المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 315 - بتاريخ: 17 - 07 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣١٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 315

- بتاريخ: 17 - 07 - 1939

ص: -1

‌بين بطء الماضي وسرعة الحاضر

من الأحاديث العابرة. . .

- اجلس قليلاً يا صديقي نتحدث! لقد أصبحت كالطيف النافر لا نسمعك هُتافاً إلا لمحاً ولا نجالسك إلا لماماً

- عصر السرعة يا صديقي! لقد اشتد سائق الركب وأسرع في النغم حاديه! فمن تخلف عن قافلة الحياة افترسه الجوع وتخطفه العدم!

- أوه! أجل يا صديقي! عصر السرعة، أو عصر الآلة، أو عصر الإنسان ذي الزمبلك! أسماء مختلفة لمرض واحد: هو كَلَب هذه الحضارة الغربية!

- أتسمى نشاط الحياة وسرعة العمل ومساورة الرزق مرضاً؟ وأين تكون الصحة إذن؟ أفي الخمود أم في القعود أم في التخلف؟

- رويدك يا صديقي! هل تستطيع أن تقول لي: لماذا يسرع الناس؟ أليقطعوا العمر في أعوام؟ أليفنوا الشباب في أيام؟ أليقضوا اللذة في ساعات؟ وما قيمة كل ذلك في دَرَك السعادة؟ لقد كنا نشتغل بعض اليوم، فأصبحنا نشتغل كل الليل؛ وكنا نعمل باليد، فأصبحنا نعمل بالآلة؛ وكنا ننتقل بالجمل، فأصبحنا ننتقل بالطيارة؛ وكنا نأكل مطمئنين في البيت، فأصبحنا نأكل مضطربين في الشارع؛ وكنا نقيم العرس أربعين يوماً والمأتم سنة، فأصبحنا نقتصر من الفرح على ساعة العقد، ومن الحزن على تشييع الجنازة؛ وكنا نخلق الكائن الفني في دهر طويل من العمر ليكون متعة الذوق والذهن والعاطفة طول الأبد، فأصبحنا نصوره في ليلة ليفرغ الناس من تقديره في لحظة. فهل وجدنا من رخاء الصدر وسكينة الروح مقدار ما فقدنا من راحة البدن وفسحة الأجل؟

- وما يدريني؟ لو أنني أدركت العهدين لجاز أن أحسن الموازنة وأصيب الحكم؟

- أنا الذي أدركت العهدين، وأستطيع أن أقول لك إني أشعر بالفرق بين بطء العيش وسرعته، كما يشعر الظامئ الآمن بالفرق بين الرشيف والجرع، وأدركه كما يدرك المتنزه الشاعر الفرق بين اجتياز الروض على القدم واجتيازه في السيارة. لا ريب أن الشارب إذا ترشف وتمززه كان ذلك أنضح لغليله وأبرد على كبده من العَب الذي يعجل الري ولكنه يؤجل الهناءة. كذلك المتنزه على قدميه يجد في كل خطوة عالماً من الجمال، وفي كل وقفة

ص: 1

فيضاً من اللذة؛ على حين لا يجد راكب السيارة إلا الخوف في كل نظرة، وإلا الخطر في كل كرَّة!

أنظر! هذا الذي تراه واقفاً بعربته أمام الدار عامل من عمال (أورزدي باك). طلبنا من هذا المتجر بالتليفون بعض متاع البيت وحاجة العيش، فأرسله بالسيارة، وتسلمه الخدم، ولم نجد نحن الذين كلفتنا هذه الصفقة عشرة جنيهات ما كان يجده المشترون المتذوقون من لذة الانتقاء وفرحة الاقتناء وغبطة القدرة

هذه (العملية) التي لم تستغرق غير ساعة من النهار كانت في حياتنا القروية الذاهبة تقتضي من الزمن أسبوعاً ينقضي بين سوابق اللذة وآثارها مذهَّب الأطراف بالأحلام، مطرز الحواشي بالصور، لا تكاد الأسرة تفيق من نشوته ولا تنتهي من حديثه!

دعني أَعُد بالذاكرة إلى حدود الماضي البعيد فأذكر لك كيف كان رجال القرية يشترون حاجة عامهم من السوق. كان بين القرية والمنصورة ساعة ونصف بالحمارة السريعة، فأصبح بينهما اليوم ربع ساعة بالسيارة البطيئة! وكان القوم متى باعوا القطن أكثروا الحديث عن المتاع والكسوة والمنصورة، فتتهيأ الأذهان من قبلُ للسوق كما يتهيأ قلب المؤمن في رمضان للحج، وفكرُ (المتمدن) في أبريل للاصطياف. فإذا جاء يوم السوق الذي تواطأ رجال (الحارة) على الامتياز فيه، كان كل شيء على تمام الأهبة: فالبرادع المنجدة على الحمير، والإخراج المخططة على البرادع، والعصيُّ الدقيقة في الأيدي الغليظة، والدنانير الذهبية في الأكياس العميقة، والفطائر الدسمة في المقاطف الوعيبة، وكبير (الحارة) قد تنفس عليه الصبح وهو على حماره في جرن القرية يحبس المتقدم ويستحث المتأخر؛ حتى إذا اجتمعت العِير واكتمل العدد ساروا في سكة السوق سطراً منضوداً يتناسق على نظام المقام والسن. وتسمع ضوضاءها من بعيد فتحار أذنك بين الكلام والضحك والنهيق وحث المطايا بالزجر والضرب، واصطكاك الحوافر بالتراب والحصى. فإذا بلغوا (طلخا) أودعوا حميرهم في (الوكالة) وهي (الجراج) بلغة اليوم، ثم وضعوا الإخراج على المناكب ومضوا صامتين إلى المعبر يركبون منه الفُلك إلى شاطئ المنصورة

وهنا يرفضُّ عن القوم النشاط والزياط والجرأة فيخشعون خشوع الطائر المهيض، لأن

ص: 2

النيل غير الترعة، والسفينة غير النورج، والمدينة التي يسكنها الأفندية غير القرية التي يخيفها كلها أفندي واحد! هاهم أولاء يخرجون من ضيق القارب إلى زحمة الشارع فيمشون في سَواء الطريق أو على إفريزه سلاسل سلاسل يتماسكون عند الخوف، ويتكومون لدى الهلع، ويتصايحون عند الشتات، ويقفون اللحظة بعد اللحظة ريثما يعود الشارد ويلحق المتخلف، حتى ينزل بهم الدليل على (الخواجة) المقصود، ننزل الغيث على الثرى المجهود، فيجلس الكهول على الكراسي، والشباب على الأرض؛ وينشر تاجر القماش وعماله الأثواب المختلفة على عيونهم الشاخصة وأيديهم الفاحصة، فيختلفون على النوع أو على اللون أو على السعر، فتعلو الأصوات، وتعنف الحركات، وتطول المساومة، حتى تخور القوى وتصحل الحناجر ويذهب الوقت فيقبلون أخيراً كل نوع يُعرض، ويرضون كل ثمن يُفرض!

ثم يقومون للغداء فيتخيرون شارعاً غير مطروق يجلسون حلقاً على حاشيتيه ويأكلون فطائرهم بالحلاوة والعنب والبلح وهم فرحون مبتهجون، ثم يعودون إلى البدال والعطار فيستأنفون النزاع على الصنف والسعر حتى يغشاهم الليل فيخرجون من سوق (الخواجات) بُجْرَ الإخراج والغرائر لا يهتدون في النور، ولا يأنسون بالناس، ولا ينتبهون للدليل، فينقطع الضعيف، ويضل الغافل، ويكون عند المعبر افتقاد ونشدان وضجة!

فإذا خلصوا بما معهم من المدينة والنهر واقتعدوا ظهور المطىّ ونشقوا نسيم الحقول انبسطت المشاعر وانطلقت الحناجر فخاضوا في أحاديث السوق، وأفاضوا في أعاجيب البندر، وادعى كل منهم أنه كان أبصر بالبضاعة وأخبر بالسعر وأقدر على الخواجة!

وكان شباب القرية قد انتشروا مع الظلام في طريق العودة يلقون العير ويكفونها مخاوف الليل. وكان نساء الغائبين وأطفالهم يتراقصون على أنغام المنى، ويتسمعون على السطوح لجب القافلة. فإذا دخلت البلد قابلوها بالزغاريد والأناشيد، وقضت (الحارة) معظم الليل في أكل البلح ومص القصب وتساقي الحديث. ثم يصبح الصباح فتفتح الحقائب وتوزع الكُسى وتفرق الهدايا، وتغرق هذه الأسر في فيض من الفرح والمرح مدى أسبوع!

الواقع يا صديقي أن السرعة محنة هذه الحضارة. وذلك أنها وفرت على الناس الصحة وأخرت عنهم الموت حتى نموا وكثروا، فمنهم يتزاحمون على موارد الرزق، ويتسابقون

ص: 3

إلى مظان القوت، فأصبح من لا يجعل جناحيه في رجليه لا يسبق، ومن لا يصل بالعمل يوميه لا ينال!

احمد حسن الزيات

ص: 4

‌ضريبة الجمال

للأستاذ عباس محمود العقاد

الشاطئ عامر ولكنه ليس بالمزدحم، والبحر مائج له زئير، والهواء هائج له صفير، والراية السوداء كالقافية المحزنة تتكرر على مسافات متساويات أو متقاربات؛ قافية محزنة والقصيدة مفرحة تضج بالحركة والحياة!. . . وهذا من عجيب النظم في شعر البحار والحمامات!

وإذا اتسع الأفق أمام العينين حتى كأنهما تنظران إلى مكان واحد، وتجاوبت الأصداء على الأذنين حتى كأنهما قد كفَّتا عن السماع بعد طول التكرار، فهنالك تنطلق الخواطر شتاتاً كما تنطلق خواطر الأحلام بعد تعطيل السمع والنظر، فهي تارة تستقصي إلى ما وراء الأعماق، وتارة تستقرب فلا تتجاوز أدنى المحسوسات، مما علق بالذهن قبيل لحظات معدودات

وهكذا جلست أرقب الشاطئ وكأنني أحلم بما أراه. ومن حق الشاطئ وايم الله أن يحسب في عداد الأحلام

هاهنا وهاهناك تماثيل من خلق الله في المعرض الحافل المتجدد: بعضها ولا ريب تحفة من تحف الخلق والتكوين، وبعضها ولا ريب لازم للمناوبة بين شعور الإعجاب وشعور الرثاء، أو للمناوبة بين إبداء المحاسن وإبداء العيوب

نعمة جزيلة وأي نعمة هذا الجمال الذي لا يقوم بمال

نعمة يستمتع بها أصحابها وغير أصحابها، وربما كان نصيب لابسيها دون نصيب الناظرين إليها، لأنهم يعرضونها ويعطونها والناظرون هم الآخذون

بل هم حريصون على عرضها وإعطاء العيون منها كل نصيب تشتهيه

وإلا فما بال هؤلاء العارضين قد تهيئوا لنزول الماء والماء لا يقبل النازلين فيه!

سيقولون: للشمس لا للبحر!. . . لا تصدقهم!. . . فالشمس أيضاً من وراء سحاب، قلما تسفر من ذلك الحجاب

إنما يتهيئون لحمام من أشعة النظر لا من أشعة الشمس ولا من أمواج الماء، ويا له من حمام مريء على الجمال

ص: 5

وكنت حديث عهد بالضرائب ولجاج الموازنة بين الموارد والمصروفات

ويشاء الحلم أن يستقرب في هذه المرة فيسنح لي خاطر كأسرع ما يكون وأقرب ما يكون:

ما للدولة لا تشارك الجميل في نعمة جماله كما تشارك الغني في نعمة ثرائه والصانع في نعمة ذكائه أو عضلاته!

كل نعمة فللدولة منها حصة. فما بال الجمال لا يحسب من النعم عند مصلحة الضرائب الأميرية؟ أو ما باله يحسب من النعم ولا يدخل في الحساب؟

علم الله لو فرضت ضريبة الجمال لجمعت الدولة الملايين واستراحت من المحصلين، لأن أصحاب الضريبة يؤدونها عن يد وهم شاكرون، ويشكون إن قل نصيبهم منها. . . ويحمدون الله أن خرجوا بها مثقلين مرهقين

وخطر لي قلم المراجعة والمظالم وما يتوالى عليه من الشكايات والمراجعات

أفلانة تطالبها الدولة بألف جنيه ضريبة جمال ولا تطالبني أنا بأكثر من بضع مئات؟ من هو هذا الأعمى الذي ترتضيه الحكومة عاملاً لها في لجنة التقدير؟ ومن هي هذه (الضعيفة الذليلة) التي تذعن لهذا الحيف وتصبر على هذا الظلم المبين؟

وخطر لي ما قبل الشكاية وقبل الرجوع إلى لجنة المراجعة

خطر لي الزوج المسكين وهو داخل على الزوجة العابسة المتحفزة للشجار: تشاجره هو لأنها لا تجد بين يديها الموظف (الأعمى) الذي ظلمها بذلك النصيب من الضريبة، ولا تأمن العقبى من (التعدي في أثناء تأدية الوظيفة) والإصرار على تطفيف ذلك النصيب المنزور

- ما بالك يا عزيزتي مهمومة البال؟

- مالي أنا؟ بل قل مالك أنت بين الأزواج؟ قل مالك أنت بين الرجال؟ قل مالك أنت بين خلق الله؟

- أنا؟ وما خطبي يرحمك الله يا أمة الله؟

- نعم أنت!. . . أنت دون غيرك!. . . أنظر إليّ! افتح عينيك في وجهي. افتحهما جيداً وقل لي: هل أنا دون فلانة في الحسن والرشاقة والفتنة والأناقة؟ هل أنا دميمة ذميمة أم هي خيبتي فيك - وا حسرتاه - هي التي خيبتني بين النساء؟

ص: 6

وبعد بكاء واستغراق في البكاء

وبعد جفاء وإمعان في الجفاء

وبعد مائة سؤال ومائة جواب تظهر الحقيقة فإذا هي (تظلم من قلة الضريبة) وإرغام للزوج المسكين على المطالبة بمضاعفاتها في غمضة عين، وهو هو الذي (يغرمها) ويكتوي بنارها. . . وإلا فليس هو برجل بين الرجال، وليست هي بزوجة ترضاه بهذه الحال!

ويخيل إلى صاحبنا أنه يخدعها عن هذا الطلب ببعض الوعود وبعض الهبات، فيعود إلى المراوغة والإغراء:

- يا عزيزتي! يا زينة النساء. . . يا أجمل من خلق الله: أتهمك هذه الفلانة وهي لا ترتقي إلى مقام الجارية تحت قدميك؟ أليس أولى من بذل المال في الضريبة المضاعفة حلية تزيدك جمالاً عل جمال، وحلة تنفردين بها بين الأتراب والأمثال، وشارة تغار منها فلانة، وقُنية بعد ذلك باقية للحفظ والصيانة؟

ثم تشتد الحيرة بالمباركة فلا تدري أي الحسنيين تختار، ولا بد أن تستقر ولا سبيل إلى قرار

هنا الحلية والحلة وما رفضتهما قط بنت من بنات حواء

وهنا الجمال بشهادة الحكومة واعتراف القانون وتسجيل الأوراق الرسمية، وهي حجة تخرس اللسان، ولا تدفع بالبرهان مشكلة!

ولا طاقة للمباركة بحلها

فليحلها الزوج المسكين، بالجمع بين الحسنيين!

خطرت لي هذه الخواطر، وتمثلت القائمين على خزانة الدولة بين إغراءين كاللذين حارت فيهما المباركة صاحبة المظلمة من تطفيف الضريبة

فماذا يصنعون؟

هل ينتفعون بإقبال الناس على البذل والإعطاء فيقبلون من كل باذل، ويستجيبون لكل طلب، ويشهدون لكل راغبة في شهادة؟

أو يؤثرون أمانة الذوق وصدق النظر ونصفة الفن على ضخامة المورد وموازنة الأبواب؟

ص: 7

مشكلة!

لكنها ليست بالمشكلة العويصة فيما أحسب، وليست بالمشكلة التي تحل بالجمع بين الأمرين فيما أعتقد. . . لأن الأمانة في تقويم الجمال، سر قابل للاستغلال، وباب جديد لفرض الضرائب على الخاطبين السائلين، وعلى مسابقات الجمال في غير حاجة إلى محكمين، وعلى أفانين شتى قد تظهر بعد حين، فإن فات الخزانة ربح الطمع فلن يفوتها الربح من هذه الأفانين.

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌حول الوحدة العربية

إلى الدكتور طه حسين

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

أيها الأستاذ:

لقد مضى نحو ستة أشهر على نشر الانتقادات التي وجهتها إليهم - في مجلة (الرسالة) - بمناسبة حديثكم المنشور في مجلة (المكشوف) البيروتية، حول (الوحدة العربية وموقف مصر منها)، وعلى نشر (الفصل الجوابي) الذي أرسلتموه إلى (الرسالة) رداً على تلك الانتقادات

لم أكتب إليكم شيئاً حول هذه القضية خلال هذه المدة لأسباب ستظهر لكم من الأسطر التالية، ومع هذا أشعر الآن بدافع قوي يدفعني إلى مخاطبتكم في هذه المسألة، بالرغم من مرور هذه الأشهر الطويلة، لمواصلة البحث فيها والمناقشة عليها

كنت غادرت بغداد إلى المغرب الأقصى قبل وصول عدد الرسالة الذي نشر فيه ردكم، فلم أطلع عليه إلا في بيروت قبل سفري منها بالطيارة. قرأت الرد هناك فوقعت في حيرة عميقة، لأنني انتهيت من قراءته دون أن أجد فيه كلمة واحدة يصح أن تعتبر رداً على ملاحظاتي الاعتراضية، أو جواباً على أسئلتي الانتقادية. . . لأن الآراء المسرودة في الفصل كانت تحوم حول قضية (وحدة الثقافة) و (واجب مصر في أمر هذه الوحدة) في حين أن هذه القضية لم تكن في القضايا التي اختلفت معكم فيها، بل كانت في القضايا التي شكرتكم عليها! فإنني ختمت مقالتي الانتقادية بالعبارات التالية:

(هذا، وأرى ألا أختم اعتراضاتي، دون أن أتوجه إليكم بكلمة شكر؛ فإني أشكركم من صميم فؤادي على مناداتكم بتوحيد الثقافة بين البلاد العربية، لأنني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. فأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم كل ما بقى من ضروب الوحدة. . .)

فكان من الطبيعي أن أقع في دهشة عميقة من قراءة الفصل الذي نشرتموه في الرسالة تحت عنوان (الرد)

وأخذت أفكر - وأنا أقطع الفضاء فوق أجواء البحر الأبيض المتوسط - في تعليل الخطة

ص: 9

التي انتهجتموها في هذا الباب: (كيف سوغ الدكتور طه حسين لنفسه أن يسمى هذا الفصل ردا؟)

قلت في بادئ الأمر: يظهر أن الأستاذ قد شعر بالخطأ الذي وقع فيه فلم يجد مجالاً للرد على الانتقادات التي وجهت إليه، ولم يرد مع هذا أن يعترف بذلك، فأراد أن يتظاهر بالرد بنشر فصل لا علاقة له بموضوع الانتقاد والاعتراض

غير أنني لم أرتح لهذا التفسير والتعليل، لأنني استبعدت منكم أن تسلكوا مثل هذا المسلك في مناقشة قضية هامة مثل قضية الوحدة العربية، فواصلت التفكير في الأمر إلى أن خطر على بالى تعليل آخر أقرب إلى العقل من التعليل الأول. يقول الدكتور طه حسين: إن الرد هو فصل من كتاب تحت الطبع؛ أفليس من الممكن أن يكون قد حدث سهو في نقل الفصل من الكتاب؟ قد يكون في الكتاب فصل يتضمن الرد؛ غير أن الدكتور قد سها في رقم الفصل؛ فالمطبعة أرسلت إلى (الرسالة) فصلاً آخر غير الفصل المقصود

عندما لمحت هذا الاحتمال، ركنت إليه كل الركون وقلت في نفسي: قد ينشر الدكتور في العدد التالي من الرسالة تصحيحاً لما حدث؛ غير أن سفراتي السريعة سوف لا تترك لي مجالاً للاطلاع على ذلك قبل عودتي إلى بغداد. . فلابد لي من الانتظار إلى ذلك الحين للوقوف على التصحيح، أو لقراء الكتاب

ولهذا السبب، عندما عدت إلى بغداد بعد إتمام رحلتي في المغرب الأقصى والجزائر وتونس وصقلية - أسرعت إلى تصفح أعداد الرسالة التي صدرت في غيابي؛ ولما لم أجد فيها شيئاً يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده، طلبت نسخة من كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)؛ وأخذت أقرأ بانتباه شديد باحثاً فيه عن (الرد). . . غير أنني وقعت في دهشة أشد من دهشتي الأولى عندما انتهيت من قراءة فصول الكتاب بأجمعها، دون أن أصادف فيها أيضاً ما يصح أن يعتبر جواباً على أحد أسئلتي الانتقادية. . . فقلت في نفسي: لم يبق مجال لتعليل الأمر بغير الملاحظة التي كانت وردت على ذهني عقب مطالعة الرد المنشور في مجلة الرسالة

مع هذا لم أشأ أن أكتب شيئاً حول هذا الموضوع، للملاحظتين التاليتين: أولاً، كان قد مضى على نشر ردكم مدة تناهز ثلاثة أشهر بسبب ظروف رحلتي. ثانياً، إن (تباعد الرد

ص: 10

عن موضوع البحث والمناقشة) كان من الأمور الجلية التي لا تحتاج إلى التوضيح والتنبيه؛ كما ظهر لي ذلك من أقوال الشبان الذين حادثتهم خلال رحلتي في باريس، وتونس، وسورية

فقلت في نفسي: لا داعي إلى كتابة شئ في هذا الموضوع بعد انقضاء هذه المدة، ما دام رد الدكتور طه حسين لم يكن من النوع الذي يستطيع أن يخدع أحداً من القراء الأذكياء

ولذلك لم أعد إلى هذا البحث منذ ذلك الحين

غير أنني اطلعت أخيراً على مقالكم المنشور في العدد الممتاز من مجلة الهلال، عن (العقل العربي الحديث). ورأيت أنكم عرضتم في ذلك المقال لمسألة (الوحدة العربية) بطرق ملتوية: بعد أن سردتم بعض الآراء حول (تطور العقل البشري) بوجه عام، وتطور (العقل الأدبي الحديث) بوجه خاص، بحثتم عن وجوب (تجديد العقل العربي)، وذكرتم ما تعتقدونه في وسائل هذا التجديد. . . وفي الأخير، انتقلتم إلى مسألة (الوحدة العربية) بطريقة (ظريفة وطريفة) إذ قلتم ما يلي:

(وربما كان من الأمثلة الظريفة الطريفة التي تبين الفرق بين العقل العربي القديم، والعقل العربي الحديث في هذا العصر الذي نعيش فيه، مسألة الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية التي يكثر فيها الكلام وتشتد فيها الخصومة؛ فما أظن أن الناس يختلفون في أن هذه الوحدة نافعة للشعوب العربية وللشعوب الإسلامية أشد النفع، وفي أن مصالحهم تدعوهم إليها وتدفعهم إليها دفعاً، ولكنهم مع ذلك يختلفون ويختصمون لا لشيء إلا لأنهم يختلفون في تصور هذه الوحدة حسب ما يتاح لهم من العقل القديم أو العقل الحديث. فأما أصحاب القديم فيفهمون هذه الوحدة كما فهمها القدماء في ظل سلطان عام شامل يبسط عليها جناحيه ويحوطها بقوته وبأسه، وليسمَّ هذا السلطان خلافة، وليسمَّ ملكاً كما كان يسمى قديماً، ويجوز أن يسمى إمبراطورية ليكون له حظ من الطرافة، فقد عرف القدماء الإمبراطوريات واحتفظ بها المحدثون من الأوربيين. وكذلك يخدع العقل القديم نفسه فيظن أنه أصبح حديثاً. وأما أصحاب العقل الحديث فيفهمون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المحتضرة بالحضارات الحديثة الأوربية. يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تفيد إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم

ص: 11

في حياتهم الداخلية والخارجية وقامت على الحلف الذي لا يفنى أمة في أمة، ولا يخضع شعباً، وإنما يمكن الأمم من أن تتعاون على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة. فإذا قال صاحب العقل الحديث مقالته هذه ضاق به صاحب العقل القديم أشد الضيق، لأن عقله لم يتطور بعد، ولم يستطيع أن يكون من أهل العصر الذي يعيش فيه، وإنما هو محتفظ بكل مشخصات القرون الوسطى، وهيهات لمشخصات القرون الوسطى أن تسيغ ما يقع في القرن العشرين. . .)

يظهر لي من كلماتكم هذه أنكم بعد أن تهربتم من مناقشة مسألة الوحدة العربية مناقشة مباشرة - حين دُعيتم إليها - أردتم أن تعودوا إليها عن طريق التعريض والتلويح، كما وددتم أن تستهووا أذهان قرائكم عن طريق اتهام معارضيكم بالتمسك بـ (مشخصات القرون الوسطى)، وإلباس رأيكم حلة قشيبة من (مقتضيات العقل العربي الحديث).

فاسمحوا لي إذن أن أتبعكم في هذه الطرق الملتوية، وأن أزن ملاحظاتكم بميزان (العقل العربي الحديث) الذي تشيرون إليه.

لا أدري إذا كان الانصراف عن مناقشة المسائل مناقشة مباشرة، والالتجاء إلى طرق (التعريض والتشويش) في أمرها مما يفيد - في عرفكم - في مقتضيات العقل الحديث. غير أنني أعتقد أنكم تسلمون معي - على كل حال - بأن العقل العربي الحديث يجب أن يكون على غرار العقل الأوربي الحديث، ولا تنكرون - بالطبع - أن (العقل الأوربي الحديث) يتطلب السير على مناحي الأبحاث العلمية، على أساس استنطاق الوقائع والحادثات واستقرائها متجرداً عن تأثيرات الميول النفسانية والآراء القبلانية. . .

فلننعم النظر في الملاحظات التي نقلتها آنفاً عن مقالكم لنرى مبلغ ملاءمتها لمقتضيات (العقل العربي الحديث) الذي تدعون إليه:

أولاً، إنكم تبحثون في كلامكم هذا عن الوحدة العربية والوحدة الإسلامية كأنهما مسألة واحدة، في حين أن إحداهما تختلف عن الأخرى اختلافاً كلياً. فإن فكرة (الوحدة العربية) ترمي إلى توحيد الشعوب التي تتكلم بلغة واحدة، في حين أن فكرة (الوحدة الإسلامية) ترمى إلى توحيد الأمم التي تتكلم بلغات مختلفة، بالرغم من تدينها بدين واحد؛ فالبون بينهما شاسع جداً، فإن الدعوة إلى (الوحدة العربية) لا تتضمن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية

ص: 12

الشاملة؛ كما أن عدم الإيمان بإمكان تحقيق (الوحدة الإسلامية) لا يستلزم إنكار إمكان تحقيق (الوحدة العربية). ولذلك أقول بلا تردد إن خلط هاتين المسألتين، والنظر إليهما بنظرة واحدة، يخالف أبسط حقائق علم الاجتماع، وأبرز وقائع تاريخ السياسة، ولا يتفق مع الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه

ومن الغريب أنكم لا تكتفون بالخلط بين هاتين المسألتين، بل تحشرون بينهما مسألة الخلافة أيضاً بصورة غريبة، وتنظرون إلى هذه المسائل كلها بنظرة واحدة. لقد تعودنا أن نرى آثار مثل هذا الخلط، في كتابات بعض الساسة من الأوربيين المستعمرين، لأنهم ينظرون - عادة - إلى هذه المسألة كلها من وجهة نظر أطماعهم الاستعمارية، ويسعون إلى وصم جميع الحركات القومية والوطنية بوصمة (التعصب الديني) ليثيروا الرأي العام الأوربي عليها. . . غير أننا ما كنا ننتظر منكم أن تقتفوا أثر هؤلاء الساسة من حيث لا تشعرون، وأن تخلطوا بين هذه المسائل بهذا الشكل الغريب.

فأرى من واجبي أن أصرح لكم في هذا المقام، بأنني مع عدد كبير من المفكرين القوميين الذين أعرفهم وأتصل بهم على الدوام أنظر إلى قضية (الوحدة العربية) كقضية مستقلة عن قضايا (الوحدة الإسلامية) و (الخلافة الإسلامية) كل الاستقلال. وأؤكد لكم أنني - بقدر ما أومن بفكرة العروبة، وبقدر ما أعتقد بإمكان الوحدة العربية، وبقدر ما أقول بوجوب السعي وراء تحقيقها - أعتقد باستحالة (الوحدة الإسلامية)؛ وأقول إن (إثارة فكرة الخلافة) مضرة بـ (قضية الوحدة العربية) و (فكرة التضامن الإسلامي) في وقت واحد

هذا ومن جهة أخرى ألاحظ أنكم تسلمون - في مقالكم هذا - بأن (الوحدة) نافعة لـ (الشعوب العربية والإسلامية) أشد النفع؛ وتقولون بأن الناس لا يختلفون في منافع هذه الوحدة، إنما يختلفون في (تصورها حسب ما يتاح لهم من العقل القديم والعقل الحديث). . . كما تصفون لنا نوعي هذا التصور وصفاً بارعاً: بالنوع الذي يقول به (صاحب العقل القديم)، وهو الذي (يتصور الوحدة تحت ظل سلطان شامل)؛ والنوع الذي يقول به (صاحب العقل الحديث)، وهو الذي يتصور الوحدة على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة. . .)

أنا لا أود أن أبحث عن مبلغ مطابقة وصفكم هذا للحقائق الراهنة؛ غير أني أرى من

ص: 13

الضروري أن أقول لكم في هذا المقام إنني قد اطلعت - قبل مدة - على رأى في (الوحدة العربية) يختلف عن هذين الرأيين في وقت واحد: فإن صاحب ذلك الرأي، كان لا يقبل (الوحدة)، (ولو كانت على أساس المساواة)، ولا يرضي بالوحدة، (ولو كانت على نمط اتحاد يشابه الاتحاد الأمريكي أو السويسري). . . فهل تسمحون لي أن أسألكم: أتعتبرون موقع هذا الرأي في العقل القديم أم العقل الحديث؟

لا أشك في أنكم لن تطلبوا مني أن أذكر لكم اسم صاحب هذا الرأي؛ غير أني أظنكم سوف تعذرونني إذا ذكرت ذلك تنويراً للقراء:

إن صاحب هذا الرأي - الذي يخالف مقال صاحب العقل القديم ومقال صاحب العقل الحديث في وقت واحد - هو صاحب (الحديث) المنشور في مجلة (المكشوف)!. . . ذلك الحديث الذي كان مبدأ ومنشأ لجميع هذه المناقشات!

فقد قرأت في ذلك الحديث، العبارة التالية، بحروفها:

(مصر لن تدخل في وحدة عربية، حتى ولا اتحاد عربي، سواء أكانت مساوية فيه للأمم العربية الأخرى أو مسيطرة عليها. . .)(المكشوف - العدد: 175 - الدكتور طه حسين يتحدث عن العروبة. .)

كما قرأت في مكان آخر من ذلك الحديث العبارة التالية، بنصها:

(الوحدة العربية، كما يفهمها ذووها يجب أن تتحقق بشكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري)

(المكشوف - العدد: 175 - الدكتور طه حسين يتحدث عن العروبة. . .)

ترون من كل ذلك أيها الأستاذ أن مسألة الوحدة العربية ليست من القضايا التي يمكن أن تناقش وتعالج بالصناعة الكلامية والاندفاعات الارتجالية. . . كما ترون أن الخطة التي سلكتموها في معالجة هذه القضية تجركم دائماُ ً إلى مواقف تخالفون فيها الحقائق الراهنة مخالفة صريحة، كما جرّتكم في بعض الأحيان إلى مواقف تناقضون فيها أحاديثكم الذاتية أيضاً. . .

إنكم تدعون المفكرين إلى بذل الجهود في سبيل (تجديد العقل العربي). . . وكم كنت أود أن أراكم تعملون بهذه الدعوة في المناقشات التي تخوضون فيها، ولا سيما إذا كان موضوع

ص: 14

المناقشة من الموضوعات الهامة مثل (فكر العروبة) و (الوحدة العربية). . .

(برمانا)

أبو خلدون

ص: 15

‌جناية أحمد أمين على الأدب العربي

للدكتور زكي مبارك

- 6 -

أرى من الواجب في مطلع هذا المقال أن أوضّح مسألتين خفيتا على بعض القراء فجرت ألسنتهم بالعتب والملام.

المسألة الأولى، هي الحكم بأن أحمد أمين ينظر إلى الأدب، وإلى الوجود نظرة عامّية؛ فقد ظن فريق من الناس أننا نقول بأنه من العوامّ في حدود الاصطلاح المألوف، على معنى أنه بعيد عن الجو الذي يعيش فيه العلماء.

وذلك غير ما نريد. فأحمد أمين تلقى العلم في مدرسة القضاء الشرعي وظفر بإجازتها العالية، وجلس للقضاء في المحاكم الشرعية بضع سنين. ثم اشتغل بالتدريس في الجامعة المصرية. فهو ليس عامّياً بالمعنى المعروف، وإنما نريد أن نقول إن أحمد أمين على كثرة ما قرأ في الكتب وما سمع من العلماء لا يزال يفكر كما يفكر العوام.

ولتوضيح ذلك نقول: إن في أهل العلم من يكون أقل اطلاعاً من زملائه، ولكنه قد يكون أقوى منهم في صحة الفهم وسلامة التمييز وقوة الإدراك، فيكون محصوله القليل أجدى وأنفع، ويكون له في أحكام العقل مجال

وفي مقابل ذلك نرى بعض العلماء المزودين بكثير من الثقافات ينظرون إلى الوجود نظرات عامية لا تمتاز بشيء عن نظرات العجائز من قعائد البيوت.

وأحمد أمين قليل الاطلاع في ميدان الأدب العربي بلا جدال، وهو مع قلة اطلاعه يحكم على الأدب أحكاماً عامية، بعيدة كل البعد عن أحكام الخواص، وقد أسلفنا الشواهد التي تؤيد رأينا فيه، وسنسوق شواهد جديدة.

المسألة الثانية، هي التعرض لأعماله المعاشية: فقد استنكر بعض القراء أن نقول إنه يكسب كيت وكيت، وعدوها مسألة شخصية

ونقول إننا تعرضنا لذلك لغرضين: الأول هو النص على أن أحمد أمين مشغول عن الفكر والقلم بشواغل تصرفه عن التجويد في البحث والتفكير والإبداع، والغرض الثاني هو تذكيره بأنه لا يجوز لمثله أن يعيب على أدباء العرب أن يشغلوا بمعاشهم وهو يقتل وقته

ص: 16

بتدبير المعاش

ولو شئت لقلت إن الرجل الذي يدعو إلى هجر الأدب الجاهلي جملة واحدة بحجة أنه يشل التفكير هو نفسه الرجل الذي اشترك في تأليف الكتاب (المجمل) والكتاب (المفصل) والكتاب (المنتخب) بأجر معلوم تعرفه خزينة وزارة المعارف

فإن كان أحمد أمين صادقاً في حكمه على الأدب الجاهلي فكيف جاز عنده أن يشترك في تلك المؤلفات وفيها مكان ظاهر للأدب الجاهلي وهي خليقة بأن تشل عقول التلاميذ؟!

وكنت قلت إن الأستاذ أحمد أمين لا يستطيع أن يخدم الجامعة المصرية بالمجان، وإنه يأخذ منها في كل شهر ستين دينارً، فكتب إلينا أحد المطلعين يقول إنه يأخذ من الجامعة في كل شهر خمسة وثمانون لا ستين

فهل يجوز للرجل أن يأخذ هذا المبلغ بطمأنينة خلقية في تدريس الأدب العربي وهو يعتقد أنه أدب لا يستحق العناية وأنه كان في ماضيه الطويل أدب تسوُّل واستجداء؟

وبعد توضيح هاتين المسألتين أرجع إلى هذا الرجل رجعة قاضية.

لقد دل على مبلغ فهمه للأدب حين ساق هذين البيتين في مقاله الثالث في جناية الأدب الجاهلي:

فما روضة زهراء طيبة الثرى

يمج الندى جثجاثَها وعرارَها

بأطيب من أردان عزة موهناً

إذا أوقَدَتْ بالمندل الرطب نارَها

فقد ضبط هذين البيتين على نحو ما يرى القارئ: فجعل الندى في البيت الأول فاعلاً وجعل الجثجاث والعرار مفعولين، وجعل (أوقدت) في البيت الثاني مبنياً للمعلوم ونصب النار على المفعولية

فهل سمعتم قبل ذلك أن الندى يمج الزهر والنبات؟

لو كان أحمد أمين يتأمل ما يقرأ لعرف أن الندى في البيت الأول من هذين البيتين لا يمكن أن يكون فاعلاً، ولعرف أن (أوقد) في البيت الثاني فعل مبني للمجهول ليجعل الشاعر معشوقته عقيلة تخدمها الوصائف

فهل يستطيع أحمد أمين أن ينكر أنه أخطأ في ضبط هذين البيتين؟

وهل يمكن لمن يثقون بكفايته الأدبية أن ينكروا أن لمثل هذا الفهم الخاطئ دلالة على مبلغ

ص: 17

إدراكه لدقائق المعاني؟

نترك هذا وننتقل إلى أحكامه على الشعر العربي في العصر الإسلامي، وهو يراه لم يتغير من حيث الموضوع فظل كما كان محصوراً في المديح والهجاء والفخر والحماسة والغزل والرثاء

والظاهر أن أحمد أمين لم يدرس الشعر الأموي دراسة تمكنه من فهم الفرق بينه وبين الشعر الجاهلي، فليس بصحيح أن الموضوعات لم تتغير، وليس بصحيح أن الشعراء الأمويين كانوا يتناولون الأغراض الشعرية على نحو ما كان يتناولها الجاهليون

وإذا صح أن الشعر الجاهلي والإسلامي متحدان في الموضوعات فهناك فرق ظاهر جداً بين العصرين في تصور تلك الموضوعات

فالغزل في العصر الأموي فن جديد لا يعرفه العصر الجاهلي، وهل يتصور أديب أن أشعار عمر بن أبي ربيعة كانت لها سوابق عند الجاهلية؟

هل يتصور أديب أن تائية كثير في أغراضها ومراميها كانت لها نظائر في الشعر الجاهلي؟

وهل يصح لأديب أن يقول بأن غزليات العرجي وجميل والحارث بن خالد كانت لها أشباه قبل العصر الإسلامي؟

إن الأمويين تغزلوا كما تغزل الجاهليون، ولكنهم تفردوا بابتكار فن جديد هو القصص الغرامي، فهل فطن لذلك أحمد أمين؟

وهل يمكن نكران ما وصل إليه الأمويون من الرقة والظرف في النسيب؟

أليس فيهم الذي يقول:

إن لي عند كل نفحة بستا

نٍ من الورد أو من الياسمينا

نظرةً والتفاتةً أترَّجى

أن تكوِني حللت فيما يلينا

أليس فيهم الذي يقول:

يا أم عمران ما زالت وما برحت

بنا الصبابة حتى مسَّنا الشفقُ

القلب تاق إليكم كي يلاقيكم

كما يتوق إلى منجاته الغَرق

تعطيك شيئاً قليلاً وهي خائفة

كما يمس بنظر الحية الفَرق

ص: 18

أليس فيهم الذي يقول:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو أبصره الواشي لقرت بلابله

بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى

وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله

وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي

أواخره لا نلتقي وأوائله

أليس فيهم الذي يقول:

ولو سلك الناس في جانب

من الأرض واعتزلت جانباً

ليمعتُ طِيتها إنني

أرى حبها العجب العاجبا

أليس فيهم الذي يقول:

وإني لأستحييك حتى كأنما

عليّ بظهر الغيب منك رقيب

ولو أنني أستغفر الله كلما

ذكرتك لم تكتب عليّ ذنوب

إن تفصيل ما امتاز به شعراء العصر الأموي في النسيب يحتاج إلى كتاب خاص سيؤلفه أحمد أمين يوم يعرف أن الأدب لا يكال بمكيال ولا ينظر إليه بالعد والإحصاء

إن من أعجب العجب أن يقال إن الشعراء الأمويين لم يبتكروا شيئاً في التشبيب، وهم الذين أمدوا لغة العرب بثروة وجدانية ستعيش ما عاشت لغة القرآن

ألا يكفي أن يكون العصر الأموي قد ابتكر الاستشهاد في الحب؟

ألا يكفي أن يكون ذلك العصر هو الذي خلق شخصية مجنون ليلى، وهي شخصية شرَّق سحرها وغرب، فكانت لها أصداء عند الشعراء من أهل الشرق وأهل الغرب؟

ألا يكفي أن يكون العصر الأموي هو الذي فهم أن الحج من المعارض الدولية للصباحة والملاحة والجمال؟

ألا يكفي أن يكون شعراء العصر الأموي هم الذين أذاعوا بين الناس فتنة الهيام بأسرار الوجود؟

ثم ماذا؟

ثم جهل الأستاذ أحمد أمين أن العصر الأموي هو العصر الذي تفرد بإجادة الأراجيز، ولكن هل فكر أحمد أمين في الأراجيز الأموية؟

الحق أن العصر الأموي يحتاج إلى أدباء عظام يسجلون فضله على اللغة العربية، ففي ذلك

ص: 19

العصر ظهر الشعر السياسي، وهو فن من الأدب يختلف عن التعصب للقبيلة كل الاختلاف، وله مزايا وخصائص تنتظر أديباً له نظرة خاصية لا عامية

فمتى تعرف كلية الآداب ذلك الأديب؟

إن من العار أن يقول أستاذ من كلية الآداب بأن الأدب في العصر الأموي ليس إلا صورة من الأدب في العصر الجاهلي

وهل يستطيع إنسان أن يقول بأن الكميت بن زيد الأسدي كان له نظير بين شعراء الجاهلية؟

إن العصر الأموي ينتظر أديباً يفهم أنه كان صلة الوصل بين العصر الجاهلي والعصر العباسي، ويدرك أنه تحرر كل التحرر من العقلية الجاهلية

فمتى تعرف كلية الآداب ذلك الأديب؟

إن عميد كلية الآداب اليوم هو الأستاذ محمد شفيق غربال، وهو مؤرخ جليل يفهم أن دراسة تاريخ القرون الوسطى أمر واجب، لأن ذلك التاريخ كان الصلة بين القديم والحديث، فهل نستطيع أن نشير عليه بأن ينشئ في كلية الآداب كرسيا للعصر الأموي الذي جهله أحمد أمين؟

ليت، ثم ليت!!

إن المسافة بين العصر الجاهلي والعصر العباسي طويلة جدّاً، لأنها تقع في نحو خمسين ومائة سنة، وهي المدة التي انتظمت عصر النبوة وعصر الخلفاء وعصر الأمويين، وفي تلك المدة كانت الشخصية العربية هي الشخصية التي تهدد ممالك الأرض، والتي تسنّ شرائع الفتوّة وقوانين المجد، والتي تلوّن العالم بألوان مختلفات، والتي مكنت العرب من أن يكون لهم صوت مسموع في أقطار المشرق والمغرب

فهل يُعقل أن يكون أدب العرب في ذلك العهد صورة ثانية من أدبهم في أيام الجاهلية؟

ومن الذي يصدق أن الشعراء المسلمين كانوا يتهاجون على نحو ما كان يصنع الجاهليون؟

وهل خطر ببال أحمد أمين أن العصبية السياسية في العصر الإسلامي كانت لها ألوان لم يعرفها شعراء القبائل في الجاهلية؟

هل فكّر في تحديد الخصائص الشعرية للمدح والهجاء في العصر الأموي؟

ص: 20

وهل تنبه إلى ما ابتكره الشعراء الأمويون حين أوقدوا نار العصبية الجاهلية؟

يعزّ عليّ والله أن يقع في هذه الأخطاء أستاذ فاضل من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية، وهي اليوم معهد عظيم يحج إليه طلبة العلم من أقطار الشرق

يعز ّ عليّ أن يكون في رجال الجامعة المصرية من يفهم أن العصر الإسلامي صورة من العصر الجاهلي في التفكير، وطرائق التعبير مع أن ذلك مستحيل

وهل يتصور عاقل أن خطب علي بن أبي طالب صورة من خطب أكثم بن صيفي مثلاً؟

هل يقول مفكر بأن رسائل عبد الحميد صورة مكررة لما كان يكتب الجاهليون؟

وهل يمكن القول بأن معاوية كان يكتب بأسلوب عمر بن الخطاب؟

إن التطور شريعة طبيعية يا صديقي، فكيف تتوهم أن يكون العرب خرجوا وحدهم على تلك الشريعة؟

إن العرب في أدبهم وتصورهم وعقليتهم قد انتقلوا من حال إلى أحوال، وإن غاب ذلك عن فطنتك الواعية

وأين أنت من القصص الرائع الذي عرفته المساجد في العصر الأموي؟

أين أنت من الشعر الرقيق الذي ابتكره الأمويين في وصف مجالس الأنس والشراب؟

وهل تعرف يا حضرة الفاضل أن العصر الأموي ظلم أقبح الظلم حين اعتدى عليه خلفاء بني العباس بالمحو والتبديل؟

هل مرّ في خاطرك أن العصر الأموي رُزِئ بمؤامرة سياسية حَرَمتْ تاريخه الأدبي من نعمة الوجود؟

ثم ماذا؟

ثم يتحذلق الأستاذ أحمد أمين فيقرر أن الخضوع للأوزان الجاهلية والقوافي الجاهلية جنى علينا جنايات كبرى، لأنه (حرمنا من الملاحم الطويلة التي كانت عند الأمم الأخرى وحرمنا من القصص الطويلة الممتعة)

وهذا الحكم يشهد بأن أحمد أمين يجهل طبيعة الأمة العربية بعض الجهل، ويجهل طبائع الأمم الأخرى كل الجهل

إن أحمد أمين لا يعرف أن العرب ليس في طبيعتهم أن يأنسوا بالمنظومات المطولة في

ص: 21

القصص والتاريخ، وهو يتوهم أن العرب كان يجب عليهم أن يسلكوا في الشعر مسالك اليونان، وذلك خطأ فضيع

إن عبقرية العرب ليس في القصص، وإنما عبقرية العرب في الغناء والتعبير عن الأنفاس الروحية. وفي بلاد العرب نشأت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية، وفي بلاد العرب نشأت أحاديث القلب والوجدان، وهم بلا جدال أصدق من تحدث عن الأرواح والقلوب

فإن امتازت لغات الشرق والغرب بالمنظومات الطويلة في القصص والتاريخ فقد امتازت لغة العرب بأكرم أثر عرفه الوجود وهو القرآن، وهو حجة اللغة العربية يوم يقوم التفاخر بين اللغات بالأحساب

والى الأستاذ الجسر أوجه الكلمة التالية:

أنت تعجب أيها السيد من أن نمنح أحمد أمين (قدرة الجناية على الأدب العربي) وأجيب بأن أحمد أمين ليس من النكرات حتى نتركه يتحذلق كيف شاء. إن أحمد أمين أستاذ بكلية الآداب يا حضرة السيد، وكلية الآداب من أكبر معاهدنا العالية، وما يصدر عن أساتذتها الأفاضل قد يتلقاه أكثر الناشئين بالقبول

وما الذي تخشاه من منح أحمد أمين ما لا يستحق؟

إن كان هجومنا عليه يعطيه فرصة جديدة من فرص الشهرة فلا بأس، فهو صديق عزيز، والتنويه بشأنه من أوجب الفروض

المهم (يا حضرة السيد) أن يعرف أحمد أمين أن في مصر رقابة أدبية تزجر المتطاولين على ماضي الأدب العربي وتصرفهم عن اللجاح فيما لا يفيد

ونحن لا نحارب أحمد أمين بالذات، وإنما نحارب الآراء التي نقلها نقلاً عن خصوم اللغة العربية، وسنرى في المباحث الآتية ما يشفي صدور قوم مؤمنين

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 22

‌في اللغة

إخوان الفوارس

لأستاذ جليل

إخوان الفوارس (أي هذا الجمع الشاذ) هم أكثر من السبعة اللذين ذكرهم الصحاح والتاج، وجئبهم في جزء سابق من (الرسالة الغراء) والسبعة هم: الفوارس، والهوالك، والنواكس والخوالف، والفوارط، والغوائب، والشواهد

فهناك ستة غيرهم أظهرهم موهوب بن أحمد الجواليقي في (شرح أدب الكتاب) وأودعهم البغدادي (خزانته) وهناك اثنان ذكرهم التبريزي في (شرح ديوان الحماسة) وهذه جريدة الثمانية:

1 -

الحوارس جمع حارس

2 -

الحواجب جمع الحاجب، من الحجابة

3 -

الخواطئ جمع الخاطئ، من ذلك ما جاء في المثل: مع الخواطئ سهم صائب

قال التاج. يضرب لمن يكثر الخطأ ويصيب أحياناً، وقال أبو عبيدة: يضرب للبخيل يعطى أحياناً

4 -

الروافد جمع الرافد

قال ضمرة بن ضمرة النهشلي:

وطارق ليل كنت حَم مبيته

إذا قل في الحي الجميع الروافد

قال الأنباري شارح المفضليات: الروافد جمع الرافد كقولك فارس وفوارس، وهي أحرف (يعني كلمات) يسيرة. والرافد المعونة، وحم مبيته: قصد مبيته

5 -

الحواج: جمع الحاج

6 -

الدواج: جمع الداج

ومن أيمانهم - كما جاء في اللسان -: أما وحواج بيت الله ودواجه لأفعلن كذا وكذا.

والداج - كما يقول الأساس - هم الذين يمشون مع الحاج من أجير أو جمال أو نحوهم من دج دجيجاً بمعنى دب دبيباً، ومنه الدجاج، وفي التاج: الداج التباع والجمالون، والحاج أصحاب النيات

ص: 23

وفي الفائق: رأى ابن عمر قوماً في الحج لهم هيئة أنكرها. فقال: (هؤلاء الداج وليسوا بالحاج). قالت النهاية: أي هؤلاء لا حج لهم إلا أنهم يسيرون ويدجون:

7 -

الخوارج: جمع الخارج

8 -

البواسل: جمع الباسل

قال التبريزي في شرح بيت الحماسي:

وكتيبة سفع الوجوه بواسل

كالأسد حين تذب عن أشبالها

(بواسل رده إلى الكتيبة، وفواعل في صفة الرجال قليل. يقال: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وناكس ونواكس، وخارج وخوارج). . .

وممن لم يذكروهم (عواذل) دعبل و (لواحي) علي بن الخليل من شعراء الأغاني. يقول الأول في قصيدة زواها أبو علي في (أماليه):

قال العوازل: أودي المال. قلت لهم:

(ما بين أجرٍ وفخرٍ لي ومحمدة)

أفسدت مالك. قلت: المال يفسدني:

(إذا بخلت به والجود مصلحتي)

ويقول الثاني، وعنده العوازل واللواحي:

إذا ما كنت شاربها فسرا

ودع قول العواذل واللواحي

وفي التاج: اللواحي: العذال، والعذال من جموع العاذل. وفي اللسان: اللواحي: العواذل

وقال الجوهري في (صحاحه): قول الراجز:

لقد علمتُ والأجلِّ الباقي

أن لا تردُّ القدرَ الرواقي

كأنه جمع امرأة راقية أو رجلاً راقية بالهاء للمبالغة. أو رجلاً راقياً بغير هاء حتى ينضوي هذا الجمع إلى ذاك الجيش. . .

هذه جريدة ما وجدناه، وقد يكون هناك ما ذهب علينا، وهي العربية المتبحبحة في كلماتها ولغاتها. قال الإمام محمد ابن إدريس الشافعي في رسالته في أصول الفقه:(لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً. ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي)

(ق)

ص: 24

‌دمعة على الصديق الراحل

فليكس فارس

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

(دمعة عل جثمان الصديق الراحل فليكس فارس المسجى بين

الورود ألقيت في الحفل الكنائسي الذي أقيم للصلاة على روحه

عصر الأحد 2 يوليه 1939 ببهو الكنيسة المارونية)

هناك من الناس من تعرفهم فتشعر كأن لك بهم معرفة من قبل. ذلك لأنهم لا يعرفون عن طريق الصلات الزمنية، وإنما هم يعرفون عن طريق الجو الذي يخلقونه حولهم. وما كان الصديق الراحل فليكس فارس إلا واحداً من هؤلاء: عرفته صيف عام 1936 فسرعان ما تآلفنا وتآخينا. ولم يمض القليل من الزمن حتى أصبحنا آلفين لا ينقضي الأسبوع دون أن نتقابل فنتجاذب الحديث في شأن من شئون الحياة التي نحياها. وكثيراً ما كان يدور هذا الحديث على عوالم الفكر والشعور. وظلت صلتي بالراحل الكريم قوية حتى آخر لحظاته. فقد كنا حوله في الأيام الأخيرة وهو يجود بأنفاسه الأخيرة. لهذا كان نبأ نعيه لنا معشر أصحابه وخلانه صدمة أليمة. وكان قاسياً علينا أن نراه أمس حيّاً بيننا يملأ جونا بروحه حياة وأنساً، وإذا به اليوم قد همد فيه عنصر الحياة الذي كان يطوف على شفتيه ابتسامة وعلى شغاف قلبه حنواً وعطفاً. . .

إن هول فجيعتنا في فليكس فارس كبيرة، جعل الدموع تجمد في أعيننا فظللنا بسحابة قاتمة أرسلت سوداها على صفحات قلوبنا فغمرتنا موجة من الكآبة، فإذا لم تظهر على صفحات وجوهنا - نحن معشر خلانه - فداحة المصاب دموعاً. . . فذلك لأن مصيبتنا بموت الصديق أقوى من أن يظهرها بكاء أو دموع. . .

إيه أيها الرجل الكريم!. . . إن تلك الدموع التي جرت من عينيك وتجمعت في مآقيك ثم سالت على صفحات وجهك يوم زرتك للمرة الأخيرة؛ وإن كلماتك التي خرجت من أعماقك مختلطة بنشيجك توصيني خيراً بفلذات كبدك، كل هذه دخلت في عالم ذكرياتي ولن تذهب من نفسي، فلقد دلت كلماتك وعبراتك على أن في الحياة عنصراً أقوى من كل القيود

ص: 25

والسدود التي يقيمها البشر أبناء الحياة الواحدة للتفرقة فيما بينهم، هذا العنصر يتجلى ساعة يأخذ الإنسان في الانحدار من عالم الحياة، وساعة يحس بانحسار عنصر الحياة عن جسده؛ في ذلك الحين يحس بشعور أقوى من كل إحساس بعوامل التفرقة بين أبناء الحياة الواحدة، أقوى من الإحساس بالدين والوطن والجنس. وهذا الشعور يدفعه إلى أن يمد نفسه على رحاب الحياة وينسحب عليها متعلقاً بمظهرها الخالد المتأجج ناراً والمتجدد في أبناء الحياة من جيل إلى جيل، فيرى في كل إنسان أباً لأولاده.

إيه يا أبا حبيب!. . إن آخر الكلمات التي تزودتها منك دارت حول الأيمان والحياة، وهي كلمات لن تذهب معانيها وصورها من رأسي لأنها تدل على إيمانك العميق بالحياة، ومن هنا كانت رحابة اعتقادك التي تجوّز أن تكون الحقيقة حتى في كلام خصمك. . . خصمك في الاعتقاد والرأي، ومن هنا أيضاً فهمت سرّ اتساع أفق اعتقادك لآرائي التي كانت تقف على نقيض آرائك.

إيه يا أبا أديب!. . . لقد فقدْتُ بارتحالك شيئاً من نفسي كُنتَ ترده عليَّ حين ألقاك. وفقد أصدقاؤك بارتحالك إنساناً ودوداً براً. . . وما أقل الأناسي في هذا الزمان!. . . أنظر أيها الراحل الكريم من وراء أكفانك تجدنا جمع أصدقائك قد بلبلت أذهاننا فداحة مصابنا فيك. ها هو ذا صديقك (خليل) وأخوه (صديق) أنظرهما يبكيان فقدك. وهاهو (أدهم) الحبيب إلى نفسك الذي كنت تداعبه باسم (الحكيم) فقد اليوم حكمته؛ فقد تبلبل منه الذهن واختلطت في صدره المشاعر. لقد صدم الكل بارتحالك فذرفوا الدموع سخينة من أجلك. . .

إيه يا أبا سلوى!. . . لقد كنت باتساع أفق شعورك ورحابة مدى نفسك تغمرنا بروحك وترتفع بنفوسنا وتضرب لنا مثل الإنسان كما يجب أن يكون في هذه الحياة. ولو لم يكن لك غير هذا الأثر في نفوسنا معشر أصحابك لكفى أثراً لا تزول ذكراه

أما عن الأثر الأدبي الذي تركته للغتك فأغنيتها بأسلوبك الحي وبيانك الرفيع فإنه باق ما بقيت العربية. وأما عن الحياة التي حييتها نموذجاً لأصحابك فإنها باقية ما بقى أصحابك. فارقد في ظلال الأبدية تحت أشجار الأرز الخالد التي كنت تتمنى أن ترقد تحتها أيها الصديق الكريم. ولتنزل على روحك السكينة فإن أصدقاءك الذين تركتهم يبكون فقدانك سوف يؤدون دينهم نحوك وسيقومون بالعمل في الميدان الذي كنت تعمل فيه لتحرير هذا

ص: 26

الشرق النائم

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 27

‌في بلاط الخلفاء

حماد وهشام بن عبد الملك

للأستاذ علي الجندي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

كان هشام بن عبد الملك من الخلفاء الذين يُؤثرون أن يتمتعوا بالطيبات من الرزق، ويظهروا نعمة الله عليهم، ويوفّروا الأبهة والجلال لمقام الخلافة! فلم يكن في آل مروان من كان أسرَى منه ثوباً، ولا أعطر رائحة، ولا أكثر زينة، حتى إنه حين خرج حاجا حُمِلت ثيابه على ستمائة جمل!

فماذا رأى حماد حين دخل إليه؟

رأى داراً قوراء مفروشة بالرخام، تضم مجلساً فرش كذلك بالرخام بين كل رخامتين قضيب من ذهب!

وفي بُهْرة المجلس فوق طِنْفِسة حمراء جلس هشام عليه ثياب من الحزّ الأحمر، وقد تضمّخ بالمسلك الأحمّ والعنبر الأشهب! وبين يديه آنية من ذهب فيها مسك مفتوت يقلبه بين يديه فتعِجّ رائحته في المكان فتفَغم الأنوف!

فاستطير عقل حماد، واعتاقت الهيبةُ جنانه، فثقُلت خُطاه ورَبا لسانه في فمه! ولكنه استنجد بكل قواه، وسلّم على هشام بالخلافة، فرد عليه السلام واستدناه منه، فدنا حتى قبل رِجْله!

ثم نظر بِمُؤْخِر عينه فإذا جاريتان كأنما التمستا غِرّة من رضوان، فهبطتا من فراديس الجنان! في أذنيْ كل منهما حَلْقتان تُطِلّ منهما لؤلؤتان لامعتان يَرِفّ سناهما على تلك الوَجَنات البضّة رفيفَ سقيط الطلّ على أكمام الورود!

فأخذ حماد يُسارقهما النظر وهو مشتَرك اللب موزَّع الفؤاد! ولكن الخليفة لم يلبث أن هتف به: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟

فاسترجع عازب عقله، وأجاب ومتلعثماً: إني بخير يا أمير المؤمنين

- أتدري لم بعثت إليك؟

- لا يعلم الغيب إلا الله

ص: 28

- بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله

- ما هو يا أمير المؤمنين

- قول القائل:

ودَعوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءتْ

قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ

- هذا يقوله عَدِيّ بن زيد العِبادي من قصيدة له

- أَنشِدِنيها

فأنشد حماد:

بكَر العاذلون في وَضح الصُّبح (م)

يقولون لي: ألا تستفيقُ

ويلومون فيك يا ابنةَ عبدِ الله (م)

والقلبُ عندكم موثوق

لستُ ادري إذ أكثروا العَذْلَ فيها

أَعَدُوٌّ يلومني أم صديق

زانَها حُسنها وفَرعٌ عَميم

وأَثِيثُ صَلْتُ الجبين أَنيق

وثَنَايَا مُفَلّجاتٌ عِذَابٌ

لا قِصار تُرى ولا هنَّ رُوق

ودَعوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت

قَيْنةٌ في يمينها إبريق

قدَّمَتْه على عقارٍ كعين الدِّيك (م)

صَفّي سُلَافَها الرَّاوُوق

مُرَّةٌ قبل مَزجِها فإذا ما

مُزِجت لَذَّ طعمَها مَن يَذوق

وطَفَت فوقها فقاقيع كالدُّرِّ (م)

صِغارٌ يُثيرها التصفيق

ثمَّ كان المِزاجُ ماَء سحابٍ

لا صَريً آجنٌ ولا مطروق

فاستخفّ الطرب هشاماً! فصاح بإحدى الجاريتين: اسقيه فسقته شَرْبة ذهبت بثلث عقله!

ثم قال هشام: أَعِدْ يا حماد؛ فأعاد الأبيات. فازدهاه السرور حتى نزل عن فراشه! وصاح بالجارية الأخرى: اسقيه!

فسقته شربة طاحت بثلث عقله الباقي! فقال في نفسه: إن سقتني الثالثة حقت عليَّ الفضيحة!.

ثم التفت إليه هشام قائلاً: سل حاجتك يا حماد. فأجاب: كائنة ما كانت؟ قال: نعم.

وهنا نحبّ أن نقول: إنه كان من عادة الخلفاء والملوك إذا استطاع النديم الظريف أو المسامر البارع أن يحرّك فيهم ساكن الطرب، ويهزّ كامن الأريحية، أن يعلنوا رضائهم عنه

ص: 29

بالاقتراح عليه أن يسأل ما يشاء، وهي على كل حال فلتات نادرة يسوقها الحظ لمن أراد الله أن يرزقهم من حيث لا يحتسبون!

ولهذه التمنيات آداب معروفةُ يعدّ تجاوزها سفها وحماقة وسوء أدب تلحق أصحابها بالسوقة والإغفال، فلا يصح لمن واتته هذه الفرصة الغالية أن يتمنى على الخليفة ما يحرج به أو يندم عليه أو يقدح في مروءته، فإن ذلك جرأة قد يكون من ورائها رَدى النفوس واستئصال النعم ولو بعد حين!.

فمن أمثلة ما حدّثوا به: من أن الهادي كان عنده يوماً ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ بن الطيب، فقال: مَن أطربني منكم اليوم فلهُ حكمه! فغنّاه ابن جامع غناء لم يحركه؛ وكان الموصلي قد فهم غرضه فغناه في هذا الشعر:

سُلَيمى أجمعتْ بَيْنا

فأين تقولها أيْنا

فطرب الهادي حتى قام عن مجلسه! ورفع صوته: أعد بالله وبحياتي. فأعاد. فقال الهادي: أنت صاحبي فاحتكم! فقال الموصلي: حائط (بستان) عبد الملك بن مروان، وعينه الحرارة بالمدينة! فغضب الهادي حتى اتقدت عيناه! وقال: يا ابن اللخناء أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فاقتطعت! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك وفكرك، لضربت الذي فيه عيناك! وعبرت فترة قال فيها الموصلي: لقد رأيت ملك الموت قائماً بيني وبينه ينتظر أمره!

ولما سكت عنه الغضب دعا بالقيم على خزائن الأموال، فقال: خذ بيد هذا الجاهل ودعه يأخذ ما يشاء! فلما بلغ بيت المال قال له القيم: كم تأخذ؟ قال: مائة بدرة! قال: حتى أؤامره. قال: تسعين. قال: حتى أؤامره. قال: ثمانين. قال: لا. فعرف إبراهيم غرضه. فقال: آخذ سبعين، ولك ثلاثون! قال: شأنك. قال الموصلي: فانصرفت بسبعمائة ألف درهم وانصرف ملك الموت عن الدار!

ومن ذلك أيضاً: أن دجمان المغني غنى الرشيد يوماً:

إذا نحن أَدْلجنا وأنتِ أماَمنا

كفى لمطايانا برؤياكِ هاديا

ذكرتك بالدَّيرين يوماً فأشرفت

بناتُ الحشا حتى بلغن التراقيا

إذا ما طواك الدهر يا أمَّ مالك

فشأن المنايا القاضيات وشانيا

ص: 30

فطرب الرشيد طرباً شديداً واستعاده مرات! ثم قال له: تمنّ عليَّ. فقال: الهنيء والمريء، وهما ضيعتان تُغِلان أربعين ألف دينار في السنة. ولم تكن للرشيد شراسة الهادي وشكاسة خلقه وضيق صدره، فأمر له بهما على كره منه!

فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن هاتين الضيعتين من جلالهما ما يجب ألا يُسمح بمثلهما! فقال: لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت. فاحتالوا في شرائهما منه بمائة ألف دينار! فأمر الرشيد له بها. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن. فدفعوها له منجمة خمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها

ونعود إلى حماد فنقول: لقد فتح له هشام باب التمني على مصراعيه فهل يقع في السفه والجهل؟

لقد كان الرجل زنديقاً، والزنادقة في هذا العصر كانوا مضرب المثل في الظرف حتى كان الرجل يتعمّل الزندقة ليوسم بهذه السمة المستملحة!

ثم هو بعد ذلك يعرف جيداً أنه لم يأت خليفة مثل هشام الأموي والمنصور العباسي في ضبط المال وحسن القيام عليه والضن به إلا في حقه. بل لعله لا يجهل أن هشاماً رمى بالبخل الشديد إن صدقاً وإن كذباً، وأنه كان أبغض الأشياء إلى نفسه أن يبتدئه إنسان بمسألة، فمن فعل ذلك فأدنى جزائه الحرمان!

أترى أيستطيع الظرف أن يعصم حماداً من الانزلاق إلى الطماعية المردية؟

لم تخُنَّا فراستنا في الرجل! فالحق أنه كان مهذباً وكان قنوعاً

لقد رفع رأسه إلى الخليفة وعلى فمه ابتسامة حيية حائرة فقال: إحدى الجاريتين يا أمير المؤمنين

وكأنّ هشاماً أُعجب بهذه القناعة التي لا تنتظر في مثل هذه المواقف! ولعله أعجب أكثر بهذا الذوق الرقيق الذي شاء أن يمنحه نصيباً من هذا الجمال الفريد!

فضحك وقال: هما جميعاً لك يا حماد بما لهما وما عليهما!

وأراد أن يتوِّج ذلك بعطفه عليه ورضائه عنه! فهتف بالجارية الأولى: أن اسقيه! فمشت إليه الجارية بكأس دهاق، وعيناها الساجيتان تفعل بنفسه ما لا تفعل الخمر والسحر! فطار ما كان باقياً من عقله، وخر لليدين وللفم صريع الكأس والأعين النُّحل

ص: 31

وحُمل - وهو ما يَبتُّ سكراً - إلى دار أعدت له. فلما تنفس الصبح أفاق من غشيته الطويلة! فإذا الجاريتان عند رأسه تمسحانه وتروِّحانه، فيصافح وجهه النسيم الرطب مشوباً بأنفاس الغالية والملاب!

وإذا عدة من الخدم يحمل كل واحد منهم بَدْرة وهم وقوف ينتظرون صَحْوته من خُماره!

فتقدم أكبرهم في أدب واحتشام فقال: أمير المؤمنين - أطال الله بقائه - يقرأ عليك السلام! ويقول لك: خذ هذه البِدَر فأصلح بها شأنك

فبالغ حماد في الدعاء! وأستنفد الوُسْعَ في الثناء! ثم قفل راجعاً إلى بلده بثلاث غنائم: بالأمان والجمال والمال! وقد أدركته المنية سنة خمس وخمسين ومائة، فرثاه ابن كِناسة الشاعر يقول:

لو كان يُنجي من الرّدى حذَرٌ

نجّاك مما أصابك الحذرُ

يَرْحُمك الله من أخي ثقة

لم يك في صفو ودّه كدر

فهكذا يفسد الزمان ويفنى العلم (م)

فيه ويدرُس الأثر

علي الجندي

ص: 32

‌ضرب من الفروسية في اليابان

للأستاذ صلاح الدين المنجد

يجد الباحث في فروسة اليابان وتقاليدها أفانين لذيذه تفيض بالبطولة والنبل والإباء، تهز المرء حتى ليحسب أنها من عمل الخيال الرائع والتصوير البارع والوصف الجميل. فإذا تأملتها علمت بأن اليابانيين قوم قدسوا الشرف في مغالاة ومقتوا الذل بأنفة، ولم يصبروا على ضيم يراد بهم أو هون يساق إليهم. وحسبك أن تعلم بأن الفروسة عندهم معناها الشرف والذود عنه والموت في سبيل بقائه طاهراُ، ودفع كل ما يشين المرء ويعيبه؛ فلضربة بسيف في عز خير عندهم من لطمة أو شتيمة في ذل. فإذا طعن الياباني في شرفه، فلديه أمران لا مَدْفع لهما: قتل من أهانه، أو قتل نفسه

ولعل أروع مثال لذلك أمر القائد العظيم (نوجي) الذي كان له - كما يقولون - روغان الثعلب وختل الذئب ووثبة الأسد، والذي أوتي النصر في موقعه (بور - آرثر) على الروسيين ففض حرمتهم وأوهن بأسهم وظهر عليهم، فأدهش الغرب ورجاله، وملك على فتيان اليابان قلوبهم، والذي يسمونهم (بصاحب الربع ساعة) لقوله:(الحرب صبر ربع ساعة)

وقصة هذا القائد طريفة غريبة فيها بطولة وشمم، وفيها إباء وشجاعة، فلقد استيقظت اليابان ذات يوم على تذراف الدموع وتصعيد الزفرات، وقد وجم الناس وانتشر الأسى وأعلن الحداد لموت ابن الآلهة الميكادو (موتزو - هيتو) الذي دفع باليابان الحديثة إلى ذروة المجد وجعلها أمة ذات بأس وقوة، يخشاها الغرب ويفرق منها. وبينما الناس في حزنهم غارقون، فوجئوا بنبأ آخر كان على الشباب والجنود أشد هولاً. فلقد أعلنت الصحف أن الجنرال (نوجي) منقذ اليابان من الروسيا قد قتل نفسه. . فطفق الناس يسأل بعضهم بعضاً عن سر انتحاره، وهو ازدهار مجده وتألق سعده، وحسبوا يومئذ أن ذلك كان حزناً على الميكادو

على أن بعضهم ما زالوا يتسقطون أسراره ويستطلعون أخباره حتى علموا بأن (نوجي) كان في ماضيات أيامه تلميذاً في مدرسة حربية، فكلمه أستاذ له ذات يوم بما يهينه ويشينه. . . وما هي إلا ساعات حتى عزم على قتل نفسه ليتقي العار وسوء المقالة، لأن نظم

ص: 33

المدرسة تمنع الانتقام من أساتيذها، وكان له صديق من العائلة المالكة، أخلص له وأحله من نفسه محلاً رفيعاً، فأخبره بما عزم عليه وطلب منه أن يشهد الانتحار

وللانتحار في اليابان طرائق وتقاليد. فالرجل الذي يريد قتل نفسه يطعن صدره إلى جانب القلب بخنجر حاد، فإذا تدفق الدم تقدّم منه صديق مخلص له ممن أوتوا النبل والشرف، فيضرب عنقه أمام المذبح بين روائح البخور الشذىّ

وطلب (نوجي) من الأمير أن يضرب عنقه إذا طعن صدره؛ وكان الأمير ذا شأن وسلطان فمنعه عن الانتحار. وكان مما حدّثه به يومئذ: (عش لليابان يا صديقي. . . فما ينبغي لك أن تقتل نفسك ووطننا بائس يعوزه الشباب. لقد أهنت وعليك أن تموت، ولكني أقبل الإهانة، أنا الأمير ابن الآلهة، لنفسي وما عليك بعد ذلك. ابق يا صديقي وعش لليابان!)

وصدع نوجي بالأمر. وتصرمت أعوام فأضحى الأمير إمبراطوراً وأصبح (نوجي) أعظم قائد عرفته اليابان الفتاة، فيشتهر بالمغامرة والبطولة ويذيع صيته ويتردد على الأفواه اسمه وتستفيض شهرته ويدحر جيوش الروسيا ويكسب المعارك ويصبح المثل الأعلى للفتيان

وظلت الإهانة عالقة بالإمبراطور طوال حياته. . . ولا بأس عليه منها وهو ابن الآلهة التي تغفر لمن تشاء، وتعذب من تشاء وترضى عمن تشاء، فلما قضى الميكادو نحبه عادت الإهانة إلى (نوجي) فلم يطق العيش ذليلاً. . . فأمر أن تشعل الشموع، وأن يحرق البخور، وجثا تحت قدمي الإله، وأغمد الخنجر في قلبه على مهل، فتدفق دمه الفوار. . . وتقدم صديق له فضرب عنقه، وهو يبتسم راضياً مطمئناً؛ فقد أنقذ الشرف، وابتعد عن العار.

ومات (نوجي) بعد أن تخطى الستين من العمر، رضي البال مثلوج الفؤاد لأن ذلك أدعى لطيب الذكر، وخلود الاسم

صلاح الدين المنجد

ص: 34

‌من تاريخنا النسوي

عائشة والسياسة

للأستاذ سعيد الأفغاني

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

ولا يقعنّ في وهم أحد أن السيدة عائشة كانت تود أن يقتل عثمان، فالصحيح أنها لم تكن تتوقع كل هذا. ولعلها كانت تقنع باعتزاله، على رغم تصريح الكثيرين بأنها سعت في قتله. ومن هؤلاء المغيرة بن شعبة، فإنه دخل على عائشة بعد حادثة الجمل فقالت له:(يا أبا عبد الله، لو رأيتني يوم الجمل قد أنفث النصل هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي.) قال لها المغيرة: (وددت والله أن بعضها كان قتلك.) قالت: (يرحمك الله، ولم تقول هذا؟) قال: (لعلها تكون كفارة لك في سعيك على عثمان.) قالت: (أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أريد قتله. ولكن علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت (تعرض بما وقع لها يوم الجمل) وأردت أن يرمى فرميت، وأردت أن يعصى فعصيت؛ ولو علم مني أني أردت قتله لقتلت.)

وهي الصادقة فيما قالت، ولعل الله أن يرضى عنها ويرضى خصومها بما ندمت وكفّرت. ولئن قال سعد بن أبي وقاص وقد سأل من قتل عثمان؟ -: قتله سيف سلته عائشة وشحذه طلحة وسمه عليّ -، فما كان يريد سعد بقولته هذه إلا بيان الأثر غير المباشر لكل منهم؛ فإن من تتبع مجرى الحوادث بإمعان علم بعد الجميع عن هذه الظنة

وليس أدلّ على ترفع السيدة عن مثل هذه الخواطر من دعوتها على قتلة عثمان، الدعوات البليغة الصادرة عن نفسٍ متأثرة ملتاعة (واعلم أن في القتلة أخاها محمداً) قالت:(قتل الله مذمّماً (تعني أخاها) بسعيه على عثمان، وأهرق دم ابن بديل على ضلالته، وساق إلى أعين بن تميم هواناً في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه) فما منهم من أحد إلا أدركته - على رواية الطبري وابن عبد ربه - دعوة عائشة

وذكر صاحب العقد أنها لما قالت بعد مقتل عثمان: (مصصتموه موحى الإناء (الموحى: الغسل اللين) حتى إذا تركتموه كالثوب الرحيض (الغسيل) نقياً من الدنس، عدوتم عليه

ص: 35

فقتلتموه). قال لها مروان: (هذا عملك؛ كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه). فقالت: (والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسواد على بياض حتى جلست في مجلسي هذا) فكانوا يرون أنه كتب على لسان عليّ وعلى لسانها كما كتب على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر. فكان اختلاق هذه الكتب كلها سبباً كبيراً من أسباب الفتنة

وغاية ما يؤخذ عليها عدا أقوالها السابقة الشديدة في عثمان أنها تركته (حين بلغ الحزام الطُبْيَيْن، وحين طمع فيه من لا يدفع عن نفسه) - كما وصف هو نفسه - في أشد الحصار وأحر الظمأ وخلصت إلى مكة. وقد كان راسلها عثمان في أمرها وطلب نجدتها وجاءها مروان بن الحكم فقال: (يا أم المؤمنين لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل). فقالت: (أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة ثم لا أجد من يمنعني؛ لا والله ولا أُعيَّر، ولا أدري: إلام يسلم أمر هؤلاء؟)

كان طلب مروان في محله، وكان مقامها - لو هي أقامت - ربما نفع وردّ عن عثمان، ولكنها استسلمت رحمها الله لموجدتها، واكتفت أن استتبعت أخاها محمداً أكبر المحرضين على عثمان فأبى

لقد وضح من كل ما تقدم أن أثرها لم يكن ضئيلاً في الحوادث التي انتهت بشهادة عثمان: هذه الفاجعة المشؤومة، بل كان بعيداً بليغاً. وليتها وقفت عند هذا الحد فلم تؤلب الناس على علي وتنغص عليه ولايته. فإن طلحة والزبير لما آلت الخلافة إلى عليّ - وكانا يرجوانها كل لنفسه - وعقدا النية على المطالبة بدم عثمان وتسليم قتلته الذين انضموا إلى جند علي، وهماّ بما هماّ به؛ رأيا أن أمرهما لا يتم إلا بالسيدة عائشة فكانت فتنة ثانية أشأم على المسلمين من سابقتها

طالبت عائشة بدم عثمان واندفعت في هذه السبيل - على رغم تحذير المحذرين، ونصح أمهات المؤمنين - اندفاع الأتيّ الجارف، حتى جمعت الجموع وأحاط بها كل طامع وكل ذي ثأر من أصحاب علي وكل كاره لعلي وخلافته، مع آخرين خرجوا معها عن عقيدة بريئة مغيرين منكراً أو مطالبين بإقامة الحدود. ثم خرجت بهذه الجماهير من الحجاز حتى وافت بها العراق. فلم يكن من محيص دون القتال، ومؤرثوا الشر منتشرون في جماعتها

ص: 36

وجماعة علي، فكان ما كان مما لا نتعرض له في هذه الكلمة لأن أمره مشهور معروف. وسميت هذه الحرب الجمل لأن عائشة كانت فيها في هودج على جمل؛ وانقشعت هذه النكبة المؤلمة عن عشرة آلاف قتلوا على أقل تقدير.

رحم الله عائشة، لقد كانت المرأة الوحيدة في التاريخ التي قوضت مركز خليفة وحاولت نصب خليفة، وأعلنت حرباً وقادت جموعاً ثم أرادت تحاشي القتال؛ فخرج الأمر من يدها إلى يد غوغائها شأنها في ذلك شأن علي رضي الله عنه، فكان ما ترتعد له فرائص كل مسلم، كلما ذكر فتنة الجمل وما استتبعت من ويلات.

فلنطو أمر هذه الحرب، ولنذكر أن عائشة نفسها صارت كلما ذكرتها بكت حتى تبل ثيابها ندماً وتوبة. ولننظر كيف كان معاوية الداهية الحليم يداريها ويخشى بأسها

بقى الناس ينظرون إلى السيدة عائشة وسائر أمهات المؤمنين نظرهم إلى الموئل الذي يسعهم كلما نزلت بهم نازلة. هذا إلى نظرة التقديس والإجلال التي كانت تزداد كلما امتد الزمن وبعد عهد الناس بزمن الرسول. فكانوا - زيادة على قصدهن للتعليم والاستفادة - يشكون إليهن ما يلقون من عنت الأمراء وحيف الحكام، وكن يتوسطن لهم بما لهن من النفوذ والطاعة على جميع المسلمين: الخلفاء فمن دونهم. سألها رجل كتاباً توصى به زياداً في العراق، فلما قرأه زياد قضى حاجة الرجل وأكرمه، وكان أهم ما دفعه إلى التلبية أنها نسبته فيه إلى أبي سفيان، فجعل زياد يعرض الكتاب على كل زائر مزهوّاً به فرحاً. وقد حسب لها معاوية أكبر الحساب فجعل يداريها ويلاطفها ويكتب إليها يسألها مرة عن حديث، ومرة طالباً موعظة وما به من حاجة إلى سؤال ولا طلب، وكان جانبها أعظم ما يخشاه. أحرق قائده معاوية بن خديج جثة أخيها محمد في مصر؛ فبلغها فجزعت أشد الجزع، وصارت تقنت على معاوية وعمرو بن العاص دبر كل صلاة ولما أراد معاوية البيعة ليزيد كان صوت أخيها عبد الرحمن أقوى صوت ارتفع بالمعارضة فجبه والي معاوية على المدينة مروان بن الحكم بقوله الصادع:(جئتم بها هرقلية كسروية كلما مات كسرى قام كسرى) ولما نال مروان من أخيها بالكلام لقي من السيدة ما لم يكن في حسبانه حتى تذلل لها وخاف بأسها ثم تكفل دهاء معاوية بالباقي حتى غاب صوت الحق في إنكار هذه البدعة التي ابتدعها معاوية في أصول الحكم. ولم تتنح السيدة عن معالجة الشؤون العامة، ولولا

ص: 37

أن يوم الجمل هد منها ومن قوة نفسها لرأينا لها في عهد معاوية صولات وجولات ومع هذا فإليك مثلاً حادثة حجر بن عدي:

كان حجر من سادات أهل العراق ذوي السطوة والمكانة، ممن كانوا مع علي وبقوا على عهده بعد مماته، وقد تحدى سلطة الخلافة مراراً عديدة، وعبث بالأمراء الذين يرسلهم معاوية حتى ضاق به وبرهطه ذرعاً، فأمر بحمل حجر وأصحابه، ثم أشهد عليهم وقتلهم، بعد أن كثر الوسطاء في أمره نظراً لمكانته، ولكن ذلك لم يشف ما في نفس معاوية من الغيظ، وكانت عائشة أرسلت رسولاً إلى معاوية في ذلك، ولما وصل الرسول كان حجر قد قتل، فقال الرسول - وهو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - لمعاوية:(أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟) قال معاوية: (حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سُمية (يعني زياداً عامله) فاحتملت) وبلغ عائشة الخبر فحزنت أشد الحزن، وليس مثلها من يسكت لمعاوية، ولكن نكبة الجمل زعزعت عزائمها فصارت تخاف أن يجر الأمر إلى فتنة تراق فيها الدماء وهو ما لا تستطيع أن تتصوره، وقد أشارت إلى ذلك حين قالت:(لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر. أما والله إن كان - ما علمت - لمسلماً حجاجاً معتمراً)

ولما حج معاوية أستأذن على عائشة فأذنت له، فلما قعد قالت:(يا معاوية، كيف أمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟) قال: داهية الأمويين (بيت الأمن دخلت!) قالت: (يا معاوية، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه!) قال: (لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم.)

وهكذا نال الخليفة العظيم ما يستحق من التأنيب في حجرة الرسول على لسان زوجته أم المؤمنين

هذه هي المرأة في صدر تاريخنا المجيد ولكم هو مقامها، فلننتفع بسيرتها ولنأخذ لزماننا من كل شئ أحسنه. أما عبرة هذه الحوادث: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في الخلافات السياسية. وكأن الله الذي جعل النساء لتربية الرجال وتدبير البيوت أراد أن يعظ المسلمين عظة عملية كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة؛ ليعلموا: أن لو كان أمر من أمور الرجال يقوم بامرأة لقام بهذه السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب الذكاء والعلم والصلاح ما لم يؤته رجال كثيرون. وبقية حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين كلما نزغ

ص: 38

بهم من الشيطان نزغ فهموا أن يخرجوا بالمرأة عما خلق لها وخلقت له، قالوا لأنفسهم: أخفقت هذه التجربة في أول تاريخنا فما بنا من حاجة إلى أن نهرق في سبيلها دماء جديدة؛ ومن لنا مع هذا بمثل السيدة عائشة

(دمشق)

سعيد الأفغاني

ص: 39

‌تلك سبأ!

للأستاذ محمد عبد الله العمودي

هناك نحو الشرق من صنعاء عاصمة اليمن، على بعد خمسة أيام فوق متون المطايا؛ تمتد منطقة واسعة الأطراف، مترامية الأكناف، عامرة بأسرار تاريخ، وفيرة بخبيئة ماض بعيد، يجد فيها عالم الآثار مادة خصبة ومجالاً واسعاً فسيحاً لاختباراته وأبحاثه

في تلك البقعة الساحرة المسحورة التي فاضت عليها أنفاس الرياح الغرائب فطمرت معالمها، وأخفت ما شخص منها، ونسجت عليها أثواباً رقيقة شفَّافة من الطمي الأملس، تَلبد في ذمة التاريخ وتحت أنقاض العصور خرائب سبأ، مدينة الملكة العظيمة بلقيس عروسة سليمان ابن داود. . .

هذه بقاع منسية في جزء مهم من بلاد العرب، لعبت أدواراً خطيرة في مجال التاريخ القديم؛ تدل الآثار الضئلية التي قذفتها هذه الأراضي الضنينة التي جاءت من قبيل الصدف بأن ما تحويه في أحشائها يفوق الوصف، ويثير التاريخ!

ومعلوماتنا عن هذه البلاد السبئية ضئيلة؛ فبالرغم من كثرة الرواد الذين اجتاحوا هذه البلاد فإن خطراتهم بين خرائبها كانت سريعة خاطفة، فلم يعرف عنها إلا أشياء مقتضبة مشوَّهة لا تقوم على إسناد علمي يركن إليه الباحث، وتطمئن له نفس المنقّب؛ وهذا عائد إلى طبيعة الأرض وجفوة سكانها وقساوتهم ضد الأجنبي. . . وما عرفنا أحداً تغلغل في صميم هذه البقاع سوى ثلاثة من الأوربيين أتاحت لهم الظروف الوصول إلى قلب مدينة سبأ فجمعوا كتابات كثيرة جداً منقوشة على الصخر الأصم!

هؤلاء الأشخاص هم أرنود (1843) وهاليفي (1860) ثم (1888). وبعد هؤلاء الباحثين لم يتقدم أحد من الأوربيين مطلقاً. فبقيت أرض سبأ إلى هذه الساعة محتفظة بأسرارها الرهيبة الهائلة. . .

هناك في الناحية الغربية من مدينة بلقيس؛ بنى السبئيون في أحد الأودية العظيمة سداً عظيماً، متين البنيان، وطيد الأركان، مشمخر الأنف، تتجمع فيه أمواه السيول المنحدرة من أعالي الجبال فتسقي الأرض، وتحيي الضرْع؛ حتى غدت هذه البلاد مثلاً سائراً في خصوبة الأرض؛ وكرم التربة!

ص: 40

أما أبرز المظاهر الاقتصادية التي كان يتداولها سكان هذه البلاد مع الأمم التي تناوحهم فهي تلك الأعواد العطرية الفواحة، والنباتات الكريمة التي تتفوغ بها أوديتها العميقة وشعابها المشجرة المعطرة

وبناؤهم في غاية الفخامة والجلال؛ قصور شاهقة، وبناء محكم، وحيطان وسقف مموَّهة بالأحجار الكريمة، مرصعة بالعاج؛ وآنيتهم من الذهب والفضة الخالصين!. . .

ولكن السبئيين كانوا يعبدون الشمس والقمر والوعل والعجل؛ ولهم معابد فخمة واسعة منتشرة في كل الأنحاء؛ ثم لما بطروا بأنعم الله عاقبهم الله بانهيار السد، فغشى المدينة من الماء الجارف ما غشيها فجعل عاليها سافلها، وأهلك سكانها وأباد ضرعها وزرعها فكانت مثلاً

ويعدُّ انهيار السد حديثاً عظيماً في تاريخ الشعب العربي؛ ذكره (القرآن الكريم) في جملة ما ذكر من القصص؛ ومع كل هذه الحقائق التاريخية الثابتة أصلاً فإنها لم تؤثر في تفكير اليمنيين وتغير مجرى اعتقادهم في أن يعيدوا إلى الوجود وإلى ضوء الشمس آثار ذلك الماضي اللمّاع المجّسم في خرائب هذه المدينة ذات الجلال والإبداع، ولم يفكروا مطلقاً في استنطاق هذه الألواح الصخرية المنقوش عليها حرف (المسند) ليعرفوا حقيقة الماضي البعيد

أما علماء الآثار الذين مكنتهم الظروف فاخترقوا هذه الآفاق واستهدفوا لضروب من المتاعب والأخطار، فما استطاعوا أن يقدموا لنا عن هذه البلاد إلا معلومات ضئيلة لا تشفي غلة الباحث الصادي

نعم، إن إدوار غلازر نجح في مهمته، وتنكر في شخصية مسلم واستطاع إبان وجوده بصنعاء أن يتفق مع أحد أشراف مأرب ليكون له قائداً ودليلاً إلى حيث السد

فمن صنعاء أخذ الاثنان طريقهما في واد عميق يقع بين ذُرى بلاد نِهْم وخولان؛ ثم انحدرا إلى وادي شبوان فأخذا طريقهما إلى خرائب السد ومن هنا تابعا سيرهما في ثلاث ساعات إلى مركز الحضارة السبئية: مدينة بلقيس!

وترامت أخبارهما بين القبائل المتعصبة المتحمّسة فعقدوا العزم على ذبحه وذبح دليله. ولكن غلازر درى بحقيقة الأمر فاحتاط لنفسه كثيراً فكان يقوم ليلاً ويختفي نهاراً. . . ولما

ص: 41

انتهى من أبحاثه وهم بالرجوع هاجمته جماعة من البدو المسلحين ولكنه نجا بأعجوبة!

وبالرغم من هذه المتاعب الكثيرة التي صادفت هذا المغامر، وبالرغم من افتقاره للآلات العلمية المتممة لأبحاثه فقد نجح هذا العالم الأستَرْيِى في طرق اختباراته فجمع ما يناهز 850 نقشاً حِمْيرياً وبان لعلماء الآثار أن هذه المنطقة، من أرض سبأ، غنية بآثارها عميقة في أسرارها!

أما الإمام يحيى فقد توعد بالعقاب الصارم كل من تحدثه نفسه ببيع هذه الحفريات للأجانب؛ كما أنه أقفل أبواب سبأ في وجوههم ولكن أحد هؤلاء المجازفين حاول الوصول إلى مأرب من حضرموت فاكتشف أمره وقبض عليه، ودفع إلى ما وراء الحدود!

ودفعت المغامرة غيره في وقت قريب، فوصل هذه الأرجاء فعثر على شظايا أثرية، وتماثيل عجيبة لدى جماعات من البدو فابتاعها منهم وشحن منها صناديق. . .

وكل من لاقيته في هذه البلاد وسألته عن أسباب هذه المتاعب الجسيمة التي يلاقيها الرحالة في أرض سبأ راح يشرح لي أسباباً كثيرة، وأموراً غريبة!

أخبرني أحد العلماء قال: (هناك في أرض سبأ تعيش قبائل مخيفة من البدو لا يعلمون عن العالم شيئاً، بل يجهلون كل الجهل من حولهم؛ يعبدون الله ولكن على صورة تخالف ما عندنا، ويأكلون اللحم النيئ؛ وفي قبائلهم تعيش جماعات من النبلاء والأشراف يستبدُّون بالضعيف، ويسخرونه في حرث الأرض، والدفاع عن الحوزة؛ لهذا ترى من الحكمة، وسداد الرأي، أن الإمام مصيب في منعه الأجانب من دخول هذه الأقاليم الرهيبة التي لا تعرف من سلطة الإمام إلا القليل. . .)

وتشرفت بالمثول بين يدي الإمام، وبما أنه معروف عن جلالته الطبع السمح. والخلق اللين؛ فقد بادهته بهذا السؤال:

- هل يأذن لي صاحب الجلالة في زيارة بلاد سبأ؟

ولشد ما كانت دهشتي عظيمة عندما رأيت ابن حميد الدين يستوي في جلسته ثم يصيح بي قائلاً:

- سبأ؟ أرى أن مشاهدتك واستكشافك هنا خير وأولى! أمكث في صنعاء إلى ما تشاء! وإذا لم يعجبك هذا فدونك ما حوالينا من القرى الجميلة، والأودية النضرة، فانهب من الجمال ما

ص: 42

شئت واملأ ناظريك من محاسن الطبيعة اليمنية!

- ولكن يا مولاي، أريد سبأ، فهل تتركني أذهب إليها؟

- لا! إن سبأ بعيدة المنال، صعبة الوصول، فأنا لم أرها منذ سنين، وزيادة على ذلك فما هناك طريق واضح؛ فهل من المعقول أن أتركك تذهب حيث لا طريق معبد؟ أنا أريد أن أراها ولكن لا سبيل إلى الوصول إليها. . . هناك حتى يومنا هذا لا يزال جزء عظيم من بقايا السد قائماً في شكل يثير الإعجاب! تصور جيداً أنه شيد كله من الصخر الأصم؛ وهذه الصخور تتألف من ثلاثة ألوان: خضراء وحمراء وشهلاء. . . وعلى مقربة من السد تقوم نقرة عظيمة حفرت جداول توزع منها المياه إلى الحقول والبساتين التي جمع منها السبئيون كل غناهم وجاههم!

- والمدينة يا مولاي؟

- حطمها السدّ وغزتها المياه من كل جانب فغمرتها رواسب كثيرة شفافة، وما زالت أطرافها شاخصة في عظمة واستكبار. . . فهناك على مساحة عظيمة تطفو على وجه الأرض أعمدة وأحجار؛ وأجل هذه الآثار شخوصاً (عرش بلقيس) ذلك المعبد العظيم الذي شيده سليمان لملكة سبأ. . . واليوم عزمت على تعبيد الطريق من صنعاء إلى مأرب فتخترقها السيارات بسهولة!

إن الآثار المدهشة التي تكشفت عنها بلاد العرب الجنوبية تراها اليوم موزعة بين متاحف أوربا؛ وليس لها أثر كبير في بلاد اليمن اللهم إلا أشياء ضئيلة في متحف صنعاء مجموعة في نظام يستدر الشفقة، ويبعث الحسرة!

ففي متحف تِرْمى بروما يمكنك أن تتمتع بمشاهدة آثار سبأ وحْمير وسائر ممالك اليمن القديمة. . .

فهناك نقوش كثيرة وقطع من الفن الهندسي الرائع، وتماثيل ضخمة منحوتة من الصخر جمعها الدكتور أنسالدي أثناء رحلته إلى بلاد اليمن أخيراً واستطاع أن يأخذها إلى إيطاليا بموافقة الإمام!

أما المتحف الذي أنشأه الإمام يحيى في العاصمة اليمنية فهو عبارة عن (غرفة!) من قصر خصِّص لنزول البعثات الأجنبية تتكدس في هذه الغرفة آثار اليمن القديمة!

ص: 43

ولما كانت هذه الغرفة محروسة من المساند والمناضد فقد طرحت أرضاً هذه النقوش والقطع الأثرية؛ وبعضها مرصوص على جوانب الجدران؛ والجزء الأعظم من الآثار الصغيرة محشوٌ في أجواف صناديق النَّفْط. . .

والزائر الذي يأتي لمشاهدة هذه الآثار لا يسمح له بدخول هذه الغرفة بل يقوم الحارس بعرض بضاعته من الداخل فيطرحها على أرض الشباك بحيث يتمكن الزائر من المشاهدة والملاحظة وهو في الخارج؛ وفي أغلب الأحيان تَمْلُص من يدي الحارس بعض التماثيل فتهوي إلى الأرض محطّمة؛ وفي جلافة وعدم مبالاة، يركلها برجليه إلى إحدى الزوايا!

إن الله وحده الذي يعرف كم تحوي هذه البقاع اليمنية من الآثار والتماثيل ذات الجلال والسموّ. وما ذلك الفن السامي الذي ازدهر في هذه الربوع المتمثل في هذه الخرائب الأبدية وفي هذه التماثيل العديدة للنساء والرجال المفرغة في المرمر الحرّ والرخام المجزع، إلا صورة حية ناطقة لذلك الفن الرفيع العريق في هذه البلاد منذ أقدم العصور! يدلنا على هذا كله وجود تمثالين في متحف صنعاء بلغا حد الإتقان والإبداع.

أولهما (ش1) يمثل رأساً من البرنز لشاب أو شابة من أبناء تلك البلاد على وضع فني جميل يشبه إلى حد ما أحسن التماثيل الإغريقية القديمة، وقد وجد في غيمان

والثاني (ش2) تمثال عظيم مصوغ من البرنز وجد في خرائب النخلة الحمراء يمثل بطلاً عارياً منسجم الأعضاء جليل الصورة. ومما يدعو للأسف أن العمال الأغرار أثناء الحفر تناولوه بالتهشيم فذهب شئ كثير من روعته، ولكن الآن لحسن الحظ أعيدت صورته الأولى، وأجبرت كِسْراته وصقلت حواشيه، واستقام على قدميه بقوة أسلاك معدنية

والحق أن مثل هذه الآثار كثيرة الوجود تحت الأنقاض وفي بطن الأرض ولكنها تتطلب مجهوداً عظيماً يكلف كثيراً في بلد يقوم على هذا الوضع من الحياة والعزلة

(القاهرة)

محمد عبد الله العمودي

ص: 44

‌كتاب الأغاني

بقلم أبي الفرج الإسكندراني

رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار

صوت

وأطلس عسال وما كان صاحباً

رأى ضوء ناري موهناً فأتاني

فقلت ادن دوني أيها الذئب إنني

وإياك في زادي لمشتركان

البيتان من قصيدة للفرزدق، والفرزدق ليس من الشعراء المعاصرين بالطبع؛ ولكن اللحنين اللذين صنعا فيهما عصريان. أما أحدهما فللأستاذ أحمد أمين على نغمة مصرية هادئة، وأما الآخر فللدكتور زكي مبارك على نغمة باريسية ثائرة

حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: أو لم أقل لكم إن أفضل تقسيم للأدب أن يكون على أساس من اختلاف الثقافات؟ فالأستاذ أحمد أمين مثال للثقافة المصرية المشبعة بالروح الإنكليزية. والدكتور زكي مبارك مثال لثقافة المصرية المشبعة بالروح الفرنسية؛ ومن ثم كان الفارق بينهما؛ فهذا هادئ رصين والآخر ثائر صاخب

قال الأستاذ الشايب: وسأحدثكم عن مثل يبين اختلاف الثقافتين: قيل إنه قد طلب إلى ثلاثة من الأدباء أحدهم إنكليزي والثاني فرنسي والثالث ألماني أن يكتبوا شيئاً عن الجمل، أما الفرنسي فذهب إلى حديقة الحيوانات وكتب في وريقة ما معناه:

(يا لله! ما أعجب وما أغرب! خف لين، وصبر بين، ووسادة تحت الصدر، وسنام فوق الظهر! يا لله!)

وعدداً آخر من النثر المشعور أو الشعر المنثور، ثم عاد أدراجه ودفع بما كتبه ارتجالاً إلى من ألقى عليه السؤال.

وأما الإنكليزي فارتحل إلى بلاد العرب، وأقام فيها سنين اشترى في خلالها جمالاً ونوقاً وراقبها من يوم مولدها إلى يوم موتها وأحصى مقدار ما تأكل كل يوم، ومقدار ما يؤخذ من لبنها، ومن وبرها، وعدد ما تنتج. فلما انقضت الأعوام عاد فوضع كتاباً عن تاريخ الجمل.

قال الأستاذ الشايب: ولا علينا الآن أن نقول شيئاً عما فعل الألماني، ولكنني أكتفي بهذا

ص: 45

القدر من المثل لأن الأستاذ أحمد أمين مثقف ثقافة إنكليزية فهو يؤرخ الأدب العربي على طريقة تربية الجمال وملاحظتها وتدوين الملاحظات. والدكتور زكي مبارك يتناول الأدب العربي على طريقة (يا لله ما أعجب وما أغرب!)

قال أبو الفرج الإسكندراني هذا ما يقوله الأستاذ الشايب ولولا أن الشايب مثقف بالثقافة الإنكليزية دون الفرنسية، لولا ذلك لعددناه شاهد عدل في خصومة بين هذين الأديبين الكبيرين. ولكن لا شهادة لمن له ضلع مع أحد الخصمين

حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: لقد صنعت لحناً لهذه الأبيات الرائعة من شعر الفرزدق وإن كنت أعلم موضع الضعف فيها فهي بعض الشعر الإسلامي الذي جنى عليه أدب الجاهلية

قال امرؤ القيس الجاهلي:

وواد كجوف العير قفر قطعته

به الذئب يعوي كالخليع المعيل

فقلت له لما عوى إن شأننا

قليل الغنى إن كنت لما تمول

كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته

ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

فكان في وصفه هذا اللقاء للذئب معرباً عن إحساس صادق وماذا قال امرؤ القيس؟

لقد وازن بين شروده في القفار وبؤسه وهو مطرود حائر محروم، وبين الذئب في مثل هذه الحالات فعوى عواءه

وكثر الدخيل على اللغة بإسلام من أسلم من أهل اللغات الأخرى فكان للشعر الجاهلي أثر غير أثره الطبيعي: ذلك أنه عماد هذه اللغة التي أصبحت عماداً للدين الجديد. فوقف شعراء الإسلام أمام أسلافهم من شعراء الجاهليين موقف العابد من المعبود لاقتران حاجتهم إليه بحاجتهم إلى المحافظة على اللغة واقتران محافظتهم على اللغة بحاجتهم إلى المحافظة على الدين، فمن أجل ذلك وضع الفرزدق قصيدة يصف فيها لقاء الذيب ووضع الشريف الرضي والبحتري قصيدتين في نفس الغرض ولكن وصف الثلاثة الإسلاميين للقاء الذيب كان وصفاً غير طبيعي لأن همهم الأول كان أن يفعلوا كما فعل شاعر جاهلي يقدسونه

قال الفرزدق إنه قابل الذئب ولكن بماذا أحس؟ بماذا شعر؟

يقول إنه أحس بأنه يريد أن يعطيه زاده فهل كذلك يشعر الناس عند لقاء الذئاب

فلما دنا قلت ادن دونك إنني

وإياك في زادي لمشتركان

ص: 46

فبت أقد الزاد بيني وبينه

على ضوء نار مرة ودخان

تعش فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

على أن مجال التفكير كان حول الطعام، كان في شأن العشاء والشاعر لم يتجه هذه الوجهة إلا لأنه مداح أكثر شعره في مدح الملوك لنيل الجوائز، أفلا يحق لي أن أصف هذا الأدب بأنه أدب معدة وبأن الشعر الجاهلي قد جنى عليه؟

قال الأستاذ أحمد أمين بك: والبحتري مادح آخر يتناول الهبات مكافأة على المديح وقد وصف الذئب وإن لم يلقه متأثراً بامرئ القيس فماذا قال وإلى أية ناحية كان اتجاهه؟ إنه اتجه أيضاً وجهة غير طبيعية في الإعراب عن إحساس من يقابل الذئب فقد قال:

عوى ثم أقعى فارتجزت فنهجته

فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد

إلى أن قال:

وقمت فجمعت الحصى فاشتويته

فهل عرفت الآن ماذا فعل بالذئب لقد أكله الشاعر البحتري بعد أن شواه على الحصى!

أو ليس هذا أدب معدة؟ أو ليس هذا مما جنى عليه الشعر الجاهلي؟ على أنني أترك التحدث عن وصف الشريف الرضي للقاء الذئب إجلالاً للشريف

لكن في بيتي الفرزدق مع ذلك روعة وجلالاً وقد صنعت فيهما لحناً هادئاً يضرب بالشوكة والسكين الفضيتين على طبق من أطباق الذهب قبيل الطعام

حدثنا الأستاذ عبد العزيز البشري قال وقد سمع هذا الحديث: أما إنه للحن عذب يفتح الشهية لكن على ألاّ يكون الطعام من لحم الذئب الذي شواه البحتري

وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال في صخب وضجة: لقد والله ظلموا البحتري وظلموا شعراء الإسلام. أو لم يقرءوا بقية القصيدة؟

قال البحتري:

وقمت فجمعت الحصى فاشتويته

فلم يبق إلا اللحم والعظم والجلد

فماذا أكل البحتري وقد استبقى اللحم والعظم والجلد؟ إنه لم يأكل إلا الرأس والأكارع، وهل في أكل الرأس والأكارع ما يستحق اتهام البحتري بأنه من أدباء المعدة؟ هذا والله هو الإجحاف والجحود لمآثر الأسلاف! ولماذا يكون الفرزدق محاكياً لامرئ القيس في وصف

ص: 47

الذئب؟

إنه إنما قال ما قال في وصف ذلك اللقاء معرباً عن شعور أصيل في نفسه هو شعور الكرم والنخوة فهو يطعم حتى الذئاب. وهو يعني ذئاب الإنسانية؛ فالأمر لا يعدو المجاز

حدثنا الدكتور بشر فارس قال: هذه الأبيات من الشعر الرمزي ولا شأن للذئب فيها سوى أحرف اسمه

وحدثنا الأستاذ عبد العزيز البشري قال: وأي كرم ونخوة في إطعام ذئب سواء أكان ذئباً حقاً أم كان مكنياً به عن الإنسان؟ إنه ليس في مصر كلها رجل واحد لا يطعم الذئاب دون أن يجد في ذلك مجالاً للفخر، ففي كل مكان فيه ذئب يخرج مصري معمم أو مطربش فيقول:

. . . أيها الذئب إنني

وإياك في زادي لمشتركان

تعش فإن عاهدتني لا تخونني

. . . . . . . . . . . . . .

ألا إنه لا كرم ولا نخوة في أمر شائع بين الجميع، وإنما الكرم والنخوة أن تفعل ما لا يفعله خاصة الخاصة من الناس

أخبار الفرزدق وشعره

حدثنا الأستاذ على الجارم بك قال: كان الفرزدق مفتشاً أول للغة العربية في حكومة بني مروان وكان من أصحاب العزة الجاهلية ففيه عجرفة يغتفرها له ما أفادته اللغة العربية من ثروة في شعره. وليس وصفه للذئب محاكاة لأبيات امرئ القيس ولا الذئب الذي وصفه من ذئاب الصحراء وأنشد:

صوت

وأنا الفرزدق غير أني

لا أسف إلى الهجاء

يا جارة الوادي

عففت فصنت أعراض النساء

لا كالفرزدق إنه

قد كان مفقود الحياء

الشعر للأستاذ على بك الجارم وقد اشترك في تلحينه كل مدرسي اللغة العربية بوزارة المعارف

ص: 48

(يتبع)

عبد اللطيف النشار

ص: 49

‌التاريخ في سبر أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانة بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

ولنعد إلى حديث بلنت مع عرابي، ولما كان هذا الحديث يكشف لنا عن نواح كثيرة من تلك الشخصية التي نعنى بدراستها نرى الخير في أن نورده على تمامه كما جاء في مذكرات مستر بلنت قال: (وقد نفذ كثير من تلك الإصلاحات بعد أن عزى للموظفين البريطانيين في عهد الاحتلال، وادعى لورد كرومر أنه مبتكر كثيراً منها. فمن ذلك إلغاء السخرة التي كان يضربها الباشوات الترك على الفلاحين، واحتكار بيع الماء في مدة الفيضان، وحماية الفلاحين من المرابين اليونانيين الذين انشبوا فيهم الأظفار بسبب فقدان العدل في المحاكم المختلطة. ومن هذه الإصلاحات أيضاً إنشاء بنك زراعي تشرف عليه الحكومة، وهذا هو البنك الذي باهى به كثيراً المرحوم اللورد كرومر. . .

كذلك تناقشنا في الإصلاحات القضائية، وكانت دوائر القضاء يعمها الفساد؛ وكذلك تكلمنا في نظم تربية الذكور والإناث، وفي طريقة الانتخاب للبرلمان الجديد ومسألة الرقيق، وقد أطال عرابي الكلام في هذه المسألة الأخيرة، وكان الموظفون الأجانب في مصلحة الرقيق قد خشوا أن يتناول الاقتصاد في المرتبات مراكزهم، ومن ثم كانوا يزعمون أن إحياء الإسلام معناه إحياء الاسترقاق. وقد أظهر لي عرابي ضعف هذا الزعم وما فيه من الافتراء، وبين لي أنه ليس في مصر من يود أن يكون له عبيد غير أمراء البيت الخديو والباشوات الأتراك الذين تعودوا استعباد الفلاحين، وأن الإصلاحات الجديدة سوف توطد المساواة بين الناس مهما اختلفوا في الجنس واللون والدين، وليس مع هذا الإصلاح محل للاسترقاق. أما فيما يختص بضرورة الاستعداد لحرب محتملة - ذلك الاستعداد الذي يجب أن يشغل ذهن وزير الحرب فقد تكلم عنه بصراحة وقوة فقال إن الحكومة الوطنية لا تنزع سلاحها ولا تخفضه حتى يوطد الحكم الدستوري وتعترف أوربا به. وكان يرجو ألا يتجاوز

ص: 50

مربوط وزارة الحرب الذي اتفق عليه مع كلفن وإلا يضطر إلى زيادة عدد رجال الجيش على ثمانية عشر ألفاً. أما إذا استمر التهديد بالتدخل فلا مناص له من اتباع الطريقة البروسية أي التجنيد العام لمدة قصيرة ليتمكن من إنشاء احتياطي كبير، وقد سأل عن رأيي في احتمال وقوع الحرب فقلت له صراحة إني بما علمته من اجتهاد كلفن في إحداث التدخل وبما أراه من الهياج الذي بثه في الصحف أعتبر أن الخطر حقيقي. وإني ذاهب إلى إنجلترا لا لشيء إلا لأضع حداً لحملة الكذب التي ثارت في الصحف، وستكون مهمتي هناك نشر الدعوة للسلام وحسن النية، وفي الوقت نفسه لم أستطع أن أنصح له إلا بالثبات والحزم في موقفه وبأن أفضل وسيلة لضمان السلم إنما هي الاستعداد للدفاع. وقلت إن شر أعداء مصر ليس الحكومات الأوربية بل الماليين الأوربيين وإن هؤلاء لابد أن يفكروا طويلاً قبل أن يعرضوا مصالحهم للخطر بالحض على إثارة حرب طويلة ذات نفقات طائلة، وقل أن يسئ أحد إلى أمة مسلحة مستعدة للدفاع عن حقوقها. وأذكر أني اقتبست من شعر لورد بيرون قوله:(لا تأمن الفرنج عل الحرية) فوافق عرابي على ذلك، وكانت هذه فيما أظن آخر كلماتنا، وقد وعدته أن أعود وأنضم إلى الوطنيين إذا شاء القضاء ووقع السوء)

وهذا الكلام من جانب ذلك الفلاح الذي تمخضت عنه مصر في تلك السنين السود في غنى عن كل تعليق. وما ندري ماذا يرى فيه أولئك الذين أرادوا ألا يجعلوا لذلك الرجل مكاناً بين أبطال قومهم، بل أولئك الذين يسلكونه في المجرمين الخائنين لوطنهم فيرتكبون بذلك من ضروب الإجرام ما لن يزال عالقاً بأعناقهم حتى يروا الحق فيصدعوا به وهم راضون؟

ماذا يرى في هذا الحديث أولئك الذين تنفر أسماعهم من اسم عرابي، وأولئك الذين يضحكون من جهله ويسخرون من تطاوله؟ على أننا لا نعبأ بما يقولون وما يهزءون فإنا لنستشف من هذا الحديث وطنية رجل ونلمس فيه عزيمة رجل على خير ما تكون الوطنية وأحسن ما تكون العزيمة. ولئن كان لرجل من ذوى الجاه والثراء أن يفخر بصنيع أداه إلى بني قومه، فأجدر منه بالفخر كل الفخر رجل درج من عش الفاقة وبرز من عامة الناس ففعل ما لم يفعله غيره من أكابر الناس! وإن هذا الرجل الذي يستشرف القلم في غبطة

ص: 51

وفخر إلى تاريخه ليقدم لنا بما فعل الدليل الناصع والبرهان القاطع على أن تربة هذا الوادي الذي أنبتت بالأمس الفراعين لا تزال تنبت أولى العزم والبأس من الرجال؛ وأن بين هؤلاء الذين يجيلون الفؤوس في غيطانها ويعملون صامتين صابرين في الهجير والزمهرير رجالاهم كالدر المخبوء لو أزيح عنه ما يطمره من تراب لتلألأ وسطع وسحر بريقه المتوهج القلوب والأبصار.

مضت الوزارة في سبيلها غير عابئة بصراخ أعدائها لا تتخاذل من دون غايتها ولا تستبعد الشقة، وذلك على الرغم من أنها كانت لا تجاوز عقبة إلا قام في سبيلها عقبات

ولقد قبع الخديو في زوايا العزلة، وجعل الغدارون الخوانون بينه وبين وزرائه حجاباً من الأباطيل التي أحكموا نسجها. والواقع أن الخديو لم يكن على شئ مما كان يجب أن يتصف به من يضطلع بأعباء الحكم في مثل هاتيك الظروف، فلقد كان مستطار القلب حائر اللب مما يجري حوله، فهو لا يسيغ الحركة الوطنية ولا يستطيع أن يصالح عليها طبعه؛ وهو مستريب في نيات الحكومة العثمانية نحوه ونحو عرشه؛ وهو فزع مما يشاع من دسائس الأمير عبد الحليم، بل ودسائس أبيه ومساعيه في مصر والآستانة على يد أعوانه؛ ثم هو فضلاً عن هذا كله قد بات تحت سيطرة الأجانب وعلى الأخص الإنجليز منهم فما يقطع أمراً حتى يوافقون عليه بل لا يخطو خطوة حتى يرى رأيهم فيها

ومن كان هذا شأنه في موقف كهذا الموقف الدقيق الذي كانت تقفه مصر من أعدائها يومئذ كان مثل الراعي أحاطت الضواري بقطيعه فما يرجو أكثر من أن ينجو هو بنفسه ولو هلك القطيع جميعاً.

وكانت الدولتان كما سلف القول تراوغ كلتاهما الأخرى، وتغافلها بغية الظفر بالفريسة وحدها؛ وهذه هي حقيقة السياسة الخارجية التي لا تفهم على وجهها الحق دون الانتباه إليها، وإن كان كرومر ينفي هذا في كتابه نفياً قاطعاً قائلاً إنه كان ذا صلة وثيقة برجال ذلك العهد جميعاً. ولو أن هذا كان موقف إنجلترا ما منعه شئ عن الاعتراف به.

ولكن نفي كرومر هذا لا يغير الحقائق. وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد ما كتبه ريناخ أحد أصدقاء غمبتا عن سياسة الدولتين قال: (إن الرأي العام في انجلترة قد وقع تحت تأثير بعض رجال حزب الشورى الذين اعتقدوا أن خير ما يعمل هو استعجال الحوادث جهد

ص: 52

الطاقة أملاً في إيجاد فرصة لدخول وادي النيل دون فرنسا)

حسبنا تلك العبارة التي حاول كرومر أن يفندها بما ذكرنا من نفي فلم يستطيع أن يأتي بدليل أو شبه دليل على صحة رأيه فلن يكون النفي المجرد مما ينهض دليلاً يؤخذ به أمر من الأمور

وكان غمبتا من أشد أعداء مصر بل من أشد أعداء الإسلام قاطبة، وكان هذا الرجل يهودياً على صلة برجال المال من الدائنين؛ وكان يحيط به في باريس ريفرز ولسن ونوبار يوحيان إليه بما يريان؛ وكان بطبعه ممن يميلون إلى اللجوء إلى القوة في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين

وكان هذا الوزير يحاول أن يدفع إنجلترا لتأخذ بسياسته ولكن جرانفيل راح يراوغه مظهراً له أن خيرهما في أن يتفقا، وفي الوقت نفسه كان يحذره عاقبة التدخل المسلح في شؤون مصر سواء أكان ذلك من جانب إحدى الدولتين أم من جانبيهما معاً لأن ذلك العمل كان من شأنه أن يجر في أعقابه كثيراً من المشاكل

ولقد رأينا مبلغ تشدده في وجوب إرسال المذكرة المشتركة المشؤومة، ثم إصراره بعد ذلك على عدم تخفيف وقعها بأي وجه من الوجوه. ولقد كانت كل من الدولتين تحرص على ألا تنفرد فتنكشف، لذلك كانت تجارى إحداهما الأخرى وإنها لمستكرهة أشد الاستكراه وأقبحه. . . وكانت إنجلترا تأخذ نفسها بالصبر حتى تحين الفرصة فتقتنصها

على أن غمبتا لم يلبث في الحكم طويلاً فسقطت وزارته في أول فبراير عام 1882 أي قبل تأليف وزارة البارودي بخمسة أيام وحل محله في الوزارة دي فريسنيه. وكان هذا من أول الأمر يرى في المسألة المصرية ما لا يتفق وسياسة غمبتا

ولكن الأمور كانت قد تحرجت في مصر بما فعل غمبتا، وفقدت العناصر الوطنية في البلاد كما أشرنا كل ثقة في الدولتين جميعاً حتى أصبح من أصعب الأمور التفاهم في السياسة العامة

وكان الإنجليز في مصر يعملون جهد طاقتهم لحساب دولتهم حتى إذا حانت ساعة العمل لم يكن بينهم وبين فريستهم حائل؛ ولقد ظلوا متربصين بمصر بعد أن نجحت وزارة البارودي في حل مسألة الميزانية ينتظرون أن تواتيهم فرصة فيعملوا على تنفيذ ما بيتوا

ص: 53

وأخيراً وقع في مصر حادث ما نظن في تاريخ الاستعمار الأوربي كله أن استغل حادث كما استغل - في قبح ما بعده قبح - ذلك الحادث على بعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد، وذلك هو حادث المؤامرة الجركسية المشؤوم

نمى إلى عرابي وزملائه أن فريقا من الضباط الجاكسة في الجيش يأتمرون به وأصحابه ليقتلوهم! فكان أن ألقت الحكومة القبض عليهم كما يقضى بذلك واجبها وساقتهم إلى المحاكمة فقضت فيهم قضاءها. وليس في هذا الحادث في ذاته ما يتصل بالسياسة العامة للبلاد بسبب من الأسباب. وما كانت أية وزارة تستطيع أن تسلك فيه سبيلاً غير التي سلكته وزارة البارودي، ولكن الكائدين المفترين ما لبثوا أن ملئوا الدنيا صياحاً وتنديداً وتهديداً ووعيداً، ونسوا كل شئ إلا تحقيق أطماعهم من وراء هذا الحادث، فكان من أقوالهم وأفعالهم ما هو حقيق بأن يسم تاريخ أي شعب من الشعوب بميسم العار والخزي؛ بل ما هو خليق بأن يساق ين أقوى الأدلة وأنصعها عل صحة مبدأ القائلين بأن هذه المدنية المزعومة قد أفسدت بني الإنسان فزادتهم قرباً إلى الحيوانية بقدر ما باعدت بينهم وبين ما كان يرجى للآدمية من سمو روحي ظل أمل الفلاسفة منذ أن أخذوا يحاولون التخلص من هذا الطين وينزعون بأبصارهم وأرواحهم إلى السموات

والحق لقد دل مسلك دعاة المدنية الأوربية على مبلغ ما يمكن أن يصل إليه غدر الإنسان بأخيه الإنسان في عصرنا هذا، وما برح مثل عملهم هذا يوحي إلى ذوي الأحلام والآمال من البشر أن الإنسان لا يزال هو الإنسان، وأنه إذا كان ارتقى في شئ ففي وسائل الكيد والبطش. أما غرائزه الأولى: غرائز السيطرة والأنانية وحب التملك، لا زالت بحيث لم يطرأ عليها أي تعديل، أو سمو على الرغم مما يتبجح به المثاليون والخياليون من حماة الإنسانية. وإنا لنجد في بيان مدى ما وصل إليه هؤلاء الساسة من انحطاط خيراً من أن نعرض المسألة في وضعها الطبيعي البسيط وما كان من أمرهم إزاءها مكتفين بذلك عن كل تعليق عليها، فما كان لكلام أن يبين عما يتحرك في الذهن ويعتلج في أطواء النفس أو يشفي القلب مما يحس من ألم وضيق أمام مثل ذلك العدوان الشنيع.

(يتبع)

الخفيف

ص: 54

‌استطلاع صحفي

جولة في مصلحة الكيمياء

معمل للأمة وللحكومة

لمندوب الرسالة

انتقلت مصلحة الكيمياء من مبناها القديم الضيق في فناء وزارة الأشغال إلى عمارتها الجديدة بشارع الملكة نازلي وبذلك فتحت أبوابها لكل ما يطلبه منها الجمهور من اختبارات كيميائية تكشف عن صلاحية المواد والمنتجات للحياة العملية، وبهذه الخطوة يستطيع الصانع أن يختبر مواده هناك كما يستطيع أن يحصل لمنتجاته على شهادات حكومية بصلاحيتها ولن يكلفه ذلك المال الكثير فأن المصلحة تشجع على ذلك ولا تأخذ عنه إلا أجراً زهيداً؛ ولذلك رأينا بعد استئذان مراقبها الدكتور أحمد زكي بك أن نقدم لقراء الرسالة صورة مما يحدث في ذلك المعهد وإن تكن صورة مقتضبة لأن عمل المصلحة متشعب والصفحات محدودة

مهارة الصانع

قال الدكتور محمد سعيد سليم رئيس قسم تحليل مواد البناء في مصلحة الكيمياء:

(نقوم بتجاربنا هنا على مواد رخيصة القيمة ولكنها خطيرة المسئولية. فقد يكون ثمن مواد الأسمنت أو الجبس أو المصيص زهيداً، ولكن الخطأ في تقدير قوة مقاومتها يؤدي إلى ضياع كثير من الأنفس والأموال. فتصور عمارة تشيد بالأسمنت المسلح لم يراع في خلط مواده النسب القانونية أو زادت على المخلوط كميات الماء حتى ذاب الأسمنت وسال وبقى الرمل وحده ليسند البناء. فلما تمت العمارة أتى الناس من كل جهات القاهرة ليجدوا فيها السكن الموافق؛ فلما نقلوا أثاثهم ونظموا غرفهم ثقل وزنهم على قوة مقاومة تماسك الرمل وقليل الأسمنت فسقطت السقوف وقتلت البنين والبنات، وترملت الأزواج والزوجات)

ثم وضع الدكتور قالباً مصنوعاً من الأسمنت المسلح بين فكي آلة ليختبر قوة الشد الذي تتحمله البوصة المكعبة منه؛ ثم فتح صنبوراً تساقطت منه كرات من الرصاص في وعاء يقع ضغطه على ذراع يجذب أحد أطراف قالب الأسمنت إلى أعلى بينما الطرف الأسفل

ص: 56

ثابت. وبعد برهة انكسر قالب الأسمنت وفي الوقت نفسه هبط ثقل الرصاص على يد معدنية وقفت تساقط كرات الرصاص في الوعاء. فلما وزن الوعاء ومحتوياته قال: (البوصة المكعبة من هذا المخلوط تتحمل شداً قدره 620 رطلاً)

وأثبت في جدول أمامه رقم القالب وقوة مقاومته فلاحظت أنه القالب السادس فأوضح ذلك قائلاً: إننا نتبع في اختباراتنا عدة تجارب من نفس النوع وعلى نفس المادة ثم نأخذ متوسط النتائج، فلا يخفى عليك ما ليد الصانع من تأثير على متانة البناء. بل يمكنك أن تلاحظ اختلاف الصناعة من هذه العينات الست التي قام بها عامل واحد وهي مخلوطة من مادة واحدة، فأنت ترى أنها تختلف بين 530 رطلاً و620 رطلاً. ويرجع هذا الاختلاف إلى عنايته ببعض النماذج ثم قلة هذه العناية في غيرها بسبب تعب يده أو سرعته. ولكن في البلاد التي تقوم بعملية صب العينات آلات حركاتها منتظمة تظهر النتائج للعينات المتماثلة ثابتة

معمل الأمة والحكومة

ومصلحة الكيمياء في مقرها الجديد بشارع الملكة نازلي معمل أبحاث يختبر كل المواد من حيث مدى صلاحيتها للعمل، كما يقرر المواصفات التي يجب توفرها في تلك المواد حتى تكون متينة التركيب فتتحمل الاستعمال مدة طويلة. وكذلك يجب أن تكون رخيصة حرصاً على أموال الحكومة. ففي معمل القاهرة (للمصلحة معامل أخرى في الإسكندرية) تختبر جميع مواد المناقصات ويوضع الحد الأدنى لقبول متانة المواد. فإذا أرادت إحدى المصالح أن تعلن عن مناقصة وضعت المبادئ المطلوبة ثم تركت لمصلحة الكيمياء مهمة بحثها وقبول العطاءات التي يتوافر فيها الرخص والمتانة معاً. فهذه المصلحة هي في الواقع معمل الدولة وقريباً تصبح معمل الأمة أيضاً. إذ أن التوسع الحديث في مبانيها أتاح لموظفيها أن يزيدوا ميدان عملهم فسمح للجمهور أن يطلب إلى المصلحة اختبار المواد التي يريدها بأجر زهيد

والعمل الأساسي لهذا المعمل هو اختبار المواد والمنتجات في أي شكل من أشكالها وتعيين مدى صلاحيتها وتركيبها الكيميائي. وهي بهذا تراقب بطريق غير مباشر تنفيذ عقود الحكومة مع مقاوليها في بناء عماراتها أو مورديها عندما يبيعون للحكومة أو لإحدى

ص: 57

مصالحها بعض المنتجات الصناعية أو الزراعية أو الكيميائية من أي صنف كانت؛ فعندما تطرح مناقصة في السوق يتقدم التجار بعينات وبأثمان الوحدات التي تتخذها الحكومة قاعدة لمعاملاتها فتتولى المصلحة اختبار تلك المواد وتحديد نوعها ثم تشير بقبول أحد العطاءات

فإذا بدأت العملية الثانية وورد المتعهد منتجاته فعلى المصلحة أن تختبر تلك المواد الموردة لترى إذا كانت مطابقة للعينات الأولى أم أدخل عليها تعديل أو غش. فإن الغش في المسائل الصناعية كثير وخطير ويعرض أموال الدولة وأرواح أفرادها للضياع

ثمانية معامل

ومصلحة الكيمياء ليست مجموعة من المكاتب يجلس خلفها عدد من الموظفين بل هي عدة معامل يقوم فيها الأخصائيون بمختلف التجارب العلمية اللازمة لاختبار المواد التي نستعملها في حياتنا العامة. وتتكون المصلحة من ثمانية معامل أولها لاختبار مواد البناء من أحجار وملاط؛ والثاني خاص بالمنسوجات على اختلاف أنواعها وبه فرع لفحص متانة الورق؛ وقسم ثالث لفحص الأصباغ بأنواعها؛ واختص قسم رابع بفحص الزيوت النباتية والمواد التي تدخل فيه كصناعة الصابون والشمع والجليسرين. ويمتاز معمل المعادن بما يحتويه من أفران ترتفع حرارتها إلى درجة عالية تكفي لصهر أي معدن. وهذه الأفران مصنوعة من مواد تمنع نفوذ الحرارة إلى باقي أجزاء الحجرة. ففي استطاعتك أن تجلس إلى جوار الفرن دون أن تشعر بأن حرارته 500 أو 600 درجة مئوية. واختبار المعادن مسألة دقيقة فمنها الثمين ومنها الرخيص ووسائل الغش فيها كثيرة

ولمواد الوقود قسمان: أحدهما خاص باختبار المواد السائلة كالنفط والبنزين، والثاني خاص بالمواد الصلبة كالفحم. وقد انضم إلى معمل القاهرة أخيراً معمل الدخان الذي كان في الإسكندرية ويقوم بعمل الأبحاث اللازمة لفحص المنتجات، سواء أكان لمعرفة جودتها وصلاحيتها أم لإجابة مصلحة الجمارك إلى طلباتها.

بين المخبار والمجهر

ويمكن تلخيص عمليات الفحص التي تتبع في هذا المعمل بتقسيمها إلى ثلاثة أنواع وهي

ص: 58

التحليل الكيميائي والميكروسكوبي والاختبار الطبيعي. ويكاد النوع الأول يسود جميع غرف المعمل فلم أدخل غرفة واحدة إلا شاهدت فيها أنابيب الاختبار وزجاجات المواد الكيميائية. فإن الفحص الكيميائي يبين تركيب المواد فينكشف ما فيها من مواد غريبة ضارة. فإذا قدم لنا البائع قطعة قماش وقال إنها صوف نقي يمكننا أن نعرف مقدار صحة كلامه بأن نضع قطعة من هذا القماش في صودا بدرجة 5 % ثم نغليها على النار فيذوب كل الصوف. فإذا كان القماش يحتوي أي مادة غريبة كالقطن مثلاً فإنها تبقى، وبعملية حسابية بسيطة يمكننا أن نعرف كمية القطن الموجودة في القماش.

ويستعمل التحليل الميكروسكوبي غالباً في قسمي المنسوجات والزيوت النباتية. فالفحص تحت المجهر يمكننا أن نعرف عدد الخيوط في البوصة المربعة فيحدد الفاحص طول البوصة على القماش ثم يضعه تحت المجهر الذي أعد لتسهيل هذه العملية الدقيقة ويقدر أخصائيو المصلحة عدد خيوط القماش الجيد بخمسين فتلة في البوصة سواء أكان ذلك في اللحمة أم في السدى.

وبالمجهر أيضاً يمكننا أن نعرف نوع النسيج إذا كان قطنيَّاً أو صوفيَّاً أو تيليَّاً فلكل فتلة مميزاتها، ففتلة القطن معتدلة بينما فتلة التيل ملتوية إلى غير ذلك من الصفات التي درسها الأخصائيون وشاهدوها في اختباراتهم وتجاربهم

وإذا مر الضوء في سائل فإنه ينكسر بزاوية خاصة تسمى معامل الانكسار ولذلك تختبر الزيوت بمراقبة معامل انكسار الضوء فيها داخل مجهر خاص قسمت زواياه بطرقة خاصة تبين معامل انكساره وبالتالي توضح جودة الزيت أو رداءته

شد وضغط وتماسك

وللتحليل الطبيعي عدة طرق يختبر بواسطتها قوة مقاومة المادة للطبيعة، ويكاد هذا النوع يسيطر على كل الاختبارات في معامل مصلحة الكيمياء. فمواد البناء مثلاً تتعرض في الطبيعة للشد والضغط والتماسك، ولذلك يجب أن تختبر من هذه النواحي الثلاث. وقوة التماسك من العوامل المهمة في تقدير صلاحية مواد البناء. فالأسمنت تبعاً للمبادئ المعمول بها في المصلحة يجب أن يبدأ تماسكه بعد نصف ساعة من بنائه، وأن يتم بعد عشرة ساعات. ويقول الفنيون إن كمية الماء التي تخلط بالأسمنت لا يجوز أن تزيد على 8 %

ص: 59

من حجم المخلوط وإلا ضعفت قوة مقاومة الأسمنت وسالت مواده فتركت المخلوط رملاً وزلطاً فقط

وتتأثر الملابس بأشعة الشمس، ولذلك تختبر المصلحة تأثير هذه الأشعة على القماش فتعرض جزءاً منه مدة 5 إلى 7 أيام تبعاً لحالة الجو ثم تلاحظ ما يبدو عليها من تغيير. وتؤثر الرطوبة على المنسوجات فتقوى القماش وتزيد ثقله، ولذلك يحتفظ قسم المنسوجات بغرفة لها درجة رطوبة ثابتة. فلاختبار عينات من القماش تبيت العينة ليلة في تلك الغرفة لتأخذ درجة رطوبتها. ووزن القماش من الاختبارات المهمة فقد يكون عدد الفتل كبيراً ولكنها رفيعة ضعيفة. وتعتبر البفتة السمراء جيدة إذا كان وزن الياردة المربعة منها 160 جراماً وقوة الشد على طولها أو عرضها 350 رطلاً

ويعتبر زيت النفط (البترول) من أحسن أنواع الوقود ويكفي جرام واحد منه لإنتاج 10 آلاف كالورى وهو الوحدة المستعملة لرفع درجة حرارة جرام واحد درجة واحدة سنتيجراد. ويمكن غش النفط بإضافة المازوت أو النفط الوسخ إليه. ويمتاز البترول عن الفحم الحجري بأن الأخير يترك رماداً. ولذلك يضع قسم الوقود أكبر كمية يمكن قبولها للرماد في الفحم وهي 5 % وهو يتأثر أيضاً بالرطوبة ولذلك يجب ألا تزيد درجة رطوبته على 5 % وتختبر مواد الوقود بمعرفة القيم الحرارية الناتجة من المادة

ثلاث أنابيب

ويلاحظ الزائر لهذه المعامل ثلاث أنابيب ملونة تسير في جميع الغرف تقريباً. فأما الأنبوبة البيضاء فهي خاصة بتوصيل الهواء المضغوط إلى أجهزة خاصة تحضر فيها الغازات. فإذا أريد تنقية المكان من هذا الغاز فتحت هذه الأنبوبة فطردت الغازات الغريبة وتستطيع هذه الأنبوبة أيضاً أن تقدم لمن يشاء هواء نقياً

الأنبوبة الحمراء خاصة بغاز الاستصباح الذي يشعل في التجارب المختلفة وقد صنع من اللون الأحمر ليكون إنذاراً للعمال على أنها أنبوبة خطرة. والأنبوبة الثالثة خضراء وهي خاصة بالماء. ويسيطر على هذه الأنابيب عدة محابس كما أن استعمال أنبوبتي الهواء أو الغاز يضاء له مصباح أحمر إلى جوارهما

وللمصلحة مكتبة كبيرة فخمة على أحدث طراز يتبع أمينها أسهل الوسائل لتبسيط إجراءات

ص: 60

البحث عن المراجع المطلوبة وصرفها. وقد استعمل لذلك تنظيم الكتب على أحدث طريقة أمريكية، فرتب فهارس الكتب في لوحات طويلة من الحديد مما يسهل على الباحث العثور على كتابه بسرعة. والمجلات هي أكثر المجلدات الموجودة في المكتبة. فإن العلم سريع التجدد والتغير. ولذلك كان الاطلاع على المجلات العلمية الدورية خير من الكتب للباحث المطلع

فوزي جبر الشتوي

ص: 61

‌رسالة الشعر

الشاطئ الخالي

للأستاذ خليل شيبوب

الشاطئ اليوم خال لا قطين به

إلا بقايا من الأشباح ترتفق

أما الألي مرحوا فيه فإنهم

سرعان ما اجتمعوا فيه وما افترقوا

كانوا جماعات لهو جد جدهم

حيناً ولكنهم في العيش ما اتفقوا

لم يمنحوه هواهم مثلما فعلت

نفسي التي برشاش الماء تعتلق

أخليته لهمُ حتى إذا ارتحلوا

عنه إذا بي إليه الآن أنطلق

تبسط الرمل فيه اليوم وانتعشت

فيه الصخور عليها الموج يندفق

وعاد ما كان من أمن ومن دعة

إليه مذ زال عنه الطيش والنزق

العين آخذة في سمته رَتَلاً

من التعاريج تبدو ثم تنغلق

والصخر يصغي إلى الأمواج تنشده

لحن الطبيعة فيه الحب متسق

حلته مسترسلات العشب مسبلة

غدائراً تلتقي فيه وتفترق

والأفق غشته أستار وأعمدة

حمراء ماج عليها غيمه اليقق

قصر من الفتن الكبرى تيممه

شمس الأصيل بها الأكوان تأتلق

كأنما الريح لما رف ناسمها

سالت حنينا بها أرواح من عشقوا

حملت حبي إليه واعتزلت به

عن كل سامعة تصغي وتسترق

وفي فؤاديَ رسم ليس يبصره

سواي والكون حولي صامت فَرق

كأنني عابد حانٍ على صنم

أخفاه بين الضلوع الحب والفرق

إني تحدثني عن مقلتيك هنا

هذى البحار وهذى الشمس والأفق

وعن جبينك مرفوعاً تضئ به

طهارة الحسن مزهواً بها الخلق

أراك في قسمات الغيب سابحة

يفج حولك فجر الحب والشفق

في واهج من هيولى النور منعكس

منى بها شهداء الحب قد صعقوا

مجلوة بنشيد السعد لحنه

معنى الرجاء الذي في الغيب يصطفق

يا جنة فقدت عيني مباهجها

وفي يدي لم يزل من نشرها عبق

ص: 62

هل ساعة ومضت بالسعد راجعة

أم انقضت وتقاضي نورها الغسق

صبرت لكن هذا الصمت أقلقني

حتى تناهب عمري الصبر والقلق

إن الأماني في صدري قد انتحرت

فأين أدفنها والصدر مختنق

لم يبق من مهجتي الحرى سوى رمق

ينحل فيها ولن يستمسك الرمق

فليتني لم أكن حياً وتأكلني

نار لعينيك فيها بت أحترق

يا أيها الشاطئ الخالي رحبت مدى

ولا أطاف به التكدير والرنق

أراك منى أدنى من عرفت لذا

عمري عليك بما لاقيت ينطبق

كم اجتنبت الورى ما لي ومالهم

وكم تمنيت أن الناس ما خلقوا

إني قطعت مسافات وصلت بها

إلى مساء حياتي وهي تستبق

أرى الظلام بما فيه يهددني

وفي الظلام يطول الهم والأرق

وشاطئ النفس مهجور قد انطمست

معالم الأنس فيه وأمحى الأفق

والحب بحر صفا لي برهة فإذا

وراء ذاك الصفا التيه والغرق

يا أيها الشاطئ الخالي هنا وقفت

بي الحياة على آثار من سبقوا

ما عاد غيرك لي من أستريح له

وليس غيري قطين فيك يلتحق

مخضتك الود صرفاً فاجزني مقة

فإنني بك قلبي مولع ومق

(الإسكندرية)

خليل شيبوب

ص: 63

‌النسمات.

. .

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

خبِّريني يا نُسيْمات الأصيلْ

ما الذي نِلتِ من النهر الطروب؟

قد لَثمتِ الماء في رفقِ الخليل

ولَثمتِ الزورق الجاري الَّلعوبْ

فارتمى الموج على الشاطئ من فَرْطِ الهوى

وتهادى الزورقُ السبَّاقُ حيناً والتوى!

ومَرَرْتِ الآن بالأزهار مَرَّا

فنفحْتِ الجوَّ من طيبِكَّ لِينَا

ولَثمتِ. كم لَثمتِ الآن زهرَا

فانثنى خجلان أو فرحان حينا

فزعَ الطيرُ لِمَا يَعْرُو الفَنَنْ

فمضى يشدو بألحان الشَّجنْ

أنتِ ما ألطفكِ الآن! وما أعذب لَثْمكْ!

أُلْثُميها في حنان، ليتني رُوحٌ للَثْمكْ!

تتلقَّاكِ بأنفاسٍ طروبهْ

وتحيِّيكِ تحياتٍ غريبهْ

وهي تصغي لحديثي في سكون ووداعَهْ

مثل طفلٍ مطمئنٍّ بين أحلام الرضاعَهْ

فإذا ما حَدَّثَتْني فهي كالجدول في الروض الأريضْ

والمراعى

نَغَمُ القلبِ لدى الحُلْمِ وأنغامُ القريضْ

في سماعي

خبِّرينى! خبِّرينى يا نُسَيْماتِ الأصيلْ

ما الذي نِلْتِ من الزهر ومِنَّا؟

هل سَلَبْتِ الزهرَ شيئاً بينما كان يميلْ

واختطفتِ يا تُرَى لما ابتسمنا

بعضَ أغراضِكِ؟ ماذا

نِلْتِه من كلِّ هذا؟

هزأتْ بي النسماتْ

فسألتُ المَوَجاتْ

ص: 64

وسألتُ الزَّهَرات

كلُّها بي هازئاتْ

خبِّريني أنت يا مَنْ

سبَّحَ القلبُ بحُبِّكْ

ما الذي نالتْهُ هاتيك النسائمْ

منكِ؟ ها ثَغْرُكِ وضَّاءٌ وباسِمْ

خبِّرينى في صفاءٍ

خبِّرينى إِيْ وربِّكْ!

لم تَنَلْ شيئاً، ومَنْ منّا ينالْ!؟

كلُّ ما في الحبِّ أطيافُ خيالْ. . .!

حسن كامل الصيرفي

ص: 65

‌على الشاطئ

للأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن

يا حبيبي أنا في الثغر غريبُ

قست الأيام لو تدرى عَليْهِ

قلبه من حرقة الوجد يذوب

وتوارت بَسمةٌ في شفتيه

ذاهلٌ تلقاه كالطير الجريح

ماتت الأنغام في أوكارهِ

ذابلٌ كالعود يغدو ويروح

عطّلته الريحُ من أزهارهِ

أين ما لاقيت من صفو الليال؟

في ربيع العمر والدنيا ابتسامْ

والأماني الزهر في دَلٍّ حيالي

ضاحكات راقصات للغرامْ

وأنا في دوحة الحب أغنى

أسرق الألحان من سحر العيون

بين صفو ونعيم وتمنى

آهِ. قد طال إلى الماضي حنيني

يا حبيبي ها هنا فوق الرمالِ

مسرح للغيد يَسبى الناظرينْ

فوقه يرتع أرباب الجمالِ

في ظلال الصفو في رفقٍ ولينْ

بيد أني لمْ أجد فيه لعيني

في معاني الحسن من معنى حبيبِ

طالما أنت غريب الدار عنى

فأنا الظامئ في قفر جديبِ

أتغنى بك إذا أنت نشيد

تتمشى في دمي أنغامهُ

وأُمني النفس بالماضي يعود

أتُرى تهفو لنا أيامه؟

(الإسكندرية)

مصطفى علي عبد الرحمن

ص: 66

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

هي مرة واحدة

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

لي صديق نحات انكسر له تمثال فحزن عليه، فأردت أن أواسيه فقلت له: ألا تستطيع أن تعوضه بغيره؟ فقال لي: قد أوفق إلى ما هو خير منه، ولكني يائس من التوفيق إليه هو. وحدثت بذلك صديقاً لي آخر شاعراً فقال لي: إني مثل صاحبك لو فقدت قصيدة عجزت عن إعادة إرسالها. فاستطلعت الرأي عند صاحب لنا صحافي فنصحني بالخمود عنها لأنها مسألة مغربة. فأهملتها ثم نسيتها ولم أذكرها في جد إلا حين توكلت على الله لأعد لقراء الرسالة حديث هذا الأسبوع. فقد نادتني إليها من جديد وهي تسألني: أما وجدت مخرجاً لصديقك الذي وقع من التمثال فانكسر؟ فأطرقت أبحث عن المخرج فإذا بصديقي الشاعر يتهادى أمام خيالي وعلى شفتيه الساخرتين ابتسامة أعرفها وأستطيب مراقصتها بروحي التي تستجيب إلى صفائه تراحماً وحناناً. قال لي: كنت بالأمس نشوان استخفتني وحشة ذات بهجة فانطلق لساني بشعر طربت له بالأمس كل الطرب ولكني لم أسجله، ولما أصبحت وأردت أن أستعيده لم أسترجع منه إلا أشباحاً فكيف السبيل إليه؟ أو أنت لا تزال عاجزاً مع صديقك النحات لما تجمعا حطام تمثال؟

وصديقاي الشاعر والنحات عزيزان علي معزة كل فنان فلا أقل من الترحيب أستقبل به مسألتهما هذه فهي مما يعرض للفنانين جميعاً، ولا ريب أن استعراضها وتفتيقها سيظهران لنا بعض ما نحب أن نقف عليه من أسرار الفن ومراحل تخلقه في نفوس الفنانين

ولنبدأ إذن بتجديد هذه المسألة حتى لا نتيه فيها كما نتيه أحياناً في تلافيف هذا الفن وثناياه المتكسرة أنوارها بعضها على بعض والتي قد تضل من يجوس خلالها، ولكنه على أي حال الضلال المأمون المعجب

مسألتنا هي: هل يمكن إنتاج القطعة الفنية نفسها مرتين؟

ولكي نقرب هذه المسألة من أذهان المتباعدين عنها، والذين يستغربونها نطرحها هي

ص: 67

نفسها، ولكن من ناحية لينة لا يعسر هضمها على ذهن من الأذهان. فنقول: هل تستطيع المرأة أن تلد طفلها نفسه مرتين؟! وسيجزع المستغربون حين يروننا قد قلبنا مسألتنا هذا القلب، وسيستطيع واحد منهم إذا أعانه الله أن يطبق فمه الذي انفتح لتتفجر منه الدهشة منزاحة عن صدره، وسيفتح فمه بعد ذلك ليسيل منه سؤال من أسئلة المستغربين فيقول: وما للولادة والفن؟ وما أطيب عندنا من رد لهفته إذ نقول إن الإنتاج الفني ليس شيئاً غير النسل الروحي كما أن الولادة إنجاب حيواني. . . وكما أن الولادة لا تكون إلا باتحاد عنصري الجنس المختلفين وهما الذكر والأنثى، فإن الإنتاج الفني لا يكون إلا باتحاد عنصري الجنس الفني وهما نفس الفنان والحياة نفسها. وكما أن الولادة لا تحدث إلا بعد وقت يقضيه الجنين في بطن أمه، فإن الإنتاج الفني لا يحدث إلا بعد وقت يقضيه الجنين الفني في نفس الفنان، وكما أن الولادة إذا حدثت قبل أن يكتمل تخليق الجنين في بطن أمه لم تكن إلا إجهاضاً، ولم يكن الوليد إلا سقطاً ناقصاً مشوهاً مضطرباً، فإن الإنتاج الفني إذا حدث قبل أن يكتمل تخليق الجنين الفني في نفس الفنان لم يكن إلا إجهاضاً، ولم يكن الفن إلا سقطاً ناقصاً مشوهاً مضطرباً. وكما أن الطفل بعد ولادته قد يعيش وينمو برعاية أمه أولاً، وبقدرته على الحياة. ثانياً؛ وقد يموت لضعفه بعد قليل أو كثير، فإن الفن قد يعيش وينمو برعاية صاحبه أولاً، وبقدرته على الحياة ثانياً؛ وقد يموت لضعفه بعد قليل أو كثير. وكما أن المولود إذا نما وترعرع أنجب هو أيضاً مواليد ومواليد، فإذا مات خلد في أبنائه وأحفاده، فإن الفن إذا نما وترعرع أنجب هو أيضاً مواليد ومواليد، فإذا مات خلد في أبنائه وأحفاده. وكما أن هناك أمراضاً تناسلية تصيب الأجنة وتظهر في المواليد، فإن هناك أمراضاً روحية تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؛ وكما أن هناك أمهات خبيثات النظر ينسلن لأزواجهن أبناء غيرهم، فإن هناك نفوساً فنية خبيثة النظر تذل لغير الروح ودواعيها، فتنسب للفن ما ليس من الفن وما يصرخ الفن بإنكاره صراخاً له آذان خاصة تسمعه. وكما أن في الأمهات مزواجات، فللواحدة منهن ولد من كل أب، ولكل ولد من أولادها شبه، فإن من الفنانين من يتنقلون بين الأحاسيس والفكر فيتشكل إنتاجهم ويتلون. وكما أن في الأمهات ذات عصمة وقناعة بالتجربة الواحدة، فلأفراد نسلها ملامح مميزة متشابهة، فإن من الفنانين من ينحصر اتجاههم إلى ناحية واحدة يضربون فيها بجُمّاع

ص: 68

أرواحهم، فلإنتاجهم طابع هذا الاتجاه وملامحه المميزة المتشابهة. وكما أنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن أنجبت عذراء وليداً مرتجلاً ملهماً، فكان مسيحاً ولم يمت كما يموت الناس وإنما رفع؛ فإنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن ارتجل نبي فناملهما فكان قرآناً وخلد. وبما أن هذه الظواهر جميعاً قد تماثلت وتعادلت في الولادة وفي الإنتاج الفني، فإنها لابد أن تتشابه وتتعادل فيهما من حيث أنها لا يمكن أن تحدث في كل دفعة إلا مرة واحدة.

ونسكت نحن بعد أن نقول هذا كله، وننتظر في سكتتنا أن نرى شيئاً من علائم الفهم يتبدى على وجه صاحبنا المستغرب فإذا به مصغ إلينا في صمتنا كما كان مصغياً إلينا أثناء كلامنا فلا نستطيع أن نملل هذا إلا بأنه يفهم من الصمت ما يفهمه من الكلام. ولما كنا مؤمنين بأنه يمتنع عليه فهم الصمت امتناعاً لوجود كما يقول النحاة فهو من غير شك لم يفهم من كلامنا شيئاً. . . أمرنا إلى الله! لنستفهمه مقدار إدراكه لعله يوفر علينا الإعادة من جديد ولنسأله: ما رأيك يا مولانا فيما كنا نقول؟ ها هو ذا (يا فرحتنا) يسألنا: ماذا كنتم تقولون؟

- استعنا عليك وعلى أنفسنا بالله. . . اسمع؟ هل أنت فنان؟

- نعم.

- وما فن حضرتك؟

- الكتابة. . .

- حسن. قل لنا الآن ما الذي يحدث لك قبل أن تكتب؟ ألا تشعر بأعراض الحمل والوضع؟. .

- هه؟ ماذا جرى لعقولكم؟. أنكم مجانين

- هذا شئ لا نستطيع أن ننكره، وإن كنت لا تستطيع أن تثبته، وهو على أي حال ليس يعنينا الآن قدر ما تعنينا هذه الأعراض التي نسألك عنها والتي نريد أن نعرف إذا كنت تشعر بها قبل (إحداث) إنتاجك الفني، أو أنك تنتجه هكذا، فهو إما أن يكون وحياً، أو لا يكون فناً على الإطلاق

- أنا لا أشعر بأعراض، ولا يمكن أن تكون للكتابة أعراض إلا إذا كانت مرضاً

- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تنزل عليه الوحي ارتجف وتصبب عرقه وغاب.

ص: 69

فكانت هذه هي أعراض الوحي: الارتجاف وتصبب العرق عارضان بدنيان، والغياب أو (الانئخاذ) عارض روحي، وقد كان في هذه الأعراض من العنف وحدة المفاجأة ما يناسب الإعجاز الذي يميز القرآن، ولكل فن بعد ذلك ما يناسب قدره من الأعراض، فكم ترتجف حضرتك قبل أن تكتب وكم تتصبب عرقاً، وكم تغيب عن هذه الدنيا؟

- إن شيئاً من هذا لا يحدث لي.

- إذن فأنت لست فناناً، فالفنانون يحدث لهم هذا. كلهم: الكاتب، والشاعر، والموسيقي، والرسام، والنحات، والممثل حين يرسم حدود دوره، ويفصل ملامحه. فالكاتب، إذا رضينا به مثلاً يعيش وهو مرهف الحس مشحوذ العقل كغيره من الفنانين فيرى في الحياة ما يؤثر فيها تأثيراً خاصاً يحدث انفعالاً نفسياً خاصاً، فإذا توالى عليه حدوث هذا الانفعال النفسي تربى عنده ما يسميه علماء النفس بالوجدان، وهم يعرفونه بأنه استجابة باللذة أو بالألم لما يحدث في النفس من الشعور، فإذا تجمعت عدة مؤثرات حول هدف نفسي واحد ولوّنها وجدان واحد بلون واحد فقد تخلقت في النفس عاطفة تحيط بهذا الهدف، ولا تلبث هذه العاطفة تنمو في النفس وتنمو حتى لا يعود حبسها ميسوراً فتتفجر إما فناً منظماً منسقاً، وإما دوياً روحياً لا نظام فيه وإن كان فيه كل ما في الفن أو ما يزيد على الفن بلاغه في التعبير. ففصول الألم والحزن التي كتبها كتاب الأرض جميعاً تخفض الرأس أمام أي دمعه صادقة خشوعاً وإجلالاً. . . فهل كتبت يوماً يا أستاذ ما كان بعض دموعك؟. . .

- وماذا يصنع الموسيقي؟

- ما يفعله الأديب، وكل ما بينه وبين الأديب من فرق أن الأديب يعبر عن نفسه بالكلام، والموسيقي يعبر عن نفسه بالنغم، ولعلك سمعت أنه كان للشاعر من شعراء الماضي راوية.

- نعم. وأحسب الشعراء كانوا يختارون رواتهم ممن قويت حافظتهم.

- كلا. وإنما كان الأمر على العكس من ذلك، فقد كان الرواة هم الذين يختارون شعرائهم، فالرواة لهم من الاستعداد الفني حظ كبير، وهم هواة حقيقيون. لعل الواحد منهم كان يعين شاعره على الحياة. ولقد كان الواحد منهم يشتري صاحبه بالدنيا وما فيها ويلزمه ويتابعه لا لشيء إلا أن ينعم منه بساعات الصفاء التي يتيحها له الزمن. وهو من شدة لهفته وحبه لصاحبه يحفظ عنه ما يقول لا يدفعه إلى ذلك إلا حرصه على هذا الكنز وخشية أن يضيع

ص: 70

أو يندثر. وقد كان يمر الوقت الطويل أو القصير فينسى الشاعر شعره ويعجز عن إعادته. أما الراوية فذاكِرُهُ ومعيده كُلما أراد إعادته، فهو من الشاعر كالجارية، ومن الشعر كالمربية يصونه ويدلله. ولعلك سمعت أن من المغنين من كان لهم أيضاً رواة، فكان المغني يطلق ما يهتاج في نفسه من الأحاسيس غناء لا يعبأ بأنغامه، ولا يرتب ألحانه، وإنما هو ينفث الزاخر في نفسه من العواطف، وكان الراوية يلقف منه فنه هذا ويرصده في نفسه ويثبته تثبيتاً، فإذا نزع المغني بعد ذلك إلى اللحن وجده عند راويته ولم يجده عند نفسه، ذلك أن الفن أنًّةٌ لا تصدر إلا مع الموجدة، فمتى صدرت لم يكن بد لترجيعها من موجدة جديدة، وإلا كانت في حرارة الذكرى ولم تكن في استعار النازلة

- إذن فأنت تنكر على الفنانين استلهام ماضيهم

- لست أنكر هذا ولا أستقبحه، ولكني أحفظ للفن المرسل مكانه المتسامي على مكان الفن المختزن، على أني لا أستطيع أن أخفض من قدر هذا الفن المختزن فقد يكون فيه من العنف والقوة ما في غضبة الحليم من الشدة والسعة. ومهما يكن الأمر فإن هذا خارج عن بحثنا، ومن الخير لنا أن نعود إلى ما كنا فيه. فهل هناك شيء تريد أن تستوضحه؟

- إنك قلت إن الفن إذا أخرج قبل أن يكتمل في نفس الفنان تخليقه لم يكن إلا سقطاً. فماذا تقصد بهذا؟

- لا ريب أنك قرأت لكتاب محببين إليك فصولاً أنكرتها عليهم. هذه الفصول كتبوها وهم كارهون لأنهم لم يكونوا استكملوها في نفوسهم ولكنهم لأسباب يعلمونها هم أخرجوها فكان هذا منهم إجهاضاً، وكذلك الأمر مع الشعراء والموسيقيين والنحاتين والرسامين وغيرهم من أصحاب الفنون

- هذا حسن. وكيف تتوالد الفنون بعد ذلك؟

هذه الفنون مخلوقات حية لا أجسام لها، وهي تعيش فيما بين النفوس والأرواح تغازلها وتعاشقها، فإذا طاب فن لروح تزاوجا وكان من نسلهما بعد ذلك فن ونفس جديدان في كل منهما ملامح من الفن القديم وملامح من النفس الأولى. ألم تسمع بالمدارس الفنية والمذاهب الفنية يا أخي؟. . . هذه هي ولكنا نقول عنها أسر وقبائل وشعوب

- يا سلام. . . وما هي هذه الأمراض الروحية التي تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؟

ص: 71

- للروح أمراض كثيرة كما أن للبدن أمراضاً كثيرة. وأقسى أمراض الروح وأشدها فتكاً والعياذ بالله المرض الأصفر

- وهل تصاب الأرواح بالكوليرا أيضاً كالأجسام؟

- وما من فرق غير أن كوليرا الروح معنوية لا يعرفها الأطباء!

- وكيف عرفت أنت وكيف ميزت لونها؟

- لست أدري. ولكني ساءلت نفسي يوما عن حكمة الله في الصفرة يلون بها الموت والذهب وما بينهما من الخبث والشر. ألم تر صفرة الذهب؟ أو لو تر صفرة الموت؟ أو لم تر مسكيناً خبيثاً خداعاً منافقاً يصفر وهو يغش الناس ويكذب عليهم؟ أو لم تحاول يوماً أن تلمح بين كل صفرة وصفرة من هذه. . . رابطة؟

- أوه! أنا فاهم. أنت تريد أن تقول إن بعض الفنانين تنتابهم هذه الصفرة فتنتاب فنونهم بالوراثة

- آه لو أن لي حق الإشارة بمنح النياشين!

- أشكرك واحسبني أستطيع بعد ذلك أن أجري في الموازنة بين الفن وهو المخلوق الروحي كما قلت، وبين الناس وهم المخلوقات المجسدة، على هذا القياس الذي رسمته لي

- وأحسبك بعد ذلك ستقول معي إن الفن لا يمكن إنتاجه إلا مرة واحدة

وعدت إلى صديقي النحات والشاعر وقلت لهما: يا صاحبيّ اطلبا العوض من الله فأنتما عاجزان عن استرجاع ما ضيعتما، فلا أنت معيد تمثالك ولا أنت معيد قصيدتك

عزيز أحمد فهمي

ص: 72

‌القصص

من الأدب الرمزي

ورقة من السماء

للقصصي الدانمركي أندرسن

بقلم السيد عارف قياسة

في أوج السماء الرفيع، في الهواء النقي الندي، طار ملاك بزهرة من رياض الفردوس. ولما لثمها أسقط ورقة منها على الثرى وسط الغابة، فما لبثت أن اتخذت جذوراً، ونمت وترعرعت بين الحشائش الأخرى. ولكن أنواع النبات لم تشأ أن تعترف بأنها واحدة منها. . . فكانت تقول:(ما أغرب هذا الغرس. .!) وكان الحَسَك والقُرَّاص أول من رقص على ثغره الهزء، ولمع في عينيه السخر. كان الحسك يقول باحتقار:(من أين أتى هذا. . .؟ هذه بذرة ضئيلة من البقول لم نر أسرع منها نمواً. . . أمن اللائق ذلك. .؟ وهل يدور في خلدها أنا نسندها حين تلويها كف الهواء. . .؟)

وجاء الشتاء، وغمر الثلج محيا البسيطة، ونفض الغرس السماوي على الثلج بهاء رائعاً، ورواء ناصعاً، كأن شعاعاً زاهياً من الشمس رقص تحت حواشيه، فأنارها بفيض من لألائه. . .

وأتى الربيع الضحوك، وحمل الغرس زهرة ما رأت العين أنصع منها بهجة، ولا أبرع فتوناً. . .

وسمع عنها أستاذ علم النبات الذائع الصيت في البلاد، فخف إليها وشهادته الرفيعة تشهد بعلمه الجم واطلاعه الرحيب ومعرفته الغزيرة. وتأمل الغرس بإعجاب، وحلله وذاق من أوراقه

لم يكن ليشبه ما أبصرته عيناه من أعاشيب؛ وما كان في مقدوره أن يرده إلى فصيلته أو نوعه. فلم يتمالك أخيراً أن قال: (هو غرس هجين. . . هو نبات فذ غريب؛ ذلك لا يطَّرد على قاعدة، ولا يجري على قياس). وردد الحَسَك والقُرَّاص: (ذلك لا يطَّرد على قاعدة، ولا يجري على قياس). ورأت الأشجار الفارعة الغليظة وسمعت ما كان، فلم تفه بخير ولا

ص: 73

شر، وذلك عين الحكمة حين ترين الغباوة على الأذهان

. . . ودلفت إلى الغابة فتاة فقيرة، عفة الضمير، طاهرة الأذيال، نقية الفؤاد، عامرة القلب بالإيمان، لا تملك من دنياها غير إنجيل عتيق يخيل إليها أن الله يحدثها من خلاله. علمت منه شرور الناس، وخبثهم السافل، ولكنها عرفت أيضاً أن علينا - حين نتلقى جورهم وعذابهم، ونقاسي سخطهم وسخريتهم - أن نذكر يسوع الطاهر، وأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، وأن نردد معه قوله:(اللهم اغفر لهم، فإنهم لا يعلمون ما يصنعون)

ووقفت الفتاة أمام الغرس العجيب، وقد كانت زهرته تضمخ الهواء بأريج عذب لذيذ يترقرق في الأرواح، وتمض في الشمس كطاقة من النيران الصناعية

وعندما دغدغ النسيم أوراقها رنت في أذنها ألحان علوية، وأنغام سماوية

وظلت الفتاة في نشوة من اللذة، وغمرة من الذهول البهيج أمام هذه الأعجوبة. ومالت برأسها نحو الغرس. . . لتتأمله عن كثب. . . وتنشق أنفاسه الندية العطرة. . .

وشعرت بقلبها ينتعش ويتفتح. . . وبذهنها يستضيء بنور الحكمة الإلهية. ومدت يدها، وقطفت الزهرة، وفؤادها خافق بالسرور. ولكنها فكرت في أن في ذلك بعض السوء، وأن نضرت الزهرة ستذوى، وجمالها سيمَّحى. فلم تأخذ غير وريقة خضراء وضعتها بين إنجيلها، حيث ظلت رفافة الطراوة، بديعة الاخضرار

وتعاقبت الأسابيع، ووضع الإنجيل والورقة تحت رأس الفتاة في تابوتها

واستراحت الفتاة فيه بسكون، وفي قسمات محياها البديع الوديع تلوح سعادة خلاصها من الغبار الأرضي، ودنوها من الخالق

وفي أثناء ذلك طفق الغرس ينمو ويزهر، والعصافير العابرة تنحني أمامه بتجلة واحترام

وهمس الحسك والقرامي: (انظروا جيداً هذا الأجنبي. . . وهل يدرون لماذا يسفحون عبرة أعينهم ويريقون ماء أوجههم؟ أبداً لا نحذو حذوهم الغبي)

حتى دويبات الغابة السمجة، فقد كانت تبصق أمام الغرس الساقط من أوج السماء.

واقتلع راعي الخنازير، وهو يضم حِزم العوسج ليشعل ناره، عُلَّيْقاً وحسكاً وقُرّاصاً، وكذلك الغرس الوسيم بجذوره وقال في نفسه:(كل ذلك لا يصلح لغير طهي الطعام.)

وكان ملك البلاد تغشي روحه كآبة سوداء، ما كان شيء ليقشع دياجيرها، ويبدد ظلماتها

ص: 74

فانطلق يلهو منهمكاً في مشاغل شعبه، ومطالعات آيات العباقرة المؤلفين، ثم آثار الكتاب التافهة الهزيلة. وما أجدى ذلك ولا عاد عليه بطائل.

حينذاك أحضر أحكم من في الكون، فأجاب أن لديه وسيلة لشفاء الملك وتنفيس كربه! ذلك أن يأتيه بزهرة سماوية نبتت في غابة من مملكته. وطفق يعرض أوصافها، ويسرد خصائصها. وعرف الغرس الذي أثار حب الاطلاع منذ هنيهة.

وقال الراعي في نفسه: (لقد اقتلعته وايم الحق منذ أمد بعيد، ولم يبق منه هشيم. وإلى هذا يقود الجهل)

وخجل الراعي من نفسه واحترس من أن يميط اللثام عما صنعت يداه. واختفى الغرس، ولم يبق منه غير ورقة ترف على رأس الفتاة الراقدة في قبرها، ولكن أحداً لا يعلم بذلك.

وجاء الملك بنفسه إلى الغابة ليتحقق من زوال الغرس. وقال: (هنا إذن قد ترعرع الغرس، فسيقدس المكان منذ الآن)

وأحاط المكان بسياج من الذهب، ووضع حراساً عليه. وكتب أستاذ علم النبات النابه عن صفات الغرس الإلهي بحثاً مطولاً بين فيه كل ما فقد بفقده. وغمر المليك بالذهب كل صفحة من صفحات المؤلف. ولكن المليك ما يزال محزون القلب ولم يجد لشجنه دواء، والحراس المساكين كان يلوي الألم بأفئدتهم في الغابة. . .

(حماه - سوريا)

عارف قياسة

ص: 75

‌من هنا ومن هناك

الفوهرر (فوزي القاوقجي)

(عن مجلة الباريسية)

نشرت مجلة الباريسية عدة فصول ممتعة عن بلاد العرب والرجال الذين يقودون الحركة العربية في هذه الأيام. وقد قدمت تلك الفصول بكلمة قالت فيها: إن هذه الحركة ذات الأثر الفعال في مركز الإمبراطورية البريطانية يقودها سبعة أشخاص كل منهم يعد نفسه أولى بالملك والزعامة في بلاد العرب. وقد نقلنا عنها في عددين سابقين ما كتبته عن الملك ابن السعود بعنوان (نابليون العرب). وما كتبته عن الأمير عبد الله بعنوان (هل يظفر الأمير عبد الله بملك فلسطين؟). واليوم ننقل عنها كلمة عن الثائر العربي فوزي القاوقجي حتى تكون لدى القارئ فكرة وافية عن هؤلاء الرجال الذين يتطلع إليهم العالم كلما ذكرت المشكلة العربية:

ليس في فلسطين من يجهل اسم فوزي القاوقجي. فهذا الرجل الذي تروى عنه القصص والأخبار العجيبة يعرفه كل عربي وكل يهودي، بل وكل بريطاني يمشي على أرض فلسطين، بأنه ذلك البطل الوطني والثائر العربي الذي يخشى بأسه في تلك البلاد

وتدل الأخبار المستقاة من قسم المخابرات البريطانية على أن فوزي القاوقجي يقود جيشاً يتراوح عدده من ثلاثة إلى أربعة آلاف رجل. وهذا الجيش يهدد مواصلات الصحارى والجبال في فلسطين، ويقطع الطريق على من تحدثه نفسه بعبورها

ويعد أتباع هذا القائد من أشجع الرجال وأصبرهم على تحمل المشقات، وهم يستميتون في مقاومة عدوهم اللدود ما دام القاوقجي يشعل في نفوسهم نيران الحقد، ويتجنب كل موقعة مع القوى البريطانية من شأنها أن تؤدي إلى هزيمة

وقد استولت على نفسه عقيدة بأن القوة التي يقودها في فلسطين سيكون لها أثر في يوم من الأيام في رفع شأن الأمة المحمدية، أو إحياء مجد العرب، لذلك لا تطاوعه نفسه على استباق الحوادث والمخاطر بالظروف التي هي في انتظاره يوماً من الأيام.

ويعد القاوقجي مسئولاً عن إثارة حرب العصابات في فلسطين فيتسلل هؤلاء البدو الذين يقودهم في ظلام الليل إلى المدن، ويختفون كالأشباح عند ظهور الفجر تاركين ورائهم

ص: 76

المنازل المشتعلة بالنيران والأراضي المخربة، والجثث المضرجة بالدماء. وتعد هذه المظاهر المرعبة شاهداً صامتاً على أن القاوقجي ورجاله قد مروا بهذه المنطقة في المساء.

والقاوقجي رجل متوسط الطول عريض الأكتاف ملتف الساعدين جميل الصورة في كوفيته البيضاء والعقال الذي يلفه على رأسه هو وأتباعه، ولكن الملابس الإفرنجية قد تقلل من مظهره وتعطيه صورة أخرى.

ولقد قضى القاوقجي أيام شبابه في سوريا، وأرسل منها إلى القسطنطينية ليتدرب على الأعمال العسكرية بها. ولقد كان نشاطه وأعماله الحربية في إبان الحرب العالمية من الأعاجيب. ويقال إنه كان يقود فيلقاً من الجيش التركي. ويقال كذلك إنه انضم إلى الحلفاء وحارب مع الكولونيل لورنس. وسواء أكان هذا صحيحاً أو غير صحيح، فمما لا شك فيه أنه ما كادت الحرب تضع أوزارها حتى كان زعيم ثورة في تلك البلاد. وقد قبض عليه الفرنسيون ووضعوه في سجن جبل الدروز وقد حكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، ولكنه فر بأعجوبة قبل التنفيذ بساعات معدودات.

والقاوقجي يؤلف قوة منظمة تمثل الجهة الشمالية من فلسطين. وهو يعتقد ككل فوهرر في الشرق والغرب أنه وحده من دون ملوك العرب وأمرائها وشيوخها أحق الناس وأقدرهم على أن يكون الحاكم الأعظم للعرب بل ولعامة المسلمين

هتلر ليس نابليون

(بقلم المؤرخ الإنجليزي فيليب جواديللا)

في هتلر بعض مظاهر وصفات تدعوا إلى المقارنة بينه وبين نابليون. ولكن هل تصح المقارنة بين هتلر ونابليون؟

لقد كانت مواهب ذلك القائد الكورسيكي وانتصاراته الحربية جديرة بأن ترفعه إلى حيث يسود الأمة الفرنسية. ولم يظهر هتلر بعد شيئاً من مواهبه الحربية إذا كانت له مواهب في هذا الشأن. وهو ولا شك سيكون القائد المسئول في ألمانيا إذا نشبت نيران الحرب.

إن هذا الرجل الذي يتظاهر أمام العالم بعبادة القوة، لم يظهر كفاية حربية من أي نوع في أيام الحرب العظمى التي يمتحن بها الرجال. وكل ما هنالك أنه ارتقى فجأة إلى رتبة

ص: 77

جاويش

إن مواهب هتلر ولا شك تظهر في كثير من الشئون الاجتماعية والمدنية. ويزعم الألمان أنه خطيب لا يشق له غبار وأن لديه مقدرة عظيمة على استهواء الجماهير، وإن كان غيرهم لا يطيق تلك الخطب التي تبدو فيها صرخاته العصبية المزعجة وهو يتكلم عن معاهدات السلم أو يتعرض للاشتراكية أو اليهود

لم يكن نابليون فرنسياً خالصاً، وهو ولا شك من عنصر أقوى صلابة من العنصر الإيطالي، إلا أنه عاش لاتينياً طول حياته. لقد كان سريعاً نحو غايته طموحاً مدرباً على الحروب، منطقياً إلى أبعد حد، ميالاً إلى الانتقام، عصبيَّاً في بعض الظروف ولكنه على الرغم من ذلك كان مسلحاً بدروع سميكة من الصبر وضبط النفس عند الملمات - فهل توجد فروق أكثر من هذه بينه وبين ذلك الرجل المفتون بطبيعته، الذي يتولى زمام الأمور في ألمانيا؟ وشتان بين خيالات العزلة والانفراد على القمم والجنون العجيب بمسألة الدم والنشأة وحياة العزوبة - وبين تلك الحياة التي أخرجت قانون نابليون العتيد، وقادت الجيوش المنتصرة في شتى الميادين، ولم يشغلها كل ذلك عن الحب والمرح في أخطر الظروف

إننا لا نجد وسيلة للمقارنة بين تينك الشخصيتين المتناقضتين إلا في شئ واحد: وهو استعمال القسوة التي تفرضها الضرورة على كل مستبد يساق إلى معاداة العالم. لقد محا هتلر تشيكوسلوفاكية واجتاحها بغير رأفة، وذلك يذكرنا بما فعله نابليون في أسبانيا، ولكن أسبانيا قد عاشت بعد نابليون

الحق أن نابليون أزعج العالم بمحاولته التوسع في الامتلاك ولكنه وقف عند حده. وهذه نتيجة تنتظر كل من تحدثه نفسه بمثل ذلك العمل. لقد كانت جميع الأمم تنظر إلى نابليون بعين الاحترام وهو إمبراطور لفرنسا؛ إلا أنه حينما أراد أن يضع يده على الأرض الأوربية أخذت أوربا تجمع قواها شيئاً فشيئاً واستعدت لأن تقهر أكبر جيش في العالم وأقدر جندي عرفه التاريخ. وعبر الأيام تحثنا بأن كل من تحدثه نفسه بأن يلعب دور نابليون لابد أن يلاقيه في النهاية حظ نابليون.

لا جديد تحت الشمس - العالم منذ ألفي سنة

ص: 78

(عن مجلة دتش أندشو التي تصدر في برلين)

كان للإِغريق والرومان مدفعية يرجع عهدها إلى أربعمائة سنة قبل الميلاد، وقد تقدموا في رمي القذائف والنبال، فأصبحت تلقى إلى مئات الأمتار، واخترع ديونسيس آلة لرمي النبال تستطيع أن تدور باستمرار فتلقي ما فيها بغير انقطاع.

واستطاع البيزنطيون أن يخترعوا طريقة لقذف النار، ولم يكن البارود قد اخترع بعد، ولكنهم استطاعوا أن يسخروا القوِى والآلات الموجودة في ذلك العهد لهذا الغرض، وقد صنع قدماء الإغريق والرومان كل ما صنعوه في آماد طويلة، إذ أن السرعة التي هي من سمات هذا العصر لم تكن معروفة في تلك العهود. ولم يكن أهلوها يعرفون المثل القائل إن الوقت من ذهب، ولم يكن عندهم عمال ومصالح كما هو معهود الآن

وإذا كان القدماء لم يعرفوا الساعة كما نعرفها الآن فإنه كان لديهم الذكاء الكافي لتقدير الوقت، ومع ذلك فقد استعمل قدماء المصريين ساعة الرمل والماء، وكان الأطباء يحملونها عند فحص المرضى ليقدروا دقات القلب وسرعة النبض. واستطاعوا كذلك أن يخترعوا ساعة تدق ساعات النهار جميعها مبتدئة من الساعة السادسة في الصباح إلى السادسة بعد الظهر

وقد ألف كتاب في الجراحة لأطباء الجيش في مصر منذ ألفين وثمانمائة سنة قبل الميلاد. وعرف الهنود في طب العيون عمليات القدح (إزالة الماء)، وعرفوا خياطة المصران وإزالة الحصوة وذلك منذ سنة ألفين قبل الميلاد

وفي سنة ألفين قبل الميلاد وضع حمورابي قانوناً لتقدير أجر الأطباء وتحديد مسئولياتهم. وكانوا يعرفون كثيراً من الكلمات المألوفة الآن مثل فن تدبير الصحة والفيزيقيا والصيدلة والباثولجي والجراحة والسوداء والإسهال والروماتيزم وكثيراً غير هذه الأسماء

أما أسماء العقاقير والأدوية فقد أخذنا أكثرها عن اللاتينيين كما هو معروف

وإلى اليوم يعتبر هيبوقراط رمزاً لعلم الطب. وإذا كان القدماء لا يعرفون الميكروسكوب فقد كانوا يهتدون إلى كل شئ بفطنتهم ودقة حسهم

أما الأطعمة فقد كان ينقصهم الكثير من الأصناف المعروفة الآن كالبرتقال والليمون والموز

ص: 79

والشاي والقهوة والسكر، وكانوا يستعملون عسل النحل بدل السكر ويستعملون الزيت عوضاً عن الزبد. لكن قدماء المصريين كانوا يعرفون صناعة الجعة (البيرة) ويشربونها ومن العادات المألوفة عند القدماء الاهتمام بحديث المائدة، حتى أن أغنياء روما كانوا يدعون العلماء والكتاب إلى موائدهم لتوجيه الحديث إلى ناحية الصواب

هل نحن عرب؟

(محاضرة ألقاها السيد فؤاد مفرج في أحد الأندية العربية

بمدينة نيويورك)

الأمة مجموع من الناس مرتبطون بشعور واحد، ويجمعهم تاريخ مشترك، ومطمح مشترك غايته إيجاد دولة واحدة والاحتفاظ بها ليعيشوا في ظلها ويحققوا أفضل ما ينطوون عليه. . .

وهكذا فإن كل من يشعر بإخلاص أنه عربي، وفي صدره ولاء صادق للمثل العربية العليا، فهو عربي بقطع النظر عن الدم والعنصر. . .

ثم إنه ليس في العالم أمة لم تختلط أصولها. فإنكلترا مؤلفة من النورسيين، والأنجلو، والسكسونيين، والنورمنديين. ومثلها فرنسا. وناهيك بأمريكا. . .

ونحن مثل هؤلاء لا فرق عندنا بين السوري والعراقي والمصري واللبناني والفلسطيني والنجدي

لا جدال في أن شعوباً كثيرة مرت بسورية والعراق ومصر، وتركت في هذه الأقطار آثارها العنصرية. ولكن جميع هذه البقايا البشرية صهرت في بوتقة العروبة، وذابت في الأمة العربية الحديثة. . .

فالأمة العربية - ككل أمة سواها على وجه الغبراء - أصابها الامتزاج، ولكن هذا المزيج عربي، لأن لسانه عربي، وثقافته عربية، وعنصره الغالب السائد عربي. . .

وجميع أجزاء الأمة العربية مترابطة المصالح والفوائد اقتصادياً وسياسياً، وثقافياً، ودفاعياً: -

فاقتصادياً، ليس كاتحاد هذه الدول ما يوفر لها التبادل الحر، وإزالة الفواصل الجمركية،

ص: 80

ومنع الإنتاج الصناعي المستغني عنه والحماية السياسية الكافية التي هي شرط جوهري للفلاح والرخاء

وسياسياً، فالاتحاد وحده هو الذي يمنع الاحتكاك بينها، ويغنيها عن الإكثار من المصالح والنفقات التي لا لزوم لها. . .

ودفاعياً، نحن في غنى عن القول بأن الاتحاد العربي، على غرار الاتحاد الأمريكي، هو وحده يحمي ويضمن بقاء الأجزاء التي تؤلفه، والوحدات التي تكونه، ونظرة واحدة إلى حوادث السنين - بل الشهور - الأخيرة تدلنا دلالة كافية على أنه لا أمان للأمم الصغيرة. فنعمة وجودنا أمة مؤلفة من سبعين مليوناً يجب أن تستقر في أذهاننا. . .

إن كثيرين منا لم يتح لهم الإلمام بتاريخ العرب المجيد. ألا إنه لولا ثقافة العرب العالية وتراثهم العلمي لكان وجود الحضارة الحاضرة مستحيلاً. . .

إنه لشرف أن ننتمي إلى العنصر العربي

ويبدأ عمل الحركة العربية في القلوب والأرواح، فمتى تم اتحاد القلوب والأرواح، أصبح الاتحاد السياسي والجغرافي نتيجة طبيعية. . .

فالعروبة حركة قومية فيها الأمن والرخاء والفلاح لجميع العرب وبواسطتهم للإنسانية جمعاء!

ص: 81

‌البريد الأدبي

مصر والأمم العربية

أخي الأستاذ الزيات:

أقدم إليك أصدق التحيات، ثم أذكّرك بما تعاهدنا عليه من أن نكون جنوداً في جيش الأخوّة العربية إلى أن نموت

وأنا من جانبي أذكر مع الأسف أن الحكومة المصرية لن تستجيب بسرعة إلى المطالب التي اقترحتها في كتاب (ليلى المريضة في العراق)

فلم يبق إلا أن ننوب عن الأمة إلى أن تستجيب الحكومة لما اقترحناه، والأمم في كل أرض أسبق من الحكومات إلى الخير والجميل

والذي يهمني هو تذكيرك بما صنع إخواننا العرب هذه السنة في تمجيد مصر: فمجلة الحديث التي تصدر في حلب أصدرت عدداً خاصاً عن وادي النيل، ومجلة العرفان التي تصدر في صيدا أصدرت عدداً خاصاً عن وطن شوقي وحافظ وصبري والبارودي، ومجلة المكشوف التي تصدر في بيروت أصدرت عدداً خاصاً عن الوطن الذي كابد في سبيله الملك فؤاد، وجريدة الهدف التي تصدر في بغداد تستعد لإصدار عدد خاص عن جورجي زيدان وهو لبناني احتضنه وادي النيل

فما رأيك إذا اقترحت عليك أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن سورية ولبنان والعراق؟

وما رأيك إذا اقترحت عليك أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الحواضر المشهورة في البلاد العربية مثل تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز؟

تأكد، أيها الأخ، أنك لن تجد أية صعوبة في تنفيذ ما أقترحه عليك، وتأكد أن هذه الخدمة الأدبية ستحفظها لك مصر، لأن مصر يهمها أن تتعرف إلى سائر الأقطار العربية تعرف الشقيق إلى الشقيق

وفي انتظار جوابك بالقبول أرجو أن تتقبل تحية أخيك المخلص

زكي مبارك

(الرسالة):

ص: 82

اقتراح الصديق سديد مفيد. وسنعمل على تنفيذه بعون الله بعد شهور الصيف.

الروحيات والمعنويات في الإسلام

أستاذنا العزيز الزيات:

تحية وبعد فقد كتب أستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد (314) من (الرسالة) الغراء مشيراً إلى ما كتبنا إليه ذاكراً ما ذكرناه من إنّا نرى أن اللذات التي سينعم بها المؤمنون في الجنة لذات روحية، وأن اللذات التي ذكرها القرآن الكريم ليست كلها لذات حسية، وأن القرآن الكريم عندما ذكر النعيم المادي إنما ذكره كجزاء لما قدّم العباد من حسنات تتصل كلها بالروحانيات والمعنويات. فرأينا كلاماً أن أستاذنا أحمد أمين صادق كل الصدق في نظرته إلى أن القرآن كتاب روحانيات وكتاب معنويات، وأنه عند ذكره الأشياء المادية لا يريد بها لذات مادية، وأنه إن أراد بها أو ببعضها أشياء حسية إنما هي نتيجة اتباع لروحانيات، واتصال بمعنويات. هذا هو الرأي الذي يستقيم مع أصل النصوص ويستقيم مع الفكر الإسلامي السليم. وإلا لو أراد أستاذنا الدكتور زكي مبارك منا أن نفهم فهمه لأخذنا بالرأي المضحك السقيم الذي ذكره مثلاً ابن عابدين في الجزء الثالث من حاشية (المختار) الدر المختار ص315 فيما ذكره (من مطلب لا تكون اللواطة في الجنة من أنه قد قيل إنها سمعية فتوجد، وقيل يخلق الله تعالى طائفة نصفهم الأعلى كالذكور والأسفل كالإناث وأن الصحيح الأول. وفي البحر حرمتها أشد من الزنا لحرمتها عقلاً وشرعاً وطبعاً. . .). فلو أخذنا بالرأي الذي يقول به أستاذنا الدكتور لقلنا: إن المراد بالولدان أن يفهم ذكرهم هذا الفهم السقيم، وحاشا لله أن يكون كذلك. والأقرب إلى العقل أن يكون ذكر الولدان التمتع بالفكرة الروحية التي يبعثها الجمال الحسي، وإنه إن جاز إن نأخذ في ذكر الحور العين باللذة الحسية، فإنه لا يجوز أن يفهم هذا عن ذكر الولدان. على أن ما ذكره القرآن الكريم من حور عين ومن ولدان ولحم طير ورحيق وأباريق وفاكهة، لا يجوز بحال أن نفهم أن ذكرها يؤيد أن القرآن يعنى بالحسيات، أو أنه كتاب حسيات، لأنه كما قلت إنما عنايته موجهه للمعنويات وذكرها يراد به اللذات المعنوية. وإن أريد من بعضها أو من ذكر بعضها اللذات الحسية فعلى أنها تابعة للذات المعنوية ويراد من ذكرها تقوية معاني

ص: 83

الروحانيات عند المؤمنين لأنها جزاء من عمل صالحاً وجزاء من اتقى

والغريب أني عند صدور عدد (الرسالة) الأخير قابلني في الترام أحد المبشرين الأمريكان يجادلني في هذه الفكرة التي يريد دكتورنا أن يأخذ بها المسلمون. وبعد فالدكتور زكي مبارك عزيز علينا ولكن أعز منه كتاب الله والفكرة الإسلامية السليمة التي يجب أن ندافع عنها، وهي أن الإسلام دين روحانيات ومعنويات وأن ليس معنى هذا أنه لا يعنى بالحسيات والماديات، بل هو يعنى بها وبتنظيمها التنظيم الذي يتصل بأن يرقى بالإنسان إلى الروحانيات، وأنه عند ذكر الماديات الأخروية لا يريد بها جزاءها الحسي، بل يريد بها جزاءها المعنوي الروحي، وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر ما تتصل بالروحانيات والمعنويات، والسلام عليكم ورحمة الله.

محمود علي قراعة

جماعة الفن والحرية

قرأنا في عدد (الرسالة) رقم (314) الصادر في 10 يوليو سنة 939 كلمة جاءت في صفحة البريد الأدبي تحت عنوان (الفن المنحط) وقد ورد في هذه الكلمة أنه بهذا الاسم قد تكونت جماعة من الفنانين هي اليوم في طريقها إلى التفرق والتحلل لأنها لم تجد عند الفنانين والصحافة والجمهور ما كانت ترجوه من تشجيع، وأن الفن المنحط الذي ندعو إليه هذه الجماعة لا يمكن أن يقال عنه أنه منحط فعلاً ما دام يجد من يقول عنه إنه فن، إذ أنه لا يمكن أن يكون الفن فناً ومنحطاً في الوقت نفسه إلا إذا كان كاذباً. فالفن هو نتاج الحس؛ ومتى توفر فيه الصدق، فإنه سام رفيع، ولا يفسده شيء، ولا ينقص من شأنه شيء إلا أن يكون تكلفاً فهو عندئذ ليس فناً، وإنما هو تهريج وتجارة.

وقد جاء في هذه الكلمة أيضاً أنه إذا كانت جماعة (الفن المنحط) قد تألفت من أفراد صادقين في شعورهم وتعبيرهم ففنهم رفيع من غير شك مهما تواضعوا وقالوا إنه منحط؛ أما إذا كانوا يتكلفون هذا الانحطاط ففنهم منحط حقاً لا لشيء إلا لهذا التكلف.

وكل ما جاء في هذه الكلمة صحيح من غير شك في نظر كاتبها فقط بل نظرنا أيضاً، لأننا

ص: 84

لا نعتقد أبداً أن جماعة من الجماعات يمكن أن تقوم باسم (الفن المنحط) لتدعو الناس إلى الانحطاط في الفن

لقد تكونت جماعتنا باسم (الفن والحرية) وأعراضها تنحصر في الدفاع عن حرية الفن والثقافة وفي نشر المؤلفات الحديثة وإلقاء المحاضرات وإقامة المعارض الفنية العامة، ثم هي تعمل في نفس الوقت على إيقاف الشباب المصري على الحركة الأدبية والاجتماعية في العالم

هذه هي أغراض جماعة (الفن والحرية) فإذا كان فيها ما يدل على أنها تدعو إلى الانحطاط في الفن فنحن نغتفر للكاتب ما ذهب إليه في أمرها. أما أن يتصدى لنقد جماعة من الجماعات كاتب لا يعرف حقيقة اسمها ولا يعرف حقيقة أغراضها معتمداً في هذا على الإشاعات والأقاويل فهذا ما ننزه كاتباً في (الرسالة) عن خطأ الوقوع فيه

أنور كامل

عن اللجنة الدائمة لجماعة (الفن والحرية)

انحطاط الطاقة ونهاية الكون؟

إلى عالمنا المصري الدكتور محمد محمود غالي:

أقرأ بإعجاب المقالات العلمية العظيمة التي يجود بها يراع العالم الطبيعي المحقق الدكتور محمد محمود غالي على صفحات الرسالة فأشعر بحنين نحو السوربون لأنه يخيل إلى وأنا أطالعها أني أستمع إلى أولئك العلماء الأعلام أساتذة تلك الجامعة الكبيرة التي تلقيت فيها العلم أيام الصبا

وتتبعت على الأخص بإمعان مقالات الدكتور الأخيرة عن موضوع انحطاط الطاقة وتدهورها المستمر المحتم من صورها العليا كالكهرباء والطاقة الميكانيكية إلى صورتها السفلى وهي الحرارة، وكيف أن الكون سائر نحو ما يسمونه (الموت الحراري) على حد تعبير الدكتور العالم أي السكون التام الذي سينتهي إليه في جميع أبحاثه بجميع أجزائه وجزيئاته وذراته ومحتوياتها على النحو الذي شرحه الدكتور بما أوتي من علم وبلاغة، فلا كواكب تدور ولا شموع تسطع، ولا سيارات تُضاء، ولا حركة من أي نوع ولا كهرباء ولا

ص: 85

جاذبية ولا ضوء ولا حرارة مرتفعة الدرجة الخ. وبطبيعة الحال لا حياة على الأرض ولا على غيرها بل إن الحياة تكون قد اندثرت من الكون قبل ذلك بملايين وملايين السنين لزوال أسبابها وعدم توفر شروطها وعواملها، وما هي إلا حلقة من تطورات الطاقة تنتج من تحول الطاقة الكيميائية الناتجة من احتراق المواد الغذائية داخل الأنسجة إلى طاقة ميكانيكية كحركة الجسم وحركة أعضائه الداخلية وتفاعلاته الكيميائية البيولوجية وفي النهاية إلى حرارة شأن جميع صور الطاقة أثناء تحولها في الطبيعة

فعاودني حين قرأت هذه الصورة المقبضة لنهاية الكون اعتراض قديم قام في ذهني حين سمعت هذا الرأي لأول مرة فيما مضى عند درس الطاقة البيولوجية، وقد أشار فعلاً إلى هذه النهاية المحزنة أستاذي العالم الفسيولوجي الكبير المأسوف عليه (داستر) في دروسه بالسوربون وفي كتابه النفيس (الحياة والموت)

وإني أطرح هنا هذا الاعتراض على الدكتور غالي لأستقي من بحر علمه الواسع راجياً منه أن يتحفنا بكلمة في هذا الموضوع من كلماته الفياضة تروي غليلي.

أقول إنه لو كانت نهاية الكون هذه تحدث للأسباب المذكورة لحدثت من زمن. ذلك لأنه لو فرضنا أنه يلزم مثلاً مليار أو أكثر من السنين لتحول جميع صور الطاقة العليا في الكون إلى حرارة غير مرتفعة الدرجة لتم ذلك من زمن بعيد لأن المادة (أو مجموعة المادة والطاقة) قديمة، ولأنه مضى على الكون أضعاف أضعاف أضعاف هذه المدة. وهل يمكن أن يتصور العقل أن للكون بداية؟ أليس هذا مخالفاً لأبسط الحقائق العلمية وللنواميس الطبيعية الأساسية، وعلى الأخص لناموسي بقاء المادة وبقاء الطاقة وعدم تلاشيهما؟ فَكل من المادة والطاقة ثابت لا تخلق منه ولا تنعدم منه ذرة واحدة، وإن كانت صورهما في تحول مستمر من الواحدة إلى الأخرى. وإذا كان العلم الحديث أوشك أن يوحد بين المادة والطاقة فيمكن أن يقال إن مجموعهما ثابت لا يخلق منه شيء، ولا ينعدم منه شيء.

وبالجملة فإنه إذا كانت تلك الأسباب (انحطاط صورة الطاقة العليا وتحولها شيئاً فشيئاً إلى حرارة منخفضة الدرجة) من شأنها أن تقضي على الكون بالسكون التام المطلق لحدث ذلك من قديم الزمان

فإذا صح هذا الاعتراض ألا تكون النتيجة الطبيعية المنطقية أن هناك إذا عوامل أخرى

ص: 86

مجهولة الآن لم تدخل في حساب العلماء والرياضيين قد يكشف عنها العلم في المستقبل فتغير وجه المسألة ويطمئن حينئذ رجال الغد على مصير الكون؟

نصيف المنقبادي المحامي

عدد المكشوف الخاص عن مظاهر الثقافة في مصر

أصدرت زميلتنا المكشوف البيروتية عدداً خاصاً عن مظاهر الثقافة في مصر في 56 صفحة مزدانة بالصور المختلفة، حافلة بالفصول الممتعة والبحوث المستفيضة في شتى مناحي الأدب المصري، دبجه أكثر من 40 كاتباً وشاعراً مصرياً، وبه حديثان أحدهما لمعالي هيكل باشا، والآخر لسعادة العشماوي بك

وقد وُفق أكثر الكتاب كل التوفيق فيما عالجوه من الموضوعات، ولكن أقلهم غلبت عليه نزعته الخاصة فلم يفطن إلى الحكمة من إصدار هذا العدد فخرج فيما كتب عن أسلوب المؤرخ المقرر الذي تقتضيه هذه الحال

والعدد يباع بمصر في المكتبات التالية: التجارية الكبرى بأول شارع محمد علي، النهضة المصرية - 15 شارع المدابغ، الهلال بشارع الفجالة، زلزل - 3 ميدان سليمان باشا.

ص: 87

‌رسالة النقد

على هامش كتاب

حياة الرافعي

تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان

للأستاذ محمود أبو ريه

أقبلت على قراءة كتاب (حياة الرافعي) لا كما يقبل عليها غيري من أهل الأدب ومحبي الرافعي، وذلك لما كان بيني وبين الرافعي رحمه الله من صداقة امتدت أكثر من ربع قرن فعرفت من أحواله وأنبائه شيئاً كثيراً، فما فتحت عيني على هذا السفر النفيس الذي تحث عن هذه الحياة المباركة حتى رجعت إلى ذاكرتي من ناحية، وإلى كتب الرافعي الخاصة التي لدي من ناحية أخرى، لأرى إن كان صديقنا سعيد العريان قد صدق فيما روى وحقق فيما أرّخ، أو هو قد سلك تلك السُبل التي يتبعها أكثر المؤرخين من العناية بكثرة الحشد، والتلفيق في الرواية من ههنا وههنا بلا تمحيص في ذلك ولا تحقيق، كأن التاريخ لا حرمة له عندهم، والحق لا رعاية لجانبه في قولهم

جعلت ذلك همي من قراءة كتاب (حياة الرافعي). أما البحث في قيمته وأثره في عالم الأدب، وفضل صاحبه في السبق إلى اقتراع هذه الطريقة من الترجمة، وما إلى ذلك من المزايا التي امتاز بها هذا الكتاب، فقد تركت ذلك كله لغيري ممن يعرضون لنقده أو تقريظه حتى لا يقال إن صديقاً يقرظ صديقه

قرأت الكتاب من ألفه إلى يائه قراءة تدبر ودرس فخلص لي منه أن أخانا الأستاذ سعيد قد فاز بالحسنيين: حسنى الوفاء للرافعي - والوفاء في زمننا قد أصبح غريباً بل صار جريمة ومنكراً - وحسنى إحسان العمل من حيث التحقيق في الدراسة واستيعاب كل ما يتصل بحياة الرافعي حتى خرجت هذه الشخصية الجليلة في هذا السفر صورة حية. ذلك بأنه لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولم يذر شاردة ولا واردة إلا قيدها. بيد أن هناك أمرين ما أظن إلا أن اطراد البحث قد أعجله عن استكمال درسهما

ولأني أعرف الحق في هذين الأمرين فقد رأيت إحقاقاً للحق وإنصافاً لمن يتصل بهما أن

ص: 88

أستعلن بما أعرف على صفحات الرسالة الغراء ليكون من علم قرائها الذين هم صفوة أهل الأدب في العالم العربي، ومنهم ولا ريب قراء كتاب (حياة الرافعي) لكيلا يفوتهم من أمر هذه الحياة الجليلة شئ

تحدث الأستاذ سعيد في هامش الصفحة 13 من هذا الكتاب قال: (كان للرافعي صلة روحية بالسيد البدوي ترتفع عن الجدل والمناقشة وله فيه مدائح وتوسلات شعرية كثيرة. . .) وهذا القول لو أُخذ على إطلاقه لبدا منه أن الرافعي رحمه الله كان من الذين يعتقدون بالتوسل بأصحاب القبور، فيتخذونهم وسطاء بينهم وبين الله يفزعون في كل ما يهمهم إليهم، ويستعينون بهم في قضاء مآربهم. وإذا صح ذلك كان مغمزاً في أعظم جانب من حياة الرافعي، وهو الجانب الديني؛ لأن التوسل بأصحاب القبور عند المحققين وأهل البصر بالدين إنما هو شرك بالله يبرأ منه كل مسلم صحيح الإيمان. والرافعي رحمه الله كان إماماً في الدين كما كان إماماً في الأدب؛ وكان من دعوته في الحياة أن يعتصم المسلمون بعروة دينهم الوثقى، وأن يرجعوا من وثنيتهم إلى الدين الخالص الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

على أن هذا الأمر الذي أشار إليه أخونا سعيد لا يعرف غيري وجه الحق فيه، ذلك أني كنت في إحدى زياراتي للرافعي بطنطا في سنة 1918 وما كدت أجلس إليه حتى قال لي:(أبشر يا أبا رية، لقد اقتربت ساعة شفائي من علتي إن شاء الله (وهي العلة التي كانت بأذنه). ولما سألته عن مرجع هذه البشرى قال: (لقد رأيت السيد البدوي في المنام ليلة الأمس قد جاءني وبشرني بالشفاء فنهضت من نومي وأنشأت فيه هذه القصيدة) ودفعها إليّ فقلت له إن هذه القصيدة لو نشرت لكانت فتنة للمسلمين، فخير لك أن تطويها حتى نرى تأويلها. ولأنه رحمه الله كان يعتقد في عالم الروح اعتقاداً غريباً وكان يأخذ بالحديث الشريف في أن دعوة المؤمن على ظهر الغيب تنفع، وكان بحسن ظنه يستعين من إخلاصي له حتى كان لا يكتب لي خطاباً إلا ويطلب في آخره ألا أنساه من الدعوات الطيبة، فقد كتب لي في ورقة صغيرة هذه العبارة (أريد أن تذهب الآن إلى جامع السيد وتتوضأ وتصلي بعض ركعات ثم تقرأ ما تيسر من القرآن على نية أن يعجل الله بشفائي ثم تدعوا لي بذلك فإن دعاء المؤمن لا يعدله شيء في سرعة الإجابة مع خلوص النية.

ص: 89

وأمس رأيت السيد البدوي في الرؤيا وبشرني بالشفاء ولهذا طلبت منك هذا الطلب)

وعلى أن ما طلبه مني ليس فيه شيء من التوسل بالسيد البدوي وإنما هو صلاة لله وقراءة لما تيسر من كتاب الله ودعاء خالص يَصْعَد إلى الله ليعجل بشفائه

وهذا كله عمل خالص لله وحده فقد حاك بصدري شيء من الشك في عقيدته، ورأيت من أجل ذلك أن أتلطف لمعرفة حقيقة ما يعتقد في التوسل بالمشايخ، فسألته في خطاب بعد ذلك بقليل عما يقوله رجال الصوفية من أنه لابد لكل مسلم أن يتخذ (واسطة) من مشايخهم يصل به إلى الله، وهل هو قد اتخذ هذه (الواسطة) فأجابني في كتاب تاريخه (15 يولية سنة 1918) بما يلي:

(. . . وأنا ألتجئ دائماً إلى الاستمداد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه واسطة الجميع، ولا أدري إن كان فِيَّ استعداد للتلقي عن هذه الغاية البعيدة أم لا)

وبعد أن انقضت شهور على هذه الرؤيا ولم تتحقق البشرى حدثته في ألا ينشر ما وضعه من شعر في السيد البدوي وأن يُبْعِدَه عن ديوانه، فقال: إن هذا ما سأفعله إن شاء الله وسأجعله مما أهمله من شعري

هذا هو نبأ توسلات الرافعي بالسيد البدوي الذي تحدث عنه الأستاذ العريان

ومن يقرأ ما كتبه الرافعي في الدين ووصفه لإسلام المصريين بأنه إسلام فرعوني بما شابه من ذرائع الوثنية، وما اختلط به من البدع الشركية، يتبين له صدق ما قلنا وصحة ما روينا وأنه كان طوال حياته حرباً على الدجل والخرافات، والشعبذة والتوسلات، تلك التي لا يعرفها دين الإسلام؛ وأنه نذر كما يقول الأستاذ سعيد (أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك والضلال، ويدعو إلى الله ويواصل حملة التطهير)

والأمر الثاني في قول أخينا سعيد، من أن السيد رشيد رضا رحمه الله، لما قرأ مقدمة النسخة الأولى من مجلة البيان المنسوبة إلى الأستاذ الإمام محمد عبده قال:(. . . لقد كنت حاضراً مجلس الشيخ وسمعت منه هذا الحديث، ولكن لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته)

وهذا القول لو ثبت على ما رواه صديقنا سعيد من أن مقدمة البيان من وضع الرافعي لكان ذلك طعناً في خلق إمام كبير من أئمة الدين يذهب بالثقة به ويلقي الشك في الأخذ عنه،

ص: 90

ولكن الذي جرى على وجه التحقيق أنه لما ظهرت مجلة البيان التي أصدرها الأستاذ الكبير عبد الرحمن البرقوقي قابلها حجة الإسلام السيد رشيد رحمه الله بالترحيب والتقريظ، وكتب عنها كلمة طيبة في مجلته (المنار) ولما تحدث عن حديث الأستاذ الإمام مع الأستاذ البرقوقي لم يقل إنه كان حاضر مجلس الشيخ، ولا إنه سمع هذا الحديث، وإنما قال عن الأستاذ البرقوقي إنه (نقل كلام الأستاذ الإمام بمعناه لا بحروفه قطعاً)

وهذا لا يعني أن الحديث من غير كلام الإمام أو أن الإمام قد تحدث به أمام السيد رشيد

هذا أهم ما رأيت أن أنشره في الرسالة. ولقد وجدت فيما بين يدي من كتب الرافعي رسائل في الأدب والدين واللغة تستأهل النشر لانتفاع الناس بما فيها ولعل الله يقيض لي - إذا وجدت من صدر الرسالة سعة - أن أنشر ما فيه الخير من هذه الرسائل. ورحم الله الرافعي رحمة واسعة.

محمود أبو رية

ص: 91

‌قصص العرب

للأساتذة

جاد المولى بك، علي البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم

للأستاذ أحمد التاجي

أُثِرت عن العرب قصص يرجع أقدمها إلى الزمان الأول، كانت صدى لحياتهم ومرآة لأذهانهم، وجُماعاً لمعارفهم وأساطيرهم ولكنها تحتاج إلى إحياء وتجديد

أما إحياؤها فباختيارها من أسفارها ورفع الأنقاض عنها، وجمعها في كتاب واحد، وبتصحيح عباراتها، وتحقيق حوادثها، ثم يعرض كما قاله العرب، ليتأدب به الناشئون وليتخذوا منه مادة لإنشائهم، وغذاء لأفكارهم. وأما تجديدها فهو الخطوة الثانية وذلك بأن تطعّم بالأدب الحديث، وتسقى من المعارف التي وصلت إلينا، لتناسب أبناء جيلنا ولا تنبو عن أذواقنا

والكتاب الذي نعرض له الآن يخطو الخطوة الأولى، فيجمع قصص العرب كما حكوه وحدثوا به، ويفصّله في أبواب فيضع تحت كل باب ما ورد فيه من القصص

فقصص تدل على عقيلة القوم واعتقاداتهم في الآلهة، وقصص تستبين بها مظاهر حياتهم وأسباب مدنيتهم، وقصص تجلو علومهم ومعارفهم، وأخرى تظهر أخلاقهم من وفاء وكرم وحلم. وهكذا ينتقل من باب إلى باب، والذي يربط بين القصص أغراضها، وكنا نود أن ترتبط بعصورها، فتنفع مؤرخ الأدب وليرى فيها أحوال كل عصر وآدابه ماثلة في قصصه

وكنا نود أيضاً أن تبرأ من الأخبار البعيدة عن القصص فإن ذلك قد تكفلت به كتب الأدب، وما هي بقليلة

على أن للأساتذة جهداً مشكوراً إذ أتاحوا الفرصة لمن يدرس القصة العربية وتدرجها، وعرضوا لنا مادة زاخرة تصلح هياكل لقصص عربي حديث

وقد لاقوا عناء شديداً في تصحيح النصوص وتقويم الأشعار والتنقيب عن أصح الروايات، يشهد بذلك من اطلع على ذلك السفر الجليل الذي ظهر آية في إخراجه - عدا بعض هنات

ص: 92

مطبعية - وهذا عمل يقدره من يكابد القراءة في الكتب القديمة، وطبعاتها السقيمة

فلهم ما يستحقون من الشكران

أحمد التاجي

ص: 93