم يَسُنُّها الحدّاد
وأبيضّ من شرب المُدامة وجهُه
…
فبياضُه يوم الحساب سواد
لا يُعْجبنّك بَزّه ولسانُه
…
إن المجوسَ يُرَى لها أسباد
وقد نشأ حماد في العهد الأموي سنة خمس وتسعين هجرية، وكان أثيراً لدى خلفاء بني مروان، يستزيرونه فيفد عليهم ليحدثهم عن أيام العرب وأخبارها وينشدهم أشعارها، فيظهرون إعجابهم به وينفحونه بالأعطيات السنية
وقد خفّ على قلب يزيد بن عبد الملك منهم فانقطع إليه واختص به ونادمه، فحصّل منه دنُيا عريضة وعاش في حال رافهة
ولكن هذه النعمة السابغة كادت تحوُل جائحة مستطيلة لولا ما قُدَّر له من طول السلامة! فقد كان بين راعيه يزيد وأخيه هشام جفوة شديدة مردها إلى أنهما من أبناء العلاَّت، فأم يزيد عاتكة بنت يزيد بن معاوية الأموية، وأم هشام عائشة بنت إسماعيل المخزومية، وأهم من ذلك أن يزيد كان يريد أن يبايع لابنه الوليد القاصر، فصرفه أخوه مسلمة بلباقة وكياسة إلى مبايعة أخيه هشام الراشد، ولكن يزيد ندم بعد أن تم الأمر، فاستشرت العداوة بين الخليفة وولي عهده حتى اضطر هشام أن يعيش خارج دمشق، وتبع ذلك أن حقد على حاشية أخيه وبطانته، ومنهم حماد زينة البلاط ونجمه اللامع!.
فلما آلت الخلافة إلى هشام خافه حماد على نفسه خوفاً شديداً فانزوى في كسر بيته مدة عام في خلالها - إذا ضاق صدره - ينسل في سر من الناس إلى الثقات من إخوانه خائفاً يترقب؟ ولما انقضت هذه الفترة ولم يتوجه إليه طلب، ظن أنه قد بلغ مأمنه، فبرز من مخبئه وصلى الجمعة في الرُّصافة، ولم يقنع بذلك حتى جلس عند باب الفيل، وإذا شرطيان كأنما نبعا من الأرض قد وقفا عليه وقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف ابن عمر (والي العراق) فانخلع قلب حماد من الرعب، وقرع سِنّ الندم على خروجه، وتوسل إليهما أن يستأنياه حتى يأتي أهله فيوصي بهم وإليهم، ثم يصير معهما إلى حيث يريدان، فأجاباه في خشونة الزبانية: ما إلى ذلك من سبيل! وأخذا بعضديه، فاستبسل للموت واستقاد لهما حتى بلغا به الأمير وهو جالس في الإيوان الأحمر، فسلم عليه حماد بصوت مصحول فكان رد
السلام أن ألقي إليه كتاباً فيه ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مُروَع ولا مُتعتع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق
ففاضت بشاشة الطمأنينة على قلب حماد، وقبض الدنانير الصفر وقد امتزج لألاؤها ببريق السرور الخاطف على وجهه!
وفي الحق أن حماداً كان مسرفاً في خوفه من هشام، فقد كان هذا الخليفة غزير العقل راجح الحلم عفيف النفس جامعاً لأدوات الرياسة، حتى كان الأشياخ يقولون: أُديِل من الشرف وذهبت المروءة بموت هشام! ومن كانت هذه صفاته فكثير عليه أن ينكل بأديب مستضعف كل جريرته أنه كان متصلاً بسلفه
وقد هيئ لحماد جمل مرحول فركبه من ساعته، وسار يُغذّ في السير اثنتي عشرة ليلة حتى وافى دمشق ووقف بباب هشام مستأذناً في الدخول إليه، فأذن له.
(البقية في العدد القادم)
علي الجندي
وسائل الاغتياب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كل إنسان من الناس لا يعد الاغتياب اغتياباً إلا إذا كان قد أتى من غيره في حقه أو في حق عزيز عنده أو مرضيًّ عنه لديه. أما إذا أتى الاغتياب من غيره وقُصد به انتقاص غير عزيز عنده ولا مرضيٍ عنه؛ أو إذا كان هو الذي يغتاب فإنه لا يعد الاغتياب في هذه الحالات اغتياباً بل يعده مكرمة وفضيلة، فيعده انتصاراً للحق وهداية إلى الفضيلة وإظهاراً للنقص ومحاربة للرذيلة وتحذيراً للسامع من الشر. وهكذا تتغير حقائق الأمور حسب أهوائه، وبذلك يسيطر على ضميره ويخدع ضمائر الناس. فالاغتياب منه فضيلة ليس بعدها فضيلة؛ أما من غيره فالاغتياب دليل على لؤم النفس وخساستها. وهو إذا اغتابه أحد الناس لم يعد اغتياب المغتاب له فضيلة وهداية إلى الفضل ومحاربة للنقص كما يعد الاغتياب الذي يجيء من نفسه في حق الناس. وكثيراً ما يلجأ المغتاب إلى أساليب عجيبة كي يقبل اغتيابه فيقول: إني لا أريد أن أنتقص فلاناً أو أن أذمه فإنه رجل فاضل، ثم يغتابه بما لا يترك له فضلاً ولا فضيلة. وقد يمدح عمل الرجل في صنعته كي يقبل الناس ذمهُ له في أخلاقه؛ وذلك لأن الفضل في العمل قد لا يخفى على البصير الحاذق الذي يستطيع أن يزن فضل القول أو العمل في الصنعة أو المهنة. أما فضل الأخلاق فأكثره غير مكتوب في طرس ولا مرصوف في بناء ولا منحوت في تمثال حتى يزن الوازن فنه ولونه وحقيقته، بل أكثره وديعة في نفوس الخلطاء أو من ليسوا بخلطاء ولا عشراء إذا كان المرء معروفاً بالذكر عند من لا يعرفه في حياته الخاصة. والخلطاء قد لا يؤدون الأمانة وافية ولا الوديعة غير منتقصة وغير الخلطاء إنما يحكمون بالصدى
وكثيراً ما يرشو المغتاب سامعه بالمدح إذا كانت إثارة شره وحقده على من يعرفه أو لا يعرفه تحتاج إلى مدح المغتاب لسامعه الذي يريد إثارة شره، أو قد يهدد المغتاب سامعه بالذم إذا لم يقبل أن يُستشار شره وحقده على ذلك الغائب الذي يغتابه المغتاب، وقلما يجرؤ أحد الناس إذا سمع ذماً لغائب أو شبه غائب على رفض الذم وتزكية المذموم خشية أن يعد الناس مدحه للمذموم مشاركة له في نقصه الذي ذمَّ به، فترى أكثر الناس إلا من ندر إذا اغتاب إنسان إنساناً يسرعون إلى إظهار تصديقهم قوله خشية أن يعدوا مشاركين للغائب
المذموم إذا كذَّبوا مغتابه. وهم يسرعون إلى هذا التصديق وإن كانوا من أهل الخير، وإن كانوا من أبعد الناس عن التلذذ بالحقد من غير سبب للحقد، وإنما يصدقون المغتاب وقاية لأنفسهم، وكل إنسان به شيء قليل أو كثير من الجبن أو الخوف أو الحذر فيخاف إذا لم يعاون المغتاب على اغتياب الغائب - وأقل المعاونة المعاونة بالسكوت والإنصات والابتسام والإقبال - أن يُعدَّ مشاركا للغائب فيما اغتيب به. وإذا كان هذا شأن أهل الخير فما ظنك بغيرهم من الناس وأكثر الناس يجدون في أنفسهم لذة ومسرة - إما قليلة تكاد تكون خفية غير ملحوظة وإما لذة عظيمة - إذا سمعوا ذماً لإنسان. وأقل أسباب هذه اللذة وأطهرها أن الذم لم يقع بهم بل بغيرهم فَيُسرون لنجاتهم من الذم بوقوع الذم بغيرهم كما يسرون من أجل أنَّ ذم غيرهم بالحق أو بالباطل إذا سمعوه أو قالوه يزيدهم عظمة عند أنفسهم فيشعرون أنهم صاروا أعظم من المذموم حتى ولو كان ذمه بالباطل، فالذم كالجمر كل يريد أن يلقيه على غيره. فإذا أحس السامع في نفسه أنه أحق بذلك الذم الذي اغتاب به المغتاب غائباً أسرع في معاونة المغتاب على الغيبة كيلا يفطن المغتاب وكيلا يلحظ من عينيه أنه أحق بالذم من الغائب. ومن أجل ذلك يكون الاغتياب أشيع ما يكون بين أهل النقص الحقيقين بالذم الذين يخفون من أسرار أنفسهم ما هو حقيق بالذم فيرتعدون خوفاً من ظهوره فيندفعون إلى الغيبة من الخوف، كما قد يُقبِلُ الأرنب من خوف إلى الثعبان، أو كما قد يُقبِلُ الهِرُّ من خوف إلى الأسد. وهم قد يندفعون في نقصهم ويُهونون على أنفسهم النقص بذلك. وقد يُصَرَّحُ المغتاب للسامع بالتهديد ولا يكتفي بالتلميح في تهديده فيقول: لا يدافع عن أهل الرذيلة إلا من كان من أهل الرذيلة، فيسرع السامع إلى تصديق المغتاب، وربما صار من خوفه أشد شَرَهاً في الاغتياب من ذلك المغتاب الذي هدده إذا لم يقبل منه قوله. وقد تجتمع في نفس السامع أسباب الاغتياب كلها، بل إن الخوف من مشاركة الغائب المهجو في الذم قد يجعله السامع عذراً لنفسه إذا وجد لذة في الشر والانتقاص، وإيقاع الأذى بغيره بمعاونة المغتاب؛ فبعد أن يكون قبوله الاغتياب والمعاونة عليه خوفاً يصبح القبول وتصبح المعاونة لذة في إيقاع الأذى وتعاظماً بانتقاص غيره، فترى أن أقل أسباب قبول الغيبة إثماً وأطهرها شكلاً يسوق النفس إلى أكثر أسباب قبول الاغتياب والمعاونة عليه إثماً، وإلى أخبثها أصلاً في النفس. وهذا من عجائب النفس الإنسانية التي في أول أمرها
قد تتحرج من أقل الخبث والشر؛ فإذا قبلته مُكرَهةً كارهة قد لا تتحرج في أن تجد لذة في أشد الشر والخبث. والخوف من مشاركة المذموم في الذم سنة عامة قد تتخذ شكلاً مضحكاً. فقد ترى جماعة من الناس يتحدثون في مودة وصفاء ثم يرون على قرب منهم اثنين يتضاحكان، وقد يكون تضاحكهما لأمر لا صلة له بهم، ولعل ذكرهم لم يمر على لسان المتضاحكين، ولكن شدة الذعر من السخر والذم قد توهم تلك الجماعة التي تتحدث في مودة وصفاء أن تضاحك المتضاحكين منهم أو من أحدهم فيبتسم كل منهم كي يوهم أصحابه وجلساءه أنه واثق في سريرة نفسه أنه غير مقصود بضحك المتضاحكين. وقد يكون ابتسامه مخلوطاً في شكله بمظاهر الخوف والارتياب فيتخذ ابتسامه شكلاً مضحكاً حقاً. أما إذا استطاع أن يخفي ما في سريرة نفسه من الارتياب والخوف فإنه قد يقنع جلساءه أن تضاحك المتضاحكين على مقربة منهم ليس سخراً به بل بأحدهم وقد ينظر مبتسماً إلى جليس كي يوهم جلساءه أن المتضاحكين إنما يسخران بهذا الجليس الذي ينظر إليه فهو يتوقى السخر الموهوم بإلصاقه بجليسه كي يقي نفسه من أن يُظَنّ موضوع اغتياب المتضاحكين. وهذه ظاهرة مشاهدة في الناس وقد قال أحد الأدباء الماكرين:
إذا رأت إنساناً في جماعة على مقربة منك وارتبت في أنه يغتابك فما عليك إلا أن تختار صديقاً أو جليساً يجيد الضحك ثم حدثه حديث فكاهة يثير ضحكه ولا علاقة لحديثك بالإنسان الذي ترتاب في أنه يغتابك فإذا أكثرتما من الضحك وجعلت تنظر غليه أثناء الحديث ارتاب ذلك الإنسان أيضاً في أنك تذكره بسوء. بل قد ينذعر بعض جلسائه خشية أن يكون هو المقصود بالضحك. فينصرفون عنه، وقد يسعون إليك مبتسمين إذا كانوا يعرفونك كي يوهم كل منهم الآخر أنه واثق في سريرة نفسه أنه ليس مدعاةً للسخر والضحك، وإنما يكون انفضاضهم عن ذلك الإنسان على صوت ضحككما كانفضاض قوم عند سماع صوت إطلاق قذيفة من مدفع غير مُعَبأ بما يميت. وهذه الحيلة ليست من مكارم الأخلاق وربما ألجأ إليها الظن المخطئ وربما لا تستطاع إلا بشيء من الصفاقة لا يملكه كل إنسان ولكنها على أي حال من أخلاق الناس ومشاهد الحياة.
والمغتاب الذي لا يستطيع الناس أن يجدوا سبباً لحقده على من يغتابه أكثر المغتابين نجاحاً في الاغتياب، ومن أجل ذلك يحاول المغتاب الماكر أن يخفي سبب حقده وكرهه، وقد يكون
السبب بطبعة بعيداً عن الأذهان، وقد يكون المغتاب نفسه غير فاهم سبب حقده الذي يخامر نفسه كل الفهم، وأخلق بهذا السبب ألا يفهمه الناس إذا كان صاحبه لا يفهمه.
عبد الرحمن شكري
كتاب في (الدين الإسلامي)
للأستاذ علي الطنطاوي
كان الأعرابي الجلف الجافي، يقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ساعة من الزمان يستمع فيها إليه، فلا يقوم إلا وقد فهم الإسلام وعرفه، وصار من المبشرين به والداعين إليه. وكان يصحب النبي أياماً فلا تنقضي حتى يغدو عالماً، يبعثه النبي إلى قومه معلماً ومرشداً، فيعرفهم الحدود، ويبيَّن لهم الحلال من الحرام. . .
كان هذا يوم لم يكن تدوين، ولم تصنف المصنفات، ولم تجمع الأحاديث. . . وهانحن أولاء نملك أكثر من مائة ألف كتاب ورسالة في التفسير والحديث والفقه والأصول والتصوف والسيرة والخلاف وكل ما يخطر على بال باحث من المسائل المتصلة بالإسلام، ولكنا لا نجد فيها كتاباً واحداً لخص الإسلام كله تلخيصاً وافياً، وعرضه عرضاً واضحاً، يقرؤه الشاب فيفهم، فيفهم فيه الدين كله كفهم الوافدين على النبي الدين، حين دخلوا فيه أفواجاً. . .
ولقد أحسست بهذا النقص منذ ابتداء عهدي بالطلب، وعرضت له في رسائل (في سبيل الإصلاح) التي نشرتها في دمشق (أثر عودتي من مصر سنة 1929). بيد أني لم أعرف خطره إلا أمس، حين درست الدين في مدارس العراق، وشرحت للطلاب مزاياه، وكشفت لهم عن عظمته، فكانوا يتشوقون إلى زيادة الاطلاع، ويرغبون في متابعة الدرس. فيسألونني عن الكتاب الذي يجدون فيه خلاصة الدين، كما يجدون خلاصة الطبيعة أو الهندسة في كتاب واحد، فأفكر فيه فلا أجده، ولا أجد إلا علوماً كثيرة من كلام وفقه وحديث وتفسير فيها آلاف من الكتب، يعتدها المؤرخون أثمن تراث للعقل البشري وأغناه، ولكنها أصبحت اليوم بالية الأسلوب، قديمة الطراز، كحلية من الذهب، ما نقص الذهب ولا خاس، ولكن أنكر الشكل وتغيرت الأذواق، والصائغ الماهر يحول الحلية من حال إلى حال. . . وكنت أخاف أن ينصرف الطلاب عن دراسة الإسلام، وتموت في نفوسهم الرغبة فيه، إذا أنا دللتهم عليها وأردتهم على قراءتها. وليت شعري أأقول للطالب الذي تدع له دروسه الكثيرة، إلا بقية من وقت، آثر أن يشغلها بدراسة الدين عن أن ينفقها في حق نفسه وراحتها، أأقول له، إنك لا تفهم الإسلام حتى تقرأ (النسفية) و (السنوسية) وأشباهها
وتدخل في كل باب من أبواب الفلسفة الفارغة. . . والجدل العقيم. . . وتدور مع المذاهب الباطلة والرد عليها، والآراء الخاطئة ودفعها، وتحفظ كفر أقوام انقرضوا وانقطع دابرهم، كل ذلك لتفهم التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه واضحاً سهلاً لا فلسفة فيه ولا جدال. . . وتقرأ (الطخطاوي) والشرنبلاني أو (الباجوري) أو غيرهما من كتب الفروع، وتملأ الرأس منك فروضاً مستحيلة، واحتمالات بعيدة، تتخلل الأحكام، وتجئ مع قوانين الشريعة، كل ذلك لتعرف كيف تصلي وتصوم، وقد كان البدوي يتعلم الصلاة والصيام في ساعة واحدة ويؤديها من بعدها على وجه الكمال. . . وتقرأ (شروح النار) أو (جمع الجوامع (وتكسر دماغك في كلام هو (والله العظيم) أشبه بالطلاسم والأحاجي منه بالعلم وأسلوبه المبين، لتفهم أصول الفقه، والأصول في هذا الدين ثابتة ثبوت الجبال، واضحة وضوح الشمس، مستقيمة كخيوط النور لا عوج فيها ولا التواء، ولا غموض ولا إبهام. . . وتقرأ (النخبة) أو (مقدمة ابن الصلاح) لتفهم مصطلح الحديث، وتقرأ بعد ذلك شيئاً كثيراً. . . ثم لا تنجو بعده من أن يتهمك الحشويون بأنك وهابي، والسلفيون بأنك قبوري، ولن تعدم من يتبرع بتكفيرك من أجل بحث في كرامات الأولياء، أو كلام في السفور، أو رأي في ابن عربي. . . فأين الشاب المشغول بدروسه المتهيئ لفحصه من هذا الخضم الذي يغرق فيه لو خاضه؟ أو لا يعذر الشبان إذا لم يقدروا على درس الدين في كتبه، ولم يجدوا من يفهم عنهم أو يفهمون عنه من علمائه، فآثروا السلامة، وابتغوا من العلوم والدراسات ماله كتب مفهومة، وخلاصات واضحة؟
أحسست بهذا النقص البين، فكتبت في وصفه وخطبت مراراً وسألت من توسمت فيه من العلماء سده وإكماله، فوجدت من (علمائنا) والجمهور منهم لا يحسن شيئاً إلا إقراء الكتب التي كان قرأها على مشايخه من قبل، وشرحها كما شرحت له، فإن خرجت به عن الحواشي والشروح، عاد عاميَّاً لا يكاد يصلح لشيء ، ووجدت أكثرهم بعيداً عن الأدب ليس من أهل البيان، ومنهم من لا يزال يظن (جهلاً) أن الإسلام كره الشعر وحرمه ويحتج بحديث: لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . ولقد ثبت أن الذي يروونه جزء من الحديث رواية ويل للمصلين. ومن ابتعد عن الأدب، ولم يتمرس بأساليب البلغاء، لم يأت منه خير لأن علمه يقتصر عليه، فلا يقدر على بثه بقلم ولا بلسان. . . ووجدت أكثر (علمائنا) يعيش في
دنيا أهل القرن التاسع، ويفكر بعقولهم. ومنهم من شغله منصب يحرص عليه، أو مال يبالغ في جمعه وادخاره؛ ومنهم من أخلد إلى الراحة، وابتغى الجاه والغنى من شر الطرق وأقصرها، فمخرق على العامة وأظهر الورع فيهم والتواجد. فإن قلت له: صباح الخير، أو سألته عن مسألة. . . أجابك بـ (لا إله إلا الله) أو بالحوقلة والاستغفار، يقلب سبحته في يده، ويغمض عينيه، ويصمت حيناً خاشعاً مراقباً، ثم يصرخ في وجهك صرخة من أفلت من (العصفورية) أو (العباسية). ورأيت من هؤلاء من العجائب ما لو قصصته لخفت أن أكذب فيه لغرابته. . . فأيست منهم أو كدت، ودفعني هذا اليأس إلى محاولة الكتابة في هذا الموضوع، على قصر يدي فيه، وقلة بضاعتي، وأعددت (في نفسي) أكثر مباحثه، ثم رأيت أن أفتح هذا الباب في الرسالة (بإذن الأستاذ الزيات) لكل من أراد أن يكتب فيه وارتضي الأستاذ ما كتب، ورجوت أن يقبل على الكتابة العلماء والباحثون، ينشئ كل منهم فصلاً من الكتاب ينشر اليوم في الرسالة. ثم إذا اجتمعت الفصول ونقحها أصحابها وأعادوا النظر فيها أودعت صفحات كتاب يبقى إن شاء الله وينتفع به الناس. . . ولعل الذي يمنع تحقيق هذا الرجاء أن أكثر من يكتب من الشباب ويملك الأسلوب المشرق المبين لا اطلاع له على كتب الدين، ولا إلمام له بها. وأكثر العلماء (كما قدمت القول) غير مشتغلين بالكتابة. وعلاج ذلك أن يشترك في البحث عالم مطلع، وأديب كاتب، فيمشي الشاب الذي يحسن الكتابة إلى عالم يدلّه على المراجع، ويبيَن له الأحكام، وينشئ هو الفصل بعد ذلك، فيجتمع له فوائد، منها أن البحث قد كتب وتم، ومنها أنه اطلع على نواحٍ من العلم جديدة، ومنها أنه ألف هذه الكتب القديمة وعرف أسلوبها. . .
ولنأت الآن إلى الموضوعات التي ينبغي أن يشتمل عليها الكتاب، ما هي وما حدودها. ولست أحب أن أحددها وحدي بل أبين المراد إجمالاً. والمراد أن يلخص الدين الإسلامي في كتاب يضم بين دفتيه الإسلام الذي جاء به النبي محمد خالياً من الحشو والزيادات والبدع والخلافات، يقرؤه الشاب المسلم الذي لا يعرف الدين، فلا يحتاج بعده إلى شيء، ويقرؤه العامّي فيفهم منه دينه، ويقرؤه الغربي (مترجماً) فيحصل له عن الإسلام فكرة واضحة صحيحة
وإذا كان المسلم الكامل هو الذي أخذ الإسلام علماً وعملاً واعتقاداً؛ وإذا كان حديث جبريل
المعروف قد قسم الدين إلى إيمان وإسلام وإحسان، وشرح الأول بأنه التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وشرح الثاني بأنه النطق بالشهادة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وفسر الإحسان بأنه عبادتك الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإن من المستطاع تحديد موضوعات كتاب (الدين الإسلامي) بأنها:
الإيمان وما يتصل به - الإيمان بالله (التوحيد) - الإيمان بالملائكة والجن والشياطين - الإيمان بالكتب - القرآن، وما يتصل به من نزول، وجمع وإعجاز - الرسالة والرسل - حياة النبي محمد ورسالته - اليوم الآخر - القضاء والقدر - الصلاة: حكمتها وفائدتها وكيفيتها وبيان المتفق عليه من أحكامها - الصوم - الزكاة - الحج - الأخلاق الشخصية في الإسلام - الأخلاق الاجتماعية في الإسلام - الإسلام من الناحية التشريعية - الإسلام من الناحية السياسية - فكرة عامة عن العلوم الإسلامية - المذاهب الأربعة والكلام عليها الخ. . .
هذه هي المباحث المهمة، وأهم منها أن تكتب بأسلوب لا هو بالأسلوب العلمي الجامد، ولا هو بالأسلوب القصصي الخيالي، وأن تكون تعليمية قبل أن تكون علمية، وأن ترتفع عن كل خلاف أحدثه المتأخر ون، وتعود إلى المنبع الصافي الذي استقى منه المصدر الأول خير القرون.
هذا وفي الموضوع مجال للإيضاح والنقد والتعديل، ولعل صفحات الرسالة لا تخلو من ذلك.
(دمشق)
علي الطنطاوي
مدينة قونية
(يا حاضرة مولانا)
للدكتور عبد الوهاب عزام
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
من عجائب الآثار وبدائع الصنعة مدرسة إينجه منارة (مدرسة المنارة اللطيفة) وأنا أعفي القارئ من وصفها وأكتفي بما تنطق به الصورتان المثبتتان هنا
ولا يسعنا أن نغفل جامع صاحب عطا (صاحب آتا) بناه أحد وزراء السلاجقة الكبار فخر الدين علي بن الحسين بن أبي بكر المتوفى سنة 684، وقبره في إيوان داخل المسجد ومعه خمسة قبور. وتدل الكتابة على مدخل الإيوان أنه بني في مفتتح المحرم سنة 682
وفي أطراف المدينة على مقربة من المزارع جامع صغر فيه قبر العالم الكبير صدر الدين القونوي المتوفى سنة 671؛ وكان من الأساتيذ في علوم الدين والتصوف. وكان واسطة بين الشيخ الأكبر محي الدين ومولانا جلال الدين. تزوج محي الدين أمه ورباه وعنه أخذ جلال الدين فيما يقال. وله مؤلفات في التفسير والحديث والتصوف
ذهبت إليه وحيداً قبيل الغروب فما زلت أسأل حتى اهتديت إليه فألفيته مقفلاً فسرت قليلاً وعدت فإذا رجلان جالسان بجانب الباب أحدهما ضرير: فلما اقترب المغرب قلت: ألا يفتح المسجد؟ ففتحا الباب فدخلنا إلى مسجد صغير عطل من جمال الصنعة والزينة فتقدم أحد الرجلين فألقى قبعته ووضع العمامة فعرفت أنه الإمام، وتقد الآخر وعلى رأسه (كاسكت) فأداره وأقام الصلاة فصلينا المغرب وحدنا. وسألت عن ضريح صدر الدين فأشير إلى نافذة تطل إلى الحديقة صغيرة فنظرت فإذا قبر بجانب النافذة فوقه عريش من الكرم وبجانبه أشجار
ولم تقر نفسي دون أن أرى مثوى الصوفي العجيب الغريب الذي اتصل بجلال الدين فحوله من الدرس إلى الخلوة، ومن أستاذ درس إلى مريد طريقة، الرجل الذي أثار حوله الظنون والأيدي حتى قتل في إحدى الثورات عليه، فما زال جلال الدين يشيد بذكره ويهيج به في شعره حتى سمى ديوانه الكبير باسمه. ذلكم شمس تبريزي (شمس الدين محمد بن
على التبريزي) الذي يقول فيه جلال وما أكثر ما قال فيه:
نه من تنها سرايم شمس دين وشمس دين
…
مي سرايد عندليب أزباغ وكبك أزكو هسار
باسمه الوُرْق والعنادل تشدو
…
لست وحدي أنوح: (شمس الدين)
عزمت على زيارته فقيل إن المزار مغلق لا يفتح لأحد. فاكتفيت بمشاهدة البناء على بعد. ثم لجّ بي التطلع فسرت إليه ليلاً فجارت بي طرق متعرجة ضيقة فرجعت آسفاً وأعجلنى السفر المبكر عن المسير صبحاً، وإن قدر لي الرجوع إلى قونية كانت زيارة شمس الدين أول ما أفعل
- 4 -
وقونية مدينة كبيرة في ولاية واسعة تسمى باسمها، وهي على حافة صحراء كبيرة يمر بها نهر صغير ينتهي إلى بحيرة غربيها. وهي على 450 كيلاً من استنبول إلى الجنوب الشرقي منها ويتصل بها سهل خصب جداً تكثر خيراته إذا أصابه مطر جود، لأن نهرها وينابيعها لا تفي بإروائها. وصناعة النسيج بها رائجة
وهي كثيرة المساجد بها زهاء 150 مسجداً و50 جامعاً. وأهلها معروفون بالدين والتقوى
وبها كثير من آثار السلجوقيين إذ كانت حاضرة دولتهم في آسيا الصغرى
وهي مدينة قديمة عرفت أيام اليونان والرومان. ومن الأساطير التي تروي أن تنّيناً سلط عليها فكان يبلع النساء والصبايا حتى قتله برسبوس بن جوبيتر (المشتري) فوضع أهلها على أحد أبوابها تمثالاً لهذا البطل الذي نجاهم من التنين فسميت المدينة ايكونيوم أخذاً من كلمة ايقون أي الصنم أو التمثال
إذا وقف الإنسان على ربوة علاء الدين رأى أمامه ميداناً كبيراً فيه أنصاب حديثة للجمهورية التركية، وأبنية ومساجد، وينتهي النظر إلى قبة مولانا جلال الدين تبدو من وراء الأبنية وبها شوارع مديدة واسعة. منها الجادة التي تمتد من الربوة إلى المحطة وفيها تمثال عظيم للغازي ويرجى لها مستقبل عظيم. ولا ريب أنها كانت أيام السلاجقة أعظم عمراناً وأكثر سكاناً
وقد زارها ابن بطوطة بعد زوال دولة السلاجقة واستيلاء أمراء بني قرمان عليها فقال:
(مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والأنهار والبساتين والفواكه وبها المشمش المسمى
بقمر الدين - وقد تقدم ذكره - ويحمل منها أيضاً إلى ديار مصر والشام. وشوارعها متسعة جداً وأسواقها بديعة الترتيب. وأهل كل صناعة على حدة. ويقال إن هذه المدينة من بناء الاسكندر، وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان وقد تغلب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم
نزلنا منها بزاوية قاضيها ويعرف بابن قلم شاه، وهو من الفتيان وزاويته من أعظم الزوايا. وله طائفة كبيرة من التلاميذ ولهم في الفتوّة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس
الصوفية الخرفة وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم من صنيع من قبله وأجمل، وبعث ولده عوضاً عنه لدخول الحمّام معنا
وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا وكان كبير القدر. وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويعرفون باسمه فيقال لهم الجلالية كما تعرف الأحمدية بالعراق، والحيدرية بخراسان. وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد والصادر)
ولا أنس مسيري في قونية ليلة الوداع وانتحائي منتدى قرب المحطة وجلوسي تحت أشجار هناك إلى نافورة كأن وسوستها في صمت المكان مناجاة أو حديث النفس
وبيننا يجول الفكر في مشاهد قونية وتاريخها، ويطير بيني وبين الوطن والأهل في لمحات، انبعث المذياع مبلغاً رسالة مصر كأنها جواب النجوى. ولست أدري أعرف صاحب المنتدى أني مصري فآنسني، أو كان اتفاقاً أجاب حديث الضمير. وكثيراً ما سمعت في استنبول وقونية صوت مصر، لا سيما حين تلاوة القرآن
عبد الوهاب عزام
من تاريخنا النسوي
عائشة والسياسة
للأستاذ سعيد الأفغاني
لم يتح للسيدة عائشة أن يكون لها أدني أثر في السياسة على عهد الخليفتين العظيمين أبي بكر وعمر؛ بل كان شأنها شأن بقية أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: يُستفتيْن في المسائل من أمور الدين، وخاصة فيما لا يعانيه إلا النساء. فبقين بعد وفاة الرسول مثابة لرواد الفقه وحملة الشريعة، وهذا من حكمة الله ورحمته بهذه الأمة، إذ جعل من أزواج صاحب الرسالة من تعيد سيرته المطهرة خمسين سنة تنشر تفاصيلها للناس، كأن الوحي لم ينقطع، وكأنهم من أنواره في شمس لا يلم بها أفول ولا تحجبها ظلمة. وليس كل السنة يتسنى للرجال معرفتها، ولولا ما نشرن منها لضاع علم كثير، فكان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة، كثيراً ما يسألونهن في دقائق المسائل وجلائلها وعلى هذا اقتصر عمل عائشة لهذا العهد. وكان في ذكائها (رحمها الله) وفي علمها ما جعلها مقدمة على عامة أزواج النبي (ص): يعرفن ذلك من حقها، ويرجعن أمورهن إليها. . . وكان الناس حين يفزعون إلى أزواج النبي لا يبدؤون إلا بها. . . فمكانها فيهن مكان الزعيم. . .
فلما كان عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، سارت السيدة في الشطر الأول من خلافته (سيرتها على زمن صاحبيه): تفتي وتحدث وتنشر العلم. . . لكنه لم يكد لين عثمان يجرئ الناس عليه، ولم تكد القالة تفشو ناقمة على بعض تصرفاته، حتى انقلب الأمر، ورأينا السيدة عائشة تقود حركة المعارضة، ورأينا عثمان يتبرم بموقفها كل التبرم ولم تزل السيدة توغل في تدخلها السياسي حتى أدى إلى ما لم تكن تحب، وحتى خرج الأمر من يدها في النهاية إلى يد الغوغاء، فكانت أشد الناس ندماً على ما قدّمت. . .
كان مما أخذ الناس على عثمان عزله من ولاية الكوفة القائد المغوار صاحب رسول الله سعد بن أبي وقاص، وتوليته الوليد ابن عقبة أخاه من الرضاعة. فلما حضر وفد أهل الكوفة متذمرين إلى عثمان من عاملهم الجديد انتهرهم وأوعدهم. . . فلجئوا إلى أم المؤمنين عائشة الصديقة مستجيرين. وأصبح عثمان، فصلى بالناس الفجر في مسجد
رسول الله (ص)، فسمع من حجرة عائشة صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلطة. فقال:(أما يجد مُرّاق أهل العراق وفساقهم ملجأً إلا بيت عائشة؟!). فسمعت عائشة فغضبت. ورفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (تركت سنة رسول الله صاحب هذه النعل). فتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد. فمن قائل: (أحسنت)؛ ومن قائل: (ما للنساء ولهذا) حتى تحاسبوا وتضاربوا بالنعال. ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: (اتق الله ولا تعطل الحد، واعزل أخاك عنهم). فعزله عنهم! وهكذا استطاعت السيدة بما لها من المكانة والذكاء أن تهيئ لمعارضتها نجاحاً باهراً. فغيرت هذا العامل على رغم الخليفة. وخير ما نطلقه عليها أنها كانت: (زعيمة المعارضة) - على اصطلاح هذا العصر - مدة الخليفتين عثمان وعلي. . .
ثم جاءت شكوى المصريين من عاملهم ابن أبي سرح على نحو شكوى أهل الكوفة من عاملهم. وقامت السيدة في ذلك مقاماً حميداً كما قام غيرها من مشيخة الصحابة مثل علي وغيره. إلا أن ابن أبي سرح لم يعمل بكتاب عثمان، وقتل أحد الذين كانوا شكوه؛ فرجع المصريون إلى المدينة، وشكوا إلى أصحاب النبي وأزواجه ما صنع ابن أبي سرح. فقام طلحة؛ فكلم عثمان بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشة:(قد تقدمت إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل؛ فأبيت أن تعزله؛ فهذا قد قتل رجلاً منهم فأنصفهم من عاملك. . .)
ولما رجع المصريون بكتاب عثمان المزور، وضج الناس، كانت عائشة تذمه كثيراً، وكانت هي نفسها تقول (فيما بعد):(إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، وموقع السحابة، وإمرة سعيد والوليد. فغضبنا لكم من سوط عثمان. . .)
ومواقف عائشة هذه من عمال عثمان وإرغامها إياه على تغييرهم، قد آذته كثيراً حتى خرج مرةً عن وقاره واعتداله، وما يليق به من الاحتمال والحلم. قال صاحب (البدء والتاريخ):
(كان أشد الناس على عثمان طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وعائشة. وخذله المهاجرون والأنصار، وتكلمت عائشة في أمره وأطلعت شعرة من شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعله وثيابه وقالت: (ما أسرع ما نسيتم سنة نبيكم!) فقال عثمان في آل أبي قحافة أسرة عائشة ما قال، وغضب حتى ما كان يدري ما يقول) هـ.
هذا ما كان من آثارها، ودع لنفسك أن تقدر ما يبلغ مثل ذلك من نفوس الناس، وهم حينئذ أولو الحمية للإسلام، وأقرب الناس عهداً بالرسول وصاحبيه - كم يبلغ من نفوسهم الوجد على عثمان حين فرّط حتى بلغ السيل الزبى، وحتى تغير عليه امرأة - ثم لا تكون تلك المرأة إلا أم المؤمنين عائشة: ترفع عليه في المسجد صوتها وتبرز للمسلمين نعل الرسول مرة، وشعره مرة، وثوبه مرة، تنصبه في حجرتها وتقول للداخلين عليها:(هذا ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَبلَ، وقد أبلى عثمان سنته). وكان عثمان مرة يخطب فدلّت عائشة قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: (يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته). فقال عثمان: (رب اصرف عني كيدهن، إن كيدهن عظيم!).
إن الأثر الذي أثرته في قلوب الناس لجد بليغ. ولست أغلو إن قلت: إن هذا التغير في النفوس يكمن؛ ثم هو لا يزداد على الأيام إلا شدة. وهذا يفسر لنا بجلاء سبب تقاعس أهل المدينة عن نصرة عثمان حين حزبه الأمر واغتاله أهل الأمصار.
وزعم بعض الرواة أنها أول من سمته (نعثلاً) و (نعثل) اسم يهودي أو نصراني طويل اللحية، لقب به عثمان تشبيهاً له به. وأنها كانت تقول:(اقتلوا نعثلاً. قتل الله نعثلاً). وكان الناس يسبون عثمان حول فسطاط عائشة بمكة، وعثمان يمر، ولم ترث السيدة له ولم تغير شيئاً.
ولقد تضافرت روايات من طرق مختلفة على سعي عائشة على عثمان. ولما آلت الخلافة إلى علي ونهضت هي تطالب بدمه. قال لها عمار: (أنت بالأمس تحرضين عليه واليوم تبكين عليه!) وقال لها ابن أم كلاب: (والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين، اقتلوا نعثلاً فقد كفر).
وإذا علمت أن أشد الناس على عثمان - وهو طلحة - يرجو أن تكون إليه الخلافة بعده، وأن طلحة ابن عم أبي بكر رحمه الله، وأمعنت في الحوادث التي حفت بهذا العهد، وجالت بنفسك الخواطر، وجدت في رواية الطبري الآتية (وهي مصنوعة بإتقان) حل المسألة فاسترحت إليه:
(خرج ابن عباس إلى موسم الحج بكتاب عثمان، فمر بعائشة في (الصُلصُل) فقالت: (يا بن
عباس أنشدك الله فقد أعطيت لساناً إزبلاً (نشيطاً) أن تخذل عن هذا الرجل وأن تشكك فيه الناس، فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد حُمّ. وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن المفاتيح، فإن يل يسرْ بسيرة ابن عمه أبي بكر). فقال ابن عباس:(يا أمه، لو حدث بالرجل (يعني عثمان) حدث، ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا (يعني علي). فقالت عائشة وقد يئست منه:(أيها عنك، لست أريد مكابرتك ومجالدتك)). أهـ
وعلى هذا تكون السيدة لم تكتف بزعزعة مركز عثمان، بل تطمح إلى فرض رأيها في تنصيب الخلفاء أيضاً
وزعم ابن أبي الحديد أن عائشة لما بلغها قتل عثمان قالت: (بعداً لنعثل وسحقاً! أبعده الله، ذلك بما قدمت يداه) وكانت تطمع أن يكون الأمر إلى طلحة وتقول: (إيه ذا الإصبع (تعني طلحة لأن إصبعه شلاء) إيه أبا شبل، إيه يا ابن عم! لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع، حثوا الإبل، لله أبوك، أما إنهم وجدوا طلحة كفواً. . .) ولما بلغها بيعة علي قالت:(تعسوا، تعسوا، لا يريدون الأمر في تيم (قومها وقوم طلحة) أبداً. . .) ثم أمرت برد ركابها إلى مكة وتقول: (قتلوا ابن عفان مظلوماً) فقال لها قيس بن أبي خازم: (يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفاً تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبلُ أشد الناس عليه وأقبحهم رأياً فيه!) فقالت: (لقد كان ذلك، ولكني نظرت في أمره وأمرهم فرأيتهم استتابوه، حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً في شهر حرام فقتلوه) أهـ
وهي رواية أسخف من التي تسربت إلى الطبري رحمه الله. وهذا موضوع لفق له بعض الناس من الأخبار ما يرضي أهوائهم على ما نرى اليوم من الأحزاب السياسية. بل إن بعضهم كان يتعبّد بوضع الروايات التي تنصر صاحبه وتدين خصمه. وما نسب إلى السيدة - في رواية ابن أبي الحديد خاصة - لا يصدر عن الأطفال، بله من كان في مثل عقل السيدة ودينها وحصافتها
سعيد الأفغاني
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
2 -
ترجمة حياته
كان الأبوان على طرفي نقيض. ولقد كان لذلك كل الأثر على حياة لورنس الأولى وبعضه على الجزء الثاني منها، فضلاً عن أن هذا الاختلاف هو الذي طبع أولى كتبه بطابع خاص
فبينما كان الأب لا يكاد يجيد القراءة والكتابة إذا بالأم وقد نالت حظاً وافراً من التعليم. وبينما كان الأب يعمل كعامل بسيط في أحد المناجم إذا بالأم تنحدر من سلالة أسرة عريقة في المجد والنبل. ولكن كان الأب وسيم الشكل تبدو عليه كل إمارات الرجولة. يفخر دائماً أن الموسى لم تمس لحيته في يوم من الأيام. وكان هذا مما جذب الأم وأوقعها في حب الأب برغم ما بين طبقتيهما من فوارق. وكان كل منهما يرى في هذه الزيجة ما لا يراه الآخر، فكانت للأب وسيلة حصل بها على زوجة شابة فتانة. أما الأم فكانت ترى فيها سبباً في زجها في بيئة لم تتعودها أو تألفها طول حياتها. وكانت نظرتاهما إلى مستقبل أولادهما أبعد ما تكون عن الاتفاق، فاقترح الأب أن يذهب الأولاد إلى العمل في المناجم بينما تخدم البنات في البيوت، وهذا ما حاربته الأم بكل قواها، لأنها كانت تربأ أن يعيش الأولاد عيشة أبيهم أو أن تحيا البنات حياة أمهن البائسة
ظل هذا النضال قائماً بين الأب والأم حتى أتت الأطفال فأولتهم الأم كل عنايتها وصاروا سلوتها الوحيدة فعاشت لهم ومن أجلهم. أما الأب فقد شعر أن عاطفة زوجته كانت منصبة على الأطفال دونه، فصار لا يرتاح إلى البقاء طويلاً في المنزل، وأصبح يفضل عليه المقاهي والحانات حيث يجتمع بمن هم على شاكلته وبمن يفهمهم ويفهمونه حتى أتى الوقت الذي صارت له فيه الحانة منزلاً ثانياً. كانت زوجته تعد له طعامه وتنتظر الساعات الطوال حتى يحضر قبيل طلوع الفجر وهو ثمل لا يكاد يعي كلمة مما يقول، حتى إذا عاتبته أو أنبتته بكلمة أو عبارة انقلب وحشاً ضارباً وعاملها بمنتهى القسوة حتى إنه لم يتورع مرة أن قذفها بأحد الأدراج فشج رأسها
كان (أرنست) أول أطفالها وقد صوره لورنس صورة ناطقة في روايته (الأبناء والمحبون) تحت اسم ويليام. كان متفوقاً على كل إخوانه في المدرسة وكان لا يضيع دقيقة من وقته،
فكان يدرس اللغات في بعض المدارس الليلية في أوقات فراغه، وبهذه الطريقة حصل على وظيفة رفيعة في إحدى شركات الملاحة بلندن. وكان المستقبل يبدو أمامه زاهراً، حتى عالجته المنية وهو لا يزال في العقد الثاني من عمره، فكان موته ضربة قاضية على قلب الأم، حتى كانت ما تفتأ تكرر مقدار شوقها إلى ذلك اليوم الذي تموت فيه حتى تقابل أرنست
بعد أرنست أتت إميلي ثم أدا، وأخيراً دافيد هربرت لورنس في 11 سبتمبر سنة 1885. وكان في طفولته لا يميل إلى الألعاب التي كان يغرم بها من هم في سنه لأنها كانت من ابتكار غيره، وكان يفضل عليها الألعاب التي يبتكرها هو، لأنه ما كان يكره شيئاً قدر كراهيته للتقليد. ولما بلغ السادسة عشرة تعرف إلى عائلة تشمبرز حيث قابل حبيبته الأولى التي وصفها في كتابه (الأبناء والمحبون) تحت اسم ميريام. جذبته الفتاة بعينيها العسليتين الواسعتين، وشعرها الأسود المموج، وميلها إلى الرزانة والجد على خلاف بنات حيها، فضلاً عن أنها كانت توليه أذناً صاغية عندما يتكلم معها عن آرائه الغريبة. لذلك كانت زياراته لبيت حبيبتهٍ تزداد يوماً بعد يوم لدرجة أقلقت بال الأم وأقضت مضجعها حتى إنها لم تتمالك نفسها ذات يوم أن قالت له في تهكم وغيظ: إن الأولى به أن يجمع ملابسه ليقيم مع حبيبته دواماً
وعلى رغم أن لورنس لم يعترف لحبيبته بحبه لها في صراحة إلا أنه كثيراً ما كان يردد نظريته التي تقول: إن كل عظيم خلقته امرأة؛ وأنه كان يرى فيها المرأة التي سوف تخلق عظمته. ولكن كان لورنس حساس القلب إلى أقصى درجات الحساسية لم يفته ما عانته الأم المسكينة من زوجها القاسي فتعلق قلبه بأمه وفاض بحبها، وعلى العكس من ذلك كان شعوره تجاه أبيه. وقد بادلته أمه حباً بحب حتى تعوض ما فاتها من حب زوجها. ولقد كان هذا الحب هو علة لورنس الأولى وداؤه الذي ذاق من أجله الأمرين، ولكنه في الوقت نفسه كان سبباً في توجيه تفكيره إلى درس موضوع لم يسبقه إليه أحد. كان لورنس يشعر في قلبه بحبين ينازع أحدهما الآخر ويعمل على استئصاله، وكان كل منهما من القوة بحيث بات لورنس ضحيتهما ردحاً من الزمن. فهو يحب أمه، وفي الوقت نفسه يحب ميريام. ولما كان حبه لأمه هو أول حب طرق قلبه فقد كانت حاجته شديدة إلى امرأة تحبه حباً قوياً
جارفاً يخلصه من الأغلال التي كان يرسف فيها، ولكن للأسف كان حب ميريام من ذلك النوع الروحي مما كان سبباً في تغلب الأم في النهاية.
وكانت ميريام قد أرسلت خمساً من قصائده إلى أحد الناشرين فنشرها له، وشجعه هذا على أن يرسل إليه أولى رواياته (الطاووس الأبيض) وقد ظهرت الرواية في يناير سنة 1911 أي بعد وفاة أمه بشهر واحد
وبموت أمه وفشل حبه ينتهي الجزء الأول من حياة لورنس وفي أحد أيام أبريل من عام 1912 قصد لورنس إلى منزل الأستاذ أرنست ويكلي كي يتوسط له لدى إحدى الجامعات الألمانية بغية الحصول على إحدى وظائف التدريس بها. وفي هذه المقابلة الأولى وقع لورنس في حب زوجة الأستاذ الألمانية. ولدهشته شعر أنها قد بادلته حباً بحب فكتب إليها يبثها غرامه ويطلب منها أن تطلع زوجها على ما بينهما فلم تتردد أن تفعل ذلك برغم شدة تعلق زوجها بها وبرغم أنها قد أنجبت منه ثلاثة أطفال
سافرت فريدا بعد ذلك مع لورنس إلى متز حيث قابل لورنس والدها البارون فون رتشتوفن حاكم الألزاس واللورين بعد الحرب البروسية، وكانت مقابلة جافة بين الأب الأرستقراطي وبين لورنس الذي ينحدر من طبقة الدهماء. بعد ذلك سافر لورنس وحده إلى أرض الرين. ثم قابلته هي في ميونيخ، وهناك تحت سفح جبال الألب وعلى ضفاف نهر الإيزر بدآ حياتهما معاً. ومن هناك ذهبا إلى بحيرة جاردا حيث نقح روايته (الأبناء والمحبون) ثم أرسلها إلى أحد الناشرين فردها هذا إليه ثانية بحجة أنها أقذر كتاب وقعت عين الناشر عليه. ومن غريب الأمر أن الرواية نفسها نالت تقريظ الكتّاب بعد نشرها وأجمعوا على أنها من أروع ما كتب في الأدب الإنجليزي. وفي هذا المكان كتب (الشفق في إيطاليا) وكذلك مجموعة من أشهر قصائده
وعادا إلى لندن دون أن يمكثا بها طويلاً. فذهبا إلى بافاريا حيث كتب لورنس قصة (الضابط البروسي) التي تنبأ فيها بالحرب العظمى مع أنه كتبها عام 1913
وفي الشتاء التالي ذهبا إلى إيطاليا حيث كتب روايته (قوس قزح) وأرسلها إلى جارنت - أحد الناشرين - فلم تصادف هوى في نفسه. فكان يأس لورنس لا يوصف، لأنه كان يعتقد أنه إنما يحاول أن يعلم الناس كيف يعيشون فكان ينتظر منهم الحمد والثناء فلم يجد سوى
الجحود والنكران
وفي ربيع عام 1914 ذهبا إلى لندن حيث عقدا زواجهما وتعرفا هناك إلى الشاعر الشاب روبرت بروك الذي راح ضحية الحرب. وكان لورنس من أعدي أعداء الحرب لا يني عن مهاجمة مبدئها وإظهار سخطه عليها. وفي ذلك الوقت ظهرت روايته (قوس قزح) فقال الناس عن كاتبها إنه مجنون يشكو من عقدة جنسية، وأمرت الحكومة بمصادرة الكتاب وإحراق كل النسخ التي ظهرت منه، وحتى أصدقاؤه الذين كان ينتظر منهم أن يؤازروه في محنته ويقفوا إلى جواره انفضوا من حوله وانهالوا عليه نقداً وتجريحاً. عند ذلك أقسم لورنس أنه لن يكتب رواية أخرى بعد ذلك، وقد بر بقسمه خمس سنوات، وكان يعتقد أنه رجل سابق لعصره، يراه الناس بعيداً عنهم فيبدو في نظرهم صغير الجسم ضئيل الحجم، ولو أنهم أوسعوا خطاهم واقتربوا منه لرأوا فيه رجلاً أعظم منهم وأكبر حجماً
وذهب بعد ذلك إلى مقاطعة كورتوول يقضي بها سني الحرب، ولكن كانت زوجته الألمانية سبباً في خلق كثير من الصعاب في طريقهما فظن مواطنوه أنه يتجسس للألمان فكانوا يقتحمون منزله كل يوم ويقلبون أثاثه ويبعثرون أوراقه حتى يتأكدوا من حسن نياته. وحدث مرة أن كان عائداً مع زوجته وهو يحمل حقيبة على ظهره، فلم يكد يراه حرس السواحل حتى انقضوا عليه بحجة أنه يحمل آلة تصوير في الحقيبة، وتسابقوا إلى فتحها ولخيبتهم لم يجدوا بها سوى رغيف من الخبز. وكان لورنس يصبر على كل هذه المكاره على مضض حتى زاره ضابط في منزله ذات يوم وقرأ عليه أمراً حكومياً يقضي بأن يغادر مقاطعة كورتوول في بحر ثلاثة أيام على الأكثر. استشاط لورنس غضباً عند سماع هذا الاتهام الصريح في أعز شيء لديه، فهو الذي كان يفني نفسه حتى يرفع من شأن مواطنيه ويدلهم على طريق الحياة الصحيح ويعلمهم ما لا يعلمون، ثم يتهم في وطنيته وإنجليزيته، كانت هذه أقسى ما ناله من الطعنات
وصل لورنس إلى لندن إبان شن الغارات الألمانية الجوية عليها فكان جميع أهل لندن يلجئون إلى الأقبية والمخابئ فراراً من هذه الغارات، ما عدا لورنس الذي كان يرفض أن يترك فراشه أثناءها
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ذهب وزوجته إلى فلورنسه ومنها إلى جزيرة كابري
حيث كتب مجموعة قصائده المسماة (الطيور والحيوان والزهور) وكتب كذلك روايته (الفتاة المفقودة) وأخيراً كتب الكتاب الذي لم يغير فيه حرفاً واحداً وهو (البحر وسردينيا)
ثم ذهبا بعد ذلك إلى استراليا واستقلا القطار من سدني على أن ينزلا في أية مدينة يروقهما منظرها من نافذة القطار. فنزلا في ثيرول حيث كتب روايته الشهيرة (القنغر) التي ضمنها كل آرائه في استراليا وما لاقاه في كورنوول من اضطهاد أثناء الحرب العظمى.
وهناك وصلته دعوة من مابل رودج للذهاب إلى تيوس في المكسيك كي يتعرف إلى الهنود الحمر الذين كثيراً ما كان يظهر إعجابه بهم. فلم يتردد في قبول الدعوة، وكان هناك بعد وقت قصير. ثم انقل من تيوس إلى مدينة المكسيك على أثر خلاف قام بينه وبين مابل رودج. وعلى بحيرة تشبالا كتب روايته الفلسفية (الثعبان ذو الريش) وفي الخريف التالي كتب (الصباح في المكسيك)
ثم اشتدت عليه وطأة المرض فجأة، ولما عاده الطبيب قرر أنه مريض بذات الرئة وفي الدرجة الثالثة. ولكن لم يمنعه هذا أن يكتب وهو مريض مسرحيته المسماة (داوود) وقصته الطويلة (المرأة التي رحلت)
وفي الصيف التالي عاد إلى أوربا واستأجر فيللا بالقرب من جنوا، وكان وهو في فلورنسا قد كتب رواية أسماها (عشيق لادي تشاترلي) ولكنه تركها مهملة في أحد أدراج مكتبه خشية أن تثير عليه ضجة من جديد، لأنه كان فيها صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة. ثم قر رأيه أخيراً أن يخرجها إلى عالم الوجود. فأرسلها إلى أحد الناشرين فردها إليه مظهراً استهجانه لما جاء بها ثم أرسلها لورنس إلى آخر فرفضها هذا بشدة. وأخيراً لم ير لورنس بداً من أن يأخذها إلى مطبعة إيطالية لا يعرف صاحبها من الإنجليزية حرفاً واحداً. فوافق هذا على طبعها دون أن يدري مما يطبع كلمة واحدة. وظهر الكتاب عام 1928 ولكنه صودر لتوه. وفي العام التالي صودرت أيضاً مجموعة قصائد له. وزاد الطين بلة أن بلغه خبر مداهمة البوليس لمعرض صوره في لندن، وتحطيم جل صوره. فزادت وطأة المرض عليه ونقل إلى مصحة في فنس حيث التف حوله كل أصدقائه يبذلون قصارى جهدهم لإنقاذه، ومن بين هؤلاء الأصدقاء عائلة بروستر وهكسلي وإيدا رانه وهـ. ج. ويلز وأغا خان وزوجته. ثم نقلوه بعد ذلك إلى الفيللا على مقربة من المصحة، ولكن كان قد سبق
السيف العذل، فما كاد يصل إلى هذه الفيلا حتى ساءت حاله وفاضت روحه إلى بارئها في يوم الثاني من شهر مارس سنة 1930
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
مدرس بشبرا الثانوية
خريج جامعة اكستر بإنجلترا
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولقد ارتخص هؤلاء الساسة من دعاة المدنية الناقمين على أهل الشرق ما كانوا فيه من تأخر، كل كرامة بغية الوصول إلى أغراضهم، وانقلبت عندهم الأوضاع التي تعارف الناس عليها، وشهد التاريخ على مسرح السياسة من المضحكات ما يبكي، ومن المبكيات ما يضحك؛ فلقد عز على هؤلاء السادة الذين راحوا يُدِلون بمدنيتهم ويتطاولون بما فعلوا في سبيل الحرية الإنسان أن يروا أهل مصر ينزعون حقاً من الحرية، ويعملون على الرقي بوطنهم جادين غير متوانين، يتعاونون على الحق ويتناسون ما بينهم من دواعي الخلاف، ويطرحون الأثرة بل ويحرمون على أنفسهم الطيبات حتى يتم لهم ما أرادوا
وذعر هؤلاء الكائدون لمصر الطامعون فيها أن أفاق أهلها على هذا النحو وقد كانوا يظنونهم أمواتاً أو كالأموات، وهالهم أن يروا فريقاً من هؤلاء الفلاحين يستلبون سلطة الخديو تدريجياً ويحاولون أن يضعوا أنفسهم بحيث تكون الأمة وهم نائبون عنها مصدر كل سلطان، وأدركوا أن هذا البعث الذي أفاقت عليه مصر من نومها الطويل هو الصبح الذي يهتك أسدا لهم ويبدد آمالهم، فما ونوا يوماً كما بينا عن محاربة مصر وزعماء مصر ورميهم بكل فاحشة، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً ذلك الرجل الذي خطا نحو الحرية الخطوة الأولى وصرخ في وجه الظلم الصرخة الأولى. . .
ولم ير هؤلاء لوزارة البارودي حسنة واحدة. وكيف كانوا يرون لها حسنة ووجودها في الحكم كان ذاته عندهم أقبح السيئات وأكبر الأوزار، وإنهم ليفترون الكذب عليها وينسبون إليها من السيئات والأخطاء ما ليس لها به من علم
ولكن هذه الوزارة - وتلك عندي أكبر حسناتها - كانت لا تعبأ بما يرجف المبطلون فتمشي إلى غايتها على الشوك وقد عقد أعضاؤها النية على إنقاذ بلادهم من طمع الطامعين وكيد
الكائدين، وعلى تعهدها بضروب الإصلاح في شتى مرافقها حتى تقوى فتعز على كل باغ ظلوم من خصومها
وما كان في الوزارة من عوامل الضعف سوى جهل رئيسها وأعضائها باللغات الأوربية، إلا وزير الخارجية مصطفى فهمي باشا؛ ولقد ضم إلى الوزارة ليكون لسانها في الصلة بالأوربيين، ولكنه كان من رجال العهد القديم على حد تعبير مؤرخي الثورة الفرنسية، فلم يكن ينظر إلى الوطنيين نظرة الاحترام والتقدير، وإنما كان يرى فيهم فريقاً من الفلاحين يتطلعون إلى ما ليسوا أهلاً له، شأنه في ذلك شأن الجراكسة وأشباههم من سادات مصر وكبرائها في ذلك العهد. وعلى ذلك فقد كان وجود هذا الرجل في وزارة الخارجية عبئاً يضاف إلى أعباء الوزارة، وذلك أمر لم تفطن إليه إلا بعد فوات الوقت
وفيما عدا ذلك كانت وزارة البارودي وزارة وطنية حقاً تعمل صادقة مؤمنة على تحقيق آمال البلاد والنهوض بها على الرغم مما كان يحيط بها من دسائس وما كان يملأ أسماع رجالها من نباح وعواء
انتهى دور انعقاد مجلس النواب في 26 مارس فقضى بذلك في العمل نحو ثلاثة، أشهر وهي مدة وجيزة كان يشغل بال الأعضاء فيها ترتيب أعمالهم، ولكن المجلس على الرغم من ذلك قسم أعضاءه إلى لجان مختلفة أخذت تتصل بالوزارات وتبحث معها الشؤون العامة التي تهم البلاد، وجدَّ المجلس في دراسة نصوص المعاهدات والمعاقدات العامة والخاصة المبرمة بين الحكومة المصرية والحكومات الأجنبية ورعاياها
وأخذت الوزارات تعد مشروعات الإصلاح المختلفة لعرضها على المجلس في دور انعقاده القادم؛ فكانت تنظر فيما يتطلبه التعليم وتفكر في إنشاء مصرف زراعي ينتشل الفلاحين من وهدتهم، وتعمل على إصلاح المحاكم المختلطة واختصاصاتها كما تناولت قانون الانتخاب وراحت تدرسه لتعد قانوناً جديداً يجعل للمحكومين الرقابة الفعلية على الحاكمين
ولكن حدث أنه كانت كلما تقدمت وزارة في خطى إصلاحاتها ازدادت لهجة الصحف الأوروبية في العيب عليها والطعن فيها، واشتدت وطأة الساسة في نقد أعمالها، وتزايدت دسائسهم من حولها، وعلى رأس هؤلاء كلفن ومالت اللذان أدركا الآن، أو على الأصح وجَها، إلى أن مهمتهما في مصر أصبحت استعجال الحوادث تمهيداً للتدخل العسكري
(وقد جد عرابي بنوع خاص في إصلاح نظارته التي كانت في منتهى الفوضى والخراب وذلك ليستعد للطوارئ كلها فأظهر همة فائقة في إصلاح حصون السواحل ونظم احتياطي المدفعية ووزعه على تلك الحصون)
والحقيقة التي لا يمارى فيها إلا المغرضون المبطلون أن البلاد كانت تشيع فيها روح الوطنية الصادقة التي تبرهن على صدقها بالأعمال لا بالأقوال. ولو أنه قدر للوزارة السامية أن تسير على هذا النهج لكان أثرها بعيداً في تاريخ مصر بل وفي تاريخ القرن التاسع عشر كله، فلقد كانت المسألة المصرية تعتبر من كبريات المسائل في ذلك القرن
وليس أدل على وجود الروح الوطنية في مصر يومئذ من هاتين العبارتين اللتين نوردهما في هذا المجال، وأولاهما ما كتبه دي فريسنيه في كتابه (المسألة المصرية) حيث يقول في تعليقه على مجلس النواب واختصاصاته:(إن كتاب ذلك العصر اجتهدوا في أن يسخروا من طلب الذين كانوا يطلبون توسيع اختصاص المجلس، حتى ليخيل إلى الذي يقرأ خطابات بعض الخطباء أن الوطنية المصرية كانت في ذلك الوقت تلفيقاً، وأن وادي النيل لم يكن يحتوي إلا على الفلاحين تحني العصا ظهورهم. فكل ما نرد به على هؤلاء الكتاب والخطباء، هو أن آباءنا كانوا أقل من هذا امتهاناً للوطنية المصرية في عهدهم؛ وذلك أن نوابنا في سنة 1840 لم يترددوا في أن يتكلموا في خطبهم عن الرعاية الواجبة للوطنية المصرية الناشئة. فقد كانت هناك إذاً وطنية مصرية ناشئة تستحق الرعاية في سنة 1840. ولست في هذا مبالغاً، ولا أنا ممن يحبون المبالغة، ولكن لا ريب في أنه كانت توجد في قلوب المصريين من أربعين سنة مضت مطامح كان من الممكن أن تراعي في حدود معتدلة. تلك حقيقة لا تحتمل جدلاً؛ غير أن الذين كانوا يقبضون على خط مصر لم يكونوا يرون في المصريين غير قوم مدينين. فلم يكونوا يعرفون في معاملتهم إلا مصلحة واحدة: هي مصلحة الدائنين الأوربيين التي يجب أن تقدم على ما عداها. وبذلك لم ينتبهوا إلى أن مثابرتهم على اعتبار مصر رهنا، وتدخلهم في شؤونها تدخلاً أدى بحكومتها إلى أن تصير في أيدي الأجانب، كانا قد انتهيا على طول الأيام بأن يجرحا شعور الشعب المصري الذي هو شعب حي مهما يقل القائلون في تعوده الطاعة والخضوع من أجيال).
وأما ثانية العبارتين فهي ما كتبه من باريس سنت هيلير إلى قنصل فرنسا العام في مصر
17 أكتوبر سنة 1881 قال: (ليس من السهل علينا أن نقدر من هنا قوة هذه المطامح الشرعية ولا كيف يمكن إرضاؤها، ولكن هذه المطامح حقيقية إلى أعظم حد، ومبررة من بعض الوجوه إلى أعظم حد أيضاً، فلا يمكن إهمالها ولا يمكن على الخصوص التفكير في خنقها)
من هاتين العبارتين يتبين لنا أنه كان في مصر يومئذ حركة وطنية، فليتدبر ذلك أيضاً من يريد أن يحكم على رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي، وليشفق على أنفسهم الذين يرمون عرابياً ورجاله بالفوضى والجهل والأنانية. ليشفق هؤلاء على أنفسهم فلن يجدر بهم أن يظلوا يجهلون تاريخ هذا الرجل فيحملون الذين يعلمون حقيقة هذا التاريخ على الزراية بهم والاستخفاف بعقولهم، إذ ليس أدعى إلى الاستخفاف بعقل رجل من أن تراه يجهل أمراً من الأمور ثم إذا هو يدلي فيه برأي قاطع في لهجة يتردد في إتباعها الراسخون في العالم. . .
ما كان عرابي طائشاً ولا داعية فوضى، ولكن كان زعيماً مخلصاً يعمل بوحي من وطنيته ويصيب ويخطئ كما يصيب الزعماء غيره ويخطئون كل على قدر ما اجتمع له من الكفاية والمقدرة! والخطأ والصواب من خواص البشر ومردهما إلى العقل وسعته أو ضيقه؛ أما الصدق والإخلاص وما إليهما من صفات الزعامة والبطولة فلا تسامح فيها ولا تهاون، بل لا يصح أن تكون هذه أموراً يجوز فيها التفاوت إذا عقدت المقارنة بين زعيم وزعيم وبين بطل وبطل! وكيف يجوز في عقل أن يكون هناك صدق ونصف صدق وإخلاص ونصف إخلاص؟ إن هذه أمور جلالها وجمالها بل وجوهرها في أن تكون غير قابلة لزيادة أو نقص؛ وعلى الذين لا يزالون يخاصمون عرابياً أن يأتوا بدليل واحد عللا كذبه أو مروقه. أما الخطأ والصواب فليقولوا فيهما ما شاءوا وبيننا وبينهم حوادث هذه الثورة الوطنية على قدر ما وصل إلينا منها ترينا مبلغ ما في مزاعمهم هم من خطأ أو صواب
زار مستر بلنت قبل سفره إلى إنجلترة عرابياً في وزارة الحربية زيارة وداع، ويجدر بنا أن نثبت هنا بعض ما كتبه ماليت عن عرابي في هذه الزيارة قال: (تناقشنا في كل الموضوعات التي كانت محل الكلام في الدوائر الوطنية بما فيها من مشروعات للإصلاح وأمان ومخاوف في الداخل والخارج، وكانت بضعة الأسابيع التي قضاها عرابي في
مركزه الجديد قد أنضجته وقوته؛ فناقشني في كل الموضوعات برصانة واعتدال عظيمين سواء في التفكير أو في اللهجة! وقد أكد لي أنه هو وزملاءه الوزراء يرغبون كثيراً في أن يصلوا إلى تفاهم ودي مع الحكومة البريطانية في كل المسائل التي يختلفون فيها مع الوكالة البريطانية في القاهرة، وطلب إلى أن أبلغ رسالته هذه بصفة رسمية إلى غلادستون! وقد شكا شكوى مرة من كلفن وماليت اللذين ظهر مسلكهما العدائي من الخطة التي جريا عليها فيما يختص بتشويه سمعة الوطنيين في الصحف البريطانية وقال لي:(إن السلام لا يمكن أن يوطد في القاهرة ما بقى هذان، وما بقيت علاقتنا مقصورة عليهما، فإننا نعرف أنهما يعملان لإيذائنا سراً أن لم يكن جهراً، وسنقف بمعزل عنهما جميعاً، ولكننا لا نريد أن نختلف مع إنجلترة كرامة لها. دع المستر غلادستون يرسل لنا أيا كان خلافهما لنتفاهم معه ونحن نستقبله بأذرع مفتوحة)
هذا هو جانب من حديث عرابي مع بلنت نضعه تحت أعين اللذين اتهموه بالنزق وعدم التبصر في عواقب الأمور ليقولوا لنا: هل فيه كلمة واحدة في غير موضعها؟ هل يتهدد فيه عرابي الإنجليز، ويتوعد كما كان حرياً أن يفعل لو كان كما وصفه أعداؤه؟ إنه يشكو من كلفن وماليت ويطلب غيرهما حتى يتسنى لمصر أن تتفاهم مع إنجلترا وإنك لتراه بذلك يلقي تبعة اضطراب السياسة الإنجليزية على كاهل هذين الرجلين فيرمي الإنجليز جميعاً رمية ماهرة كيسة في شخصهما، فهو يعلم أنهما يمثلان نيات حكومتهما، ثم هو يفتح الباب بذلك للتفاهم فلا يدع في مسلكه مجالاً لأعدائه؛ كل ذلك دون أن يفرط في حقوق بلاده أو يشتري بها ثمناً قليلاً وهو الذي جعل خصومه الخيانة في أوائل ما اتهموه به
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
460 -
أرى الدعوات قد صارت قروضا
في (محاضرات الراغب): ذكر بعض الكتاب أنه كان يعاشر سوقياً. فاتفق أن دعاه يوماً، قال: فلما تمكنت اشتغل عني صاحب الدعوة فعثرت على رقعة بخطه فيها: (فلان دعاني مرتين ودعوته ثلاث مرات فعليه دعوة، وقد ذكرنا على هذا أسامي كل من يعاشرنا). فلما انتهيت إلى اسمي فرأيته قد حصل له على دعوات - خرجت وقلت له: لا أتناول طعامك حتى أرد ما علي، وقلت في ذلك:
أرى الدعوات قد صارت قروضا
…
وديناً في البرية مستفيضا
فأكره أن أجيب فتى دعاني
…
ولا أدعو فيلقاني بغيضا
461 -
لا لباس للرأس. . .
قال ابن سعيد في (المُغْرب): الغالب على أهل الأندلس ترك العمائم ولا سيما في شرق الأندلس. وقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان وإليه الإشارة وقد خطب له بالملك في تلك الجهة وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم من تراه بعمة في شرق منها أو غرب. وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته بجميع أحواله ببلاد الأندلس وهودون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده.
462 -
أخاطب بالتأمير وإلى منبج
كان البحتريّ مقيماً في العراق في خدمة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان، وله الحرمة التامة، فلما قُتلا رجع إلى منبج وكان يحتاج للترداد إلى الوالي بسبب مصالح أملاكه، ويخاطبه بالأمير لحاجته، ولا تطاوعه نفسه إلى ذلك، فقال:
مضى جعفرٌ والفتحُ بين مُرَمَّل
…
وبين صبيغٍ بالدماء مضرَّج
أأطلب أنصاراً على الدهر بعد ما
…
ثوى منهما في الترْب أوسي وخزْرجي؟
مضَوْا أَمَماً، قَصْداً، وخُلّفتُ بعدهم
…
أخاطب بالتأمير وإلىَ مَنْبِج!
463 -
شكوى في الصحف
لما اشتد بلاء عبد الرحمن بن أم الحكم على أهل الكوفة قال عبد الله بن همم شعراً، وكتبه في رقاع، وطرحها في مسجد الكوفة:
إلا أبلغْ معاوية بن صخر
…
فقد خرب السواد فلا سودا!
أرى العمال قد جاروا علينا
…
بعاجل نفعهم ظلموا العبادا!
فهل لك أن تدارك ما لدينا
…
وتدفع عن رعيتك الفسادا؟
وتعزل تابعاً أبداً هواه
…
يخرب من بلادته البلادا!
إذا ما قلت أقصر عن هواه
…
تمادى في ضلالته وزاد!
فبلغ الشعر معاوية فعزله.
464 -
فأين الرعاية والتذمم؟
(شرح النهج) لابن أبي الحديد: قال عمر لرجل همّ بطلاق امرأته: لَم تطلقها؟ قال: لا أحبها!
قال: أو كلّ البيوت بُنيت على الحب، فأين الرعاية والتذمم؟؟!!
465 -
دعوة قبل ألا تنتفع به
(محاسن البيهقي): ابن مزروع عن أبيه: كنت أسير في موكب يحيى بن خالد. فعرض له رجل من العامة، ومعه كتاب فقال: أصلح الله الأمير! أختم لي هذا الكتاب. فبادر إليه الشاكرية يزجرونه من حوشي موكبه. فقال: دعوه قبل ألاَّ ننتفع به (يعني خاتمه) واستدناه فختمه له، وتعجب مسايروه من اغتنامه المعروف، وعلمه بأفعال الرجال.
466 -
التوءمون العراقيون
في (الحوادث الجامعة في المائة السابعة) لابن الفوطي: في سنة (645) ولدت امرأة فقيرة أربعة في بطن، فشاع ذلك وأنهى خبرها إلى الخليفة، فأمر بإحضار الأولاد، فأحضروا في جونة، فتعجب من ذلك، وأمر لهم بست مائة دينار وثياب، وكانت المرأة وزوجها في غاية من الفقر لا يملكان حصيراً!
قلت: نعش خليفة ذاك العصر التوءمين العراقيين نعشاً عظيماً وقد أخبرتنا الصحف في هذه
الأيام أن كندية أمريكية قذفت بتوءمات خمس، فكفلتهن الدولة كفالة بليغة، ووظفت للناجلين في كل شهر وظيفة، وقد أمست مدينتهن بهن محجا، وأخبارهن في صحف العالمين مستفيضة. ولما زار ملكا البريطانيين ذاك الإقليم في هذا الوقت شاهداهن وناغياهن، وتعجبا من التوءمات تعجب آخر الخلفاء في بغداد من التوءمين
467 -
اتحدا روحاً وجسداً
في (شذرات الذهب): في سنة (352) بعث صاحب أرمينية إلى ناصر الدولة رجلين ملتصقين خلقة من جانب واحد فويق الحقو (الخاصرة) إلى دوين الإبط ولدا كذلك، ولهما بطنان وسرتان ومعدتان، ولم يمكن فصلهما، وكان ربما يقع بينهما تشاجر فيختصمان، ويحلف أحدهما لا يكلم الآخر أياماً ثم يصطلحان، فمات أحدهما قبل الآخر فلحق الحي الغم من نتن الرائحة فمات
468 -
ودنيا تناديك أن ليس حر
ابن مقلة:
زمانٌ يمرُّ، وعيشٌ يمرُّ
…
ودهر يكرُّ بما لا يسرُّ!
وحالٌ يذوبُ، وهَمٌّ ينوبُ
…
ودنيا تُناديك أن ليس حرُّ!!
469 -
صحبة الأكابر تورث السلامة
حكى عن شيخ العارف أبي العباس المرسي أن امرأة قالت له: كان عندنا قمح مسوس فطحناه السوس معه، وكان عندنا فول مسوس فدششناه فخرج السوس حياّ
فقال لها: صحبة الأكابر تورث السلامة
470 -
من قبل أديس
قال يا قوت: من عجيب ما مر بي من الكذب حكاية أوردها غرس النعمة قال: كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالب، وكان معروفاً بالكذب. فأذكر وقد حكى في مجلسه والناس حضور عنده أنه كان في معسكر محمود بن سبكتكين صاحب خراسان ببخارا معه، وقد جاء من البرد أمر عظيم، وأن الناس كانوا ينزلون في المعسكر، فلا يسمع لهم صوت ولا حديث ولا حركة؛ حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات. فإذا أصبح الناس وطلعت الشمس
وحميت ذاب ذلك الكلام؛ فسُمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات، وحديث الناس، وصهيل الخيول، ونهيق الحمير، ورغاء الإبل. . .
وحي الشاعرية
نفسيَّاتٌ
للأستاذ حسن القاياتي
خطَراتُ لاهٍ في تفجُّع باكي
…
لا راحمي ألمي ولا أنا شاكي
كيف الصدود عن ابتسامة واجدٍ
…
خُضِبت بدمع الناظر السَّفاك؟
آسٍ كما أَعطشْتَ ورد خميلةٍ
…
فسما إليك بثغره الضحَّاك
اللاعجُ البسَّامُ تُرْمض نارُهُ
…
في الخدِّ مثْنى النور في الأسلاك
دَهرى متى يُوحي إلى أفلاكه
…
ألاّ نُباح لدورة الأفلاك؟
حرٌّ كوردات القفار مُضيِّعٌ
…
لا النُّبل سادَ ولا الأريجُ الذاكي
يا سبورة ما كنتُ أصدُق وصفَها
…
إلا كما صدق الصبابة (حاكي)
رقّ الشبابُ على حُلّة ناسكٍ
…
طَرّزتُها بحلاوة الفُتّاكِ
مُلكُ الجمال على رشاقة جوره
…
كم رُعتُهُ بِتصلُّف الأملاك
أقني لدى الحسن الحياَء فأنثني
…
والحسنُ حظ اللاهج الفتاكِ
أهلاً بكاسيةِ الدلال بشاشةً
…
هات الحديث عن الصدود وهاك
تِيهي كما أمَرَ الدلالُ فإنه
…
أغرى فؤاديَ بالأسى ونهاك
أهواك مِلْء جوانحي وكأنني
…
من فرط ما أخشاك لا أهواك
يشتاق طرفي أن يراك قريبةً
…
يا قُرّة الأبصار حين تَراك
رُدِّي لي الليلَ البهيِّ كأنما
…
كُحلت بطيب سواده عيناكِ
أخلو إلى زهر الرياض كأنني
…
أخلوا إلى مَرْآكِ أو ذكراكِ
وأدير سَمعي للطيور فصيحةً
…
فكأنما أُصغي إلى نجواك
ِللهُِ من شادٍ أَطلّ بسجعه
…
كالشاديات نظرن من شُبّاك
في الروضة المعطار منك شمائلٌ
…
رياكِ في زَهرتها وحُلاكِ
وَرْدٌ يميل مع النسيم كأنما
…
أقبلت باسمةً لألئم فاكِ
عطفاً حياة الفاضلين مريرةً
…
إن رُعتِ فاتنةً فما أحلاكِ
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياني
لي!.
. .
(تذكار لجلسة في شرفة كان يضيئها نور النجوم)
للأستاذ العوضي الوكيل
لي سحرُ وَجهِكِ دُونَ الناسِ أْقبِسُهُ
…
وَلِي جمالُكِ تَسْبيِني مَرائيهِ
ولي جَبينُكِ حُلواً عاطراً نَضِراً
…
وَلِي التفاتُكِ في شَتَّى معانيهِ
ولي قوامُكِ، لا الأغصانُ تُشْبِههُ
…
حسناً، ولا الأسْيُفُ البيضاءُ تَحْكيهِ
ولي خَيالُكِ ما باتَتْ شوارده
…
تَحُوطُني بين إخفاءٍ وتَنْويهِ
يا سوسْنَ الرَّوضِ مالي فيكِ منْ غَزَلٍ
…
إلاّ جمالك بالأنغام أرْويهِ
لم أْنسَ ليلةَ رقّ الجوّ رقّتَنا
…
ورفّهَ اللثم عنّا أيّ تَرْفيهِ
وللسماءِ هدوءٌ في تَطَلُّعِها
…
وللنسيم خُفُوقٌ في مَساريهِ
وللأحاديث سحرٌ في تَبَلْبُلِها
…
ومجلسُ الحبّ قد رقّت حَواشيهِ
وازدانَ وْجهُك بالنورين: نورِ هَوىً
…
فيه، ونورِ النجوم الزُّهرِ تُزْجيهِ
قد كان يبهجني فيما أشاهده
…
نورٌ على وجهك السحريِّ بل فيهِ
وجاذبيّةُ فنٍّ لا شبيهَ لها
…
وربَّ فنٍّ سما عن كل تَشبيهِ
حينُ أطالَ حياتي فهي خالدةٌ
…
بما ارتوت - فتسامت - من مساقيهِ
(دماس - دقهلية)
العوضي الوكيل
رسالة الفن
دراسات في الفن
متابعة العلم ليست فناً
على ذكر الفن الرمزي الحديث
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كنا نعرف الفن الرمزي فيما مضى على نوعين: إما أن يكون تجسيداً للمعاني يتدلى به الفنان إلى جمهور الأذهان، وإما أن يكون على العكس من ذلك تلويحاً بالبعيد دون القريب يتعالى به الفنان على جمهور الأذهان. ولم يكن هذا لينتزع من الفن الرمزي طبع الفن ولا خواصه، فقد احتفظ بكيانه كاملاً، فهو سابق وهو حر، وهو صادق وهو شاعر
واليوم يراد بنا أن نعرف نوعاً ثالثاً من الفن الرمزي هو - فيما يقول أهله - تابع يمشي وراء العلم، علم النفس، يشرح نظرياته وقواعده وما يثبت عنده من طباع النفس وأحوال حياتها. فهل يجوز لنا أن نقبل هذا النوع الثالث على أنه فن صحيح؟
إننا إذا فعلنا ذلك جرَّأنا كثيراً جداً من الأعمال العقلية على المطالبة بالارتفاع إلى مستوى الفن، وقد يجرنا هذا إلى نوع من البلشفية الروحية التي تسوى ما بين الحق والزيف؛ فتصبح ألفية ابن مالك فناً شعريا لأنها نظم يشرح النحو، كما أصبح الخشب في هذه الأيام حريراً، وكما خرج السمن في هذه الأيام من زيت جوز الهند.
وكي ندفع عن رأينا هذا، فإنه يلزمنا أن نتعرف في الفن بعض النواحي التي لو فقدها لفقد طبيعته فأصبح شيئاً آخر قد يكون حلواً لذيذاً، ولكنه لن يكون بحال من الأحوال فناً صحيحاً.
فما هي هذه النواحي التي يتحتم على الفن أن يستوفيها كي يكون فناً صحيحاً؟
أولها من غير شك هذا الحس الصادق الذي تبعثه الحياة نفسها. وهذا الحس هو الذي يملأ نفس الفنان حتى يفعمها، ثم يفيض منها فناً يتلقاه الناس فيشعرون أنه نبع من نفس صاحبه رغم أنفه، لأنه لم يكن يملك من يكتمه بعد أن ازدحم في نفسه وكثف. والفنان الحق لا يبحث عن الأحاسيس ولا يتكلفها، وإنما هو منطلق في الحياة كما ينطلق بقية الناس، أو كما
تنطلق بقية المخلوقات لا يعتزم أن ينتج فناً، ولا يتهيأ لذلك، ولا يتعلم من الناس طريقة التعبير عن نفسه.
ومع هذا الحس الصادق سبق يطير بالفنان إلى حقائق الكون على جناحين من هذا الحس نفسه. فالفنان الحق لا يمكنه أن ينتظر حتى يقول له المعلم إنه ثبتت لديه حقيقة من الحقائق على وجه من الوجوه، وإنه يأذن له على أساس هذا الثبوت أن يتخذ من هذه الحقيقة مادة لفنه. هو لا يمكنه أن ينتظر حتى يحدث هذا وإنما هو يصل من تلقاء نفسه إلى هذه الحقائق فيعلنها والعلم لا يزال يحبو في الطريق إليها مثاقلاً متلكئاً؛ وقد يصيب الفنان هذه الحقائق، وقد يخطئها، ولكنه على أي حال يصل إلى شيء ما، - بعيد عنها أو قريب منها - على أنه هو نفسه لا يعنيه من هذا كله إلا أن ينطلق، وأن ينطلق فقط.
ومع هذا الحس، ومع هذا السبق به، فإنه لابد للفنان أن يدفعه إلى إنتاجه الفني دافع نفساني من العواطف التي ينفثها في فنه رضي أو سخطاً أو غير ذلك، وإلا كان الفن بارداً برودة الموت، لأنه خلا من العاطفة وهي روحه وباعثة الحياة فيه
ومع هذا وذاك فلا بد أن يكون الفن حراً لا يرضى لنفسه أن خضع في الأغلال والقيود، ولا يقبل أن يتحكم فيه شيء، وإن رضخ له كل ما ينتجه العقل البشري من علم وصناعة.
هذه (أوليات) لا يمكن أن يكون الفن فناً بدونها. فهل تتوفر هذه (الأوليات) في هذا النوع الثالث من الفن الرمزي الذي يطالعنا به هذا العصر الحديث؟
أما الحس الصادق فهارب من أهل هذا الفن، وليس هو وحده الذي هرب منهم وفر، وإنما تسلل من نفوسهم معه كل حس فلم يعودوا يحسون إحساساً صادقاً ولا إحساساً كاذباً. وليس هذا لأن الله خلقهم هكذا (مبرشمين) بل لأنهم هم أنفسهم أرادوا أن يكونوا هكذا. فلم يقبلوا أن يكون في الناس من يزيد عليهم علماً، ولا من يزيد عليهم اطلاعاً، ولا من يزيد عليهم إلماماً بما يكتب وبما في الكتب، ولا من يزيد عليهم إحاطة بما يحدث في هذه الدنيا من اختراعات واكتشافات ونظريات ومعلومات، فأدمنوا القراءة، وأدمنوا التعلم، وأدمنوا الاطلاع، وهذا كله يشغل العقل ويجهده، ويأخذه بالمران على سلوك نهج الناس في التفكير. والذي لا شك فيه هو أن هذا العصر الحديث قد اختلط لنفسه نهجاً خاصاً في التفكير ربما تكون الإنسانية قد اصطنعته في يوم ما، ولكنها على أي حال لم تقطع فيه شوطاً بعيداً كهذا
الذي قطعته فيه هذه الأيام، ذلك هو طريق المادة، فلإنسانية اليوم تحشد مواكبها جميعاً في هذه الطريق، والقوي القادر هو من تقدم إلى الطليعة يتلقط الثمر الذي يبعثره الشيطان أمام هذا القطيع البشري، والضعيف الهزيل هو من تأخر إلى آخر الموكب يتلقط القشور والنوى في الطريق خاطئ كله رذيلة وكله شر. ومهما ادعى الفنان المشغوف بالعلم اللاهث من الجري وراءه أن في استطاعته الاعتصام بنفسه عن نزوات العقل والعلم والحضارة الحديثة، فإنه إما مخادع في هذه الدعوى وإما مخدوع، لأن طابع العقل والعلم والحضارة في هذا العصر هو طابع المادة، فالعقل لا يقر من الحقائق إلا ما ثبت ثبوتاً ماديا، وأول ما ينكره إذن هو الحس والروح. والعلم لم يعد الناس يطلبونه ليجدوا فيه المتعة الروحية أو ليصلوا عن سبيله إلى ما هو أكبر وأعز وأنفس من هذه الحياة. . . وأما الحضارة فها هي ذي: عمارات، وطيارات، وبوارج، وغازات سامة! وكفى هذا القرن العشرين سبة أنه عند ما قال له فرويد:(إن الإنسانية تحركها في حياتها قوة الغريزة الجنسية) اطمأن إلى هذا اطمئناناً ثبت في النفوس وتأصل وتفرع وتسلقت منه أغصان سامة هاصرة التفت حول كل شيء حتى أعناق الفنون تريد أن تعقها لتتفرد البهيمية في نفوس الناس على أساس من العلم وليجئ يوم تنضم فيه مستشفيات المجاذيب وحدها على الذين يؤمنون بالحس والروح، وليجئ بعده يوم تبرأ فيه الإنسانية من الحس والروح ويكون أمرها إلى الغريزة الجنسية أولاً وأخيراً
وياله من يوم. . .! يوم يقول فيه الناس: عاش على هذه الأرض فيما سبق مجنون كان يدعى غاندي وقد كان تلميذاً لمجانين من أساتذته السابقين! فهل يرضي الفن عن هذا وهو المسكة من روح الله في نفوس الفنانين. . .؟
لا! إنهم سيثورون على هذا العقل وعلى هذه الحضارة، وسترى الإنسانية عن قريب يوماً يكون الهداة فيه كتاباً، ورسامين، وموسيقيين، وممثلين، وشعراء، ومغنين وسيصرخ هؤلاء في وجوه الذين يدحرجون الإنسانية إلى الهاوية ليبيعوا لها الحديد والنار للقتال، وليبيعوا لها الخبز والماء لإمساك الرمق من أجل القتال وحده. وستكون أهون صرخاتهم كتلك التي صاح بها شارلي شابلن في وجه (العصر الحديث) بقصته الأخيرة. . .
ولعل العالم لما ينس قصة (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) وغيرها من قصص السينما
والمطبعة التي كشفت الستر عن مآسي الحرب وما بعثها من جنون العقل، وما ألهبها من هوس العلم، وما غذائها من اختبال الحضارة وجشع المادة. كانت هذه القصة كما كانت غيرها من القصص الداعية إلى الروح والسلام فناً، وكانت حية، وكانت حارة. وقد خلقتها جميعاً في نفس منشئها عاطفة واحدة هي الاشمئزاز من العقل والعلم والحضارة الحديثة، لأن الفنان الحق لا يملك أن يقف من العقل والعلم والحضارة الحديثة إلا موقف المشمئز الكاره لا موقف المحب التابع، أو العبد الخاضع، ما دام يرى هذا اللون الأحمر الذي تصطبغ به الحضارة القائمة على أساسين من العقل والعلم والخالية من الحس والروح
أما القول بأن علم النفس لا يدعو إلى الحرب فلا تصح كراهيته، وإنه من الجائز للفنان أن يتبع وأن يجني الحق من فضله فهو قول يلجأ إليه المكتوف المعصوب العينين، ولا يقبل أن يقول به فنان منطلق لا يشعر بحاجته إلى العلم كي يرى ويسمع لأنه بعينيه يرى وبأذنه يسمع. . . وإلا فعليه أن يطمس عينيه، وأن يسد أذنيه وأن يقنع بقراءة الكتب التي تؤله الغريزة الجنسية، وأن يجرى وراءها.
سيقولون إن أسمى الفنانين هو الذي ينتج فناً إنسانياً عاماً تتذوقه النفوس جميعاً. وسيقولون إن القواعد التي يقررها علم النفس قواعد عامة تنطبق على النفوس جميعاً انطباقاً تاماً سليماً، وهذا وحده يكفي - عندهم - أن يغري الفنانين بالإقبال عليها والتعلق بها. وردنا على هذا أن هذه الطريقة التي يصطنعونها طريقة عقلية تجارية ليس فيها من خير إلا أنها مريحة جداً للفنان الذي يسلكها إذ يستغني فيها بكتاب يشتريه بدراهم معدودة فيقرأه فيتخذ منه مادة الفن. . . عن سنوات أو أشهر أو أيام ينفقها من عمره في هذه الحياة تأكل من أعصابه وتشرب من دمه لتجود عليه بعد ذلك بمثل ما جادت به على من أخرجوا البؤساء، وآلام فرتر، ومتروبوليس، وفاوست، وسائر هذه الجمرات الخالدة التي التهبت جهنمات في نفوس أصحابها لا كتلاً من الثلج المصنوع من الماء والأحماض والأملاح لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما استطاع في كثير من الأحوال أن يهدي الصناعة والتجارة
فإذا كان أتباع العلم هؤلاء فنانين حقاً فلماذا لا ينشرون إحساسهم على العالم فيحيطون به ثم يطالعوننا بما ينطبع في حسهم وهم يرون العالم على ما هو عليه، وهم يعرفون ما هو عليه؟
لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما كان الفن على مر الزمان سباقاً
وغني أريد أن أتصور واحداً من هؤلاء الذين يتبعون العلم في فنهم وهو يريد أن يضع قصة مثلاً، كيف يضعها؟ إنه يقرأ في كتاب من كتب علم النفس أن الذاكرة تغيب عن الإنسان أحيانً فيبتلعها العقل الباطن، ويعيش الإنسان مدة طويلة أو قصيرة وهو بغير ذاكرة فتصدر منه أقوال وأفعال لا تستقيم مع حياته الظاهرة. وقد يحدث بعد ذلك حادث يعيده إلى ذاكرته أو يعيد إليه ذاكرته، أو قد لا يحدث له هذا الحادث عفواً، فهو إذن محتاج إلى التنويم المغناطيسي يرد إليه ذاكرته
يقرأ الكاتب المثقف هذا فيقول في نفسه: والله إن هذا الموضوع يصلح قصة؛ فلأركبها إذن من رجل وزوجته فتغيب عنه ذاكرته فتشقى هي لهذا، وأخيراً يسعدان بشفأئه، ثم يعود فيقول لنفسه: وما هي الحوادث التي سأوقع بهذا الرجل فيها، على أن تكون حوادث مسلية لذيذة، وعلى أن تكون في الوقت نفسه غامضة حتى يثبت للقراء أنني من أدباء الرمز الذين يستغلق فهمهم على عامة الناس. . . آه. . . فلتكن هذه الحوادث كيت وكيت وكيت. . . وعلى هذا النمط الكيميائي الصناعي يسير صاحب الفن العلمي في فنه فيؤلف قصته أو يركبها فيقرأها القارئ وينفق فيها وقته وهو لا يشعر مطلقاً بأن الفنان الذي (عمل) هذه القصة يختلف في كثير أو قليل عن العالم الذي كتب التقرير العلمي صاحب الفضل الأول في تأليفها.
فهل من طبع الفن أن يسبه طبع العلم؟ لا. . . ليس الفن هكذا ولا إنشاء القصة هكذا. . .
هوجو ابتأس فأخرج البؤساء. هوجو شقي فخلد الشقاء، وعرض منه صوراً لا يقول أحد إنه رآها جميعاً، أو أن كتاباً دله إليها، ولكنه هو أحسها لأن روحه طافت بها. روحه كانت تغادره وتحل في البؤساء على اختلاف ألوان بؤسهم فتتوق للبؤس طعوماً مختلفة ليس أقساها بؤس (جان فلجان) اللص الذي سرق رغيف الخبز، وإنما قد يكون أقساها بؤس (جافير) رجل البوليس الذي كان يتنطع في مخاصمة (جان فلجان) وتتبعه وإحراجه لا لأنه يمقته ولكن لأنه كان يخشى أن يقصر في واجبه، فيكون في نظر القانون مجرماً وهو ما لم يكن يحب أن يتردى إليه بعد أن أحسن المجتمع تنشئته وقد كان لقيطاً رباه المجتمع ليكون حامياً من حماته
ما أعجب هذه النفس التي عرضها هوجو في بؤسائه. نفس أصابتها العقد - على حد تعبير العلماء - فأصبحت تتحجر دون الرحمة لأنها كانت تخشى ألا يرحمها أحد، كما لم يرحمها أب ولا أم وهذه نفس قد يحللها فرويد، وقد يحللها سبيرمان أو غيرهما من علماء النفس ولكن تحليلهما وتحليل غيرهما ليسجد أمام هذا الجلال الذي أسبله عليها هوجو الفنان الذي لم يقرأ علم النفس ولا نظريات علم النفس، والذي كان يعيش بروحه فيحس ويشعر، والذي لو لم يكن أديباً بطبعه لما أنشأها هذا الإنشاء الرائع، والذي لو كان موسيقياً لأرسلها باكياً
الفنون يا أصحاب الفنون يمكن أن يترجم بعضها إلى بعض، لأنها لا تكون فنوناً إلا إذا كانت من وحي العواطف، والعواطف لا تستعصي على أي فن. فما هي العواطف التي تتحرك في نفوس الذين يجرون وراء العلم العاقل والتي تصلح للترجمة إلى بقية الفنون؟. لا شيء إلا عواطف مصنوعة مركبة. أما العاطفة الصادقة في نفوسهم فهي لا تتحرك إلا نحو غرض من أغراض الطبع والنشر والإذاعة
لا. ليس هذا فنَّا
وأخيراً. ما الذي يقبل من الفنان أن يكون عليه؟. . .
لا شيء أكثر من أن يعيش وهو لا يدبر في نفسه أنه سيخرج فنَّا. . . فليترك نفسه للحياة، وليسع إلى الصدق ما أمكنه السعي. وليبحث عن الجمال ما أمكنه البحث. ليقرأ، ولكن عليه أن يقرأ في صفحات الوجوه قبل أن يقرأ في صفحات الكتب. عليه أن يلتفت إلى الناس وإلى الحيوان وإلى النبات وإلى الجماد. فليعط كل نفسه لكل ما يحيط به من مظاهر الوجود. . . فليعاشر هذه الحياة، وليبادلها الحس، وليغتبط بكل ما تؤاتيه به سعادة أو محنة، وبكل ما يراه الناس من خير أو شر، وبكل ما يطالعه في الطبيعة من أحسن الصور وأقبحها فهذا وحده هو سبيل الفن، وليس من الضروري بعد ذلك أن يكون الفن كتابة أو ألحاناً أو صوراً. . . وإنما الفن هو حياة الهدى. . . ى وكم في جماهير الناس من ثقاة فنانين، وكم في الفنانين من مرتزقة أو - على الأقل - حائدين!
عزيز أحمد فهمي
من الجزيء إلى الذرة
للدكتور محمد محمود غالي
مستقبل الكون والمبدأ الثاني للترموديناميكا - هذا المبدأ شيء ورجوع الحياة شيء آخر - اختلاط الجزيئات عملية طبيعية واتحاد الذرات عملية كيميائية - ملاحظة (بروست) - الفكرة الذرية عند (دالتون)
إن ما يستشعر القارئ أحياناً من الصعوبة بينا يتابع هذه الأحاديث عن وصف الكون وما يكتنفه من مظاهر لأمر هين، بجانب معرفته في النهاية شيئاً جديداً عما يحيط به من أسرار فهذه غاية تكون بلا شك مدعاة لارتياحه
أذكر أن في مارس الماضي عندما كنا نواجه القارئ بأحدث ما نعرفه عن الكون وعن تمدده وأبعاد ما فيه من عوالم بعضها عن بعض - حدث أن اضطررنا عند الكلام عن حيز (ريمان) وحيز (لوباتشفسكي) وعند الكلام عن الحيز الطبيعي وفق رأى (أينشتاين) ووفق رأى (دي سيتير) إلى اللجوء إلى مناقشة مسائل لا شك في أن القارئ وجد في إدراكها شيئاً من الغموض - هذا الغموض الذي اضطررنا إليه اضطراراً كان لزاماً علينا أن نذهب إليه كما كان لزاماً علينا أن نخفف على القارئ بعض الشيء فيما تبع ذلك في مقالاتنا عن الكون الممتد، ولم يكن في طوقي أن ألج موضوعاً دقيقاً كهذا وأخطو بالقارئ فيه خطوات أخرى دون أن يتخلل حديثي فيه فترة من الراحة
كذلك كان مقالنا الأخير عن الجزيء الذي لجأنا فيه إلى تفسير بعض القضايا التي يلاقي فيها القارئ بعض الصعوبة، ولم يكن هناك بُد، وقد أخذت على عاتقي أن أقص عليه أهم ما وصل إليه الإنسان من تفكير مُنَظَّم، من أن نذكر فلسفة ليبنز وألا نغفل رأيه القائل بأن الحرارة هي الحركة، وألا نغفل أيضاً كيف فسَّر بولتزمان انتقال الحرارة من جسم حار إلى جسم أقل منه حرارة، وكيف بين عدم إمكان العملية العكسية.
لقد طالعت المقال السابق بعد نشره أكثر من مرة وأعتقد أن الكثيرين من القراء قد فهموا هذا التفسير لبولتزمان وأدركوا هذا النزول الحتمي في الحرارة كنتيجة حتمية لما يحدث من تعديل في حركة جزيئات الجسمين المتلاصقين، بحيث لو تصورنا فريقين مزدحمين من لاعبي كرة القدم، فريقاً سريع الحركة وآخر بطيئها، اختلطا في فناء واحد فإن النتيجة
الحتمية لتصادم الفريقين في أثناء اللعب أن يكتسب الفرق البطيء شيئاً من السرعة ويفقد الفريق السريع جانباً منها، ولا يمنع هذا وقوع بعض الحوادث الفردية التي تشاهد أثناء اللعب من أن ينقل لاعب بطئ سرعته إلى لاعب سريع الحركة، إنما النتيجة الحتمية للمجموعة هو اقتراب من تعادل سرعتهما ما دام الصدام مستمراً بينهما.
هذا التفسير البولتزماني مفهوم للقارئ، ولكن مما قد لا يستوعبه بالدرجة التي أرغبها هو النتيجة المرتقبة لمصير الكون من أثر هذا القانون الحتمي القائل بالتعادل الحراري، أي التعادل في حركة جزيئات المادة، وهي النتيجة التي لخصناها في أن الكون في مجموعة - الكون الذي فيه نسمع ونرى - سائر حتماً إلى خاتمة يسمونها الموت الحراري، أو الاقتراب من السكون، أو - عند ظن بعض العلماء - عدم إمكان عودة أي شكل من أشكال الحياة بالنسبة لمجموع الحيز. هذه الخاتمة التي تتلخص في التساوي الحراري مع مرور الزمن نتيجة الانخفاض في الدرجات المرتفعة، والارتفاع في الدرجات الخفيضة، يجعل من الكون في مستقبل العمر وعاء لا تصلح الحياة فيه.
وإنما ذكرت للقارئ هذه النتيجة التي يحتملها المبدأ الثاني للترموديناميكا مما يبعث الأسف في نفوسنا ليعرف شيئاً عن تفكير العلماء - هذا التفكير الذي يلجأون إليه نتيجة للمشاهدات والحوادث
كل ما أريد أن أطمئن إليه: هو ألا تؤثر هذه النتائج العلمية على القارئ، فتزعزعه عن بعض عقائده الموروثة والخاصة بعودة الحياة. تلك الفكرة التي لا تتعارض عندي والمبدأ الثاني للترموديناميكا، لأنني كما قدمت لم ألجأ في تعريف الحياة بالحركة بل أعتقد أن ثمة اختلافاً جوهرياً، وغير مفهوم لنا، بيننا وبين التفاحة التي نأكلها، أو المحبرة التي نُملي منها هذا المقال. . .
إنما أردت في مناقشة علاقة المبدأ الثاني للترمودينا ميكا بمستقبل الكون أن أوجه نظر القارئ إلى ناحية م نواحي تفكير العلماء: كيف يتسنى أن تكون لمسائل نعتبرها طفيفة نتائج خطيرة على تفكيرنا وفهمنا للكون. . . وله أن يتأمل الآن قليلاً: كيف، من حقيقة يلمسها كل يوم تتلخص في أن الجسم الحار يعمل دائماً على تسخين الجسم البارد، وأن العكس غير صحيح، يجد العلماء من هذا الموضوع على بساطته منفذاً للحكم على مستقبل
الكون؟
ألان قطعة من الثلج تعمل على تبريد فنجان من الشاي الساخن بوضعها فيه يسير الكون في مجموعة إلى نوع من الموت بلا رجعة؟! هذا ما يقرر العلم، فهو يقرر أن من اختلاط وتصادم مجموعتين من الأفراد، مجموعة دأبها السرعة وأخرى ديدنها البطء، تنشأ مجموعة جديدة لا هي بالسريعة وهي بالبطيئة بل لمجموعة أفرادها سرعة متوسطة واقعة بين سرعة المجموعتين
أود أن يستشعر القارئ أنه إذا كانت المشاهدات تدل على هذا التعادل في الحركة أي هذا التساوي في الحرارة، وإذا كانت الرياضة والمنطق يحتمان هذا النوع من التعادل نتيجة لحساب دقيق، فإن جسيمات الكون في مجموعه مصيرها الهدوء وأن الكون مصيره الموت الحراري. أما أن نقرر أن الحياة مصيرها فناء بلا عودة فهذا أمر آخر لا نستطيع في سهولة أن نقبله أو أن نساير العلماء فيه
أجل إنما أردنا أن ندل القارئ على طرائق التفكير الحديث، كيف نتسلسل المسائل، وكيف يرتبط بعضها ببعض، وكيف يتعلق المعقد منها على البسيط، وكيف يقسمون الظواهر في منطق العلم إلى ظواهر حتمية وأخرى احتمالية، وكيف يفرق القارئ بين الظواهر العكسية والأخرى غير العكسية، وكيف، من أبسط المعارف والمشاهدات، نجد سبيلاً للتحدث عن أروع المسائل المعلقة بعميق الفلسفة ومستقبل الكون؟
والآن ننتقل من الكلام عن الجزيء إلى الكلام عن الذرة قدمنا عند الكلام عن الجزيء أن فكرة تقسيم المادة إلى جزيئات لم تكن حاصل المشاهدات المباشرة بقدر ما كانت حاصل البحث العلمي العميق والوسائل الطبيعية الدقيقة. لئن تكن المادة منفصلة غر متصلة، أو بعبارة علمية لئن تكن مكونة من جزيئات منفصلة ومستقلة فهذا أمر لم نكن نعرفه بداهة أو مشاهدة، وإنما كان لدراستنا للتطورات الحرارية أكبر الأثر في معرفته
كذلك لا يمكن بالعين المجردة أن نُقيم الدليل على تقسيم الجزيء إلى ذرات. وكما أن نظرية الجزيئات والاستدلال عليها جاء عن طريق العمليات الحرارية كذلك صادفت النظرية الذرية أي تقسيم الجزيء إلى ذرات مستقلة نجاحها في العمليات الكيميائية
ففي هذا العلم - الكيمياء - شبت النظرية الذرية وترعرعت، ولقد كان ذلك في بادئ الأمر
راجعاً إلى قانون معروف بقانون النسب الثابتة ظل الأساس الذي بُنِيت عليه النظرية الذرية، وهو يعلمنا الفرق بين المخلوط والمركب الكيميائي:
عندما نشرب الماء ممزوجاً بقليل من ماء الورد فإنه ليس ثمة حدود تقف عندها درجة المزج للحصول على المزج. إننا نستطيع أن نحصل على المزيج من الماء وماء الورد بنسب مختلفة فنستطيع أن نجعل النسبة من ماء الورد 1 إلى 10 من ماء أو 1 إلى 100 وهكذا. كذلك عندما نصنع لوحاً أحمر من الزجاج فإنه بقدر كمية اللون التي نضعها في مواد الزجاج، وهو في حالته السائلة وقبل أن يتجمد، نحصل على لوح تتعلق درجة احمراره بنسبة ما وضعناه من مادة ملونة، ولنا حرية مطلقة في الحصول على مئات بل وألوف الأنواع من الأنواع من الألواح الزجاجية كلها حمراء ولك تتفاوت في درجة الاحمرار. هذه العمليات اختلاط طبيعي بين جزيئات المادة.
ولكن عندما تتحد كمية من الهيدروجين بكمية أخرى من الأكسيجين اتحاداً كيميائياً تحت تأثير شرارة كهربائية ليتكون الماء جرامين اثنين من الهيدروجين يتحدان مع 16 جراماً من الأكسيجين، بحيث لو تعمدنا أن تكون كمية الهيدروجين الموجودة مع كمية الأكسيجين السابقة خمسة جرامات فإن جرامين اثنين يتحدان منها فقط الـ 16 جراماً من الأكسيجين الموجودة لدينا وتبقى الثلاثة الجرامات الأخرى من الهيدروجين حرة لا تتحد هذه النسبة الثابتة في المركبات الكيميائية تختلف كما يرى القارئ عن موضوع مزج الجزيئات الطبيعي الذي يمكن أن نحصل عليه بأي نسبة في أنواع المعادن المختلفة (فالبرونز) مثلاً نحصل عليه من الهيدروجين والأكسيجين بالنسبة التي تعينها لنا الطبيعة والتي لا تتغير
هذه الأجسام البسيطة كالأكسيجين والهيدروجين التي تدخل كيميائياً في المركبات المختلفة والتي يمكن بوسائل كيميائية الحصول عليها منفردة مرة أخرى، عرفها العلماء بالعناصر حيث كان من المشاهد منذ لافوازبيه أن كمية معينة من عنصر معين يمكن إدماجها في عشرات التركيبات الكيميائية كما يمكن الحصول عليها مرة ثانية بحيث لا يزيد وزنها أو يقل مهما كان نوع التركيبات الكيميائية التي دخلت فيها. فإذا كانت الكمية من الأكسيجين التي اتحدت في المركبات في بادئ الأمر 16 جراماً فإنه من المعروف أننا نحصل دائماً وبالطرق الكيميائية المختلفة على 16 جراماً من الأكسيجين وأن هذه الكمية غير قابلة بأي
حال للزيادة أو النقصان
كذلك يتكون الغاز الكاربوني من احتراق الفحم في الأكسيجين بنسبة 3 جرامات من الأول إلى 8 جرامات من الثاني، وظلت هذه النسبة هي الأساس في تركيب الغاز الكربوني بحيث لم يتسن للكيميائيين بوسائل مختلفة وأساليب متباينة (مثل وضع هذه المجموعة من الكاربون والأكسيجين تحت ضغط شديد أو غير ذلك) أن يتحد ثلاثة جرامات من الكاربون مع 1. 8 جرامات من الأكسيجين مثلاً. وليس معنى هذا أن الكاربون والأكسيجين يتحدان دائماً بنسبة 3 إلى 8 فإنه يصح للحصول على مركب غير الغاز الكاربوني أن يتحد ثلاثة جرامات من الكاربون بأربعة جرامات من الأكسيجين، ولكن الفارق بين الحالتين عظيم. فثمة حالة غير متصلة تختلف عن حالة الخلط والمزج المعروفة في اختلاط الجزيئات
كان لا بد تحت هذه العوامل والمشاهدات من أن يُعمم العلماء هذه الوقائع المقدمة ويحصونها ويدرسونها، وهكذا توصلوا إلى قانون النسب الثابتة الذي يحدد النسب التي تتحد بها العناصر الكيميائية المختلفة، هذا القانون المعروف منذ العالم (دالتون والذي كان الفضل الأكبر فيه للعام (بروست يتلخص في أن النسبة التي يتحد به عنصران لا يمكن أن تتغير بحالة مستمرة
وهكذا كان من الصعب ألا نفترض أن هذا الأكسيجين المتحد مع الهيدروجين ليكون الماء استقل دائماً بنفسه وحافظ على استقلاله في أثناء هذه العملية الكيميائية ما دمنا نستطيع أن نعيده سيرته الأولى وهكذا أمكننا أن نرجح أن هذا الذي نسميه عنصر الأكسيجين كان مستقلاً في كل المركبات الأكسيجينية التي يمكن أن تدخل فيها مثل الماء والماء الأكسيجيني والأوزون وثاني أكسيد الكاربون والسكر الخ بحيث إذا كان السكر مركباً من جزيئات مشابهة تمام التشابه فإنه من المتعين أن في كل جزئ من هذه الجزيئات قد دخل الأكسيجين كشخصية مستقلة كما دخل الكاربون والهيدروجين اللذان هما المركبان الآخران للسكر شخصيات أخرى مستقلة. من هنا ومن أمثال ذلك حاول العلماء أن يعرفوا الصورة التي يجب أن تكون عليها هذه المواد الأولية أو العناصر البدائية التي تتفق أجزاء منها تحت عوامل لا محل لذكرها وتتقارب لتكوين جزئ من السكر، هذا المولود الجديد
والمركب من هذه العناصر المتقدم ذكرها
هذه الملاحظة من جانب (بروست) الفرنسي في وجود نسب ثابتة بين العناصر عند اتحادها أدت بالعالم الإنجليزي (دالتون) إلى أن يفرض فرضاً ذرياً يمكن أن يجيب على هذه الحالة المتقدمة:
كل العناصر مكونة من ذرات، ويحدث في مختلف العمليات الكيميائية المتباينة أن تجتمع ذرات الأجسام وتكوَّن كل مجموعة جديدة جزيئات من جزيئات المركب الجديد، بحيث يجوز لذرة من مادة معينة أن تلتصق أو تجتمع بذرة واحدة من مادة أخرى كما يمكن أن تجتمع باثنتين أو أكثر، فالماء مثلاً يتحد فيه ذرتان من الهيدروجين بذرة واحدة من الأكسيجين (إن اجتماع جرامين من الهيدروجين مع 16 جراماً من الأكسيجين راجع إلى وزنهما ذلك أن قوة الكائنة بين هذه الذرات وبعضها هي بحيث أن اجتماعهما في هذه الحالة اجتماع واحد باثنين، وإذا اجتمعت ذرة واحدة من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسيجين تكون الماء الأكسجيني الذي نستخدمه في الجروح بدل الماء العادي الذي نشربه.
هذه الخطوة الموفقة من جانب العالم الكبير دالتون التي مهد لها (بروست) ظلت أساساً للعلوم الكيميائية، وفي آلاف المواد التي نستخدمها والتي هي في الواقع مركبات من عناصر مختلفة متحدة بنسب ثابتة أو ممزوجة أمكن تقسيم العالم المادي إلى 91 عنصراً تبدأ بالهيدروجين والهيليوم وتنتهي بالبروتوكتينيوم والإيرانيوم. هذه العناصر تقوم لنا كمرجع دائم يدلنا على هذه المركبات المكونة لكل ما نراه ونعثر عليه من مادة في الكون، كما تدلنا الشمس والنجوم الثابتة بمواضعنا المختلفة في الأفق بالنسبة لها على معرفة الوقت نهاراً أو ليلاً
وسنرى فيما سيأتي ما استفاده العلماء من هذا الفرض الذري ونحاول أن ندرك كنه الذرة وما يجري بها ونستخلص من أعمال العلماء سيرة ما يحدثونه اليوم فيها من تهدم، ما سيكون له أكبر الأثر في تقدم معارف الإنسان
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهند سخانة
القصص
لصوص الفيء
للأستاذ نديم الجسر
ذكرني وصف أستاذنا الزيات لصورة من (صور الماضي) في مصر بصورة من هذا الضرب المضحك المبكي، حُدثت بها من عهد غير بعيد. فأخذت بمجامع قلبي لما فيها من روعة، ولأنها تكاد تكون حقيقة لا أثر للخيال فيها، ولأنها تصدق عندنا على الماضي والحاضر. . . ويا للأسف
كنا في صيف عام 1933 في قرية سيْر، ذلك المصيف الذي عشقه الدكتور فارس نمر، وأعجب به الباشا سيد البنك المصري وسيد الأعمال المالية في بلاد العرب، حتى كاد يفكر في إمداده وتمْصيره. وقد اجتمعنا ليلةً على جاري عادتنا في شرفة الدار التي يتطأ من تحتها وادي سير الفتان، ومن ورائه ينبسط البحر ساجياً وقد ازدان منه (خليج عَرْقَة) الفينقي بطائفة من قوارب الصيادين تحمل في مقاديمها مشاعل تبهر الأسماك وتستهويها. فليساعد تجمعها حول القوارب على صيدها. وكانت تلك القوارب تختفي في الظلمة الليل فلا يبدو منها إلا أنوار المشاعل كصفّ من مصابيح نُصبتْ في شارع طويل؛ حتى كنا نوفَّق في دعاباتنا أحياناً إلى أن تخدع بها طائفةً من زوارنا فنوهمهم أنها أسكلة (ميناء) طرابلس، على حين أن الأسكلة تحتجب وراء الجبل، فإذا عادوا إلينا في النهار سألوا عن الأسكلة! فقلنا لهم: سرقها الصيادون. . .
وكنا نتحدث، كما يتحدث المصطافون في هذه القرية الهادئة المحرومة مرح المصايف الأخرى في لبنان بأحاديث تشوبها كآبة الضجر الذي يلازم المكرر الوحيد النغم المملول من كل شيء. وساقنا الحديث إلى ذكر أحوال القضاة ومظالمهم، وندرة (قضاء الجنة)، وكثرة (قضاء النار)؛ وكان معنا في هذه الجلسة سيد القرية، وهو رجل كثير الصمت طويل الروية، سليم المنطق بالفطرة الموهوبة لا بالقوة المكسوبة، رقيق الحاشية، لين العريكة، شديد الحذر من إطالة اللسان، والخوض في أحوال الناس. لا نشكو من طيب عشرته إلا أنه يتركنا الساعات الطوال نتحدث، وهو معتصم بالصمت يسمع. فإذا سكن الحوار، وخمد الجدل، ألقى بكلمة أو كلمتين فيهما زبدة الفول وفصل الخطاب. . .
وطال حديثنا عن قضاة النار وأحوالهم فقال صاحبنا بعد صمت طويل: هؤلاء يسمونهم عندنا في الجبل (لصوص الفيء). قلنا: وما لصوص الفيء؟ فأغرب في الضحك وتشبث على عادته بصمت المحترز فما زلنا به حتى رضي أن يحدثنا فقال:
(يحكي أن مكاريا من أهل القرى كان يملك من وسائل العيش بغلاً يكاريه الناس ويعيش من كرائه مع زوجه وأطفاله، فمرض البغل يوماً مرضاً أقعده وأقعد صاحبه عن العمل، فقام مع عياله في الجانب البغل يداوونه ويدعون له بالشفاء. ولما اشتدت وطأة الداء نذر الرجل على نفسه أن يعطي رجلاً مشهوراً عندهم بالصلاح والتقى والولاية مائة قرش إن شفى الله بغله. ولكن الله لم يقبل نذره ومات البغل، فبكاه الصغار والكبار ما شاء الله أن يبكوه. وفي اليوم الثاني أخذ الرجل ما يستغني عنه من متاع البيت فباعه واشترى بثمنه بغلاً آخر. فما كاري عليه أياماً حتى سرت للبغل من المعلف عدوى المرض فقام بجانبه الليل والنهار يصلي ويبتهل وينذر النذور لأكبر الأولياء وأعظم الأبرار، ولكن البغل مات ولم تنفع فيه النذور للصالحين. فبكاه أصحابه المساكين الثكالى ثم جمعوا بقية ما في البيت من متاع فباعوه واشتروا بثمنه بغلاً ثالثاً. وما مضت عليه أيام حتى سرت إليه العدوى، فطاش لب لبرجل وضاع صوابه ورأى أن نذوره للأولياء الأبرار الأطهار لم تشفع ولم تنفع، فأصابه ما يصيب كل مفجوع عند هول الكارثة من ذهول وسخرية واستخفاف، فبدا له هذه المرة أن يجعل نذره لأشد الناس شراً؛ وعظم النذر فجعله ألفاً.
وشاءت حكمة الله أن تكون عدوى المرض خفيفة وأن يقوي عليها البغل الجديد فشفى. وعاد الرجل إلى عمله، فما زال يشتد في طلب الكسب حتى اجتمع لديه النذر فحمله وهبط به المدينة يتلمس فيها من يستوجبه فعمد إلى أشهر بيت للفسق والفجور وانتحى ناحية يراقب منها الناس حتى اختار أشدهم تهتُّكاً وأشنعهم فسقاً فاقترب منه وحدثه بحديث نذره ثم قال له والخوف يعقد لسانه:(لا تغضب يا هذا وارحم ضعفي وذلتي فإني أردت وفاء نذري فلم أجد من هو أعظم منك شراً فحق علي أن أوفيكه)
فما سمع الرجل مقالته حتى أغرب في الضحك؛ ثم أطال الصمت حتى أوجس القروي من طول صمته وكآبته شراً. ثم استعبر حتى وجمت القاعة الصاخبة لنحيبه، ولما سكنت نفسه قال: (لقد ضللت يا صاح والله بغيتك؛ وكدت تعطي نذرك من لا يستحقه. فما أنا بأعظم
الناس شراً، وإنما أنا رجل ابتلاني الجبار بذُلَّ الشهوات فلا أستطيع إلى فكاك نفسي من أسرها سبيلاً. ولو رأياني كيف أصحو نادماً ذليلاً لرثيت لي ولرجوت أن يغفر الرحمن ذنوبي. . . فإليك عني، وعليك باللصوص وقطاع الطريق فهم أحق بنذرك مني)
فخرج القروي من الحانة وقد سره أنه وجد ضالته واسترشد برأي (سوقيّ) يعرف حقائق الأمور، وما زال يسأل عن قطاع الطريق أين مكمنهم ومن أشدهم فتكا وبطشاً، حتى استرشد. فركب بغله وسار في حلك الليل حتى أشرف على الكمين الذي يقطع الشرير منه الطريق مع عصبته؛ فما شعر اللصوص بالرجل حتى اكتنفوه فقال لهم: على رسلكم فإنما إليكم قصدت. أين رئيسكم؟ فدلوه عليه فحدثه بحديث نره فأطرق اللص إطراق الحزين، ثم استعبر حتى ابتلَّت لحيته ثم قال:(إنك يا هذا ضللت بغيتك فما نحن إلا فقراء عضتنا الفاقة وضاقت بنا سبل العيش فتخذنا السلب حرفة نكسب بها قوت عيالنا، ولو وجدنا إلى الرزق سبيلاً غير هذا لسلكناه. ولو كشف الله لك قلوبنا لرأيت ألماً وندماً، ولرجوت لنا عند الرحمن عفواً وكرماً. إذا أردت يا صاح الوفاء بنذرك فدعنا نحن (حرامية الشمس)، ولصوص التعب والنصب والخوف والخطر واذهب إلى (حرامية الفيء)؛ فإنهم أحق بنذرك. . .)
فقال القروي: ومن هم حرامية الفيء لأذهب إليهم؟
فقال له شيخ العصابة:
أولئك هم القضاة الذين ولاهم الله أمور عباده وحكمتهم في الدماء والأعراض والأموال ليقضوا فيها بالحق وجعل كلمتهم هي العليا، وأنعم عليهم بجاه كبير ورزق كثير وعيش غزير فما رعوا الله في عباده ذمة، ولا في حقوقه وحدوده حرمة، فلا ظالم إلا نصروه، ولا مظلوم إلا خذلوهن ولا عرض إلا انتهكوه، ولا مال ولا وقف إلا أكلوه. . .
أولئك هم حرامية الفيء وأولئك هم شر البرية. . .
فرجع القروي المسكين بذل الخيبة وقصد إلى قاضي المدينة فرأى شيخاً يفيض الجلال عن جوانب عمامته، ويتفجر النور من قسمات طلعته، ويتقطر التقى من أطراف لحيته، فقال: يا سبحان الله كيف يكون هذا شر البريّة وكيف تتحرك شفتاي بحديث النذْر إليه؟
وما زال واقفاً حتى انتهى القاضي من القضاة (على) حقوق العباد، فرآه في جانب القاعة
فدعاه إليه وسأله عن حاجته فقصّ عليه قصة نذْره والحياء يعقد لسانه، فقال له القاضي:
(على المستحق سقطت. . . ولكن يا بني نحن لا نستحل أخذ أموال الناس بلا سبب شرعي. والوجه الشرعي الذي يحل لنا به أخذ هذا النذر منك هو أن نقلبه إلى مبايعة. . .)
فانتفض الرجل وقال: أستجير بك يا مولاي. إني أخشى إن أخذت منك لقاء النذر شيئاً ألا يتقبل الله نذري، فقال القاضي:(نحن لا نبيعك شيئاً مذكوراً بل هي صورة نحلل بها أخذ المال منك. . . هاك في جانب الباب كوْمة من الزبل هل اشتريتها مني بالألف الذي نذرته؟) فقال الرجل:
سمعاً وطاعة. وتم التعاقد بالوجه الشرعي. . . وقبض القاضي الألف وذهب الرجل إلى قريته فرحاً مطمناً
وبعد يومين أفاق المسكين على صوت طارق يوالي قرع الباب ويستفتح، فإذا جندي يبادره بالشتم ويقول:(أيها الرجل المخادع الماكر الخبيث الشرير! أتشتري المزبلة من مولانا القاضي وتتركها في مكانها فتصبح مجمعاً للذباب ومبعثاً لكريه الروائح. . .؟ لقد حكم عليك مولانا القاضي بنقل المزبلة وبغرامة مقدارها ألف قرش جزاء تركك إياها بعد شرائها وبأن يصادر بغلك لقاء الغرامة. . .)
قال الجندي قوله هذا ودخل الدار فاقتاد البغل من مربطه وسار به إلى المدينة. فوجم الفلاح المسكين وجوم من خولط في عقله وما زال يشيع بغله بعينين دامعتين حتى توارى عن بصره ثم رجع وهو يدمدم قائلاً:
- حقاً إن حرامية الفيء هم شر البرية؛ وقد أصاب نذري أعظمهم شراً
(طرابلس)
نديم الجسر
من هنا ومن وهناك
هل يظفر الأمير عبد الله بملك فلسطين؟
(عن مجلة الباريسية)
لا يستطيع الناظر المتأمل مهما أوتي من قوة الفراسة والمقدرة على
تحليل النفوس واستنباط ما وراء الوجوه من المعاني والأفكار، إذا نظر
إلى وجه الأمير عبد الله أمير شرق الأردن، أن يحكم لأول وهلة أن
صاحب هذا الوجه، على الرغم مما يبدو عليه من الهدوء والاتزان،
يحمل حملاً ثقيلاً منذ عشرين عاماً
فإذا جلست إليه ورأيته يمسح بكفه على لحيته الصغيرة المنسقة ويتكلم بصوته المهذب الرقيق، لا تصدق أن هذا الرجل بعيد عن الاستمتاع بالراحة
وإذا كانت الدودة الصغيرة تغادر أثراً ما على السنديانة العظيمة، فلا غرابة أن تترك المطامع البائدة، والأحلام الضائعة، أثرها العميق في نفس الأمير
لقد كان الأمير عبد الله يحلم في شبابه - وهو ابن شريف مكة في ذلك الوقت - بحياة ذات مجد حربي عظيم؛ ولكنه خسر أول معركة قادها بجنود أبيه. وإذا كنت ممن يعرفون قونين الصحراء غير المسطورة، أمكنك أن تعرف مقدار تأثير هذه الهزيمة
إن العرب قد يغتفرون للسارق؛ وقد يتسامحون مع الرجل الذي يقتل أباه، ولكنهم لا يغترون جريمة القائد المنهزم بحال من الأحوال
ومما يستحق الذكر أن الأمير عبد الله في ثورة الصحراء، والحملة التي يقودها لورنس، لم يكن سوى ظل بسيط في مجرى الحوادث على الرغم مما هو معروف عنه من الشجاعة والذكاء
وإذا كان قد حكم على الأمير بأن يحيا حياة مدنية وإخوانه يخوضون غمار الحروب، فقد وضع آماله في شيء واحد وهو عقيدته الثابتة بأنه إذا جد الجد وجاء يوم الانتصار سيدعى ولا محالة للجلوس على عرش من العروش التي تقسمها بريطانيا العظمى بعد زوال
الإمبراطورية التركية
وما كادت الحرب تضع أوزارها حتى تولى والده الحسين ملك مكة والحجاز، وتولى أخوه الأكبر ملك جدة، وتولى فيصل أخوه الأصغر ملك سوريا ثم ملك العراق؛ وبقى عبد الله وحده بغير تاج حتى أتيحت له إمارة شرق الأردن بعد جهد شديد
وتبلغ مساحة شرق الأردن مقدار مساحة إيرلندا، ويبلغ سكانها 300000 نفس يعيش ثلثاهم معيشة الصحراء
وإذا كان قد انقضى عشرون عاماً منذ اتخذ الأمير ذلك الطريق المقفر نحو عمان بدً من دخول دمشق وبغداد دخول الفاتحين، فإنه لم يعلن أمنية واحدة من أمانيه التي كان يفكر فيها ولورنس يخترق الصحراء، وهو منذ عشرين عاماً يري الطعم لملك فلسطين
وقد أدرك بذكائه وقوة استنتاجه أن العرب واليهود لا يمكن أن يتفقا، وأن هذين الشعبين لا يمكن أن يعيشا معيشة أمان وسلام، وأن بريطانيا لا تستطيع أن تجد حلاً لمشكلة فلسطين يتفق ومصلحة الإمبراطورية
وعلى الرغم من الانتظار الذي طالت مدته لم يزل الأمير مصراً على أمنيته العزيزة. وكثيراً ما حرضه أصدقاؤه وأقرباؤه على أن يعبر الأردن ببدوه، ولكنه كان على الدوام يأبى أن يستبق الحوادث. . .
وعقيدته أن الحالة في فلسطين كلما ازدادت تحرجاً كان ذلك في مصلحته وأدعى إلى تحقيق أمانيه
وإذ كان الأمير قد استطاع أن يكبح جماح نفسه عشرين عاماً، فنحن نعتقد أنه لا يوجد واحد من المشتغلين بالسياسة في الشرق الأدنى يظن أن شخصاً في حالة تقسيم فلسطين سيكون أولى منه بالجلوس على عرشها
ويقال إن هذه الولاية في تلك الحال سوف تكون مرتبطة بشرق الأردن، وبارتباطها تجد بريطانيا حليفة قوية في شرق الأدنى. . .
هل تحتفظ السويد بحيادها - عن باري سوار
إن أصوات المدافع التي تدوي في استكهلم، وتنقلات الجنود وتدريبها في عاصمة البلد التقليدي في الحياد، مما يدل على أن الثقة بالنازي قد تزعزعت في تلك البلاد
لماذا تشتغل السويد بتلك التدريبات الحربية، وقد احتفظ بحيادها مدة الحرب السابقة؟ هل هي تتوقع أن تكون عرضة للهجوم في الحرب القادمة؟
إن الذين لا يتتبعون السياسة السويدية، قد يذكرون حياد السويد نحو ألمانيا القيصرية في حرب 14 - 18، ويظنون أن الآريين من السويد يحتفظون بشعورهم نحو المدنية والثقافة الألمانية، والحقيقة أن تغيراً عظيماً قد حل في نفوس الرأي العام!
أما المسئول الأول عن هذا التغيير فهو أولدف هتلر. فقد كانت خطة النازي من البدء مثيرة لشعور الحرية والتقدم الاجتماعي في نفوس السويديين.
وإذا كان الملك جوستاف على الرغم من بلوغه سن الثمانين يعد من رجال أوربا الملحوظين، فإن السويد الآن يحكمها الاشتراكيون. وقد تقدمت تلك البلاد تقدماً محسوساً ووصلت الصناعة الحديثة فيها إلى درجة لم تصل إليها الولايات المتحدة.
لقد وصل صدى تهديد هتلر إلى تلك البلاد. وقد أشار القائد الألماني هانشوفر في إحدى محاضراته باستكهلم إلى أن عدد السكان في السويد قليل بالنسبة إلى مساحتها، وأنها تستطيع أن تمنح الأماكن الفسيحة لسكنى ملايين من الناس.
وقد كان في السويد بعض الفرق النازية، وكان بها الكثير ممن يعتمد عليهم الفوهرر، وقد أرادت ألمانيا أن تجعل تلك الفرق فرقة واحدة تحت إمرة رجل واحد يدعى (لندهولم)، ولكن خاب مسعاها، إذ تبددت تلك الفرق ولم تبق للنازي فرقة واحدة على الإطلاق.
إن إخفاق الهتلرية في السويد لم يكن في الحقيقة تعبيراً عن كراهية للألمان، فإن الارتباطات الجنسية والتعليم يجعلان لألمانيا منزلة في تلك البلاد، وإن كان لفرنسا تأثيرها الثقافي الملحوظ.
ولكن الشعور السائد قد انقلب على ألمانيا الآن. وإذ كان للسنما أثرها الكبير في اسكاندينافيا فقد بدأ الألمان يستأجرون كواكب السنما من السويد لنشر دعايتهم تحت أسماء هؤلاء الكواكب ولكن ذهب مجهودهم هباء. فالأفلام الألمانية لا تقابل باستحسان بينما تنجح الأفلام الفرنسية على الدوام
على أن هذا جميعه لا يدل على أن السويد قد فقدت رغبتها في الحياد، ولكن من السهل أن يقال إن السويد لا يبعد أن تساق إلى الحرب ضد ألمانيا
ويقول رجال السياسة بها من الاستعداد الحربي الذي تقوم به الدول الآن يمنعهم من المهادنة. وأكثر من هذا طلب الذهب والحديد؛ فالسويد تستخرج كميات عظيمة من هذين المعدنيين، وإن حديدها النادر أليق من غيره لآلات الحرب. فألمانيا ولا شك تحتاج إلى حديد السويد لعمل السلاح، وإنجلترا وفرنسا تريان من الواجب عليهما أن تمنعا توريده إليها
فإذا هوجمت السويد فسوف تحارب. وكل فرد فيها على أهبة لعمل ما يجب عليه. وإذا كان جيشها ليس بالجيش العظيم فإن لديها ثلثمائة طائرة، وقد خصص أكثر من ضعف ميزانيتها للتسليح
البريد الأدبي
موسى عليه السلام
للغربيين أقوال غريبة في موسى وعيسى عليهما السلام، وفي
كونهما. وقد اطلع قراء (الرسالة) الغراء على ما رواه الأستاذ العقاد
من مقالة (فرويد)، وللعالم (سلمون ريناك) في كتابه: أرفيوس الذي
ألفه منذ أكثر من ثلاثين سنة بحث عن موسى عليه السلام أروي منه
هذه الأسطر مضافة إلى ما سطره الأستاذ من كتاب (فرويد) وكلا
الرجلين من يهود. قال:
' ، ، ' ' ; ' ; ' ' ' ; ; ' ' ' ' ، ،
وترجمتها: (إن وجود موسى (ولعل موسى مأخوذ من الكلمة المصرية ميزو بمعنى طفل) لا تؤيده أسفار التوراة التي عزيت إليه خطأ. وليس من حقنا أن نذهب إلى إنكاره. إنه موجود؛ ولكن وجوده سيظل موضع الشك فقط. ليس الدين من صنع الإنسان؛ ولكنا لا نستطيع أن نتصور انتشار دين من غير نفوذ إرادة قوية لرجل من رجال العبقرية أمثال: موسى وبولس ومحمد)
قلت: يشك علماء غربيون في كثير من أصحاب النَحل. بيد أنهم لم يتجاسروا أن يطوروا (أن يحوموا) في شكهم بحضرة سيد الوجود (صلوات الله وسلامه عليه). والإسلامية الصحيحة موحيها واحد أحد، لا كما قالت عبارة ريناك في سائر الأديان.
* * *
لم ينجح أحد!
أعلنت مدرسة الفنون الجميلة العليا هذا العام فضيحة كان يجب عليها أن تتدارك أسبابها أو أن تسترها على الأقل
أما هذه الفضيحة فهي أنه (لم ينجح أحد) من طلبة قسم النحت في هذه المدرسة هذا العام
وفي قسم النحت بمدرسة الفنون الجميلة العليا أربعة طلاب فقد موزعون على سني الدراسة المختلفة. ومعنى هذا أن هؤلاء الأربعة هم عدة هذا الجيل للنحت في مصر. ويلحظ إلى جانب هذا أن المدرسة وقفت عليهم أساتذة أكثر منهم عدداً. فإذا لم تكن مدرسة الفنون الجميلة العليا تستطيع أن تتعهد أربعة طلاب نحاتين فماذا تستطيع أن تصنع؟!
يقال إن هذه الكارثة الفنية يرجع سببها إلى تنافر بين أستاذ النحت في المدرسة (وهو سويدي) وبين ناظر المدرسة وصديق له مدرس بها. والناظر وهذا الصديق المدرس مصريان. ويقال إن هذه النتيجة لم تحدث عفواً وإنما أريد بها أن تحجم وزارة المعرف عن تحديد عقد الأستاذ الأجنبي هذا العام، وأن ترفع المدرس المصري إلى درجة الأستاذية
وإذا كان مما يسعد كل مصري أن يرى قسم النحت في مدرسة الفنون الجميلة العليا يرأسه أستاذ مصري فإنه مما تشمئز منه الإنسانية أن يُبعث في سبيل الوصول إلى هذه النتيجة بمستقبل أربعة من الطلاب هم كما قلنا عدة الجيل في هذا الفن
زد على ذلك أن ناظر الفنون الجميلة العليا وصاحبه المدرس المصري متهمان في مقدرتهما الفني. فالناظر لا يحمل شهادات فنية مطلقاً وليس لديه من المؤهلات الفنية إلا أنه رحل إلى الحبشة في زمن ما ورسم بعض الصور لنجاشيها السابق ورؤوس دولته. ومظاهر (العصبية) التي تبدو عليهم والتي استطاع بها أن يقنع أهل الحكم في الوزارة السابقة بأنه يصلح لأن يكون ناظراً لأكبر معهد فني في مصر
أما صاحبه المدرس فهو رجل من رجال الصناعة أعدته ثقافته وأهله تعليمه لأن يكون مدرساً للصناع في مدرسة الفنون التطبيقية لا أستاذاً للفنانين في مدرسة الفنون الجميلة العليا وشتان ما بين الصناعة والفن
وأنا أكتب هذا وقلبي يتمزق لأني أنصر به أجنبياً على مصريين، ولكنني أفضل هذا على التدليس باسم الوطنية الشفوية. ولا ريب أن الاعتراف بالضعف مع السعي إلى استكمال أسباب القوة خير من المغالطة والادعاء وإنكار الحق
والآن، ماذا تصنع وزارة المعارف في مدرسة الفنون الجميلة. . .
إنه يحدث فيها أكثر مما ذكرناه. . .
ع. ا. ف
الفن المنحط
تألفت في مصر جماعة من الفنانين سمّت نفسها (جماعة الفن المنحط) وهي اليوم في طريقها إلى التفرق والتحلل لأنها لم تجد عند الفنانين والصحافة والجمهور ما كانت ترجوه من تشجيع، إذ لم يزرها في دارها بشارع المدابغ كاتب ولا صحافي ولا زائر عادي يستمع إلى دعوة أفرادها
(والفن المنحط) الذي تدعو إليه هذه الجماعة لا يمكن أن يقال إنه منحط فعلاً ما دام يجد من يقول عنه إنه فن. إذ أنه لا يمكن أن يكون الفن فناً ومنحطاً في الوقت نفسه إلا إذا كان كاذباً. فالفن هو نتاج الحس لا الفكر. ومتى توفر فيه الصدق فإنه سام رفيع، ولا يفسده شيء ولا يخفض من شأنه شيء إلا أن يكون تكلفاً، فهو عندئذ ليس فناً وإنما هو تهريج وتجارة. وإذا دعا شاعر إلى الفسق في شعره وحسّنه للناس وزينه لأنه يحبه ويجد فيه لذته النفسية، ولأنه يعبر عن هذا الذي يجده تعبيراً صادقاً فلا ريب أن فنه يبهر القارئين لأنه ينفذ من نفسه إلى نفوسهم فإما أن يرضيها وإما أن يؤلمها ويسخطها. وكذلك الرسام المعجب بالأجسام الذي يصور محاسنها ولو في أوضاع يستقبحها العرف وتزورُّ عنها التقاليد والآداب العامة فهو عند الفن ناجح وقادر وعال ما دام يتذوق هذا الذي تستقبحه التقاليد والآداب ويعبر عنه صادقاً في تذوقه وتعبيره
فإذا تصدى شاعرنا للمعاني الروحية المجردة التي لا يحبه هو ولا يتذوقها وأراد بتعرضه لها أن يجاري أصحابها وأن يقال عنه إنه مثلهم روحاني متصوف فإن فنه سينحط ويضعف لأنه سيحتاج في إخراجه إلى الكذب والتزييف والتزوير. وكذلك رسامنا إذا انحرف عن مزاجه الخاص إلى التكلف ما لا تلتفت إليه نفسه من الجمال الروحي لغرض من الأغراض فإنه يكون عندئذ كاذباً ومنافقاً ويكون رسمه منحطاً حقاً
فإذا كانت جماعة الفن المنحط قد تألفت من أفراد صادقين في شعورهم وتعبيرهم ففنهم رفيع من غير شك مهما تواضعوا وقالوا إنه منحط. أما إذا كانوا يتكلفون هذا الانحطاط ففنهم منحط حقاً لا لشيء إلا هذا التكلف. . .
ع. ا. ف
اختصاص المجمع اللغوي في رأي المكتب الفني
كانت وزارة المعارف قد وكلت إلى مكتبها الفني دراسة اختصاص مجمع فؤاد الأول للغة العربية والنواحي التي يتناولها هذا الاختصاص، فدرس المكتب هذا الموضوع من مختلف وجوهه، ورفع مذكرة وافية بشأنه إلى معالي الوزير تحدث في بدايتها عن المجامع العلمية اللغوية فقسمها ثلاثة أقسام هي: المجامع العلمية، والمجامع اللغوية والأدبية، ومجامع الفنون؛ وأشار إلى ما تؤديه كل طائفة من هذه المجامع في مختلف الممالك في العصور الحديثة، فتكلم عن مهمتها في إيطاليا، وبلجيكا، والدنمارك، وإنجلترا، وأيرلندة، وأسبانيا، والبرتغال، وروسيا، وعن طبيعة الأعمال التي تنهض بها. ثم انتقل إلى المجمع المصري فأتى بنبذة عن نشأته وأغراضه التي حددها مرسوم إنشائه، وعرض بعد ذلك آراء كبار الكتاب الذين طرقوا هذا الموضوع في الصحف السيارة وفي داخل البرلمان
وقد رأى المكتب الفني أن مثار الخلاف في الرأي هو اختصاص المجمع اللغوي المصري، مع أن اختصاص أي مجمع قد يتسع فيشمل الكثير من النواحي العلمية واللغوية، وقد يضيق هذا الاختصاص فينحصر في علم أو فن أو ناحية من أحدهما؛ وذكر أن اختصاص المجامع اللغوية مركز في وضع المعاجم اللغوية والتاريخية في وضع الاصطلاحات العلمية والفنية، وأنه يجب ألا يقتصر عمل المجمع على تسجيل الألفاظ التي تستقر في التداول، كما أنه لا ينبغي أن يعهد إلى الهيئات العلمية والفنية بالانفراد في وضع الاصطلاحات، وإنما يجب أن يتعاون المجمع مع العلماء والفنيين في الوصول إلى تحقيق هذا الغرض، بأن يطلب إلى كل منهم - كل دائرة اختصاصه - أن يقدم إنتاجه اللغوي، ثم يجتمع اللغويون في مؤتمرات سنوية أو نصف سنوية لفحص هذا الإنتاج ودراسته رغبة في الوصول إلى اختيار الألفاظ الصحيحة والتراكيب السليمة التي تقابل، في دقة ووضوح، المعاني المطلوبة مع موافقتها لروح اللغة وأصولها
وكذلك يتركز اختصاص المجامع في دراسة اللهجات القديمة والحديثة، إذ هي أساس اللغة وقوامها، فلا غنى عن دراستها
وأشار المكتب في مذكرته إلى ضرورة الاقتصار في الوقت والمجهود من هذه الدراسة. أما
الدراسة الواسعة المستفيضة بلهجات قديمة فإنها من شأن هيئات أخرى تتولاها
وقال في صدد دراسة اللهجات الحديثة: إن أهميتها تقوم على أنها تتصل بالحياة مباشرة، فهي لغة الكلام والتفاهم، وإنه مما لا شك فيه أن هذه اللهجات أقوى من حيث استعمالها وانتشارها وقربها إلى الأذهان، فلا يجوز إذن إهمالها أو التجاوز عنها، لأن دراستها توضح ما طرأ على اللغة الصحيحة من التغييرات والانحرافات في كثير من الألفاظ والتراكيب.
ثم ذكر أن إحياء الأدب العربي أو التشجيع عليه يحسن أن تتولاه هيئات أخرى غير المجمع اللغوي مثل الجامعة ووزارة المعارف ودار الكتب والجمعيات وهيئات الترجمة والنشر. وأشار إلى أهم التعديلات التي يجب أن يؤخذ بها، وهي أن يزاد عدد أعضاء المجمع العاملين إلى ثلاثين عضواً من العلماء المعروفين على ألا يزيد الأجانب منهم على عشرة؛ وأن يتألف المجمع من هيئتين إحداهما مؤتمر المجمع ويتكون من كامل الأعضاء، والأخرى مجلس المجمع ويتكون من الأعضاء المقيمين في مصر.
عناية مدير بلدية الإسكندرية بأسرة المرحوم فليكس فارس
عرض صاحب السعادة مدير بلدية الإسكندرية العام على لفومسيون الإداري في جلسة 5 يوليه مسألة مكافأة المرحوم الأستاذ فليكس فارس كبير مترجمي البلدية، فذكر أنها ضئيلة نظراً إلى أن مدة خدمته كانت قليلة، ولكنه خدم البلدية بإخلاص ونشاط، كما كانت له خدمات صادقات للأدب والعلم. وقد ترك أسرة مؤلفة من أرملة وثلاثة أطفال صغار. ثم اقترح المدير منحهم معاشاً شهرياً عدا المكافأة التي كان يستحقها. فوافق القومسيون على ذلك وقدر هذا المعاش بعشرة جنيهات في كل شهر. وهذا العمل من صاحب السعادة المدير يستحق أجزل الشكر وأجمل التقدير.
اللورد لويد والإسلام
ألقى اللورد لويد خطبة في اجتماع عقد بلندن في الأسبوع الماضي قال فيها: يجب على الحكومة، حينما تبحث المسألة الفلسطينية أو مخاوف مسلمي الهند من الاضطرابات التي يثيرها الهندوكيون، أن تبحثها على ضوء الاعتبارات التي شهدناها في العشر أو الخمس
عشرة أو العشرين سنة الماضية والتي على أن العالم الإسلامي دخل في مرحلة جديدة بقوته المتزايدة وبكل ما يتضمنه الدين الإسلامي العظيم من قوة، مضافاً إلى التعاليم الحديثة.
وختم اللورد لويد خطبته قائلاً: (إن تطوراً جديداً قد طرأ على العالم الإسلامي وهو تطور يجب أن نحسب له حساباً دقيقاً)
حول الجناية على الأدب العربي
حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)
تحية وسلاماً. وبعد. فإنني على فرط إعجابي بالدكتور زكي مبارك وتقديري لآثاره الأدبية لم أرض منه هذا الضرب من النقد الذي يتناول الشخصيات دون الآثار، ويدافع عن الأدب من طريق الجناية على الأدباء. ولو أن نقاد الأدب العربي اتبعوا الطريق التي اختطها الدكتور إسماعيل أحمد أدهم في رده على الدكتور بشر فارس (عدد الرسالة 311)، أم النهج الذي سلكه الأستاذ عبد المنعم خلاب في مقاله (النبوة - الوحي - المعجزة) رداً على مقال نشرته مجلة (الأماني)(العدد 310 من مجلة الرسالة) لكان النقد - كما يرضاه الأدباء - أداة صالحة لتوجيه الأدب الصحيح ولتنقيته من أدران الضعف وشوائب الخطأ
ولعمر الحق إن هذا الطريق التي سلكها الدكتور زكي لملتوية شائكة. بل هي ضرب من الجناية على الأدب ما كان أجدره أن يتحاماه.
إن من أهم مميزات النقد الذي يجعل الإصلاح الأدبي هدفه ومرماه، اللفظ اللين والنقاش الهادئ والحجة الدامغة مع احترام صاحب الرأي المنقود وعدم التعرض لشخصه. فإن كان صاحب الرأي صادق النية نزيه القصد فيما كتب فليس عليه من ضير أن يُنْقَد؛ أما إن كان سيئ النية نفعي القصد، والنقد كفيل بإظهار كل خبيثة، فحسبه ما يجر على نفسه من تفنيد الرأي وتسفيه الحلم وما يتبع ذلك من هبوط سعره في سوق الأدب وأوساط المجتمع (وعلى نفسها جنت براقش)
(الخرطوم)
محمود أحمد عبد الحميد
هل في الحيوان غريزة الغيب؟
قرأت في الرسالة رقم 312 المقال الممتع الذي كتبه الأستاذ عزيز أحمد فهمي فكان أعجب شيء التفت إليه نظري وامتلأ به تفكيري هو ما أورده من تلك الظواهر التي تميل إلى القول بوجود إدراك الغيب عند الحيوان. فقد عاد بي قوله هذا إلى ذكر ليالٍ خلت، أيام كانت فلسطين تتهيأ لتقوم بثورتها الكبرى. ويالها من ليال كانت تملأ قلبي فزعاً وهماً!
حينما يسجو الليل، ويهجع السامر، ويخشع كل جرس، كانت تقوم (وهوهة) حزينة في جبل النار يرجعها بنات آوى كترجيع النائحات، فما كان يخيل إلي ساعتئذ إلا أن في كل بيت من بيوت البلدة مناحة قائمة. وشد ما كنت أتشاءم من ذلك الشعور الذي ينتابني لدى ظهور تلك الأصوات الكئيبة الباكية! فقد كان يذهب بي خيالي إلى أن هذه الأصوات طبيعية بالنسبة إلى ذلك الحيوان، ولكن أذني تحولها إلى تلك الصورة الكئيبة إيذاناً بمصيبة ستلم بي لا قدر الله
وهكذا لم تكن بنات آوى لتخطئ مواعيدها في كل ليلة؛ ولم يكن خيالي ليخطئ في تصوير أبشع ما يتوقعه المرء من شر وسوء
وكانت الثورة، وما أدراك ما الثورة! فطاحت رؤوس، وتمزقت نفوس؛ وإذا البلدة لا تمضي عليها ساعات معدودة في كل يوم دون أن تفجع بحبيب إليها أثير لديها. وكان القوم يوارون الضحايا في سفح جبل النار مثنى وثلاث
ونظرت. . . وإذا الله يستبدل مناحات الأمهات، والزوجات، والأخوات بمناحات بنات آوى. فالأصوات هي هي بعينها، والوحشة تملأ البلدة في وضح النهار فضلاً عن الليل. وذهبت نفسي حسرات، وتصاعدت آلامي المكبوتة زفرات. وما كانت لتطلع الشمس أو تغيب في كل يوم إلا على مأساة من هذه المآسي
وها قد انتهى أمر الثورة. وهاأنا أصيخ بسمعي في كل ليلة عساي أسمع تلك الوهوهة الباكية، أو قل تلك المناحات التي كانت تقيمها بنات آوى فما أسمع صوتاً ولا ركزاً.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
قواعد العربية الفصحى
هذه ترجمة عنوان الكتاب الذي أخرجه في الشهر الماضي الأستاذان (جودفروا دومامبين) من أساتذة اللغة العربية في السوربون سابقاً، و (بلاشير) أستاذ اللغة العربية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس. والكتاب يتناول في نحو خمسمائة صفحة، الصرف والنحو بالتفصيل والتمثيل. ومزيته أنه مؤلف على أسلوب حديث مغاير لكتب قواعد العربية المنشورة باللغات الإفرنجية ولا سيما الفرنسية. وبالأسلوب الحديث نعني ما وصل إليه علم اللغة في هذا العهد من طريق مراجعة أصول فقه اللغات الهندية - الأوربية، ومن طريق النظر في مذاهب اللغات السامية
والكتاب مطبوع في باريس واسم '
رسالة النقد
حول مناظرة وكتاب
نقد ومراجعة
للدكتور بشر فارس
شيء واحد لفت نظري فيما كتبته - في العدد الماضي من الرسالة - الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم خريج جامعة موسكو لسنة 1933 كما جاء في مجلة الحديث، حلب 1938
وأما الذي يكتنف ذلك الشيء من الكلام المرتجل ارتجالاً فلا شأن لي به. وقد أخبرت القارئ من عددين أن قلمي لا يقوى على مجاراة غيره في ذلك الضرب من الكلام. ولولا غضبي للعلم الحق وغيرتي على النقد الصحيح ما كتبت هذا الفصل
قال الأستاذ أدهم: (إن الجملة تنظر إليها العبارة العربية ليست من خلقه (يعنيني)، فقد تكرر ذكرها في كتابات العالم الاجتماعي دوركايم وخصوصاً في مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون: ص 11، 13، 24، 26 مثلاً)
بهذه العبارة يريد الدكتور أدهم أن يقيم البرهان على أن تلك الجملة الفرنسية التي (ليست من خلقي) قد وصلت إلى علمه قبل قراءة كتابي (مباحث عربية). وأني لأرى الأستاذ أدهم يتقول عليَّ: فإني لم أقل قط إني (خلقت) تلك الجملة الفرنسية، إذ أني في (مباحث عربية)(راجع ص 16) أضع الاصطلاحات العربية - من طريق المطالعة أو الاجتهاد - ثم أثبت إزاءها ما ينظر إليها في اللغات الإفرنجية، وذلك رغبة في إغناء لغتنا (وهل أنا أغني لغات الفرنجة؟). وعندي أنه كان يغني الأستاذ أدهم عن عبارته المذكورة أن يثبت لنا الجملة التي استعملها في (مجلة المعهد الروسي للدراسات الإسلامية) - وذلك على وجهها - ولكنه لم يفعل بل لم يبعث إلى بالمجلة كما رجوت منه. وكان بودي أن أرى كيف استعمل المصطلح العربي الخاص بعلم الاجتماع دون غيره، الموضوع في كتابي وضعاً فلسفياً
ومن الظريف أن يذهب الأستاذ أدهم في إقامة برهانه إلى ما لا نرضاه له. فقد استشهد على وجه التخصيص بـ (مجموعة محاضرات دوركايم عن علم الاجتماع في السوربون)
ثم عين فقال: - ص 11، 13، 24، 26) ثم تلطف فقال:(مثلاً)
والذي في الحقيقة أن دوركايم استعمل هذه الجملة غير مرة، وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته، وعلى الأستاذ أدهم التفتيش. غير أن دوركايم لم يستعمل هذه الجملة في (مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون)، وذلك بالرغم من الحكمة:(مثلاً) التي جرت على قلم الأستاذ أدهم، وفيها ما فيها من قوة الإيهام
إني لم أسمع قط بـ (مجموعة محاضرات دور كايم عن علم الاجتماع في السوربون)، مع أني قرأت كتب دوركايم - وهي غير كثيرة - راضياً أو كارهاً، وأنا أحصل علم الاجتماع على ألوانه - فيما أحصل من فنون الفلسفة - في السوربون نفسها، وذلك زهاء سبع سنين. وقد سألت اليوم زميلي في التحصيل في السوربون، الصديق الدكتور علي عبد الواحد وافي - مدرس علم الاجتماع بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - هل يعرف تلك (المجموعة)؟ فأخبرني قال:(لا وجود لها). أضف إلى هذا أن بين يدي الآن كتاباً فيه ثبت المؤلفات في علم الاجتماع (ولا سيما التي تهم الطالب، وأي شيء يهم الطالب مثل المحاضرات، بل محاضرات دوركايم وهو إمام مدرسة علم الاجتماع الحديث في فرنسة؟). وهذا الكتاب عنوانه: ' وليس فيه ذكر لتلك (المجموعة). واعلم أن هذا الكتاب مطبوع في باريس ثماني سنين بعد وفاة دوركايم فضلاً عن أن أحد صاحبيه من تلامذة دوركايم نفسه، واسمه فهو أعلم منا بما أخرج أستاذه لطلاب علم الاجتماع
هذا إلا إذا خرجت تلك (المجموعة) في موسكو حيث تلقى الأستاذ أدهم شتى العلوم. فرجاني منه إذن أن يعين لي (المجموعة) بحيث يثبت العنوان الفرنسي وتاريخ الطبع ومكانه. فإني جد حريص على أن أخبر أساتذتي وزملائي من علماء الاجتماع بوجود تلك (المجموعة)؛ وما أظنهم إلا ناشطين لها، وما أخالها إلا واقعة موقع الحدث
ولعل تلك (المجموعة) - وكلها سر - موجودة على خلاف ما أقوله وما يقوله صديقي الدكتور علي عبد الواحد وافي، وعلى خلاف ما جاء في الكتاب المتقدم ذكره. فتكون القصة أن الأستاذ أدهم لم يحسن نقل عنوان الكتاب من الفرنسية إلى العربية، وذلك لسببين:
أما الأول فلأن العربية ليست (لغة الأصلية)، كما قال في العدد السابق من الرسالة حين أخذ يعتذر إليّ من اقتباس تعبيرات لي.
وأما السبب الثاني فلأن علمه باللغة الفرنسية لا ييسَر له مثل ذلك النقل. وقد ذكرت هذا وعللته مكرهاً، لعددين مضيا، فردّ الأستاذ أدهم قال:(إن اللغة الفرنسية ليست وقفاً عليّ)
معاذ الله أن تكون الفرنسية وقفاً على! غير أني ماذا أصنع وفي نقد الأستاذ أدهم لكتابي (مباحث عربية) ما يؤيد ما ذكرته من عددين؟ ففي رأي الأستاذ أدهم (راجع الرسالة العدد 311 ص 1229) أن استعمالي لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسي تارةً، ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر للمصدر نفسه (وهو بمعنى تارةً أخرى مما (يوقع في اللبس والاختلاط). والواقع الذي أثبته على كُرهٍ أن الأستاذ أدهم لم يدرك الفرق القائم بين اللفظين الفرنسيين:(راجع (مباحث عربية) ص 36، 56 خاصة)، فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية (الأخلاقية)، والثاني يفيد (علم الأخلاق). وحسب الأستاذ أدهم أن يستفسر معجماً فرنسياً للمدارس ذينك اللفظين.
ولك أن تقول: فإذا شقَّ على الأستاذ أدهم أن يحسن النقل من الفرنسية إلى العربية فكيف ارتجل مصدراً ارتجالاً ثم استشهد به وأثبت بضع صفحات (على جهة التمثيل)؟
الحق أني أود أن أعجب عجبك، ولكن ما قولك في هذا الاختلاق:
قال الأستاذ أدهم في نقده لكتاب (مباحث عربية)(الرسالة العدد 31 ص 1229): (يعتبر الباحث (يعنيني) كلمة البصيرة مقابلاً (كذا) ص 2257، والغريب أني لم أثبت كلمة إزاء كلمة البصيرة الواردة في ص 57 من كتابي ولا في صفحة غيرها. فمن أين جاء الأستاذ أدهم بكلمة وكيف جعلني (أعتبر) ما يجهل هل أنا (معتبره)؟
ثم لم لا يترجل الأستاذ أدهم المراجع ويبتدع المصادر، وهو الذي استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من المعهد القديم (الكتاب المقدس) ثم بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم، يوم نقد (مباحث عربية) (الرسالة العدد 312 ص 1274 ثم ص 1275). وإليك بيان ذلك:
أولاً - قال الأستاذ أدهم: (ومما يحسن بي الإشارة إليه أن كلمة المروءة وردت في اللغة العبرية، وهي من أخوات اللغات العربية، نازعةً فيها لمعنى السيادة (دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91)
والذي في كتاب (ملتقى اللغتين: العبرية والعربية) للأستاذ مراد فرج: (مرا: فتح فكسر
ممال ممدود بمعنى السيد وولي الأمر - دانيال 14 - 19 والأصل العبري 16) (يريد، على أسلوب جمهور العلماء: الإصحاح 14 والآية 19 في الأصل العربي والآية 16 في الأصل العبري)
ومن المستحيل أن يكتب الأستاذ فرج: الإصحاح 14 (الرابع عشر)، لأن (سفر دانيال) اثنا عشر إصحاحًا فقط ومن هنا تبين لي أن الإصحاح 14 من غلطات الطبع. فسألت في ذلك زميلي الدكتور مراد كامل - مدرس اللغات السامية بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - فأخبرني بعد المراجعة قال:(إن الصواب هنا: الإصحاح 4 (الرابع) والآية 16 و21)
وهكذا ترى كيف جاء الأستاذ أدهم ونقل ما في كتاب الأستاذ فرج من غير تحقيق ولا روية. والظريف أنه استشهد بسفر دانيال أول ما استشهد، إذ قال:(كيت وكيت: دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91) كأنه اطلع على سفر دانيال قبل (ملتقى اللغتين) لفرج
ثانياً - قال الأستاذ أدهم - عند الكلام على أنساب العرب -: (ولكنا على الرغم من ذلك، نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة: ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج3 (كذا) ص 187. والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التي تناثر في الصحراء من القبائل العربية التي تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب: الفهرست ج3 (كذا) ص 187 وكذلك لنا (يعني كتاباً له): علم الأنساب العربية ص13 - 14)
على هذا النحو ترى الجزء الثالث (؟) من (الفهرست) لابن النديم يثبت مرتين على سبيل المرجع. وليس للأستاذ أدهم أن يستنجد بغلط الطبع، إذ في كتابه الذي ذكره:(علم الأنساب العربية): (مجلة الحديث، حلب 1938 ص14) ما جاء في نقده حرفاً بحرف.
هذا والمعلوم أن (الفهرست) لابن النديم طبع مرتين: مرةً في 1872، ومرة في مصر سنة 1348 للهجرة. وفي كلتا المرتين خرج (الفهرست) في جزء واحد والذي حدث في هذا الموطن أن الأستاذ أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنَّة، دأبه مع (سفر دانيال). ولو راجعها لعلم أن الكلام على الأنساب يقع في (المقالة الثالثة) (الفن الأول: في أخبار الإخباريين والنسابين. . .) من كتاب
الفهرست، لا في الجزء الثالث منه. ومن هنا يتبين أنه ظن المقالة جزءاً لحظة اقتبس المرجع. وأما الصفحة التي يعينها (ص187) فلا أثر فيها لما يذكره. بل إني قرأت الفن الأول من (الجزء الثالث) كله (طبعة مصر، وهكذا للأستاذ أدهم أن يقول أن حديثه في طبعة ليبتسج!) ولم أعثر على حديث الأستاذ أدهم.
وأما قوله في مرجعه: (ابن حزم نقلاً عن الفهرست. . .) فغاية الاشتباه. لأنه إذا قال ابن حزم من غير تعيين أراد صاحب (الفصل في الملل والأهواء والنحل). وعليه فلنا أن نسأل الأستاذ أدهم أي كتاب لابن حزم يعني، ولابن حزم المولود سنة 383 (أيَّ ست سنوات بعد تصنيف الفهرست) ستة وثلاثون مؤلفاً؟ راجع: بروكلمن (تكملة تاريخ الآداب العربية) ليدن 1937 جـ1 ص694 - 697. ثم إني أعلم أن لابن حزم كتاباً لا يزال مخطوطاً، عنوانه: (جمهرة النسب)، وقد نشر جانباً منه في كتابه: فهل يعني الأستاذ أدهم في مرجعه ذلك المخطوط؟ وإذن فأين اسم الكتاب وأين الصفحة، كما يصنع الناقد الثبت والباحث الثقة؟
وغاية القول هنا: أين الجزء الثالث من الفهرست، وأين النص المستشهد به في ص187، بل في الفن الأول من المقالة الثالثة من الفهرست؟ ثم من ابن حزم هذا، وما كتابه؟
إني والله ليحزنني أن لأثبت كل ذلك، وليزيدنَّ في حزني أن الأستاذ أدهم حدثته نفسه بأن يكتب:(وأظن أن الدكتور بشر لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاءً للمصادرة)(الرسالة العدد 311 ص1225). فليطمئنَّ الأستاذ إلى أني لا أنكر عليه ذلك، وليطمئن أيضاً إلى أن (الكاتبين في العربية) لن ينازعوه الغلبة في استقصاء المصادر على طريقته. إنما العلم دقة وأمانة. . .
وإذا امتد الحديث إلى استقصاء المصادر فما ضرَّ الأستاذ أدهم لو راجع معجمات الفلسفة وكتبها حين تكلم على كلمة في نقده لمباحث عربية كما تقدم. فقد قال: (وهذا (أي: الانتقال دفعة واحدة من المبادئ إلى النتائج) ما يفيد معنى لفظة اصطلاحاً ولغوياً كما يستفاد من مراجعة معاجم اللغة الفرنسية)
فهل يصاب المصلح الفلسفي على وجهه التام والخاص جميعاً في (معاجم اللغة)؟ إني هنا أرشد الأستاذ أدهم إلى (المعجم الاصطلاحي والنقدي للفلسفة) للأستاذ (باريس 1932)
فثمة يدري كيف يذهب الإصلاح الفرنسي إلى أبعد مما يظن. وله أن يقرأ أيضاً - ليحكم معرفة المصطلح لهذا العهد مثلاً - كتابين للفيلسوف برجسون وهما ' (الباب الثاني) ثم كتاباً للعالم بوانكاريه (الفصل الأول من الباب الثالث
وإذا أراد الأستاذ أدهم أن يعرف ما تحت مصطلح قبل هذا العهد فعليه ببعض ما كتبه خاصةً في (نقد العقل الصرف) ثم شوبنهاور
هذا من جهة المصطلحات الفلسفية، وأما من جهة المواضعات العربية فما ضر الأستاذ أدهم لو راجع معجمات اللغة ونظر في دواوينها قبل أن يكتب في نقد (مباحث عربية)(الرسالة، العدد 311 ص1229): (ثم عندك قول الكاتب (يعنيني) إن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى). ثم يزيد:(ففي هذا التعبير لفظة المتجاور تفيد إفرنجياَّ معنى والقصور واضح في التعبير العربي (كذا!) فضلاً عن أن التعبير غير مستقيم من جهة البناء اللغوي (كذا!) ولكي تتسق مفادات العبارة لا بد من إبدال لفظة: المتجاورة من الجملة بالمتشابهة لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة)
على أني لا أحب أن أسأل الأستاذ أدهم كيف يناقشنا في لغتنا وهو لا يزال يأخذها عنا، كما اعترف بذلك في خاتمة مقاله المنشور في العدد الماضي. إن كل ما أبتغيه أن أرشده إلى كتب اللغة العربية ليتبين أن معنى لفظة تؤديه في العربية الفصحى لفظة (المترادف)(وما هذه اللفظة عنيت في جملتي المذكورة قبل). وأعلم أن كلمة في الإفرنجية هي الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (أو متقارب). وإلى الأستاذ أدهم (مثلاً) فصلاً قريب المنال في (المزهر) للسيوطي (النوع السابع والعشرون)
العلم في مصر أمسى شيئاً مقدساً له سدنته وله حراسه. فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبيت والدراية؟. . .
فالرؤية الروَّية عند الإقبال على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه. والنقد أمر لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده. والنقد للعلم مصباح على أن يكون الزيت لا دخل فيه!
بقى أن أودع القارئ، وأنا راحل إلى أوربة بعد أربعة أيام. وإني لشاكر له صبره، فقد أطلت الكتابة في سبيل (وضع الشيء موضعه). ورجائي منه أن يتحقق ما جاء في هذه
الكلمة: فكتاب (الفهرست) و (سفر دانيال) - مثلاً - مبذولان لكل أحد. وإني لمطمئن إلى أن القارئ سيعرف - من طريق المراجعة والتحقيق - كيف ينظر عني فيما يبدو لهذا أو لذاك أن يكتب ويكتب والسلام، وإلى اللقاء بعد أربعة أشهر
بشر فارس
دكتوراه في الآداب من السوربون