الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 316
- بتاريخ: 24 - 07 - 1939
حلم ليلة صيف
غربت الشمس في الرمال اللوبية المرمضة ومن ورائها في الجو والأرض وهيج كزفير جهنم. وكان القاهريون قد احتشدوا فوق الجسور وعلى الشواطئ وفي الحدائق يَنْسمون نَفَس الماء ونفح المساء وأرج الزهر، فكأنما لم يبق في البيوت والقهوات والطرقات أحد. وكنت أنا في زحمة الناس أسير هَوناً على جسر إسماعيل والذكريات العذاب تنثال على خاطري انثيال الشعاع السينمائي بالأخيلة المتحركة على الشاشة، فأذكر فيما أذكر كيف كان ذوو السراوة والنعمة يخرجون قبل أن يعرفوا أوربا إلى الجزيرة آصالَ الربيع والصيف في زينتهم الفاخرة ووضاءتهم الباهرة ومركباتهم الفخمة تتراقص بها الجياد المطهمة العتاق، فيكون للفقراء من عَرْضها منظر فتان من زَهرة العيش يشغل الهم عن القلوب ساعة. ثم أُبصر فيما أُبصر كيف أصبح الجسر والجزيرة - بعد انتجاع المترفين المرفهين فيشي وكرلسباد، ومونت كارلوونيس - مَرَاداً لذوي الفاقة والعاهة والكرب، لا ترى حولهم إلا بؤساً ولا تسمع بينهم إلا شكوى! ثم انتهى بي هذا السير البطيء الحالم إلى (كازينو الكُبرِى) فجلست وحدي في مكان مظلم، وجعلت وجهي وعيني للنيل المزدان بالقوارب؛ وللشاطئ المزدهر بالمصابيح، وأخذت ذاكرتي تغوص وتطفو بين جوف الماضي ووجه الحاضر، فلا أرى فيما خلَّفه الزمان والإنسان إلا مآسي داميةً ألّفها الطمع والأثرة، ومثَّلها الضعف والقوة. وكان عقلي القاصر يعلِّق أحياناً على ما تعرض الحافظة من هذه الصور، فيعجب كيف عجز إلى اليوم دين السماء وعلم الأرض عن التوفيق بين القوة والضعف ما داما متلازمين في الحياة! أليس منشأ الصراع الأزلي بين المرأة والرجل والعبد والسيد والفقير والغني والمظلوم والظالم والمستعمَر والمستعمِر إنما هو القوة في جهة، والضعف في جهة أخرى؟ لا يحق لنا أن نسأل لأيَّة حكمةٍ كانت القوة هنا وكان الضعف هناك، ولكن من حقنا أن نقول: لماذا أعضل على المصلحين أن يحملوا القوي على أن ينزل للضعيف عن بعض القدرة فيستقيم الأمر بالاعتدال ويتحقق السلام بالعدل؟
كانت ساعة الحرس تعلن بدقاتها المدوية انتصاف الليل حين تهالكت على الفراش وأنا من إدمان الذكر والفكر على حال شديدة من الجهد. فلم تكد عيناي تُغفيان حتى رأيت فيما يرى النائم أن دور الفقراء وأكواخ المساكين في بولاق أمست كالتنانير الموقدة تلفح جدرانها باللهب، وتسيل سقوفها بالبق، ويخنق هواؤها بالنتن، فتركها أهلوها هاربين في عتمة الليل
إلى الشوارع والميادين، فظنهم الحراس والعسس (متظاهرين) فطاردوهم بالعصيِّ مطاردة الجراد، فهاموا في الشارع من الذعر هيام القطيع حتى وجدوا قصراً من قصور الأمراء، غريقاً في الأضواء والضوضاء، فلم يتمالكوا أن تدفقوا فيه من أبوابه، على الرغم من دفاع حراسه وحجَّابه. ثم انساب هذا الجمع الفزِع في حديقة القصر الأفيح حتى أحدقوا ببؤرة الضوء، ثم أخذوا يستفيقون من الذهول والرعب على شذا العطور وسطوع النور ونغم الموسيقى، واستطاعوا أن ينظروا فماذا رأوا؟ رأوا حفلة راقصة تحت السماء على بِرْكة الحديقة الواسعة، وأربابُ النعمة وربات النعيم متقابلون على الأرائك، أو متعانقون على الأعشاب، أو متخاصرون في المرقص، أو متنادمون حول المقصف؛ وشموس الكهرباء تسطَع على الظهور البلورية والصدور العاجية وقد انشقت أطواق الفساتين من أمام ومن خَلف إلى تحت الخصور فلم يمسك الثوب عن النزول إلا شريطان على الكتفين رُصعا بالماس وعُقدا بالذهب. وكان الجو البليل مشبعاً بريَّا العطر وعبَق الخمر وأنفاس الغواني وشدْو القيان وهزج المزامير وعزف الاوتار، فلا يدخل فيه ذو حسٍّ إلا هاج واشتهى، ولا ذو وقار إلا عبث والتهى. وكانت البِرْكة المسجورة بماء الورد واللاوندة تموج بالحور والولدان سابحين أو متشابكين، يتواثبون من النشوة، ويتجاذبون من الشهوة؛ وعلى حِفافيها المرمريين يتراقص القوم أزواجاً على أنغام (الجاز) والسواعد ملتفة على القدود، والشفاه مُطبَقة فوق الخدود، والأثداء رجراجة بين الصدور والنحور، والأنظار جوّالة بين البطون والظهور؛ وفوق نافورتها الوسيعة البديعة ترقص حول رشاشها الطائر الوهاج جوقة من عرائس عبقر، في غلائل عسجدية من نسج الجن، وأوشحة مصبغة من صنع السحرة. وكلما ماست الحوريات الرواقص تقلَّب عليهن الوشى، واختلف فوقهن اللون، وانبثق عنهن شعاع من الفتنة يبهر العيون ويضل الأفئدة!
كان القوم في سورة اللهو وسكرة اللذة وحميا الطرب حين أحاط بهم مساكين بولاق في بزتهم الزريَّة وهيئتهم المخيفة؛ فانفغرت أفواه هؤلاء من الدهش، وقَفَّت رؤوس أولئك من الخوف، والتقى الشقاء والسعادة وجهاً لوجه!
ولكن الله لم يشأ أن يصطرع الغني والفقير في هذه اللحظة الرهيبة فرأيت أفواجاً من البق والبراغيث لها أجنحة كالفَراش وخراطيم كالبعوض قد خرجت من ثياب الفقراء وأخذت
تلسع الأجسام الغضة والوجوه الناضرة لسع النحل المُهاج! فتراكض الداعون والمدعوون هاربين في الحديقة وهذا الطير الأبابيل في ظهور النساء وأقفية الرجال يخِزُهم بالسم حتى أخرجهم إلى الشارع. وهناك كان الجند يترقبون خروج (المتظاهرين) فلم يكادوا يرون هؤلاء حتى أعملوا فيهم العصيَّ وساقوهم سوق الأنعام إلى القسم فقضوا ليلهم الباقي على الإسفلت. وخلا المقصف والمرقص والقصر لطرائد البؤس والشرطة فأكلوا مريئاً وشربوا هنيئاً وناموا ملء الجفون على الأسرة المذهبة!
ثم كرَبني الحر فصحوت من النوم، قبل أن يريني الحلم في ضوء الصباح فضيحة القوم!
أحمد حسن الزيات
حول كتاب:
مستقبل الثقافة في مصر
نظرة انتقادية عامة
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
(مستقبل الثقافة في مصر)
هذا العنوان الذي عنون به الأستاذ الدكتور طه حسين الكتاب الذي نشره قبل بضعة أشهر في مجلدين. . . ذكّرني بعنوان (المطارحات) التي نشرها (المعهد الأممي للتعاون الفكري) التابع لعصبة الأمم بعد الاجتماع الذي عقده في مدريد سنة 1933: مستقبل الثقافة.
وعندما أسجل هذه المشابهة في مستهل مقالي هذا، أرى من الواجب عليّ أن أصرح - في الوقت نفسه - بأن المشابهة بين الكتابين لا تتعدى حدود العنوان. فإذا كان من البديهي أن المؤلف الفاضل اقتبس عنوان كتابه من المطارحات المذكورة، فمن الواضح أيضاً أنه لم يستلهم شيئاً من موضوعاتها أو من مناحي التفكير المنجلية فيها. . .
وأما كيفية تأليف الكتاب، فالمؤلف يشرحها لنا بكل وضوح، في المقدمة القصيرة التي صدّره بها:
إن (فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية) حمل (المفكرين المصريين) على أن يشعروا بأن (مصر تبدأ عهداً جديداً من حياتها). . . (إن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال). إن هذا الشعور شمل الشباب، ودفع فريقاً منهم إلى (أن يسألوا المفكرين وقادة الرأي عما يرون في واجب مصر بعد إمضاء المعاهدة مع الإنجليز. . .) وهذا قد جعل كل واحد من المفكرين المسؤولين (يتحدث إليهم في ذلك حديثاً سريعاً مرتجلاً، بقدر ما كان يسمح له وقته وعمله وتفكيره السريع في حياة سريعة) تمر بهم أو يمرون بها (مرَّ البرق). . . فقد تحدث الدكتور طه حسين نفسه إلى هؤلاء الشبان فيمن تحدث؛ غير أنه لم يقتنع بكفاية ما تحدث إليهم به، ولم ير أنه (قد دلهم على ما كان يجب أن يدلهم عليه، وهداهم إلى ما كان يجب أن يهديهم إليه). واستقر في نفسه أن واجب المصريين (في ذات الثقافة والتعليم بعد
الاستقلال أعظم خطراً وأشد تعقيداً) مما تحدث به إليهم (في ساعة من ليل أو في ساعة من نهار، أو في قاعة من قاعات الجامعة الأمريكية. . . وأنه يحتاج إلى جهد أشق وتفكير أعمق وبحث أكثر تفصيلاً) ووعد نفسه بأن يبذل هذا الجهد، وأن يفرغ لهذا البحث، وأن ينهض بهذا العبء. . . ولكنه لم ينبئ هؤلاء الشباب بشيء مما قرره، لأنه أشفق أن تحول ظروف الحياة بينه وبين إنجاز هذا الوعد. وليس أشق عليه من وعد يبذله للشباب ثم لا يستطيع له إنجازاً. . .)
إن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) كتب (لإنجاز ذلك الوعد الذي قدمه الأستاذ إلى الشباب الجامعيين ولم يظهرهم عليه. . .)
إن هذه المقدمة تدل دلالة واضحة على أن الدكتور طه حسين قد شعر بخطورة هذه المباحث حق الشعور، وقدّر عواقب التسرع والارتجال فيها حق التقدير. . . كما تعلن إعلاناً صريحاً أنه لم يكتب الكتاب إلا بعد أن بذل (الجهد الأشق) الذي قال بضرورته، وقام (بالتفكير الأعمق) الذي نوه به، و (فرغ للبحث لينهض بالعبء) الذي أشار إليه. . .
غير أن من ينعم النظر في الكتاب - بعد مطالعة هذه المقدمة - يشعر بشيء كثير من خيبة الأمل؛ لأنه لا يجد فيه من الآراء والملاحظات ما يتناسب مع وعود العنوان وتصريحات المقدمة. فالكتاب يتألف في حقيقة الأمر من مجموعة أحاديث ومقالات قليلة التناسق كثيرة التداخل، يبدو على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، ويتخلل معظم أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات. . .
فكثيراً ما يقع النظر في صفحات الكتاب على فكرة صائبة - معروضة بأسلوب جذاب - غير أنه يلاحظ في الوقت نفسه كثيراً من المآخذ في المقدمات التي سبقت تلك الفكرة والملاحظات التي تلتها فيبقى حائراً متردداً بين مواقف الاستساغة والاستنكار.
إن نظرة إجمالية إلى أولى المسائل المشروحة في الكتاب تكفي للبرهنة على كل ذلك في وضوح وجلاء.
- 1 -
إن المسألة التي يفتتح بها الدكتور طه حسين أبحاث كتابه تتلخص في السؤال التالي:
هل يوجد فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي؟
والمؤلف يناقش هذه المسألة في أكثر من ثلاثين صفحة من الكتاب مناقشة مباشرة ثم يعود إليها عدة مرات - بوسائل شتى - في نحو ثلاثين صفحة أخرى. . وأما الحكم الذي يصل إليه من أبحاثه ومناقشاته هذه فيتلخص في العبارات التالية:
(فكل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوربي يمتاز من هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب)(الصفحة: 28)
فمهما نبحث ومهما نستقص فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل المصري والعقل الأوربي فرقاً جوهرياً) (الصفحة: 29)
إنني أشارك الدكتور طه حسين في هذا الحكم الصريح مشاركة تامة. . . فلقد درست وناقشت هذه المسألة فيما مضى مراراً بوسائل مختلفة؛ وانتهيت في جميع تلك الدراسات والمناقشات إلى نتيجة مماثلة لهذه النتيجة، لا بالنسبة إلى المصريين فحسب، بل بالنسبة إلى أمم الشرق الأدنى بوجه عام، والأمة العربية بوجه خاص. . .
ولهذا السبب، يسرني كل السرور أن أتفق مع المؤلف في هذا الحكم اتفاقاً تاماً (ومع هذا يؤلمني جداً) ألا أستطيع موافقة على سلسلة الآراء والأحكام التي سردها حول هذه المسألة وأن أراني مضطراً إلى مخالفته في معظم المقدمات التي بنى عليها حكمه هذا، وفي بعض النتائج التي استخرجها منه. . .
أولاً، يكرر الدكتور طه حسين الحكم الذي ذكرناه آنفاً عدة مرات - جرياً على عادته العامة - ويعبر عنه في كل مرة بشكل جديد، وكلمات جديدة - حسب أسلوبه الخاص -؛ غير أنه لا يتقيد - خلال هذا النكران - بمعاني الكلمات، وحدودها (التقيد العملي) الذي يتطلبه مثل هذه الأبحاث. . . فينزلق إلى مهاوي الغلو والمبالغة انزلاقاً غريباً، فيبتعد عن (الحقيقة) التي كان توصل إليها ابتعاداً كبيراً. . .
مثلاً، يسترسل مرة في الحديث حتى يضيف كلمة الثقافة إلى كلمة العقل، فيقول:
(كلا، ليس بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم وتأثرت به، فرق عقلي أو ثقافي ما. . .)(الصفحة: 25)
أفلا يحق لي أن أسأل الأستاذ في هذا المقام: هل يدعي - عن جد - أنه لا يوجد (فرق ثقافي ما) بين المصري، والفرنسي، والسوري، والإيطالي؟ إن القول بعدم وجود (فرق
جوهري) بين (العقل المصري، والعقل الأوربي) شيء، والقول بأنه لا يوجد بين المصري والأوربي (فرق ثقافي ما) شيء آخر. . . فمهما آمنت بالقضية الأولى إيماناً عميقاً، لا يمكنني أن أسلم بالقضية الثانية أبداً. . . وأعتقد اعتقاداً جازماً أن إنكار وجود (الفرق الثقافي) بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم، لا يختلف عن إنكار وجود الشمس في رابعة النهار. . .
كما أرجح أن المؤلف نفسه لم يكتب ذلك عن (تأمل واعتقاد)، بل كتب ما كتبه في هذا المضمار مدفوعاً بدوافع الاستعجال والارتجال - بالرغم من تصريحات المقدمة - ومجروفاً بتيار الألفاظ والكلمات. وربما كان من أبرز الأدلة على ذلك ما قاله في أواخر الكتاب حيث يختم أبحاث الكتاب بسؤال عام:(أتوجد ثقافة مصرية؟) ويجيب على هذا السؤال بالعبارة التالية:
(هي موجودة)، متميزة بخصالها وأوصافها التي تنفرد بها من غيرها من الثقافات. . .) (الصفحة - 525)
ولا أراني في حاجة إلى البرهنة على أن مضمون هذه العبارة، يناقض القول الذي أشرنا إليه آنفاً، مناقضة صريحة. . .
ومما يجدر بالملاحظة أن مغالاة المؤلف في تشبيه المصريين بالأوربيين - وإنكار وجود الفروق بينهما - لا تنحصر في هذه القضية وحدها، بل تتعداها إلى أمور أغرب منها: إذ أننا نراه يدعي - في محل آخر من الكتاب - عدم وجود فرق بينهما من حيث الطبع والمزاج أيضاً. فهو عندما يصرح بأنه (لا يخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين) يبرهن على ذلك بقوله:
(. . . ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج. . .)(الصفحة36)
ليس بين المصريين والأوربيين فرق لا في الطبع ولا في المزاج! لا أدري كيف يستطيع أحد أن يدعي ذلك بصورة جدية؟ فإن الفروق في الطبع والمزاج من الأمور التي تشاهد على الدوام بين الأمم الأوربية نفسها، وهي تبدو للعيان بين الإنكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي. . . حتى بين الشمالي والجنوبي من الفرنسيين، والشرقي والغربي من الألمان،
والسهلي والجبلي من الطليان. وبين الريفي والمدني والصانع والتاجر، والمثقف والعامي من جميع هؤلاء. . . فكيف يعقل مع هذا ألا يختلف طبع المصريين ومزاجهم عن طبع الأوربيين ومزاجهم بوجه من الوجوه؟
إنني أميل إلى الحكم بأن الدكتور طه حسين لم يكتب هذه العبارة أيضاً عن تأمل واقتناع. بل كتبها بدافع الاستعجال وتحت تأثير توارد الكلمات.
إني لا أكون من المغالين إذا قلت: إن (نزعة التسرع في الحكم والإسراف في الكلام) من النزعات المستولية على معظم مباحث كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)، وهذه النزعة هي التي ورَّطت المؤلف في مآزق غريبة، وأوقفته مواقف لا تخلو من التناقض في بعض الأحيان.
وللبرهنة على ذلك أود أن أستعرض - علاوة على ما ذكرته آنفاً - ما جاء عن الأزهر في الأقسام المختلفة من الكتاب.
يذكر الأستاذ الدكتور طه حسين الأزهر - في كتابه هذا - أولاً عندما يبحث عن اتصال مصر بالحضارة الأوربية فيتوسع كثيراً في وصف هذا الاتصال، لأنه يعتبره دليلاً على عدم وجود فرق جوهري بين العقلية المصرية والعقلية الأوربية إذ يقول:(إننا لا نجد في هذا الاتصال من المشقة والجهد ما كنا نجده لو أن العقل المصري مخالف في جوهره وطبيعته للعقل الأوربي)(الصفحة 35).
وعندما يتطرق المؤلف إلى حالة الأزهر - خلال هذا البحث - يعرضه لنا كمعهد مسرف في التجديد إذ يقول حرفياً ما يلي:
(كل شيء يدل، بل كل شيء يصيح بأن الأزهر مسرف في الإسراع نحو الحديث، يريد أن يتخفف من القديم ما وجد إلى ذلك سبيلاً. . .)(الصفحة 34).
غير أننا نراه في محل آخر من الكتاب، يتراجع قليلاً عن تعبير (الإسراف) الذي استعمله في هذا المقام؛ لأنه يقول:
(أصبح الأزهر مسرعاً إلى هذه الحضارة، يدفعه إسراعه إلى شيء يشبه الإسراف إن لم يكن هو الإسراف)(الصفحة 61)
كما أنن نراه في محل آخر يتناسى كل ذلك فيقول:
(إن الأزهر بحكم تاريخه وتقاليده وواجباته الدينية بيئة محافظة تمثل العهد القديم والتفكير القديم أكثر مما تمثل العهد الحديث والتفكير الحديث. . .)(الصفحة 91).
ثم نراه يضيف إلى ذلك ما يلي:
(شيء آخر لابد من التفكير فيه والطب له؛ وهو أن هذا التفكير الأزهري القديم قد يجعل من العسير على الجيل الأزهري الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناها الأوربي الحديث. . .)(الصفحة 92).
وفي الأخير عندما ينتقل إلى بحث المنافسة القائمة بين الأزهر وبين الجامعة لا يتحرج المؤلف من إبداء رأي يناقض رأيه الأول مناقضة صريحة إذ يقول:
(يقتضي أن يعدل الأزهر عدولاً تاماً عما دأب عليه من الانحياز إلى نفسه والعكوف عليها والانقطاع عن الحياة العامة. وقد يقال: إن الأزهر قد أخذ يترك هذه السيرة ويتصل بالحياة العامة ويأخذ بحظوظ حسنة من الثقافات الحديثة على اختلافها. وهذا صحيح في ظاهره، لكنه في حقيقة الأمر غير صحيح. فالأزهر مازال منحازاً إلى نفسه متمسكاً بهذا الانحياز حريصاً عليه. . .)(الصفحة 475).
أنا لا أود أن أبدي رأياً في الأزهر في هذا المقام؛ غير أني أريد أن ألفت الأنظار إلى الاختلافات الموجودة بين هذه الآراء التي صدرت من قلم واحد في موضوع واحد في كتاب واحد!
غير أن هناك شيئاً أغرب من كل ذلك أيضاً: فإن المؤلف لا يكتفي بالبرهنة على عدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي، بل يحاول أن يبرهن على أن مصر ليست جزءاً من الشرق، ويسير بين سلسلة آراء وملاحظات - يكتنفها الغموض والتضارب من كل الجهات - ويلوم الأوربيين الذين يقولون إن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين؛ ثم يقول:
(إن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق). . . (ص 18).
غير أنه لا يلبث أن يتناسى قوله هذا، ويدخل المصريين في عداد الشرقيين، في عشرات المواضع من الكتاب. . . لا أرى حاجة في هذا المقام - لتعدادها، فأكتفي بذكر ما يقوله المؤلف في هذا الشأن في أواخر الكتاب، عندما يشرح اقتراحه في صدد فتح مدارس
مصرية في الأقطار العربية. فإنه يقول إذ ذاك:
(ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية، تحمل إلى أبنائها ثقافة عربية شرقية، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم). . . (ص 522).
(يتبع)
ساطع الحصري
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 7 -
يشهد الأستاذ أحمد أمين على نفسه فيقول:
(أين الشعر العراقي الذي تجد فيه الشعراء يتغنون بمناظر العراق الطبيعية، ويصفون فيه أحداثهم الاجتماعية؟ وأين الشعر الشامي أو المصري أو الأندلسي الذي يشيد بذكر مناظر الطبيعة وأحوال الاجتماع للشام ومصر والأندلس؟ إنك تقرأ الشعر العربي فلا تعرف إن كان هذا الشعر لمصري أو عراقي أو شامي إلا من ترجمة حياة الشاعر. أما القالب كله فشيء واحد، والموضوع كله واحد: مديح أو رثاء أو هجاء أو نحو ذلك ما قاله الجاهليون).
ذلك كلام أحمد أمين، نقلناه بالحرف حتى لا نُتهم بالتزيد عليه فهل رأيتم أغرب من هذا الكلام؟ يعتقد أحمد أمين أن شعراء العراق لم يصفوا مناظر بلادهم الطبيعية ولم يصفوا أحداثهم الاجتماعية.
ولو أنه كان اطلع على الشعر العراقي في عهوده الماضية، وهي التي تعنيه، لعرف أن شعراء العراق لم يفرطوا في الحديث عن أنهارهم وبساتينهم، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من شؤون المجتمع إلا أفردوها بحديث خاص، وأخبار الفتن والثورات تشهد بذلك.
لو كان أحمد أمين اطلع على الشعر العراقي لعرف أن العراقيين فُتنوا بمناظر بلادهم أشد الفتون. وهل يعرف قراء العربية نهراً أسير ذكراً من الفرات؟
ألا يكفي أن يكون الشاعر الذي قال:
يا ليت ماء الفرات يخبرنا
…
أين استقلت بأهلها السفنُ
وقد فُتن العراقيون بطبيعة العراق فوصفوا الحمائم السواجع وتفننوا في وصف الليل، وأجادوا في وصف الأزهار والرياحين، وأسهبوا في وصف الملاحة والصباحة والجمال، وكادوا يتفردون بالتفوق في وصف مجالس الأنس والشراب.
وكلِف شعراء العراق بوصفهم بواديهم وحواضرهم، ولهم أوصاف كثيرة في الديارات وحيوات الرهبان، وهل أقيم في أديم العراق دير غفل عن وصفه الشعراء؟
لو كان أحمد أمين من المطلعين لعرف أن العراقيين أحبوا الطبيعة أصدق الحب، فهم الذين أذاعوا في الناس معاني الشغف بالوجود، وهم أصدق من وصف الجآذر والظباء، وكانوا ولا يزالون أقدر الناس على تذوق ما في الحياة من بؤس ونعيم
هل نسي أحمد أمين أن طبيعة العراق هي التي أنطقت من يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر
…
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
إن العراق الشاعر لا ينتظر حكم أحمد أمين، فقد رقم أمجاده الشعرية فوق جبين الزمان. وهنا أستشهد بقول الشاعر علي الجارم في خطاب دجلة:
نبت القريض على ضفا
…
فِك بين أفنان الورودِ
وهي كلمة صدق في شاعرية العراق.
لقد وصف العراقيون كل شيء من مظاهر الطبيعة في العراق حتى الحيات والثعابين والعقارب والزنابير والبراغيث!
وأحمد أمين هو المسؤول عن إيراد الشواهد لأنه من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية.
ويقول هذا الرجل إن العراقيين لم يصفوا أحداثهم الاجتماعية
وأقول إن شعراء العراق يمتازون بالجرأة في وصف أحداث المجتمع، وفي العراق مات مئات من الشعراء مسمومين أو مقتولين بسبب الجهر بكلمة الحق في وصف الأحداث الاجتماعية، وما قامت في العراق دولة أو سقطت دولة بدون أن تظفر بقصيدة أو قصائد من أولئك الشعراء الذين كانت أشعارهم موازين في الحياة السياسية.
وهنا أذكر مسألة سيحتاج إليها أحمد أمين حين يؤرخ الحياة الأدبية في العراق لعهد بني العباس
يجب أن يكون مفهوماً عند كل أديب أن الدواوين التي تحفظ أشعار أهل العراق لا تمثل الحياة الشعرية لأهل العراق تمثيلاً صحيحاً، فالذي بقي من أشعار أهل العراق هو الجزء الذي سمحت له السلطات السياسية أن يعيش. وأكاد أجزم بعد أن خبرت حياة العراق أن الثروة الشعرية هناك ضاعت منها أشياء كثيرة جداً بسبب الخوف من المسيطرين على الحياة السياسية والاجتماعية.
وقد اهتديت إلى ذلك، وأنا أدرس العصر الذي عاش فيه الشريف الرضي: فقد تبينتُ أن
العراق في ذلك العصر عرف لونين من الحياة: حياة السر وحياة العلانية. وتيقنت أن الشريف ضاع من حياته الشعرية نحو عشرين سنة بسبب التخوف من عواقب الجهر بكلمة الحق.
وقد صح عندي أن الشريف الرضي هو شاعر الثورة على الاستبداد
ولكن شواهد هذا الجانب من حياته الشعرية قد ضاعت
وهل بقيت أشعار بشار في الثورة على رجال السياسة وأقطاب المجتمع؟
هل بقيت أشعار ابن الرومي في الحقد على معاصريه من الحكام والوزراء؟
لقد بقي منها ما جازت روايته، وذهب شعره اللاذع إلى غير معاد؟
وكيف غاب عن أحمد أمين أن فقهاء العراق أنفسهم قد اشتهروا في آرائهم بإيثار الرموز والكنايات؟
إن كان أحمد أمين ينكر أن شعراء العراق وصفوا الأحداث الاجتماعية فليشرح لنا كيف اتفق أن يموت كثير من شعراء العراق بالقتل والاغتيال
وهل يقتل الشاعر أو يغتال إلا بسبب الحرص على الجهر بكلمة الحق؟
وهل في آداب الأمم كلها أبرع سخرية من الشاعر الذي قال:
أنفوا المؤذن من دياركم
…
إن كان ينفي كل من صدقا
وهو شاعر قد تأدب بأدب أهل العراق.
إن ديوان الشريف يصور أكثر ما وقع في العراق من الأحداث السياسية والاجتماعية في الشطر الأخير من القرن الرابع، ففيه نرى ما وقع لأقطاب الكتاب من الكوارث والخطوب، وفيه نرى كيف انتهت حياة الخليفة الطائع، وفيه نرى أخبار القتال الذي دار بين السنة والشيعة، وفيه نرى عدوان بني تميم على بعض أصدقاء الشاعر من الزعماء.
وما يقال عن ديوان الشريف الرضي يقال عن ديوان المتنبي فهو سجل لأكثر الحوادث التي وقعت في الشطر الأول من القرن الرابع. وهو تصوير لأكثر ما عرف من الأقطار العربية والإسلامية. وهو تاريخ لأكثر من اتصل بهم من الوزراء والرؤساء والملوك.
وهل يمكن أن يقال إن أشعار المتنبي وهو في حلب تشابه أشعاره وهو في مصر؟
إن القول بذلك لا يقع إلا من رجل مثل أحمد أمين يستدل بوحدة القوافي والأوزان على
وحدة المعاني والأغراض.
وما رأي هذا الباحث المفضال في أشعار مسلم بن الوليد؟ هل خطر بباله أن عند هذا الشاعر قصائد تؤرخ بعض الوقائع الحربية؟
وهل توجّع الناس لمصرع المتوكل إلا بفضل رائية البحتري؟
وهل عرف الناس عزيمة المعتصم يوم عمورية إلا بفضل بائية أبي تمام؟
وبمناسبة هذين الشاعرين اللذين خدما الخلفاء في العراق ننتقل إلى شعراء الشام: فهم عند أحمد أمين لم يصفوا بلادهم ولم يصوروا ما وقع فيها من أحداث اجتماعية.
فهل يعرف أن شعراء الشام كانوا من أحرص الناس على وصف الطبيعة وأقدرهم على تعقب أحداث المجتمع؟
هل سمع أحمد أمين باسم شاعر يقال له الصنوبري أجاد كل الإجادة في وصف المناظر الطبيعية؟
هل يجهل أحمد أمين أن أبا فراس الحمداني سجل الصراع بين العرب والروم أروع تسجيل؟
هل ينكر أحمد أمين أن المعري وصف أحداث زمانه وصفاً نادر المثال؟
هل يعرف أحمد أمين أن شعراء الشام تغنَّوا بمحاسن بلادهم وأسرفوا حتى قيل إن الشام جنة الأرض؟
هل يعرف أحمد أمين أن اسم الغوطة شرق وغرب بفضل ما تغنَّى به أولئك الشعراء؟
هل يذكر أن الهيام بالوصف كاد يصير طبيعة شامية يشهد لها ما صنع البحتري حين وصف إيوان كسرى بالعراق؟
وهل يذكر أن قصيدة أبي تمام في وصف الربيع لا تقل روعة عن أعظم ما قال الأوربيون في الربيع؟
وهل يذكر أن مصاولة الذئاب والأسود لم توصف بأجمل مما صنع البحتري والمتنبي؟
وما رأي أحمد أمين في الصحراء؟
أليست الصحراء من الطبيعة يا حضرة الأستاذ؟
هي من الطبيعة بلا ريب. فهل تستطيع القول بأن شعراء الشام والعراق لم يصفوا
الصحراء؟
وما رأي أحمد أمين في حيوان الصحراء؟
أليس من الطبيعة؟ هو من الطبيعة بلا ريب، وقد تعقبه شعراء الشام والعراق بالوصف والتحليل
إن أحمد أمين لا يرى الطبيعة إلا في الشجرة والزهرة، ولو قال هذا رجل غيره لقلنا إنه ينظر إلى الوجود نظرة عامية.
فهل يتفضل الأستاذ أحمد أمين فيدلنا عمن أخذ هذا التعريف؟
إن الطبيعة لها مظاهر كثيرة جداً، فهي تشمل الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وهي تشمل كل ما تراه العيون، أو تحسه القلوب، أو تدركه العقول
فكيف جعلها مقصورة على الشجرة والزهرة؟
ومع ذلك هل قصر شعراء الشام والعراق في وصف الأشجار والأزهار؟
وكيف وهم الذين أذاعوا بين الناس أن النظر إلى الخضرة يزيد في نور العيون؟
هل يذكر أحمد أمين كم ألوفاً من المرات ذكرت الأشجار والأزهار والرياحين في أشعار أهل الشام والعراق؟
هل يستطيع أن يدلنا على شاعر واحد لم يوجه قلبه وشعوره إلى المظاهر الطبيعية؟
وهل يصير الرجل شاعراً إلا بعد أن ينطبع إحساسه بمظاهر الوجود؟
أترك هذه الجوانب وأنتقل إلى حكمه على الشعر المصري، فالشعراء المصريون في نظره لم يكونوا إلا مقلدين لشعراء الشام والعراق. . .
ولأحمد أمين في هذا الحكم الجائر عذر مقبول، لأنه لم يدرس الشعر المصري دراسة تمكنه من الحكم له أو عليه، فلو كان من المطلعين لعرف أن الشعراء المصريين وصفوا بلادهم وتحدثوا عنها بأقوى العواطف، وتغنوا بمحاسن بلادهم أجمل غناء.
وهل رأيتم شاعراً أحس الطبيعة كما أحسها ابن النبيه إذ يقول:
إذا نُشرتْ ذوائبهُ عليه
…
حسبتَ الماَء رفَّ عليه ظلُّ
وهل في العربية شاعر صور أوهام بلده وما فيها من مختلف الأحاسيس كما صنع البها زهير؟ وهل عرفتم شاعراً شرب من كوثر الوجود كما شرب ابن الفارض؟
اسمع، يا صديقي أحمد أمين، فقد تواترت الأخبار بأنك ستدرس الأدب المصري في كلية الآداب، وليس من الكثير عليك أن تسمع النصيحة من رجل مثلي، فأنت تعرف منزلتك في قلبي، وتدرك جيداً أني أتمنى أن تكون من الموفَّقين!
إن الشعر المصري طراز خاص، وله مزايا تفرد بها بين الأشعار المعروفة في اللغة العربية؛ ولو أُلقيت قصيدة مصرية بين ألوف من القصائد، لعرف السامعون أن أزهارها تفتحت فوق شواطئ النيل. . .
وهل يستطيع - أحمد أمين - أن يقول بأن ديوان ابن نباته المصري تمكن إضافته إلى البحتري أو ابن الرومي أو مسلم ابن الوليد؟
إن أحمد أمين يصرح بأن الشعر العربي لا يدل على مواطن أصحابه إلا بعد النظر في تراجم الشعراء!
فهل يصح هذا القول في أشعار ابن نباته والبها زهير؟
وهل يصح ذلك في أشعار تميم بن المعز؟
وهل يصح ذلك في أشعار ابن النحاس وأشعار البوصيري؟
وهل يصح ذلك في أشعار عمارة اليمني، وقد عاش في مصر حيناً من الزمان؟
إن مصر قهرت من زارها من الشعراء على وصف ما فيها من طبائع وأخلاق، ولعلها كانت السبب في شهرة من زارها من الشعراء، فكيف يصح القول بأنها لم تتفرد بين الأمم العربية بخصائص شعرية؟
وهل يمكن القول بأن أغاريد صفي الدين الحلي وهو في مصر تشبه أغاريده وهو في العراق، أو أن أشعار ابن سناء الملك لا تدل دلالة صريحة على الوطن الذي عاش فيه إلا بعد الاطلاع على ترجمته؟
إن البارودي - وهو شاعر اصطنع مذاهب القدماء في الأخيلة والتعابير - تدل على مصريته لأول نظرة! فما بالك بالشعراء المصريين الذين استوحوا فطرتهم ولم يتابعوا شعراء بني أمية أو شعراء بني العباس؟
بقيت مسألة مفصلة بهذا المقال، ونحب أن نوفيها بعض ما تستحق من الشرح قبل أن نتكلم عن أحكامه على الأدب الأندلسي، وهي أحكام سيحاسَب عليها أشد الحساب!
ما رأيُ حضرة الأستاذ في الأشعار العراقية والشامية والمصرية التي صورتْ ثورة أصحابها على الدنيا والناس؟
أيظن أن شعراء العصر الأموي والعباسي في تلك الأقطار تحدثوا عن زمانهم ودنياهم، كما تحدث الجاهليون؟
لقد نشأ في الشعر فنٌ يسمى (شكوى الزمان) فهل يراه من وصف المجتمع؟ أم يراه من الثورات النفسية؟
إن كان من وصف المجتمع؛ فهو ثروة عظيمة تنقض رأي أحمد أمين، وإن كان من الثورات النفسية فهو أيضاً من وصف المجتمع لأنه شرح لأسباب الثورة على الدنيا والناس
لو كان أحمد أمين كلف نفسه عناء الاطلاع على ديوان أو ديوانين قبل أن يصدر تلك الأحكام الخواطئ، لعرف أن من المستحيل أن تكون تلك الثروة الشعرية من لغو القول. فقد حفظ التاريخ الأدبي أكثر من مائة شاعر من الفحول في مصر والشام والعراق، وهؤلاء المائة - ولا نقول المئات - كانت لهم مذاهب في وصف الطبيعة، والتحدث عن المجتمع، والأنس بالحياة أو التبرم بالوجود
وكانت لهم بجانب الشعر فقرات نثرية صوروا فيها آرائهم في حياة المجتمع. وهل كانت رسائل الخوارزمي وبديع الزمان وابن وشمكير إلا صوراً للأحداث الاجتماعية والسياسية؟
وهل يحتاج الباحث إلى النص على أن الشعراء والكتاب كانت تراجمهم فرصة لدرس مشكلات السياسة والمجتمع؟
من الذي يقول بأن شعراء مصر والشام والعراق لم يشتركوا في توجيه بلادهم إلى الأغراض السياسية والاجتماعية؟ وهل كان الشعراء في تلك العهود إلا ألسنة السياسة والمجتمع؟
قد يقال: وأين تقع الأشياء التي تجافت عن السياسة والمجتمع؟
وأجيب بأنه ليس من المحتم أن تكون الأشياء كلها في السياسيات والاجتماعيات، إن صح أن وصف الدقائق الذوقية والوجدانية لا يمس المجتمع
ومن الذي يوجب أن تكون صورة المجتمع مقصورة على الصلات بين الفقراء والأغنياء،
والحاكمين والمحكومين؟
إن الأمر في الشعر يرجع إلى عنصر واحد هو الصدق، وإذا صح أن الشاعر صادق الحس والعاطفة فمن حقه أن يتكلم كيف شاء وأن يصف من الأغراض ما يريد.
لقد اتفق لعمر بن أبي ربيعة أن يقف أشعاره على أهوائه الذاتية فهل يمكن القول بأن أشعار ابن ربيعة لا تمثل جوانب من المجتمع الذي عاش فيه؟
وكيف وهي تصويرٌ لثورة العواطف في موسم الحج، وتسجيل لبعض أهواء الناس في ذلك الحين؟
واتفق لأبي نواس أن يقصر أكثر شعره على الخمر والمجون، فهل كان ذلك إلا تمثيلاً لبعض أحوال المجتمع العراقي في ذلك العهد؟
واتفق لأبي العتاهية أن تكون أكثر أشعاره في الزهديات، فهل كان ذلك إلا تخليداً لمظاهر النزعات الروحية في ذلك الزمان؟
وما رأي الأستاذ أحمد أمين في أشعار الزهاد والنساك، وأشعار الماجنين والخلعاء؟ وما رأيه في أشعار الزنادقة والمرتابين؟
أليس ذلك كله تصويراً لأحوال المجتمع؟
وما رأيه في الأشعار التي قيلت في وصف الإخوان والأبناء والأزواج؟
أيراها أجنبية عن المجتمع؟
الحق أني أجاهد في غير ميدان، وأعارك في غير معترك، لأني أشرح البديهيات، وأقيم الأدلة على أن الجزء أصغر من الكل وأن الواحد نصف الاثنين!
ولكن هل كنت أملك أن أصنع غير الذي صنعت؟
إن جمهرة القراء لم تكن تعرف أن الأستاذ أحمد أمين يخطئ ثم يصرّ على الخطأ؛ ولم تكن تنتظر أن أهجم عليه وأنا الذي دافعت عنه في مجلة الرسالة يوم تجنى عليه بعض أدباء لبنان
وقد تفضل بعض أدباء العراق فدعاني إلى أن أنبه الأستاذ أحمد أمين إلى اهتمامه في الأيام الأخيرة بالدعوة إلى تعزيز اللغة العامية
فهل يظنون أني موكَّل بتقويم الأستاذ أحمد أمين؟
إن المهم هو تذكيره بعواقب ما يصنع في التجني على الأدب العربي وتخويفه من غضبة من وثقوا فيه يوم رأوه مشغولاً بالدراسات الإسلامية، وكان يستحق الثقة قبل أن يصنع بنفسه وبماضيه ما صنع
وتفضل فريق من الباحثين فقدموا إليَّ شواهد من أغلاط أحمد أمين في مؤلفاته ودعوني إلى عرضها في هذه البحوث النقدية
فليعرفوا - مشكورين - أني لا أستطيع ذلك، لأني لا أحب أن يسوء رأى الناس في مؤلفات أحمد أمين، برغم ما فيها من أغلاط، فقد عانى مثل الذي نعاني من أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح
ليس من المهم أن نهدم الأستاذ أحمد أمين - فتلك غاية صغيرة - ولكن المهم أن نكف شره عن الأدب العربي وأن نزجر من يتطلع إلى مثل غرضه من عوام الباحثين
المهم أن يعرف الأستاذ أحمد أمين أن في مصر رقابة أدبية تصد الجامحين، وتهدي الحائرين، وهو يعرف في سريرة نفسه أني لا أهجم عليه إلا وأنا آسف محزون، لأنه كان مثالاً للصديق الأمين
وبعد مقال أو مقالين أو مقالات سأتركه ليتنسم هواء البحر وهو آمن بشواطئ الإسكندرية بين رفيف القدود وهدير الأمواج
(للحديث شجون)
زكي مبارك
بين جناية الأدب الجاهلي والجناية عليه
للأستاذ عبد الجواد رمضان
أنا من أزهد الناس في الكتابة وأقلهم رغبة في المناقضات الصحفية الأدبية والعلمية، على لَذة جامحة في مطالعتها، ورغبة ملحة في تتبعها، وشوق عنيف إلى ما يتخللها من حيلة بارعة وسرعة خاطر، وصراحة مكشوفة ومداورة خادعة، وحجة مصيبة أو خاطئة. . . الخ
ولعل مشهداً من المشاهد لم يثر في نفسي شهوة التدخل بين طرفيه ما أثاره موضوع الموسم بين الدكتورين: زكي مبارك وأحمد أمين، أو الأستاذين العظيمين: أحمد أمين وزكي مبارك (على التغليب يا دكتور). وأعوذ بالله من شهوة الكلام فقلما فصلت خطة أو حسمت موقفاً أو أصابت مقطعاً يحسن السكوت عليه وينتهي على حده الخصام؛ ولولا ما في أمثال هذا الحوار من استعراض الآراء واستثارة شتى المذاهب والبحوث وجلوة القوى العلمية بين المتحاورين مما يعود بالخير على العلم والأدب، ويفتح إغلاق النظر أمام الباحثين لكان في إثارتها جناية أي جناية، وإجرام أبلغ إجرام
المتحاوران في موضوع الموسم عظيمان ما في عظمتهما مطعن، جليلان ما في جلالهما مغمز؛ ولئن اختلفت جهات الجلال والعظمة فيهما، إنهما ليلتقيان في أنهما قطبان ينفرج عن جهودهما في البحث والنظر فضل كبير وخير وفير
عرفنا الأستاذ الكريم أحمد أمين رجلاً رزين المجلس، رصين العقل، حصيف الرأي، بعيد الأناة، عفَّ القلم واللسان. يطالع الناسَ في آثاره سمت العلماء وجلال المتواضعين، ونظرات المجربين وثبات المستقيمين، لا يزهاه النجاح وإن أعجب وبهر، ولا يثيره اللجاج وإن احتدم وزخر، بل يمضي قدماً إلى الهدف الذي قصد، والغاية التي نشد. ذلك أحمد أمين لمن لم يعرفه
وأما دكتورنا زكي مبارك، فذلك الأديب الثائر الشاعر الناثر السنتريسيِّ الباريسيَّ، الأزهري الفرنجي الذي خلص له في هذا الجيل أن يجمع بين أدب الزنادقة، وإخلاص المتصوفة، ويؤاخي بين الإيمان والتمرد، ويوفق بين الأناقة والهرجلة و. . .
ليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
ترجع معرفتي بالدكتور إلى عهد الصبا، وهو تلميذ للمغفور له الأستاذ السيد مصطفى القاياتي، يختصه بفضل عنايته، ويضفي عليه من أبراد الكرامة، والثناء والإعجاب، ما يبعد في غور الحب بينهما، ويبالغ في تعلق كل منهما بالآخر، تعلقاً يفرع به الأقران ويزهي على كل إنسان؛ ولئن حالت ظروف الحياة دون اتصالي بالدكتور، إنني لأشهد في ثورته - كلما ثار - تلك الروح الجريئة الثائرة، روح أستاذه الكريم حية تتوثب، لا يكبتها ملام، ولا ينهنهها وعيد، ولا تكبحها مخافة، فليت شعري، على أيّ باقعة وقع الأستاذ أحمد أمين؟!
لا جرم أن الأستاذ أحمد أمين كان في جُنة من نبل نفسه وكرم أخلاقه، ومن آثاره القيمة التي لا تدفع عن موارد الخلد، لو أنه جرى على سننه وأخلد إلى غيله الذي لا يقتحم واستخدم تلك الأذن الذي سكّها - قديماً - ما كتبه الدكتور زكي ناقداً به الدكتور طه حسين بك، فجعله يرسل حكمه على أولهما في حثيثته المأثورة: إن الدكتور زكي يلقى مجادلة كما يلقى المصارع المصارع، لا كما يلقى العالم العالم. . . أو كما قال
بيد أني أرى الأستاذ أحمد أمين في عهده الأخير، أغفل من خلاله، ما فتح به للدكتور ثغرة ينفذ منها إلى إدراك ثأره القديم؛ والدكتور - ولا نكران للحق - لَماح يقظ؛ ما لبث أن انتهزها فرصة سنحت، فشفى بها نفسه، بلا ثمن ولا استكراه
مازلت أعرف للأستاذ أحمد أمين فضله ونبله منذ تصورت معنى النبل والفضل، حتى قرأت له عام أول رده على فضيلة الشيخ اللبان في جريدة الأهرام؛ ذلك الرد الذي كان عنوانه:(أدب الخطاب)!! والجواب يقرأ من عنوانه؛ والشيخ اللبان - وإن جردناه من جميع مميزاته - لن نستطيع أن نجرده من جلال السن، ومن الشيب في الإسلام؛ فليس مما يليق في أدب ولا عرف أن يعلم أدب الخطاب
أضحى يمزق أثوابي ويضربني
…
أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا؟!
من حق الأستاذ ومَنْ دون الأستاذ أن يردَّ على مخالفه، ولكن من حق المخالف ألا يشتم؛ ولم تكن خشونة الكلام وسيلة من وسائل الإقناع المنطقي، إلا في المواطن التي تنكرها الحجة، ولا يعترف بها العلم؛ والأستاذ في علمه وفضله، لا تعوزه حجة، ولا يعجزه برهان
كانت هذه عندي أول زلة للعالم الجليل. فأما الأخرى، فهي إنشاؤه لمجلة الثقافة التي أزالته
عن مكانه بين العلماء، وعدلت به إلى صف الصحفيين؛ فأصبح وهدفه أن تروج مجلته وتنشر بين القراء، وتحثو في وجه كل مجلة سبقتها أو لحقتها؛ ولا تروج المجلة إلا بجديد؛ فليجدد مولانا الأستاذ في: أدب المعدة، وأدب الروح؛ وفي: الدين الصناعي والدين الطبيعي؛ وفي: جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي. الخ الخ الخ
لقد بدأ الأستاذ فكتب ما كتب؛ وأخذ الكتاب بعده طريقهم، بين خاذل وناصر؛ وكان أجرأ الكاتبين (بلا ريب) الدكتور زكي مبارك، ولا فخر. وكان ضرورياً أن ينافح الأستاذ عن آرائه، وأن يذود عن حياضه، وهو صاحب القلم الجوال والرأي الصوّال؛ ولكن الأستاذ سكت؛ ولا أدري: أسكوت مؤقت أم مؤبد، فإذا كان سكوتاً مؤقتاً، فأنا أشوق الناس إلى رده، وذلك ظني به؛ وإن كان سكوتاً مؤبداً، فهل تراه ارتاح إلى الأثر الذي أحدثته آراؤه في رواج مجلته، أو أنه رأى أن يعامل الدكتور زكي على سنن ما كان يعلمنا سيدنا في الكُتَّاب:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
…
فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه
…
وإن خليته كمداً يموت؟!
وإذا كان رأيه هو هذا، فإني أعجل له الجواب، فأقول: ذاك لو بقيت على حلمك، واحتفظت بمقامك القديم، فأما الآن فقد تساوت الكفتان، والفلج لمن برّز. . .
على أن الخبيث الدكتور زكي مبارك لن يموت قريباً، فإنما يعجل بالخيار.
أما بعد، فلقد علم الله أني أحب الأستاذ أحمد أمين وأجلّه، أكثر مما أحب الدكتور زكي وأجلّه؛ وكنت قمينا أن أغضب للأستاذ وأتحمس له، على قدر حبي له، وإجلالي إياه؛ ولكني - ولا أكذب الله - أشعر لعمل الدكتور معه بشيء من الارتياح. ذلك لهذه الطعنات الدوامي، التي حشا بها مقاله: الدين الطبيعي والصناعي، ليصيب بها قوماً غافلين، لم يعرضوا له إلا بكل خير، ولم تغفل عين الله عن الثأر لهم.
ثم لهذه الدعاوى العريضة التي أصبحت ديدن كل من أحس شهرة بحق أو بباطل في هذا البلد، فلا يقنع الباحث منهم بما دون قلب الأوضاع، ومحو التاريخ، وتغيير خلق الله؛ وهو أعجز من أن يغير وضع الزقاق الذي ولد فيه، ودرج بين صبيانه.
ولا يسعني أن ألقي القلم قبل أن أوجه تهنئتي إلى الأستاذ أحمد أمين بما يكون قد أصاب
من نجاح صحفي، لست أدري أمن قبيل أدب المعدة هو أم من قبيل أدب الروح؛ لأن النوعين لا يزالان في حاجة إلى مزيد تحديد.
فأما أنت يا دكتور زكي، فإني أهنيك بأن ظفرت على سِفاهك هذه المرة، ببعض رضاي. ورحم الله حكيم الشعراء:
سِفاهٌ ذاد عنك الناس حلم
…
وغى فيه منفعة رشاد
عبد الجواد رمضان
المدرس في كلية اللغة العربية
في طرسوس
على قبر الخليفة العظيم
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذه مدينة أذنة (أطنة) قدمتها البارحة وسيمر بها اليوم قطار طوروس السريع ذاهباً إلى الشام، وهو يمر بها ثلاث مرات في الأسبوع. فإن فاتني قطار اليوم فلا مفر من الانتظار في آذنة إلى السبت. إن هواء آذنة حار، وليس فيها ما يشغل الزائر ثلاثة أيام ففيم التلبث؟ إن لي في طرسوس أرباً ولابد لي أن أزور طرسوس. إنها قريبة بينك وبينها مسيرة ساعة للقطار. ولو كانت بعيدة لما ترخصت في القعود عنها. إن لم يتيسر لي العودة منها قبل موعد القطار فليذهب قطار الأربعاء وليذهب قطار السبت فما عن زيارة طرسوس معدي. إن في القلب لحنيناً إليها ومنيتي وقفة فيها:
وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً
…
من دموع بوقفة بالعقيق
أأجاوز آذنة صوب الجنوب دون أن أرى طرسوس؟ أعظم به من عقوق، وحرمان للنفس مما تمنيت سنين طوالاً
ما شأن طرسوس؟ ما الذي يشوقني فيها؟ إنها مدينة صغيرة كئيبة المنظر فما حببني إليها؟ لله أي كنز في طرسوس دفين! وأي تاريخ كبير في تراب هذه المدينة الصغيرة!
حاولت أن أبكر إليها فأعود فأدرك قطار طوروس، ولكن فاتني قطار ست ونصف من الصباح وكان عليَّ أن أختار إحدى النيتين: إما قطار طوروس وإما طرسوس
أخذت القطار إلى طرسوس والساعة ثمان ونصف
هذه طرسوس أحد الثغور القديمة بين المسلمين والروم. طرسوس التي فتحها الرشيد ومات فيها ابنه المأمون غازياً كما مات الرشيد في طوس ومات ابنه في طرسوس. لله همة أبعدت بهذين السهمين من بغداد إلى طوس وطرسوس. من كان يفطن أن الرشيد والمأمون كانا مترفين من أبناء النعمة وأخدان القصور فليعلم أن الرشيد كان همة لا تفتر بين الحج والغزو:
فمن يطلب لقاءك أو يرده
…
ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وأن المأمون لم يقعد عن قيادة الجيش إلى ثغور الروم، وأنه لقي حتفه غازياً في هذه
المدينة النائية طرسوس:
ما رأينا النجوم أغنت عن المأ
…
مون في ظل ملكه المحروس
غادروه بعرصتي طرسوس
…
مثلما غادروا أباه بطوس
يقول ياقوت:
(وبينها وبين آذنة ستة فراسخ، وبين آذنة وطرسوس فندق بُفا والفندق الجديد. وعلى طرسوس سوران وخندق واسع ولها ستة أبواب. ويشقها نهر البردان. . .
وما زالت موطناً للصالحين والزهاد يقصدونها لأنها من ثغور المسلمين، ثم لم تزل مع المسلمين في أحسن حال؛ وخرج منها جماعة من أهل الفضل إلى أن كان سنة 354 الخ)
كانت طرسوس ثغراً تتكسر عنده زفرات الروم وفي إقليمها غزا أمير العرب وشاعرهم سيف الدولة وأبو الطيب المتنبي
واستولى عليه الروم سنة 354 حين مرض سيف الدولة فخربوا مساجدها وجلا كثير من أهلها. يقول ياقوت: (وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرب المساجد وأخذ من خزانة السلاح ما لم يسمع بمثله مما كان جمع من أيام بني أميّة إلى هذه الغاية. . .)
ثم دخلت في حوزة المسلمين حينما امتد سلطانهم على بلاد الروم من بعد
وبعد الحروب الصليبية استولى عليها المصريون، ثم استولى عليها بنو رمضان الذين حكموا آذنة وما حولها في القرن الثامن الهجري إلى أن أديل منهم للعثمانيين
ذكرت كثيراً من وقائع الدهر في طرسوس وذكرت الرشيد والمأمون وسيف الدولة والمتنبي وقصيدته السينية التي مدح بها محمد بن زريق في طرسوس:
هذي برزتِ لنا فهجت رسيسا
…
ثم انثنيت وما شفيت نسيسا
ورثيت للشاعر حين ذكرت أن الممدوح أعطاه عشرة دراهم. فقيل له: إن شعره حسن. فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم
ركبت في طرسوس عربة ومعي رفيق من اسكيشهر، وكان الحوذي يعرف العربية، ولا تكلم أحداً في هذه النواحي بالعربية إلا أجابك
قلت: أين منسج راسم بك؟ فذهب إلى معامل عظيمة للنسج لمحمد بك المصري. ولم أجد البك هناك ولكني رأيت المناسج العظيمة وسرني ما رأيت فيها وما سمعت
وسألت رجلاً هناك: أتعرف قبر الخليفة المأمون؟ المأمون ابن الرشيد مات هنا ودفن، فهل عندكم علم عن قبره؟ قال: لا. ولكن هنا شيخاً خبيراً بالآثار، لعل عنده علما. غاب عني قليلاً، وعاد يصف للحوذيّ الموضع! انتهى السائق إلى جامع كبير له سور عال ضخم كأنه أعد للقتال، وعلى مقربة منه خانات كبيرة، وبجانبه تكية مغلقة. دخلنا الجامع إلى صحن واسع يحيط به أروقة تمتد على جدار الباب، وعن اليمين والشمال، وفي وسطه حوض مظلّل؛ ويفصل الصحن والمسجد جدار دخلناه من باب، ومنه إلى مسجد مستطيل فيه ثلاثة عقود تقوم على صفين من العمد.
وفي الجدار الشرقي من المسجد كوة تطل على التكية المغلقة. نظرت منها فإذا مصلى مسقوف، وإذا ثلاثة قبور، أشار خادم المسجد - وهو حلبيَّ الأصل - إلى أقربها إلى الكوة. وقال: هذا قبر المأمون. قلت: أرأيت عليه كتابة؟ قال: أجل! وقد سألت ناساً في طرسوس وأذنة؛ فاتفقت كلمتهم على وصف القبر وموضعه! وأما المؤرخون، فقد أجمعوا على أن المأمون دفن في طرسوس. وأخبرني بعض العلماء العرب والترك أنهم رأوا القبر وقرءوا عليه اسم الخليفة المأمون!
هنا الخليفة العظيم!. . هنا الرجل العالم المحب للعلم والعلماء!. . هنا الملك العفوَّ الذي قال: لو علم الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالذنوب!. . . هنا عبد الله المأمون بن هرون الرشيد!. . .
(رحم الله أبا العلاء):
أنتم بنو النسب القصير فطولكم
…
باد على الكبراء والأشراف
والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت
…
بأب عن الأسماء والأوصاف
هنا أمير من أمراء المؤمنين يفتخر به تاريخ الإسلام، وحق على الأمم الإسلامية كلها على اختلاف أجناسها أن تشيد بذكره، وتعظمه في قبره!. . .
لقد رست قبور الخلفاء والعباسيين في بغداد وسامرَا. فلا يُعرف لواحد منهم قبر اليوم حاشا قبر هرون الذي طمس عليه عصبة الشيعة في طوس؛ وحاشا قبر المأمون الذي طمس عليه النسيان في طرسوس أو كاد.
تمنيت أن أجلس إلى قبر المأمون ساعة فأسجل ما توحيه إلى نفسي عظمة الماضي
ومصائب الحاضر، وغير الزمان، وتقلب الأيام، وما يبعثه في النفس ذكر المأمون وجواره من عظمة وإعجاب، وفخار وعبرة!
ثم جلست في طرسوس فرأيت مساجد عتيقة، ولكني أصغرت كل شيء فلم أبال بعد أن وقفت على قبر الخليفة الكبير المأمون بن الرشيد رحمهما الله!. . .
عبد الوهاب عزام
ذكريات سني التعليم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
دخلت مدرسة المعلمين كطالب سنة 1906 وطلبت الإحالة على المعاش سنة 1938 وكانت مدة اشتغالي بالتعليم كطالب ومدرس وناظر ومفتش اثنتين وثلاثين سنة وهي ليست بالزمن القليل. وربما كان منصب الناظر أشق مناصب التعليم التي وليتها بالرغم من وجاهة مظاهره. وقد كنت ناظراً لخمس مدارس ثانوية وقبلها لثلاث مدارس ابتدائية، وكانت مدة نظارتي للمدارس الثانوية تسع سنوات وللمدارس الابتدائية ثلاثاً أي كانت نظارتي للمدارس اثنتي عشر سنة، وهي أيضاً ليست بالزمن القليل. وقد لبثت في نظارة المدار الثانوية في عهود وزارات وأحزاب مختلفة، وفي عهد كانت المدار الثانوية فيه مضطربة جد الاضطراب بسبب قلة الاستقرار السياسي. وأعترف أن بقائي في نظارة المدارس تلك المدة الطويلة لم يكن بحسن لباقة في معاشرة آباء الطلبة ومخالطتهم واكتساب معونتهم، فإن ميلي الطبيعي إلى الوحدة منع من ذلك حتى أساء أناس فهم هذا الميل إلى الوحدة وعدوه تكبراً وهو ضعف في البنية يتطلب الراحة بالانقطاع عن الحديث وعن تكاليف المجالس وأعني ما تكلفه من تعب. ولم يكن بقائي في النظارة بسبب مكر ودهاء وخلابة تحبب الناظر إلى تلاميذه لأن المكر إذا تكلفه الإنسان يتعبه ويكلفه جهداً ربما كان لا طاقة له به، وإنما كان بقائي بها أولاً لأني آثرت تصريف الأمور بنفسي بدل الرجوع إلى الوزارة في أمور كثيرة وبدل خلق مشكلات لها، ولا تكره الوزارة أمراً قدر كرهها أن يُرجع إليها في أمر كان لا يستطيع الناظر ألا يكبِّر أمره حتى يصير لا مناص من الرجوع إليها فيه، وثانياً لأني اتخذت في خطط التعليم ما اتخذه نابليون في خطط حروبه إذ كان يعبئ أكثر قوته لمواجهة موطن الضعف في العدو فيهزمه، وكذلك كنت أنا والأساتذة نعبئ عنايتنا وجهدنا لمعالجة التلاميذ الضعاف ولمعالجة أماكن الصعوبة في المناهج وأماكن الخطأ والضعف في التلاميذ الضعاف، وهذه خطة تحتاج إلى تفصيل ولكنها الخطة الوحيدة التي يستطاع بها جعل نسبة النجاح في الامتحانات حسنة مرتفعة، وقد استطعنا في الواقع أن نجعل بهذه الخطة نسبة النجاح حسنة، وهذا كان يسر بعض رؤسائنا عند ظهور النتائج
ومنصب ناظر مدرسة من المدارس الثانوية المصرية منصب كانت تحوطه العداوات. فذا
أراد أن يهيئ أسباب النظام قيل متشدد مرهق مجرم، وإذا تسهل وترك الأمور تجري في مجاريها قيل ضعيف كسول، وإذا كان بين بين اتهم تارة بالإرهاق والإجرام، وتارة بالضعف والكسل، واتهم علاوة على ذلك بالتذبذب. وقد خرجنا والحمد لله من هذا المنصب ومن غيره من المناصب وليس في ملف خدمتنا مؤاخذة ولا سؤال ولا تحقيق في مؤاخذة، ولم تكن هناك حتى ولا مخاطبة شفوية في أمر مؤاخذة مالية أو أدبية أو علمية أو خلقية إلا مؤاخذة على رفع صوتنا في حضرة علي بك حافظ رحمه الله كنت مدرساً وهو ناظر، وهذا أمر ربما استثار تعجب الأساتذة المدرسين في هذا الجيل
وقد كانت خطتي في معاملة الأساتذة المدرسين على العموم خطة معاوية في قوله (ولو كانت بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إذا أرخوا شددت وإذا شدوا أرخيت) وربما أفادني ميلي الغالب إلى الوحدة من ناحية وإن أضر بي من ناحية أخرى، فإن أضر بي من ناحية جهلي بما يدبر في الخفاء ومن ناحية إساءة بعضهم فهم ذلك الميل إلى الوحدة وعده تكبراً، فقد أفادني من ناحية أخرى إذ لم يخلق أسباب الانقسام والتحزب والمشاحنة بين الموظفين بمناصرة بعضهم على بعض. وكانت خطتي نحو الطلبة إعزاز الطالب الكريم الأخلاق واحترامه إذا كان ممن لا يطغيه الإعزاز والاحترام، وإفهام المقصر أو الخارج على النظام أن العقاب ضرورة لا إهانة فيها وأن الشهامة تقتضي أن يرحب مستحق العقاب بالعقاب. وقد حاول بعضهم أن يذيع في مدرسة أني أتشدد تشدداً مسيئاً في معاملة الموظفين فلم يفلح بالرغم من الإلحاح في هذا المسعى لأن هذا المسعى كان مهزلة حقيرة، ولا يقبل الموظفون في هذا الجيل إساءة في المعاملة لا إلى الحد الذي حدده هذا المسعى ولا إلى أقل منه. وكبار رجال الوزارة يعلمون أنه ليس في استطاعتي أفعل ذلك حتى لو حدثتني نفسي بإساءة معاملة أحد. ولكنه مسعى يدل القارئ على المتاعب التي يتعرض لها حتى أقل النظار طلباً للمتاعب وأبعدهم عن مظانها. وقد حاول أيضاً أصحاب ذلك المسعى إفهام الطلبة أني أتشدد تشدداً مرهقاً للطلبة، وهم يعرفون أني قلما كنت أوقع إلا العقوبات المدرسية المفروضة ولم أكن أوقعها إلا بمقدار ما يستقيم معه التدريس. وقد كنت أتعجب من الخبث والشر في نفوس أصحاب ذلك المسعى، ولكن مما هَوَّنَ الأمر عليَّ أن بعض الطلبة الذين كنت أضطر إلى معالجتهم بشدة كانوا بعد نجاحهم وتخرجهم يرسلون إليَّ
الخطابات ينسبون فيها نجاحهم إلى ما عالجتهم به أو كانوا يفعلون ذلك إذا قابلتهم بعد تخرجهم. وقد عَلَّمْتُ آلافاً من التلاميذ بمدارس الإسكندرية ودمنهور والمنصورة والزقازيق والقاهرة وحلوان والفيوم الأميرية. وكثير منهم قد صادفوا نجاحاً كبيراً في حياتهم بعد أيام التلمذة، وهم يعرفون أن الخشونة والعجرفة أبعد الطباع عن طبعي ويعرفون أني كنت أعامل أكثرهم معاملة الأخ الكبير للأخ الصغير. وقد كنا نتبع خطة التعبئة لمعالجة الضعف في جميع سني الدراسة لا في السنة الأخيرة وحدها، ومن أجل ذلك كانت تأتي نتائج امتحانات النقل للفرق حسنة مرضية في جملتها إلا ما شذ بسبب ضعف شديد في فرقة أو فصل وعجز في الأستاذ عن معالجته مما يحدث مثله في جميع المدارس. والوزارة إنما تأخذ بمتوسط نسبة النجاح للمدرسة كلها، وتنظر في أسباب تخلف الفرقة الواحدة أو الفصل الواحد. ولا أذكر أن الوزارة آخذتنا حتى ولا مرة واحدة بسبب تلك النتائج. ومما يؤسف له أن بعض كبار آباء التلاميذ كانوا إذا رسب ابن أحدهم حقد حقداً شديداً، ولا أعرف إذا كانت هذه الصفة لا تزال في الآباء. ولو أنهم سألوا الوزارة عن مستوى النتائج لأراحوا أنفسهم وأراحوا النظار من عواقب حقدهم الذي لا يتفق وتربيتهم العالية ومنزلتهم الكبيرة. والمدرسة دنيا مصغرة: ففيها العالم والجاهل والذكي والغبي والوديع والشرس الطباع والكريم والحقود، والذي يغلب على طبعه الخير، والآخر الذي يغلب على طبعه الخبيث والشر وحب الأذى. ولا يستطيع أستاذ مدرس ولا ناظر أن يعجن جِبِلَّةَ هؤلاء وأن يجعلهم كلهم على طبيعة واحدة من العلم والذكاء والكرم وسمو الشمائل، ولا أن ينال إخاءهم وإنصافهم جميعاً. ومهنة المدرس والناظر من أشق المهن، ولا يهون متاعب التعليم غير إنصاف الوزارة من ناحية وإنصاف الآباء من ناحية أخرى وحسن مؤازرتهم؛ وهذا الإنصاف لا يغني عنه لإنجاح التعليم تغيير الوسائل والأنظمة. ولسنا نقول هذا القول لأننا نطلب أو نرجى نفعاً فقد انتهت حياتنا العملية وانتهت مطامعنا وآمالنا إلى غير عودة، ولكنا نقوله ونحن نعلم أن المعلم والناظر يعملان في سذاجة الشباب أو عادات الشباب والمشيب حتى وإن لم يجدا عطفاً من بعض الآباء أو من الوزارة؛ ولكن صعب على النفس ألا تجد ما يعينها على تحمل مشقة التعليم، واستخراج حلاوته، والتعليم شيِّقٌ حلو إذا انتظمت أموره، وامتنعت عنه الأحقاد، والمعاداة على كل أمر تافه. ولا أذكر أني تأثرت مرة من
حسن عطف ومودة قدر تأثري عندما نُقِلتُ من نظارة مدرسة المنصورة، وجاء تلاميذ لتوديعي، ووقف باقي الطلبة في الفناء يحيونني وأنا في القطار، وقد دمعت أعين بعض الطلبة المودعين ولم أكن أتعمد اللين معهم، ولا التراخي، حتى أنال عطفهم! ولم يكتفوا بذلك بل أظهروا وفاءً عندما صاروا إلى المدرسة الثانوية بالمنصورة، وجاء إليهم تلاميذي من مدرسة الزقازيق الثانوية لمباراتهم، وقد جعلني وفاؤهم هذا أندم على أني لم أكن أكثر ليناً في معاملتهم، وإن كنت لم أنقطع عن مشاركتهم في سرورهم ومباسطتهم والعمل على راحتهم ولإنجاحهم، وتعهد مرضاهم، والسهر على صحتهم إذ لم تكن شدتي قسوة بل رحمة.
عبد الرحمن شكري
النبوة - الوحي - المعجزة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
معذرة من طول الفترة بين مقالي الأول - في هذا الموضوع
- ومقالي هذا؛ فان أعمال الامتحان في المدارس وشواغل
السفر من بغداد إلى القاهرة أمور لا يستقيم معها فكر ولا
يصفو فيها خاطر.
كلما فكرت في صمت الطبيعة المطبق تجاه الإنسان، وثبات السماء والأرض أمام حواسه، وعدم اكتراث الأشياء له، وعدم وجود ثغرة ينحدر منها إلى أفق آخر غير هذه المناظر الهائلة الثابتة. . اعترتني رهبة من وضع الإنسان هذا الوضع المغلق عليه فيه كل شيء! وأقامني الفكر بين العجز والتعب كما يقول المتنبي:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته
…
أقامه الفكر بين العجز والتعب
ولكني أفرض في بعض الأحيان أن الإنسان استطاع أن يرقى أسباب السماء بسلم، وأنه طار كالريح، وانتقل كالبرق، وصار الكون كله مَزْويّاً بين عينيه. فهل يفيده ذلك شيئاً في حل شيء؟ كلا! فيما أتخيل. . . لأن الذي ينتقل من متحف أعاجيب صغير إلى متحف أعاجيب كبير، لا يزيده ذلك إلا دهشة ورغبة في معرفة الأسباب!
وهبوا الإنسان حلل كل شيء في الطبيعة وركبه. . . فهل تذهب قدرته تلك من حيرته ودهشته في إدراك العلاقة بين فكره وبين الأشياء، وفي إدراكه نفسه وقدرتها؟ كلا! فيما أتخيل. . . فهو سوف لا يدرك من نفسه إلا أنه آلة خالقة تفعل الأعاجيب. فنحن مهما أدركنا ومهما فعلنا فسنظل حائرين في معرفة كيف ندرك وكيف نفعل ما نفعل. . . ويبقى وجود كل شيء بعد ذلك لغزاً مغلقاً كما هو!!. . .
ومن هذا المدخل أدخل إلى بحث (المعجزة الحسية)، التي هي أعظم عقبة يصطدم بها أكثر الباحثين المتشككين في طريقهم إلى الإيمان بالنبوة. لأنهم يرون في إيجادها خرقاً للناموس
العام الذي ينتظم الطبيعة، وخروجاً على سنن اطرادها؛ ويرون أن الإيمان بالنبوة لا يكون إلا بالإيمان أيضاً بهذا النوع من الأفعال الخارقة لسنة الطبيعة. فيقفون مترددين محجمين عن الإيمان بالنبوة والوحي، إذ يجدون في منطقة الإيمان بهما عقبة المعجزات الحسية. فيذهبون إلى تأويل النبوة والوحي بتخريجات لا تتفق مع الإيمان الصحيح ولا مع نصوص القرآن الصريحة، ولا مع منطق النبي نفسه؛ ومعنى النبوة التي أدركها هو في روحه وفكره، وحدثنا عنها، ووصفها لنا. فهم يحاولون أن يفهموا الوحي على أنه فيض ذاتي في النفس الإنسانية، وحالة إلحاح من فكرة الصلاح والحق على قلوب بعض محبي الإصلاح من البشر بعد إدراك تام للاتجاه العام في الطبيعة. فيخيل إليهم حين يدركون ذلك أن إرادة رب الحياة معهم ومنطقه في أفواههم وعقولهم؛ فيصدعون بالدعوة، وليس هناك وراء هذا اتصال بينهم وبين الله ولا حديث ولا شيء. وأما الخوارق التي كانوا يجرونها فهي أعمال ناشئة من يقظتهم وإدراكهم علماً من الطبيعة لم يدركه غيرهم. فيستخدمون ذلك في إقناع الناس.
هذه هي خلاصة مقالة منكري النبوة في العصر الحديث. وقد ألححت في مقالي الماضي في بيان النبوة كقانون من قوانين النشأة العقلية والروحية، وأنها أشبه بالعلاقة بين الأبوة والبنوة في الترتيب والإرشاد، وأنه ليس من المعقول أن تمضي الحياة الإنسانية من أول رجل إلى آخر رجل من غير سماع كلمة غير إنسانية مما وراء الطبيعة، وإلا لزم أن تهدر قيمة الإنسان أمام نفسه لأنه لم يسمع حديثاً من الحياة يحدد له قيمته ومكانه. . .
أما المعجزات الحسية فلو لم يحدثنا عنها القرآن حديثه القاطع بوجودها لكان لنا معها موقف آخر. ولكن القرآن المعجز الدائم يحدثنا عن ناقة خرجت من صخرة، وعصا انقلبت حية، وطير خرج من طين، وعن كثير من الآيات بحديث صريح لا يقبل تأويلاً ولا تخريجاً غير ما يحتمله لفظه. ولم يشر القرآن بأي إشارة إلى أن الأنبياء الذين جرت على أيديهم هذه الخوارق كانوا على علم بأسرار ما يفعلون، بل بالعكس يحدثنا أن موسى خاف وفر وولى مدبراً حين رأى عصاه تنقلب إلى ثعبان مما يدل على أنه ما كان يدري بسر ما يجري أمامه
إذاً فقد حبط قولهم إن تلك الخوارق ناشئة من إدراك النبي سراً من الطبيعة لم يدركه غيره
وينبغي أن نتذكر دائماً أن كل شيء في الطبيعة معجز ومحير. وأن إضافة شيء إلى الطبيعة من أعمال الإيجاد والخلق في ظروف استثنائية تقضي الضرورة بإحداث حجة حسية دامغة فيها، تلك الإضافة لا تزيد عجباً ولا تستحق دهشة أكثر من غيرها من الموجود قبلها
وينبغي أيضاً أن نمنع خيالنا من تصور الله تعالى خاضعاً لطرق صناعتنا. . . فهو لا يحتاج إلى مخابير ومعايير ومنافيخ وآلات ومعامل حتى يخرج شيئاً وإنما المسألة بالنسبة إليه بسيطة هينة. . وقد وهم إبراهيم عليه السلام حين قال له: (رب أرني كيف تحيي الموتى) إذ أنه ظن أن هناك كيفية وأسلوباً محسوساً لإيجاد الله للأشياء فقال له الله: (أولم تؤمن؟ قال: بلا، ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصُرْهُنَّ إليك (أي اذبحهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً) فلم ير إبراهيم من كيفية الخلق أكثر من هذا. وهو هو نفسه الأسلوب الذي نراه كل يوم وكل ساعة في وجود الأشياء من نبات وحيوان، وفي تجدد المادة والقوة والطاقة
فالأمور والأشياء من أولها إلى آخرها معجزات وآيات محيرات. ولو خلقناها بأيدينا لم يذهب ما بنا من حيرة ودهشة كما قدمت في أول هذا المقال
أقول هذا وأطيل فيه لأبين للذين تصدمهم المعجزات الحسية المنسوبة إلى الرسل السابقين قبل محمد وتصدهم عن الإيمان بالنبوة بمعناها عند جمهور الناس أن أمرها أهون في التقدير مما يتصورون وأنها لا تستلزم هذه الحيرة والدهشة لأن الله يفعل مثلها في كل دقيقة ملايين الملايين
ثم إن الله تعالى لم يضع قوانين الخلق ليتقيد بها كالأغلال والأصفاد فلا مانع أن يحطمها في جزئياتها التي يدركها الناس عن قرب في ظروف استثنائية حتى لا نتوهم - كما توهم بعض فلاسفة اليونان - إن الله لا يقدر على مخالفة سنن الطبيعة
ما قدمناه من الحديث يدور حول علاقة المعجزة بالطبيعة وسننها المطردة وحول علاقتها بالله موجد الطبيعة. ويبقى حديث حول علاقتها بالناس وعقولهم وآثارها في الدعوة
هل هناك ضرورة قاهرة على أحداث المعجزة؟
للجواب على هذا ينبغي أن نستحضر صور المجتمع الإنساني في عصوره الأولى البدائية
الجاهلة المحدودة الإدراك الواقفة عند المحسوسات الغارقة في الجهالات الموزعة عقليها بين السحر والمخرقة. كل أمة في عزلة عن الأخرى لا ترى إلا قطعة محدودة من الأرض وأفقاً ضيقاً من السما. . . ترى ظواهر الطبيعة ولا تستطيع لها تعليلاً، تأكلها الفواجع وتحصدها الأوباء ويستبد بها الكهنة والرؤساء وتسير كقطعان سائمة هائمة في بيداء الحياة ليس لها علوم وآداب إلا ما هو في نطاق ضرورة العيش والارتفاق
ثم يفاجئ أحد هذه المجتمعات رجل يحاول أن يحطم كل وثن معبود ويذب كل شر ويحمل على كل خير ويخلع أمته من ماض وتاريخ وسيرة آباء ويقول - وهنا الهول والدهشة - أنا رسول من الله رب السماء والأرض اختصني الله من بينكم وألقى عليَّ روحاً من أمره وكلمني! نعم كلمني! وهذا الرجل في الغالبية المطلقة من الأحيان يكون فقيراً لا مال ولا جاه له مما يفتن العامة ويدعوا إلى احترام الخاصة
فمن ذا عساه أن يؤمن مع هذا الرجل من مثل هذا المجتمع المنحط الخاضع لمنطق الطفولة، الذي لم يدرك الحق بنفسه؟
أظن أنه لا جدال في أن من يستجيب سريعاً لهذا الرجل هم العدد الأقل ممن يلبي كلمة الحق لأول سماعه بها، وهؤلاء حتى في زماننا زمن العلم والحرية والديمقراطية لا يكادون يبلغون عدداً تصلح معهم شؤون الأرض ويستقر العمران ويتحقق نمو حركة الفكر والخلق. فلابد لصلاح الأرض من صلاح جماهير العمال والزراع وهؤلاء هم القطيع الذي يملأ بقاع الأرض ولا يستطيع المصلحون أن يحققوا مثلهم العليا إلا إذا تسلطوا عليه وملكوا قياده، وهؤلاء هم موضع عناية الله ووصاياه لأنهم لا يستطيعون أن يتفرغوا لإدراك كماله وجلاله إذ أنهم مشغولون بالسعي إلى الرزق والضرورات المادية ويخيل إليَّ أن الله تعالى لاحظ في وضع النبوات الأولى منطقهم ووجدانهم أكثر من غيرهم من الخواص لأنهم هم جمهور الإنسانية لا تستقيم أمورها إلا بإرضائهم وإصلاحهم أما الفلاسفة والحكماء فقليلون كما قدمنا. ولو راعى الله منطقهم المعقد وإدراكهم المتشعب فأرسل الرسالات بأسلوبهم وحدهم فجاءت كتب الدين ككتبهم إذا ما استجاب للإيمان غيرهم وهم في جسم الإنسانية كنسبة شعرة في جسم فيل
فلابد أن نفهم هذا لنفهم أنه كان لابد من وسيلة أخرى غير وسيلة المنطق والعقل لإخضاع
جماهير الناس في تلك الأزمان التي كانت أغلب علومها تدور حول البحث في قلب أشياء الطبيعة كقلب الرصاص إلى ذهب وحول علوم التخييل كالسحر والسيميا وكيفية شفاء المرض بالتمائم والتعاويذ وتحضير الجن والاستهواء وراء القوى الخفية والتحايل على تزويق الأصنام وإنطاقها وخلع معاني الحياة وحركاتها عليها إمعاناً من الكهنة في بسط سلطانهم وسعياً من العامة وراء غيبوبة الأحلام وبدوات الأماني والأوهام
ولا تزال بقايا كبيرة من السحر والمثنوية راسبة في أذهان الجماهير في عصرنا هذا (فعيادات) كثير من الدجالين والمشعوذين أحفل بالزائرين من عيادات كثير من الأطباء الذين يعتمدون على العلم والاختبار، وقبور كثير من المشايخ تقصد الاستشارة والاستخارة أكثر مما تقصد مجالس العقلاء المجربين الذين يعطون الرأي والمشورة التي لا تخطيء. فكيف يهمل الله هذه النزعات الطفلية في نفوس أكثر القطيع الإنساني من غير أن يحملهم على الإيمان به من طريق الحس وإقامة الحجة الدامغة - في رأيهم - حسب ما يقترحون! وإذا علمنا أن الغاية من المعجزة غاية عظيمة بل أعظم غايات الحياة وهي حمل كثير من الناس على الإيمان بالله وإنقاذهم مما يهدر كرامتهم ويسفل بهم إلى أقل من درجة البهائم وهو السجود لصنم واللياذ به وبيع الحرية الفكرية والشخصية. . إذا علمنا ذلك تبين لنا أن المعجزة أمر محتم لتكملة السعي في سبيل إنقاذ الإنسان
وإذا لم يهتم رب الحياة بأمر الفصل بين أكبر الحق في الحياة وهو الإيمان به وأكبر الباطل فيها وهو الكفر به فمتى يهتم؟ وما هي غايته من خلقنا إذاً؟ فلقاصري الإدراك أن يطلبوا ذلك ممن يتحدث باسمه تعالى حتى تقوم الحجة الحسية أمامهم
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم خلاف
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
- 1 -
العلامة الأستاذ خليل مردم بك (عضو المجمع العلمي العربي) كاتب وشاعر وباحث، وبراعته في نثره ونظمه وبحثه بينة مستعلنة وأقواله المحكمة المنثورة والمنظومة في مجلتَيهِ (الرابطة الأدبية والثقافة) وفي (مجلة المجمع العلمي العربي) وغيرها. ومصنفاته: شعراء الشام في القرن الثالث، والجاحظ، وابن المقفع، وابن العميد، والصاحب بن عباد، والفرزدق، وغيرها، فيها الدليل على فضل (الخليل) وهو مُجَلٍ في الأدبين: أدب النفس، وأدب الدرس. ومستول على الملكتين في الفنين المنظوم والمنثور اللذين (لا تتفق الإجادة فيهما معاً إلا للأقل) كما قال ابن خلدون.
وقد كان هذا السريّ المردميّ الفاطمي قدم الإسكندرية سنة (1344) فعرفناه، وشاهدنا من فضله وعلمه ونبله ما شاهدناه. وفي بحرتنا هذه نظم قصيدته (صلاة الشاعر) وقصيدته (البحر) وقد أملاها عليّ متفضلاً. وبدْءُ الصلاة:
هَبْ للذكر وصَفَّ القدما
…
ثم ولّى وجهه شطر السما
بات في حيرته مستسلما
…
وله دمع على النحر يفيض
لا يغيض
وفي (البحرية) في البحر يقول:
السما منه استمدت غيثها
…
فهو أَن يفخر بالجود قمين
أترى أمواجه أنفاسه
…
رُددت بين شهيق وأنين
لم تكن إلا كشعب ثائر
…
شنها حرباً على (المستعمرين)
جحفل يركب منها جحفلاً
…
يتعادى كجنود زاحفين
وليت شعري، ليت شعري ماذا يقول اليوم لو زار الإسكندرية وقد ظهرت عرائس الدأماء، وعم البلاء، وكاد (أبو العيون. .) يبخع نفسه مما يرى ويسمع، أو ينقلب مثل المجنون
إنه (أعني الخليل) ليقول عجباً، وينشئ صاحب القصيدة المرقصة (الرقص) للأدباء المتفتين الشياطين الملاعين - طرباً
اللهم، إن في السِّيف في الصيف في هذه البحرة لفتنة! فاحفظ - يا رب العالمين - عبيدك وإماءك الصالحين والصالحات، وأظهر اللهم عبديك المجاهدين: شيخ المدينة (حامداً) والشيخ محموداً أبو العيون على الفاتنين والفاتنات؛ إنك القوي القدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله
أقام الأستاذ المردمي، هذا الأدب الجم والفضل المحسم في الإسكندرية برهة، وزمن لقائه هو الذي عُدّ من العمر. ثم عاد إلى داره، دار الإسلام دمشق
سقى دمشقَ الشامِ غيث مُمرعٌ
…
من مستهلّ ديمة دفاقها
مدينة ليس يُضاهي حسنها
…
في سائر الدنيا ولا آفاقها
فأرضها مثل السماء بهجةً
…
وزهرها كالزهر في إشراقها
نسيم ريّا روضها متى سرى
…
فك أخا الهموم من وثاقها
لا تسأم العيون والأنوف من
…
رؤيتها يوماً ولا انتشاقها
وإن كان (أبو عدنان) لم يبرح يقول:
يا ساكني مصر، فيكم ساكن الشام
…
يكابد الشوق من عام إلى عام!!
فالقوم لم يزالوا يرددون في كل وقت بيتي مهيار
دمشق، إن في دمشق شموس فضل وأدب، أضواؤها مشعة وباهرة، يراها الناظرون من المشرق الأنأى والمغرب الأقصى
هذه مقدمة أمام القول في كتاب الأستاذ المردمي الذي أتحف الناس به في هذه الأيام، وهو في الشاعر الإسلامي العظيم (الفرزدق) همام بن غالب
جاء في كتاب (الفرزدق): (قال الجاحظ: كان الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال ابن قتيبة: كان الفرزدق مِعَنّا مِفَنّا)
وقد بين الأستاذ أفانين أبي الفراس في القول في (كتابه) ومن فنونه في شؤونه ما أورده في سيرته: (ذكر لنا الرواية أن غالباً أبا الفرزدق دخل على عليّ بالبصرة، ومعه ابنه الفرزدق بعد عام الجمل، فقال: إن ابني هذا من شعراء مضر، فاسمع منه فقال عليّ: علمه القرآن
فهو خير له، فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه في وقت، وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن)
وهذه سنة صالحة سنها (همام) وقد استن بها الأديب الشاعر الوشاح أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض جاء في (نفح الطيب): (سئل الأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه فأقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد، ولا ينزعه حتى يحفظ (الغريب المصنّف)؛ فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال فارتاعت فقال:
ريعت عجوزي أن رأتني لابسا
…
حلق الحديد ومثل ذاك يروع!
قالت: جننتَ؟! فقلت: بل هي همة
…
هي عنصر العلياء والينبوع!
سنّ الفرزدق سنة فتبعتها
…
إني لما سن الكرام تبيع
وإن أدباء هذا العصر جلهم أو كلهم لمحقوقون أن يتبعوا السنة الفرزدقية فيقيدوا أنفسهم طوعاً أو يقيدوا قسراً حتى يحفظوا ما يجب حفظه. . .
وكان الفرزدق على جفائه ذا دعابة ونكتة وجواب حاضر - كما يقول الأستاذ - روى له في الكتاب هذه النكتة: (مرّ الفرزدق يوماً بمجلس بني حرام فقال له عنبسة مولى عثمان بن عفان: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة؟
قال: وما حاجتك إلى ذاك يا أخي؟
قال: أكتب معك إلى أبي. . .
قال: أنا ذاهب إلى حيث أبوك في النار؟ أكتب إليه مع ريالويه واصطفانوس)
(أما هوى الفرزدق السياسي فشعره يدل على أنه مع بني أمية ولكن في الواقع أنه مع القول الغالب من قريش) ثم يقول الأستاذ بعد أن أوضح ذلك: (ولعل أدنى الآراء إلى الصواب أن نقول: إن الفرزدق يقول بالعصبية العربية وبالمضرية على القحطانية)
وقد ردّ الأستاذ المردمي قولاً أشار إليه بعض من كتب سيرة الفرزدق، معتمداً - إن كان من أهل العصر - على (المرتضى عليّ بن الطاهر) في أماليه. وقد أملى الرجل كما أحب وهوى.
وبحث الأستاذ عن أبيات الحزين الكناني التي اختلطت بأبيات نُسبت إلى الفرزدق يمدح بها (الإمام علياً الأصغر) أحد الأئمة عند إخواننا الإمامية في خبر ظني أنه مصوغ وجبن
الفرزدق المعلوم لا يحقه. وهل شرد الكميت طويلاً إلا مثل هذا؟
وأبيات الحزين هي في عبد الله بن عبد الملك - كما قال الأستاذ وروي عن الأغاني - وقد أخطأ صاحب (العقد) في قوله إنها قيلت في بعض خلفاء بني أمية. ويؤيد قول الأستاذ وأبي الفرج فيمن قيلت فيه ما جاء في (معجم الشعراء) للإمام المرزباني: (كان الحزين شاعراً محسناً متمكناً، وهو القائل في عبد الله ابن عبد الملك ووفد إليه إلى مصر وهو واليها يمدحه في أبيات) أورد منها المزرباني أربعة وأبو تمام ستة منسوبة إلى الحزين الليثي، وهو الكناني هذا، واسمه عمرو بن عبد وهيب. وقد أخطأ ناسخ الحماسة في كتابته أنها قيلت في غير من قيلت فيه كما أخطأ التبريزي في شرحه في قوله:(ويقال إنها للفرزدق). وهذا ما اختاره منها أبو تمام:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
…
والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها
…
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يُمسكه عرفانَ راحته
…
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
أيّ القبائل ليست في رقابهمِ
…
لأولية هذا أوله - نِعَم
بكفه خيزران، ريحها عبِق
…
من كف أروع في عرنينه شمم
يُغِضي حياءً ويغَضي من مهابته
…
فما يُكلم إلا حين يبتسم
يقول كتاب الأستاذ في الفرزدق: (كان الفرزدق فاسقاً ماجناً خليعاً يشرب الخمر إن وجد إليها سبيلاً) نزل على الأخطل ذات يوم فقال له: أنتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا. . . فقال الفرزدق:
خفّضْ عليك قليلاً
…
وهات لي من شرابك
ويقول الأستاذ: (لكنه مع ذلك كان حسن الإيمان بالله يقيم الصلوات، ويعجبه من قومه أن يتدارسوا القرآن ويكثروا من تلاوته، يقر بذنوبه ويستغفر الله لها، ويخشى عذاب الآخرة ويهجر إبليس الذي يزين له المعاصي ويطغيه. قال المبرد في الكامل: التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس. فقال الحسن: كلا! لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا
إله إلا الله وخمس نجائب لا يُدركن - يعني الصلوات الخمس - وقال: كان الفرزدق يخرج من منزله، فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم؛ فيسر بذلك ويجذل به. ويقول: إيهٍ فدىً لكم أبي وأمي! كذا والله كان آباؤكم. وقال: والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة وعاهد الله ألا يكذب ولا يشتم مسلماً:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني
…
لَبين رتاج قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً
…
ولا خارجاً من فيّ زور كلام
(الإسكندرية)
(* * *)
مشكلة البحر الأبيض المتوسط
مصالح بريطانيا وفرنسا فيه
تلخيص مقال للسر ارشيبالد سنسكلير
زعيم حزب الأحرار بمجلس العموم
نجتاز الآن مرحلة جديدة من مراحل النزاع الأبدي بين القانون والقوة، فهذه هي الدولة الدكتاتورية التي لا تعترف بغير حق الأقوى، وتسخر من إيماننا بنظام دولي قائم على احترام استقلال الشعوب، وترفض كل مفاوضة مخلصة حبية لتسوية المشاكل الدولية، مفضلة عليها فرض إرادتها بالتهديد، وهذه هي الدول الديمقراطية، دول الماجنا كارتا وإعلان حقوق الإنسان التي يسود فيها الاعتقاد بأن للدول - كالأفراد - حقوقاً متساوية في الحرية، بغض النظر عن درجة قوتها، وبأن السلام قائم على احترام القانون، وأن الوسيلة الوحيدة للعمل على احترامه هي مقاومة العدوان.
وتقوم منذ سنوات علاقات متوترة أقرب إلى الحرب منها إلى السلام بين هاتين المجموعتين من الدول، فنحن في حالة حرب من الوجهة العملية في شؤون الرأي والمال والاقتصاد والصناعة، والدعاية، وقد زادت أخيراً هذه الحالة سوءاً، فاستغلت الدول الدكتاتورية غفلة حكوماتنا وترددها، فلم تتوان عن اللجوء إلى العنف عندما أحست بالقدرة على استعماله، فاستطاعت بذلك أن تستولي في أوربا الوسطى وأسبانيا على مراكز ذات أهمية عظمى لها من الوجهة الحربية والاقتصادية.
ومن الضروري، لنتجنب اليوم الذي نخير فيه بين الخضوع للمعتدين وتعجيل النكبة العالمية، أن نكون جبهة عامة من الشعوب التي تفضل القانون على العدوان، ويجب أن نكونها قوية لتستطيع تحويل هتلر الذي يبقى بعد دكتاتور ألمانيا وحدها، بل إيطاليا كذلك، عن المنحدر الذي يجذب العالم نحو الحرب
مساهمة بريطانيا في الدفاع عن السلام
يعلم الناس مساهمة بريطانيا في تدعيم السلام، وهذه المساهمة ذات وجهين، العسكرية والسياسية، ويمكن أن تعتبر أسبق الدول في الحالتين
فقد قمنا من الناحية العسكرية بما لم نفعله قط في تاريخنا من قبل: لقد أدخلنا نظام التجنيد وقت السلم، ويجدر بي أن أسوق كلمة موجزة في هذا الموضوع الذي كان محلاً لتعليقات عديدة في فرنسا، لست أقول إننا فعلنا هذا عن طيب خاطر، ولكن نفورنا لم ينشأ عن أنانية أو جهل قد يصل إلى مرتبة الغباء، فإن الرجال في إنجلترا كما يجب أن تعرفوا، قد جاءوا وما زالوا، ليجودوا بأنفسهم بكثرة، ولقد بلغ عدد من قيد اسمه في البحرية أو الطيران أو الجيش ستة آلاف إلى ثمانية آلاف في اليوم، والتفسير العميق لهذا أن التجنيد في وقت السلم ضد تقليد ذي وجهين، حربي وأدبي، دام منذ مئات السنين، وليس من الهين أن نتحرر بسهولة من هيمنة القرون النفسانية. أما التقليد الأدبي فهو مذهب التطوع الساري في جميع النواحي، فانظروا مثلاً إلى مستشفياتنا التي تعيش بفضل جود الأفراد. وأما التقليد الحربي، فلأننا من سكان الجزائر قد اعتدنا أن نعتبر أن حماة أرض الوطن هم بحارتنا لا جنودنا. وأرجو أن تقدروا فيما عدا الذين سيعملون في دفاع الطيران أن مجندينا سيحاربون في بلاد أجنبية وفي مناطق بعيدة في بعض الأحيان، وأن رجل الشارع لا يرى دائماً كيف ولماذا تكون هذه المناطق الأجنبية مرتبطة بطريق غير مباشر بسلامة ونجاح الجزر البريطانية. فإذا ثبت في الأذهان هذه الاعتبارات النفسانية فهمتم ووافقتم على أن اعتناق مبدأ التجنيد هو انقلاب حقيقي عند الإنجليز، وأن سبباً واحداً استطاع أن يخرجنا عن مقتنا التقليدي للتجنيد: هو الرغبة في ألا ندع أدنى شك يتسرب إلى أصغر بقعة في أوربا عن إرادتنا في تقديم أكبر ما يمكن في المساهمة التي نستطيعها.
وليست مساهمتنا في الميدان السياسي بأقل انقلاباً من المساهمة العسكرية. ففي إعطائنا الضمانات لدول مختلفة في شرق أوربا ارتبطت إنجلترا بالقارة كما لم تفعل من قبل هذه الضمانات التي تخص غبر بولونيا رومانيا واليونان وتركيا، وهذه تسوقني إلى الكلام على مشكلة البحر الأبيض:
شرق البحر الأبيض
من الجلي أن الضمانات التي أعطيناها دول البلقان تجبرنا على الاحتفاظ بالسيادة البحرية التي للتحالف الفرنسي الإنجليزي في البحر الأبيض، ومن العبث أن نبين تفوق أسطول هذا الحلف الساحق على أي عدو في كل ما يختص بالسفن؛ ولكن هناك وهذا صحيح،
تهديد الطيارات والغواصات، وهو ما يجدر بنا أن نحسب حسابه، ولكني أظن أنه قد بولغ كثيراً في تقدير هذا الخطر. ولعلكم تذكرون ما حدث في شتاء العام الماضي عند ظهور غواصات قراصنة من جنسيات مجهولة في البحر الأبيض فإنها لم تلبث بعد إعطاء السلطات الفرنسية والإنجليزية أوامرها إلى وحداتها بمهاجمة وإغراق كل غواصة تقابلها على بعض طرق المواصلات البحرية حتى اختفت بفعل السحر، مما يدل على أنه توجد أميرالية في أوربا تشاركنا يقيننا في قوة وسائلنا الدفاعية الفعالة ضد غارة الغواصات
ومن المفهوم أن هذه الثقة المطلقة في تفوق الأسطول الفرنسي الإنجليزي في البحر تقوم على أمرين أساسيين: الأول هو التعاون الصادق التام بين القيادتين، والثاني هو الاستحواذ على قواعد عظيمة القوة. ومن هنا كانت هذه الأهمية ذات الدرجة الأولى للمسألة المعقدة في علاقتنا بمصر وتركيا واليونان في الشرق، وبفرنسا وإيطاليا في الوسط، ثم علاقتنا المشتركة في الغرب، والتعهدات التي التزمنا بها أخيراً في البلقان تنسجم مع تعهداتنا التي تربطنا بمصر ومع ضرورة تأمين حرية المواصلات الإمبراطورية في قناة السويس.
هذه الالتزامات والمصالح التي لا تحتاج إلى التنويه بأهميتها تفسر الاهتمام الذي يبديه الرأي العام الإنجليزي في مراقبة تزايد القوات الإيطالية في ليبيا، كما تفسر قرار الحكومة الخاص بتكوين احتياطي جديد في الشرق الأدنى والأوسط، والقواعد الفرنسية في تولون وأجاكيو وبيزرته وأوران والجزائر لا تقل شأناً في خدمة القضية المشتركة عن القواعد الإنجليزية في شرق البحر الأبيض، كما أنه لا يخفى أن تفوق الأسطول الفرنسي الذي لا يمكن إنكاره في أفريقيا الشمالية هو من أكبر الضمانات الأكيدة التي يمكن أن يرجوها الإنسان في تدعيم السلام في البحر الأبيض
غرب البحر الأبيض
ولنأت الآن إلى غرب البحر الأبيض، فبريطانيا العظمى تعلق أكبر أهمية على تحالفها التقليدي مع البرتغال. هذا التحالف المكين المؤسس على المصالح المشتركة والذي حافظت عليه الأمتان بإخلاص وصدق منذ ثلاثة قرون بغير أن يمس شيئاً من كبريائهما واستقلالهما الشرعي
وعلينا أن نكسب صداقة الأسبان وحيادها في حالة الحرب إذا أمكننا. ولقد كانت من جهتي
أحد الدعاة المخلصين لعدم التدخل في شؤون أسبانيا الداخلية كما هو حالنا مع أية دولة أخرى. ويبدو لي من المحزن - لهذا السبب نفسه - أن ظنت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية أنه من الواجب ترك الحكومتين الألمانية والإيطالية تؤثران في مستقبل الحرب الأهلية الاسبانية، ويكاد هذا الضعف الجنوبي يكلفنا غالياً
من العبث أن نضيع الوقت في الأسف على أخطاء الماضي، وفي عدم الاعتراف بأن الجنرال فرانكو هو سيد أسبانيا اليوم، ولكن هذا يجب ألا ينسينا أن ألمانيا قد ضمنت مراكز اقتصادية وحربية هامة، وأن بواخر الأسطولين الألماني والطلياني تغشى موانئ أسبانيا
ولا أراني في حاجة إلى القول بأنه لا يوجد في إنجلترا شخص واحد لا يريد العيش في صداقة وسلام مع إيطاليا، وإننا مستعدون للاعتراف لإيطاليا بمصلحتها بالاشتراك مع فرنسا وإنجلترا في نظام البحر الأبيض وحرية المرور لتجارتها فيه، ولكننا لا نستطيع مع ذلك ألا نلاحظ أن جميع مساعينا في تسكين إيطاليا لم تفد إلا في تحريض هذه الحكومة على ارتكاب أعمال شديدة الخطورة على السلام
وكما أبان إيدن في خطبة استقالته في البرلمان، قد صحب اتفاق الجنتلمان في أول يناير سنة 1937 إرسال أول نجدة هامة من الجنود الإيطالية إلى أسبانيا، وأن إمضاء اتفاق 16 أبريل سنة 1939 تبعه ازدياد إلقاء القنابل المدمرة من الطيارات الإيطالية التي تعمل مع فرانكو، وأن التصديق على هذا الاتفاق قد تبعه تضاعف عدد الجنود العاملة في الجيش الإيطالي في ليبيا
وتدل جميع هذه الوقائع على أن سياسة التسكين لم يكن لها من أثر إلا إهاجة شهوة موسوليني وإضعاف مراكزنا في البحر الأبيض المتوسط
كما أن وجود القوات الإيطالية في ألبانيا قد يسبب تهديداً ضد أمن وسلام البحر الأبيض أكثر خطراً من هذه القوات في أسبانيا، فعددها مائة ألف على الأقل مزودة بالدبابات والطيارات ولا تبعد عن سالونيك إلا بمائة وخمسين كيلو متراً، وخطر هذا التهديد هو الذي ألجأنا إلى إضافة ضمان اليونان إلى ضمان رومانيا واتفاقيتنا مع تركيا
وهناك دولة كبيرة يهمها مباشرة استقرار الأمر في شرق أوربا وجنوبها الشرقي، وهي
على استعداد لتضع تحت تصرفنا موارد لا نعرف في الواقع معلومات دقيقة عنها، ولكنها مع ذلك محل تقدير لا يمكن إنكاره، وموقعها يسمح بالتدخل عند الحاجة، سواء في الأرض أو في البحر، أسرع من فرنسا أو بريطانيا، وهذه الدولة هي روسيا.
وإنني أوافق من جهتي مستر تشمبرلين عندما قال إن النظام الداخلي في ألمانيا أو إيطاليا يجب ألا يؤثر على سياستنا الخارجية. فكذلك يجب تطبيق هذه القاعدة الحكيمة مع روسيا. فإذا أحبت إيطاليا أو ألمانيا أو روسيا نظامها الحالي، فليس لنا أن نحاول أن نفرض عليها نظاماً غيره، وإنما الأمر الوحيد الذي يعنينا هو سياسة هذه الدول الخارجية، وإذا كنت قد نهضت لمقاومة حركات ألمانيا أو إيطاليا فلأن هذه أو تلك تحاول فرض طغيانها على غيرها من البلاد، وهذه هي مساعدة روسيا تحت تصرفنا، وهي لابد منها إذا أردنا أن نضع حداً للاعتداء بدون أن نلجأ إلى الحرب.
وقد تساءلوا في باريس ولوندرة أخيراً عما إذا كان من اللازم أن نطلب إلى الفرنسيين أو الإنجليز أن يموتوا في سبيل دانزيج؟ يبدو أن الجواب الظاهر (كلا)! ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نظن أن البولونيين قبلوا أن يموتوا في سبيل باريس أو لوندرة، أو يقبل الفرنسيون أن يموتوا في سبيل جبل طارق، أو يموت الإنجليز في سبيل تونس؟ فالمهم تخطي ستار الجدل الخادع الذي يقف عند حد هذا الأمر الذي لا أهمية له في ذاته، أو عند معرفة لمن تكون هذه المدينة أو هذه الولاية لتقدير حقائق هذه الأمور الصحيحة. فإن الأمر أكبر اتساعاً وعمقاً من هذه الحدود.
ولقد سرني أن أعدت منذ أيام قراءة خطبة بريكليس في شعب أتينا في موضوع اقتراحات كان الإسبارطيون قد عرضوها عليه، وأحد هذه الاقتراحات خاص بقانون أتينا حظر على بواخر ميجارا دخول موانئ أتينا، ولابد أن أحداً سأل عما إذا كان يستأهل مثل هذا الأمر التافه الموت في سبيله، فكان جوابه:
(أكرر لكم أيها الأثينيون أن انزعوا هذا الوهم بأنكم قد تدخلون الحرب في سبيل أمر تافه، فإن تفاهة الأمر الذي نحن بصدده لا تقل عن امتحان يقينكم، فلو تخليتم عن هذه النقطة، فسيسألونكم فوراً أن تتخلوا عن غيرها، لأنكم قد خفتم.
وسواء أكان المطلوب جليلاً أم لا فإنه إذا سعى شخص إلى نيله من جاره بالقوة أو بالتهديد
بالقوة لا بالاتفاق الودي، فإن الأمر في الواقع يكون هل سنصبح أحراراً أم عبيداً)
وأقول لكم بالمثل: (لنعمل على منوال يفهم منه مواطنونا والشعبان الإيطالي والألماني أننا لن ندخل الحرب مطلقاً من أجل أمر تافه ولكن يجب أن نكون مستعدين إلى أقصى درجة لقبول امتحان يقيننا، ولمقاومة التهديد والقوة وإنقاذ هذه القيم الأخلاقية التي تكوّن ثروة مدنيتنا والتي تعرف باسم التسامح والحرية والعدل)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
اختلفت الآراء في هذه المؤامرة الجركسية من حيث تدبيرها ومن هذه الآراء ما يذكره مستر بلنت في كتابه حيث يعزوها إلى الخديو إسماعيل، الذي وكل بها رجلاً عرف بعداوته القاسية للحركة الوطنية ووجوهها يدعى راتب باشا. وكان إسماعيل يطمع أن يصل بهذه المؤامرة إلى العودة إلى عرشه للقضاء على القلاقل والفتن المزعومة التي عجز توفيق عن القضاء عليها كل العجز؛ وكان يمني نفسه بأن توافق إنجلترا على ذلك فتقنع تركيا به أو تجبرها عليه
ويؤكد مستر بلنت هذا الرأي قائلاً إنه عرفه من جملة مصادر منها إبراهيم بك المويلحي سكرتير إسماعيل؛ ولقد أيد الشيخ محمد عبده هذا الرأي بما جاء في خطابه إلى بلنت عن هذه المؤامرة قال: (هذا، وبخصوص المؤامرة الجركسية لاغتيال عرابي أخبركم أنها ليست بذات خطر فإن الخديو إسماعيل قد مضت عليه مدة طويلة وهو يضع الألغام لكي يدمر حكومتنا وهو يعتقد أن هذا العمل يرجعه إلى مصر)
ولقد بدأت المؤامرة بتذمر الضباط الجراكسة في الجيش مما اتخذه وزير الحربية الجديد أحمد عرابي باشا من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها، ولكن لأنهم ليسوا مصريين. . .
والذي يقف على أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة في تعكير كل جو ترى مصلحتها في تعكيره لا يستبعد أن يكون للإنجليز الذين كانوا يقيمون في مصر يومئذ أثر كبير في الإيحاء إلى هؤلاء الجراكسة بهذه الآراء لكي تشيع فيهم الفتنة ثم تجاوزهم إلى المصريين فلا تصيب الذين ظلموا خاصة
ومما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد في صحة هذا الذي نقول فضلاً عما نشير إليه من سوابق
السياسة الإنجليزية ما رمى به الوزارة الوطنية الإنجليز على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر من التهم وبخاصة ما ذكروه من الإفك حول الجيش وسيطرته على كل شيء
والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت الحكومة السالفة عليها، فإن تلك القوانين تنص على وجوب إحالة المرضى والذين بلغوا سناً معينة على الاستيداع. ولقد دافعت الوزارة عن عملها بهذا ولكن الخراصين المناوئين لم يحملوا هذا العمل إلا على الكيد والانتقام. . .
وإذا نحن جارينا هؤلاء الكائدين لمصر وحركتها فيما زعموه من أن الوزارة متهمة فلا تصدق فيما تقول دفاعاً عن عملها، فإن فيما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت في خطابه السالف ذكره لأقوى دليل على براءة عرابي والوزارة السامية مما اتهمت به، وذلك لأن الإمام رحمه الله كان رجل صدق وفطنة فلا يقول إلا ما يعتقده عن تحر وتمحيص قال:(أما عن ترقية الموظفين التي تلغط فيها الصحف الأوربية فاسمحوا لي بأن أوضح الحقائق فأقول: أولاً إن هذه الترقيات لم تعمل بناء على أمر عرابي باشا وحده، ولم تكن بمثابة الرشوة للضباط لاكتساب عطفهم نحو عرابي. كلا فالواقع أن هذه الترقيات عملت بناء على القانون الحربي الجديد الذي يأمر بإحالة الضباط الذين يبلغون سناً معينة أو يمرضون ويصابون بعاهة على المعاش؛ وقد نفذ هذا القانون في عهد شريف باشا، وأحيل على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط ثم أرسل ستة وتسعون إلى حدود الحبشة وزيلع وأماكن أخرى، بينما أخرج من الجيش نحو مائة ضابط توظفوا في الوظائف المدنية. فعدد جميع هؤلاء أربعة وخمسون وسبعمائة ضابط، فكان إذا من الطبيعي أن تحصل ترقيات لملء الوظائف الخالية. ولا يزال في الجيش خمسون وظيفة قد حفظت لخريجي المدرسة الحربية)
هذا ما ذكره الشيخ محمد عبده، ومنه يتبين الحق في هذه المسألة. على أننا لو فرضنا أن عرابياً قد آثر المصريين بالترقيات وتخطي بذلك الجراكسة في الجيش، فلن يكون فيما نرى حتى في هذا العمل مخطئاً، فحسب هؤلاء الجراكسة ما نالوه من حظوة طوال العهود السابقة وبخاصة في عهد رفقي، وذلك على ما كانوا يضمرونه من حقد وكراهة لمصر والمصريين، وحسب المصريين وهم أبناء البلاد الذين تجبى منهم الضرائب ما ذاقوا من
هوان ومذلة عل يد هؤلاء السادة الذين استنزفوا دماءهم، واتخذوا منهم عبيداً وإماء.
وماذا كان ينتظر من عرابي غير أن يطبق القانون وهذا أقل ما يفعله رجل هو زعيم ثورة كان هذا القانون ثمرة من ثمارها؟ ماذا كان ينتظر من ذلك الذي ظل طول عمره ناقماً على الجراكسة في الجيش، فلم يكف عن الشغب عليهم وهو لم يزل بعد جاويشاً لا حول له ولا قوة، ولم ين عن مقاومتهم ومصاولتهم في كل خطوة خطاها في سلك الجيش حتى انتهت إليه زعامته؟
أجل، ماذا كان ينتظر من ذلك الرجل، وما كان حقده على هؤلاء في يوم ما صادراً عن أنانية أو عن صغار، وإنما كان مبعثه ما يحس في أعماق نفسه من حماسة وطنية، وغيرة قومية هما في مقدمة ما يتصف به ذوو الكرامة والعزة من الرجال.
ومهما يكن من الأمر فما كان عمل عرابي في أي صورة له مما يقابل بالقتل! ولا كان تقديم المتآمرين إلى المحاكمة مما يستأهل ذلك السباب الذي راحت تنبح به جوقات الاستعمار؛ وهل نسى هؤلاء أن عرابياً وصاحبيه قد ألقي عليهم القبض من قبل لمجرد أنهم تقدموا ليرفعوا شكواهم إلى أول الأمر مما كانوا يحسونه من إجحاف بحقوقهم؟ وكيف لا يستحي دعاة الاستعمار أن يلوموا ذلك الرجل بالأمس ويتهموه بالفوضى لأنه شكا أمره إلى رؤسائه حتى إذا ألقي عليه القبض عدوا ذلك من الحكومة عين الصواب ثم يعودون اليوم فينددون به ويستصرخ عليه بعضهم بعضاً لأنه يقدم إلى المحاكمة فريقاً يتآمرون على قتله؟!
عول المتذمرون من الضباط على قتل عرابي وأصحابه من كبار رجال الحركة الوطنية، وقد عمل الدساسون من عصابة راتب على دفعهم في هذا السبيل الوعرة وزينوا لهم الفعلة وهونوا شأنها في قلوبهم، ولكن ضابطاً جركسياً يدعى راشد أنور أفندي فوت على المتآمرين قصدهم إذ كان قد خالفهم لأمر ما فبادر إلى عرابي وأفضى إليه بما يعلم. . .
وفي اليوم الثاني عشر من أبريل عام 1882 قبض على تسعة عشر ضابطاً وسيقوا إلى المجلس العسكري، وبعد ذلك بعشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين، وكان من بينهم عثمان رفقي باشا نفسه؛ وقضى المجلس بإدانة أربعين رجلاً منهم رفقي هذا فحكم بتجريدهم جميعاً من ألقابهم ونفيهم إلى أعالي النيل الأبيض في ربوع السودان
واتت الفرصة كلفن وماليت وهيهات أن تواتي الإنجليز فرصة فيضيعوها؛ لذلك ما كان
أسرعهم إلى استغلال الحادث فبدءوا أولاً يذكرون التعصب الأعمى ثم انتقلوا إلى الفوضى الحكومية واعتبروا ترقية الوطنيين مظهراً من مظاهر الرشوة التي أريد بها التأثير في رجال الجيش كي يكونوا على استعداد عند أول صيحة؛ ثم رأوا في محاكمة الجراكسة مظهراً من مظاهر الظلم والاستبداد الغاشم قائلين في منطق عجيب إن المؤامرة وهمية لم توجد إلا في رأس عرابي، وإن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الجراكسة بأية وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير عرابي، لذلك جاء حكمها في منتهى القسوة بحيث لا يقل عن الإعدام. ولم يكفهم ذلك فبلغ من جرأتهم وإيغالهم في القحة أن ادعوا أن عرابياً كان يذهب إلى السجن فيعذب هؤلاء الجراكسة أيام المحاكمة ويشفي غليل نفسه بمنظر ذلتهم وخضوعهم!
ولقد جعل المستعمرون هذه المحاكمة من أكبر سوءات ذلك العهد ومن كبائر خطيئات عرابي؛ وحذا المؤرخون من الإنجليز حذو الساسة في موقفهم من هذه المسألة، ومن هؤلاء كرومر، وهو رجل كان بحكم صلته برجال ذلك العهد جميعاً يعلم حقيقة الأمر، ومع ذلك طاوعه ضميره في أن يقول في كتابه:(لم يظهر دليل جدير بالتصديق ولا ظل دليل على أن تهمة المؤامرة كانت تهمة حقيقية؛ وكان حكم المحكمة العسكرية وثيقة وحشية تحمل طابع المظاهر السياسية أكثر مما تحمل طابع الحكم القضائي؛ وكان عرابي كثير الظن شأنه في ذلك شأن كل جاهل من الرجال، ولم تعش المؤامرة على قتله إلا في خياله هو فحسب).
وأخذ فريق من المصريين هذا الكلام كما أرسل على عواهنه وشايعوا الإنجليز وا أسفاه في رأيهم هذا في عرابي كما شايعوهم في غير هذا من الآراء، الأمر الذي يؤلمنا أشد الألم! فليس يعنينا ما يقول وخصوم الوطن وخصوم عرابي، ولكننا نضيق كل الضيق أن تجوز الأباطيل على المصريين في رجل منهم جدير بأن يفتخروا كل الفخر أن كان ينتمي إليهم، ومن هنا ضاع تاريخ عرابي وأنكره بنو قومه، فأضافوا إلى عيب خضوعهم للدخيل فضيحة مشايعته فيما يسبهم به من شخص رجل من رجالاتهم.
ويجدر بنا أن نضع تحت عيني القارئ ما كتبه الشيخ محمد عبده تعليقاً على المؤامرة ليقارن بين كلامه وكلام كرومر. قال في كتابه إلى بلنت: (وكانت الوزارة تعرف منذ زمن
شيئاً عن هذه الحركات. فمنذ مجيء راتب باشا إلى مصر كان محمود سامي رئيس الوزراء الآن - وزيراً للحربية - فطلب من شريف باشا أن ينفيه إلى خارج القطر. ولكن شريف على الرغم من تحذير محمود سامي رفض أن يأمر بنفيه، وسبب ذلك أن راتباً تزوج ابنة شريف باشا، والبعض يظن أن الاثنين متواطئان على رجوع إسماعيل). ثم قال:(وقد أحدثت هذه الحادثة قليلاً من التهيج بين العامة. والجميع يعرفون أن حياة عرابي مثل حياة أي إنسان آخر، وليس بين الناس مهما كان عظيماً يستطيع أن يجذب إليه قلوب الجميع دون أن يكون بينهم من يريده بسوء، ولكننا جميعاً نضحك إذا قيل لنا إن إنجلترا على وشك الفوضى لأن أحد المجانين قد حاول قتل الملكة). . .
وليت هؤلاء الكاذبين المغرضين قد اقتصر أمرهم على الكذب والاتهام ولم يخطوا بعد ذلك تلك الخطوة النكراء التي أكدت القطيعة بين الخديو والوزراء وعجلت الكارثة للبلاد! وما كانت ادعاءاتهم إلا مقدمة بدءوا بها ما كانوا ينتوونه من المكر السيئ. يقول في ذلك مستر بلنت: (وفي أثناء ذلك دخلت المسألة المصرية في طور خطير وذلك بسبب المؤامرة الجركسية التي وصلت أخبارها إلى لندن في الأسبوع الثالث من شهر أبريل، ولم أعن العناية الكبيرة بهذه المسألة عند أول ظهور أخبارها معتقداً بأنها إحدى المفتريات التي تنشر عن مصر، ولكن الأحوال أثبتت أنها خطيرة تستدعي الالتفات، ولم تكن خطورتها متوقفة على حدوثها من حيث هي بل من حيث إنها كانت فرصة لحكومتنا تترقبها لكي توقع الخلاف بين الخديو ووزرائه، وكان ماليت قد خضع تمام الخضوع لكلفن في هذا الوقت وصار ينتصح بنصحه ويسير على هواه)
عرض قرار المحكمة العسكرية على الخديو فأسقط في يده أيوافق على هذا الحكم فيظهر أمام الإنجليز أنه يظاهر وزراءه فيخسر الذين يظاهرونه هو، أم يرفض التصديق عليه فيرضى الإنجليز ويقضى على كل أمل في إرضاء عواطف الوطنيين؟
وكان ماليت قد أشار عليه برفض هذا الحكم الذي ينطوي على القسوة والظلم؛ وللقارئ أن يقدر مبلغ ما في هذا التدخل من تطفل وقحة! ما شأن الإنجليز وحكماً كهذا مهما كان ظالماً كما يزعمون؟ وإنهم ليعلمون أن جلسات المحاكم العسكرية كانت سرية حتى في عهد المراقبة، وأن الخديو لا يملك رفض أحكامها، وكل ما له في هذا الصدد هو تخفيف تلك
الأحكام بعض الشيء بعد التصديق عليها.
حار توفيق واشتدت حيرته ورأى الأمر جد خطير؛ وأي شيء أخطر من أن يتحدى وزراءه في غير حق وفي موقف كهذا تحيط فيه بهم الدسائس من كل جانب وتعترض طريقهم الصعاب التي يتطلب تذليلها جهوداً متواصلة. لذلك وقف الخديو أول الأمر موقفاً مبهماً، وسرعان ما شاعت الشائعات عنه من جهة وعن الوزارة من الجهة الأخرى، وكلما مر يوم ازدادت ريبة الوطنيين وتعاظم غيظهم وغضبهم، ووجدت الدسائس الجو الصالح لنجاحها فنشطت نشاطاً كبيراً، ولازم ماليت الخديو يوحي إليه ويوسوس له
(يتبع)
الخفيف
1 - عيناك
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
عيناكِ حَوَّلتا حياتي جدولاً
…
تهفو إليه حمائمُ الوديانِ
تتمايل الأزهارُ عند ضفافهِ
…
متجددات العطر والألوانِ
وتمرُّ بي النسماتُ تلثم صفحتي
…
في مثل هَمْس الوحي في الوجدانِ
تحنو عليّ الناشراتُ غصونَها
…
فأُقَبِّلُ الأغصانَ وهي دَوانِ
عيناكِ حَوَّلتا حياتي جدولاً
…
يجري مع الأيام دون تَوانِ
أشدو وأشدو والحمائمُ هُتَّفٌ
…
تتناقلُ المنشودَ من ألحاني
صوَرُ الوجودِ جَعلتِها لي لوحةً
…
فإليكِ ترجعُ تُحفةُ الفنّانِ
2 - شفتاك
شفتاكِ حَوَّلتا حياتي نغمةً
…
تسري مع النسماتِ للآذانِ
الليلُ يسمعُها فينقل لَحْنَها
…
للفجرِ بين شواردِ الألحانِ
فأرى حياتي فوق أحلام النُّهَى
…
خَلَدَتْ على رغم الزمانِ الفاني
ومضتْ تجرِّر ثوبها في رقصة
…
منظومةٍ، وزمانُها مُتَوانِ
شفتاكِ قيثارُ الخلودِ، فَوقِّعي
…
لحْنَ الخلودِ، وجدّدي أوزاني
إني خلصتُ من الشجونِ برحمةٍ
…
أُلِهْمْتُها في ساعةِ الإيمانِ
طالت عليّ ضلالتي وتحيُّري
…
في عالمٍ آمالهُ إحزاني
حسن كامل الصيرفي
نبرات صوتك في المسرة
للأستاذ العوضي الوكيل
نبرات صوتك في المسرة جددت
…
لَهفي عليكِ وضاعفت أشجاني
تنسابُ في الأسماع وانيةَ الخُطى
…
فتشيعُ في نفسي وفي ألحاِني
طَرِبَ الحديدُ لها وهشَّ لوقعها
…
لو كان ذا حَرَك وذا وُجْدانِ
ولقد هممت بأن أُجاذبَه الهَوى
…
وأبثُّه غَزَلي وصفْوَ حناني
نبرات صوتِكِ؟ ما المزاهرُ كلها
…
ما رنّةٌ نَشْوَى من العيدانِ؟
ووهبتك الآمال ملَء خواطري
…
وعلى سناكِ حبستُ حرَّ بياني
وسهرت فيك وأنت هانئة الكرى
…
ومنحتُ حبك غابري وأواني!
وأريتُكِ الإيمان تنطق مُقلِتي
…
بدليله فسموتُ بالإيمانِ
وذَخرتُ في نفسي حديثَكِ كله
…
ووعيته في السر والإعلانِ
وخلقتُ فيكِ جلالةً أبدّيةً
…
تسمو على الأزمان والأكوانِ
هذا رداؤك من نسيج مشاعري
…
المهجتانِ عليه تَتَّفِقانِ
ما كان من حُسنٍ عليك فإنه
…
لي دون غيري من بني الإنسان
(الزقازيق)
العوضي الوكيل
صلاة في محراب النيل
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
أنت يا نيل يا سليل الفرادي
…
س كريم موفق في مسابكْ
ملء أوفاضك الجلال فمرحى
…
بالجلال المغيض من أنسابك
حرستك الأملاك في جنة الخل
…
د ورفّت على وضئ عبابك
وأمدّت عليك أجنحة خض
…
راً وأضفت ثيابها في رحابك
فتحدرت في الزمان وأفرع
…
ت على الشرق جنة من رضابك
بين أحضانك العراض وفي كف
…
يك تاريخه وتحت ثيابك!
مخرتك القرون تشمر عن سا
…
ق بعيد الخطى قوي السنابك
يتوثبن في الضفاف خفاقاً
…
ثم يركضن في ممر شعابك
عجب أنت صاعداً في مراقي
…
ك لعمري أو هابطاً في انصبابك
مجتلى قوة، ومسرح أفكا
…
رٍ، وموحى عجيبة كل ما بك
كم نبيل بمجد ماضيك مأخو
…
ذ، وكم ساجد على أعتابك
عفروا نضرة الجباه ببرا
…
قٍ سنيٍ من لؤلؤىِّ ترابك
سُجداً ذاهلين لا روعة التا
…
ج ولا زهو إمرة خلف بابك!
وصقيل في صفحة الماء فضفا
…
ض ندى منضر من إهابك
وحروف ريانة في اسمك (الني
…
ل) ونُعمى موفورة في جنابك
فكأن القلوب مما استمدت
…
منك سكرى رقاصة من شرابك
أيها النيل في القلوب سلام ال
…
خلد وقف على نضير شبابك
أنت في مسلك الدماء وفي الأن
…
فاس تجري مدوِّياً في انسيابك
إن نسبنا إليك في عزة الوا
…
ثق راضين وفرة عن نصابك
أو رفلنا في عدوتيك مدلي
…
ن على أمة بما في كتابك
أو عبدنا فيك الجلال فلما
…
نقض حق الذياد عن محرابك
أو نعمنا بك الزمان فلم نب
…
ل بلاء الجدود في صون غابك!
التيجاني يوسف بشير
رسالة الفن
دراسات في الفن
نحو دنيا الروح
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقول علماء التربية وعلماء النفس فيما يقولون من الحق: إنه يمكن التخفيف من حدة الغريزة الجنسية عند المراهقين بصرفهم إلى الفنون الجميلة. وهم لهذا يوصون المربين بأن يعلموا المراهقين الموسيقى والتمثيل والرسم والأدب. وقد استجاب لهم المربون فأنشئوا في المدارس الثانوية وبخاصة جمعيات الفنون الجميلة إلى جانب فرق الألعاب الرياضية التي سبق أن أثبت دعاتها أن من يمارسها من المراهقين يبذل فيها من نشاطه البدني ما يحتاج بعده إلى الراحة بعيداً عن التفكير في الاستجابة لهتاف الغريزة الجنسية.
فهل أثبت دعاة الفنون الجميلة من علماء التربية وعلماء النفس دليلاً على أن من يمارسها من المراهقين يبذل فيها شيئاً من نشاطه يحتاج بعده إلى الراحة بعيداً عن التفكير في الاستجابة لهتاف الغريزة الجنسية لتطمئن بهذا الدليل عقولنا. ولتؤمن بأن الذي يدعون إليه قائم على أساس من الحق يرتكز على صلة مؤكدة بين الفنون الجميلة والغريزة الجنسية، أو أنهم رأوا الفنانين أكثر الناس انصرافاً عن نزعات البدن فخطر لهم أن يتصيدوا المراهقين بالفنون يشغلونهم لبها عما تتلهف إليه أبدانهم الحارة الملتهبة. فهي إذن مؤامرة من الخداع والتضليل اتفق عليها علماء التربية وعلماء النفس، وجازت على من وقع في أيديهم من المراهقين أو جازت - في القليل - على بعضهم؟
ولكني إذ أقول هذا أرجو علماء التربية وعلماء النفس أن يمضوا في مؤامرتهم هذه إلى أبعد حد، وأن يأخذوا بها المراهقين وغير المراهقين من كل من تسوقه إليهم الحياة ليربوه. فليس أشرف من هذه المؤامرة شيء، وسيجيء قريباً أو بعيداً ذلك اليوم الذي توفق فيه أساليب العلم إلى كشف ما بين الغريزة الجنسية والفنون الجميلة من صلة حقيقية مؤكدة. ولست أريد بهذا الادعاء بأن العلم غائب عن هذه الصلة، ولكني أريد أن أقول: إنه لا يزال يحوم حولها، ولما يجرؤ على غزوها لأنها ميدان جديد عليه، ولأنه لما يستنبط الميزان
والمقياس، والأنبوبة والمخبر، والأملاح والأحماض التي يستطيع أن يحول بها الغريزة الجنسية إلى الغريزة الفنية، والغريزة الفنية إلى الغريزة الجنسية ليصدق بعد هذا عقله الثقيل المتشكك أن هناك وحدة تجمع بين الاثنين.
والى أن يصل العلم إلى استنباط هذه الأدوات التي لا يفهم شيئاً إلا بها يستطيع المتحررون من أغلاله وقيوده أن يضربوا في السماء بحثاً عن هذه الصلة، وأن يتركوه في معمله يتخبط بين الشك والخور لعله مهتد يوماً إلى تركيب (حقنة) من الشعر، أو (برشامة) من النغم! فليبق العلم في معمله، وليدع العلماء المراهقين إلى الفنون الجميلة، وليعللوا دعوتهم هذه بأن الفنون الجميلة تبعث في النفس الخيال، وتلهب فيها العاطفة، أو فليقولوا على العكس من هذا إن الخيال والعاطفة هما اللذان يبعثان في النفس الفنون الجميلة، أو فليقولوا ما شاءوا من أمثال هذا القول المخلخل الذي لم يضغطه الإيمان ولم تتماسك به الثقة.
لندع العلماء إذن يترددون ما طاب لهم التردد، ويتوجسون ما حلا لهم التوجس، ولنمض نحن مع أولئك المتحررين من الأغلال والقيود، ولنرهم كيف يدركون الصلة بين الغريزة الجنسية والفنون الجميلة.
وقد عودنا هؤلاء المتحررون المتطايرون أن يلتووا على عقولنا قبل أن يهدونا إلى ما يعلمون من الحق، كأنما يأبون إلا أن يعابثوا العقل وأن يذلوه قبل أن يقودوه إلى النور ويلهموه. ولكنهم على أي حال أحب إلى النفس وأرحم من الأنابيب والأملاح. . . فلنحتمل معابثتهم إذن ولنسألهم:
- كيف تجدون الصلة بين الغريزة الجنسية والفنون الجميلة؟
ولكنهم يسألوننا: وكيف تجدون الصلة بين الشحم والنبوة؟
- وهل هذا سؤال بالله عليكم؟ إننا لا نجد شيئاً.
- إن هناك أشياء. فلو أنكم عدتم إلى سير الأنبياء لوجدتموهم يكثرون من الصوم، ويخففون من الطعام. ولو أنكم عدتم إلى سيرة النبي الأكمل محمد لرأيتموه يصوم كلما اعتزم أمراً جللاً، وكلما هم بغزوة أو حرب. وإذا اعتبرتم (غاندي) الهندوكي التقي الخارق المعجب وليَّاً من أولياء الله كما نعتبره نحن فإنكم لابد معتبرون بحرصه على الصوم كلما احتاج إلى التجلد والتعزز في قيادة أنصاره ومقاومة خصومه. أفلا ترون في هذا كله صلة
بين الشحم والنبوة؟ أو بين الشحم والسمو الروحي على الأقل؟
- الآن رأينا، وهي كما تبدو على هذا النحو صلة عكسية.
- نعم. إنها صلة عكسية. فكلما غذى الإنسان بدنه شغله هذا عن غذاء روحه، وكلما جوع بدنه سهلت عليه تغذية روحه.
- إنكم إذاً تعدونه شهيداً ذلك الذي ينتحر جوعاً
- لا شهادة في إتلاف، وإنما الشهادة في التقويم. فإذا استلزم التقويم الموت فإنه إذاً تخريب ما بين المتساكنين: البدن والروح. عودوا إلى ما كنا فيه، وحدثونا عما يصحب انفجار الغريزة الجنسية عند المراهقين من شدة ميلهم إلى الإكثار من الطعام والإكثار من وجباته.
- إنها أجسام يزيد نزوعها إلى النمو فهي تحتاج إلى ما يعين على بنائها وما يسعف نموها
- لا. فإن أجسام المراهقين لتنمو وتفرع ولو لم تستزد من قوتها، فهذا النمو سيل من الحياة يتدفق من غدد ظلت تجمعه وتخزنه ما عاشت وواصلت العمل
- إذن فماذا تقولون؟
- الحياة ماضية في سبيلها. وسبيلها هو الأحياء أنفسهم، فهي تسلكهم، وقد تنقلت فيهم من ماضيهم حتى انتهت إلى حاضرهم، وهي منتقلة فيهم من حاضرهم إلى مستقبلهم. وهي في سيرها هذا تعطي أولئك الأحياء ثمن ما سمحوا بالمرور فيهم وتأخذ منهم ثمن ما عمرتهم. ويقول ناس مؤمنون بالعدل: إن ما تأخذه الحياة من مثقال ذرة لا تأخذه إلا بعد أن تكون أعطته مثقال ذرة
- هذا حسن. ولكن ما قصة الأخذ والعطاء عند المراهقين؟
- عند المراهقة تبدأ الحياة في الاشتداد بمطالبة المراهق بما أعطته. وهي إذ تطالبه تستمر تعطيه. وهو إذ يستشعر نفسه في هذا الموقف الجديد يقبل على الحياة إقبالاً جديداً فيه عنف وفيه جشع. فهو يستطعم الحياة مادتها ومعناها بنهم العائل المكلف بالنفقة يتكالب على موطن رزق. وفي سن المراهقة تصارح النفس الحياة بحقيقتها وتكشف لها القناع عن وجهها. وكل نفس تستجمع خصائصها ومقوماتها مما سبق أن أعطته الحياة إياها من طريق الوراثة، ومن طريق البيئة، ومن طريق التربية ومن سائر تلك الطرق التي تنفذ منها الحياة إلى الأحياء. عندئذ ترى الحياة مراهقاً مقوس الأنف يمد لها كفيه ويقول: هات؛ ومراهقاً
آخر مسحور العينين يمد لها شفتيه ويقول: هات؛ ومراهقين آخرين ما بين هذا وذاك يريدون مما يطلبه هذا ومما يطلبه ذاك. والحياة أمام هؤلاء جميعاً تعطي وتأخذ مثلما تعطي، مثقال ذرة بمثقال ذرة. وهي كما تكمن في هؤلاء الأحياء، تلبد في غيرهم من الأحياء المتجسدة، والأحياء المتجردة، وهي تعرض نفسها في مظاهرها المختلفة أما النفوس فلكل نفس منها ما تحب وما تشاء. فمن أخذ منها مادة لم يستطع أن يعطيها إلا مادة، ومن أخذ منها معنى أعطاها معنى، ومن أخذ منها معاً أعطاها منهما معاً. والمراهق قد تكوَّن مما أخذه من الحياة وهو ليس مادة فقط لأن الناس ليسوا مادة فقط فهم مادة وشيء آخر نقول عنه نحن إنه روح ويقول عنه ناس آخرون إنه نفس، ونحن وهم نقول إنه شيء متجرد عن المادة التي تتزيا بها الكهرباء في أزياء مختلفة. فلابد إذن أن يأخذ المراهق (كغيره) من مادة الحياة ومعناها ليعطيها مادة ومعنى، وأيهما أكثر الأخذ أكثر العطاء. ومن الناس من يقنعون في هذه السوق بالضروري اللازم لإقامة إحدى ناحيتيهم ويلحون في طلب مكملات الناحية الأخرى؛ ومنهم من يتوسطون فيطلبون من هذه مقدار ما يطلبون من تلك، وهذه الأرض تستطيع أن تمد الناس بحاجتهم من المادة وزيادة؛ وسماء المعاني تستطيع أن تهب الناس حاجتهم من المعاني وزيادة؛ والناس في التنازع على المادة يتخاصمون ويتعادون، بينما هم حين يتناهبون المعاني يزدادون تقارباً وتفاهماً وتحبباً وتعاطفاً وتوحداً. فكلما اهتمت البشرية بالناحية المادية أمعنت في التبعثر والتفوق والتشتت، وكلما توغلت في الناحية الروحية أمعنت في التماسك والانسجام. ونحن إذا رجعنا إلى تواريخ الأفكار والدعوات الروحية رأينا أخلصها روحاً أكثرها تعاوناً بين أنصارها، ولم نر الاختلاف يدب إلى هؤلاء الأنصار إلا حينما تنزلق إلى فكرتهم دواع مادية فتلوثها. فالواجب إذن على البشرية إذا كانت تريد أن تستخدم عقلها في الخير أن تقنع من المادة بما يقوم الحياة البدنية فقط لا أكثر ولا أقل، وأن تنقذف بالوافر الباقي من نشاطها إلى حيث يمكنها أن تتوحد. وهذا هو ما دعا الأنبياء إليه، وحاشا أن يكونوا مجانين، وإنما هم أنبياء وقد أرشدوا البشرية إلى طريق الخير ومضوا، فاتبعهم أولياء أقنعت الدعوة إحساسهم وعقلهم، وانساق في طريقهم فنانون يتعشقون في هذا الكون جماله، ويطلبون كماله وكمال أنفسهم معه.
- ولكن البشرية إذا اتبعتكم في هذا عادت كما كان يعيش أهل الكهوف، أو كما يعيش أهل الغابات
- وهل تحسبون الحال اختلفت؟ الكهوف باقية ولكنها اليوم عمارات من ناطحات السحاب. وفي الغابات يصيد الناس الحيوان ليأكلوه، وفي هذه العمارات يصيد الناس بعضهم بعضاً ويأكل بعضهم بعضاً، وقد عافت البشرية أن تأكل لحمها فأكلت في العمارات ضميرها وشرفها وروحها. إن أهل الكهوف كانوا أقرب منا إلى السماء، وإن أهل الغابات لا يزالون أقرب من أهل العمارات إليها.
- ولكن هذا العلم الذي علمناه، وهذا العقل الذي نما فينا. . . أنلقيهما في الفضاء لنعود إلى حياة العراء؟
- لم يقل أحد هذا. وإنما نستطيع أن نجند علومنا وعقولنا لتنظيم أرواحنا لا للترفيه عن أجسادنا، وسنرى عندئذ أن أكثر ما نعمله لغو لا يغذي الروح، وسنرى عقولنا قد اسودت من كثرة ما كذبت علينا وأضلتنا طريقنا
- وعندئذ ماذا نصنع؟
- عندئذ ينتعش إحساسنا. عندئذ يبدو لنا الكون في آلاف الصور وكلها محببة. وقد يعيننا صوم الأنبياء على تذوق الحب واستساغته، وقد يصرفنا هذا العشق الشفاف عن تهافت الأبدان وتجاذبها. . .
- وبعد ذلك تنتهك قوى البشرية فتتخاذل وتهزل ويقل نسلها وتموت
- من أين جئتم بهذا؟ سيأكل الناس من الأرض ما يعيشون به، والطبيعة لا تريد منهم أكثر من أن تعيش أبدانهم. فإذا أخذوا منها أكثر ما يلزم لها خالفوا قانونها وظلموها وظلموا أنفسهم، وسينجب الناس بقدر ما يحفظون نوعهم وبقدر ما يسمح للحياة المادية أن تسلك أبدانهم إلى مرحلتها الجديدة. وليست الحياة تريد أكثر من هذا. والحياة بعد ذلك تطلب الإنجاب الروحي الذي يؤديه الإحساس. الحياة تطلب الفن طلباً طبيعياً واجب الأداء؛ فأين هو في هذه الحضارة!
- إن الحياة هي التي حبست عرائسها الروحية عن البشر في هذا العصر!
- بل هن معروضات أمام الأرواح النابهة، ولكن ما أقل هذه الأرواح النابهة الآن؟ لقد
استغلق الناس على أنفسهم، ختمهم العلم والعقل بخاتم أصفر من الذهب.
- ولكن هاهو ذا العلم يدعو المراهقين إلى الفنون الجميلة ليصرفهم عن شهوات أبدانهم.
- أو لا يملك إلا هذه الدعوة؟ إن الفنون الجميلة لها الذين يحبونها لا ينصرفون عنها. أما الذين يزدرونها فلا يقبلون عليها إقبالهم على نوع من العبث.
- فما الذي تطلبونه من العلم إذن؟ إنه لا يستطيع غير هذا.
- نريد أن يزف المراهقين وغيرهم إلى العرائس من المعاني والفكر، فإذا عشقوها عطروا لها أرواحهم؛ فإذا ساكنوها أعقبوا فيها فنوناً تسلكها الحياة الماضية إلى الأمام في سبيلها.
- وكيف يحدث هذا؟
- إن هذه العرائس تياهة مدللة لا تلين إلا أمام حس يرهف نفسه لها، فهل يستطيع العلم أن يرهف إحساس الناس؟
- لا. ولذلك يعمد في هذا إلى الفن مستعيناً به.
- ولكن استعراض الفن لا يخلق فناً، وإنما يخلق الفن الإحساس بالحياة نفسها، وما دمنا ننزع إلى تحويل إنتاج البشرية بقدر ما نستطيع من الإنتاج البدني إلى الإنتاج الروحي فلابد أن نعنى بخلق الفنون وإنتاجها لا دراستها واستعراضها، وهذه العناية هي التي تنتهي مع الدأب إلى دنيا الروح.
- وهل يمكن أن نقيم دنيا من الروح؟
- نعم كما قامت دنيا من كهرباء موجبة وسالبة!
عزيز أحمد فهمي
محمود صبح
من الوجهة الفنية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
قد يحمد الفنان إذا اعتز بنتاجه وسما به عن الابتذال والعرض والمقارنة؛ وقد يحمد إذا عرف لنفسه قدرها لأنه أدرى الناس بعبقريته وقوته، وأشدهم إيماناً بإلهامه وتوفيقه
ولكنه لا يحمد ولا يثنى عليه إذا تدرج اعتزازه وإيمانه بقدرته إلى الأنانية التي تحمله على تقديس نفسه وإنكار الجميع. . . الجميع دون استثناء. . .!
ومحمود صبح موسيقي مرهوب موهوب يلم بفنه إلماماً تاماً ويجيد العزف على العود والناي والبيان، وله لون خاص ينفرد به ويعجب جمهرة كبيرة. . . ولكنه يعتقد بل يؤمن إيماناً عميقاً أنه مبعوث العناية الإلهية لإنهاض الرسالة الموسيقية. فعلى كل من ينتمي إليها بوشيجة أن يؤمن به إيمان العجائز فلا نقاش ولا جدال (لأن الذي يستطيع أن يناقشه أو يجادله لم يخلق بعد، ولأن الله سبحانه لا يخلق رسولين في عصر واحد وإلا فسدت الرسالة). هكذا يقول الرسول (محمود صبح) الذي يذكرني (بروبسبيير) الذي آمن بعصمته فكان يعدم كل من يظن فيه المعارضة لآرائه ومبادئه لا لشيء إلا لأنه كافر بالعصمة والفضيلة!
قامة ربعة وإن كانت تميل إلى القصر، تشبه (شوال) الملح لوناً وشكلاً وثقلاً، وإن كانت تمتاز بظرف عجيب. قامة وإن حرمت نور البصر، فقد وهبت قوة هرقلية تستطيع (بفضل الله) أن تجندل من تشاء بضربة فنية قاضية. قامة تجيد كافة الألعاب الرياضية من ملاكمة ومصارعة وحمل أثقال. . .
رأس أودع الله فيه كنزاً غنياً من الفن الأصيل المكين المقتدر المبتكر. حاجبان كثيفان لو وزع شعرهما على عشرة رؤوس (صلعاء) لأصبحت غنية بالشعر القوي. أنف كأنف الصقر يهبط في هدوء وتقوس حتى يستقر عل شكل (هلب كبير). . .!!
وجه ممتلئ طالما زينته العمامة حتى ثار عليها وأبى إلا أن (يتطربش) لتكمل أناقته ورشاقته. . . فم وإن كان يذكر الله كثيراً ويجيد تلاوة كلامه. . . إلا أنه لا يحب أن يغضب الشيطان فيهجر أوامره وإغراءه بل يندفع في سبيل ترضيته فيصف (إخوانه)
وزملاءه بوصف (مزخرف) مصنوع في معامل (بولاق) وحوش بردق. . .
أذنان حادتان صارمتان لا تعترفان إلا بنتاج صاحبهما، أما غيره. . . ف (صوء. . . صوء أعوذ بالله، يا ستار العيوب، إيه ده؟؟)
يدان قديرتان ساحرتان إذا صفا صاحبهما أسرتا وسحرتا، وخلقتا قوة وقدرة وفناً أصيلاً نبيلاً. يدان تسجد لهما الموسيقى العربية (البحتة)، ويخضع لهما الفن العالي الذي لا يخضع إلا للقليلين.
صوت هائل كامل شهد له الجميع بالقدرة والقوة والعذوبة وقوة التأثير. أروع من يؤدى (الباص) وأبدع من يحسن (البريتون)، وأرفع من يجيد (التيتور). يتكون من ديوانين ونصف تقريباً لا عيب فيه إلا خلوه من العيب. . . صوت لو استطاعت محطة الإذاعة أن تهيئ له الجلسة الفنية المضبوطة أمام (الميكروفون) لكان آية، ولخلا من تلك العواصف التي تكاد تصم الآذان.
صوت يقلد القطار أدق تقليد، ويحاكي صوت (القلة) أنم محاكاة. ومن ظرف محمود أنه إذا صفا أسمعك بفمه صوت العجين عندما (يلت) حتى لتخاله امرأة منهمكة في (ماجورها). . . أقدر من يلحن الموشحات، ويكفيه فخراً وسمواً وخلوداً أن أعظم مغن بالغاً ما بلغ من القوة والقدرة لا يستطيع أن يحاكيه بواحد من موشحاته لتشعبها، وكثرة أنغامها، ووفرة حركاتها، ودقة تركيبها، وإن حاول فالفشل له بالمرصاد. . .!
فنان موهوب مبتكر بصير بما يصنع، خبير بفنه لا يحاكى ولا يقلد بل له لونه الخاص المعروف لأنه كما قلنا قبلاً لا يؤمن إلا برسالته. لا يعرف شيئاً في القواعد الغربية مع أن علم (التحسيس) قد تقدم وأصبح يدرس في كل مكان
يجيد العزف على العود، واللعب على البيان والنفخ في الناي. إذا سألته عن (فلان) المشهور قال:(طز) وعن فلانة المعروفة قال: (طزين يا سيدي).
الويل لك إذا سمعته وأعلنت سرورك وتقديرك بقولك (يا سلام يا شيخ محمود! الله يزيدك) لأنه يلتفت إليك متهكماً متحفزاً صارخاً (هو لسة يا أخينا حيزيدني. . . حيخليني إيه أكثر من كدة؟) والويل لك أكثر وأكثر إذا أخذتك النشوة فنسيت أن تحييه لأنه يسكت فجأة ويخاطبك:
- حضرتك مش سامعني يا فندي؟
- سامع يا أستاذ دي حاجة عظيمة جداً
- أمال ساكت ليه؟ ساكت ليه يا فندي؟ ودانك بتوجعك؟ والله مانا قايل حاجة إلا لو خرجت من هنا. أتفضل يا فندي وخدها وهيّ حلوة. . .!
كان في الحسينية من خمس عشرة سنة يعزف بعوده أمام حشد من مريديه ومحبيه فلما أخذته النشوة رمى (بعوده) وصرخ متمدداً قائلاً:
- أغيثوني. . . أدركوني. . .!
- مالك يا مولانا. . . مالك يا مولانا. .؟
- أغيثوني. . . أدركوني. . . أمسكوني جيداً. . . سِدُّوا (وداني). . . سِدُّوا (وداني). . .!
هرع إليه هذا الجمع الحاشد وكله لهفة وإشفاق فإذا بالشيخ محمود يقول:
الجن عاوزة تخطفني، رئيسهم كلمني في (أذني) وقال: احنا عاوزينك يا محمود عشان بنتي حتتجوز. . . امسكوني ليخطفونني!
عصبي إلى درجة بعيدة. لا يطيق النقد. ومن ظريف أمره أيام كان يذيع في المحطات الأهلية أنه كان يجلس في محطة (فؤاد) قائلاً لهؤلاء الذين يكتبون عنه أو يتكلمون بما لا يحب:
يا ليل، يا ليل، سامع (يا فلان) يا ابن. . . شايف الشغل ازاي. . . يا ليل، يا عيني يا ليل، (فلان) نحن محمود صبح، اتائب يا بن الـ يا ليل يا عيني، لاح بدر التم أمان. أمان دوس يا لاللي. . . يا بتوع (. . .) يا أولاد. . . اتعلموا وخلوا عبد الوهاب بتاعكم يتعلم!؟
وبعد فمحمود صبح شخصية عظيمة ظريفة انحدرت من بيت عريق؛ ومن أصل طيب. لا يعتمد في معيشته على فنه بقدر ما يعتمد على إيراده الخاص الذي يكفل له عيشه رغداً، ولولا مغالاته بقدره واعتداده بنفسه لكان عظيماً نافعاً
محمد السيد المويلحي
رسالة العلم
نهاية الكون
تعذر الامتداد في الظواهر وصعوبة الحكم على مستقبل الزمن
للأستاذ محمد محمود غالي
اطلعت في العدد الأخير من الرسالة على ما وجهه إليّ الأستاذ نصيف المنقبادي وعل أسئلته الخاصة بتطبيق نظرية بولتزمان في الحكم على مستقبل الكون، وقد تتبعت مقالاته القيمة التي نشرها هذا العام في الرسالة، وتتبعت منذ أكثر من عام مقالاته على صفحات الأهرام التي ناقش فيها الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي. ولو وصفنا الأستاذ فيمن نعرفهم من الكتاب المصريين بأنه من الذين عرفوا بالجرأة في كتاباتهم لما ابتعدنا عن الصواب كثيراً، إذ لاشك في أنه من هؤلاء المطبوعين على حرية الفكر، ولا خلاف في أن لمثل كتاباته فائدة كبرى يجنيها النشء ويفيد منها المطلعون
للموضوع الذي يسألني عنه مساس بفلسفة كل علم إذ يجب التفريق بين ما هو جائر وبين ما هو محتوم - قلنا إن التفسير البولتزماني للمبدأ الثاني للترموديناميكا يدلنا على نوع من الموت الحراري للكون، ولكن لم نقل إلى أي حد يجوز لما الامتداد والتوغل في قبول هذه النتائج في مستقبل الأحقاب والعصور
يحدثني عن ملايين الملايين من السنين التي خلت ويتساءل لماذا يحدث الاقتراب من السكون المرتقب وفق بولتزمان، وقد مضى على الخليقة ملايين ملايين السنين. ومن ذا الذي قال إن هذه الملايين الخالية كافية للوصول بالكون إلى الحالة التي يدل عليها تفكير بولتزمان والتي تحتمها الزيادة الحتمية والمستمرة (للأنتروبي)؟
وهب أننا وصلنا إلى نوع من السكون النسبي فمن ذا الذي قال إن هذه هي أول مرة يصل فيها الكون إلى السكون والموت؟ ومن ذا الذي يَقْسِرُ إفهامنا على أن الحركة لا تُستأنف من جديد بعوامل لا نعرفها تَمُتُّ إلى الأصل في معرفة الخليقة ووجود الكون؟
هنا نقطة حساسة أعتقد أن آرائنا تفترق عندها، فإنك تميل إلى تفسير كل شيء بعلمنا الميكانيكي ومعرفتنا المحدودة لظواهر الطبيعة، وأميل من ناحيتي إلى اعتبار ما نعرفه لا
شيء بجانب المجهول. ومع ذلك فإن جُلَّ ما نعرفه من الظواهر الطبيعية ظواهر دورية، ألا يكون الكون في مجموعه، الكون المحدود بحيز ريمان أو حيز لوباتشفسكي أو ما يشاء العلماء من الحيزات، ظاهرة دورية وأننا الآن في مرحلة من مراحل الانتقال والدوران؟ بمعنى أنه ليس ثمة بداية للكون وليس ثمة نهاية له
في نشرة للعالم (سان) اطلعت عليها حديثاً في محاضر الجمعية الملكية الإنجليزية يناقش فيها هذا الرياضي الطبيعي بعض النظريات الخاصة بمبدأ الكون وما وصل إليه الحيز من تمدد وما يحدث الآن من ابتعاد كل العوالم بعضها عن بعض - هذه النشرات وأمثالها التي يناقش العلماء فيها (كون إنشتاين) أو (كون دي ستير) وهما كونان معروفان لدى العلماء توحي إلينا بهذه الفكرة الدورية للكون
لم يقل (سان) بتغيير قوانيننا الطبيعية في مستقبل الزمن، ولكن كل شيء يجوز أن يتغير ما دمنا نعتبر أحقاباً طويلة من الزمن مثل الأحقاب التي نتكلم عنها
على أن الزمن نفسه يحمل في طياته عدم التعيين عندما نتوغل فيه إلى حد كبير. ثمة فارق كبير في معرفة فترات الزمن التي اعتدناها ومعرفة الأحقاب الطويلة التي لا نجزم بمعرفتها أو تحديدها؛ فإذا تحدثنا عن عمر الإنسان أو عن الزمن الذي مر من الثورة الفرنسية حتى يومنا هذا، أو عن عمر أحد الأفيال الأفريقية الكبيرة، وبينها ما عاش بلا شك قبل الثورة الفرنسية، فإنني أفهم لذلك معناه، وأفهم نوع الدقة المطلوبة فيه، حتى إذا تكلمنا عن الزمن الذي مر منذ أن كتب هومر إلياذته المشهورة أو منذ أن بنى خوفو هرمه أو نحت الأقدمون (أبو الهول) فإن هذا، وذاك ممكن أن يكون أمره معروفاً، أما إذا أردنا أن نتكلم عن عمر الرجل الأول أو الزمن الذي يمر لتدوير المجرة دورة كاملة أو الزمن الذي خلا منذ ظهور الحياة على الأرض فإن شيئاً من الاحتمال يدخل في تقديرنا لهذه العصور الطويلة. وما بالنا لو أردنا بعد ذلك أن نتكلم عن عمر عنصر التوريوم أو عمر النجوم أو العوالم أو التوغل حتى مبدأ الخليقة، فإننا لا نستطيع الجزم بمقدار هذه المدد الطويلة، ولا نستطيع أن نستوعب معنى الزمن إذا نظرنا إليها.
هذا من ناحية الأحقاب الطويلة، وإننا نجد نفس الصعوبة إذا نظرنا إلى الطرف الآخر واعتبرنا الفترات القصيرة. فإذا تحدثنا عن فترة الزمن التي تقدر بثانية أو فترة تردد
الموجات اللاسلكية الطويلة منها والقصيرة أو فترة حياة (الراديوم فإن حديثنا عنها يختلف عن فترة تردد الموجات المصاحبة للبروتون في ميكانيكية (دي بروي) الموجية أو ربما عن فترات أقصر من ذلك يحدثنا عنها العلماء في مستقبل العمر.
ومع ذلك فإن هناك عاملاً آخر يتصل بسر الوجود وما يحدث فيه من تطورات. وكنت لا أرغب أن أتعرض بالبحث عنه لولا أن أسئلة الأستاذ تحتم عليّ اللجوء إلى هذا الطريق. ولعلي أُوَفَّق في أن أشرح هذا العامل الخارجي، وأن أكشف عن رأيي في المثال الآتي:
إن من الصعب أن نضع على الأرض عصا طويلة مدببة الطرف في وضع رأسي ونتركها على طرفها هذا وفي هذا الوضع دون أن تقع العصا على الأرض. ولو أننا وفقنا بصعوبة إلى ذلك فإنه لن تمضي لحظة حتى تقع العصا على الأرض وفق اتجاه لا نستطيع تحديده. ولو أننا تساءلنا عن مساق (مصير) العصا وهي في وضعها الرأسي لا تستند إلى شيء لقررنا أنها حتماً واقعة على الأرض. لنفترض بعد ذلك أن هناك كائناً حياً يرفع العصا طوراً ويدعها تقع على الأرض تارة أخرى
ثمة مجموعتان واحتمالان لمواضع العصا وما يخبئه لها القدر:
المجموعة الأولى تتكون من العصا والأرض. هنا نحتم أنها تقع على الأرض وأنها لن تقوم رأسية من تلقاء نفسها كما كانت
والمجموعة الثانية تتكون من العصا والأرض والإنسان اللاعب بها. هنا تقع العصا ولكنها تعود رأسية كما كانت ويصح أن يتكرر ذلك ما دام الكائن موجوداً
ولو افترضنا أننا مخلوقات نعيش على سطح العصا، وأن فترة آجالنا محدودة جداً بنسبة الزمن الذي تقع فيه عصانا هذه فإننا الآن في مرحلة نشاهدها وهي تقع، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بأنها لا تقوم بنا كرة أخرى، فقد يكون هناك لاعب ماهر يلعب بالعصا ولا نعرف من لعبه شيئاً، وقد تكون هذه إحدى المرات العديدة التي وقعت العصا فيها على الأرض
فلا تخش أيها الكاتب على الكواكب انقطاع دورانها وعلى النجوم وقوف حركتها وعلى الكهرباء انعدامها وعلى الجاذبية نهايتها وعلى الأرض فناءها وعلى الأحياء موتها، فإننا عاجزون عن أن نعرف الأصل في كل هذا وأن نستوعب للكون مبدأ وللحياة نهاية، لهذا لا يجوز لنا دائماً أن نقول إن الذي ترك العصا تميل وتقع يستطيع أن عيدها سيرتها الأولى،
كما نستطيع أن ندرك أن الأرض والعصا واللاعب مجموعة تختلف عن الأرض والعصا بلا لاعب
حدثت القارئ فيما تحدثت به إليه عن نملة تجولت في سرادق فسيح في ليلة عزاء، وقلت إنها فهمت أن الدنيا كلها سرادق تضيئه أنوار ونادل يسقي قهوة وفقيه يرتل الآيات، وقلت إنها بهذا أخطأت صورة الدنيا، كذلك نحن والكون وما يحدث له في المستقبل البعيد من تطورات؛ فقد تعلمنا كثيراً وزادت معارفنا ولكننا فضلاً عن ذلك قد تعلمنا شيئاً أجدى وهو أننا لا نعرف عن الأصل في الكون والمستقبل في التطور أكثر من معارف النملة التي لم تفارق السرادق والتي لا تعرف ما بخارجه
فلتكن مثلي. لا تجادل في الغيب بهذه السهولة ولا تتحدث عن الحياة والمادة والروح بهذه الطريقة من التوكيد التي تحدثت بها. إن الشك أجدر بالعلماء عندما ينزلون إلى ميدان أصل الوجود ويحاولون معرفة سر الخليقة. لذلك عندما ذكرت أنني أفترق عن التفاحة التي نأكلها وعن المحبرة التي أملئ منها هذه الأسطر كان عندي إيمان قوي بما أقول، وإن لم يكن لدي ولا عند غيري الدليل العلمي للتدليل على ذلك بما لا يقبل الجدل
ومع ذلك وبعد الذي ذكرت أرجو ألا تنسى أيها الأخ أنني من الذين يؤمنون بالعلم التجريبي فيعيرونه كل تقدير ولا يؤمنون كثيراً بالعلم النظري فلا يولونه من الوقت إلا اليسير، وإنني لا ألجأ إلى التعمق في العلم إلا بالقدر الذي أعتبره طريقاً لمراهن الذهن والتعود على الفهم. فإذا رأيتني لجأت إلى النظريات تارة فإنما أشرح للقارئ طرائق التفكير الحديث وأستعرض بإخلاص قصة الخليقة وفق أحدث ما يقوله العلماء وما يتراءى للمفكرين
أما إذا خاطبتني كرجل تَخرَّج من المعامل، ويود أن يقضي البقية من العمر فيها، فإنني ممن لا يجيزون البت في مستقبل الكون بهذه السهولة، وعلى هذه الصورة. وعلى ذلك فلست ممن يؤمنون بالبولتزمانية إن صح أن نعطي التفسيرات الحرارية الأخيرة هذه التسمية إلا بقدر أنها صحيحة في مرحلة انتقالية للكون هي المرحلة التي نجتازها؛ وهذه المرحلة قد يتبعها مراحل لا تكون البولتزمانية موضوع الحديث.
وبعد فتراني أصبو إلى الطرف الإيجابي من المسائل والظواهر عامة. لقد درست على
كوتون، وتتلمذت على موتون، وصاقبتهما عشرة أعوام أو يزيد - ولقد كانا بنائيين ينظران إلى المسائل ويسائلان أنفسهما: هل من وقائع حقيقية وراء ما نرى أو ما نقول؟ وإني أضرب لك مثلاً:
عندما فصل مليكان جسيماً واحداً يحمل إلكتروناً حراً واحداً كنا واثقين بعمله. فقد كانت نتائجه التجريبية تُحتم شحنة الإلكترون بالقدر الذي أعطاه مليكان ما دام منطق الحساب البسيط صحيحاً. هذا الحساب الذي تعلمناه كلنا بالمدارس - وبالمدارس الابتدائية على الخصوص - فقد كان الحديث عند مليكان عندما استطاع أن يرى هذا الجسيم واقفاً بلا حراك بين كفتي المكثف الكهربائي حادثاً خاصاً بقاعدة حسابية بسيطة معروفة لدى طلبة المدارس الابتدائية، وهي قاعدة القاسم المشترك الأعظم.
عندما نتساءل عن العدد الذي يقسم الأعداد: 14، 21، 28، 35، 42، فإن الجواب معروف. فالعدد 7 يقسم كل هذه الأعداد. ولقد كانت تجارب مليكان المعروفة التي عين فيها شحنة الإلكترون لا تخرج في فكرتها الأساسية عن العملية السابقة بالذات. لذلك كان إيماننا بها بقدر يقينا في جواب المسألة الحسابية السابقة ولكن عندما نتحدث أيها الأخ عن ملايين ملايين السنين فإن للقوانين اعتباراً آخر، وللظواهر تطورات نجهلها.
وبعد الذي ذكرت كم أكون سعيداً لو استوثقت يوماً أنك تنظر إلى المسائل نظرنا إليها وتعالج الأمور معالجتنا لها - قد أكون مخطئاً فيما ذهبت اليه، ولكن هكذا تكونت وهكذا دَرَسْت. ولا تصفني إن سمحت بعد اليوم بالعالم المدقق والطبيعي المحقق، ولا تذكرني كما تذكر علماء السوربون وأساتذتهم الأعلام فإن هذا شرف لم أنله ومرتبة لم أرتفع إليها. ولابد من أن يتسع العمر كثيراً لنطالع عشرات ما طالعناه، ولابد من أن تمر سنون عديدة لنستوعب الكثير مما لا نعرف.
وفي الختام أشكر لك كلماتك السابقات التي لا أستحقها، وأعدك وقراء الرسالة بأنني سأتم كلامي عن الذرة والإلكترون وسأخص تجارب مليكان وبيران عن الإلكترون بشيء من العناية. فإذا ما انتهيت من هذا فسأتناول أربعة موضوعات رئيسية تتصل كلها بالتفكير الحديث ومستقبل البشر: الْكَم أي (الكوانتا) لمؤسسها العالم الكبير بلانك، وربما تكلمت عن علاقتها بالقضاء والقدر. والنسبية (لإينشتاين). والموجية للعالم الشاب (دي بروي).
والتفتت الذري لكل هؤلاء الشبان من أرجاء المعمورة الذين يعملون داخل المختبرات على تقدمنا والذين يواصلون الليل بالنهار ليضعوا حجراً جديداً وأساسياً في مستقبل المعرفة.
وتراني سعيداً لأرقب ملاحظاتك وأرد على أسئلتك وأشترك في خواطرك وأتعرف إليك مع أصدق التحيات.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
من هنا ومن هناك
الثالوث البريطاني في البلاد العربية
(عن مجلة (في الباريسية)
منذ بدأت إنجلترا تتبع سياسة الحكم غير المباشر في البلاد العربية، لم تكتف بجنودها البواسل وطياراتها ودباباتها تذرع تلك البلاد، فبثت في رجالاً ذوي مقدرة نادرة وكفاية عالية للسير بسياستها في طريق النجاح. وذلك أن أعمال (لورنس العرب) قد أصبحت تقليداً يتبع ومثلاً يحتذي عند الإنكليز.
وقد تبدو مهمة هؤلاء الرجال على جانب من البساطة، ولكنها في الحقيقة على خلاف ذلك. فهم في حاجة إلى التدخل بين العرب واكتساب مودة الأمراء وثقتهم فضلاً عن البدو والدهماء. فلا تمر صغيرة ولا كبيرة في العروش الشرقية إلا كان لهم شأن فيها. وهم يحاربون أعداءهم في صمت وهدوء
ويتبين مما كتبناه عن الإمبراطورية العربية - يرمي إلى المقالات التي لخصتها الرسالة في أعداد سابقة - أن النضال في البلاد العربية يدور في ثلاث مناطق هي محور الدائرة في الشرق الأدنى. وهذه المناطق هي: الرياض عاصمة مملكة ابن السعود، وعمان عاصمة الأمير عبد الله، والقفار التي يشغلها فوزي القاوفجي ورجاله الذين لا يهابون الموت ولا تقف جرأتهم عند حد. فمن الطبيعي أن نجد خدام الإمبراطورية البريطانية الصامتين في تلك البقاع
وأول (الثالوث البريطاني العربي) هو (فردريك جيرارد بيك) ويعرف في الشرق الأدنى باسم بيك باشا. وقد كان هذا المارد الذي يبلغ طوله ستة أقدام، الذراع اليمنى للورنس مدى ثورة الصحراء
وقد كان بيك متصلاً كل الاتصال باللجنة التي نظرت في تقرير مصير الولايات العربية بعد اندحار الإمبراطورية التركية. واشتغل برهة مع الملك فيصل في العراق. ولم يلبث أن رحل إلى الرياض لمفاوضة ابن السعود، وجاءت فترة بعد ذلك كان فيها ضيفاً كريماً على شيوخ العرب الذين يرأسون القبائل الثائرة في الصحراء، ثم اتصل أخيراً بالأمير عبد الله أمير شرق الأردن وصار أحد مستشاريه المخلصين، وقد عين مديراً للأمن العام في عمان
حين صارت العاصمة لتلك البلاد. وهو على الرغم من وضعه أحسن النظم لاستتباب الأمن في عمان، يؤدي لدولته أعظم الخدمات
أما العضو الثاني من هذا الثالوث فهو (جون باجوت جلاب) ويعرف عند العرب باسم (أبو الحنك) لجرح كان قد أصاب ذقنه واستمر أثره إلى اليوم. وتنحصر مهمة جلاب في اجتياز الصحراء شرقاً وغرباً والاتصال بالبدو والأعراب في كل مكان. وهو يستعمل كل وسائل الانتقال وتحمله الطائرات إلى أواسط الصحراء حيث يأوي إلى أقرب الخيام. وقد تمضي أشهر عديدة لا يسمع به أحد أو يعرف له مستقرا. وهو يتكلم اللغة العربية الفصحى ويعرف لغات القبائل المختلفة وعادات العرب في كل منطقة. وهو يجيد الرماية إجادة عجيبة. وله مقدرة فائقة في معرفة النفوس. أما الغاية التي يرمي إليها فهي اكتساب ثقة الأعراب الذين يجوبون الصحراء. وقد نجح في حجزهم عن الاتصال بالثورة في فلسطين على الرغم من المجهودات التي بذلها المهيجون لإثارة هؤلاء البدو إلى حرب عامة للجهاد باسم الدين
ويقيم العضو الثالث من الثالوث البريطاني في الرياض عاصمة ابن السعود، ويدعى سان جون فيلبي. وله فضل كبير في اكتشاف الصحراء العربية وحضر موت ووضع كتب قيمة عنها
وسان جون فيلبي فوق ذلك صديق حميم لابن السعود، وقد اتصل به منذ وجه أول حملة ضد الأتراك. وهو جد مفتون ببلاد العرب وقد اعتنق الدين الإسلامي فيما بعد
وكان يناقض لورنس في زعمه أن بلاد العرب يجب أن تقسم إلى إقطاعيات تحت حكم الحسين وأبنائه، ويقول: إن لورنس يستبق الحوادث ولا ينظر نظرة عميقة إلى القوة التي وراء ابن السعود والوهابيين. وقد دلت الحوادث على أن فيليبي كان على صواب. فلم تمض بضعة سنين بعد هزيمة الأتراك حتى نجح ابن السعود في التغلب على الحسين ونشر لواءه على نجد والحجاز. وقد استمر حليفاً مخلصاً للدولة البريطانية بفضل سان جون فيليبي
هؤلاء الرجال الثلاثة يقومون بخدمة بريطانيا في بلاد العرب، فإذا زالوا خلفهم آخرون وهكذا. وما دام لدى بريطانيا رجال على هذا الطراز فيحق لوزارة المستعمرات في هوايت
هول أن تنام ملء عينيها. وسواء بعد ذلك صبر الأمير عبد الله، وشجاعة فوزي القاوقجي، ودهاء الحاج أمين الحسيني، فليس في مقدور أحد منهم أن يؤسس إمبراطورية عربية
وإذا ساعدتهم الظروف على ذلك، فلن يكون هذا إلا برضا وزارة المستعمرات، ما دام لديها هؤلاء الرجال الذين يعرفون أغراضها ولا يجهلون الطرق التي توصلهم إليها
الطرق تحكم أوربا
(ملخصة عن تايم آند)
أصبحت الطرق تحتل المكان الأول من اهتمام الدولة الأوربية حتى لقد صار من المحتمل أن تقع حرب عالمية من أجل طريق تمتد بضعة أميال في بولندا
ويرجع ذلك الاهتمام العظيم بأمر الطرق إلى إدخال السيارات في أنظمة الجيوش والاعتماد عليها في الحروب. ومن المعروف عند رجال الحروب أن النجاح فيها موكول إلى سرعة الانتقال. فالجيش الذي لديه الوسائل لنقل الرجال والأسلحة قبل غيره معقود له النجاح، ومن هنا جاءت أهمية الطرق، وصح القول بأن من يستولي على الطرق الحربية في أوربا هو الذي سيحكمها ولا محالة
وقد اشتد اهتمام ألمانيا في الأيام الأخيرة بتعزيز جبهتها بالطرق التي تحتاجها وقت الحروب، فتم منذ استولى هتلر على ذمامها ما لا يقل عن أربعة آلاف ميل من الطرق المعبدة لسير السيارات، وأصبح من السهل على ثلاثين ألف عربة من سيارات الانتقال، ومليون رجل من رجال الحروب أن ينتقلوا إلى أقصى الجهات في جهة ألمانيا في وقت لا يزيد على أربعة وعشرين ساعة
وقد أصبحت برلين الآن محاطة بأنسجة من الطرق الحربية من كل الجهات وهذه الطرق توصل بين جبهتها وبين الطرق الهامة في أوربا، فلا يكاد الإنسان يتأملها حتى يتساءل، من أي هذه الأنسجة تقفز الرتيلاء؟!
والطريق من برلين إلى وارسو (وموسكو) هي الطريق المؤدية إلى سهول شمال أوربا الشاسعة. وهذه السهول منبسطة في أكثر الجهات، وقد لا يزيد ارتفاع الجهات العالية بها على 600 قدم، وتمتد هذه الطريق من برلين إلى جبهة بولندا إلى بروبرج إلى سهل
الفستيولا، ثم إلى وارسو، وقد تؤدي إلى موسكو
وقد عبر نابليون سنة 1812 هذه السهول، فاحتل وارسو وخط الفستيولا ثم تقدم منها إلى عاصمة روسيا. ومن هنا يتبين أهمية الطريق التي تطلبها ألمانيا إلى دانزج وشمال بروسيا داخل حدود بولونيا. فدانزج وشمال بروسيا مازالا كما كانا بالأمس المركز الممتاز الذي تتطلع إليه الأنظار لاقتحام وارسو وشرق بولندا. وكل ما تطلبه ألمانيا أن تضع يدها عليه - لا من أجل الطريق الذي تزعمه - ولكن لتصوب منه الضربة القاضية!
هتلر أو المسيح؟
(عن ذي لتراري جايد)
تدل الحوادث التي تتكرر في ألمانيا كل يوم على أن حكومة النازي تعمل على محو أثر الكنيسة في الحياة الألمانية. وقد ظهر حديثاً كتاب بعنوان (أزمة المسيحية) بيّن مؤلفه مستر وليم تيلنج ما يحدث في الكنائس الألمانية على اختلافها في العهد الحاضر. وماذا عسى أن يحدث في الكنيسة الألمانية؟ الجواب لا يحتاج إلى تفكير إذا ما نظرنا إلى النظام الذي يشمل ألمانيا الآن، فما يحدث للكنيسة هو جزء من السياسة العامة التي ترمي إلى محو كل نظام قائم إلى جانب النظام العام الذي وضعه النازي للبلاد
ويتبين مما جاء في هذا الكتاب أن هناك حملة مدبرة لمهاجمة آراء الكنيسة وفلسفة الكنيسة ومالية الكنيسة. والقول بأن العقيدة في هتلر تعادل العقيدة في السيد المسيح، والثقة بأعضاء النازي كالثقة بالقديسين الأكرمين، وهذا أمر لا يقبله رجل مسيحي بالطبع لأنه كفر وتجديف، ولكنه هو الواقع بكل أسف! فالطريقة التي يحيا بها هتلر غب انتصاراته تتخذ المراسم التي كان يستقبل بها رجال الدين في العصور الغابرة، ومذهبه الفلسفي الذي يلغي إلى جانبه كل تفكير وكل علم من رؤوس الناس هو مذهب ديني كما يظهر لا مذهب سياسي. وقد قبلت الكنيسة تلك المظاهر خاضعة، ولم تحاول أن تعارض هذه الديانة السياسية إلا في أحوال عارضة
ويقول مستر (تيلنج) إن شباب الجيل الحديث الذين انتزعهم النازي من أيدي القساوسة، وأسلمهم إلى النظام السياسي الذي يسود ألمانيا الآن، سيفقدون على التدريج عقيدتهم في كل
شيء، حتى اعتقادهم في ديانتهم الجديدة. فإذا تيقظت الكنيسة إلى ذلك، تسنى لها أن تضم إليها هؤلاء الشباب، وتقودهم إلى حركة تقضي لا محالة على ذلك النظام
إن القوة التي تعارض النازي لا يمكن معرفتها الآن بجانب الضغط الذي يسود ألمانيا، إلا أن التاريخ قد علمنا أن كل قوة تقوم على محو العقائد من النفوس، لابد أن تتجرع من الكأس التي تقدمها لها
حذار من الأذكياء المتعالين!
(بقلم دكتور جوبلز وزير الدعاية الألمانية)
لا نقصد بهذه الكلمة أن نمس الرجل المفكر المخلص الذي يخصص علمه وكفايته وتجاربه لخدمة أمته، فإن الفكر الألماني يتألف من هؤلاء الرجال المفكرين؛ ولكن مما لاشك فيه أن هناك فرقاً شاسعاً بين المفكرين الذين على هذا الطراز وغيرهم من أدعياء الفكر. فليس كل من يحظى بنصيب من التعليم، وشيء من المقدرة على الظهور ممن يسمونهم بالمتعلمين، هو في الحقيقة من الأذكياء أو المفكرين. إن مثل هذا الرجل من بقايا متعلمي الجيل الماضي قد أخطئ في توجيهه، ونشأ على طريقة عقيمة في التعليم؛ فهو في الحقيقة لم يكن سوى مجموعة من العلوم نمت في ظل نوع من الذكاء الزائف. أما تأثير هذا الرجل في المجتمع فهو أشد وأنكى من تأثير الجاهل البسيط، إذ أن اكتشافه للناس ليس بالأمر اليسير.
والرجل الذي على هذا الطراز يريك الجبن حكمة، والنزق حزماً، والكبر شجاعة، والذبذبة قوة وثباتاً. . .
فإذا عرف خطره على المجتمع، فإن خطره على المجتمع الألماني أشد وأعظم؛ لأن الألمان بطبيعتهم لهم غرام خاص بتلك الفضائل في عنصرها الأصيل. أما الرجل المفكر المتعلم الذي يعمل ويناضل لإحياء وطنه وحرية بلاده، فهو ومن على شاكلته يتبوءون الآن مراكزهم في الحكومة الاشتراكية الوطنية، أو يسيرون خلفها متحمسين مزهوين
إن الفكر التقليدي الذي يصد عن المثل العليا أو يصدف عن الحكمة والمنطق، ثم يستخف بهذا المسلك المعيب، هو في الحقيقة جبان قصير النظر. فلا يزال يرى أن العلم والتربية والمكانة لم تخلق جميعها إلا لما يريده هو ويراه. وكل من تحدثه نفسه بأن يسلك سبيلاً
غير سبيله فهو خارج على العرف، ومن ثم يجب أن يكافح وتعارض أعماله وتوجه إليها حملات النقد والتفنيد
ولا ضرر من هذا الرجل في أيام السلم إلا أنه قد يكون محقق الضر حين تشتد الأزمات السياسية، فيجتمع هو وأمثاله زمراً تنقصها ملكة الفهم والحكم على المواقف الدقيقة ليظهروا مخاوفهم ومخاوف الآخرين باسم العلم الزائف الذي يدّعونه
إن هؤلاء المفكرين التعساء لا يزالون يقابلون كل عمل من أعمال الحكومة الاشتراكية الوطنية وأعمال الفوهرر بكلمة (لا) ومن المحتمل أن يظلوا كذلك إلى الأبد. وليس في نيتنا أن نضم أحداً منهم إلينا لا لأننا لا نستطيع ذلك، ولكننا لا نريد أحداً منهم على الإطلاق، إذ أنهم حمل لا فائدة فيه
البريد الأدبي
حول جناية الأدب الجاهلي
تحت هذا العنوان كتبت (الثقافة) في عددها الأخير كلمة بدأتها بهذه الجملة:
(أتتنا مقالات عدة من مختلف الأقطار العربية، بعضها في مناقشة الفكرة تأييداً أو رداً. . . وبعضها في سب ناشر مقالات (الرسالة)(لعله يريد (كاتب)) والتعريض بصاحب المجلة وتحليل الأسباب الداعية إلى ذلك. . .)
ولو كانت الثقافة من مواليد العام الماضي لشهدت في الرسالة معركة من أعنف المعارك الأدبية وأحماها بين الأستاذ سيد قطب وبين روح الأستاذ الرافعي. وكان الأستاذ قطب أمض أسلوباً وأشد لهجة من الدكتور زكي مبارك؛ وكان يأبى علينا أن نخفف من حدته أو نلطف من ألفاظه؛ ولكن الدكتور زكي يسمح لنا أن نسكن من سَوْرته بالحذف والتغيير حتى لتنخفض حرارته في بعض المقالات إلى النصف!
وكان الرافعي عضواً عاملاً في أسرة الرسالة وصديقاً حميماً لصاحب المجلة إلى أن استوفى آخر أنفاسه. وكان حين شبت هذه المعركة قد انتقل إلى جوار الله فلم يعد له لسان ولا قلم ولا صحيفة، فكان من الجائز حينئذ للذين لا يفهمون النقد إلا أنه انتقام وخصومة أن يكتبوا في (التعريض بصاحب المجلة وتحليل الأسباب الداعية إلى ذلك. . .). ولكن صديقنا الأستاذ أحمد أمين - متعه الله بطول العمر - له قلم ومجلة وأنصار؛ وهو صاحب رأي جديد في الأدب الجاهلي لم ينشره إلا بعد أن وطن النفس على مكروهه. وناقده أستاذ معروف له استقلاله في الرأي وأسلوبه في النقد ومكانته من الصحافة، فلا يمكن أن يوجه إلى خطة أو يحمل على رأي. إذن يكون من المجازفة والاعتساف أن يظن ظان بعدما عرف من مثل الرافعي ورأى من نشرنا النقد والرد عليه أن هناك أسباباً دعت إلى هذه المعركة غير خدمة الأدب في ذاته. وللرسالة والحمد لله قلم يستطيع متى شاء أن يدافع ويهاجم وينقد في حدود الأدب والحق والمنطق من غير حاجة إلى استخفاء أو استعداء
(الرسالة)
النعيم الحسي والروحي في الإسلام
قرأت في (الرسالة) كلمة طيبة لحضرة الأستاذ محمود علي قراعة في مراجعة ما قررت في أحد الأبحاث الماضية من اعتراف القرآن بالنعيم الحسي في الفردوس.
والظاهر أن الأستاذ قراعة يرى أن القول بالنعيم الحسي ينافي القول بالنعيم الروحي لمن يرضى الله عنهم من المؤمنين.
وأقول بصراحة جلية: إن الإسلام يقوم على أساس القول بأن الإنسان مكوَّن من جسد وروح، وهو كذلك في الحياة الأخروية؛ فسيكون بعد الحساب جنة أو نار، جنة فيها أنهار وأشجار وأزهار، وقصور، وحُورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ونار فيها جميع صنوف العذاب!
جنة حقيقية لا مجازية، ونار حقيقية لا مجازية.
تلك هي الحال التي سيصير إليها المؤمنون أو الكافرون بعد الحساب.
أما القول بأن الجنة والنار رموز لا حقائق، وأن الثواب والعقاب سيكونان مقصورين على الروح، فذلك قول وصل إلى بعض الصوفية من التأثر بالمسيحية.
والنظرية الإسلامية الصحيحة التي تعترف باللذات الحسية في الآخرة لا تمنع من القول بأن سيكون في المؤمنين من يكون نعيمهم برضوان الله أطيب من نعيمهم بما في الجنة من ثمرات وطيبات
وليت أمثال هذا الصديق يعرفون أن اللذات الحسية من طعام وشراب وعافية هي من نعم الله ذي الجلال، وهي مشتهاة في الدنيا والآخرة؛ وما كانت كذلك إلا بمشيئة بارئ الأرض والسموات
أنا يا صديقي راض بأن يكون حظي في الآخرة عند الحد الذي تقول فيه الآية الكريمة:
(فمن زُحْزِح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)
أما قضاء الأبد الأبيد بالتسبيح والتكبير والتهليل، فهو غاية سيطلبها رجل غيري؛ فقد قضيت حياتي في أكدار وأشجان، وقضاء الأبد في الفردوس هو الواحة التي أستظل بها من هجير هذا الوجود.
اشغلني عنك، يا رباه! بما سيكون في الجنة من أطايب النعيم. فإن بصري أضعف من أن يواجه نورك الوهاج، ولك الرأي الأعلى في التجاوز عن ذنوبي وآثامي.
زكي مبارك
توضيح مسألة
سيدي الأستاذ الجليل الزيات
تحية وسلاما، وبعد. فقد قرأت المقال القيم الذي كتبه الأستاذ كامل محمود حبيب في عدد الرسالة (314) عن المرحوم الأستاذ فليكس فارس، وقد وجدت في المقال أشياء استوقفت نظري وأرى من الواجب أن أنبه عليها بياناً للواقع.
وأول شيء استرعى بصري أن الأستاذ كامل حبيب وضع رقماً يدل على تاريخ مولد الأستاذ فليكس فارس، وتاريخ وفاته، والرقم هكذا (1886 - 1939)، ولكن الحقيقة أن الفقيد ولد عام 1882 في بلدة (صليما) بلبنان، وقد أخطأ في ذلك أيضاً الأستاذ صديق شيبوب إذ كتب في جريدة البصير في العدد الصادر في يوم الجمعة 30 يونيو سنة 1939 أنه ولد عام 1881 في بلدة (المريجات)، والذي نعرفه نحن شخصياً من الأستاذ فليكس فارس أنه ولد في 27 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1882، وقد أعلنت أسرة الفقيد أنه توفي عن سبع وخمسين سنة، وعلى هذا يكون تاريخ ميلاده موافقاً للسنة التي ذكرناها.
هذا والأستاذ كامل حبيب ذكر أن الفقيد سافر إلى أمريكا عام 1920، والذي نعرفه أن الفقيد لم يرحل إلى القارة الأمريكية إلا عام 1921. ومما يؤيد هذا الكلام آخر ما كتبه الفقيد والذي جاء في العدد الخاص من مجلة (المكشوف) عن مظاهر الثقافة في مصر، وكما جاء أيضاً في أكثر من مكان في كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) ص 26 مثلاً.
هذا ومما نذكره للتاريخ عن سفره إلى أمريكا أنه اعتقل في (لونج أيلند) مع زميله الفنان جان دبس ستة عشر يوماً لسعايات سياسية وأفرج عنه بمساعدة صديقه الأستاذ أمين الربحاني
ويذكر الأستاذ كامل حبيب أن الفقيد تعرف على جبران وعلى أعضاء الرابطة العربية في نيويورك. والحقيقة أنها الرابطة القلمية التي كان عميدها جبران ومستشارها ميخائيل نعيمة (كتاب جبران خليل جبران لميخائيل نعيمة ص 171). وأما الرابطة العربية فمقرها في
القاهرة على ما نعلم ورئيسها هو الأستاذ محمود بسيوني رئيس مجلس الشيوخ السابق.
إبراهيم أدهم
سؤال إلى (المفكرين) من علماء المسلمين
أنا لست من الفقهاء ولا المحدثين ولكن لي من المشاركة في هذه المباحث ما يطوّع لي عرض هذا السؤال وتوجيهه توجيهاً قد لا يرضي المتمسكين بحرفية النصوص الشرعية، الواقفين عندما جاء في الشروح والحواشي، معترفاً بأن مستندي في الذي أقوله على الأحكام العامة والرأي والاجتهاد، لا على الدليل الأصولي والحجة الشرعية، وهذه الأحكام العامة التي أرجع إليها وأستند عليها هي:
1 -
أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن مبادئه لا يعتريها البلى ولا تفسدها الأيام
2 -
إن الإسلام يجعل من المتمسكين به أرقى مجموعة بشرية في العلم والقوة والمال والحضارة
فكيف يتفق مع هذين الأصلين وجود أحكام في الفقه لا تصلح لهذا الزمان، وأحكام تجعل المسلمين دون الأمم الأخرى في مرافق الحياة؟ مثال الأولى أحكام البيع والشراء في فقه الشافعية مثلاً؛ فإن فيها ما يتعذر تطبيقه في التجارات الواسعة وما يخالف كثيراً من المتعارف عليه بين التجار، كأن يشتري التاجر المصري بضاعة من إنكلترا ويبيعها في سوريا من غير أن يتسلمها أو يراها، أو يشتري من المعمل أشياء لم تصنع بعد وتم العقد عليها. ومثال الثانية ما قام عليه الدليل الحسي من أن أمة متمدنة لا تستطيع اليوم الاستغناء عن المصارف (البنوك) ومعاملاتها وما قدر أن يقوم به بنك مصر من الأعمال العظيمة القائمة في الأساس على شيء من الربا. . .
أفنقول للتجار إن الإسلام يحول بينكم وبين اتباع الأسلوب السهل المعروف في التجارة ويعرقل أعمالكم؟ أو ندع أعمال البنوك مع ما هي عليه من اللزوم وما لها من الفوائد والمزايا؟ وكيف يكون التوفيق حينئذ بين هذه النتيجة التي تنتهي إليها وبين الأصلين الثابتين المتقدمين؟
أولا يصح القول بأن من أحكام الفقه ما هو مبني على أصل ثابت من كتاب أو سنة فهذا ما
لا سبيل (فيما أعلم) إلى تبديله أو تغييره، ومنها ما هو مبني على عرف كان سائداً في عصر الفقهاء المجتهدين، وقد تغير العرف فيجب أن تتغير الأحكام المبنية عليه. أذكر أنه مر معنا عند درس (المجلّة) في كلية الحقوق أنه إذا باع الرجل دابة له واشترط على المشتري ألا يركبها في البلد مثلاً فالشرط لغو لا قيمة له، وقد بني هذا الحكم على اعتبار هذا الشرط ضاراً بالمشتري في حين أنه لا ينفع البائع، فألغوه على قاعدة (الضرر يزال). . . فإذا وجدنا فيه نفعاً للبائع كأن يكون البائع للسيارة سائقاً يشتغل بنقل الركاب على طريق معين، وأن يكون استعمال المشتري للسيارة على الطريق عينه مضراً به. . . فإنه يجب في هذه الحالة اعتبار هذا الشرط صحيحاً، فما هو قول علمائنا الأعلام؟
والربا؟ أليس الربا المحرم هو استغلال صاحب المال حاجة المستقرض وإرهاقه بالزيادة، وضم الزيادة إلى رأس المال عند عجزه عن الدفع (على طريقة الفائدة المركبة) حتى تستغرق الفائدة رأس المال أو تزيد، وأنه حرم لما ينشأ عنه من خراب للبيوت وتنازع بين الناس وتسرب البغضاء إلى النفوس؟ أو ليس هنالك فرق (عظيم) بين هذا الربا وبين معاملات المصارف. فأنت حين تعامل المصرف لا تستغل حاجته، ولا ترهقه بالفائدة بل هو الذي يعرضها عليك. فهو أشبه بشركة المضاربة ولا يشترط (فيما أظن) تقسيم الربح بالتساوي بين الشريكين، ولا مانع من أن يساهم المضارب ببعض المال. فإذا صح هذا أمكن أن نعد القائمين على أعمال البنك بمثابة الشريك المضارب، والمساهمين بمثابة صاحب المال، والخسارة تكون بالطبع على أصحاب رؤوس الأموال بنسبة أموالهم. بقي أن البنك لا يستعمل المال في التجارة ولكن يستثمره بطريق الربا أيضاً، وهي التي لا وجه لها عندي. فما هو قول علمائنا الأعلام؟
إن الإسلام إذا كان لكل زمان، فإنه يجب أن يكون لكل زمان فقهه، والفقه الذي يقرؤه الطلبة في الأزهر وغير الأزهر لم يوضع لزماننا، وإنما وضع لأزمان مضت. وأنا معجب أشد الإعجاب بالفقهاء المتقدمين، فإنهم لم يدرسوا وقائع أزمانهم ويضعوا لها الأحكام فقط، وإنما فرضوا الفروض وبحثوا عن أحكامها. فأين فقهاؤنا الذين بحثوا في المسائل الفقهية الناشئة عن الراديو مثلاً وحكم سجود التلاوة عند سماع القارئ فيه، وحكم الاقتداء بالإمام الذي تسمع قراءته في الراديو والمسائل الناشئة عن وسائط النقل الحديثة والسفر بها.
والمسائل التي حدثت في العرف التجاري وغير ذلك مما تشعر بالحاجة إلى معرفة حكم الله فيه. على أنني أذكر هنا بإكبار بحث فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد شاكر في الطلاق فإنه يعد مثلاً كاملاً في هذا الباب. فمتى يعمد العلماء إلى الكتابة في مشكلات المسائل على هذا النمط، ومتى يلغى من الأزهر الفقه الموضوع للقرن التاسع والعاشر ليحل محله فقه القرن الرابع عشر. مع العلم بأن منبع الاثنين الكتاب والسنة عماد الإسلام. هذا الدين المرن الصالح لكل زمان ومكان؟
هذا سؤال أوجهه إلى (المفكرين) لا الحافظين من علماء المسلمين!
(دمشق)
علي الطنطاوي
حول الروحيات والمعنويات في الإسلام
أستاذنا العزيز الزيات:
وبعد فقد أساء بعضهم فهم ما ذكرناه عن ابن عابدين ج 3 ص 215؛ ولذلك يجب ذكر ما قاله كاملاً: (قال السيوطي قال ابن عقيل الحنبلي جرت مسألة بين أبي علي بن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني في ذلك، فقال ابن الوليد: لا يمنع أن يجعل ذلك (يريد اللواط) من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلاً للأذى، وليس في الجنة ذلك، ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر وغاية العربدة وزوال العقل. فلذلك لم يمنع من الالتذاذ بها. فقال أبو يوسف الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه. . . ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر، وهو مخرج الحدث، والجنة نزهت عن العاهات. فقال ابن الوليد: العاهة: هي التلويث بالأذى؛ فإذن لم يبق إلا مجرد الالتذاذ. . . والظاهر أن المراد بالحرمة هنا القبح إطلاقاً لسم المسبب على السبب أي قبحها عقلي بمعنى أن يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع كالظلم والكفر. لأن مذهبنا أنه لا يحرم بالعقل شيء أي لا يكون العقل حاكماً بحرمته، وإنما ذلك لله تعالى بل العقل مدرك لحسن بعض المأمورات وقبح بعض المنهيات. فيأتي الشرع حاكماً يوفق ذلك. فيأمر بالحسن وينهى عن القبيح، وعند المعتزلة يجب ما حسن عقلاً،
ويحرم ما قبح، وإن لم يرد الشرع بوجوبه أو حرمته. فالعقل عندهم هو المثبت، وعندنا المثبت هو الشرع والعقل آلة لإدراك الحسن والقبيح قبل الشرع. وعند الأشاعرة لاحظ للعقل عبد الشرع بل العقل تابع للشرع فما أمر به الشرع يعلم العقل أنه حسن، وما نهى عنه يعلم أنه قبيح. . . فلا تكون اللواطة في الجنة على الصحيح لأنه تعالى استقبحها وسماها خبيثة والجنة منزهة عنها، وفي الأشباه حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة، وقيل سمعية فتوجد. . .)
هذا ولقد ظن بعض القراء أن معنى وجود خلاف في الرأي فيما يتصل بوجود هذا الفعل في الجنة أو عدم وجوده، أن الشريعة الإسلامية، لم تنكر هذا الفعل لأنها لم تقرر الحد عنه، وفاتهم أن عدم الحد عنه لا لخفته بل للتغليظ حتى رأى الجمهور تكفير مستحلها، وأن بعضهم يرى حد الفاعل والإحراق بالنار، وهدم الجدار والتنكيس في محل مرتفع باتباع الأحجار والجلد والتعزير والسجن حتى الموت أو يتوب، ولو اعتاد هذا الفعل قتله الإمام سياسة.
هذا وقد قال لما بعض العلماء إن الذين يرون رأيننا في روحية اللذات في الجنة يجب تكفيرهم أو على الأقل رميهم بالضلال والعياذ بالله، لأن رأي الروحانية يتنافى في رأيهم مع أصل النصوص، والواقع أن هؤلاء يتجاهلون ما يجب أن يعرفوه من أن اللذة سواء أكانت حسية أم معنوية تتصل أكبر ما تتصل بالتفاعلات النفسية وتقرب كل القرب من الروح، فالسمع والبصر والشم واللمس والذوق حواس الإنسان الخمسة يمكن أن تضم إليها الحاسة الفنية التي يضمها بعض الكتاب وبذا نكاد نتفق في إعزاز الجزء الروحي في كل حاسة وإكبار شأنه وفهمه أنه أسمى جزئياتها. فأنت إذا رأيت منظراً جميلاً هل تستطيع أن تقدر لطربك الروحي من رؤية هذا المنظر أقل من تسعة أعشار ما يشع عليك من سرور. ولقد كان جمال يوسف الصديق شاغلاً لأهل مصر عن الإحساس بألم الجوع، حتى أنهم كانوا إذا جاعوا (كما ذكر الغزالي في إحياء علوم الدين الجزء الرابع) نظروا إلى وجهه فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع، وحتى قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك كما قص لنا للقرآن الكريم. وكذلك يمكن القول عند ذكر الحاسات جميعاً. فليطمئن هؤلاء العلماء الذين أسرعوا فكفروا مع أن التكفير إثم عظيم لا
يكفره إلا عفو من ظلموه ليطمئنوا لأنا نفهم أن الإنسان كما يمكنه أن يسمو بلذاته الحسية إلى حيث مرقاة الروح، يستطيع أن ينزل بها إلى حيث يريد من النزول. فعند سماعك لغناء تستطيع أن ترقى به وتستطيع أن تجعله ينزل بك، فإذا سمعت غناء من ذي صوت جميل لتقديس الله بالتفكر في جمال الحناجر التي خلقها فأنت رجل روح تتمتع بلذة السماع وهي لذة حسية وترتفع بها إلى جعلها ترقى بروحك وبنفسك، وأما إذا كنت تسمع صوتاً جميلاً من جميل وتريد بسماعك ومن حركات المغني تحريك شهواتك، فأنت نازل بلذتك الحسية إلى الحضيض، ولذا قرر السهروردي حل الغناء في الأولى وحرمته في الثانية
ثم ما قال هؤلاء العلماء في لذة النظر إلى وجه الله الكريم؛ وهي لذة روحية بحتة تفوق كل اللذات. . . الحق أنهم ظنوا بجهلهم لروح الإسلام وتعاليمه الصحيحة، أن حسية اللذات تمنع من روحانيتها، وفاتهم أن اللذة معنى لا يحس وأنها إذا نسبت لما ينتجها فليس هذا إنزالاً لها من عالمها إلى عالم المادة أو الحس. ولكن الذي نؤمن به كمسلمين صادقين أن في الجنة لذات روحية وحسية، وإنا كمؤمنين صادقين نرى أن لذات الجنة الحسية لذات راقية تسمو بالروح، إذ لا لغو في الجنة ولا تأثيم، وأن أكبر لذات الجنة التي سينعم بها المؤمنون روحية. هذه عقيدتنا التي يجب أن يؤمن بها كل مؤمن صادق.
محمود علي قراعة
فن منحط برغم ذلك
كتب الأستاذ أنور كامل في بريد العدد الماضي من الرسالة كلمة عن جماعة الفن والحرية بعد أن شعر أن الكلمة المنشورة في العدد الأسبق تحت عنوان الفن المنحط تمس الجماعة التي ينتمي إليها رغم أن الكاتب لم يشر بتاتاً إلى جماعة (الفن والحرية) وهذا التصرف من الأستاذ كامل له مغزاه. . . وقد أتيح لي أن أطلع على بعض ما كتبه ورسمه بعض المنتمين إلى تلك الجماعة وأرسلت بعضه لمحرر الرسالة، ولعله المعنى بالذات في تلك الكلمة التي أثارت الأستاذ كامل ودفعته إلى كتابة كلمته. . .
وإني أقول للأستاذ إن الفن الذي يبشر به ويروج له فن منحط رغم كل ما يقال فيه، وإن الجماعة التي تتسمى باسم الفن والحرية لا تفهم الحرية إلا على أنها فوضى لا ضابط لها
ولا قانون - كما أن مسايرة الفن الأوربي في تخبطاته الأخيرة ليست حرية بحال من الأحوال. بل هي عبودية عمياء، وهذا هو ما تفعله جماعة الفن والحرية!! فليشرح لنا الأستاذ على أي أسس تقوم آراء جماعته - وإني على استعداد تام لمناقشة كل ما سيدلي به الأستاذ في الدفاع عن آراء جماعته. ولعل صفحات الرسالة تتسع لكل ما سيكتب في هذا الموضوع والكسب للفن على كل حال.
نصري عطا الله سوس
للحقيقة والتاريخ: بيان وتصحيح
لما قرأت ما نشرته الرسالة منذ أعداد من نبأ (المجلة الأدبية) التي ستصدر في دمشق، والمحاضرة التي ألقيت في بعض النوادي عن (التأليف والمؤلفين) وأحاديث (الراديو) عن شعراء دمشق، ورأيت ذلك كله مجتمعاً في عدد واحد، والى جنبه ذكر كتاب نشر حديثاً ووصفه بأنه (آية في التحقيق والتدقيق)، ظننت أن الله قد (بعث) الحركة الأدبية في الشام، واستخفى الطرب حتى حدا بي إلى الإسراع بالعودة إلى الديار، لأشارك في جَنْي بواكير هذه الثمرة الطيبة. . . وعدت فإذا المجلة (مشروع) من هذه المشروعات التي يطيب لبعض الشيوخ المتقاعدين وبعض الشبان المتبطلين الكلام فيها ليوهموا أنفسهم أنهم (يشتغلون) ولم يتحقق منه إلا اجتماع دعا إليه أحد الأدباء، وخبر لا أدري من بعث به إلى الرسالة، ذكر فيه أشخاص متماثلون متقاربون في شهاداتهم ومنازلهم زملاء في التدريس، فرفع بعضهم إلى المنزلة العليا وقيل عن بعض إنهم (متأدبون ناشئون) فحقدوا على الرسالة، والرسالة لا ذنب لها. . . وإذا المحاضرة التي ألقيت ونشرت كاملة في صدر (الهلال) تشتمل على دعوة (قوية) إلى ترك الثناء بالباطل، والى النقد الصريح. ونحن اتباعاً لهذه الدعوة، وامتثالاً لأمر صاحبها، نعلن أن المحاضرة أرقى بقليل من كتاب (الوسيط) الذي يدرس للطلاب، وأنها خالية من الإحاطة بالموضوع، ومن التحقيق العلمي، ومن (الشيء الجديد)، وأنها عبارة عن نتف من هنا ونتف من هناك، جمعت بأسلوب خطابي يثب فيه المؤلف من عصر إلى عصر، فيذكر أشياء لا ندري لماذا يذكرها، ويهمل أشياء لا ندري فيم أهملها، ثم يختمها بكلام طويل في وصف المؤلف الذي (يريده). وأما
أحاديث الراديو، فلم تلق بعد، وأظن أن هذا الشاب العامل المد سيكون أدنى إلى التوفيق من سادتنا الكهول الذين أخذوا شهرة من الدهر فناموا عليها، واطمأنوا اليها، وأهملوا الإنتاج القيم، وإذا الحركة الأدبية (لا تزال) ميتة أو مغشياً عليها قد صرعتها السياسة وأحداثها، فأحببت أن أنشر هذا البيان في الرسالة لا بغضاً لدمشق فما يدعي محبتها أكثر مني إلا كاذب، ولكن حفزاً للهمم وإظهاراً للحقيقة، ولئلا يسجل في الرسالة غير الحق. وأنا أتمنى والله أن يكون الأمر غير ما أقول ولو عدت كاذباً. . .
ع. ط.
فرقة تمثيلية من المشايخ
شهدنا في دار الأستاذ علي الطنطاوي اجتماعاً تمهيدياً لتأسيس فرقة تمثيلية تضم كبار المشايخ المشتغلين بالعلم والأدب؛ الغاية منها إرشاد الناس إلى المنهج الأخلاقي والعمل للإصلاح عن طريق التمثيل. وقد حضر الاجتماع الأستاذ الكبير الشيخ عبد القادر المبارك والأستاذ الشيخ عبد القادر الطنطاوي. وقد تبرع أحد الوجهاء الذين حضروا الاجتماع بأرض واسعة يبنى فيها مسرح عظيم، وبالنفقات اللازمة للتمثيل. وسيقوم حضرات الأساتذة بالتمثيل فعلاً، في الرواية الأولى التي يعدها الآن الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي.
(دمشق)
(ص. م)
المرحوم فليكس فارس
ستقام حفلة تأبين كبرى للمرحوم الأستاذ فليكس فارس بدار المحفل الأكبر الإقليمي بشارع يونج رقم 2 بالإسكندرية وذلك في تمام الساعة السابعة والنصف من مساء الاثنين 24 يوليو سنة 1939 والدعوة عامة.
عائشة والسياسة
وقع في هذا المقال المنشور بالعدد (314) من (الرسالة) سهو، وهو أن الحاشية (الأغاني 5 - 130 طبع دار الكتب) موضعها آخر العمود الثاني (ص 1350) لأنها تعين مصدر
الحادثة المذكور ثمة، ولا علاقة لها بالعنوان.
رسالة النقد
سمو المعنى في سمو الذات
أو أشعة من حياة الحسين
تأليف الأستاذ عبد الله العلايلي
للأستاذ علي الطنطاوي
تفضل الأستاذ عبد الله العلايلي فأهدي إليّ كتابه الذي سماه (سمو المعنى في سمو الذات)، وجعله الحلقة الأولى من سيرة الحسين بن علي بن أبي طالب، فطالعت أكثره والقلم في يدي فكنت أكتب بعض التعليقات على ما أنكر منه فاجتمع لي في نقده مسائل (مهمة جداً) أحببت أن أنشرها، وما أشك في أن الأستاذ يتقبلها بقبول حسن، فيقرّها إذا رآها حقاً، ويناقشني فيها إذا رآها غير ذلك. ولست أعرض في هذا النقد للخلاف بين السنة والشيعة، أو أثير غبار النزاع على القضايا المذهبية، وإنما أنقده من الناحية التاريخية العلمية، للوصول إلى الحقيقة التي أنشأ الأستاذ العلايلي كتابه للبحث عنها
والملاحظة العامة على هذا الكتاب هو أنه يدرس خلافاً بين فئتين، فيسبغ على إحداهما ثوب التقديس والإجلال، ويكتب عنها بروح إكبار واحترام، وينزل بالثانية إلى حيث يتمكن من النزول بها، ويلصق بها التهم والعيوب، ويتكلم عنها بلغة لا تخلو أحياناً من كلمات وعبارات لا يليق بالمؤرخ المنصف المهذب أن يقولها. وقد تكون هذه التهم صادرة عن (الخيال. . .) وحده، ليس لها سند من رواية أو نص؛ وقد يعترف بذلك المؤلف، ولكنه لا يمتنع عن ذكرها. كقوله وهو يتكلم عن الأمويين صفحة (33):(الحزب الأموي كاد للنبي ولدعوته، وعرفنا كيف أسلم زعيم الأموية أبو سفيان، وعرفنا كيف لم يبق للأمويين أي مقام اعتباري في محيط الإسلام الذي كان ظهوره فوزاً وغلبة للهاشميين. . . ووجدوا في ولاية يزيد بن أبي سفيان وولاية معاوية من بعده فرصة سانحة للقيام بعمل خطير، ففكروا في اغتيال عمر بن الخطاب (!) وكذلك اغتالوه بيد فارسي. . .) إلى أن قال: (وإنما أقول في جملة ما أودّ إثباته إن قتل عمر لم يكن وليد فكرة فارسية مدبرة، وإنما كان فكرة موضعية خالصة وأموية بحتة. هذا رأيي وعسى أن أجد (انتبه) في منثور الروايات
والأخبار ما يوضح الواقع)!
فإذا كان المؤلف يستند في تاريخ الماضي إلى (رأيه. . .) ويضع النتيجة قبل أن يجد المقدمات، أي أنه إذا كان يرتجل التاريخ ارتجالاً فليس عجباً أن يكون في الكتاب نُقول عن المسعودى في الطعن على بني أمية والمسعودى لا ينقل عنه (وحده) في هذا الباب كما هو معروف، وأن يكون فيه نقول عن مثل الأب لامنس عدوّ العرب والإسلام، المتعصب الذي يضعفّه كثير من المستشرقين ولا يرون الأخذ عنه
والمؤلف يقول في صفحة (13): (والحق أنا لا نزال من فهم عصر الحسين على غموض وخفاء، وذلك لأن الأقلام التي تناولته منذ أول عهد العرب بكتابة التاريخ لم تكن بريئة على إطلاق القول، بل دارت عل خدمة أغراض شتى بين النزعة المذهبية، والزلفى من السلطة الغالبة). ثم يأتي في صفحة (49) فيقول في عنوان مكتوب بحروف كبيرة: (أسباب فشل سياسة علي عليه السلام ونجاح السياسة المعادية) ويصف الأمويين بأنهم أداة إفساد وفي طبيعتهم بعث الحياة الجاهلية صفحة (28). ويقول في صفحة (42): (علي بن أبي طالب مظهر فذ من مظاهر التكامل الإنساني، ونموذج بارع من نماذج التفوق البشري، ومثال لبلوغ الاستعداد الكامن في النسم الخ) في صفحة كاملة كلها خطابيات ومبالغات على هذا النمط. وحينما يتكلم عن الخلفاء الأربعة يتكلم عنهم ص (12) بما نصه: (الخليفة الأول والثاني والثالث ثم علي عليه السلام
ولنأت الآن إلى عرض نماذج من المسائل التي أنكرتها في الكتاب بقصد التمثيل لا الاستقصاء
1 -
يقرر في صفحة (10) أن نظام الحكم في عهد الأمويين (لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بالأحكام العرفية، هذا النظام الذي يهدر الدماء، ويرفع التعارف على المنطق القانوني (كذا) ويهدد كل امرئ في وجوده. وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية ولحالات خاصة فقد كان في العهد الأموي هو النظام السائد) وكان هذا في رأيه (وضعاً احتكم في كل التاريخ الأموي وصبغه بصبغة وبيلة، فتنافى مع المبادئ الدينية والمدنية) وكل ما أورد المؤلف من الأدلة على هذه الدعوى التي لا يدعيها أشد الغلاة من أعداء التاريخ الإسلامي وخصومه، كل أدلته أنه أشار إلى (المرسوم الملكي أو المذكرة
الإيضاحية (كذا) الصادرة في بيان الأسباب التي بررت قتل أبي جعفر الشلمغاني) وذكر أنها في الجزء الأول ص (238) من معجم الأدباء - وهكذا ثبتت هذه التهمة الخطيرة، وسوَّدت صفحة من أنصع صفحات التاريخ العربي، وانتهى الأمر بسلام، وقيل الحمد لله رب العالمين.
ورحمة الله على العدل أيام بني أمية، ورحمة الله على التحقيق التاريخي في أيامنا هذه
2 -
يقرر في ص (12) أن معاوية اقتبس النظام البيزنطي (وانفعل به إلى أبعد حد. فانتقل طفرة واحدة إلى نظام يبعد كثيراً عن النظام النبوي من كل الأطراف) إلى أن قال: (إلى حد نتمكن معه من القول بأنها حالت دون أزكى ثمار الإسلام، وحالت دون حكومة القرآن، ومسخت تعاليم النبي، وشوهت تقاليد حكومة الخلفاء). اهو الذي نفهمه أن موضوع اقتباس الأمويين النظام البيزنطي يحتاج إلى درس شامل لكلا النظامين، وأدلة ثابتة، ولا يمكن شرحه فيما دون الرسالة الكبيرة أو الكتاب المستقل. أما مجرد الادعاء وإرسال النظريات فلا يقدم في التاريخ ولا يؤخر ولا يكون له قيمة علمية
3 -
ذكر في صفحة (17) أن من الأسباب (التي يظن أنها مهدت إلى عمل الاضطراب (كذا) وإثارة الخواطر وقدمت مادة الانقلاب الكبير، الاختلاف على البيعة يوم السقيفة وامتناع فاطمة منها وآل هاشم عموماً) وذكر أن هذا الخلاف (كان له صدى عكسي - كذا - ولد عند البعيدين شيئاً من الشعور بالاستهانة وجرأهم على الانتقاض والخروج والتمرد). وجعل المؤلف هذا الخلاف من الأسباب المؤدية إلى ارتداد العرب، مع أن انتخاب الرئيس في أي بلد من البلدان الجمهورية يتقدمه في عصرنا نزاع وخلاف لا يقاس به اختلاف أهل السقيفة، ولا يؤدي إلى خروج ولا تمرد. ثم إن خلافة أبي بكر كانت إجماعية فلم يشذ عن بيعته إلا رجل واحد هو سعد بن عبادة. وتأخر علي ومن معه لأسباب أخرى ذكروا أن منها اشتغاله بكتابة المصحف. وعلى كل فقد بايع أخيراً. أما ارتداد من ارتد فقد كانت له أسباب معروفة (غير ما ذكر)
4 -
ويذكر في صفحة (23) أن من هذه الأسباب: (عدم عناية حكومة الخلفاء ببث الدعوة وغرس التربية الدينية) وهذا كلام لا يقبله أحد، لأن المؤلف لم يقم عليه الدليل العلمي أولاً، ولأن هذا الادعاء طعنة موجهة إلى صميم التاريخ الإسلامي. وإذا كان أبو بكر وعمر
وعثمان وعلي لم يعنوا ببث الدعوة وغرس التربية الدينية، فمن ذا الذي عني بها؟ ومن ذا الذي بث الدعوة إلى الدين حتى شملت مشارق الأرض ومغاربها؟ ومن غرس التربية الدينية حتى في صدور الفرس والروم وأهل خراسان وأرمينية حتى صاروا مسلمين يشتغلون بدرس الدين ويتبعون هديه، وحتى نشأ فيهم علماء فحول وأئمة هادون؟
أتردّ هذه الحقائق كلها بتسعة أسطر جاء بها المؤلف، خاليةً من أي دليل: من نصَّ ثابت أو استنتاج منطقي؟
5 -
وذكر المؤلف أن (مسحة الحكم إلى عصر علي لم تزل خاضعة للنظامات القَبلية، وأن حكومة (تقوم على نظم البداوة لا يرجى لها بقاء، لأنه ليس بين عناصرها وحدة حقيقية) والرد على هذا الكلام من وجهين: أولهما أن الإسلام قد محا عصبية القبيلة ودعا إلى الأخوة الإسلامية، وفهم ذلك الصحابة ونشأ عنه وحدة عربية استطاعت أن تعمل أكبر عمل في سبيل الدعوة إلى الله. وثانيهما أنّ هذه النزعة القبلية إذا كانت قد ظهرت بعض الظهور، فإنما ظهرت أيام علي. واستثناء المؤلف عصر علي من الحكم الذي أطلقه وعمّمه قلبٌ للحقيقة وتبديل للواقع
6 -
ويقول في صفحة (26): (إن للأنصار حقاً أكيداً وشبهة قوية في السلطة على أنهم فهموا في آخر الأمر أنهم أنصار الدين وأنصار محمد وأنصار بيته (كذا) ولذا ظل ميلهم إلى الداعي القائم من آل البيت). . . وقرّر في حاشية الصفحة أن الأنصار: (يعتبرون وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة).
ودليل هذا كله أن (فْلُوتِنْ) ذكره في كتاب (السيادة العربية) فانظر هذا التحقيق!
7 -
ويقرر في صفحة (27) أن الأمويين أرادوا (أن يخضدوا من شوكة المدنية ويقضوا على الطبقة الدينية المحترمة) وأنهم (استأجروا طوائف من الشعراء والمغنين والمخنثين من بينهم عمر بن أبي ربيعة لأجل أن يمسحوا عاصمتي الدين: مكة والمدينة بمسحة لا تليق بهما. . .) إلى أن قال: (ويتمادى بنا الظن إلى أن المروانيين فكروا بصرف الناس عن المقدسات الإسلامية التي تنزل من الإسلام منزلة الشعيرة، بإنشاء المسجد الأموي بأبهته العظيمة بدمشق. ولقد ظن بعض المستشرقين (كالأب لامنس اليسوعي) بأن هذه نية عبد الملك بن مروان بأناقته في تشييد المسجد الأقصى. ونحن وإن كنا نظن ونوافق من
يظن نرسل ما نقول في تحفظ حتى تتناصب عليه الشواهد والروايات) آه وما دام هذا كله ظناً من المؤلف، وما دام قد أقر بذلك فنحن نعلن أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وأن التاريخ لا يُكتب على هذا الشكل الذي عمد إليه المؤلف، وإنما يكتب التاريخ رجل خالي النفس من الهوى لا يبغض ولا يحب؛ وإنما يدرس المقدمات ويسير فيها بهدى المنطق وينتهي حيث تنتهي به، وما عدا هذا وجاوزه لم يكن تاريخاً ولا شبه تاريخ
8 -
ومن أعجب ما يأتي به هذا المؤلف الذي يرتجل التاريخ وينشئ من خياله حوادث لم تكن - أنه يجعل في صفحة (66) نشأة يزيد بن معاوية، نشأة مسيحية! ويستدل على ذلك بأن أخواله بني كلب كانوا يدينون قبل الإسلام بالمسيحية! والى أنه يعرف طرفاً من الهندسة!! والى أن يزيد أمر الأخطل (لمسألة خاصة معروفة) بهجاء الأنصار. ويقول في صفحة (68) بعد سرد هذه الأدلة المضحكة:(إذن كان يقيناً أو يشبه اليقين أن تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة؛ أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون مستهتراً مستخفاً بما عليه الجماعة الإسلامية لا يحسب لتقاليدها وعاداتها أي حساب ولا يقيم له وزناً، بل الذي يستغرب أن يكون على غير ذلك)
هذا قليل جداً من كثير جداً، مما في هذا الكتاب العجيب من المسائل.
أما لغة الكتاب فلا تخلو مواضع منها كثيرة من ضعف في التأليف، أو استعمال للكلمة على غير وجهها أو في غير معناها. قال المؤلف في الصفحة (9):(ثم هذه الجوانب التي نلمح إليها ليس من السهل استيعابها على وجه الدقة إلا إذا انتشرنا على مسائل الخ. . .) فافتتح الكلام بقوله: (ثم هذه الجوانب) وكان الأولى أن يقال: (ثم إن هذه الجوانب)، واستعمل كلمة (انتشرنا على) بمعنى (اطلعنا على) وليس لها وجه. وقوله في ص (11):(وكذا يبدو الدرس متصعباً غامضاً حتى نقف من تاريخ الحسين موقف الحيرة المطلقة لشدة خفاء الجانب التعليلي (؟) في كل مراحل حياته التي كانت أشبه بالبعثرات). وقليل من يفهم ما المراد بالجانب التعليلي، أو يقر كلمة (البعثرات) في هذا الموضع، ولذلك أمثال في الكتاب
هذا وأنا أشكر للمؤلف الفاضل هديته، وأرجو أن يحمل نقدي على المحمل السهل، وأن يثق بأني لولا احترامي إياه، ما نقدته ولا عرضت لكتابه
علي الطنطاوي